تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم الأعراف آية 1 {
سورة الأعراف
مكية غير ثماني آيات من قوله واسألهم إلى قوله وإذ نتقنا الجبل
وآيها مائتان وخمس
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(3/209)
المص (1)
{المص} إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ
بأحد الوجهين المذكورين في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ فلا محلَّ له
من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسُّورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبر
مبتدأ محذوف والتقديرُ هذا ألمص أي مسمّىً به وتذكيرُ اسمِ
الإشارة مع تأنيث المسمَّى لما أن الإشارةَ إليه من حيث إنه
مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمّىً بالسورة وإنما صحت
الإشارةُ إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه
مسمّىً بالسورة وإنما صحت الإشارةُ إليه معَ عدمِ سبْق ذكرِه
لما أنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ
المشاهَد وقوله عز وجل
(3/209)
كِتَابٌ أُنْزِلَ
إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ
بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{كِتَابٌ} على الوجه الأولِ خبرُ مبتدأ
محذوفٍ وهو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل المؤلَّفُ من
جنس هذه الحروفِ مراداً به السورةُ كتابٌ الخ أو اسمُ إشارةٍ
أُشير به إليه تنزيلاً لحضور المؤلَّفِ منه منزلةَ حضورِ نفسِ
المؤلّف أي هذا كتابٌ الخ وعلى الوجه الثاني خبرٌ بعد خبر جىء
به غثر بيان كونه مترجما باسمٍ بديع مُنبىءٍ عن غرابته في نفسه
إبانةً لجلالة محلهببيان كونِه فرداً من أفراد الكتبِ الإلهية
حائزاً للكمالات المختصَّة بها وقد جُوّز كونُه خبراً وألمص
مبتدأٌ أي المسمى المص كتابٌ وقد عرفتَ ما فيه من أن ما يُجعل
عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ
إليه عند المخاطَب وإذْ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها
الإخبارُ بها {أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي من جهته تعالى بُني الفعل
للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بالاستغناء عن
التصريح بالفاعل لغاية ظهورِ تعيُّنِه وهو السرُّ في ترك مبدأ
الإنزال كما في قوله جل ذكره بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبّكَ ونظائرِه والجملةُ صفةٌ لكتاب مشرفة له ولم أُنزل إليه
وجعلُه خبراً له على معنى كتابٌ عظيمُ الشأنِ أُنزل إليك خلاف
الأصل {فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ} أي شك كما في قوله
تعالى فَإِن كُنتَ فِي شك مما أنزلنا إليك خلا أنه عبّر عنه
بما يلازمه من الحَرَج فإن الشاكَّ يعتريه ضيقُ الصدرِ كما أن
المتيقِّنَ يعتريه انشراحه وانفساحه مبالغةً في تنزيه ساحتِه
عليهِ الصَّلاةُ والسلام عن نسبة الشك إليه ولو في ضمن النهي
فإنه من الأحوال القللبية التي يستحيل اعترؤها إياه وما قديقع
من نسبته إليه في ضمن النمهي فعلى طريقةِ التهيجِ والإلهاب
والمبالغةِ في التَّنفيرِ والتحذيرِ بإيهام أن ذلك من القُبحِ
والشرِّية بحيثُ يُنهى عنه من لا يمكن صدوره عنه
(3/209)
الأعراف آية 3
أصلاً فكيف بمَن يُمكن ذلك منه والتنوينُ للتحقير والجارُّ في
قوله تعالى {مِنْهُ} متعلقٌ بحرَجٌ يقال حرِج منه أي ضاق به
صدرُه أو بمحذوف وقع صفة له أي حرجٌ كائنٌ منه أي لا يكن فيك
شك ما في حقِّيته أو في كونه كتاباً منزلاً إليك من عنده تعالى
فالفاءُ على الأول لترتيب النهي أو النتهاء على مضمون الجملةِ
فإنه مما يوجب انتفاءَ الشكِّ فيما ذُكر بالكلية وحصولَ
اليقينِ به قطعاً وأما على الثاني فهي لترتيب ما ذُكر على
الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبرو توجيه النهي إلى الحرَج مع أن
المراد نهيه عليه الصلام والسلام عنه إما لما مر من المبالغة
في تنزيهِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الشك فيما ذُكر فإن
النهيَ عن الشيء مما يوهم إمكانَ صدورَ المنهي عنه عن المهي
عنه وإما للمبالغة في النهي فإن وقوعَ الشكِّ في صدَره عليهِ
الصَّلاة والسَّلام سبب لاتصافه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به
والنهيُ عن السبب نهيٌ عن المسبَّب بالطريق البرهاني ونفيٌ له
من أصله بالمرة كما في قوله تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَانُ قَوْمٍ الآية وليس هذا من قبيل لا أرينك ههنا فإن
النهيَ هناك واردٌ على المسبب مرادا به النهيُ عن السبب فيكون
المآل نهيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن تعاطي ما يُورِثُ
الحرَجَ فتأملْ وقيل الحرجُ على حقيقته أي لا يكنْ فيك ضيقُ
صدرٍ من تبليغه مخافةَ أن يكذّبوك وأن تُقصِّر في القيام بحقه
فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يخاف تكذيبَ قومِه له
وإعراضَهم عنه فكان يضيق صدرُه من الأداء ولا ينبسِطُ له فآمنه
الله تعالى ونهاه عن المبالاة فالفاءُ حينئذ للترتيب على مضمون
الجملةِ أو على الإخبار به فإنَّ كُلاًّ منهما موجبٌ للإقدام
على التبليغ وزوالِ الخوفِ قطعاً وإن كان إيجابُه الثاني
بواسطة الأول وقولُه تعالى {لِتُنذِرَ بِهِ} أي بالكتاب المنزل
متعلقٌ بأُنزل وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما تقريراً لمَا
قبلَه وتمهيداً لما بعده وحسماً لتوهم أن موردَ الشكِّ هو
الإنزالُ للإنذار وقيل متعلقٌ بالنهي فإن انتفاءَ الشكِّ في
كونه منزلا من عنده تعالى موجبٌ للإنذار به قطعاً وكذا انتفاءُ
الخوفِ منهم أو العلمُ بأنه موفقٌ للقيام بحقه موجبٌ للتجاسر
على ذلك وأنت خبيرٌ بأنه لا يتأتى التفسير الأولِ لأن تعليلَ
النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكيرِ مع إيهامه لإمكان
صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام مُشعرٌ بأن المنهيَّ عنه ليس
محذوراً لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذارِ والتذكير لا أقل
من الإيذان بأن ذلك معظمُ غائلتِه ولا ريب في فساده وأما على
التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليلُ بالإنذار لا بتذكير
المؤمنين إذ ليس فيه شائبةُ خوفٍ حتى يُجعل غايةً لانتفائه
وقوله تعالى {وذكرى للمؤمنين} في حين النصبِ بإضمار فعلِه
معطوفاً على تنذرَ أي وتذكّرَ المؤمنين تذكيراً أو الجرِّ
عطفاً على محلِّ إنَّ تنذرَ أي للإنذار والتذكير وقيل مرفوعٌ
عطفاً على كتابٌ أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وتخصيصُ التذكيرِ
بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذارِ بالكفرة أي لتنذرَ به
المشركين وتذكرَ المؤمنين وتقديمُ الإنذار لأنه أهمُّ بحسب
المقام
(3/210)
اتَّبِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} كلامٌ
مستأنفٌ خوطب به كافةُ المكلفين بطريق التلوينِ وأُمروا باتباع
ما أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قبله بتبليغه بطريق
الإنذار والتذكيرِ وجعلُه منزلاً إليهم بواسطة إنزالِه إليه
عليه الصلاة والسلام أثر ذكر ما يصححه من الإنذار والتذكير
لتأكيد وجحوب اتباعه وقوله تعالى
(3/210)
الأعراف آية 4
{مّن رَّبّكُمْ} متعلقٌ بأُنزل على أن مِنْ لابتداء الغايةِ
مجازاً أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ الموصولِ أو مِنْ ضميره في
الصلة وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير
المخاطَبين مزيدُ لطفٍ بهم وترغيبٌ لهم في الامتثال بما أُمروا
به وتأكيدٌ لوجوبه وجعلُ ما أنزل ههنا عاما للسنة الوقلية
والفعلية بعيدٌ نعم يعمُّهما حكمُه بطريق الدِلالةِ لا بطريق
العبارة ولما كان اتباعُ ما أنزله الله تعالى اتباعاً له تعالى
عُقّب الأمرُ بذلك بالنهي عن اتباع غيرِه تعالى فقيل {وَلاَ
تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} أي مِن دُونِهِ أي من دون ربكم الذي
أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق ومحلُّه النصبُ على أنَّه حال
من فافعل فعلُ النهي أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى
{أَوْلِيَاء} من الجن والإنسِ بأن تقبلوا منهم ما يُلْقونه
إليكم بطريق الوسوسةِ والإغواءِ من الأباطيل ليضلّوكم عن الحق
ويَحمِلوكم على البدع والأهواءِ الزائغةِ أو مِنْ أولياءَ
قُدِّم عليه لكونه نكرةً إذ لو أُخِّرَ عنه لكانَ صفةً لهُ أيْ
أولياءَ كائنةً غيرَه تعالى وقيل الضميرُ للموصول على حذف
المضافِ في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أَنزل أباطيلَ
أولياءَ كأنه قيل ولا تتبعوا من دون دينِ ربِّكم دينَ أولياءَ
وقرىء ولا تبتغوا كما في قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الإسلام دِينًا وقولُه تعالى {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}
بحذفِ إحدى التَّاءينِ وتخفيفِ الذال وقرىء بتشديدها على إدغام
التاء لمهموسة في الذال المجهورة وقرىء يتذكرون على صيغة
الغَيبة وقليلاً نُصب إما بما بعده على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ
مقدَّمٍ للقصر أو لزمانٍ كذلك محذوفٍ ومكا مزيدةٌ لتأكيدِ
القِلة أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون لا كثيراً
حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دينَ الله
تعالى وتتبعون غيرَه ويجوز أن يُراد بالقِلة العدمُ كما قيل في
قوله تعالى فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ والجملة اعتراضٌ
تذييليٌّ مسوقٌ لتقبيح حالِ المخاطَبين والالتفاتُ على القراءة
الأخيرةِ للإيذان باقتضاء سوءِ حالِهم في عدم الامتثالِ بالأمر
والنهي صرفِ الخطابِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرِهم بطريق
المبالة وإما نُصبَ على أنه حالٌ من فاعل لا تتبعوا وما
مصدريةٌ مرتفعةٌ به أي لا تتبعوا من دونه أولياءَ قليلاً
تذكّرُكم لكن لا على توجيه النهي إلى المقيد فقط كما في قولِه
تعالى لا تقربوا الصلوة وَأَنتُمْ سكارى بل إلى المقيد والقيدِ
جميعاً وتخصيصُه بالذكر لكمزيد تقبيحِ حالِهم بجمعهم بين
المنكرين
(3/211)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ
قَائِلُونَ (4)
{وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} شروعٌ في
إنذارهم بما جرى على الأمم الماضيةِ بسبب إعراضِهم عن اتباع
الله تعالى وإصرارِهم على اتباع دينِ أوليائِهم وكم خبربة
للتكثير في موضع رفعٍ على الابتداء كما في قولك زيدٌ ضربته
والخبرُ هو الجملةُ بعدها ومن قرية تمييزٌ والضميرُ في
أهلكناها راجعٌ إلى معنى كم أي كثيرٌ من القرى أهلكناها أو في
موضع نصب بأهلكناها كما في قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَىْء
خلقناه بِقَدَرٍ والمرادُ بإهلاكها إرادةُ إهلاكِها كما في
قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلوة أي أردنا إهلاكَها {فَجَاءهَا}
أي فجاء أهلَها {بَأْسُنَا} أي عذابُنا بَيَاتًا مصدرٌ بمعنى
الفاعل واقعٌ موقعَ الحال أي بائتين كقوم لوطٍ {أَوْ هُمْ
قَائِلُونَ} عطف عليه أي أو قائلين من القيلولة نصفَ النهار
كقوم شعيب وإنما حُذفت الواو من الحال المعطوفةِ على أختها
استثقالاً لاجتماع العاطفَين فإن واو الحال حرفُ عطفٍ قد
استعيرت للوصل لا اكتفاءً بالضمير كما في جاءني زيد هو فارس
(3/211)
الأعراف آية 5 8
فإنه غيرُ فصيح وتخصيصُ الحالتين بالعذاب لما أن نزولَ
المكروهِ عند الغفلة والدعَةِ أفظعُ وحكايتَه للسامعين أزجرُ
وأردَعُ عن الاغترار بأسباب الأمن والراحةِ ووصفُ الكلِّ بوصفي
البياتِ والقيلولة مع أن بعضَ المُهلَكين بمعزل منهما لا سيما
القيلولةِ للإيذان بكمال غفلتِهم وأمنِهم
(3/212)
فَمَا كَانَ
دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا
إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} أي دعاؤهم
واستغاثتُهم ربَّهم أو ما كانوا يدّعونه من دينهم وينتحِلونه
من مذهبهم {إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا} عذابُنا وعاينوا أمارته
{إِلاَّ أَن قَالُواْ} جميعاً {إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي إلا
اعترافَهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتَهم ببطلانه تحسراً
عليه وندامةً وطمعاً في الخلاص وهيهاتَ ولاتَ حين نجاة
(3/212)
فَلَنَسْأَلَنَّ
الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
(6)
{فلنسألن الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} بيانٌ
لعذابهم الأخرويِّ إثرَ بيانِ عذابِهم الدنيويِّ خلا أنه قد
تعرض لبيان مبادي أحوالِ المكلفين جميعاً لكونه أدخلَ في
التهويل والفاءُ لترتيب الأحوالِ الأخرويةِ على الدنيوية
ذِكراً حسَبَ ترتبها عليها وجوداً أي لنسألن الأممَ قاطبةً
قائلين ماذا أجبتم المرسلين {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين}
عما أُجيبوا قال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ
مَاذَا أُجِبْتُمْ والمرادُ بالسؤال توبيخُ الكفرة وتقريعُهم
والذي نُفيَ بقوله تعالى وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ
المجرمون سؤالُ الاستعلامِ أو الأولُ في موقف الحساب والثاني
في موقف العقاب
(3/212)
فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{فَلَنَقصَنَّ عَلَيهِم} أي على الرسل حين
يقولن لا علم لنا إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب أو عليهم وعلى
المرسَل إليهم جميعاً ما كانوا عليه {بِعِلْمِ} أي عالمين
بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}
عنهم في حالٍ من الأحوالِ فيخفى علينا شيءٌ من أعمالهم
وأحوالِهم والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها
(3/212)
وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{والوزن} أي وزنُ الأعمالِ والتمييزُ بين
راجحِها وخفيفِها وجيّدِها ورديئها ورفعُه على الابتداءِ
وقولُه تعالَى {يَوْمَئِذٍ} خبرُه وقوله تعالى {الحق} صفتُه أي
والوزنُ الحقُّ ثابتٌ يومَ إذ يكون السؤالُ والقَصّ وقيل خبرُ
مبتدأٍ محذوفٍ كأنَّهُ قيل ما ذلك الوزن فقيل الحقُّ أي العدلُ
السويُّ وقرىء القسطُ واختُلف في كيفية الوزن والجمهورُ على أن
صحائفَ الأعمالِ هي التي توزن بميزان له لسانٌ وكِفّتان ينظُر
إليه الخلائق إظهار للمعادلة وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن
أعمالهم فتعترف بها ألسنتُهم وجوارحُهم ويشهد عليهم الأنبياءُ
والملائكةُ والأشهادُ وكما يُثبَتُ في صحائفهم فيقرءونها في
موقف الحساب ويؤيده ما رُوي أن الرجلَ يؤتى به الميزان فيُنشر
له تسعةٌ وتسعون سجلا مدج البصر فيخرُج له بطاقةٌ فيها كلمتا
الشهادة فتوضَع السجلات في في كِفة والبِطاقةُ في كفة فتطيش
السجلاتُ وتثقُل البطاقةُ وقيل يوزن الأشخاصُ لما رُوي عنْهُ
عليهِ الصَّلاةُ والسلام أنه ليأتي العظيمُ السمينُ يوم
القيامة لا يزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ وقيل
(3/212)
الأعراف آية 9
الوزنُ عبارةٌ عن القضاءِ السويِّ والحُكمُ العادلُ وبهِ قال
مجاهدٌ والأعمشُ والضحاكُ واختارَهُ كثيرٌ من المتأخرينَ بناءً
على أن استعمالَ لفظِ الوزنِ في هذا المعنى شائعٌ في اللغة
والعُرفِ بطريق الكناية قالوا إن الميزانَ إنما يُراد به
التوصلُ إلى معرفة مقاديرِ الشيءِ ومقاديرُ أعمالِ العباد لا
يمكن إظهارُها بذلك لأنها أعراضٌ قد فَنِيَت وعلى تقدير بقائها
لا تَقبل الوزن وقيلَ إن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ
بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها
في الحسن والقبحِ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك
وتتصورُ بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى الذين
يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى
بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه عليه الصلاة والسلام في حقِّ
مَنْ يشربُ من إناء الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ
جهنمَ ولا يعد في ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالم
المثال على سورة اللبنِ كما لا يَخْفى عَلَى مَنْ له خِبرةٌ
بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وزبالأعمال
السيئةِ على صورٍ قبيحةٍ فتوضع في الميزان إن قيل إن المكلّف
يوم القيامةِ إما مؤمنٌ بأنه تعالى حكيمٌ منزَّهٌ عن الجور
فيكفيه حكمِه تعالى بكيفيات الأعمالِ وكمياتها وإما منكِرٌ له
فلا يسلمُ حينئذ أن رجحانَ بعضِ الأعمالِ على بعض الخصوصيات
راجعةٍ إلى ذوات تلك الأعمالِ بل يُسنده إلى إظهار الله تعالى
إياه على ذلك الوجه فما الفائدةُ في الوزن أجيب بأنه ينكشف
الحالُ يومئذ وتظهر جميعُ الأشياء بحقائقها على ما هي عليه
وبأوصافها وأحوالِها في أنفسها من الحسن والقبحِ وغيرِ ذلك
وتنخلع عن الصور المستعارةِ التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى
لأحد ممن يشاهدَها شُبهةٌ في أنها هي التي كانت في الدُّنيا
بعينها وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقة
المستتبِعةِ لصفاته ولا يخطُر بباله خلافُ ذلك والله تعالى
أعلم {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} تفصيلٌ للأحكام المترتبة على
الوزن والموازينُ إما جمعُ ميزانٍ أو جمعُ موزونٍ على أن
المرادَ به ما له وزنٌ وقدْرٌ وهو الحسنات فإن رجحان أحدهما
مستلزم لرجحان الآخَر أي فمَنْ رجَحت موازينُه التي توزن بها
حسناتُه أو أعمالُه التي لها قدْرٌ وزنة وعن الحسن البصري
وحُقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يقل وحُقّ لميزانٍ توضع فيه
السيئاتُ أن يخِفّ {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار
اتصافِه بثقل الميزانِ والجمعيةُ باعتبار معناه كما أن جمعَ
الموازينِ لذلك وأما ضميرُ موازينِه فراجعٌ إليه باعتبار لفظِه
وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتهم وبُعدِ
منزلَتهِم في الفضلِ والشرف {هُمْ المفلحون} الفائزون بالنجاة
والثوابِ وهم إما ضميرُ فصلٍ يفصِلُ بين الخبر والصفةِ ويؤكد
النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه
المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك وتعريفُ المفلحون للدِلالة على
أنهم الناسُ الذين بلغك أنهم مُفلحون في الآخرة أو إشارةٌ إلى
ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم
(3/213)
وَمَنْ خَفَّتْ
مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} أي موازينُ
أعمالِه أو أعمالُه التي لا وزن لها ولا اعتدادَ بها وهب
أعْمالُه السيئة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إليهم باعتبارِ
اتصافِهم بتلك الصفة القبيحةِ والجمعيةُ ومعنى البُعدِ لما مر
آنفاً في نظيره وهو مبتدأٌ خبره
(3/213)
الأعراف 10 11
{الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي ضيّعوا الفطرةَ السليمةَ التي
فُطروا عليها وقد أُيّدت بالآيات البينة وقولُه تعالى {بِمَا
كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} متعلق بخسر وما مصدريةٌ
وبآياتنا متعلقٌ بيظلمون على تضمين معنى التكذيب قد عليه
لمراعاة الفواصلِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ
للدَلالةِ على استمرار الظلمِ في الدنيا أي فأولئك الموصوفون
بخفة الموازين الذين خسروا أنفسَهم بسبب تكذيبِهم المستمر
بآياتنا ظالمين
(3/214)
وَلَقَدْ
مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا
مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{وَلَقَدْ مكناكم فِى الارض} لما أمر الله
سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه
وبيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد
في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فُنونِ النعمِ الموجبةِ
للشكر ترغيباً في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا
لكم فيها مكاناً وقراراً أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف
فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} المعايشُ جمعُ معيشةٍ
وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها أو ما يُتوصَّل
به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ الياء وعن ابن عامرٍ أنه
همزة تسبيها له بصحائف ومدائن والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع
أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسباباً تعيشون بها
وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من
مفعولِه المنكر إذلو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وتقديمها على
المفعول مع أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غير مرة من الاعتناء
بشأ المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ
ماحقه التقديمُ لا سيَّما عند كونِ المقدم منبئاً عن منفعة
للسامع تبقى مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورود
فضل تمكن وأمات تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبىءُ عما
ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره
أهم هذا وقد قيلَ إنَّ الجعلَ متعدَ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ
الظرفين على أنه مستقر قُدّم على الأول والظرفُ الآخَرُ إما
لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول
الأولِ كما مر وأنت خبيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في
الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً فِى الارض وقولُه
تعالى {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي تلك النعمةَ تذييلٌ
مَسوقٌ لبيان سوءِ حالِ المخاطبين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ
فيه عينُ ما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى قَلِيلاً مَّا
تَذَكَّرُونَ
(3/214)
وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} تذكيرٌ
لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليهِ السَّلامُ ساريةٍ إلى
ذريته موجبةٍ لشكرهم وتأخيرُه عن تذكير ما وقع قبله من نعمة
التمكين في الأرض إما لأنها فائضةٌ على المخاطَبين بالذات وهذه
بالواسطة وإما للإيذان بأن كلا منها نعمةٌ مستقلةٌ مستوجِبةٌ
للشكر على حيالها فإن رعايةَ الترتيبِ الوقوعيِّ ربما تؤدِّي
إلى توهّم عدِّ الكلِّ نعمةً واحدةً كمَا ذكر في قصة البقرة
وتصديرُ الجملتين بالقسم وحرفِ التحقيقِ لإظهار كمالِ العناية
بمضمونهما وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين مع أن
المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً
لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم
(3/214)
الأعراف آية 11
بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما
أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود
الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته
جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على
شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه أي خلقنا أباكم
آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ
تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا
لأَدَمَ} صريحٌ في أنه ورد بعد خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام
وتسويتِه ونفخِ الروحِ فيه أمرٌ مُنجَزٌ غيرُ الأمر المعلَّق
الواردِ قبل ذلك بقوله تعالى فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين وهو المراد بما حكي
بقوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ الآية في
سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهفِ وسورة طه من
غير تعرضٍ لوقته وكلمة ثم ههنا تقتضي تراخِيَه عن التصوير من
غيرِ تعرضٍ لبيانِ ما جرى بينهما من الأمور وقد بينا في سورة
البقرةِ أن ذلك ظهورُ فضلِ آدمَ عليه السلام بعد المحاورة
المسبوقةِ بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به قوله
عز وجل وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض
خَلِيفَةً إلى قوله وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فإن ذلك أيضاً
من جملة ما نيط به الأمرُ المعلقُ من القسوية ونفخِ الروح
وعدمُ ذكرِه عند الحكايةِ لا يقتضي عدمَ ذكره عند وقوعِ
المحكيِّ كما أن عدمَ ذكر الأمر المعلق عند حكاية ألمر
المنْجزِ لا يستلزمُ عدمَ مسبوقيتِه به فإن حكايةَ كلامٍ واحدٍ
على أساليب مختلقة يقتضيها ليست بعزيزة في الكلام العزيزِ
فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أولا جميعُ ما يتوقفُ
عليه الأمرُ المنجزُ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من
طين وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فِيهِ مِن
رُّوحِى وتبيَّن لكم فضلُه فقَعوا له ساجدين فخلقه فسوَّاه
فنفخ فيه من روحه فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقيَ إليهم خبرُ
الخلافةِ بعد تحققِ الشرائطِ المذكورةِ بأن قيل إثرَ نفخِ
الروحِ إني جاعلٌ هذا خليفةً في الأرض فهنالك ذكروا في حقه
عليه السلام ما ذكروا فأيده الله تعالى بتعليم الأسماءِ
فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمر من
المنْجزُ اعتناء بشأن المأمور به وإيذاناً بوقته وقد حُكي بعضُ
الأمور المذكورة في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاء بما
ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ والذي يرفع غشاوةَ
الاشتباهِ عن البصائر السليمةِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى
إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة الآياتن بدلٌ من قولِه إِذْ
يَخْتَصِمُونَ فيما قبله من قوله مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ
بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي بكلامهم عند اختصامِهم
ولا ريب في أن المرادج بالملأ الأعلى وآدمُ عليهم السَّلامُ
وإبليسُ حسبما أطيق عليه جمهورُ المفسرين وباختصامِهم ما جرى
بينهم في شأن الخلافةِ من التقاول الذي من جملته ما صدر عنه
عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ
الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما شُرح فيه مفصّلاً من الأمر
المعلّق وما علق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما
ترتب عليه من سجود الملائكةِ وعنادِ إبليسَ ولعنِه وإخراجِه من
بَيْن الملائكةِ وما جرى بعده من الأفعالِ والأقوالِ وإذ ليس
تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ وطردِه من
أنه أحدُ المختصِمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة فإذن هو بعد
نفخِ الروحِ وقبل السجودبأحد الطريقين المذكورين والله تعالى
أعلم {فَسَجَدُواْ} أي الملائكةُ عليهم السَّلامُ بعد الأمرِ
من غير تلعثم {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متَّصل
(3/215)
الأعراف آية 12
لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكة
متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا ثمَّ استُثنِيَ
استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ من الملائكة جنساً يتوالدون
يقال لهم الجنُّ كما مر في سورة البقرة فقوله تعالى {لَمْ
يَكُن مّنَ الساجدين} أي ممن سجد لآدمَ كلامٌ مستأنفٌ مبين
لكيفية عدمِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإن عدم السجود
قد يكون للتأمل ثم يقع السجودُ وبه عُلم أنه لم يقعْ قطُّ وقيل
منقطعٌ فحينئذ يكون متصلاً بما بعده أي لكن إبليس لم يكن من
الساجدين
(3/216)
قَالَ مَا مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{قَالَ} استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤالٍ
نشأَ من حكايةِ عدم سجوده كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى
حينئذ وبه يظهر وجهُ الالتفاتِ إلى الغَيبة إذ لا وجهَ لتقدير
السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدةٌ أخرى هي الإشعارُ بعدم
تعلقِ المحكيِّ بالمخاطَبين كما في حكاية الخلْقِ والتصوير
{مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} أي أن تسجُد كما وقعَ في سورةِ
ص ولا مزيدةٌ مؤكدةٌ لمعنى الفعل الذي دخلت عليهِ كما في
قولِهِ تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب منبّهةٌ على أن
الموبَّخَ عليه تركُ السجود وقيل الممنوعُ عن الشيء مصروفٌ إلى
خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن لا تسجد {اذ أَمَرْتُكَ} قيل فيه
دلالةٌ على أن مُطلقَ الأمرِ للوجوب والفور وفي سورة الجن يا
إبليس مالك أن لا تكون مَعَ الساجدين وفي سورة ص مَا مَنَعَكَ
أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ واختلافُ العبارات عند
الحكاية دل على أن اللعينَ قد أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص
مخالفة الأملار ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظامِ في سلكِ
أولئك المقرّبين والاستكبارَ مع تحقير آدمُ عليه السلام وقد
وُبِّخ حينئذ على كل واحدة منها لكن اقتُصر عند الحكاية في كل
موطن على ما ذكر يه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر واشعار بأن كل
واحدةٍ منها كافيةٌ في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد
تُركت حكايةُ التوبيخ رأسا في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني
إسرائيلَ وسورة الكهلف وسورة طه {قَالَ} استئنافٌ كما سبق
مبنيٌّ على لا سؤالٍ نشأَ من حكايةِ التوبيخِ كأنَّه قيلَ
فماذَا قالَ اللعينُ عند ذلكَ فقيل قال {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ}
متجانفاً عن تطبيق جوابِه على السؤال بأن يقول معنى كذا
مدّعياً لنفسه بطريق الاستئنافِ شيئاً بيِّنَ الاستلزامِ
لمنعهِ من السُّجودِ على زعمه ومشعِراً بأن مَنْ شأنُه هذا لا
يحسُن أن يسجُدَ لمن دونه فكيف يحسُن أن يؤمرَ بهِ كما يُنبىء
عنْهُ ما في سورة الحِجْرِ من قولُه {لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ
لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مسنون} فهو أولُ
من أسس بنيانَ التكبر واخترع القولَ بالحسن والقبح العقلين
وقولُه تعالَى {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن
طِينٍ} تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضله عليه ولقد أخطأ اللعينُ
حيث خَصّ الفضلَ بما من جهةِ المادةِ والعنصُر وزلَّ عنه ما من
جهة الفاعل كَمَا أنبأَ عَنْهُ قولِهِ تعالى مَا مَنَعَكَ أَن
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَي بغير واسطةٍ على وجه
الاعتناءِ به وما من جهة الصُّورة كما نُبّه عليه بقوله تعالى
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ
الأمرِ ولذلك أمر الملائكة بالسجود له عليه السَّلامُ حين ظهرَ
لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرضِ
وأنَّ له خواصَّ ليست لغيره وفي الآية دليلٌ على الكون والفساد
وأن الشياطينَ أجسامٌ كائنةٌ ولعل إضافةَ خلق البشرِ إلى الطين
والشياطينِ إلى النار باعتبار الجزء الغالب
(3/216)
الأعراف آية 13 15
(3/217)
قَالَ فَاهْبِطْ
مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ
إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
{قال} استئناف كما سلف والفاء في قوله
تعالى ة {فاهبط مِنْهَا} لترتيب الأمرِ على ما ظهر من
اللَّعينِ من مخالفة الأمرِ وتعليلِه بالأباطيل وإصرارِه على
ذلك أي فاهبِطْ من الجنة والإضمار قبل ذكرِها لشهرة كونِه من
سكانها قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا في عدْنٍ لا في جنة
الخلد وقيل من زمرة الملائكة المعززين فإن الخروجَ من زمرتهم
هبوطٌ وأيُّ هبوط وفي سورة الحجر فاخرج مِنْهَا وأما ما قيل من
أن المرادَ الهبوطُ من السماء فيردّه أن وسوستَه لآدمَ عليه
السلام كانتْ بعد هذا الطردِ فلا بد أن يُحمل على أحد
الوجهينقطعا وتكونُ وسوستُه على الوجه الأول بطريق النداءِ من
باب الجنة كما رُوي عن الحسنِ البصري وقوله تعالى {فَمَا
يَكُونُ لَكَ} أي فما يصح ولا يستقيم لك ولا يليقُ بشأنك {أَن
تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي في الجنةِ أو في زمرة الملائكة تعليلٌ
للأمر بالهبوط فإن عدمَ صحةِ أن يتكبر فيها علةٌ للأمر المذكور
فإنها مكانُ المطيعين الخاشعين ولا دِلالة فيه على جواز
التكبُّر في غيرها وفيه تنبيه على أن التكبرَ لا يليق بأهل
الجنةِ وأنه تعالى إنما طرده لتكبُّره لا لمجرد عصيانِه وقوله
تعالى {فاخرج} تأكيدٌ للأمر بالهبوط متفرِّغٌ على علته وقوله
تعالى {إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} تعليلٌ للأمر بالخروج مُشعرٌ
بأنه لتكبره أي من الأذلاء وأهلِ الهوانِ على الله تعالى وعلى
أوليائه لتكبرك وعن عمر رضيَ الله عنه من تواضَع لله رفع الله
حكمته ة وقال انتعش نعشك الله ومن تكبر وعَدا طَوْرَه وهَصَه
الله إلى الأرض
(3/217)
قَالَ أَنْظِرْنِي
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{قَالَ} استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ
مما قبله كأنه قيل فماذا قال اللعين بعدما سمع هذا الطردَ
المؤكد فقيل قال {أَنظِرْنِى} أي أمهلني ولا تُمِتْني {إلى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدمُ وذريتُه للجزاء بعد فنائهم وهو
قوت النفخةِ الثانية وأراد اللعينُ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً من
إغوائهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموت لاستحالته بعد
البعث
(3/217)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ (15)
{قال} استئناف كما سلف {إِنَّكَ مِنَ
المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ
لشمول ما سأله الآخرين على وجه يُشعر بأن السائلَ تبَعٌ لهم في
ذلك صريحٌ في أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً لا
إنشاءٌ لإنظار خاصَ به إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان
طَلَباً لتأخيرِ الموتِ غذ به يتحقق كونُه من جملتهم لا
لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ
آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ إلى وقت فناءٍ
غيرَ ما استثناه الله تعالى من الخلائق وهو النفخة الأولى إلى
وقتِ البعثِ الذي هو المسئول وقد تُرك التوقيتُ للإيجاز ثقةً
بما وقع في سُورة الحجرِ وسُورة ص كما ترك ذكرُ النِّداءُ
والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذكر فيهما بقوله
عز وجل رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ
فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم وفي إنظاره
ابتلاءٌ للعباد وتعريضٌ للثواب إن قلت لار ريبَ في أن الكلامَ
المحكيَّ له عند صدورِه عن المتكلم حالة
(3/217)
الأعراف آية 16
مخصوصةٌ تقتضي ورودَه على وجه خاصَ من وجوه النظمِ بحيث لو أخل
بشيء من ذلك سقط الكلامُ عن رتبة البلاغةِ البتة فالكلامُ
الواحدُ المحكيُّ على وجوه شتى إن اقتضى الحالُ ورودَه على وجه
معينٍ من تلك الوجوهِ الواردةِ عند الحكاية فذلك الوجهُ هو
المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رتبة البلاغةِ دون ما
عداه من الوجوه إذا تمكهد هذا فنقولُ لا يخفى أن استنظارَ
اللعينِ إنَّما صدرَ عنه مرةً واحدةً لا غيرُ فمقامُه إن اقتضى
إظهارَ الضراعةِ وترتيبَ الاستنظار على ما حاق به من اللعن
والطردِ على نهج استدعاءِ الجبْرِ في مقابلة الكسر كما هو
المتبادَرُ من قوله رب فأنظرني حسبما حُكي عنه في السورتين فما
حكي ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلاً عن
العُروجِ إلى معارج الإعجازِ قلنا مقامُ استنظاره مُقتضٍ لما
ذُكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحِرمان المدلولِ
عليه بالطرد والرجم وكذا مقامُ الإنظارِ مقتضٍ لترتيب الإخبارِ
بالإنظار على الاستنظار وقد طُبّق الكلامُ عليه في تينك
السورتين ووُفّي كلُّ واحد من مقامَي الحكايةِ والمحكيِّ جميعا
حظه وأما ههنا فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ مجردَ الإخبار
بالاستنظار والإنظارِ سيقت الحكايةُ على نهج الإيجاز
والاختصارِ من غيرِ تعرّضٍ لبيانِ كيفيةِ كل واحدٍ منهما عند
المخاطبة والحِوار إن قلت فإذن لا يكونُ ذلك نقلاً للكلام على
ما هو عليه ولا مطابقاً لمقتضى المقامِ قلنا الذي يجب اعتبارُه
في نقل الكلامِ إنما هو أصلُ معناه ونفسُ مدلولِه الذي يفيده
وأما كيفية إفادته فليس مما يجب مراعاتُه عند النقل البتة بل
قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاءِ المقامِ ولا يقدح في أصل
الكلامِ تجريدُه عنها بل قد يراعى عند نقلِه كيفيات وخصوصات لم
يُراعِها المتكلمُ أصلاً ولا يُخلُّ ذلك بكون المنقولِ أصلَ
المعنى ألا يُرى أن جميعَ المقالات المنقولةِ في القرآن
الكريمِ إنما تحكى بكيفيات واعتباراتٍ لا يُكاد يَقدِر على
مراعاتها مَنْ تكلم بها حتماً وإلا لأمكن صدورُ الكلام
المعجِزِ عن البشر فيما إذا كان المحكيُّ كلاماً وأما عدمُ
مطابقتِه لمقتضى الحالِ فمنشؤه الغفلةُ عما يجب توفيرُ مقتضاه
من الأحوال فإن مَلاكَ الأمرِ هو مقامُ الحكايةِ وأما مقام
وقوعِ المحكيِّ فإن كان مقتضاه موافقاً لمقتضى مقامِ الحكايةِ
يُوفَّى كلُّ واحدٍ من المقامين حقَّه كما في سُورة الحجرِ
وسُورة ص فإن مقامَ الحكايةِ فيهما لمّا كان مقتضياً لبسط
الكلامِ وتفصيلِه على الكيفيات التي وقع عليها رُوعيَ حقُّ
المقامين معاً وأما في هذه السورةِ الكريمةِ فحيث اقتضى مقامُ
الحكايةِ الإيجازَ رُوعيَ جانبُه ألا يُرى أن المخاطبَ
المنكِرَ إذا كان ممن لا يفهم إلا أصلَ المعنى وجب على المتكلم
أن يجرِّد كلامَه عن التأكيد وسائرِ الخواصِّ والمزايا التي
يقتضيها المقامُ ويخاطِبَه بما يناسبه من الوجوه لكنه مع ذلك
يجب أن يقصِدَ معنى زائداً يفهمه سامعٌ آخرُ بليغٌ هو تجريدُه
عن الخواصِّ رعايةً لمقتضى حالِ المخاطَبِ في الفهم وبذلك
يرتقي كلامُه عن رتبة أصوات الحيوانات كا حُقِّق في مقامه فإذا
وجب مراعاةُ مقامِ الحكايةِ مع اقتضائها إلى تجريد الكلامِ عن
الخواص والمزايا بالمرة فما ظنُّك بوجوب مراعاتِه مع تحلية
الكلام بمزايا أُخَرَ يرتقي بها إلى رتبة الإعجازِ لا سيما إذا
وفى حق مقام المحكيِّ في السورتين الكريمتين وكان هذا الإيجازُ
مبنياً عليه وثقة به
(3/218)
قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
(16)
{قَالَ} استئنافٌ كأمثاله {فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِى} الباءُ للقسم كما في قوله تعالى
(3/218)
الأعراف آية 17 19
فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ فإن إغواءَه تعالى إلى إيَّاهُ
أثرٌ من آثارِ قدرته عز وجل وحُكمٌ من أحكام سلطانِه تعالى
فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ فلعل اللعينَ أقسمَ بهما جميعاً
فحكة تارةً قسَمَه بأحدِهما وأُخرى بالآخر والفاءُ لترتيبِ
مضمونِ الجملةِ على الإنظار وما مصدريةٌ أي فأقسم بإغوائك إياي
{لاقْعُدَنَّ لَهُمْ} أو للسببية على أن الباءَ متعلقةٌ بفعل
القسمِ المحذوفِ لا بقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ كما في الوجه
الأول فإن اللام تصُدّ عن ذلك أي فبسبب إغوائِك غياي لأجلهم
أُقسم بعزتك لأقعُدّن لآدمَ وذرِّيتِه ترصّداً بهم كما يقعُد
القُطّاع للقطع على السابلة {صراطك المستقيم} الموصِلَ إلى
الجنة وهو دينُ الإسلام فالقعودُ مجازٌ متفرع على الكتابة
وانتصابُه على الظرفية كما في قوله كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
وقيل على نزع الجارِّ تقديرُه على صراطك كقولك ضرب زيد الظهرَ
والبطنَ
(3/219)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ
شَاكِرِينَ (17)
{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن
شَمَائِلِهِمْ} أي من الجهات الأربعِ التي يُعتاد هجومُ
العدوِّ منها مثلُ قصدِه إياهم للتسويل والإضلال من أي وجهٍ
يتيسر بإتيان العدوِّ من الجهات الأربعِ ولذلك لم يذكر الفرق
والتحتُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما من بين ايديهم من قيل
الآخرة ومن خلفهم من جهة الدنيا وعن أيمانهم وعن شمائلهم من
جهخة حسناتِهم وسيئاتِهم وقيل من بين أيديهم من حيث يعلمون
ويقدِرون على التحرز منه ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا
يقدرون وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا
ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيّقظهم واحتياطِهم ومن حيث لا
يتيسر لهم ذلك وإنما عُدِّي الفعلُ إلى الأوَّلَيْن بحرف
الابتداء لأنه منهما متوجهٌ إليهم وإلى الآخَرَين بحرف
المجاوزة فإن الآتيَ منهما كالمنحرف المتجافي عنهم المارِّ على
عَرضهم ونظيرُه جلست عن يمينه {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ
شاكرين} أي مطيعين وإنما قاله ظناً لقوله تعالى وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ لما رأى منهم مبدأ
الشرِّ متعدداً ومبدأَ الخيرِ واحداً وقيل سمعه من الملائكةِ
عليهمِ السَّلامُ
(3/219)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا
مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{قال} استئناف كما سلف مراراً {أَخْرَجَ
مِنْهَا} أي من الجنَّةِ أو من السماء أو من بينِ الملائكة
{مذموما} أي مذموماً من ذَأَمه إذا ذمّه وقرىء مَذوماً كمسول
في مسئول أو كَمَكول في مكيل من ذامه يذيمه ذيماً
{مَّدْحُورًا} مطروداً {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} اللامُ
موطئةٌ للقسم وجوابه {لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ
أَجْمَعِينَ} وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط وقرىء لِمَنْ تبعك
بكسر اللام على أنه خبرُ لأملأن على معنى لِمَنْ تبعك هذا
الوعيدُ أو علةٌ لاخرُجْ ولأملأن جواب قسم محذوفٌ ومعنى منكم
منك ومنهم على تغليب المخاطب
(3/219)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا
وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ (19)
{ويا آدم} أي وقلنا كما وقعَ في سورةِ
البقرة
(3/219)
الأعراف آية 20 22
وتصديرُ الكلامِ بالنداء للتنبيه على الاهتمام بتلق المأمورِ
به وتخصيصُ الخطابِ به عليه السلام للإيذان بأصالته في تلقي
الوحي وتعاطي المأمور به {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} هو من
السكَن الذي هو عبارةٌ عن اللَّبْثِ والاستقرارِ والإقامةِ لا
من السكونِ الذي هو ضدُّ الحركة وأنت ضميرٌ أكِّد به المستكنُّ
ليصحَّ العطفُ عليهِ والفاءُ في قولِه تعالى {فَكُلاَ مِنْ
حَيْثُ شِئْتُمَا} لبيان المرادِ مما في سورةِ البقرةِ من قوله
تعالى وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا من أن ذلك كان
جمعاً مع الترتيب وقوله تعالى مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا في معنى
منها حيث شئتما ولم يذكر ههنا رَغَداً ثقةً بما ذكر هناك
وتوجيهُ الخطابِ إليهما لتعميم التشريفِ والإيذانِ بتساويهما ي
مباشرة المأمورِ به فإن حواءَ أُسوةٌ له عليه السى لام في حق
الأكلِ بخلاف السكنِ فإنها تابعةٌ له فيه ولتعليق النهي بها
صريحاً في قوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} وقرىء هذي
وهو الأصلُ لتصغيره على ذَيّا والهاءُ بدلٌ من الياء
{فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} إما جزمٌ على العطف أو نصبٌ على
الجواب
(3/220)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا
الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ
سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا
مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} أي فعل
الوسوسةَ لأجلهما أو تكلم لهما كلاماً خفياً متداركا وهي في
الأصل الصوتُ الخفي كالهيمنة والخشخشة ومنه وسوَسَ الحَلْيُ
وقد سبق بيانُ كيفيةِ وسوستِه في سُورة البقرى {لِيُبْدِيَ
لَهُمَا} أي ليُظهر لهما واللامُ للعاقبة أو للغرض على أنه
أراد بوسوسته أن يسوءَهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبّر عنهما
بالسوأة وفيه دليلٌ على أنَّ كشف العورةِ في الخلوة وعند
الزوجِ من غيرحاجة قبيحٌ مستهجَنٌ في الطباع {ما ووري عنهما من
سوآتهما} نما غطى ة وسُتر عنهما من عوراتهما وكانا لا
يَرَيانها من أنفسهما ولا أحدُهما من الآخر وإنما لم تُقلب
الواوُ المضمومةُ همزةً في المشهورة كما قلبت في أو يصل تصغير
واصل لأن الثانيةَ مدة وقرىء سواتهما بحذ ف الهمزة وإلقاء
حركاتها على الواو وبقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها
{وَقَالَْ} عطف على وسوس بطريق البيان {مَا نهاكما رَبُّكُمَا
عَنْ هذه الشجرة} أي عن أكلها {إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ}
أي إلا كراهةَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ {أَوْ تَكُونَا مِنَ
الخالدين} الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة وليس فيه دلالةٌ
على أفضلية الملائكةِ عليهم السلام لما أن من المعلوم أن
الحقائقَ لا تنقلب وإنما كانت رغبتُهما في أن يحصُل لهما
أوصافُ الملائكةِ من الكمالات الفطريةِ والاستغناء عن الأطعمة
والأشربة وذلك بمعزلٍ من الدِلالة على الأفضلية بالمعنى
المتنازَعِ فيه
(3/220)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي
لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ
الناصحين} أي أقسم لهما وصيغةُ المغالبة للمبالغة وقيل أقسما
له بالقَبول وقيل قالا له أتقسم بالله إنكى لمن الناصحين وأقسم
لهما فجُعل ذلك مقاسمة
(3/220)
فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ
الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ
تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{فدلاهما}
(3/220)
الأعراف 23 25
فنزلهما على الكل من الشجرة وفيه تنبيهٌ على أنَّه أهبطهما
بذلك من درجة عاليةٍ فإن التدلية والإدلاء إرسالُ الشيء من
الأعلى إلى السفل {بِغُرُورٍ} بما غرّهما به من القسم فإنهما
ظنا أن أحداً لا يُقسِم بالله كاذبا أو متلبسين بغرور
{فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا} أي فلما
وجدا طعمَها آخِذَين في الأكل منها أخذْتهما العقوبةُ وشؤمُ
المعصية فتهافت عنهما لباسُهما وظهرت لهما عوراتُهما واختلف في
أن الشجرة كانت السنبلة والكرم أو غيرَهما وأن اللباسَ كان
نوراً أو ظفراً {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} طفِق من أفعال الشروعِ
والتلبس كأخذ وجعل وأنشأ وهَبْ وانبرى أي أخذا يَرْقعَان
ويُلزِقان ورقةً فوق ورقة {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} قيل
كان ذلك ورقَ التينِ وقرىء يُخصِفان من أخصف أي يخصفان
أنفسَهما ويُخَصِّفان من التخصيف ويَخِصّفان أصله يختصفان
{وَنَادَاهُمَا ربهما} مالك أمرهمنا بطريق العتاب والتوبيخِ
{أَلَمْ أَنْهَكُمَا} وهو تفسيرٌ للنداء فلا محلَّ له من
الإعراب أو معهمول لقول محذوفٍ أي وقال أو قائلاً ألم أنهَكُما
{عَن تِلْكُمَا الشجرة} ما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد
لما أنه إشارةٌ إلى الشجرة التي نُهي عن قُربانها {وَأَقُل
لَّكُمَا} عطفٌ على أنهَكما أي ألم أقل لكما {إِنَّ الشيطان
لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وهذا عتابٌ وتوبيخٌ على الاغترار
بقول العدوِّ كما أن الأولَ عتابٌ على مخالفة النهي قيل فيه
دليلٌ على أنَّ مطلقَ النهي للتحريم ولكما متعلقٌ بعدو لما فيه
من معنى الفعل أو بمحذوفٍ هو حالٌ من عدوٌّ ولم يُحك هذا القول
ههنا وقد حُكي في سورة طه بقوله تعالى إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ
وَلِزَوْجِكَ الآية روي أنه تعالى قال لآدمَ ألم يكنْ فيما
منحتُك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة فقال بلى وعزتك
ولكن ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلِفُ بك كاذباً قال فبعزتي
لأُهبِطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيشَ إلا كدّاً فأُهبط
وعُلّم صنعةَ الحديد وأُمر بالحَرْثِ فحرَثَ وسقى وحصد ودرس
وذرَى وعجَن وخَبَز
(3/221)
قَالَا رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} أي
ضرّرناها بالمعصية والتعريضِ للإخراج من الجنة {وَإِن لَّمْ
تَغْفِرْ لَنَا} ذلك {وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الخاسرين} وهو دليلٌ على أن الصغائرَ يُعاقب عليها إن لم تغفر
وقال المعتزلةُ لا يجوز المعاقبةُ عليها مع اجتناب الكبائرِ
ولذلك حمَلوا قولَهما ذلك على عادات المقربين في استعظام
الصغيرِ من السيئات واستصغارِ العظيمِ من الحسنات
(3/221)
قَالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{قَالَ} استئناف كما مر مراراً {اهبطوا}
خطابٌ لآدمَ وحواءَ وذريتِهما أو لهما ولإبليس كررا الأمر له
تبعاً لهما ليعلمَ أنهم قرناءُ أبداً أو أُخبر عما قال لهم
مفرّقاً كما في قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ
الطيبات ولم يذكر ههنا قَبولُ توبتِهما ثقةً بما ذكر في سائر
المواضع {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ
اهبطوا أي مُتعادِين {وَلَكُمْ فِى الارض مُّسْتَقِرٌّ} أي
استقرارٌ أو موضعُ استقرارٍ {ومتاع} أي تمتعٌ وانتفاع {إلى
حين} هو جحين انقضاءِ آجالِكم
(3/221)
قَالَ فِيهَا
تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{قَالَ} أُعيد الاستئنافُ إما للإيذان بعدم
اتصالِ ما بعده بما قبله كما في قوله تعالى قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون إثرَ قوله تعالى قَالَ ومن
(3/221)
الأعراف آية 26 27
يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون وقوله تعالى قال
أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ بعد قوله تعالى قَالَ أأسجد
لمن خلقت طيناً وإما لإظهار الاعتناءِ بمضمون ما بعدَهُ منْ
قولِه تعالى {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا
تُخْرَجُونَ} أي للجزاءِ كقوله تعالى مِنْهَا خلقناكم وفيها
نعيكم وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى
(3/222)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ
وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ
آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{يا بني آدم} خطابٌ للناس كافةً وإيرادُهم
بهذا العنوان مما لا يخفى سرُّه {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ
لِبَاسًا} أي خلقناه لكم بتدبيرات سماويةٍ وأسبابٍ نازلةٍ منها
ونظيرُه وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ الخ وقوله تعالى
وَأَنزْلْنَا الحديد {يوارى سَوْآتكم} التي قصد إبليسُ
إبداءَها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن
ذلك وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون لا نطوف
بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت ولعل ذكر قصةِ آدمَ عليه
السلام حينئذ للإيذان بأن انكشافَ العورة أولُ سوءٍ أصاب
الإنسان من قِبَل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما أغة وى
أبويهم {وَرِيشًا} ولباساً تتجملون به والريشُ الجمالُ وقيل
مالاً ومنه ترّيش الرجلُ أي تموّل وقرىء رياشاً وهو جمعُ ريشٍ
كشِعْب وشِعاب {وَلِبَاسُ التقوى} أي خشيةُ الله تعالى وقيلَ
الإيمانُ وقيل السمتُ الحسَنُ وقيل لباسُ الحرب ورفعُه
بالابتداء خبرُه جملةُ {ذلك خَيْرٌ} أو خبرٌ وذلك صفتُه كأنه
قيل ولباسُ التقوى المشارُ إليه خيرٌ وقرىء ولباس التقوى بلنصب
عطفاً على لباساً {ذلك} أي إنزالُ اللباس {مِنْ آيات الله}
دالةٌ على عظيم فضلِه وعميمِ رحمتِه {لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ} فيعرِفون نعمتَه أو يتّعظون فيتورّعون عن
القبائح
(3/222)
يَا بَنِي آدَمَ لَا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{يا بني آدم} تكريرُ النداءِ للإيذان بكمال
الاعتناءِ بمضمون ما صدر به وإيرادهم بهذا العنون مما لا يخفى
سببُه {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} أي لا يوقِعنّكم في
الفتنة والمحنة بأن يمنعَكم من دخول الجنة {كَمَا أَخْرَجَ
أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة} نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا يفتِننّكم
فتنةً مثلَ إخراجِ أبويكم وقد جُوّز أن يكون التقديرُ لا
يُخرِجَنكم بفتنته إخراجاً مثلَ إخراجِه لأبويكم والنهيُ وإن
كان متوجهاً إلى الشيطان لكنه في الحقيقة متوجِّهٌ إلى
المخاطبين كما في قولك لا أرينك ههنا وقد مرَّ تحقيقُه مراراً
{يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتهما} حال
من أبويكم أو من فاعل أخرج وإسنادُ النزعِ إليه للتسبيب وصيغةُ
المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ وقوله تعالى {إِنَّهُ يَرَاكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ} أي جنودُه وذريتُه استئنافٌ لتعليل النهي
وتأكيد التحذير منه {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} من لابتداء
غايةِ الرؤية حيث ظرفٌ لمكان انتفاءِ الرؤية ولا ترَوْنهم في
محل الجرِّ بإضافة الظرفِ إليه ورؤيتُهم لنا من حيث لا نراهم
لا تقتضي امتناع رؤيتنا
(3/222)
الأعراف آية 28 29
لهم مطلقاً واستحالةَ تمثّلِهم لنا {إِنَّا جَعَلْنَا
الشياطين} جُعل قبيلُه من جملته فجمع {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ}
أي جعلناعهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم
وتمكينِهم من إغوائهم وحملِهم على ما سوّلوا لهم أولياءَ أي
قُرناءَ مسلّطين عليهم والجملة تعليلٌ آخرُ للنهي وتأكيدٌ
للتحذير إثرَ تحذير
(3/223)
وَإِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ
أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ (28)
{وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة} جملةٌ بمتدأ لا
محلَّ لها من الإعراب وقد جُوّز عطفُها على الصة والفاحشةُ
الفَعلةُ المتناهيةُ في القبح والتاء لأنها مُجراةٌ على
الموصوف المؤنث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية والمراد بها
عبارة الأصنامِ وكشفُ العورة في الطواف ونحوُهما {قَالُواْ}
جواباً للناهين عنها {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آباءنا والله
أَمَرَنَا بِهَا} محتجين بأمرين تقليدِ الآباءِ والافتراءِ على
الله سبحانه ولعل تقديمَ المقدم للإيذان منهم بأن ى باءهم إنما
كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها على أن ضمير أمرنا لهم
ولآبائهم فحينئذ يظهر وجهُ الإعراض عن الأول في رد مقالتِهم
بقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء} فإن
عادتَه تعالى جاريةٌ على الأمر بمحاسن الأعمالِ والحثِّ على
مراضي الخِصال ولا دِلالةَ فيه على أن قبحَ الفعلِ بمعنى ترتبِ
الذم عليه عاجلا والعقاب ى جلا عقلي فإن المرادَ بالفاحشة ما
ينفِر عنه الطبعُ السليم ويستنقِصُه العقلُ المستقيم وقيل هما
جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لما فعلوها لم فعلتم فقالوا
وجدنا عليها آباءَنا فقيل لمَ فعلها آباؤُكم فقالوا الله أمرنا
بها وعلى الوجهين يُمنع التقليدُ إذا قام الدليلُ بخلافه لا
مطلقاً {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تعلمون} من تمام
القولِ المأمورِ به والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه
وتوجيهُ الإنكارِ والتوبيخِ إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون
صدورَه عنه تعالى مع أن بعضَهم يعلمون عدمَ صدورِه عنه تعالى
مبالغةٌ في إنكار تلك الصورةِ فإن إسنادَ ما لم يعلم صدوره عنه
تعالى إليه تعالى إذا كان مُنكراً فإسنادُ ما عُلم عدمُ صدورِه
عنه إليه عز وجل أشدُّ قبحاً وأحقُّ بالإنكار ...
(3/223)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ (29)
{قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط} بيانٌ للمأمور
به إثرَ نفس ما أُسند أمرُه إليه تعالى من الأمور المنهيِّ
عنها والقسط هو العدلُ وهو الوسَطُ من كل شيء المتجافي عن طرفي
الإفراطِ والتفريط {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} وتوجهوا إلى
عبادته مستقيمين غيرَ عادلين إلى غيرها أو أقيموا وجوهَكم نحو
القِبلة {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} في كل وقت سجودٍ أو مكانِ سجودٍ
وهو الصلاةُ أو في أي مسجدٍ حضَرتْكم الصلاةُ عنده ولا تؤخروها
حتى تعودوا إلى مساجدكم {وادعوه} واعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ
الدين} أي الطاعةَ فإن مصيرَكم إليه بالآخرة {كَمَا
بَدَأَكُمْ} أي أنشأكم ابتداءً {تَعُودُونَ} إليه بإعادته
فيجازيكم على أعمالكم وإنما شُبه الإعادةُ بالإبداء تقريراً
لإمكانها والقدرةِ عليها وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه
وقيل حفاة عراة غر لا تعودون إليه وقيل كما بدأكم مؤمناً
وكافراً يعيدكم
(3/223)
الأعراف آية 30 33
(3/224)
فَرِيقًا هَدَى
وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ
اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{فَرِيقًا هدى} بأن وفقهم للإيمان
{وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} بمقتضى القضاءِ السابقِ
التابعِ للمشيئة المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ وانتصابُه بفعل
مُضمرٍ يفسِّره ما بعده أي وخذل فريقاً {إِنَّهُمُ اتخذوا
الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله} تعليلٌ لخِذلانه أو
تحقيقٌ لضلالتهم {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} فيه
دلالةٌ على أن الكافرَ المُخطِىءَ والمعانِدَ سواءٌ في استحقاق
الذمِّ وللفارق أن يحمِلَه على المقصِّر في النظر
(3/224)
يَا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ (31)
{يا بني آدم خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي
ثيابَكم لمواراة عورتِكم {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} أي طوافٍ أو
صلاةٍ ومن السنة أن يأخذ الرجلُ أحسنَ هيئتِه للصلاة وفيه
دليلٌ على وجوب سترِ العورة في الصلاة {وَكُلُواْ واشربوا} مما
طاب لكم روي أن بني عامرٍ كانوا في أيم حجِّهم لا يأكلون
الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظِّمون بذلك حجهم فهمّ
المسلمون بمثله فنزلت {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بتحريم الحلالِ أو
بالتعدّي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعامِ والشّرَه عليه وعن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ماشئت ما أخطأتْك خصلتانِ
سَرَفٌ ومَخِيلة وقال علي بن الحسين بن واقد جمع الله الطبَّ
في نصف آية فقال كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ {إِنَّهُ
لاَ يحب المسرفين} أيب لا يرتضي فعلَهم
(3/224)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ
مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} من
الثياب وما يُتجمَّل به {التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} من النبات
كالقُطن والكتّان والحيوانِ كالحرير والصوفِ والمعادن كالدروع
{والطيبات مِنَ الرزق} أي المستلذاتِ من المآكل والمشارب وفيه
دليلٌ على أنَّ الأصل في المطاعم والملابس وأنواعِ التجمُّلات
الإباحةُ لأن الاستفهامَ في من إنكاري {قل هي للذين آمنوا في
الحياة الدنيا} بالأصالة والكفرةُ وإن شاركوهم فيها فبِالتَّبع
{خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} لا يشارركهم فيها غيرُهم وانتصابُه
على الحالية وقرىء بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبر {كَذَلِكَ
نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي مثلَ هذا التفصيلِ
نفصِّلُ سائرَ الأحكامِ لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من المعاني
الرائقة
(3/224)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش} أي
ما تفاحش قبحُه من الذنوب وقيل ما يتعلق منها بالفروج {ما ظهرَ
منها وما بَطَنَ} بدلٌ من الفواحش أي جهرَها وسرَّها {والإثم}
أي ما يوجب الإثمَ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ وقيل هو شربُ
الخمر {والبغى} أي الظلم أو الكبر أفرد بالذكر
(3/224)
الأعراف آية 34 35 للمبالغة في الزجرعنه
{بغير الحق} متعلق بالغي مؤكدٌ له معنى {وَأَن تُشْرِكُواْ
بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} تهكّمٌ بالمشركين
وتنبيهٌ على تحريم اتباعِ ما لا يدل عليه برهان {وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} بالإلحاد في صفاته
والافتراء عليه كقولهم والله أَمَرَنَا بِهَا وتوجيهُ التحريم
إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون وقوعَه لا يعلمون عدمَ
وقوعِه قد مر سرُّه
(3/225)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{ولكل أمةٍ} من الأمم المُهلَكة {أَجَلٌ}
حدٌّ معينٌ من الزمان مضروبٌ لِمَهلِكهم {فَإِذَا جَاء
أَجَلُهُمْ} إن جعل الضميرُ للأمم المدلولِ عليها بكل أمة
فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغ
كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه غياها بواسطة اكتسابِ الأجل
بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالهم
بأن يجيء كل واحدةٍ من تلك الأمم أجلُها الخاصُّ بها وإن جُعل
لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمار
لزيادة التقريرِ والإضافةُ إلى الضمير لإفادة أكملِ التمييزِ
أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك
الأجلِ {سَاعَةً} أي شيئا قليلا من الزما فإنها مثل ي غاية
القلةِ منه أي لا يتأخرون أصلاً وصيغةُ الاستفعا ل للإشعار
بعجزهم وحِرمانهم عن ذلك مع طلبهم له {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}
أي ولا يتقدمون عليهِ وهو عطفٌ عَلى يستأخرون لكن لا لبيان
انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل المبالغة في
انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كمكا في قوله
سبحانه وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى
إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ
الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فإن من مات كافراً مع ظهور
أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم القبولِ في سلك من سوفها
إلى حضور الموتِ إيذاناً بتساوي وجودِ التوبة حينئذ وعدمها
بالمرة وقيل المرادُ بالمجيء الدنوُّ بحيث يمكن التقدمُ في
الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ فيه وليس بذاك
وتقديمُ بيانِ انتفاء الاستيخار لما أن المقصودَ بالذات بيانُ
عدمِ خلاصِهم من العذاب وأمَّا ما في قولِه تعالى مَّا
تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يستأخرون من سبق السبق
في الذكر فلما أن المراد هناك بيانُ سرِّ تأخيرِ إهلاكِهم مع
استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ
وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
فالأهمُّ هناك بيانُ انتفاءِ السبْق
(3/225)
يَا بَنِي آدَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ
آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
{يا بني آدم} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى
كافى الناس اهتماماً بشأن ما في حيّزه {إِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ} هي إنْ الشرطيةُ ضُمَّت إليها ما لتأكيد معنى
الشرطِ ولذلك لزِمت فعلَها النونُ الثقيلةُ أو الخفيفةُ وفيه
تنبيه على أن إرسال الرسل أمر حائز لا واجبٌ عقلاً {رُسُلٌ
مّنكُمْ} الجارُّ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لرسلٌ أي كائنون من
جنسكم وقولُه {يقصون عليكم آياتي} صفةٌ أخرى لرسلٌ أي يبينون
لكم أحكاميوشرائعي وقولُه تعالى {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جملةٌ شرطية وقعت
جوابا
(3/225)
الأعراف آية 36 37
للشرط أيس فمن اتقى منكك التكذيبَ وأصلح عملَه فلا خوف الخ
وكذا وقوله تعالى
(3/226)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
{والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عَنْهَا
أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} أي والذين كذبوا
منكم بآياتنا وإيرادُ الاتقاءِ في الأول للإيذان بأن مدارَ
الفلاحِ ليس مجردَ عدمِ التكذيبِ بل هو الاتقاءُ والاجتنابُ
عنه وإدخالُ الفاءِ في الجزاء الأولِ دون الثاني للمبالغة في
الوعد والمسامحةِ في الوعيد
(3/226)
فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ
حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا
أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا
ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ
كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله
كذبا أو كذب بآياته} أي تقول عليه ما لم يقُلْه أو كذّب ما
قاله أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالمٍ وقد مرَّ تحقيقُه مراراً
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصول والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن
إفرادَ الفعلين باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البعد للإيذان
بتماديهم في سُوءِ الحالِ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من
الافتراءِ والتَّكذيبِ {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي مما كُتب
لهم من الأرزاق والأعمارِ وقيل الكتابُ اللوحُ أي ما أُثبت لهم
فيه وأياً ما كان فمِن الابتدائيةُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً
من نصيبهم أي ينالُهم نصيبُهم كائناً من الكتاب وقيل نصيبُهم
من العذاب وسوادِ الوجه وزُرقةِ العيون وعن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما كُتب لمن يفتري على الله سوادُ الوجهِ قال تعالى
وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم
مُّسْوَدَّةٌ وقولُه تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ
رُسُلُنَا} أي ملكُ الموتِ وأعوانُه {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي
حالَ كونِهم مُتوفِّين لأرواحهم يؤيد الأول فإنَّ حتَّى وإنْ
كانتْ هي التي يُبتدأ بها الكلام لكنها غايةٌ لما قبلها فلا بد
أن يكون نصيبُهم مما يتمتعون بها إلى حين وفانهم أي ينالهم
نصيبُهم من الكتاب إلى أن يأتيَهم ملائكةُ الموتِ فإذا جاءتهم
{قَالُواْ} لَهُمْ {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تدعون مِن دُونِ الله}
أي أين الآلهةُ التي كنتم تعبُدونها في الدنيا وما وقعت
موصولةً بأين في خط المصحف وحقُّها الفصلُ لأنها موصولة
{قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ سؤالِ
الرسل كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قَالُواْ {ضَلُّواْ
عَنَّا} أي غابوا عنا أي لا ندري مكانَهم {وَشَهِدُواْ عَلَى
أَنفُسِهِمْ} عطفٌ على قالُوا أي اعترفوا على أنفسهم
{أَنَّهُمْ كَانُواْ} أي في الدنيا {كافرين} عابدين لما لا
يَستحِق العبادةَ أصلاً حيث شاهدوا حالَه وضلالَه ولعله أريد
بوقت مجيءِ الرسل وحالِ التوفي الزمانُ الممتدُّ من ابتداء
المجيءِ والتوفي إلى انتهائه يوم الجزاءِ بناءً على تحقق
المجيءِ والتوفي في كل ذلك الزمان بقاءً وإن كان حدوثُهما في
أوله فقط أو قُصد بيانُ غاية سرعةِ وقوعِ البعثِ والجزاء
كأنهما حاصلان عند ابتداءِ التوفي كما ينبىء عنه قوله صلى الله
عليه وسلم من مات فقد قامت قيامتُه وإلا فهذا السؤال والجوابُ
وما ترتب عليهما من الأمر بدخول النارِ وما جرى بين أهلها من
التلاعن
(3/226)
الأعراف آي 38 40
والتقاولِ إنما يكون بعد البحث لا محالة
(3/227)
قَالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ
لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ
عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ
لَا تَعْلَمُونَ (38)
{قَالَ} أي الله عزَّ وجل يوم القيامة
بالذات أو بواسطة الملك {ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِكُمْ} أي كائنين من جملة أممٍ مصاحبين لهم {مّنَ الجن
والإنس} يعني كفارَ الأمم الماضيةِ من النوعين {فِى النار}
متعلقٌ بقوله أَدْخِلُواْ {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من
الأمم السابقةِ واللاحقةِ فيها {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} التي ضلت
بالاقتداء بها {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} أي
تداركوا وتلاحقوا في النار {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} دخولاً أو
منزلة وهم الأتباعُ {لاولاهم} أي لأجلهم إذِ الخطابُ مع الله
تعالى لا معهم {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} سنّوا لنا
الضلال فاقتدنا بهم {فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً
مِنَ النار لأنهم ضلّوا وأضلوا {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} أما
القادةُ فلِما ذُكر من الضلال والإضلالِ وأما الأتباعُ فلكفرهم
وتقليدِهم {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} اي ما لكم وما لِكُلّ فريقٍ
من العذاب وقرىء بالياء
(3/227)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ
لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{وَقَالَتْ أولاهم} أي مخاطِبين
{لأُخْرَاهُمْ} حين سمعوا جوابَ الله تعالى لهم {فَمَا كَانَ
لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي فقد ثبت أن لا فضلَ لكم علينا
وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاقِ العذاب {فَذُوقُواْ
العذاب} أي العذابَ المعهودَ المضاعفَ {بِمَا كُنتُمْ
تَكْسِبُونَ} من قول القادة
(3/227)
إِنَّ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ
لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{إن الذين كذبوا بآياتنا} مع وضوحها
{واستكبروا عَنْهَا} أي عن الإيمان بها والعملِ بمقتضاها {لاَ
تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} أي لا تُقبل أدعيتُهم ولا
أعمالهم ولا تعْرُج إليها أرواحُهم كما هو شأنُ أدعيةِ
المؤمنين وأعمالِهم وأرواحِهم والتاء في تفتح لتأنيث الأبواب
والتشديد لكثرتها وقرىء بالتخفيف وبالتخفيف والياء وقرىء على
البناء للفاعل ونصب الأبواب على أن الفعلَ للآيات وبالياء على
أنه لله تعالى {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى
سَمّ الخياط} أي حتى يدخُلَ ما هو مثل في عِظَم الجِرْم فيما
علم في ضيق الملك وهو يقبة الإبرة وفي كون الجملِ مما ليس من
شأنه الولج في سمِّ الإبرة مبالغةٌ في الاستبعاد وقرىء الجُمّل
كالقمّل والجُمَل كالنُغَر والجُمل كالقُفل والجَمَل كالنصَب
والجَمْل كالحبل وهي الحبلُ الغليظ من القنب وقيل حبلُ السفينة
وسُمّ بالضم والكسر وقرىء في سَمّ المَخيط وهو الخِياط أي ما
يُخاط به كالحِزام والمحزم {وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ الجزاءِ
الفظيعِ {نَجْزِى المجرمين} أي جنسَ المجرمين وهم داخلونَ في
زُمرتهم دخولاً أوليا
(3/227)
الأعراف آية 41 43
(3/228)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ
مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ (41)
{لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي فراشٌ من
تحتهم والتنوينُ للتفخيم ومن تجريدية {وَمِن فَوْقِهِمْ
غَوَاشٍ} أي أغطيةٌ والتنوينُ للبدل عن الإعلال عند سيبويهِ
وللصرْفِ عند غيره وقرىء غواشِ على إلغاء المحذوف كما في قوله
تعالى وَلَهُ الجوار المنشآت {وكذلك} ومثلَ ذلك الجزاءِ الشديد
{نَجْزِى الظالمين} عبّر عنهم بالمجرمين تارةً وبالظالمين أخرى
إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآياتِ اتّصفوا بكل واحدٍ من ذيْنِك
الوصفين القبيحين وذكرُ الجُرم مع الحِرمان من دخول الجنةِ
والظلم مع التعذيب بالنار للتنبيه على أنه أعظمُ الجرائمِ
والجرائر
(3/228)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (42)
{والذين آمنوا} أي بآياتنا أو بكلِّ ما
يجبُ أنْ يُؤمن به فيدخُل فيه الآياتُ دُخولاً أوليَّا وقولُه
تعالَى {وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الأعمالَ الصالحةَ التي
شُرعت بالآيات وهذا بمقابلة الاستكبارِ عنها {لاَ نُكَلّفُ
نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} اعتراضٌ وُسِّط بين المبتدإِ الذي
هو الموصولُ والخبر الذي هو جملة {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة}
للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولةِ
منالِه وتيسُّر تحصيلِه وقرىء لا تُكَلَّف نفسٌ واسمُ الإشارةِ
مبتدأٌ وأصحابُ الجنةِ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتأ الأولِ أو
اسمُ الإشارةِ بدلٌ من المبتدأ الأولِ الذي هو الموصول والخبر
أصحابُ الجنة وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم
في الفضل والشرف {هُمْ فِيهَا خالدون} جحال من أصحاب الجنة وقد
جوز كونُه حالاً من الجنة لاشتماله على ضميرها والعاملُ معنى
الإضافةِ أو اللامُ المقدرةِ أو خبرٌ ثانٍ لأولئك على رأي من
جوّزه وفيها متعلق بخالدون
(3/228)
وَنَزَعْنَا مَا فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ
جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ
الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ
غِلّ} أي نخرج من قلوبهم أسبابَ الغل أو نطهرها منه حتى لا
يكون بينهم إلا التوادُّ وصيغةُ الماضي للإيذان بتحققه وتقررِه
وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان
وطلحةُ والزبيرُ منهم {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} زيادةٌ
في لذتهم وسرورهم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في صدورهم
والعاملُ إما معنى الإضافة وإما العاملُ في المضاف أو حالٌ من
فاعل نزعنا والعاملُ نزعنا وقيل هي مستأنفةٌ للإخبار عن صفة
أحوالِهم {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} أي
لِما جزاؤُه هذا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} أي لهذا المطلبِ
الأعلى أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها {لَوْلا أَنْ
هَدَانَا الله} ووفقنا له واللام لتأكيد النفي وجواب النفي
لولا محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليه ومفعولُ نهتدي وهدانا
الثاني
(3/228)
الأعراف آية 44 46
محذوفٌ لظهور المرادِ أو لإرادة التعميمِ كما أشير إليه
والجملةُ مستأنَفةٌ أو حالية وقرىء ما كنا لنهتديَ الخ بغير
واو على أنها مبنية ومفسرةٌ للأولى {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ
رَبّنَا} جوابُ قسمٍ مقدر قالوه تبجّحاً واغتباطاً بما نالوه
وابتهاجاً بإيمانهم بما جاءتهم الرسلُ عليهم السلام والباء في
قوله تعالى {بالحق} إما للتعدية فهي متعلقةٌ بجاءت أو للملابسة
فهي متعلقةٌ بمقدرٍ وقع حالاً من الرسل أي والله لقد جاءوا
بالحق ولقد جاءوا ملتبسين بالحق {وَنُودُواْ} أي نادتهم
الملائكةُ عليهم السلام {أَن تِلْكُمُ الجنة} أن مفسرة لما في
النِّداءِ من معنى القولِ أو مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأنِ
محذوفٌ ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ إما لأنهم نوُدوا عند
رؤيتِهم إياها من مكان بعيد غما لرفع منزلتِها وبُعدِ رتبتِها
وإما للإشعار بأنها تلك الجنةَ التي وُعدوها في الدنيا
{أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من
الأعمالِ الصالحةِ أي أُعطيتموها بسبب أعمالِكم أو بمقابلة
أعمالِكم والجملةُ حال من الجنة والعاملُ معنى الإشارةِ على أن
تلكم الجنةُ مبتدأٌ وخبرٌ أو الجنةُ صفةٌ والخبرُ أورثتموها
(3/229)
وَنَادَى أَصْحَابُ
الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ
رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
{وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار} تبجحاً
بحالهم وشماتةً بأصحاب النار وتحسيراً لهم لا لمجرد الإخبارِ
بحالهم والاستخبارِ عن حال مخاطَبيهم {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا} حيث نلنا هذا المنالَ الجليلَ {فهل
وجدتم ما وعد رَبُّكُمْ حَقّا} حُذف المفعولُ من الفعل الثاني
إسقاطاً لهم عن رتبة التشريفِ بالخطاب عند الوعدِ وقيل لأن ما
ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً بهم وعداً كالبعث
والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميعَ ذلك حقاً وإن لم
يكن وعدُه مخصوصاً بهم {قَالُواْ نَعَمْ} أي وجدناه حقاً وقرىء
بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ} قيل هو صاحبُ
الصُّور {بَيْنَهُمْ} أي بين الفريقين {أَن لَّعْنَةُ الله
عَلَى الظالمين} بأنْ المخفَّفةِ أو المفسِّرةِ وقرىء بأنّ
المشددةِ ونصْبِ لعنةُ وقرىء إنّ بكسر الهمزةِ على إرادة القول
أو إجراء أذّن مُجرى قال
(3/229)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} صفةٌ
مقرِّرةٌ للظالمين أو رُفع على الذم أو نصْبٌ عليه
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يبغون لها عِوَجاً بأن يصفوها
بالزيغ والميلِ عن الحق وهو أبعدُ شيء منهما والعِوَجُ بالكسر
في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً وبالفتح ما كان في
المنتصِب كالرُّمحِ والحائط {وَهُم بالاخرة كافرون} غيرُ
معترفين
(3/229)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ
وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ
وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي بين الفريقين
كقوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ أو بين الجنة والنار
ليمنعَ وصولُ أثرِ إحداهما إلى الأخرى {وَعَلَى الاعراف} أي
على أعراف الحجابِ وأعاليه وهو السورُ المضروبُ بينهما جمعُ
(3/229)
الأعراف ى ية 47 49
عُرف مستعار من عُرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه
بظهوره أعرفُ من غيره {رِجَالٌ} طائفةٌ من الموحدين قصّروا في
العمل فيجلسون بين الجنة والنارِ حتى يقضيَ الله تعالى فيهم ما
يشاء وقيل قومٌ عَلَت درجاتُهم كالأنبياء والشهداء والأخيارِ
والعلماءِ من المؤمنين أو ملائكةٌ يُرَون في صور الرجال
{يَعْرِفُونَ كُلاًّ} من أهل الجنة والنار {بسيماهم} بعلامتهم
التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجهِ وسوادِه فعلى من سام
إبِلَه إذا أرسلها في المرعى مُعْلَمةً أو مِنْ وَسَم بالقلب
كالجاه من الوجه وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو بتعليم الملائكة
{وَنَادَوْاْ} أي رجالُ الأعراف {أصحاب الجنة} حين رأوهم {أَن
سلام عَلَيْكُمْ} بطريق الدعاءِ والتحية أو بطريق الإخبارِ
بنجاتهم من المكارة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} حالٌ من فاعل نادَوْا
أو من مفعولِه وقولُه تعالى {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حال من فاعل
يدخلوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها
مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدمِ الدخول طامعون
(3/230)
وَإِذَا صُرِفَتْ
أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا
لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
{وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب
النار} أي إلى جهتهم وفي عدم التعرضِ لتعلق أنظارِهم بأصحاب
الجنةِ والتعبير عن تعلق أبصارعهم بأصحاب النارِ بالصرف إشعارٌ
بأن التعلقَ الأولَ بطريق الرغبة والميل الثاني بخلافه
{قَالُواْ} متعوذين بالله تعالى من سوء حالِهم {رَبَّنَا لاَ
تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} أي في النار وفي وصفهم
بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوءِ الحال الذي هو
الموجبُ للدعاء إشعارٌ بأن المحذورَ عندهم ليس نفيَ العذابِ
فقط بل مع ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم
(3/230)
وَنَادَى أَصْحَابُ
الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا
مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ (48)
{ونادى أصحاب الاعراف} كرر ذكرهم مع كفاية
الإضمار لزيادة التقرير {رِجَالاً} من رؤساء الكفارِ حين
رأَوْهم فيما بين أصحابِ النار {يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم}
الدالةِ على سوء حالِهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا
{قَالُواْ} بدلٌ من نادى {مَا أغنى عنكم} ما إما الاستفهامية
للتوبيخ والتقريع أو نافية {جَمْعُكُمْ} أي أتباعُكم وأشياعُكم
أو جمعُكم للمال {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} ما مصدريةٌ
أي ما أغنى عنكم جميعا واستكبارُكم المستمرُّ عن قَبول الحقِّ
أو على الخلق وهو الأنسب بما بعجه وقرىء تستكثرون من الكثرة أي
من الأموال والجنود
(3/230)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ
(49)
{أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ
يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} من تتمة قولِهم للرجال والإشارةُ
إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرةُ يحتقرونهم في الدنيا
ويحلِفون صريحاً أنهم لا يدخُلون الجنةَ أو يفعلون ما ينبىء عن
ذلك كما في قولِه تعالى أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن
قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ {ادخلوا الجنة} تلوينٌ للخطاب
وتوجيهٌ له إلى أولئك المذكورين أي ادخُلوا الجنة على رُغم
(3/230)
الأعراف ى ية 50 52
أنوفِهم {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} بعد هذا {وَلا أَنتُمْ
تَحْزَنُونَ} أو قيل لأصحاب الأعراف ادخُلوا الجنةَ بفضل الله
تعالى بعد أن حُبسوا وشاهدوا أحوالَ الفريقين وعرفوهم وقالوا
لهم ما قالوا والأظهرُ أن لا يكون المراد بأصحالب الأعرافِ
المقصِّرين في العمل لأن هذه المقالاتِ وما تنفرع هي عليه من
المعرفة لا يليق بمن لم يتعيّنْ حالُه بعدُ وقيل لما عيّروا
أصحابَ النار أقسموا أن أصحابَ الأعرافِ لا يدخُلون الجنة فقال
الله تعالى أو الملائكةُ رداً عليهم أهؤلاء الخ وقرىء ادخَلوا
ودَخَلوا على الاستئناف وتقديرُه دخلوا الجنةَ مقولاً في
حقِّهم لا خوفٌ عليكم
(3/231)
وَنَادَى أَصْحَابُ
النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} بعد أن
استقر بكل من الفريقين القرارُ واطمأنت به الدار {أَنْ
أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} أي صبوه وفيه دلالة على أن
الجنة فوق النار {أَوْ مما رزقكم الله} من سائر الأشربة ليلائم
الإضافة أو من الأطعمة على أن الإفاضةَ عبارةٌ عن الإعطاء
بكثرة {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا
قالوا فقيل قالوا {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} أي
منعهما منهم منعاً كلياً فلا سبيل إلى ذلك قطعاً
(3/231)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا ولعبا}
متحريم البَحيرة والسائبةَ ونحوِهما والتصديةِ حولَ البيت
واللهوُ صرفُ الهمِّ إلى ما لا يحسُن أن يُصْرفَ إليه واللعبُ
طلبُ الفرحِ بما لا يحسن أن يُطلب {وَغَرَّتْهُمُ الحياة
الدنيا} بزخارفها العاجلةِ {فاليوم ننساهم} نفعل بهم ما يفعل
الناس بالمنسيِّ من عدم الاعتدادِ بهم وتركِهم في النار تركاً
كلياً والفاء في فاليوم فصيحةٌ وقوله تعالى {كَمَا نَسُواْ
لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} في محل النصبِ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ
محذوفٍ أي ننساهم مثلَ نسيانِهم لقاءَ يومِهم هذا حيث لم
يُخطِروه ببالهم ولم يعتدّوا له وقولُه تعالى {وَمَا كَانُواْ
بآياتنا يَجْحَدُونَ} عطفٌ على ما نسوا أي وكما كانوا منكرين
بأنها من عند الله تعالى إنكاراً مستمراً
(3/231)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ
بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{وَلَقَدْ جئناهم بكتاب فصلناه} أي بيّنا
معانيَه من العقائد والأحكامِ والمواعظ والضميرُ للكفرة قاطبةً
والمرادُ بالكتاب الجنسُ أو للمعاصِرين منهم والكتابُ هو
القرآن {على عِلْمٍ} حالٌ من فاعِل فصلناه أي عالمين بوجه
تفصيلِه حتى جاء حكيماً أو من مفعولِه أي مشتملاً على علم كثير
وقرىء فضلناه أي على سائر الكتب عالمين بفضله {هُدًى
وَرَحْمَةً} حال من المفعول {لقوم لا يُؤْمِنُونَ} لأنهم
المغتنمون لآثاره المقتبسون من أنواره
(3/231)
الأعراف آية 53 54
(3/232)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا
أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (53)
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي
ما يناتظر هؤلاءِ الكفرةُ بعدم إيمانِهم به إلا ما يئول إليه
أمرُه من تبيّن صدقِه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد
{يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} وهو يومُ القيامة {يَقُولُ الذين
نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي تركوه ترْكَ المنسيِّ من قبل إتيانِ
تأويلِه {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} أي قد تبين أنهم
قد جاءوا بالحق {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لنا}
ويدفعوا عنا العذاب {أَوْ نُرَدُّ} أي هل نرد إلى الدنيا وقرىء
بالنصب عطفاً على فيشفعوا أو لأن أو بمعنى إلى أن فعلى الأول
المسئول أحدُ الأمرين إما الشفاعةُ لدفع العذاب أو الرد إلى
الدنيا وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاءُ إما لأحد الأمرين أو
لأمر واحد هو الرد {فَنَعْمَلَ} بالنصب على أنه جواب الاستفهام
الثاني وقرىء بالرفع أي فنحن نعمل {غَيْرَ الذى كُنَّا
نَعْمَلُ} أي في الدنيا {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بصرف
أعمارِهم التي هي رأسُ مالِهم إلى الكفر والمعاصي {وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ظهر بطلانُ ما كانوا
يفترونه من أن الأصنامَ شركاءُ لله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة
(3/232)
إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خلق السماوات
والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} شروعٌ في بيان مبدأ الفطرةِ إثرَ
بيانِ معادِ الكفَرة أي إن خالقَكم ومالككم الذي خالق الأجرامَ
العلوية والسفليةَ في ستة أوقات كقوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أو في مقدار ستةِ أيامٍ فإن المتعارفَ أن
اليومَ زمانُ طلوعِ الشمسِ إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ وفي
خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إبداعها دفعة دليل على
الاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور {ثُمَّ
استوى عَلَى العرش} أي استوى أمرُه واستولى وعن أصحابنا أن
الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى
استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار
والتمكن والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه
أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابير تنزِل منه وقيل
الملك {يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي يغطّيه به ولم يُذكر
العكسُ للعلم به أو لأن اللفظَ يحتملهما ولذلك قرىء بنصب
الليلَ ورفع النهار وقرىء بالتشديد للدلالة على التكرار
{يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي يعقُبه سريعاً كالطالب له لا يفصل
بينهما شيء والحثيثُ فعيل من الحث وهو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ أو
حالٌ من الفاعلِ أو من المفعول بمعنى حاثاً أو محثوثاً {والشمس
والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} أي خلقهن حال كونهِن
مسخراتٍ بقضائه وتصريفِه وقرىء كلُّها بالرفع على
(3/232)
الأعراف آية 55 56
الابتداء والخبر {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} فإنه الموجدَ للكل
والمتصرِّفَ فيه على الإطلاق {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}
أي تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظّم بالتفرد في الربوبية
وتحقيقُ الآية الكريمةِ والله تعالى أعلم إن الكفرة كانوا
متخذين أرباباً فبيّن لهم أن المستحق الربوبية واحدٌ هو الله
تعالى لأنه الذي له الخلقُ والأمرُ فإنه تعالى خلق العالمَ على
ترتيب قويمٍ وتدبيرٍ حكيم فأبدع الأفلاكَ ثم زينها بالشمس
والقمر والنجومِ كما أشار إليه بقوله تعالى فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ وعمَد إلى األأجرام السفليةِ فخلق
جسماً قابلاً للصور لمتبدلة والهيئاتِ المختلفة ثم قسمها لصور
نوعية متبانة الآثار والأفعالِ وأشار إليه بقوله تعالى وخلق
الارض فِى يَوْمَيْنِ أي ما في جهة السُّفلِ في يومين ثم أنشأ
أنواعَ المواليدِ الثلاثةِ بتركيب موادِّها أولاً وتصويرِها
ثانياً كما قال بعد قوله تعالَى خَلَقَ الأرضَ فِى يَوْمَيْنِ
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتَها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع
اليومين الأولين لِما فُصّل في سورة السجدة ثم لمّا تم له
عالمُ الملك عمد إلى تدجبيره كالمالك الجالس على سريره فدبر
الأمرَ مِنَ السماء إِلَى الأرض بتحريك الأفلاكِ وتسيير لكواكب
وتكويرِ الليالي والأيامِ ثم صرّح بما هو فذلكةُ التقريرِ
ونتيجتُه فقال تعالى ألا له الحلق والامر تَبَارَكَ الله رَبُّ
العالمين ثم أمر بأن يدعوُه مخلِصين متذلِّلين فقال
(3/233)
ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
(55)
{ادعوا رَبَّكُمْ} الذي قد عرفتم شئونه
الجليلة {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي ذوي تضرّعٍ وخُفية فإن
الإخفاءَ دليلُ الإخلاص {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي لا
يحب دعاءَ المجاوزين لما أُمروا به في كلَّ شيءٍ فيدخُل فيه
الاعتداءُ في الدعاء دخولاً أولياً وقد نُبِّه به على أن
الداعيَ يجب أن لا يطلُب ما لا يليقُ به كرتبة الأنبياءِ
والصعودِ إلى السماء وقيل هو الصياحُ في الدعاء والإسهابُ فيه
وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم سيكونُ قومٌ يعتدون في
الدعاء وحسْبُ المرءِ أن يقول اللهم إني أسألُك الجنةَ وما
قرَّب إليها من قول وعملٍ وأعوذُ بك من النار وما قرب إليها من
قول وعمل ثم قرأ إنَّهُ لا يحبُّ المعتدين
(3/233)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض} بالكفر
والمعاصي {بَعْدَ إصلاحها} ببعث الأنبياء عليهم السلام وشرْعِ
الأحكام {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} أي ذوي خوفٍ نظرا إلى قصور
أعمالكم وعدم اسحقاقكم وطمَعٍ نظراً إلى سَعة رحمتِه ووفورِ
فضلِه وإحسانِه {إن رحمة الله قريب مِّنَ الْمُحْسِنِين} في كل
شيء ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقروناً بالخوف والطمع
وتذكيرُ قريبٌ لأن الرحمةَ بمعنى الرحم أو لأنه صفةٌ لمحذوف أي
أمرٌ قريبٌ أو على تشبيه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول أو الذي هو
مصدر كالنقيض والصهيل أو للفرق بين القريب من النسَب والقريب
من غيره أو لاكتسابه التذكيرَ من المضاف إليه كما أن المضاف
يكتب التأنيثَ من المضاف إليه
(3/233)
الأعراف آية 57 58
(3/234)
وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى
إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (57)
{وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح} عطف على
الجملة السابقة وقرىء الريحَ {بُشْرًا} تخفيفُ بُشُرٍ جمع بشير
أي مبشّرات وقرىء بفتح الباءِ على أنه مصدرُ بَشَره بمعنى
باشرات أو للبِشارة وقرىء نُشُراً بالنون المضمومة جمعُ نَشور
أي ناشرات ونَشْراً على أنه مصدرٌ في موقعِ الحالِ بمعنى
ناشرات أو مفعولٌ مطلقٌ فإن الإرسالَ والنَّشرَ متقاربان
{بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} قُدّامَ رحمتِه التي هي المطرُ فإن
الصَّبا تُثير السحابَ والشَّمالَ تجمعُه والجَنوبَ تدُرّه
والدَّبورَ تفرّقه {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} أي حملت واشتقاقُه
من القِلة فإن المُقِلَّ للشيء يستقِلّه {سَحَابًا ثِقَالاً}
بالماء جَمَعه لأنه بمعنى السحائب {سقناه} أي السحاب وإفرادُ
الضميرِ لإفراد اللفظ {لِبَلَدٍ مَّيّتٍ} أي لأجله ولمنفعته أو
لإحيائه أو لسقيه وقرىء ميْتٍ {فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء} أي
بالبلد أو بالسحاب أو بالسَّوْق أو بالريح والتذكيرُ بتأويل
المذكور وكذلك قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ويحتمل أن يعود
الضميرُ إلى الماء وهو الظاهرُ وإذا كان للبلد فالباءُ للإلصاق
في الأول والظرفية في الثاني وإذا كان لغيره فهي للسببية {مِن
كُلّ الثمرات} أيْ من كل أنواعها {كذلك نُخْرِجُ الموتى}
الإشارةُ إلى إخراج الثمراتِ أو إلى إحياء البلدِ الميتِ أي
كما نحييه بإحداث القوةِ الناميةِ فيه وتطريتِها بأنواعِ
النباتِ والثمراتِ نخرج الموتى من الأجداث ونحييها بردّ
النفوسِ إلى موادّ أبدانِها بعد جَمعِها وتطريتها بالقُوى
والحواسّ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بطرح إحدى التاءين أي
تتذكرون فتعلمون أن مَنْ قدَرَ على ذلك على هذا من غير شبهة
(3/234)
وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي
خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{والبلد الطيب} أي الأرضُ الكريمةُ التربة
{يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ} بمشيئته وتيسيرِه عبر به
عن كثرة النباتِ وحسنِه وغزارة نفحه لنه أوقعه في مقابلةِ
قولِه تعالى {والذى خَبُثَ} من البلاد كالسبخة والحرَّة {لاَ
يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} قليلاً عديمَ النفع ونصبُه على الحال
والتقديرُ والبلدُ الذي خبُث لا يخرُج نباتُه إلا نكِداً فحُذف
المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه فصار مرفوعاً مستتراً
وقرىء لا يخرج إلا نكدا أي لا يخرجه البلدُ إلا نكداً فيكون
إلا نكداً مفعولَه وقرىء نَكَداً على المصدر أي ذا نَكَدٍ
ونَكْداً بالإسكان للتخفيف {كذلك} أي مثلَ ذلك التصريف البديع
{نصرف الآيات} أي نرددها ونكررها {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نعمةَ
الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وهذا كما ترى مثل
لإرسال الرسل عليهم بالشرائع التي هي ماءُ حياةِ القلوبِ إلى
المكلَّفين المنقسكمين إلى المقتبِسين من أنوارها والمحرومين
من مغانمِ آثارِها وقد عُقّب ذلك بما يحققه ويقرّره من قصص
الأممِ الخاليةِ بطريق الاستئناف فقيل
(3/234)
الأعراف آية 59 61
(3/235)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ}
هو جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لقد ارسلنا الخ واطرادا
استعمالِ هذه اللامِ مع قد لكون مدخولِها مَظِنّةً للتوقع الذي
هو معنى قد فغن الجملة القسَميةَ إنما تُساق لتأكيد الجملةِ
المُقسَم عليها ونوح هو ابن لملك بن متوشلح بنِ أُخنوخ وهو
إدريسُ النبيُّ عليهما السلام قال ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما بُعثَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على رأس أربعيم سنةً من
عمره ولبِث يدعو قومه تسمعاءة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان
مائتين وخمسين سنة فكان عمرُه ألفاً ومائتين وأربعين سنة وقال
مقاتل بعث وهو ابنُ مائةِ سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو
ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة
وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسون سنة فكان عمره ألفا
وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة {فَقَالَ يا قوم اعبدوا الله} أي
اعبدوه وحدَه وتركُ التقييد بع للإيذان بأنها العبادةُ حقيقةً
وأما العبادةُ بالإشراكِ فليستْ من العبادة في شيءٍ وقولُه
تعالى {مَّا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} أي من مستحِقَ للعبادة
استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل العبادةِ المذكورةِ أو الأمرِ بها
وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبارِ محلِّه الذي هو الرفعُ
عَلَى الابتداءِ أو الفاعلية وقُرىء بالجرِّ باعتبار لفظه
وقُرىء بالنَّصبِ على الاستثناءِ وحكمُ غيرٍ حكمُ الاسمِ
الواقعِ بعد إلا أي مَا لَكُم مّنْ إله إلا إياه كقولك ما في
الدار من أحد إلا زبد أو غيرَ زيدٍ فمن إله إن جعل مبتدأً فلكم
خبرُه أو خبرُه محذوفٌ ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبيينِ أي ما
لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إله غيرُ الله {إِنّى أَخَافُ
عَلَيْكُمْ} أي إن لم تعبدوه حسبماأمرت به {عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ} هو يومُ القيامة أو يومُ الطوفان والجملةُ تعليلٌ
للعبادة ببيان الصارفِ عن تركها إثرَ تعليلِها ببيان الداعي
إليها ووصفُ اليومِ بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميلِ
الإنذار
(3/235)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
{قَالَ الملا مِن قَوْمِهِ} استئناف مبني
على سؤال نشأ من حكاية قولِه عليه السلام كأنه قيل فماذا
قالُوا له عليهِ السَّلامُ في مقابلة نصحِه فقيل قال الرؤساءُ
من قومه والأشراف الذين يمثلون صدورَ المحافل بإجرامهم
والقلوبَ بجلالهم وهيبتِهم والأبصارَ بجمالهم وأُبّهتهم
{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال} أي ذهاب عن طريق الحقِّ والصواب
والرؤيةُ قلبيةٌ ومفعولاها الضميرُ والظرفُ {مُّبِينٌ} بيّنٌ
كونُه ضلالاً
(3/235)
قَالَ يَا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (61)
{قَالَ} استئناف كما سبق {يا قوم} ناداهم
بإضافتهم إليه استمالةً لقلوبهم نحو الحق {لَيْسَ بِى ضلالة}
أيُّ شيءٍ ما من الضلال قصد عليه الصلاة والسلام تحقيق الحقي
في نفي الضلالِ عن نفسه رداً على الكفرة حيث بالغوا في إثباته
له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقراً في الضلال الواضِحِ
كونُه ضلالاً وقوله تعالى {وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ
العالمين} استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزِمه من كونِه في
أقصى مراتبِ الهداية فإن رسالةَ ربِّ العالمين مستلزِمةٌ
(3/235)
الأعراف آية 62 64
لا محالة كأنَّه قيل ليس بي شيءٌ من الضلال ولكني في الغايةِ
القاصيةِ من الهداية ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ
بمحذوف هو صفةٌ لرسولٌ مؤكدةٌ لما يفيده التنوينُ من الفخامةِ
الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ من
رب العالمين
(3/236)
أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
{أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى} استئنافٌ مسوق
لتقرير رسالته ووتفصيل أحكامِها وأحوالِها وقيل صفة أخرى
لرسولٌ على طريقة أنا الذي سمّتني أمي حيدَره وقُرِىءَ
أبْلِغُكم من الإبلاغِ وجمع رسالات لاختلاف أوقاتِها أو لتنوّع
معانيها أو لأن المرادَ بها ما أوحيَ إليه وإلى النبيين من
قبله وتخصيصُ ربوبيتِه تعالى به عليه الصلاة والسلام بعد بيانِ
عمومِها للعالمين للإشعار لعلة الحُكمِ الذي هو تبليغُ رسالتِه
تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من
موجبات امتثالِه بأمره تعالى بتبليغ رسالتِه تعالى إليهم
{وَأَنصَحُ لَكُمْ} عطفٌ إلى أبلّغُكم مبينٌ لكيفية أداءِ
الرسالة وزيادة الللام مع تعدّي النُصحِ بنفسه للدلالة على
إمحاض النصيحةِ لهم وأنها لمنفعتهم ومصلحتِهم خاصة وصيغة
المضارع للدللة على تجدد نصيحتِه لهم كما يعرب عنه قوله تعالى
رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً ونَهَارًا وقولُه تعالى
{وأعلم من الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطفٌ على ما قبله وتقريرٌ
لرسالته عليه الصلاة والسلام أي أعلم من جهة الله تعالى بالوحي
ما لا تعلمونه من الأمورِ الآتيةِ أو أعلم من شئونه عز وجل
وقدرتِه القاهرةِ وبطشِه الشديدِ على أعدائه وأن بأسَه لا يرد
عن القم المجرمين ما لا تعلمونه قيل كانوا لم يسمعوا بقوم حل
بهم العذابُ قبلَهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علِمه
نوحٌ عليه السلام بالوحي
(3/236)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
{أوعجبتم أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن
رَّبّكُمْ} جوابٌ ورد لمّا اكتُفيَ عن ذكره بقولهم إِنَّا
لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ من قولهم مَا نَرَاكَ إِلاَّ
بَشَرًا مّثْلَنَا وقولِهم لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة
والهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدر ينسحب عليه الكلام
كأنه قيل أاستبعدتم وعجِبتم من أن جاءكم ذكرٌ أي وحيٌ أو
موعظةٌ من مالك أموركم ومربّيكم {على رَجُلٍ مّنكُمْ} أي على
لسان رجلٍ من جنسكم كقوله تعالى مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ
وقلتم لأدل ذلك ما قلت من أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة
{لِيُنذِرَكُمْ} علةٌ للمجيء أي ليحذركم عاقبة الكفر والعاصي
{وَلِتَتَّقُواْ} عطفٌ على العلة الأولى مترتبةٌ عليها
{وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} عطف على العلة الثانية مترتبةٌ
عليها أي ولتتعلق بكم الرحمةُ بسبب تقواكم وفائدةُ حرفِ
الترجّي التنبيه على عزة المطلبِ وأن التقوى غير موجب للرحمة
بل هي منوطةٌ بفضل الله تعالى وأن المتقيَ ينبغي أن لا يعتمد
على تقواه ولا يأمن عذاب الله عز وجل
(3/236)
فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
{فكذبوه} فتموا على تكذيبه في دعوى النبوةِ
وما نزلَ عليهِ منَ الوحيِ الذي بلّغه إليهم وأنذرهم بما في
(3/236)
الأعراف آية 65
تضاعيفه واستمرّوا على ذلك هذه المدةَ المتطاولةَ بعد ما كرر
عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم الدعوةَ مراراً فلم يزدهم
دعاؤُه إلا فراراً حسبما نطق به قوله تعالى رَبّ إِنّى
دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً الآيات إذ هو الذي يعقُبه
اتلإنجاء والإغراق لا مجرد التكذيب {فأنجيناه والذين مَعَهُ}
من المؤمنين قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأةً وقيل تسعةً
أبناؤُه الثلاثة وستةٌ ممّن آمن به وقوله تعالى {فِى الفلك}
متعلقٌ بالاستقرار في الظرف أي استقروا معه في الفلك وصحبوه
فيه أو بفعل الإنجاء أي أنجيناهم في السفينة ويجوز أن يتعلق
بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ الموصول أو من ضميرِه في الظرف
{وأغرقنا الذين كذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي استمروا على تكذيبها
وليس المرادُ بهم الملأَ المتصدِّين للجواب فقط بل كان من أصرّ
على التكذيب منهم ومن أعقابهم وتقديمُ ذكرِ الإنجاءِ على
الإغراق للمسارعة إلى الإخبار به والإيذانِ بسبق الرحمةِ التي
هي مقتضى الذاتِ وتقدُّمِها على الغضب الذي يظهر أثرُه بمقتضى
جرائمِهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} عُمْيَ القلوبِ
غيرَ مستبصرين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عمِيَتْ
قلوبُهم عن معرفة التوحيد والنبوةِ والمعاد وقرىء عامِينَ
والأولُ أدلُّ على الثبات والقرار
(3/237)
وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
{وإلى عاد} متعلق بمضمر معطوف على قوله
تعالى أرسلنا في قصَّة نوحٍ عليه السلام وهو الناصبُ لقوله
تعالى {أخاهم} أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحداً منهم في
النسَب لا في الدين كقولهم يا أخا العرب وقيل العاملُ فيهما
الفعلُ المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحاً والأولُ هو
الأولى وأياً ما كان فلعل تقديم المجرور ههنا على المفعول
الصريح للحِذار عن الإضمار قبل الذكر يرشدك إلى ذلكَ ما سيأتِي
من قوله تعالى وَلُوطاً الخ فإن قومَه لمّا لم يُعهدوا باسمٍ
معروف يقتضي الحالُ ذكرَه عليه السلام مضافاً إليهم كما في قصة
عاد وثمودَ ومدينَ خولف في النظم الكريم بين قصتِه عليه السلام
وبين القصصِ الثلاثِ وقولُه تعالى {هُودًا} عطفُ بيانٍ لأخاهم
وهو هودُ بنُ عبدِ اللَّه بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص
ابن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل هود بن شالخ بن
أرفخشذَ بنِ سامِ بن نوح بن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم
أفهمُ لكلامه وأعرفُ بحاله في صدقه وأمانتِه وأقربُ إلى اتباعه
{قَالَ} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِه عليه
السلام إليهم كأنه فماذا قال لهم فقيل قال {قَالَ يَا قَومِ
اعبدوا الله} اي وحدوه كما يعرب عنه قوله {مَا لَكُم مّنْ إله
غَيْرُهُ} فإنه استئنافٌ جارٍ مجرى البيان للعبادة المأمور بها
والتعليلُ لها أو للأمر بها كأنه قيل خُصّوه بالعبادة وَلاَ
تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً إذ ليس لكم إله سواه وغيرُه
بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبار محله وقرىء بالجمر حملاً له على
لفظه {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} إنكارٌ واستبعادٌ لعدم اتقائِهم
عذابَ الله تعالى بعدَ ما علموا ما حل بقوم نوحٍ والفاء للعطف
على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا تتفكرون أو أتغفُلون فلا تتقون
فالتوبيخُ على المعطوفين معاً أو أتعلمون ذلك فلا تتقون
فالتوبيخُ على المعطوف فقط وفي سورة هود أفلا تعقولن ولعله
عليه السلام خاطبهم بكل منهما وقد اكتُفي بحكاية كلَ منهما في
موطن عن حكايته في موطن آخرَ كما لم يذكر ههنا ما ذُكر هناك من
قولِه تعالَى إِن أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ وقِسْ على ذلك
حالَ بقيةِ ما ذُكر وما لم يُذكر من أجزاء القصةِ بل
(3/237)
الأعراف آية 66 69
حالَ نظائرِه في سائر القصصِ لا سيما في المحاورات الجاريةِ في
الأوقات المتعددة والله أعلم
(3/238)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي
سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
{قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن
قَوْمِهِ} استئنافٌ كما مر وإنما وُصف الملأُ بالكفر إذْ لم
يكن كلُّهم على الكفر كملأ قومِ نوحٍ بل كان منهم من آمن به
عليه السلام ولكن كان يكتُم إيمانَه كمرثد بن سعد وقيل وصفوا
له لمجرد الذم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} أي متمكناً في
خِفّة عقلٍ راسخاً فيها حيث فارق دينَ آبائِك أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ السفهاءُ ولكن لا يعلمون {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ
الكاذبين} أي فيما ادعيْتَ من الرسالة قالوه لعراقتهم في
التقليلد وحِرمانِهم من النظر الصحيح
(3/238)
قَالَ يَا قَوْمِ
لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (67)
{قَالَ} مستعطفاً لهم ومستميلاً لقلوبهم مع
ما سمع منهم ما سمع من الكلمة الشنعاءِ الموجبةِ لتغليظ القول
والمشافهة بالسوء {يا قوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ} أي شيءٌ منها
ولا شائبةٌ من شوائبها {وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين}
استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزمه ويقتضيه من كونه في
الغاية القصوى من الرُّشد والأناةِ والصدقِ والأمانة فإن
الرسالةَ من جهة ربِّ العالمين موجبةٌ لذلك حتماً كأنه قيل ليس
بي شيء مما نيتموني إليه ولكني في غايةِ ما يكونُ من الرشدُ
والصِّدقُ ولم يصرِّحْ بنفي الكذِب اكتفاءً بما في حيز
الاستدراك ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقع
صفة لرسولٌ مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ
بالفخامةِ الإضافيةِ وقولُه تعالى
(3/238)
أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
{أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى} استئنافٌ سيق
لتقرير رسالتِه وتفصيلِ احوالها وقيل صفة أخرى لرسولٌ والكلامُ
في إضافة الربِّ إلى نفسه عليه السلام بعد إضافته إلى العالمين
وكذا في جمع الرسالاتِ كالذي مر في قصة نوحٍ عليه السلام
وقُرِىءَ أُبْلِغُكم من الإبلاغِ {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ
أَمِينٌ} معروفٌ بالنصح والأمانةِ مشهورٌ بين الناس بذلك
وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ دلالة على الثبات والاستمرار
وإيذاناً بأن مَنْ هذا حالُه لا يحوم حولَه شائبةُ السفاهةِ
والكذب
(3/238)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ
بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً
فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{أوعجبتم أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن
رَّبّكُمْ} الكلامُ فيه كالذي مر في قصة نوح عليه السلام {على
رَجُلٍ مّنكُمْ} أي من جنسكم {لِيُنذِرَكُمْ} ويحذرَكم عاقبةَ
ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي حتى نسبتموني إلى السفاهة
والكذبِ وفي إجابة الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين
من يشافِهُهم بما لاَ خيرَ فيهِ من أمثال تلك الأباطيلِ بما
حُكيَ عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة
وكمالِ الشفقةِ والرأفة من الدلالة على حيازتهم القدحَ
المُعلَّى من مكارم الأخلاق ما لا يخفى مكانُه {واذكروا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاء} شروعٌ في بيان ترتيبِ أحكامِ النصح
(3/238)
الأعراف آية 70 71
والأمانةِ والإنذارِ وتفصيلِها وإذ منصوبٌ باذكروا على
المفعولية دون الظرفية وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما
وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في
إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بالطريق
البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها فإذا استُحضر كانت هي
حاضرةً بتفاصيلها كأنها مشاهَدةٌ عياناً ولعله معطوف على مقدرة
كأنه قيل لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا وقتَ
جعْلِه تعالى إياكم خلفاءَ {مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي في
مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شدادَ بنَ عاد ممن
ملك معمورةَ الأرضِ من رمل عالِجٍ إلى شحر عمان {وَزَادَكُمْ
فِى الخلق} أي من الإبداع والتصوير أو في الناس {بَسْطَةً}
قامةً وقوةً فإنه لم يكن في زمانهم مثلُهم في عِظَم الأجرامِ
قال الكبي والسدي كانت قامةُ الطويلِ منهم مائةَ ذراعٍ وقامةُ
القصير ستين ذراعاً {فاذكروا آلاء الله} التي أنعم بها
عَلَيْكُمْ من فنون النَعماء التي هذه من جملتها وهذا تكريرٌ
للتذكير لزيادة التقرير وتعميمٌ إثرَ تخصيص {لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} كي يؤديَكم ذلك إلى الشكر المؤدّي إلى النجاة من
الكروب والقوز بالمطلوب
(3/239)
قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (70)
{قَالُواْ} مجيبين عن تلك النصائحِ العظيمة
{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ} أي لنخُصّه بالعبادة
{وَنَذَرَ مَا كَانَ يعبد آباؤنا} أنركوا عليه عليه السلام
مجيئَه لتخصيصه تعالى بالعبادة والإعراضِ عن عبادة الأوثان
أنهما كان في التقليد وحباً لما ألِفوه وألِفوا أسلافَهم عليه
ومعنى المجيء إما مجيئُه عليه السلام مِنْ مُتَعَبَّده ومنزلِه
وإما من السماء على التهكم وإما القصدُ والتصدّي مجازاً كما
يقال في مقابلِه ذهب يشتمني من غير إرادةِ معنى الذهاب
{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} منَ العذاب والمدلول عليه بقوله
تعالى أَفَلاَ تَتَّقُونَ {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي في
الإخبار بنزول العذابِ وجوابُ إن محذوف لدلالة المذكور عليه أي
فأت به
(3/239)
قَالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي
فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا
نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{قال قد وقع عليكم} أي وجب وحق أو نزل
بإصراركم هذا بناءً على تنزيل المتوقَّع منزلةَ الواقع كما في
قوله تعالى أتى أمر الله {مّن رَّبّكُمْ} أي من جهته تعالى
وتقديمُ الظرف الأولِ على الثاني مع أن مبدأ الشيءِ متقدمٌ على
منتهاه للمسارعة إلى بيان إصابةِ المكروهِ لهم وكذا تقديمهما
على الفاعل الذي هو قوله تعالى {رجس} مع ما فيه من التشويق إلى
المؤخر ولأن فيه نوعَ طولٍ بما عُطف عليه من قوله تعالى {وغضب}
فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظمِ الكريم والرجسُ العذابُ من
الارتجاس الذي هو الاضطرابُ والغضب إرادةُ الانتقام للتفخيم
والتهويل {أتجادلونني في أسماء} عاريةٍ عن المسمى {سميتموها}
أي سميتم بها {أنتم وآباؤكم} إنكارٌ واستقباح لإنكارهم مجيئَه
عليه السلام داعياً لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وتركِ
(3/239)
الأعراف آية 72
عبادةِ الأصنام أي أتجادلونني في أشياءَ سمَّيتموها آلهةً ليست
هي إلا محضُ الأسماءِ من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية
شيءٌ ما لأن لمستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكلَّ وأنها لو
استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آيةٍ أو نصبِ حُجةٍ
وكلاهما مستحيلٌ وذلك قوله تعالى {ما نزل الله بِهَا مِن
سلطان} وإذ ليس ذلك في حيز الإمكانِ تحققَ بطلان ما هم عليه
{فانتظروا} مترتبٌ على قوله تعالى قد وقع عليكم أي فانتظروا ما
تطلُبونه بقولكم فائتنا بما تعدنا الخ {إني معكم من المنتظرين}
لما يَحِلُّ بكم والفاء في قوله تعالى
(3/240)
فَأَنْجَيْنَاهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ
(72)
{فأنجيناه} فصيحةٌ كما في قولِه تعالى
فانفجرت أي فوقع ما قوع فأنجيناه {والذين معه} أي في الدين
{برحمة} أي عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها وقوله تعالى {منا} أي من
جهتنا متعلقٌ بمحذوف هو نعتٌ لرحمةٍ مؤكِّدٌ لفخامتها الذاتية
المنفهة من تنكيرها بالفخامة الإضافية {وقطعنا دابر الذين
كذبوا بآياتنا} أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم {وما
كانوا مؤمنين} عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حكم الصلةِ أي
أصرُّوا على الكفر والتكذيبِ ولم يرعووا عن ذلك أبداً وتقديمُ
حكايةِ الإنجاءِ على حكاية الإهلاكِ قد مر سرُّه وفيه تنبيهٌ
على أن مناطَ النجاةِ هو الإيمانُ بالله تعالى وتصديقُ آياتِه
كما أن مدارَ البوارِ هو الكفرُ والتكذيب وقصتُهم أن عاداً
قومٌ كانوا باليمن بالأحقاف وكانوا قد تبسّطوا في البلاد ما
بين عُمان إلى حضْرَمَوتَ وكانت لهم أصنامٌ يعبُدونها صداً
وصمود والهبا فبعثَ الله تعالى إليهم هوداً نبياً وكان من
أوسطهم وأفضلهم حسباً فكذبوه وازدادوا عُتوّاً وتجبّراً فأمسك
الله عنهم القطرَ ثلاثَ سنينَ حتى جهَدوا وكان الناس إذا نزل
بهم بلاءٌ طلبوا إلى الله الفرجَ منه عند بيتِه الحرامِ
مسلِمُهم ومشركُهم وأهل مكة إذ ذاك العماليقَ أولادَ عمليق ابن
لاوذَ بنِ سامِ بنِ نوح وسيدُهم معاويةُ بنُ بكرٍ فجهزّت عادٌ
إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل ابن عنز ومَرثدُ بن
سعد الذي كان يكتُم إسلامَه فلما قدِموا نزلوا على معاويةَ بنِ
بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا
أخوالَه وأصهارَه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمرَ وتغنّيهم
قينتا معاوية فلما رأى طولَ مقامِهم وذهولَهم باللهو عما قدموا
له أهمّه ذلك وقال قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم
عليه وكان يستحيي أن يكلمهم خشيةَ أن يظنوا به ثِقَلَ مقامهم
عليه فذكر ذلم للقينتين فقالتا قل ضعرا نغنيهم به لا يدرون
مَنْ قاله فقال معاوية ... ألا يا قِيلُ ويحكَ قم فهينِم لعل
الله يسقينا غماما ... فيسقي أرضَ عادٍ إن عادا قَدَ أمسوا لا
يبنون الكلاما فلما غنتا به قالوا إن قومَكم يتغوّثون من
البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخُلوا الحرَم
واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثدُ بن سعد والله لا تُسقَون
بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سُقِيتم
وأظهر إسلامَه فقالوا لمعاوية احبِس عنا مرثداً لا يقدَمَن
معنا فإنه قد اتبع هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيلُ
اللهم اسقِ عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحاباتٍ
ثلاثاً بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ ثم ناداه منادٍ من السماء يا
قيلُ اختر لنفسك ولقومك فقال اخترت السوداءَ فإنها أكثرهم ماءً
فخرجت على عاد من واد يقال له المغيث فاستبشَروا بها وقالوا
هذا عارضٌ مُمطرُنا فجاءتهم منا ريح عقيم فأهلكتهم ونجال هودٌ
والمؤمنون معه فأتَوا مكةَ فعبدوا الله تعالى
(3/240)
الأعراف آية 73
فيها إلى أن ماتوا
(3/241)
وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا
تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{وإلى ثمود أخاهم صالحا} عطف على ما سبق من
قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هوداً موافقٌ له في تقديم المجرورِ
على المنصوب وثمودُ قبيلةٌ من العرب سُمُّوا باسم أبيهم
الأكبرِ ثمودَ بنِ عابر بن إرم ابن سام بنِ نوحٍ عليه السلام
وقيل إنما سُمُّوا بذلك لقلة مائِهم من الثمد وهو الماء القليل
وقرىء بالصرف بتأويل الحيّ وكانت مساكنُهم الحِجْرَ بين
الحدجاز واتلشام إلى واد القُرى وإخوةُ صالح عليه السلام لهم
من حيث النسبُ كهودٍ عليه السلام فإنه صالحُ بنُ عبيد بنِ أسف
بنِ ماسحِ بن عبيد بن حاذر بن ثمود ولما كان الإخبرا بإرساله
عليه السلام إليهم مظنة لأن يسأل ويقال فماذا قال لهم قيل
جوابا عنه بطريق الاستئناف {قال يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُم
مّنْ إله غيره} وقد مر الكلامُ في نظائره {قد جاءتكم بينة} أي
آيةٌ ومعجزةٌ ظاهرة شاهدةٌ بنبوّتي وهي من الألفاظِ الجاريةِ
مجرى الأبطحِ والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصفاتها حالةَ
الإفراد والجمع كالصالح إفراداً وجمعاً وكذلك الحسنةُ والسيئة
سواءٌ كانتا صفتين للأعمال أو لمثوبة أو الحالة من الرخاء
والشدة لذلك أوُلِيَت العوامل وقوله تعالى {من رَّبّكُمْ}
متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صفة لبينةٌ كما مر مراراً والمرادُ
بها الناقةُ وليس هذا الكلام منه عليه السلام أولَ ما خاطبهم
إثرَ دعوتِهم إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكّرهم
بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامَه وكذبوه ألا يُرى إلى ما في
سورة هود من قولِه تعالى هُوَ أنشأكم من الأرض واستعْمَركم
فيها إلى آخر الآيات روي أنه لما أُهلكت عادٌ عَمَرت ثمودُ
بلادَها وخلفوهم في الأرض وكثُروا وعُمِّروا أعماراً طِوالاً
حتى إن الرجل كان يبني المسكن المُحْكَم فينهدمُ في حيانه
فنحتوا البيوتَ من الجبال وكانوا في سعة ورخاءٍ من العيش
فعتَوْا على الله تعالى وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثانَ
فبعثَ الله تعالى إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالحٌ من
أوساطهم نسباً فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ فلم يتبعْه إلا
قليلٌ منهم مستضعَفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال أيةَ ى
ية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلومٍ لهم من
السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن
استجيب لنا اتبعنا فقال صالح عليه السلام نعم فخرج معهم
ودعَوْا أوثانهم وسألوا الاستجابة فلم تُجبْهم ثم قال سيدهم
جندعُ بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجيبل يقال لها
الكاثبة أخرِجْ لنا من هذه الصخرةِ ناقةً مخترِجةً جوفاءَ
وبراءً والمخترجة التي شاكلت البخث فإن فعلت صدقناك وأجبناك
فأخذ صالح عليه السلام المواثيق لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُن
ولتُصدِّقُنّ قالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة وتمخض
النتوج بولدها فانصدعت عن ناقشة عُشَراءَ جوفاء وبراءٍ كما
وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وعظماؤهم ينظرون
ثم نُتِجت ولداً مثلَها في العظم فآمن به جندع ورهطٌ من قومه
ومنع أعقابهم ناس من رءوسهم أن تؤمنوا فمكثت الناقة مع ولدها
ترعى الشجرَ وتشرب الماءَ
(3/241)
الأعراف آية 74
وكانت ترِدُ غِباً فإذا كان يومُها وضَعتْ رأسَها في البئر فما
ترفعها حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحج فيحتلبون ما شاءوا حتى
تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت إذا وقع الحرُّ تصيّفت
بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم فتهبِط إلى بطنه وإذا وقع
البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم
وزيَّنَت عَقرَها لهم امرأتانِ عنيزة أم إن وصدقة بنتُ المختار
لِما أضرَّت به من مواشيهما وكانتنا كثيرتي المواشي فعقروها
واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق سقيها حتى رقيَ جبلاً اسمُه
قارةُ فرَغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم أدركوا
الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه فانفجت
الصخرةُ بعد رغائِه فدخلها فقال لهم صالح تُصبحون غدا وجوهكم
مصفرة وبعد غدو وجوهكم محمرةٌ واليوم الثالث ووجوهكم مسودة
يصبّحكم العذاب فلما رأوا العلاماتِ طلبوا أن يقتُلوه فأنجاه
الله تعالَى إلى أرضِ فلسطين ولما كان اليومُ الرابع وارتفع
الضحى تحنّطوا بالصبر وتكفنوا بالأنْطاع فأتتهم صيحةٌ من
السماء ورجفةٌ من الأرض فتقطّعت قلوبُهم فهلكوا وقوله تعالى
{هذه ناقة الله لكم آية} استئنافٌ مسوقٌ لبيان البينة وإضافةُ
الناقةِ إلى الاسم الجليلِ لتعظيمها ولمجيئها من جهته تعالى
بلا اسباب معهودة ووسايط معتاد ولذلك كانت آيةً وأيَّ آية ولكم
بيانٌ لمن هي آيةٌ له وانتصابُ آيةً على الحالية والعاملُ فيها
معنى الإشارةِ ويجوز أن يكون ناقةُ الله بدلاً من هذه أو عطف
بيان له أو مبتدأ ثانياً ولكم خبراً عاملاً في آية {فذروها}
تفريعٌ على كونها آيةً من ى يات الله تعالى فإنَّ ذلك ممَّا
يوجب عدم التعرّضِ لها {تأكل في أرض الله} جوابُ الأمر أي
الناقةُ ناقةُ الله والأرضُ أرضُ الله تعالى فاتركوها تأكلْ ما
تأكلُ في أرض ربها فليس اكم أن تحولوا بينها وبينها وقرىء
تأكلُ بالرفع على أنه في موضع الحالِ أي آكلةً فيها وعدمُ
التعرض للشرب إما للاكتفاء عنه بذكر الأكلِ أو لتعميمه له
أيضاً كَما في قولِه علفتُها تِبْناً وماء باردا وقد ذكر ذلك
في قوله تعالى لها شِرْبٌ وَلَكُمْ شربُ يومٍ مَّعْلُومٍ {ولا
تمسوها بسوء} نُهي عن المس الذي هو مقدمةُ الإصابةِ بالشرّ
الشامل لأنواع الأذيةِ ونُكِّر السوءُ مبالغةً في النهي أي لا
تتعرضوا لها بشيء مما يسوءها أصلاً ولا تطرُدوها ولا تيبوها
إكرما لآية الله تعالى {فيأخذكم عذاب أليم} جوابٌ النهي ويُروى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحِجر في غزوة تبوك
قال لأصحابه لا يدخُلنّ أحدٌ منكم القريةَ ولا تشربوا من مائها
ولا تدخُلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن
يصيبَكم مثلُ الذي أصابهم وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضيَ
الله عُنهُ يا علي أتدري من أشقى الأولين قال الله ورسولُه
أعلم قال عاقرُ ناقةِ صالح أتدري من أشقى الآخِرين قال الله
ورسولُه أعلم قال قاتلُك
(3/242)
وَاذْكُرُوا إِذْ
جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي
الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
{واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء من بعد
عاد} أي خلفاءَ في الأرض أو خلفاءهم كما مر {وبوأكم فِى الأرض}
6 أي جعلَ لكم مَباءةً ومنزلاً في أرض الحجر بين الحجاز والشام
{تتخذون من سهولها قصوراً} استئنافٌ مبينٌ لكيفية التبوِئةِ أي
تبننون في سهولها قصوراً رفيعةً أو تبنون من سهولة الأرض بما
تعلمون منها من الرِهْص واللِبن والآجر {وتنحتون الجبال}
(3/242)
الأعراف آية 75 77
أي الصخورَ وقرىء تنحَتون بفتح الحاء وتناحتون بإشباع الفتحة
كما في قوله ينباعُ من ذِفْرَى أسيلٍ حرّةٍ والنحتُ نجْرُ
الشيءِ الصُّلب فانتصابُ الجبالِ على المفعولية وانتصابُ قوله
تعالى {بيوتاً} عَلى أنَّها حالٌ مقدرةٌ منها كما تقول خِطْتُ
هذا الثوبَ قميصاً وقيل انتصابُ الجبالِ على إسقاط الجار أي من
الجبال وانتصابُ بيوتاً على المفعولية وقد جوّز أن يُضمَّن
النحتُ معنى الاتخاذِ فانتصابُهما على المفعولية قيل كانوا
يسكُنون السهولَ في الصيف والجبالَ في الشتاء {فاذكروا آلاء
الله} التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميعَ آلائِه التي هذه
من جملتها {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مفسدين} فإن حقَّ
آلائِه تعالى أن تُشكَرَ ولا تُهملَ ولا يُغْفلَ عنها فكيف
بالكفر والعِثيِّ في الأرض بالفساد
(3/243)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ
صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ
بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} أي
عتَوْا وتكبروا استئنافٌ كما سلف وقرىء بالواو عطفاً على ما
قبله من قوله تعالى قَالَ يا قوم الخ ة واللام في قوله تعالى
{للذين استضعفوا} للتبليغ وقوله تعالى {لمن آمن منهم} بدلٌ من
الموصول بإعادة العاملِ بدلَ الكلِّ إن كان ضميرُ منهم لقومه
وبدلَ البعضِ إن كان للذين استُضعفوا على أن مِن المستضعفين
مَنْ لم يؤمن والأولُ هو الوجهُ إذ لا داعيَ إلى توجيه الخطابِ
أولاً إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبةَ مع المؤمنين منهم
على أن الاستضعافَ مختصٌّ بالمؤمنين أي اقلوا للمؤمنين الذين
استَضْعفوهم واسترذلوهم عدَلوا عن الجواب الموافِقِ لسؤالهم
بأن يقولوا نعم أو نعلم أنه مرسلٌ منه تعالى مسارعة إلى تحقيق
الحقِّ وإظهارِ ما لهُم من الإيمانِ الثابتِ المستمر الذي
ينبىء عنه الجملةُ الاسميةُ وتنبيهاً على أن أمرَ إرسالِه منَ
الظهورِ بحيثُ لا ينبغِي أنْ يُسألَ عنه وإنما الحقيقُ بالسؤال
عنه هو الإيمانُ به
(3/243)
قَالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
(76)
{قال الذين استكبروا} أعيد الموصولُ مع
صلته مع كفاية الضميرِ إيذاناً بأنهم قد قالوا ما قالوه بطريق
العتُوِّ والاستكبار {إنا بالذي آمنتم به كافرون} وإنما لم
يقولوا إنما بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً
لمقالتهم
(3/243)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ
وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ
ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
(77)
{فعقروا الناقة} أي نحروها أسند الهقر إلى
الكل مع أن المباشر بعضهم للملابسة أو لأن ذلك لما كان برضاهم
فكأنه فَعلَه كلُّهم وفيه من تهويل الأمرِ وتفظيعِه بحيث أصابت
غائلتُه الكلَّ ما لا يخفى {وعتوا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي
استكبروا عن امتثاله وهو ما بلّغهم صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ
الأمر والنهي {وقالوا} مخاطِبين له عليه السلام بطريق التعجيزِ
والإفحامِ على زعمهم {يا صالحُ ائتِنا بما تعدنا} أي من العذاب
والإطلاقُ للعلم به قطعاً {إن كنت من المرسلين} فإن كونَك من
جملتهم يستدعي صدقَ ما تقول من
(3/243)
الأعراف 78 80
الوعد والوعيد
(3/244)
فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزلزلةُ لكن
لا أثر ما قالوا ما قالوا بل بعدَ مَا جَرى عليهم ما جرى من
مبادىء العذابِ في الأيام الثلاثةِ حسبما مر تفصيلُه
{فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي صاروا في أرضهم وبلدِهم أو
في مساكنهم {جاثمين} خادمي موتى لا حَراكَ بهم وأصلُ الجثومِ
البروكُ يقال الناسُ جثومٌ أي قعود لا حَراك بهم ولا ينبِسون
نبْسةً قال أبو عبيدة الجثومُ للناس والطير والبروكُ للإبل
والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير
اضطرابٍ ولا حركة كما يكون عند الموت المعتاد ولا يَخْفى ما
فيهِ من شدة الأخذِ وسرعةِ البطش اللهم إنا بك نعوذ من نزول
سخطِك وحُلولِ غضبِك وجاثمين خبرٌ لأصبحوا والظرفُ متعلقٌ به
ولا مساغ لكونه خبراً أو جاثمين حالاً لإفضائه إلى كون
الإخبارِ بكونهم في دارهم مقصوداً بالذات وكونِهم جاثمين قيداً
تابعاً له غيرَ مقصودٍ بالذات قيل حيث ذُكرت الرجفةُ وُحِّدت
الدارُ وحيث ذُكرت الصيحةُ جمعت لأن الصيحةَ كانت من السماء
فبلوغُها أكثرُ وأبلغُ من الزلزلة فقُرن كلٌّ منهما بما هو
أليقُ به
(3/244)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
{فتولى عنهم} إثرَ ما شاهد ما جرى عليهم
تولي مغتم متحسر على ما فاتَهُم من الإيمان متحزن عليهم {وقال
يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} بالترغيب والترهيبِ
وبذلتُ فيكم وُسْعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك وصيغةُ المضارعِ في
قوله تعالى {ولكن لا تحبون الناصحين} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ أي
شأنُكم الاستمرارُ على بغض الناصحين وعداوتهم خاطبهم صلى الله
عليه وسلم بذلك خطابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ
قلَيبِ بدرٍ حيث قال إنا وجدْنا ما وعدنا ربُّنا حقاً فهل
وجدتم ما وعد ربكم حقاً وقيل إنما تولى عنهم قبل نزولِ العذاب
بهم عند مشاهدته صلى الله عليه وسلم لعلاماته تولى ذاهب عنهم
منكر لإصرارهم على ما هم عليه وروي أن عَقرَهم الناقةَ كان يوم
الأربِعَاءِ ونزل بهم العذابُ يوم السبت وروي أنه خرج في مائة
وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخانَ ساطعاً فعلم
أنهم قد هلَكوا وكانوا ألفاً وخمسَمائةِ دارٍ وروي أنه رجع بمن
معه فسكنوا ديارَهم
(3/244)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا
مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
{ولوطاً} منصوبٌ بفعل مضمر معطوف على ما
سبق وعدمُ التعرُّضِ للمرسل إليهم مقدماً على المنصوب حسبما
وقع فيما سبقَ وما لحقَ قد مر بيانُه في قصة هودٍ عليه السلام
وهو لوطُ بنُ هارانَ بن تارخ بنُ أخي إبراهيمَ كان من أرض
بابلَ من العراق مع عمه إبراهيمَ فهاجر إلى الشأمِ فنزلَ
فلسطينَ وأنزل لوطاً الأردُنّ وهي كورةٌ بالشام فأرسله الله
تعالى إلى أهل سَدومَ وهي بلدٌ بحِمْصَ وقولُه تعالى {إِذْ
قَالَ لقومه} ظرفٌ للمضمر المذكورِ أي أرسلنا لوطاً إلى قومه
وقت قولِه لهم الخ ولعل تقييدَ إرسالِه عليه السلام بذلك لما
أن إرسالَه إليهم لم يكمن في أول وصولِه إليهم وقيلَ هو بدلٌ
من لوطاً بدلَ اشتمالٍ على أن انتصابَه باذكر أي اذكرْ وقتَ
قولِه عليه السلام لقومه {أتأتون الفاحشة} بطريق الإنكارِ
التوبيخيِّ التقريعيِّ أي أتفعلون تلك الفعلةَ المتناهيةَ في
القبح المتماديةِ في
(3/244)
الأعراف آية 81 82
الشرية والسوء {ما سبقكم بها} ما عمِلها قبلكم على أن الباء
للتعدية كما في قولِه عليه السلام سبقك بها عكاشة من قولك
سبقته بالكرة أي ضربتها قبله ومِنْ في قولِه تعالَى {من أحد}
مزيدةٌ لتأكيد النفي وإفادةِ معنى الاستغراقِ وفي قولِه تعالى
{مِن العالمين} للتبعيض والجملةُ مستأنفةٌ مسوقة لتأكيدِ
النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ والتقريعِ فإن مباشرةَ القبيح
واختراعَه أقبحُ ولقد أنكر الله تعالى عليهم أولاً إتيانَ
الفاحشةِ ثم وبخهم بأنهم أولُ من عمِلها فإن سبكَ النظمِ
الكريمِ وإنْ كانِ على نفي كونِهم مسبوقين من غير تعرّضٍ
لكونهم سابقين لكن المرادَ أنهم سابقون لكل مَنْ عداهم من
العالمين كما مرَّ تحقيقُه مراراً في نحوِ قولِه تعالى وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى على الله كذبا أو مسوقةٌ جواباً عن
سؤال مقدَّرٍ كأنه قيل من جهتهم لم لا نأتيها فقيل بياناً
للعلة وإظهاراً للزاجر ما سبقكم بها أحدٌ لغاية قُبْحِها وسوءِ
سبيلها فكيف تفعلونها قال عمرو بن دينار ما نزَا ذكرٌ على ذكر
حتى كان قومُ لوط قال محمد بن إسحق كانت لهم ثمارٌ وقُرى لم
يكن في الدنيا مثلُها فقصدهم الناسُ فآذَوْهم فعرض لهم إبليسُ
في صورة شيخ إن فعلتم بهم كذا وكذا نجَوْتم منهم فأبَوْا فلما
ألحّ الناسُ عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا صبحا فأخبثوا فاستحكم
فيهم ذلك قال الحسن كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ إلا بالغرباء وقال
الكلبي أول من فُعل به ذلك الفعلُ إبليسُ الخبيثُ حيث تمثل لهم
في صورة شابٍ جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عبثوا بذلك العمل
(3/245)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} خبرٌ
مستأنفٌ لبيان تلك الفاحشةِ وقرىء بهمزتين صريحتين وبتليين
الثانيى ة بغير مدَ وبمد أيضاً على أنه تأكيدٌ للإنكار السابقِ
وتشديدٍ للتوبيخ وفي زيادة إنّ واللامِ مزيدُ توبيخ وتقريع كأن
ذلك أمرٌ لا يتحقق صدورُه عن أحد فيؤكد تأكيداً قوياً وفي
إيراد لفظِ الرجالِ دون الغِلمان والمرادان ونحوِهما مبالغةً
في التوبيخ وقوله تعالى {شَهْوَةً} مفعولٌ له أو مصدرٌ في
موقعِ الحالِ وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمة الصِّرْفة
وتنبيهٌ عَلَى أنَّ العاقلَ ينبغي له أن يكون الداعي له إلى
المباشرة طلبُ الولد وبقاءُ النوعِ لإقضاء الشهوةِ ويجوز أن
يكون المرادُ الإنكارَ عليهم وتقريعَهم على اشتهائهم تلك
الفعلةَ الخبيثةَ المكروهة كما ينبىء عنه قوله تعالى {مّن
دُونِ النساء} أي متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محلُّ
الاشتهاء كما ينبىء عنه قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ
{بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضرابٌ عن الإنكار
المذكورِ إلى الإخبار بحالهم التي أفضَتْهم إلى ارتكاب
أمثالِها وهي اعتيادُ الإسرافِ في كل شيءٍ أو عن الإنكار عليها
إلى الذم على دميع معايبِهم أو عن محذوف أي لا عذرَ لكم فيه بل
أنتم قومٌ عادتم الإسراف
(3/245)
وَمَا كَانَ جَوَابَ
قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي
المستكبرين منهم المتولين للأمر والنهي المتصدِّين للعقد والحل
وقوله تعالى {إَّلا أَن قَالُواْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم
الأشياء أي ما كان جواباً من جهة قومِه شيءٌ من الأشياءِ
إِلاَّ قولُهم أي لبعضهم الآخرين المباتشرين للأمور معرضين عن
مخاطبته عليه السلام {أَخْرِجُوهُم} أي لوطان ومن معه من أهله
المؤمنين {مّن قَرْيَتِكُمْ} أيْ إلاَّ هذا القولُ الذي
يستحيلُ أنْ يكونَ جواباً لكلام
(3/245)
الأعراف آية 83 85
لوطٍ عليه السلام وقرىء برفع جواب على أنه اسم كان وإلا أن
قالوا الخ خبرُها وهو أظهرُ وإن كان الأول أقوى في الصناعى لأن
اللأعرف أحقُّ بالاسمية وأيا ما كان فليس المرادُ أنَّه لم
يصدُرْ عنُهم بصددِ الجوابِ عن مقالات لوطٍ عليه السلام
ومَواعظِه إلا هذه المقالةُ الباطلةُ كما هو المتسارعُ إلى
الإفهام بل أنه لم يصدُرْ عنهم في المرَّةِ الأخيرةِ من مراات
المحاورات الجاريةِ بينهم وبينه عليه السلام إلا هذه الكلمة
الشنبيعة وإلا فقد صدرَ عنُهم قبل ذلك كثيرٌ من التُرَّهات
حسبما حُكي عنهم في سائرِ السورِ الكريمةِ وهذا هو الوجهُ في
نظائره الواردةِ بطريق القصر وقوله تعالى {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ} تعليلٌ للأمر بالإخراج ووصفهم بالتطهير
للاستهزاء والسخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش والخبائث
والافتخارِ بما هُم فيه من القذارة كما هو دين الشُطّار
والدُعّار
(3/246)
فَأَنْجَيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
(83)
{فأنجيناه وَأَهْلَهُ} أي المؤمنين منهم
{إِلاَّ امرأته} استثناءٌ من أهله فإنها كانت تُسِرّ بالكفر
{كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي الباقين في ديارهم الهالِكين فيها
والتذكيرُ للتغليب ولبيان استحقاقِها لما يستحقه المباشِرون
للفاحشة والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤال نشأ عن
استثنائها من حكم الإنجاءِ كأنه قيل فماذا كان حالُها فقيل
كانت من الغابرين
(3/246)
وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِينَ (84)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} أي
نوعاً من المطر عجيباً وقد بينه قوله تعالى وأمططرنا
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ قال ابو عبيدة مطرفي الرحمة
وأُمطِر في العذاب وقال الراغب مُطر في الحبر وأُمطر في العذاب
والصحيح أن أَمطَرنا بمعنى أرسلنا عليهم إرسالَ المطر قيل كانت
المؤتَفِكةُ خمسَ مدائن وقيل كانوا أربعةَ آلافٍ بين الشام
والمدينة فأمطر الله عليهم الكِبريتَ والنارَ وقيل خَسَف
بالمقيمين منهم وأُمطرت الحجارةُ على مسافريهم وشُذّاذهم وقيل
أُمطر عليهم ثم خصف بهم ورُوي أن تاجراً منهم كان في الحرَم
فوقف الحجرُ له أربعين يوماً حتى قضى تجارتَه وخرج من الحرم
فوقع عليه وروي أن امرأتَه التفتت نحوَ ديارِها فأصابها حَجَرٌ
فماتت {فانظر كَيْفَ كان عاقبة المجرمين} خطابٌ لكلِّ مَنْ
يتأتَّى منْهُ التأملُ والنظرُ تعجيباً من حالهم وتحذيراً من
أعمالهم
(3/246)
وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} عطفٌ على
قوله وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وما عُطف عليه وقد روعيَ
ههنا ما في المعطوف عليه من تقديم المجرورِ على المنصوب أي
وأرسلنا إليهم وهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام شعيب بنُ
ميكائيلَ بنِ يشجَر بنِ مدينَ وقيل شعيبُ بنُ ثويبِ بنِ مدينَ
وقيل شعيبُ بنُ يثرونَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيب الأنبياء
لحسن مراجعتِه قومَه وكانوا أهلَ بخسٍ للمكاييل والموازين مع
كفرهم {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌ
(3/246)
الأعراف آية 86
على سؤال نشأ عن حكاية إرسالِه إليهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ
لهم فقيل قال {يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله
غَيْرُهُ} مر تفسيرُه مراراً {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ} أي
معجزةٌ وقوله تعالى {من رَّبّكُمْ} متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو
صلةٌ لفاعله مؤكدةٌ لفخامته الذاتيةِ المستفادةِ من تنكيره
بفخامته الإضافيةِ أي بينةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ كائنةٌ من ربكم
ومالِك أمورِكم ولم يُذكرْ معجزتُه عليه السلام في القرآن
العظيم كما لم يُذكر أكثرُ معجزاتِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم فمنها ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التّنّينَ
حين دفع إليه غنمَه ومنها ولادةُ الغنمِ الدرعَ خاصة حين وعد
أن يكون له الدرعُ من أولادها ومنها وقوعُ عصا آدمَ عليه
السَّلامُ على يده في المرات السبعِ لأن كلَّ ذلك كان قبل أن
يُستنبأ مُوسى عليه السَّلامُ وقيل البينةُ مجيئُه عليهِ
السَّلامُ كَما في قوله تعالى يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن
كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى أي حجةٌ واضحةٌ وبرهانٌ نيِّرٌ
عبّر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة {فَأَوْفُواْ
الكيل} أي المكيالَ كما وقعَ في سورةِ هودٍ يؤيده قوله تعالى
{والميزان} قلإن المتبادرَ منه الآلةُ وإن جاز كونه مصدرا
كالميعاد وقيل آلةَ الكيل والوزن على الإضمار والفاءُ لترتيبِ
الأمرِ على مجيء البينةِ ويجوز أن تكون عاطفةً على اعبدوا فإن
عبادةَ الله تعالى موجبة للاحتناب عن المناهي التي معظمُها بعد
الكفرِ البخْسِ الذي كانوا يباشرونه {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس
أَشْيَاءهُمْ} التي تشترونها بهما معتمدين على تمامهما أيَّ
شيءٍ كان وأيَّ مقدارٍ كان فإنهم كانوا يبخسون الجليلَ
والحقيرَ والقليلَ والكثيرَ وقيل كانوا مكّاسين لا يدَعون
شيئاً إلا مكَسوه قال زهير ... أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي
كا ما باع امرؤٌ مَكْسُ درهمِ {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض}
أي بالكفر والحيف {بعد إصلاحها} بعدما أصلح أمرَها وأهلَها
الأنبياءُ وأتباعهم بإجراء الشرائعِ أو أصلحوا فيها وإضافتُه
إليها كإضافة مكرِ الليلِ والنهار {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}
إشارةٌ إلى العمل بما أمرَهم به ونهاهم عنه ومعنى الخيريةِ إما
الزيادةُ مطلقاً أو في الإنسانية وحسنِ الأُحدوثة وما يطلُبونه
من التكسب والربح لأن الناسَ إذا عرفوهم بالأمانة رغِبوا في
معاملتهم ومُتاجَرَتِهم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مصدّقين
لي في قولي هذا
(3/247)
وَلَا تَقْعُدُوا
بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ
كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط
تُوعِدُونَ} أي بكل طريقٍ من طرق الدِّين كالشيطان وصراطُ
الحقِّ وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارفَ وحدودٍ وأحكامٍ
وكانوا إذا رأو أحداً يشرَع في شيء منها منعوه وقيل كانوا
يجلسون على المراصد فيقولن لمن يريد شعيباً إنه كذابٌ لا
يفتنَنَّك عن دينك ويتوعجون لمن آمن به وقيل يقطعون الطريق
{وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي السبيلِ الذي قعَدوا عليه
فوقع المُظهرُ موقعَ المضمرِ بياناً لكل صراطٍ ودلالةً على
عِظم ما يصدون عنه تقبيحا لما كمانوا عليه أو الإيسمان بالله
أو بكل صراط على أنه عبارةٌ عن طرق الدين وقوله تعالى {من آمن
بِهِ} مفعول تصدون على أعمال الأقرب لو كان مفعة ول توعِدون
لقيل وتصُدونهم وتوعِدون حال من الضمير في تقعدوا
{وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء
الشُبَهِ أو بوصفها للناس بأنها مُعْوجةٌ وهي أبعدُ شيءٍ من
شائبة الاعوجاج
(3/247)
الأعراف آية 87 88
{واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} بالبركة في
النسل والمال {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الأمم
الماضيةِ كقومِ نوحٍ ومَنْ بعدهم من عاد وثمودَ وأضرابِهم
واعتبِروا بهم
(3/248)
وَإِنْ كَانَ
طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ
وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ
اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
{وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ آمنوا
بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ} من الشرائع والأحكام {وَطَائِفَةٌ
لَّمْ يْؤْمِنُواْ} أي به أو لم يفعلوا الإيمان {فاصبروا حتى
يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} أي بين الفريقين بنصر المُحقّين على
المبطلين فهو وعدٌ للمؤمنين ووعيدٌ للكافرين {وهو خير
الحاكمين} غذ لا معقِّبَ لحكمه ولا حَيْفَ فيه
(3/248)
قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
(88)
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه}
استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل فماذا
قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظَ من شعيبٍ عليه السَّلامُ فقيل
قال أشرافُ قومِه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غيرَ
مكتفِين بمجرد الاستعصاءِ عليه والامتناعِ من الطاعة له بل
بالغين من العُتوِّ والاستكبارِ إلى أن قصَدوا استتباعَه عليه
السلام فيما هم فيه وأتباعَه المؤمنين واجترءوا على إكراههم
عليه بوعيد النفي وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيدِ القسمي
{لَنُخْرِجَنَّكَ يا شعيب والذين آمنوا} بنسبة الإخراجِ إليه
عليه السلام أولا إلى المؤمنين ثانياً بعطفهم عليه تنبيهاً على
أصالته عليه السلام في الإخراج وتبعيتِهم له فيه كما ينبىء عنه
قوله تعالى {مَعَكَ} فإنه متعلقٌ بالإخراج لا بالإيمان وتوسيطُ
النداءِ باسمه العَلَميِّ بين المعطوفَين لزيادة التقرير
والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحةِ والطغيان أي والله
لنُخرجنّك وأتباعَك {مِن قَرْيَتِنَا} بغضاً لكم ودفعاً
لفتنتكم المترتبةِ على المساكنة والجِوارِ وقوله تعالى {أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} عطفٌ على جوابِ القسمِ أيْ والله
ليكونن أحدُ الأمرين البتنة على أن المقصِدَ الأصليَّ هو
العَوْدُ وإنما ذُكر النفيُ والإجلاءُ لمحض القسر والأجاء كما
يُفصِحُ عنه عدمَ تعرُّضِه عليه السلام لجواب الإخراجِ كأنهم
قالوا لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخُلوا في ملتنا وإدخالُهم له
عليهِ السَّلامُ في خطاب العَوْدِ مع استحالة كونه عليه السلام
في ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليل الجماعةِ على الواحد
وإنما لم يقولوا أو لنُعيدنّكم على طريقة ما قبله لِما أن
مُرادَهم أن يعودوا إليها بصوررة الطواعيةِ حِذارَ الإخراجِ
باختيار أخون الشرَّين لا إعادتُهم بسائر وجوهِ الإكراهِ
والتعذيب {قَالَ} استئنافٌ كما سبق أي قال عليه السلام رداً
لمقالتهم الباطلةِ وتكذيباً لهم في أيمانهم الفاجرة {أولو
كُنَّا كارهين} على أنَّ الهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ ونفْيِه لا
لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه كالتي في قولِه تَعالَى أَوَلَوْ
جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ويجوز أن يكون الاستفهامُ فيه باقياً
على حاله وقد مرَّ مراراً أنَّ كلمةَ لو في مثلِ هذا المقامِ
ليست لبيان انتفاءِ الشيءِ في الزمن الماضي لانتفاء غيرِه فيه
فلا يلاخحظ لها جوابٌ قد حُذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها
عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على
القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلام السابق
(3/248)
الأعراف آية 88
بالذَّاتِ أو بالواسطةِ من الحُكم الموجَبِ أو المنفي على كل
حالٍ مفروض من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على
أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوتهِ أو انتفائِه
معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية
لِما أن الشيءَ متى تحقَّقَ مع المنافي القويِّ فلأنْ يتحقَّقَ
مع غيره أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ من سائرِ الأحوال ويكتفى
عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها
الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها وهذا معنى
قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمالِ وهذا المعنى
ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك
فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يُعطي ولو كان
غنياً وكقولك أحس غليه ولو أساءَ إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك
لبقائه على حاله سالماً عما يغيّره وأما فيما نحنُ فيه ففية
نوعُ خفاءٍ لتغيّره بورود الإنكارِ عليه لكن الأصلَ في الكل
واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل
المذكورِ قبلها وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حالٍ هو نفسُ
مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في
حيز لو مقرّرٌ على ما هو عليه من الاستبعاد بخلاف ما نحن فيه
لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن
ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال هو مدلولُه لا مدلولُ
المذكورِ وأن الجملةَ حالٌ من ضميره لا من ضمير المذكور كما
سيأتي وأن المقصودج الأصلي إنكارُ مدلولِه من حيث مقارنتُه
للحالة المذكورةِ وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ
وأن ما في حيز لولا يُقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ
بأنه أمرٌ مقرّرٌ إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ مبالغةً في
الإنكار من جهة أن العودَ مما يُنكر عند كونِ الكراهةِ أمراً
مستبعدا فكيف به عند كونِها أمراً محققاً ومعاملةً مع
المخاطَبين على معتقدَهم لاستنزالهم من رتبة العِناد وليس
المرادُ بالكراهة مجردَ كراهةِ المؤمنين للعود في ملة الكفرِ
ابتداءً حتى يقال إنها معلومةٌ لهم فكيف تكون ممستبعدة عندهم
بل إنما هي كراهتُهم له بعد وعيدِ الإخراجِ الذي جُعل قريناً
للقتل في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا الآية فإنهم
كانوا يستبعدونها ويطمَعون في أنهم حينئذ يختارون العود خشية
الإخراج غذ رُب مكروهٍ يُختار عند حلولِ ما هُو أشدُّ منْهُ
وأفظعُ والتقديرُ أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين
غيرَ مبالين بالإكراه فالجملةُ في محل النصب على الحالية من
ضمير الفعل المقدرِ حسبما أُشير إليه إذ مآله ألعود فيها حالَ
عدمِ الكراهةِ وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتُهم الشنيعةُ
بإطلاقها من العَوْد على أي حالةٍ كانت غيرَ أنه اكتُفيَ بذكر
الحالة الثانيةِ التي هي أشدُّ الأحوالِ منافاةً للعود
وأكثرُها بُعداً منه تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس
الأمر وثقةً بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءً واضحاً لأن العودَ
الذي تعلق به الإنكارُ حين تحققَ مع الكراهة على ما يوجبه
كلامُهم فلأن يتحققَ مع عدمها أولى إن قلتَ النفيُ المستفادُ
من الاستفهامِ الإنكاريِّ فيما نحن فيه بمنزلة صريحِ النفي ولا
ريب في أن الأولويةَ هناك معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ألا يُرى
أن الأولى بالتحقق فيما ذُكر من مثال النفي عند الحالةِ
المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغِنى هو عدمُ الإعطاءِ لا نفسُه
فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتجحقق فيما نحن فيه عند عدمِ
الكراهةِ عدمُ العَوْدِ لا نفسُه إذ هو الذي يدل عليه قولُنا
أنعود لأنه في معنى لا نعود فلمَ اختلف الحالُ بينهما قلتُ
لِما أن مناطَ الأولويةِ هو الحكم
(3/249)
الأعراف آية 89
الذي أريد بيانُ تحققِه على كل حالٍ وذلك في مثال النفي عدمُ
الإعطاءِ المستفادِ من الفعل المنفيِّ المذكور وأما فيما نحن
فيه فهو نفسُ العودِ المستفادِ من الفعل المقجر إذ هو الذي
يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم لتعودُن وأما الاستفهامُ
فخارجٌ عنه واردٌ عليه لإبطال ما يفيده ونفي مال يقتضيه لا أنه
من تمامه كما في صورة النفي وتوضيحُه أن بين النفيين فرقاً
معنوياً تختلف به أحكامُهما التي من جملتها ما ذكر من اعتبار
الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه وفي الآخر بالنسبة إلى
متعلَّقه ولذلك لا تستقيم إقامةُ أحدِهما مُقامَ الآخَر على
وجه الكلية ألا يُرى أنك لو قلت مكانَ أنعود فيها الخ لا نعود
فيها ولو كنا كارهين لاختلَّ المعنى اختلالاً فاحشاً لأن
مدلولَ الأولِ نفيُ العَوْد المقيدِ بحال الكراهة ومدلولَ
الثاني تقييدُ العودِ المنفيِّ بها وذلك لأن حرفَ النفي يباشر
نفسَ الفعلِ وينفيه وما يُذكر بعده يرجِعُ إليه من حيث هو
منفيٌّ وأما همزةُ الاستفهامِ فإنها تباشر الفعل بعد تقييده
بما بعده لما أن دِلالتَها على الإنكار والنفي ليست بدلالة
وضعيةٍ كدِلالة حرفِ النفي حتى يتعلقَ معناها بنفس الفعلِ الذي
يليها ويكونَ ما بعده راجعاً إليه من حيث هو منفيٌّ بل هي
دِلالةٌ عقليةٌ مستفادةٌ من سياق الكلامِ فلا بد أن يكون ما
يُذكر بعج الفعلِ من موانعه ودواعي إنكارِه ونفيِه حتماً ليكون
قرينةً صارفةً للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكارِ والنفي ثم
لما كان المقصود نفي الحاكم على كل حال مع الاقتصاد على ذكر
بعضٍ منها مغنٍ عن ذكر ما عجاها لاستلزام تحقّقِه معه تحققه مع
غيره بطريق الأولوية وكانت حالُ الكراهةِ عند كونها قيداً لنفس
العَوْدِ كذلك أي مغنياً عن ذكر سائرِ الأحوالِ ضرورة أن تحققَ
العَوْدِ في حال الكراهة مكستلزم لتحققه في حال عدمِها البتةَ
وعند كونِها قيداً لنفيخ بخلاف ذلك أي غيرُ مغنٍ عن ذكر غيرِها
ضرورة أن نفيَ العودِ في حال الكراهةِ لا يستلزمُ نفيَه في
غيرها بل الأمرُ بالعكس فإن نفيَه في حال الإرادةِ مستلزمٌ
لنفيه في حال الكراهةِ قطعاً استقام الأول لإفادته نفي العودى
ة في الحالتين مع الاقتصار على ما ذِكْر ما هو مغنٍ عن ذكر
الأخرى ولم يستقم الثاني لعدم إفادتِه إيَّاهُ على الوجهِ
المذكورِ إن قيل فما وجهُ استقامتِهما جميعاً عند ذكرِ
المعطوفَيْن معاً حيث يصِحّ أن يقال لا نعودُ فيها لو لم نكن
كارهيم كما يصح أن يقال أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا
كارهين مع أن المقدّر في حكم الملفوظِ قلنا وجهُها أن كلاًّ
منهما يفيد معنىً صحيحاً في نفسه لا أن معنى أحدِهما عينُ معنى
الآخر أو متلازمان متفقانِ في جميع الأحكام كيف لا ومدلولُ
الأولِ أن العودَ منتفٍ في الحالتين ومدلولُ الثاني مصحِّحٌ
لنفي العَوْدِ في الحالتين منتفٍ وكلا المعنيين صحيحٌ في نفسه
مصحِّحٌ لنفي العود فسي الحالتين مع ذكرهما معا غير أن الثاني
مصحِّحٌ لنفي العَوْدِ في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة
الكراهة على عكس المعنى الأول فإنه مصحِّحٌ لنفيه فيهما مع
الاقتصاد على ذكر حالةِ الإرادة
(3/250)
قَدِ افْتَرَيْنَا
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ
إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ
رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا}
(3/250)
أي كذباً عظيما لا يُقادَر قدرُه {إِنْ
عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ} التي هي الشركُ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ
لدلالة ما قبله عليه أي إن عجنا في ملتكم {بَعْدَ إِذْ
نَجَّانَا الله مِنْهَا} فقد افترينا على الله كذبا عظيماً حيث
نزعُم حينئذ أن الله تعالى نِداً وليس كمثله شيءٌ وأنه قد تبين
لنا أن ما كُنَّا عليه من الإسلام باطلٌ وأن ما كنتم عليه من
الكفر حقٌّ وأيُّ افتراءٍ أعظمُ من ذلك وقيل إنه جوابُ قسمٍ
محذوف حذف عنه اللامُ تقديره والله لقد افترينا الخ {وَمَا
يَكُونُ لَنَا} أي وما يصِحّ وما يستقيم لنا {أن نعود فيها} في
حالمن الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات {إِلاَّ أَن يَشَاء
الله} أي إلا حالَ مشيئةِ الله تعالى أو وقتَ مشيئتِه تعالى
لعَوْدنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبىء عنه قوله تعالى
{رَبَّنَا} فإن التعرض لعنوان لاربوبيته تعالى لهم مما ينبىء
عن استحالة مشيئتِه تعالى لارتدادهم قطعاً وكذا قوله تعالى بع
إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا فإن تنجيتَه تعالى لهم منها من
دلائل عدمِ مشيئتِه لعَودِهم فيها وقيل معناه إلا أن يشاء الله
خِذلانَنا وقيل فيه دليلٌ على أنَّ الكفرَ بمشيئته تعالى وأيا
ما كان فليس المرادُ بذلك بيانَ أن العودَ فيها في حيز
الإمكانِ وخطرِ الوقوعِ بناءً على كون مشيئتِه تعالى كذلك بل
بيانُ استحالةِ وقوعِها كأنه قيل وما كان لنا أن نعود فيها إلا
أن يشاء الله ربُّنا وهيهاتَ ذلك بدليل ما ذُكر من موجبات عدم
مشيئتِه تعالى له {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} فهو
محيطٌ بكل ما كان وما يكون من الأشياء التي من جملتها أحوالُ
عبادِه وعزائمُهم ونياتُهم وما هو اللائقُ بكل واحدٍ منهم
فمُحالٌ من لطفه أن يشاء عَودَنا فيها بعد ما نجانا منها مع
اعتصامنا به خاصةً حسبما ينطِق به قوله تعالى {عَلَى الله
تَوَكَّلْنَا} أي في أن يثبتَنا على ما نحنُ عليه من الإيمان
ويُتمَّ علينا نعمتَه بإنجائنا من الإشراك بالكلية وإظهارُ
الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ للمبالغةِ في التضرعِ
والجُؤار وقوله تعالى {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمِنَا بالحق} إعراضٌ عن مقاولتهم إثرَ ما ظهر له عليه
الصلاة والسلام أنهم من العتو والعِناد بحيث لا يُتصور منهم
الإيمانُ أصلاً وإقبالٌ على الله تعالى بالدعاء لفصل ما بينه
وبينهم بما يليق بحال كلَ من الفريقين أي احكم بيننا بالحق
والفَتاحَةُ الحكومة أو أظهرْ أمرنا حتى ينكشِفَ ما بيننا
وبينهم ويتميز المُحقُّ من المبطِل من فتَحَ المُشكلَ إذا
بيّنه {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} تذييلٌ مقررلمضمون ما قبله
على المعنيين
(3/251)
وَقَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ
شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
{وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن
قَوْمِهِ} عطفٌ على قال الملأ الذين الخ ولعل هؤلاء غير أولئك
المستكبرين ودونهم في الرتبة شأنُهم الوساطةُ بينهم وبين
العامةِ والقيامُ بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ويجوز أن يكون
عينَ الأولين وتغييرُ الصلةِ لما أن مدارَ قولِهم هذا هو
الكفرُ كما أن مناطَ قولِهم السابقِ هو الاستكبارُ أي قال
أشرافُهم الذين أصروا على الكفر لأعقابهم بعد ما شاهدوا صلابةَ
شعيبٍ عليهِ السَّلامُ ومنْ معَهُ من المؤمنين في الإيمان
وخافوا أن يستتبوا قومَهم تثبيطاً لهم عن الإيمان به وتنفيراً
لهم عنه على طريقة التوكيدِ القسَمي والله {لَئِنِ اتبعتم
شُعَيْبًا} ودخلتم في دينه وتركتم جين آبائِكم {إِنَّكُمْ
إِذاً لخاسرون} أي في الدين لاشترائكم الضلالةَ بهداكم أو في
الدنيا لفوات ما يحصُل لكم بالخس والتطفيف وإذن حرفُ جوابٍ
وجزاءٍ معترِضٌ بين اسمِ إنَّ وخبرِها والجملةُ سادةٌ مسد
(3/251)
الأعراف آية 91 94
جوابي الشرطِ والقسمِ الذي وطَّأَتْه اللام
(3/252)
فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزَّلزلةُ
وهكذا في سورة العنكبوت وفي سورة هود وَأَخَذَتِ الذين
ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ أي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ولعلها
من مبادى الرجفةِ فأُسند هلاكُهم إلى السبب القريبِ تارةً وإلى
البعيد أخرى {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي في مدينتهم وفي
سورة هودج في ديارهم {جاثمين} أي ميتين لازمين لأماكنهم لا
بَراحَ لهم منهَا
(3/252)
الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا
شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} استئنافٌ
لبيان ابتلائهم بشئوم قولِهم فيما سبق لَنُخْرِجَنَّكَ يا شعيب
والذين آمنوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا وعقوبتِهم بمقابلته
والموصولُ مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ
فِيهَا} أي استُؤصِلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم
أصلاً أي عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المُخرَجين من القرية
إخراجاً لا دخولَ بعده أبداً وقولُه تعالَى {الذين كَذَّبُواْ
شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} اتستئناف آخرُ لبيان
ابتلائِهم بعقوبة قولِهم الأخيرِ وإعادةُ الموصولِ والصلةِ كما
هي لزيادةِ التقريرِ والإيذانِ بأنَّ ما ذكر في حيز الصلة هو
الذي استوجب العقوبتين أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا
بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا
المتبعون له عليه الصلاة والسلام وبهذا القصر اكتُفي عن
التصريح والذين آمنوا مَعَهُ الخ
(3/252)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد
أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لكم} قالَه عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما هلكوا تأسفاً بهم لشدة حزنِه
عليهم ثم أنكر على نفسه ذلك فقال {فكيف آسى} أحزن حزناً شديداً
{على قَوْمٍ كافرين} أي مُصِرِّين على الكفر ليسوا أهلَ حزنٍ
لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم أو قاله اعتذار عن عدم شدة
حزنِه عليهم والمعنى لقد بالغتُ في الإبلاغ والإنذار وبذلتُ
وُسعي في النصح والإشفاقِ فلم تُصدِّقوا قولي فكيف آسى عليكم
وقرىء إيسى بإمالتين
(3/252)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن
نَّبِىٍّ} إشارةٌ إجمالية إلى بيان أحوالِ سائرِ الأمم إثرَ
بيان أحوالِ الأمم المذكورة وتفصيلا ومن مزيدة لتأكيد النفي
والصفةُ محذوفةٌ أي من نبي كُذِّب أو كذَّبه أهلُها {إِلا
أَخَذْنَا أَهْلَهَا} استثناء مفرغ من أعم الأحوالِ وأخذنا في
محل النصب من فاعل أرسلنا والفعلُ الماضي لا يقع بعد إلا بأحد
شرطين إما تقديرِ قد كما في هذه الآية أو مقارَنةِ قد كما في
قولك ما زيد إلا قد قام والتقديرُ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى
قَرْيَةٍ من القرى المُهلَكة نبياً من الأنبياء في حالٍ من
الأحوالِ إلا حالَ كونِنا آخذين
(3/252)
الأعراف آية 95 97
أهلَها {بالبأساء} بالبؤس والفقرِ {والضراء} بالضُّرّ والمرض
لكنْ لا على مَعْنى أن ابتداءَ الإرسالِ مقارِنٌ للأخذ
المذكورِ بل على أنه مستتبِعٌ له غيرُ منفكَ عنه بالآخرة
لاستكبارهم عن اتباع نبيِّهم وتعزُّزِهم عليه حسبما فعلت
الأممُ المذكورة {لعلهم يتضرعون} كي يتضرعوا ويتذللوا ويحُطّوا
أرديةَ الكِبْر والعزةِ عن أكتافهم كقوله تعالى لَقَدْ
أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فأخذناهم بالبأساء
والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
(3/253)
ثُمَّ بَدَّلْنَا
مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا
قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ
فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{ثُمَّ بَدَّلْنَا} عطفٌ على أخذنا داخلٌ
في حكمه {مَكَانَ السيئة} التي أصابتهم للغاية المذكورةِ
{الحسنة} أي أعطيناهم بدلَ ما كانُوا فيه من البلاء والمحنةِ
والرخاء والسعةَ كقوله تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات {حتى
عَفَواْ} أي كثُروا عَدداً وعُدداً من عفا النباتُ إذا كثر
وتكاثر وأبطرتهم النعمة {قالوا} غيرَ واقفين على أنَّ ما
أصابَهم من الأمرين ابتلاءٌ من الله سبحانه {قد مس آباءنا
الضراء والسراء} كما مسّنا ذلك وما هو إلا من عادة الدهرِ
يعاقِب في الناس بين الضراءِ والسراء من غير أن يكون هناك
داعيةٌ تؤدي إليهما أو تِبعةٌ تترتب عليهما ولعل تأخيرَ
السراءِ للإشعار بأنها تعقُب الضراءَ فلا ضيرَ فيها {فأخذناهم}
إثر ذلك {بغتة} فجاءة أشدَّ الأخذِ وأفظعَه {وَهُمْ لاَ
يَشْعُرُونَ} بذلك ولا يخطرون ببالهم شيئاً من المكاره كقوله
تعالى حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ الآية وليس المرادُ
بالأخذ بغتةً إهلاكَهم طرفة عينٍ كإهلاك عادٍ وقومِ لوطٍ بل ما
يعُمّه وما يمضي بين الأخذ وإتمام الإهلاكِ أيام كدأب ثمود
(3/253)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} أي القرى
المُهلَكة المدلولَ عليها بقولِه تعالَى قَرْيَةٍ وقيل هي مكةُ
وما حولها من القُرى وقيل جنس القُرى المنتظمةِ لما ذكر ههنا
انتظاما أوليا {آمنوا} بما أوحي إلى أبيائهم معتبِرين بمَا
جَرى عليهمْ من الابتلاء بالضراء والسراء {واتقوا} أي الكفرَ
والمعاصيَ أو اتقَوْا ما أُنذروا به على ألسنة الأنبياءِ ولم
يُصروا على ما فعلوا من القبائح ولم يحملوا ابتلاء الله تعالى
على عادات الدهر وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله تعالى عنهما وحدوا
الله واتقوا الشرك {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء
والارض} لوسّعنا عليهم الخيرَ ويسّرناه لهم من كل جانبٍ مكانَ
ما أصابهم من فنون العقوباتِ التي بعضُها من السماء وبعضُها من
الأرض وقيل المرادُ المطرُ والنباتُ وقرىء لفتّحنا بالتشديد
للتكثير {ولكن كَذَّبُواْ} أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا وقد
اكتفوى بذكر الأولِ لاستلزامه للثاني {فأخذناهم بِمَا كَانُواْ
يَكْسِبُونَ} منَ أنواع الكفرِ والمعاصي التي من جُملتها
قولُهم قد مس آباءَنا الخ وهذا الأخذُ عبارةٌ عما في قوله
تعالى فأخذناهم بَغْتَةً لا عن الجدب والقَحطِ كما قيل فإنهما
قد زالا بتبديل الحسنةِ مكانَ السيئة
(3/253)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ
نَائِمُونَ (97)
{أفأمن أهل القرى} أي أهل القرى المذكورة
(3/253)
الأعراف آية 98 100
على وضعِ المظهرِ موضِعَ المُضْمَرِ للإيذان بأن مدارَ
التوبيخِ أمْنُ كلِّ طائفةٍ ما أتاهم من البأس لا أمنُ مجموعِ
الأمم فإن مل طائفةٍ منهم أصابهم بأسٌ خاصٌّ بهم لا يتعداهم
إلى غيرهم كما سيأتي والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه لا
لإنكار الوقوعِ ونفيِه كما قاله أبو شامةَ وغيره لقوله تعالى
للا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون والفاءُ للعطف
على أخذناهم وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما للمُسارعةِ إلى
بيانِ أنَّ الأخذَ المذكورَ مما كسبتْه أيديهم والمعنى أبعدَ
ذلك الأخذِ أمِنَ أهلُ القرى {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا
بياتا} أي تبييتاً أو وقتَ بياتٍ أن مَبيتاً أو مبيتين وهو في
الأصل مصدرٌ بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييتِ السلام بمعنى
التسليم {وَهُمْ نَائِمُونَ} حالٌ من ضميرهم البارزِ أو
المستترِ في بياتاً
(3/254)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ
يَلْعَبُونَ (98)
{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} إنكارٌ بعد
إنكارٍ للمبالغة في التوة بيخ الشديد ولذلك لم يقل أفأمن أهلُ
القرى أَن يَأْتِيَهُم بأسنا بياتاً وهم نائمونَ أو ضحىً وهم
يلعبون وقرىء أوْ بسكون الواوِ على الترديد {أَن يَأْتِيَهُمْ
بَأْسُنَا ضُحًى} أي ضحوةَ النهارِ وهو في الأصل ضوءُ الشمسِ
إذا ارتفعت {وهم يلعبون} أي يلهوم من فرط الغفلةِ أو يشتغلون
بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون
(3/254)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ (99)
{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} تكريرٌ للنكير
لزيادة التقريرِ ومكرُ الله تعالى استعارةٌ لاستدراجه
العبدوأخذه مِن حيثُ لاَ يحتسبُ والمراد به بيان إتيانُ بأسِه
تعالى في الوقتين المذكورين ولذلك عُطف الأول والثالث بالفاء
في الإنكار فيهما متوجهٌ إلى ترتب الأمنِ على الأخذ المذكور
وأما الثاني فمن تتمة الأولِ {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله
إِلاَّ القوم الخاسرون} أي الذين خسِروا أنفسَهم وأضاعوا فطرةَ
الله التي فطرَ الناسَ عليها والاستعدادَ القريبَ المستفادَ من
النظر في الآيات
(3/254)
أَوَلَمْ يَهْدِ
لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ
لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{أولم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض
مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} أي يخلُفون مَنْ خلا قبلهم من الأمم
المُهلَكة ويرثون ديارَهم والمرادُ بهم أهلُ مكةَ ومَنْ حولها
وتعديةُ فعل الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللام كأنه قيل
أغفلَوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم الخ وإما لأنها بمعنى التبيينِ
والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ على التقديرين هو الجملةُ الشرطية
أي أولم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم}
بِذُنُوبِهِمْ أي أن الشأنَ لو نشأ أصبْناهم بجزاء ذنوبِهم أو
بسبب ذنوبِهم كما أصبنا مَنْ قبلهم وقرىء نَهدِ بنون العظمة
فالجملة مفعولُه {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} عطفٌ على ما
يُفهم من قولِه تعالَى أَوْ لَمْ يَهْدِ كأنه قيل لا يهتدون أو
يغفُلون عن الهداية أو عن التفكر والتأمل أو منقطعٌ عنه بمعنى
ونحن نطبع ولا يجوزعطفه على أصبناهم على أنه بمعنى طبعنا
لإفضائه إلى نفي الطبْعِ عنهم لأنه في سياق جوابِ لو {فَهُمْ
لاَ يَسْمَعُونَ} أي أخبار الأمم المهلكة فضلاعن التدبر
والنظرِ فيها والاغتنامِ بِمَا في تضاعِيفِها منَ الهداية
(3/254)
الأعراف آية 101
(3/255)
|