تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم تِلْكَ الْقُرَى
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
{تِلْكَ القرى} جملةٌ مستأنفةٌ جاريةٌ مجرى
الفذلكةِ لما قبلها من القِصص منبئةٌ عن غاية غَوايةِ الأممِ
المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أنتهم الرسلُ بالمعجزات الباهرة
وتلك إشارةٌ إلى قرى الأمم المُهلَكة على أن اللامَ للعهد وهو
مبتدأٌ وقولُه تعالى {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا}
خبرُه وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاءِ القصة بعد ومِنْ
للتبعيض أي بعضُ أخبارها التي فيها عظةٌ وتذكيرٌ وقيل تلك
مبتدأ والقرة خبرُه وما بعده حالٌ أو خبرٌ بعد خبر عند من
يجوِّز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ
حَيَّةٌ تسعى وتصديرُ الكلام بذكر القرى وإضافةُ الأنباء إليها
مع أن المقصوصَ أنباءُ أهلِها والمقصودُ بيانُ أحوالهم حسبما
يُعرب عنه قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم
بالبينات} لما أن حكايةَ هلاكِهم بالمرة على وجه الاستئصالِ
بحيث يشمل أماكنَهم أيضاً بالخسف بها والرجفةِ وبقائِها خاويةً
معطلةً أهولُ وأفظعُ والباء في قوله تعالى بالبينات متعلقةٌ
إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً
من فاعله أي ملاتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ
ببينة واحدة بل بينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ له حسب اقتضاءِ
الحِكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين
الرسل وضميرِ الأممِ والجملةُ مستأنفةٌ مبينةٌ لكمال عُتوِّهم
وعنادِهم أي وبالله لقد جاء كلَّ أمةٍ مِنْ تلكَ الأممِ
المُهلَكة رسولُهم الخاصُّ بهم بالمعجزات البيّنةِ المتكثرة
المتواردةِ عليهم الواضحة الجلالة على صحة رسالتِه الموجبةِ
للإيمان حتماً وقوله تعالى {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ}
بيانٌ لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ
إيمانِهم وترتيبُ حالتِهم هذه على مجيء الرسلِ بالبينات بالفاء
لما أن الاستمرارَ على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب
الإقلاعَ عنه وإن كان استمرارا عليه في الحقيقة لكنه بحسَب
العنوان فعلٌ جديد وصنعٌ حادثٌ نحوُ وعظتُه فلم ينزجِرْ
ودعوتُه فلم يُجب واللامُ لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام
لقوم من أولئك الأقوامِ في وقتٍ من الأوقاتِ أن يؤمنوا لكل كان
ذلك ممتنعاً منهم إلى أنْ لَقوُا ما لقوُا لغاية عتوِّهم وشدةِ
شكيمتِهم في الكفر والطغيانِ ثم إن كان المحكي عنهم آخرَ حالِ
كلِّ قوم منهم فالمرادُ بعدم إيمانِهم المذكور ههنا إصرارُهم
على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى {بِمَا
كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} تكذيبُهم من لدن مجيءِ الرسل إلى وقت
الإصرارِ والعناد وإنما لم يُجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول بل
جُعل صلةً للموصول إيذاناً بأنه بيِّنٌ بنفسه وإنما المحتاجُ
إلى البيان عدمُ إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر
المعجزات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القَبول لو كانوا من
أصحاب العقول والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب سلباً
وإيجاباً عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ
أصولِها وفروعِها وإن كان المحكيُّ جميع أحوال كل قوم منهم
فالمراد بما ذكر أولاً كفرُهم المستمرُّ من حين مجيءِ الرسل
الخ وبما أشير إليه آخرا تكذيبُهم قبل مجيئِهم فلا بد من جعل
الموصولِ المذكور عبارة عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها
الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذي أثير لاستحالة تبدلها
وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء
رسلهم
(3/255)
الأعراف آية 256
أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا كلمةَ التوحيد
قط بل كانت كلُّ أمةٍ من أولئك الأمم يتسامعون بهال من بقايا
من قبلهم فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجيءِ رسلِهم كحالتهم
قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان
بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم
يؤمنوا بما أجمعت عليه كافةُ الرسل فلأن يؤمنوا بما تفرَّد به
بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيبِ مقصوداً بالذات لما أن ما
عليه يدور فلكُ العذابِ والعقابِ هو التكذيبُ الواقعُ بعد
الدعوة حسبما يُعرب عنه قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ
حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وإنما ذكرها ما وقع قبلها بياناً
لعراقتهم في الكفر والتكذيب وعلى كلا التقديرين فالضمائرُ
الثلاثة متوافقة في المرجع وقيل ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى أسلافهم
والمعنى فما كان الأبناءُ ليؤمنوا بما كذب به الآباءُ ولا
يَخْفى ما فيهِ من التعسف وقيل المرادُ ما كانوا ليؤمنوا لو
أحييناهم بعد إهلاكِهم ورددناهم إلى دار التكليفِ بما كذبوا من
قبلُ كقوله تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نهوا عنه وقيل
الباء للسببية وما مصدريةٌ أي بسبب تعوُّدِهم تكذيبَ الحق
وتمرنهم عليه قبل بعثةِ الرسلِ ولا يرِدُ عليه ههنا ما ورد في
سورة يونُسَ من مخالفة الجمهورِ بجعل ما المصدريةِ من قبيل
الأسماء كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِعَ إليه
الضميرُ في به {كذلك} أي مثلَ ذلك الطبعِ الشديدِ المُحكَم
{يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي من المذكورين وغيرهم
فلا يكاد يؤثر فيها الآياتُ والنذرُ وفيه تحذير للسامعين
وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابة
وإدخالِ الروعة
(3/256)
وَمَا وَجَدْنَا
لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ
لَفَاسِقِينَ (102)
{وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم} أي أكثرِ
الأممِ المذكورين واللامُ متعلقةٌ بالوُجدان كما في قولك ما
وجدتُ له مالا أي ما صدفت له مالاً ولا لقِيته أو بمحذوفٍ وقعَ
حالاً مِنْ قوله تعالى {مّن عَهْدٍ} لأنَّه في الأصلِ صفةٌ
للنكرة فلما قُدّمت عليها انتصبت حالاً والأصلُ ما وجدنا عهداً
كائناً لأكثرهم ومن مزيدة للاستغراق أي وما وجدنا لأكثرهم من
وفاء عهدٍ فإنهم نقضوا مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ عند مساسِ
البأساء والضراءِ قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونَنّ من
الشاكرين فتخصيصُ هذا الشأنِ بأكثرهم ليس لأن بعضَهم كانوا
يوفون بعهودهم بل لأن بعضَهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون وقيل
المرادُ بالعهد ما عهِد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى
بنصب الآياتِ وإنزالِ الحُجج وقيل ما عهِدوا عند خطابِ
أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ فالمرادُ بأكثرهم كلُّهم وقيل الضمير
للبأس والجملةُ اعتراضٌ فإن أكثرَهم لا يوفون بالعهود بأي معنى
كان {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ} أي أكثرُ الأمم أي
علِمناهم كما في قولك وجدتُ زيداً ذا حِفاظ وقيل الأول أيضاً
كذلك وإنْ مخففةٌ من أن وضمير الشأن محذوفٌ أي إن الشأنَ
وجدناهم {لفاسقين} خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود وعند
الطكوفينن أنّ إنْ نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما وجدناهم إلا
فاسقين
(3/256)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ (103)
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} أي
أرسلناه من بعد انقضاء
(3/256)
الأعراف آية 104 105
وقائعِ الرسل المذكورين أو من بعد هلاكِ الأممِ المحكيةِ
والتصريحُ بذلكَ مع دِلالة ثم على التراخي للإيذان بأن بعثه
عليه الصلاة والسلام جرى على سَنن السُنةِ الإلهية من إرسال
الرسلِ تترى وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريح لما
مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر {بآياتنا}
متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول بعثنا أو صفةٌ لمصدرِه أي
بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبساً بآياتنا أو بعثناه بَعْثاً
ملتبساً بها وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليدُ
البيضاء والسِّنونَ ونقصُ الثمرات والطوفانُ والجَرادُ
والقُمّلُ والضفادعُ والدم حبما سيأتي على التفصيل {إلى
فِرْعَوْنَ} هو لقبٌ لكل من ملَك مِصْرَ من العمالقة كما أن
كِسرى لقب لكل من ملك فارسَ وقيصرَ لكل مَنْ ملك الروم واسمُه
قابوسُ وقيلالوليد بن مصعب بن ريان {وَمَلَئِهِ} أي أشرافِ
قومِه وتحصيصهم بالذكر مع عموم رسالتِه عليه الصَّلاةُ
والسَّلامُ لقومه كافةً حيث كانوا جميعاً مأمورين بعبادة ربِّ
العالمين عز سلطانه وترك العظيمةِ الشنعاءِ التي كانَ
يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لأصالتهم في
تدبير الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور
{فَظَلَمُواْ بِهَا} أي كفروا بها أُجري الظلمُ مُجرى الكفرِ
لكونهما من وادٍ واحدٍ أو ضُمّن معنى الكفرِ أو التكذيبِ أي
ظلموا كافرين بها أو مكذِّبين بها أو كفروا بها مكان الإيمانِ
الذي هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وُضع ظلَموا موضِعَ
كفروا وقيل ظلموا أنفسَهم بسببها بأن عرّضوها للعذاب الخالد أو
ظلموا الناسَ بصدهم عن الإيمان بها والمرادُ به الاستمرارُ على
الكفر بها إلى أن لقُوا من العذاب ما لقُوا ألا يُرى إلى قوله
تعالى {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} فكما أن ظلمهم بها
مستتبعٌ لتلك العاقبةِ الهائلةِ كذلك حكايةُ ظلمِهم بها
مستتبعٌ للأمر بالنظر إليها وكيف خبرُ كان قُدّم على اسمها
لاقتضائه الصدارةَ والجملةُ في حيز النصبِ بإسقاط الخافضِ أي
فانظر بعين عقلِك إلى كيفية ما فعلنا بهم ووضعُ المفسدين موضعَ
ضميرِهم للإيذان بأن الظلم مستلزِمٌ للإفساد
(3/257)
وَقَالَ مُوسَى يَا
فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
{وَقَالَ مُوسَى} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ
لتفصيل ما أُجمل فيما قبله من كيفية إظهار الآياتِ وكيفيةِ
عاقبة المفسدين {يا فرعون إِنِّي رَسُولٌ} أي إليك {مِن رَّبّ
العالمين} على الوجه الذي مر بيانه
(3/257)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ
لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ (105)
{حقيق على أن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ
الحق} جوابٌ عما ينساقُ إليه الذهنُ من حكاية ظلمِهم بالآيات
من تكذيبه إياه عليه الصلاة والسلام في دعوى الرسالةِ وكان
أصلُه حقيقٌ على أن لا أقول الخ كما هو قراءة نافع فقلب للأمن
من الإلباس كما في قول وتشقى الرماحُ بالضياطرة الحُمُر أو لأن
ما لزِمك فقد لزِمتَه أو للإغراق في الوصف بالصدق والمعنى
واجبٌ عليّ القولُ الحقُّ أن أكون أنا قائلُه لا يَرضَى إلا
بمثلي ناطقاً به أو ضُمّن حقيقٌ معنى حريص أو وُضِعَ على موضعَ
الباءِ لإفادة التمكن كقولهم
(3/257)
الأعراف آية 106 109
رميتُ على القوس وجئتُ على حال حسنةٍ ويؤيده قراءة أبي بالباء
وقرىء حقيق أن لا أقول وقوله تعالى {قَدْ جِئْتُكُمْ
بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ} استئنافٌ مقرر لما قبله من ككونه
رسولاً من رب العالمين وكونِه حقيقاً بقول الحقِّ ولم يكن هذا
القول منه عليه الصلاة والسلام وما بعده من جواب فرعون إثرَ ما
ذكر ههنا بل بعدَ مَا جَرى بينهما من المحاورة المحكيةِ بقوله
تعالى قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا الآيات وقوله تعالى وَمَا رَبُّ
العالمين الآيات وقد طوى ههنا ذكرُه للإيجاز ومِنْ متعلقة إما
بجئتُكم على أنها لابتداء الغايةِ مجازاً وإما بمحذوف وقع صفةً
لبينة مفيدةً لفخامتها الإضافية المؤكدةِ لفخامتها الذاتية
المستفادةِ من التنوين التفخيمي وإضافةُ اسمِ الرب إلى
المخاطبين بعد إضافتِه فيما قبله إلى العالمين لتأكيد وجواب
الإيمان بها {فَأَرْسِلْ مَعِىَ بني إسرائيل} أي فخلّهم حتى
يذهبوا معي إلى الأرض المقدسةِ التي هي وطنُ آبائِهم وكان ق
استبعدهم بعد انقراضِ الأسباطِ يستعملهم ويكلفهم الأفاعيلَ
الشاقة فأنقذهم الله تعالى بموسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
وكانَ بين اليوم الذي دخل يوسفُ مصرَ واليومِ الذي دخله موسى
عليهما السلام أربعُمائة عام والفاءُ لترتيب الإرسالِ أو
الأمرِ به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة
(3/258)
قَالَ إِنْ كُنْتَ
جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
(106)
{قال} الأاستئناف وقع جوابا عن سؤال ينساقُ
إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل فماذا قال فرعونُ له عليه السلام حين
قال له ما قال فقيل قَالَ {إِن كُنتَ جِئْتَ بآية} أي من عندج
مَنْ أرسلك كما تدعيه {فَأْتِ بِهَا} أي فأحضِرْها حتى تُثبت
بها رسالتَك {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواك فإن كونَك من
جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهارَ الآيةِ لا محالة
(3/258)
فَأَلْقَى عَصَاهُ
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ
مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ أمرُه لا يُشك في كونه ثعباناً وهو الحيةُ
العظيمةُ وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على كمال سرعةِ
الانقلاب وثباتِ وصفِ الثُعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك روي
أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغر فاهُ بين لَحْيَيهِ
ثمانونَ ذراعا وضع لحيه الأسف عَلى الأرضِ والأَعْلى على سور
القصرِ ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث فانهزم الناسُ
مزدحِمين فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرون ألفاً فصاح فرعونُ يا موسى
أنشُدك بالذي أرسلك خُذْه وأنا أؤمن بك وأرسلُ معك بني
إسرائيلَ فأخذه فعاد عصا
(3/258)
وَنَزَعَ يَدَهُ
فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
{وَنَزَعَ يَدَهُ} أي من جيبه أو من تحت
إِبطِه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين} أي بيضاءُ بياضاً
نورانياً خارجاً عن العادة يجتمع عليه النَّظارةُ تعجباً من
أمرها وذلك ما يروى أنه أرى فرعونَ يدَه وقال ما هذه فقال يدُك
ثم أدخلها جيبه وعليه مدرّعةُ صوفٍ ونزعها فإذا هي بيضاءُ
بياضاً نورانياً غلب شعاعُه شعاعَ الشمس وكان عليه السلام آدجم
شديدَ الأدَمةِ وقيل بيضاء للناظرين لا أنها كانت بيضاءَ في
جِبِلّتها
(3/258)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
{قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ}
(3/258)
أي الأشرافُ منهم وهم أصحابُ مشورتِه
{إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} أيْ مبالغٌ في علم السحر ماهرفيه
قالوه تصديقاً لفرعون وتقريراً لكلامه فإن هذا القولَ بعينه
مَعْزيٌّ في سورة الشعراء إليه
(3/259)
يُرِيدُ أَنْ
يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ}
أي من أرض مصرَ {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} بفتح النون وما في ماذا
في محل النصب على أنه مفعول ثان لتأمرون بحذف الجار والأولُ
محذوف والتقديرُ بأي شيء تأمرونني وهذا من كلام فرعونَ كما في
قوله تعالى ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب أي فإذا
كان كذلك فماذا تشيرون عليّ في أمره وقيل قاله الملأ من قبله
بطريق التبليغِ إلى العامة فقوله تعالى
(3/259)
قَالُوا أَرْجِهْ
وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} على الأول
وهو الأظهرُ حكايةً لكلام الملأ الذين شاورهم فرعونُ وعلى
الثاني لكلام العامة الذي خاطبهم الملأ ويأباه أن الخطابَ
لفرعون وأن المشاورةَ ليست من وظائفَهم أي أخِّرْه وأخاه وعدمُ
التعرض لذكره لظهور كونه معه حسبما ينادي به الآياتُ الأُخَرُ
والمعنى أخِّرْ أمرَهما وأصدِرْهما عنك حتى ترى رأيك فيهما
وتدبر شأنهما وقرىء أرجته وأرجِهِ من أرْجَأَه وأرْجاه
{وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين} قيل هي مدائنُ صعيدِ مصرَ
وكان رؤساءُ السحرةِ ومَهَرتُهم بأقصى مدائنِ الصعيد وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهاما أنهم كانوا سبعين ساحراً أخذوا
السحرَ من رجلين مجوسيين من أهل نينَوى مدينةِ يونسَ عليه
السلام بالمَوْصِل ورُد ذلك بأن المجوسيةَ ظهرت بزرادَشْت وهو
إنما جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام
(3/259)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
{يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} أي ماهرٍ
في السحر وقرىء بكل سحّار عليم والجملةُ جوابُ الأمر
(3/259)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغَالِبِينَ (113)
{وجاء السحرة فرعون} بعدما أرسل إليهم
الحاشرين وإنما لم يصرح بهم حسبما فو قوله تعالى فَأَرْسَلَ
فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين للإيذان بمسارعة فرعونَ إلى
الإرسال ومبادرةِ الحاشرين والسحرة إلى الامتثال {قَالُواْ}
استئنافٌ منوطٌ بسؤال نشأَ من حكايةِ مجيءِ السحرةِ كأنه قيل
فماذا قالوا له عند مجيئِهم إياه فقيل قالوا مدْلين بما عندهم
واثقين بغلبتهم {إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كنا نحن الغالبين}
بطريق الإخبار بثبوت الأجر وإيجابه كأنهم قالوا لا بُدَّ لنا
من أجر عظيم حينئذ أو بطريق الاستفهامِ التقريري بحذف الهمزة
وقرىء بإثباتها وقولُهم إن كنا لمجرد تعيينِ مناطِ ثبوتِ
الأجرِ لا لترددهم في الغلبة وتوسيطُ الضميرِ وتحليةُ الخبر
باللام للقصر أي إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين لا موسى
(3/259)
قَالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
{قَالَ نَعَمْ} وقوله تعالى {وَإِنَّكُمْ
لَمِنَ المقربين} عطف على محذوف سد مسدَّه حرف الإيجاب
(3/259)
الأعراف آية 115 120
كأنه قال إن لكم لأجراً وإنكم مع ذلك لمن المقربين للمبالغة في
الترغيب روي أنه قال لهم تكونُون أولَ من يدخُل مجلسي وآخِرَ
من يخرُج منه
(3/260)
قَالُوا يَا مُوسَى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ
الْمُلْقِينَ (115)
{قَالُواْ} استئنافٌ كما مر كأنَّه قيلَ
فمَاذا فعلُوا بعد ذلك فقيل قالوا متصدّين لشأنهم مخاطِبين
لموسى عليه السلام {يا موسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ} ما تلقي
أولاً {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} أي لِما نُلقي
أولاً أو الفاعلين للإلقاء أولاً خيّروه عليه السلام بالبدء
بالإلقاءِ مراعاة للأدب وإظهار للجلادة وأنه لا يختلف حالُهم
بالتقديم والتأخير ولكن كانت رغبتُهم في التقديم كما ينبىء عنه
تغييرُهم للنظم بتنعريف الخبر وتوسيطُ ضميرِ الفصل وتأكيدِ
الضمير المتصل
(3/260)
قَالَ أَلْقُوا
فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
{قَالَ أَلْقَوْاْ} غيرَ مبالٍ بأمرهم أي
ألقوا ما تُلقُون {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} ما ألقَوْا {سَحَرُواْ
أَعْيُنَ الناس} بأن خيّلوا إليهم ما لا حقيقةَ له
{واسترهبوهم} أي بالغوا في إرهابهم {وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}
في بابه روي أنهم ألقَوا حِبالاً غلاظاً وخشَباً طِوالاً كأنها
حياتٌ ملأت الواديَ وركِبَ بعضُها بعضاً
(3/260)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ (117)
{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ
عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} الفاءُ فصيحة
أي فألقاها فصارت حيةً فإذا هي الآية وإنما حُذف للإشعار
بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعةِ الانقلاب
كأن لقْفَها لما يأفكون قد حصل متصلاً بالأمر بالإلقاء وصيغةُ
المضارعِ لاستحضار صورةِ اللقْفِ الهائلةِ والإفك الصِّرْفِ
والقلب عن الوجه المعتاد وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ
محذوفٌ أي ما يأفِكونه ويزوّرونه أو مصدريةٌ وهي مع الفعل
بمعنى المفعول روي أنها لمل تلقّفت مِلءَ الوادي من الخشب
والحِبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت وأَعدم الله تعالى
بقدرته الباهرة تلط الأجرامَ العظامَ أو فرَّقها أجزاءً لطيفةً
قالت السحرة لو كان هذا سحراً لبقِيَتْ حبالُنا وعِصِيُّنا
(3/260)
فَوَقَعَ الْحَقُّ
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
{فَوَقَعَ الحق} أي فثبت لظهور أمر
{وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ظهر بطلانُ ما كانوا
مستمرِّين على عمله
(3/260)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ
وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
{فغلبوا} اي فوعون وقومُه {هُنَالِكَ} أي
في مجلسهم {وانقلبوا صاغرين} أي صاروا أذلاء مبهوتين أو رجَعوا
إلى المدينة أذلاء مقهورين والأولُ هو الظاهرُ لقولهخ تعالى
(3/260)
وَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
{وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} فإن ذلك كان
بمحضرلا مكنم فرعون قطعاً أي خروا سجداً كأنما ألقاهم مُلْقٍ
لشدة خرورِهم كيف لا وقد
(3/260)
الأعراف آية 121 125
بهرهم الحقُّ واضْطَّرّهم إلى ذلك
(3/261)
قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
{قالوا آمنا بربّ العالمين} {ربَّ موسى
وهارون} أبدلوا الثانيَ من الأول لئلا يُتوهم أن مرادَهم فرعون
عن ابن عباس رضي الله عنهمات أنه قال لما آمنت السحرةُ اتبع
موسى من بني إسرائي ستُّمائةِ ألف
(3/261)
قَالَ فِرْعَوْنُ
آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا
أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
{قَالَ فِرْعَوْنُ} منكِراً على السحرة
موبِّخاً لهم على ما فعلوه {آمَنْتُم بِهِ} بهمزة واحدة إما
على الإخبار المحضِ المتضمِّنِ للتوبيخ أو على الاستفهام
التوبيخيِّ بحذف الهمزةِ كما مر في إن لنا لأجراً وقد قرىء
بتحقيق الهمزتين معا وباحقيق الأولى وتسهيلِ الثانية بيْنَ
بيْنٍ أي آمنتم بالله تعالى {قبل أن آذَنَ لَكُمْ} أي بغيرِ
أنْ آذنَ لكم كما في قوله تعاللا لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن
تَنفَدَ كلمات رَبّى لا أن الإذنَ منه ممكنٌ في ذلك {إِنَّ هذا
لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} يعني أن ما صنعتموه ليس مما اقتضى
الحالُ صدورَه عنكم لقوة الجليل وظهور المعجزة بل هو حيلة
احتلتموها مع موطأة موسى {فِى المدينة} يعني مصرَ قبل أن
تخرجوا إلى الميعاد رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام وأميرَ
السحرةِ التقيا فقال له موسى أرأيتَك إن غلبتُك أتؤمن بي وتشهد
أن ما جئت به الحقُّ فقال الساحرُ والله لئن غلبتَني لأومننَّ
بك وفرعونُ يسمعهما وهو الذي نشأ عنه هذا القول {لِتُخْرِجُواْ
مِنْهَا أَهْلَهَا} أي القبط وتخلصهلي لك ولبني إسرائيلَ
وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوامِّ القِبطِ عند معاينتهم
لارتفاع أعلامِ المعجزةِ ومشاهدتِهم لخضوع أعناقِ السحرةِ لها
وعدم تمالُكِهم من أن يؤمنوا بها ليمنعهم بهما عن الإيمان
بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام بإراءة أن إيمان السحر مبني
على المة واضعة بينهم وبين موسى وأن غرضَهم بذلك إخراجُ القوم
من المدينة وإبطالُ مُلْكِهم ومعلومٌ أن مفارقةَ الأوطانِ
المألوفةِ والنعمةِ المعروفةِ مما لا يُطاق به فجمع اللعينُ
بين الشبهتين تثبيتاً للقِبطَ على ما هم عليه وتهييجاً
لعداوتهم له عليهالصلاة والسلام ثم عقبهما بالوعيد ليُريَهم أن
له قوزة وقدرةً على المدافعة فقال {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي
عاقبة ما فعلتم وهذا وعيدٌ ساقه بطريق الإجمالِ للتهويل ثم
عقبه بالتفصيل فقال
(3/261)
لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ
لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
{لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
مّنْ خِلاَفٍ} أي من كل شقَ طرَفاً {ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ
أجمعين} تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم قيل هو أولُ من سن ذلك
فشرعه الله تعالى لقُطّاع الطريق تعظيماً لجُرمهم ولذلك سماه
الله تعالى محاربةً لله ورسوله
(3/261)
قَالُوا إِنَّا إِلَى
رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
{قَالُواْ} استئنافٌ مَسوقٌ للجواب
(3/261)
الأعراف آية 126 128
عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ السحرةُ
عندما سمِعوا وعيدَ فرعونَ هل تأثروا به تصلبوا فيمَا هُم فيهِ
من الدين فقيل قالوا ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان {إِنَّا
إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} أي بالموت لا محالة فسواءٌ كان ذلك
من قِبَلك أو لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا
وثوابِه منقلبون إن فعلتَ بنا ذلك كأنهم استطابوه شَغَفاً على
لقاء الله تعالى وإنا جميعاً إلى ربنا منقلبون فيحكم بيننا
وبينك
(3/262)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا
إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
(126)
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} أي وما تُنكر
وتَعيب منا {إلا أن آمنا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا}
وهو خيرُ الأعمال وأصلُ المفاخر ليس مما يتأتى لنا العجول عنه
طلباً لمرضاتك ثم أعرضوا عن مخاطبته إظهاراً لما في قلوبهم من
العزيمة على ما قالوا وتقرير آلة ففزعوا إلى الله عزَّ وجلَّ
وقالوا {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي أفِضْ علينا
من الصبر ما يغمُرنا كما يغمرُ الماءُ أو صُبّ علينا ما
يُطَهّرنا من أوضار الأوزار وأدناسِ الآثام وهو الصبرُ على
وعيد فرعون {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثابتين على ما رزقتنا
من الإسلام غيرَ مفتونين من الوعيد قيل فَعل بهم ما أوعدهم به
وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما
الغالبون
(3/262)
وَقَالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ
سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا
فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{وَقَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ}
مخاطِبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام {أَتَذَرُ
موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض} أي في أرض مصر بتغير
الناسِ عليك وصرفِهم عن متابعتك {وَيَذَرَكَ} عطفٌ على يُفسدوا
أو جوابُ الاستفهام بالواو كما في قول الحطيئة ... ألم أك جارك
ويكونَ بيني وبينكم المودةُ والإخاء أي أيوكون منك تركُ موسى
ويكونَ تركُه إياك وقرىء بالرفع عطفا على أتذر أو استئنافاً أو
حالاً وقرىء بالسكون كأنه قيل يفسدوا ويذلك كقوله تعالى
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن {وآلهتك} ومعبوداتِك قيل إنه كان يعبد
الكواكبَ وقيل صنع لقومه أصناماً وأمرهم بأن يعبُدوها تقرباً
إليه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى وقرىء وإلهتك أي عبادتَك
{قَالَ} مجيباً لهم {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى
نِسَاءهُمْ} كما طكنا نفعل بهم ذلك من قبلُ ليُعلم أنا على ما
كُنَّا عليه من القهر والغلبةِ ولا يُتَوَهّم أنَّه المولودُ
الذي حكَم المنجمون والكهنةُ بذهاب مُلكِنا على يديه وقرىء
سنقتل بالتخفيف {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} كما كنا لم يتغير
حالُنا أصلاً وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك ...
(3/262)
قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ
الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
{قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} تسليةً لهم وعِدةً
بحسن العاقبة حين سمعوا قولَ فرعون وتضجّروا منه {استعينوا
بالله واصبروا} على ما سمعتم من أقاويله الباطلة {إِنَّ الارض
للَّهِ} أي أرضَ مصر أو جنس
(3/262)
الأعراف آية 1289 130
الأرض وهي داخلة فيخها دخولاً أولياً {يورثُها مَن يَشَاء مِنْ
عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} الذين أنتم منهم وفيه
إيذانٌ بأن الاستعانةَ بالله تعالى والصبرَ من باب التقوى
وقرىء والعاقبةَ بالنصبِ عطفاً على اسمِ إن
(3/263)
قَالُوا أُوذِينَا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا
قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ (129)
{قَالُواْ} أي بنو إسرائيلَ {أُوذِينَا} أي
من جهة فرعونَ {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} أي بالرسالة يعنون
بذلك قتلَ أبنائِهم قبل مولد موسى عليه الصلاة والسلام وبعدَه
{وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} أي رسولاً يعنون ما توعدهم به من
إعادة قتلِ الأبناءِ وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه
السلام من فنون الجَوْر والظلمِ والعذاب وأما ما كانوا
يُستعبَدون به ويُمتهنون فيه من أنواع الخَدَم والمِهَن كما
قيل فليس مما يلحقهم بواسطته عليه السلام فليس لذكره كثيرُ
ملابسة بالمقام {قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى
شدةَ جَزَعِهم مما شاهدوه مسلياً لهم بالتصريح بما لَوَّح به
في قوله إن الأرض لله الخ {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ} الذي فعل بكم ما فعل وتوعّدكم بإعادته
{وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض} أي يجعلَكم خلفاءَ في أرض مصرَ
{فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أحسناً أم قبيحاً فيجازيَكم
حسبما يظهر منك من الأعمال وفيه تأكيدٌ للتسلية وتحقيقٌ للأمر
قيل لعل الإتيانَ بفعل الطمع لعدم الجزمِ منه عليه السلام
بأنهم هم المستخلَفون بأعيانهم أو أولادُهم فقد روي أن مصرَ
إنما فتحت في زمن داودَ عليه السلام ولا يساعده قوله تعالى
وأورثنا القوم الذين يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها فإن
المتبادرَ استخلافُ أنفسِ المستضعفين لا استخلافُ أولادِهم
إنما مجيءُ فعلِ الطمعِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ
(3/263)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{ولقد أخذنا آل فِرْعَوْنَ بالسنين} شروعٌ
في تفصيل مبادي الهلاكِ الموعودِ وإيذانٌ بأنه تعالى لم
يُمهِلْهم بعد ذلك ولم يكونوا في خفْضٍ ودَعَةٍ بل رُتّبت
أسبابُ هلاكِهم فتحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذابُ
الاستئصالِ وتصديرُ الجملة بالقسملإظهار الاعتناءِ بمضمونها
والسنونَ جمعُ سنة والمرادُ بها عامُ القحطِ وفيها لغتانِ
أشهرُهما إجراؤها مُجرى المذكرِ السالمِ فيرفع بالواو ويُنصَب
ويُجرُّ بالياء ويحذف نونُه بالإضافة واللغةُ الثانية إجراءُ
الإعراب على النون ولكن مع الباء خاصةً إما بإثبات تنوينِها أو
بحذفه قال الفراء هي اللغة مصروفة عنج بني عامرٍ وغيرُ مصروفةٍ
عند بني تميم ووجهُ حذف التنوين والتخفيف وحينئذ لا يُحذف
النونُ للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر ... دعانيَ من نجدٍ
فإن سنينَه لعِبْنَ بنا شيباً وشيَّبْننا مُرْدا وجاء اتلحديث
اللهم اجعلْها عليهم سنينَ كسِني يوسُفَ وسنينَ كسنينِ يوسف
باللغتين {وَنَقْصٍ مّن الثمرات} بإصابة العاهات عن كعبيأتي
على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا تمرة قال ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما أما السنونَ فكانت لباديتهم وأهلِ ماشيتِهم
وأما نقصُ الثمرات فكان في أمصارهم {لَعَلَّهُمْ يذكرون} كي
تذكروا ويتعظوا بذلك ويقِفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجر
وأعمالهم عليهِ من العُتوِّ والعِنادِ قال الزجاج إن أحوالَ
(3/263)
الأعراف ى ية 131 132
الشدةِ ترقِّقُ القلوب وترغّب فيما عند الله عوز وجب وفي
الرجوع إليه تعالى ألا يُرى إلى قوله تعالى وغذا مَسَّهُ الشر
فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في لعل وفي
محلسها في تفسيرِ قولِه تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ في أوائل
سورة البقرة وقوله تعالى
(3/264)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ
الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا
طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (131)
{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة} الخ بيانٌ
لعدم تذكّرِهم وتماديهم في الغنى أي فغذا جاءتهم السعةُ
والخِصْبُ وغيرُهما من الخيرات {قَالُواْ لَنَا هذه} أي لأجلنا
واستحقاقِنا لها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} أي جدْبٌ وبلاء
{يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} أي يتشاءموا بهم ويقولوا
ما أصابتنا إلا بشؤمهم وهذا كما ترى شاهدٌ بكمال قساوةِ
قلوبِهم ونهايةِ جهلِهم وغباوتِهم فإن الشدائدَ ترقّقُ القلوبَ
وتُلين العرائِكَ لا سيما بعد مشاهدةِ الآياتِ وقد كانوا بحيث
لم يؤثر فيهم شيءٌ منها بل ازدادوا عتوّاً وعِناداً وتعريفُ
الحسنةِ وذِكرُها بأداة التحقيقِ للإيذان بكثرة وقوعِها وتعلقِ
الإرادةِ بها بالذات كما أن تنكيرَ السيئةِ وإيرادَها بحرف
الشكِّ للإشعار بنُدرة وقوعِها وعدم تعلّقِ الإرادةِ بها إلا
بالعَرَض وقوله تعالى {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله}
استئنافٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لردِّ مقالتِهم الباطلةِ
وتحقيقِ الحقِّ في ذلك وتصديرُه بكلمة التنبيهِ لإبراز كمالِ
العنايةِ بمضمونِه أي ليس سببُ خيرِهم إلا عنده تعالى وهو
حكمُه ومشيئتُه المتضمنةُ للحِكَم والمصالحِ أو ليس سبب شؤمِهم
وهو أعمالُهم السيئةُ إلا عنده تعالى أي مكتوبةٌ لديه فإنها
التي ساقت إليهم ما يسوؤهم لا ما عجاها وقرىء إنما طَيرُهم وهو
اسمٌ جمعُ طائرٍ وقيل جمعٌ له {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ} ذلك فيقولون مكا يقولون مما حُكي عنهم وإسنادُ
عدمِ العلمِ إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون أن ما أصابهم
من الخير والشرِّ من جهة الله تعالى أو يعلمون أن ما أصابهم من
المصائب والبلايا ليس إلا بما كسبتْ أيديهم ولكن لا يعلمون
بمقتضاه عنادا واستكبارا
(3/264)
وَقَالُوا مَهْمَا
تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ
لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
{وقالوا} شرو في بيان بعضٍ آخَرَ مما أُخذ
به آلُ فرعونَ من فنونِ العذابِ التي هي في أنفسها آياتٌ
بيناتٌ وعدمُ ارعوائِهم مع ذلك عمَّا كانوا عليه من الكفر
والعناد أي قالوا بعج مارأوا ما رأوا من شأن العصا والسنينَ
ونقصِ الثمرات {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ} كلمةُ مهما تستعمل
للشرط والجزاءِ وأصلُها ما الجزائية ضُمت إليها ما المزيدةُ
للتأكيد كما ضُمّت إلى أين وإن في أينما تكونوا وإما
نَذْهَبَنَّ بِكَ خلا أن ألِفَ الأولى قُلبت هاءً حذَراً من
تكرير المتجانسين هذا هو الرأيُ السديدُ وقيل مه كلمةٌ يصوِّتُ
بها الناهي ضُمّت إليها ما الشرطيةُ ومحلُّها الرفعُ بالابتداء
أو النصبُ بفعل يفسره ما بعدها أي أيُّ شيءٍ تظهره لدينا وقوله
تعالى {من آية} بيان لمهما وتسميتهم إياها وقوله تعالى
{لّتَسْحَرَنَا بِهَا} إظهار لكما الطغيانِ والغلوّ فيه
وتسميةِ للإرشاد إلى الحق بالسحر وتسكير الأبصار والضميران
المجروران راجعان إلى مهما وتذكيرُ الأولِ لمراعاة جانب اللفظِ
لإبهامه
(3/264)
الأعراف آية 133 134
وتأنيثُ الثاني للمحافظة على جانب المعنى لتنبيه بآية كما في
قوله تعالى مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ
مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ {فَمَا
نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدِّقين لك ومؤمنين لنبوتك
(3/265)
فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ
وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا
وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} عقوبةً
لجرائمهم لا سيما لقولهم هذا {الطوفان} أي الماءَ الذي طاف به
وغشي أما طكنهم وحروثَهم من مطر أو سَيل وقيل هو الجُدَريّ وقي
المَوَتان وقيل الطاعون {والجراد والقمل} قيل هو كبارُ القردان
وقيل أولادُ الجراد قبل نباتِ أجنحتِها {والضفادع والدم} رُوي
أنهم مُطروا ثمانيةَ أيام في ظلمة شديدةٍ لا يستطيع أن يخرُج
أحدٌ من بيته ودخل الماءُ بيوتَهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم
ولم يدخل بيوتَ بني إسرائيلَ منه قطرةٌ وهي في خلال بيوتِهم
وفاض المار على أرشهم وركدَ فمنعَهم من الحرْث والتصرّف ودام
ذلك سبعةَ أيام فقالُوا له عليه الصَّلاةُ والسلام ادعُ لنا
ربك يكشفْ عنا ونحن نؤمنُ بك فدعا فكُشف عنهم فنبت من العشب
والكلأ ما لم يُعهَدْ قبله ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجرادَ
فأكل زروعَهم وثمارَهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابَهم ففزِعوا إليه
عليه الصلاة والسلام لما ذكر فخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو
المشرقِ والمغربِ فرجعت إلى النواحي التي ججاءت منها فلم
يؤمنوا فسلط الله تعالى عليهم القُمّلَ فأكل ما أبقته الجرادُ
وكان يقع في أطعمتهم ويدخُل بين ثيابهم وجلودِهم فيمُصّها
ففزِعوا إليه ثالثاً فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك
ساحرٌ ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوبٌ ولا طعام
إلا وجدت فيه وكانت تمتلىء منها مضاجعُهم وتثب إلى قدورهم وهي
تغلي وإلى أفواههم عند التكلم ففزعوا إليه رابعاً وتضرعوا فأخذ
عليهم العُهود فدعا فكشف الله عنهم فنقضوا العهدَ فأرسل الله
عليهم الدمَ فصارت مياههم دماءً حتى كان يجتمع القِبطيُّ
والإسرائيليُّ على إناء فيكون ما يليه دماً وما يلي
الإسرائيليّ ماءً على حاله ويمص من فم الإسرائيليِّ فيصير دماً
في فيه وقيل سلط الله عليهم الرُّعاف {آيات} حال من المنصوبات
المذكورة {مّفَصَّلاَتٍ} مبينات لا يشكل على عاقل أنَّها آياتُ
الله تعالى ونقمته وقيل مفرقات بعضها من بعض لامتحان أحوالهم
وكان بين كل آيتين منها شهر وكان امتدادج كل واحدة منهخا
أسبوعاً وقيل إنه عليه السلام لبث فيهم بعدَ مَا غلبَ السحرةَ
عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل {فاستكبروا} أي عن الإيمان
بها {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} جملة معترضة مقررة
لمضمون ما قبلها
(3/265)
وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(134)
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} أي
العذاب المذكور على التفصيل فاللامُ للجنس المنتظمِ لكل واحدةٍ
من الآيات المفصلة أي كلما وقع عليهم عقوبةٌ من تلك العقوبات
قالوا في كل مرة {يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ
عِندَكَ} أي بعهده عندك وهو
(3/265)
الأعراف آية 135 137
النبوةُ أو بالذي عهِد إليك أن تدعوَه فيجيبَك كما أجابك في
آياتك وهو صلةٌ لادْعُ أو حالٌ من الضمير فيه بمعنى ادعُ الله
متوسلاً إليه بما عهد عندك أو متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه
التماسُهم مثلُ أسعِفْنا إلى ما نطلب بحق ما عندك أو قسم أجيب
بقوله تعالى {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز} الذي وقع علينا
{لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ولنرسلن معك بني إسرائيل} أي أقسَمْنا
بعهد الله عندك لئن كشف الخ
(3/266)
فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ
يَنْكُثُونَ (135)
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى
أَجَلٍ هُم بالغوه} أي إلى حد الزمان هو بالغوه فمعذوبن بعدجه
أو مُهلَكون {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} جوابُ لمّا أي فلما كشفنا
عنهم فاجئوا النّكْثَ من غير تأمل وتوقف
(3/266)
فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{فانتقمنا مِنْهُمْ} أي فأردنا أن ننتقم
منهم لِما أسلفوا من المعاصي والجرائم فإن قوله تعالى
{فأغرقناهم} عينُ الانتقام منهم فلا يصح دخول الفاء بينهما
ويجوز أن يكون المرادُ مطلقَ الانتقام منهم والفاءُ تفسيرية
كما في قوله تعالى وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ الخ
{فِي اليم} في البحرِ الذي لا يُدرك قعرُه وقيل في لُجّته
{بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
غَافِلِين} تعليلٌ للإغراق أي كان إغراقُهم بسبب تكذيبِهم
بآياتِ الله تعالى وإعراضِهم عنها وعدمِ تفكرِهم فيها بحيث
صاروا كالغافلين عنها بالكلية والفاءُ وإن دلت على ترتب
الإغراقِ على ما قبله من النكْثِ لكنه صرّح بالتعليل إيذاناً
بأن مدارَ جميعِ ذلك تكذيبُ آياتِ الله تعالى والإعراضُ عنها
(3/266)
وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا
صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ
يُسْتَضْعَفُونَ} أي بالاستبعاد وذبحِ الأبناءِ والجمعُ بين
صيغتي الماضي والمستقبلِ للدَلالةِ على استمرار الاستضعافِ
وتجدّدِه وهم بنو إسرائيلَ ذُكروا بهذا العُنوانِ إظهاراً
لكمال لُطفِه تعالى بهم وعظيمِ إحسانِه إليهم في رفعهم من حضيض
المذلةِ إلى أوْج العزى ة {مشارق الارض ومغاربها} أي جانبيها
الشرقيَّ والغربيَّ حيث ملكها بنو إسرائيل بعج الفراعنةِ
والعمالقةِ وتصرّفوا في أكنافها الشرقيةِ والغربية كيف شاءوا
وقوله تعالى {التى بَارَكْنَا فِيهَا} أي بالخِصْب وسَعةِ
الأرزاقِ صفةٌ للمشارق والمغارب وقيل للأرض وفيه ضعفٌ للفصل
بين الصفةِ والموصوفِ بالمعطوف كما في قولك قام أو هند وأبوها
العاقلةُ {وَتَمَّتْ كلمة رَبّكَ الحسنى} وهي وعدُه تعالى
إياهم بالنصر والتمكين كما ينبىء عنه قوله تعالى وَنُرِيدُ أَن
نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض ونحعلهم أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين وقرىء كلماتُ لتعدد المواعيدِ ومعنى
تمت مضَت واستمرت {على بني إسرائيل بِمَا صَبَرُواْ}
(3/266)
أي بسبب صبرِهم على الشدائد التي كابدوها
من جهة فرعونَ وقومِه {وَدَمَّرْنَا} أي خرّبنا وأهلكنا {مَا
كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من العِمارات والقصورِ
أي ودمرنا الي كان فرعونُ يصنعه على أن فرعونَ اسمُ كان ويصنع
خبرٌ مقدمٌ والجملة الكونيةُ صلةُ ما والعائدُ محذوفٌ وقيل
اسمُ كان ضمير عائد إلى ما الموصولةِ ويصنع مُسندٌ إلى فرعون
والجملة خبرُ كان والعائدُ محذوف أيضاً والتقدير ودمرنا الذي
كان هو يصنعُه فرعونُ الخ وقيل كان كان زائدةٌ وما مصدريةٌ
والتقديرُ ما يصنع فرعون الخ وقيل كان زائءدة كما ذكر وما
موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوف تقديره ودمرنا الذي يصنعه فرعون
الخ أي صُنعَه والعدولُ إلى صيغة المضارعِ على هذين القولين
لاستحضار الصورة {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من الجنات أو ما
كانوا يرفعونه من البُنيان كصرح هامانَ وقرىء يعرُشون بضم
الراءِ والكسرُ أفصح وهذا آخِرُ قصةِ فرعونَ وقومه وقوله عز
وجل
(3/267)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي
إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا
إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ (138)
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} شروعٌ في قصة
بني إسرائيلَ وشرحِ ما أحدثوه من الأمور الشنيعةِ بعد أن
أنقذهم الله عزَّ وجلَّ من مَلَكة فرعون ومنّ عليهم من النعم
العظامِ الموجبةِ للشكر وأراهم من الآيات الكبارِ ما تخِرّ له
شمُّ الجبال تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيقاظاً
للمؤمنين حتى لا يغفُلوا عن محاسبة أنفسِهم ومراقبةِ أحوالِهم
وجاوز بمعنى جاز وقرىء جوّزنا بالتشديد وهو أيضاً بمعنى جاز
فعُدّي بالباء أي قطعنا بهم البحر روي أنه عبر بهم مُوسى عليه
السَّلام يوم عاشوراءَ بعد ما أهلكَ الله تعالى فرعون فصاموه
شكراً لله عز وجل {فَاتُواْ} أي مروا {على قَوْمٍ} قيل كانوا
من لَخْمٍ وقيل من العمالقة الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه
السلام بقتالهم {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} أي
يواظبون على عبادتها ويلازمونها وقرىء بكسر الكاف قال ابن جريج
كانت أصنامُهم تماثيلَ بقرٍ وهو أولُ شأن العجل {قَالُواْ}
عندما شاهدوا أحوالهم {يا موسى اجعل لَّنَا إلها} مثالاً نعبده
{كما لهم آلهة} الكافُ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لإلها وما
موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من ما والتقدير هذا إثرَ ما
شاهدوا من الآية الكبرى والمعجزةِ العُظمى فوصفهم بالجهل
المطلقِ إذ لا جهل أعظمُ مما ظهر منهم وأكده بقوله
(3/267)
إِنَّ هَؤُلَاءِ
مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(139)
{إِنَّ هَؤُلآء} يعني القومَ الذين يعبدون
تلك التماثيلَ {مُتَبَّرٌ} أي مُدمّرٌ مكسَّرٌ {مَّا هُمْ
فِيهِ} أي من الدين الباطلِ أي يُتبرّ الله تعالى ويهدِم
دينَهم الذي هم عليه عن قريب ويحطّم أصنامَهم ويتكرها رُضاضاً
وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ للدلالةِ على التحقق {وباطل} أي
مضمحلٌّ بالكلية {ما كانوا يعملون} من عبادتها وإن كان قصدُهم
بذلك التقربِ إلى الله تعالى فإنه كفرٌ محضٌ وليس هذا كما في
قوله تعالى وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً كما تُوهم فإن المرادَ به
أعمالُ البر التي عملوها في الجاهلية فإنها في أنفسها حسنات
(3/267)
الأعراف آية 140 142
لو قارنت الإيمانَ لاستتبعت أجورَها وإنما بطَلت لمقارنتها
الكفرَ وفي إيقاع هؤلاءِ اسماً لإن وتقديمِ الخبر من الجملةِ
الواقعةِ خبراً لها وسْمٌ لعبدة الأصنامِ بأنهم هم المُعرَّضون
للتبار وأنه لا يعدوهم البتةَ وأنه لهم ضربةُ لازبٍ ليحذّرهم
عاقبةَ ما طلبوا ويُبغِضَ إليهم ما أحبوا
(3/268)
قَالَ أَغَيْرَ
اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (140)
{قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها}
شروعٌ في بيانِ شئون الله تعالى الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ
تعالى بعد بيانِ أن ما طلبوا عبادتَه مما لا يمكن طلبُه أصلاً
لكونه هالكاً باطلاً ولذلك وسّط بينهما قال مع كونِ كلَ منهما
كلام موسى عليه الصلاة والسلام والاستفهامُ للإنكار والتعجب
والتوبيخِ وإدخالُ الهمزةِ على غير للإيذان بأن المنكو هو كونُ
المبْغيِّ غيرَه تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى
دون إنكارِ الاختصاصِ بغيره تعالى وانتصابُ غير على أنه مفعولُ
أبغي بحذف اللام أي أبغي لكم أي أطلب لكم غيرَ الله تعالى
وإلها إما تمييزا أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعولُ
لأبغي على أن الأصلَ أبغي لكم إلها غيرَ الله فغيرَ الله صفةٌ
لإلها فلما قُدّمت صفةُ النكرةِ انتصبت حالاً {وَهُوَ
فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} أي والحالُ أنَّه تعالى خصكم
بنعمٍ لم يُعطِها غيرَكم وفيه تنبيهٌ على ما صنعوا من سوء
المعاملةِ حيث قابلوا تخصيصَ الله تعالى إياهم من بين أمثالِهم
بما لم يستحقوه تفضلا بأن عمجوا إلى أخسّ شيءٍ من مخلوقاته
فجعلوه شريكاً له تعالى تباً لهم ولما يعبدون
(3/268)
وَإِذْ
أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
(141)
{وإذ نجيناكم} تذكيرٌ لهم من جهته سبحانه
بنعمة الإنجاءِ من ملكة فرعون وقرىء نجيناكم من التنجية وقرىء
أنجاكم فيكون مَسوقاً من جهة موسى عليه الصلاة والسلام أي
واذكروا وقت إنجائِنا إياكم {من آل فرعون} من ملَكتهم لا بمجرد
تخليصِكم من أيديهم وهم على حالهم في المَكِنة والقدرة بل
بإهلاكهم بالكلية وقوله تعالى {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} من
سامه خسفاً أي أولاه إياه وكلفه غياه وهو إما استئنافٌ لبيان
ما أنجاهم منه أو حال منن المخاطَبين أو من آلِ فرعونَ أو
منهما معاً لاشتمالِه على ضميريِهما وقوله تعالى {يُقَتّلُونَ
أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} بدلٌ من يسومونكم
مُبين أو مفسّرٌ له {وَفِى ذلكم} الإنجاءِ أو سوءِ العذاب
{بَلاءٌ} أي نعمةٌ أو محنة {مّن رَّبّكُمْ} من مالك أمرِكم فإن
النعمةَ والنقِمةَ كلتاهما منه سبحانه وتعالى {عظِيمٌ} لا
يقادَر قدرُه
(3/268)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى
ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ
مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى
لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً} رُوي أن
موسى عليه السلام وعد بني إسرائيلَ وهم بمصرَ إن أهلك الله
عجوهم أتاهم بكتاب فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون فلما هلك
فرعونُ سأل موسى عليه السلام ربه الكتابَ فأمره بصومِ ثلاثين
يوماً وهو شهرُ ذي القَعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خُلوفَ فيه
فتسوّك
(3/268)
الأعراف آية 143
فقالت الملائكةُ كنا نشم من فيك رائحةَ المسك فأفسدته بالسواك
وقيل أوحى الله تعالى إليه أما علمتَ أن ريحَ فمِ الصائمِ
أطيبُ عندي من ريح المِسْك فأمره الله تعالى بأن يزظيد عليها
عشرةَ أيامٍ من ذي الحِجّة لذلك وذلك قوله تعالى
{وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} والتعبير عنها بالليالي لأنها
غُررُ الشهور وقيل أمره الله تعالى بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن
يعمل فيها بما يقرّبه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراةُ في
العشر وكلم فيها وقد أُجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصل
ههنا وواعدنا بمعنى وعدْنا وقد قرىء كذلك وقيل الصيغةُ على
بابها بناءً على تنزيل قَبول موسى عليه السلام منزلةَ الوعدِ
وثلاثين مفعولٌ ثانٍ لواعدنا بحذف المضاف أي إنما ثلاثين ليلةً
{فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي بالغا أربعين
ليلة {وَقَالَ موسى لاِخِيهِ هارون} حين توجه إلى المناجاة
حسبما أُمر به {اخلفنى} أي كن خليفتي {فِى قَوْمِى} وراقِبْهم
فيما يأتُون وما يَذَرُون {وَأَصْلِحْ} ما يحتاج إلى الإصلاح
من أمورهم أو كن مصلحاً {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} أي
لا تتبع مَنْ سلك الإفسادَ ولا تُطِعْ من دعاك إليه
(3/269)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى
لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى
الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ
مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ
إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} لوقتنا الذي
وقتنا واللامُ للاختصاص أي اختَصَّ مجيئُه بميقاتنا
{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من غير واسطةٍ كما يكلِّمُ الملائكةَ
عليهم السَّلامُ وفيما روي أنه عليه الصلاةُ والسلام كان يسمع
ذلك من كل جهةٍ تنبيهٌ على أن سماع كلامه عزَّ وجلَّ ليس من
جنس سماعِ كلام المحدّثين {قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ
إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك أو تتجلى لي
فأنظرَ إليك وأراك وهو دليلٌ على أن رؤيتَه تعالى جائزةٌ في
الجملة لما أن طلبَ المستحيلِ مستحيلٌ من الأنبياء لا سيما ما
يقتضي الجهل بشئون الله تعالى ولذلك رده بقوله تعالى لن تراني
دون لن أرى ولن أُرِيَك ولن تنظُرَ إليّ تنبيهاً على أنه قاصرٌ
عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه ذلك بعد وجعل
الؤال لتبكيت قومِه الذين قالوا أرنا الله جهرةً خطأٌ إذ لو
كانت الرؤيةُ ممتنعةً لوجب أن يُجهِّلَهم ويُزيحَ شبهتَهم كما
فعل ذلك حين قالوا اجعل لَّنَا إلها وأن لا يتبعَ سبيلَهم كما
قال لأخيه ولا تتبعْ سبيلَ المفسدين والاستدلالُ بالجواب على
استحالتها أشدُّ خطأً إذ لا يدل الإخبارُ بعدم رؤيتِه إياه على
أنه لا يراه ابدا وأن لا يراه غيرُه أصلاً فضلاً عن أن يدل على
استحالتها ودعوى الضرورةِ مكابرة أو جهل لحقيقة الرؤية {قَالَ}
استئنافٌ مبني على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيلَ فماذَا
قالَ ربُّ العزة حين قال موسى عليه السلام ما قل فقيل قال {لَن
تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ
مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} استدراكٌ لبيان أنه لا يُطيق بها
وفي تعليقها باستقرار الجيل أيضاً دليلٌ على الجواز ضرورةَ أن
المعلَّق بالممكن ممكنٌ والجبلُ قيل هو جبل أردن {فَلَمَّا
تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي ظهرت له عظمتُه وتصدّى له
اقتدارُه وأمرُه وقيل أُعطي الجبلُ حياةً ورؤيةً حتى رآه
{جَعَلَهُ دَكّا} مدكوكاً مُفتّتاً والدكُّ والدقُّ أخَوَان
كالشك والشق
(3/269)
الأعراف آية 144 145
وقرىء دَكَّاء أي أرضاً مستويةً ومنه ناقةٌ دكاءُ للتي لا
سنامَ لها وقرىء دُكاً جمعُ دكّاءَ أي قطعاً {وخر موسى صعقا}
منغشيل عليه من هول ما رآه {فَلَمَّا أَفَاقَ} الإفاقةُ رجوعُ
العقلِ والفهم إلى الإنسان بعد ذهابِهما بسبب من الأسباب
{قَالَ} تعظيماً لما شاهدجه {سبحانك} أي تنزيهاً لك من أن
أسألك شيئاً بغير إذنٍ منك {تُبْتُ إِلَيْكَ} أي من الجراءة
والإقدامِ على السؤال بغير إذن {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} أي
بعظمتك وجلالِك وقيل أولُ من آمن بأنك لا تُرى في الدنيا وقيل
بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك
(3/270)
قَالَ يَا مُوسَى
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي
وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(144)
{قَالَ يَا موسى} استئنافٌ مسوق لتسليته
عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابةِ إلى سؤال الرؤيةِ كأنه
قيل إن منعتُك الرؤيةَ فقد أعطيتك من النعم العظامِ ما لم
أعْطِ أحداً من العالمين فاغتنِمْها وثابرْ على شكرها {إِنْى
اصطفيتك} أي اخترتُك واتخذتُك صفوةً وآثرتُك {عَلَى الناس} أي
المعاصرين لك وهرون إن كان نبياً كان مأموراً باتباعه وما كان
كَليماً ولا صاحبَ شرعٍ {برسالاتي} أي بأسفار التوراةِ وقرىء
برسالتي {وبكلامي} وبتكليمي أياك بغير واسطة {فَخُذْ مَا
آتيتك} أي أعطيتك من شرف النبوةِ والحكمة {وَكُنْ مّنَ
الشاكرين} على ما أُعطيت من جلائل النعمِ قيل كان سؤالُ
الرؤيةِ يوم عرفةَ وإعطاءُ التوراةِ يومَ النحر
(3/270)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي
الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا
لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ
يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
(145)
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلّ
شَىْء} أي مما يحتاجونَ إليهِ من أمورِ دينِهم {مَّوْعِظَةً
وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} بدلٌ من الجارّ والمجرور أي كتبنا
له كلَّ شيءٍ من المواعظ وتفصيلِ الأحكام واختُلف في عدد
الألواحِ وفي جوهرها ومقدارِها فقيل إنها كانت عشَرةَ ألواحٍ
وقيل سبعةً وقيل لوحين وأنها كانت من زمردة جاء بها جبريلُ
عليه السَّلامُ وقيل من زَبَرْجَدةٍ خضراءَ أو ياقوتةٍ حمراءَ
وقيل أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها
بيده وضققها بأصابعه وعن الحسنِ رضيَ الله عنه كانت من خشب
نزلت من السماء فيها التوراةُ وأن طولَها كان عشَرةَ أذرُع
وقيل أُنزلت التوراةُ وهي سبعون وِقْرَ بعيرٍ يقر الجزءُ منه
في سنة لم يقرأها إلا أربعةُ نفرٍ موسى ويوشعُ وعُزيرٌ وعيسى
عليهم السلام وعن مقاتل رضي اللعه عنه كُتب في الألواح إني أنا
الله الرحمن الرحيم لا تشرِكوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيلَ
ولا تزْنوا ولا تعقُّوا الوالدين {فَخُذْهَا} على إضمار قولٍ
معطوف على كتبنا فقلنا خذها {بِقُوَّةٍ} بجدَ وعزيمة وقيلَ هو
بدلٌ من قوله تعالى فَخُذْ ما آتيتك والضمير للألوالح أو لكل
شيءٍ لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة {وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي بأحسنِ ما فيها كالعفو
والصبر بالإضافة إلى الاقتصاص والانتصارِ على طريقة الندبِ
والحثِّ على اختيار الأفضل كما في قوله تعالى واتبعوا أَحْسَنَ
مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ أو بواجباتها فإنها
(3/270)
الأعراف آية 146
أحسنُ من المباح وقيل المعنى بأخذوا بها وأحسن صلةٌ قال قُطرُب
أي بحسَنها وكلُّها حسنٌ كقوله تعالى وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ
وقيل هو أن تُحمل الكلمةُ المحتملةُ لمعنيين أو لمعان على أشبه
محتملانها بالحق وأقربِها إلى الصواب {سأريكم دَارَ الفاسقين}
تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
بطريق الالتفاتِ حملاً لهم على الجد في الامتثال بما أُمروا به
إما على نهج الوعيدِ والترهيب على أن المرادَ بدار الفاسقين
أرضَ مصرَ وديارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم فإن رؤيتها وهي
الخالية عن أهلها خاويةٌ على عروشها موجبةٌ للاعتبار
والانزجارِ عن مثل أعمالِ أهلِها كيلا يحِلَّ بهم ما حل بأولئك
وإما على نهج الوعدِ والترغيبِ على أن المرادَ بدار الفاسقين
إما أرضُ مصرَ خاصةً أو مع أرض الجبابرةِ والعمالقةِ بالشام
فإنها أيضاً مما أتيح لبني إسرائيلَ وكُتب لهم حسبما ينطِق به
قوله عز وجل يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ومعنى الإراءةِ الإدخالُ بطريق الإيراثِ
ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ سأوُرثكم بالثاء المثلثة كما في قوله
تعالى وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ
مشارق الارض ومغاربها وقرىء سأُوريكم ولعله من أورَيْتُ الزند
أي سأبينها لكم وقوله تعالى
(3/271)
سَأَصْرِفُ عَنْ
آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
غَافِلِينَ (146)
{سأصرف عن آياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي
الارض} استئنافٌ مَسوقٌ لتحذيرهم عن التكبر الموجبِ لعدم
التفكرِ في الآيات التي هي ما كتب في ألواح التوراةِ من
المواعظ والأحكامِ أو ما يعمُّها وغيرَها من الآيات التكوينيةِ
التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين ومعنى صرفِهم
عنها الطبعُ على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا
يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله
تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وتقديمُ
الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ
بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع كول يُخلُّ
تقديمُه بتجاوب أطراف النظمِ الجليلِ أي سأطبع على قلوب الذين
يعدّون أنفسَهم كُبراءَ ويرَوْن لهم على الخلق مزِيةً وفضلاً
فلا ينتفعون بآياتي التنزيليةِ والتكوينيةِ ولا يغتنمون مغانمَ
آثارِها فلا تسلُكوا مسلكَهم لتكونوا أمثالهم وقيل المعنى
سأصرِفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعونُ في إبطال ما
رآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاقَ الحقِّ وإزهاقَ
الباطل وعلى هذا فالأنسبُ أن يُرادَ بدار الفاسقين أرضُ
الجبابرةِ والعمالقة والمشهورين بالفسق والتكبر في الأرض
ووبإراءتها للمخاطَبين إدخالُهم الشامَ وإسكانُهم في مساكنهم
ومنازلِهم حسبما نطق به قوله تعالى يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ
المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ويكون قولُه
تعالى سَأَصْرِفُ عَنْ آياتي الخ جواباً عن سؤال مقدَّرٍ
ناشىءٍ من الوعد بإدخال الشامِ على أن المرادَ بالآيات ما تُلي
آنفاً ونظائرُه وبصرفهم عنها إزالتُهم عن مَقام معارضتِها
وممانعتِها لوقوع أخبارِها وظهور أحكامِها وآثارِها بإهلاكهم
على يد موسى عليه الصلاةُ والسلامُ حين سار بعد التّيهِ بمن
بقيَ من بني إسرائيل
(3/271)
الأعراف آية 147 148
أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشعُ بنُ نونٍ
في مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيلَ بالشام وملكوا مشارقَها
ومغاربَها كأنه قيل كيف يرون دارهم وهم فيها فقيل سأُهلِكُهم
وإنما عدل إلى الصَرْف ليزدادوا ثقةً بالآيات واطمئناناً بها
وقوله تعالى {بِغَيْرِ الحق} إما صلةٌ للتكبر أي يتكبرون بما
ليس بحق وهو دينُهم الباطلُ وظلمُهم المُفْرِطُ أو متعلقٌ
بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وقوله
تعالى {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} عطفٌ
على يتكبرون داخلٌ معه في حكم الصلة والمراد بالآية إما منزلة
فالمرادُ برؤيتها مشاهدتُها بسماعها أو ما يعمُّها وغيرَها من
المعجزات فالمرادُ برؤيتها مطلقُ المشاهَدةِ المنتظمةِ للسماع
والإبصار أي وإن يشاهِدوا كُلَّ آيَةٍ من الآيات لاَّ
يُؤْمِنُواْ بِهَا على عمومِ النفي لا على نفي العُموم أي
كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائِهم إياها كما هي وهذا كما
ترى يؤيد كونَ الصرفِ بمعنى الطبع وقوله تعالى {وإن يروا
سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} عطفٌ على ما قبله
داخلٌ في حُكمهِ أيْ لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلُكون سبيله
أصلاً لاستيلاء الشيطنةِ عليهم ومطبوعتهم على الانحراف والزيغ
وقرىء بفتحتين وقرىء الرشادِ وثلاثتُها لغات كالسقم والسقم
والسقام {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}
أي يختارونه لأنفسهم مسلَكاً مستمراً لا يكادون يعدِلون عنه
لموافقته لأهوائهم الباطلةِ وإفضائه بهم إلى شهواتهم {ذلك}
إشارة إلى ما ذكر من تكبُّرهم وعدمِ إيمانهم بشي من الآيات
وإعراضِهم عن سبيل الرشدِ وإقبالِهم التامّ إلى سبيل الغيِّ
وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّهُمْ} أي حاصلٌ بسبب
أنهم {كذبوا بآياتنا} الدالةِ على بطلان ما اتصفوا به من
القبائح وعلى حقية أضدادِها {وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين} لا
يتفكرون فيها وإلا لما فعلُوا ما فعلُوا من الأباطيل ويجوز أن
يكون إشارة إلى ما ذكر من الصرف ولا يمنعُه الإشعارُ بعلية مَا
في حيزِ الصلةِ كيف لا وقد مر أن ذلك في قولِه تعالَى ذلك
بِمَا عَصَواْ الآية يجوزُ أن يكون إشارةً إلى ضرب الذِلة
والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيمِ مع كون ذلك معللا بالكفر
بآيان الله صريحاً وقيل محلُّ اسمِ الإشارةِ النصبُ على المصدر
أي سأصرفهم ذلك الصَّرْفَ بسبب تكذيبِهم بآياتنا وغفلنتهم عنها
(3/272)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
{والذين كذبوا بآياتنا وَلِقَاء الاخرة} أي
وبلقائهم الدارَ الآخرةَ أو لقائهم ما وعده الله تعالى في
الآخرة من الجزاء ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداءِ وقولُه
تعالَى {حَبِطَتْ أعمالهم} خبرُه أي ظهر بُطلانُ أعمالِهم التي
كانوا عمِلوها من صلة الأرحامِ وإغاثةِ الملهوفين ونحوِ ذلك أو
حبطت أعمالهم بعد ما كانت مرجُوَّةَ النفعِ على تقدير إيمانهم
بها {هَلْ يُجْزَوْنَ} أي لا يُجزون {إِلاَّ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ} أي الإجزاءَ ما كانوا يعملونه من الكفر والمعاصي
(3/272)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ
خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا
يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
{واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ} أي من
بعد ذهابِه إلى الطور {مِنْ حُلِيّهِمْ} متعلقٌ باتخذ كالجارِّ
الأول لاختلاف معنييهما فإن الأول للابتداء
(3/272)
العراف آية 149
والثاني للتبعيض أو للبيان أو الثاني متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ
حالاً مما بعده إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وإضافةُ الحُلِيِّ
إليهم مع أنها كانت للقِبْط لأدنى الملابسة حيث كانوا
استعاروها من أربابها قُبيل الغرقِ فبقِيَتْ في أيديهم وأما
أنهم ملكوها بعد الغرقِ فذلك منوطٌ بتملك بني إسرائيلَ غنائمَ
القِبطِ وهم مستأمَنون فيما بينهم فلا يساعده قولُهم حُمّلْنَا
أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم والحلي بضم الحاء وكسر اللام
جمعُ حَلْيٍ كثَدْيٍ وثُدِيّ وقرىء بكسر الحاء بالإتباع كدِليّ
وقرىء حَلْيِهم على الإفراد وقوله تعالى {عِجْلاً} مفعولُ اتخذ
أُخِّر عن المجرور لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى
المؤخر مع ما فيه من نوع طول يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ
النظمِ الكريم وقيل هو متعدَ إلى اثنين بمعنى التصيير والمفعول
الثاني محذوفٌ أي إلها وقوله تعالى {جَسَداً} بدلٌ من عجلا أو
جُثةً ذا دمٍ ولحمٍ أو جسداً من ذهب لا روحَ معه وقوله تعالى
{لَّهُ خُوَارٌ} أي صوتُ بقر وقرىء بالجيم والهمزة وهو الصياح
نعتٌ لعجلاً روي أن السامريَّ لما صاغ العجلَ ألقى في فمه
تراباً من أثر فرسِ جبريل عليه الصلاةُ والسلامُ وقد كان أخذه
عند فلْقِ البحر أو عند توجُّهِه إلى الطور فصار حيّاً وقيل
صاغه بنوع من الحيل فيدخُلُ الريحُ في جوفه فيصوِّت والأنسبُ
بما في سورة طه هو الأولُ وإنما نُسبَ اتخاذُه إليهم وهو فعلُه
إما لأنه واحد منهم وإما لأنهم رضُوا به فكأنهم فعلوه وإما لأن
المرادَ بالاتخاذ اتخاذُهم إياه إلها لا صنعُه وإحداثُه
{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ
لتقريعهم وتشنيعِهم وتركيكِ عقولِهم وتسفيهِهم فيما أقدموا
عليه من المنكر الذي هو اتخاذُه إلها أي ألم يرَوا أنه ليس فيه
شيءٌ من أحكام الألوهية حيث لا يكلمهم {وَلاَ يَهْدِيهِمْ
سَبِيلاً} بوجه من الوجوه فكيف اتخذوه إلها وقوله تعالى
{فاتخذوه} أي فعلوا ذلك {وَكَانُواْ ظالمين} أي واضعين للأشياء
في غير موضعِها فلم يكن هذا أولَ منكرٍ فعلوه والجملةُ اعتراضٌ
تذييليٌّ وتكريرٌ اتخذوه لتثنية التشنيعِ وترتيبِ الاعتراض
عليه
(3/273)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ
لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (149)
{وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ} أي
ندموا غايةَ الندمِ فإن ذلك كنايةٌ عنه لأن النادمَ المتحسِّرَ
يعَضُّ يدَه غماً فتصير يدُه مسقوطاً فيها وقرىء سقَطَ على
البناء للفاعل بمعنى وقع العضُّ فيها فاليدُ حقيقةٌ وقال
الزجاج معناه سقَط الندمُ في أنفسهم إما بطريق الاستعارةِ
بالكناية أو بطريق التمثيل {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ
ضَلُّواْ} باتخاذ العجلِ أي تبيّنوا بحيث تيقنوا بذلك حتى
كأنهم رأَوْه بأعينهم وتقديمُ ذكرِ ندمِهم على هذه الرؤيةِ مع
كونه متأخرا عنها للمساعرة إلى بيانه والإشعارِ بغاية سُرعتِه
كأنه سابقٌ على الرؤية {قَالُواْ} والله {لَئِن لَّمْ
يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بإنزال التوبةِ المكفرة {وَيَغْفِرْ
لَنَا} ذنوبَنا بالتجاوز عن خطيئتنا وتقديمُ الرحمةِ على
المغفرة مع أن التخليةَ حقُّها أن تُقدَّم على التحلية إما
للمسارعة إلى ما هو المقصودُ الأصليّ وإما لأن المرادَ بالرحمة
مطلقُ إرادةِ الخير بهم وهو مبدأٌ لإنزال التوبةِ المكفرة
لذنوبهم واللامُ في لئن موطئةٌ للقسم كما أشير إليه وفي قوله
تعالى {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} لجواب القسمِ وما حُكي
عنهم من الندامة والرؤية والقولِ وإن كان بعد
(3/273)
الأعراف آية 150
ما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم كما ينطِق به الآياتُ
الواردة في سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكايةُ ما صدرَ
عنهُم من القول والفعلِ في موضع واحد
(3/274)
وَلَمَّا رَجَعَ
مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ
إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ
وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} شروعٌ
في بيان ما جرى مِن موسى عليه السَّلام بعد رجوعِه من الميقات
إثرَ بيانِ ما وقع من قومه بعده وقولُه تعالى {غضبان أَسِفًا}
حالان مِن مُوسى عليه السَّلام أو الثاني من المستكنّ في
غضبانَ والآسِفُ الشديدُ الغضبِ وقيل الحزين {قَالَ بِئْسَمَا
خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} أي بئسما فعلتم من بعد غَيْبتي
حيث عبدتم العجلَ بعد ما رأيتم فعلي من توحيد الله تعالى ونفيِ
الشركاءِ عنه وإخلاصِ العبادةِ له أو من حملكم على ذلك وكفِّكم
عما طمَحَت نحوه أبصارُكم حيث قلتم اجعلْ لنا إلها كما لهم
آلهةٌ ومن حق الهلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلِفِ فالخطابُ
للعبَدَة من السامريِّ وأشياعِه أو بئسما قمتم مقامي ولم
تراعوا عهدي حيث لم تكفوا العبَدَةَ عما فعلوا فالخطابُ لهرون
وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ كما ينبىء عنه قوله تعالى قال يا
هرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَن لا
تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ
للكل على أن المرادَ بالخليفة ما يعم الأمرين المذكورين وما
نكرةٌ موصوفةٌ مفسِّرةٌ لفاعل بئس المستكنِّ فيه والمخصوصُ
بالذم مححذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونبها من بعدي خلافتُكم
{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} أي تركتموه غيرَ تام على تضمين
عجِلَ معنى سبَق يقال عجِل عن الأمر إذا تركه غيرَ تام أو
أعجِلتم وعدَ ربِّكم الذي وعدجنيه من الأربعين وقدّرتم موتي
وغيّرتم بعدي كما غيرت الأممُ بعد أنبيائِهم {وَأَلْقَى
الألواح} طرحا من شدة الغضبِ وفرطِ الضجر حميةً للدين روي أن
التوراةَ كانت سبعةَ أسباعٍ في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت
فرفعت ستةُ أسباعِها التي كان فيها تفصيلُ كلِّ شيءٍ وبقي
سُبعٌ كان فيه المواعظ والأحكان {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ}
بشعر رأسِه عليهما السلام {يَجُرُّهُ إليه} حال من ضمير أخذ
فعلَه عليه السلام توهما أنه قصّر في كفهم وهرون كان أكبرَ منه
عليهما السلام بثلاث سنينَ وكان حَمولاً ولذلك كان أحبَّ إلى
بني إسرائيل {قَالَ} أي هرون لما أن حقّ الأمِّ أعظمُ وأحقُّ
بالمراعاة مع أنها كانت مؤمنةً وقد قاست فيه المخاوفَ والشدائد
وقرىء بكسر الميم بإسقاط الياءِ تخفيفا كالمنادى المضاف إلى
الياء وقراءةُ الفتح لزيادة التخفيف أو لتشبيهه بخمسةَ عشرَ
{إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} إزاحةً
لتوهم التقصيرِ في حقه والمعنى بذلتُ جُهدي في كفهم حتى قهروني
واستضعفوني وقاربوا قتلي {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} أي فلا
تفعلْ بي ما يكون سبباً لشماتتهم بي {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ
القوم الظالمين} أي معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى
التقصير وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ للكل أولا تعتقد أني واحدٌ
من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم
(3/274)
الأعراف آية 151 152
(3/275)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ (151)
{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من
حكايةِ اعتذار هرون عليه السلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ موسى
عند ذلكَ فقيل قال {رَبّ اغفر لِى} أي ما فعلتُ بأخي من غير
ذنبٍ مقرِّرٍ من قِبَله {وَلأَخِى} إن فرَطَ منه تقصيرٌ ما في
كفهم عما فعلوه من العظيمة استغفرَ عليه السلام لنفسه ليُرضِيَ
أخاه ويُظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتُهم به ولأخيه
للإيذان بأنه محتاجٌ إلى الاستغفار حيث كان يجبُ عليه أنْ
يقاتلَهم {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد الإنعامِ بعد
غُفران ما سلف منا {وَأَنتَ أرحم الراحمين} فلا غَرْوَ في
انتظامنا في سلك رحمتِك الواسعةِ في الدنيا والآخرة والجملةُ
اعتراض تذييلي مقرر لما قبله
(3/275)
إِنَّ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ (152)
{إِنَّ الذين اتخذوا العجل} أي تمّوا على
اتخاذه واستمروا على عبادته كالسامريِّ وأشياعِه من الذين
أُشربوه في قلوبهم كما يُفصح عنه كونُ الموصولِ الثاني عبارةً
عن التائبين فإن ذلك صريحٌ في أن الموصولَ الأولَ عبارةٌ عن
المصِرّين {سَيَنَالُهُمْ} أي في الآخرة {غَضَبٌ} أي عظيمٌ لا
يُقادرُ قدرُه مستتبِعٌ لفنون العقوباتِ لما أن جريمتَهم أعظمُ
الجرائم وأقبحُ الجرائر وقولُه تعالى {مّن رَّبّهِمُ} أي
مالكِهم متعلقٌ بينا لهم أو بمحذوف هو نعتٌ لغضبٍ مؤكِّدٌ لما
أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي
كائنٌ من ربهم {وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا} هي ذلةُ
الاغترابِ التي تُضرب بها الأمثال والمسكنة المتنظمة لهم
ولأولادهم جميعاً والذلةُ التي اختص بها السامريُّ من الانفراد
عن الناس والابتلاء بلا مِساس يروى أن بقاياهم اليومَ يقولون
ذلك وإذا مس أحدَهم أحدٌ غيرُهم حُمّاً جميعاً في الوقت
وإيرادُ ما نالهم في حيز السين مع مُضِيِّه بطريق تغليب حالِ
الأخلافِ على حال الأسلاف وقيل المرادُ بهم التائبون وبالغضب
ما أُمروا به من قتل أنفسِهم واعتُذر عن السين بأن ذلك حكايةٌ
عما أخبر الله تعالى به موسَى عليهِ السلامُ حين أخبره بافتتان
قومِه واتخاذِهم العجلَ بأنه سينالهم غضبٌ من ربهم وذلةٌ فيكون
سابقاً على الغضب وأنت خبيرٌ بأن سباقَ النظم الكريم وسياقَه
نابيان عن ذلك نُبوّاً ظاهراً كيف لا وقوله تعالى {وكذلك
نَجْزِى المفترين} ينادي على خلافه فإنهم شهداءُ تائبون فكيف
يمكن وصفهم بعج ذلك بالافتراء وأيضاً ليس يجزي الله تعالى كلَّ
المفترين بهذا الجزاءِ الذي ظاهرُه قهرٌ وباطنُه لطفٌ ورحمة
وقيل المرادُ بهم أبناؤهم المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فإن تعييرَ الأبناءِ بأفاعيلِ الآباء مشهورٌ معروفٌ منه
قولُه تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا الآية وقولُه تعالى وإذ
قلتم يا موسى الآية والمرادُ بالغضب الغضبُ الأخرويُّ وبالذلة
ما أصابهم من القتل والإجلاءِ وضربِ الجزية عليهم وقيل المرادُ
بالموصول المتّخِذون حقيقةً وبالضمير في ينالُهم أخلافُهم ولا
ريب في أن توسيطَ حالِ هؤلاء في تضاعيف بيانِ حالِ المتخِذين
من قبيل الفصل بين الشجر ولِحائه
(3/275)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
{والذين عَمِلُواْ السيئات} أيَّ سيئة كانت
(3/275)
الأعراف آية 153 155
{ثُمَّ تَابُواْ} عن تلك السيئات {مِن بَعْدِهَا} أي من بعد
عملها {وآمنوا} إيماناً صحيحاً خالصاً واشتغلوا بإقامة ما هو
من مقتضياته من الأعمال الصالحةِ ولم يُصروا على ما فعلوا
كالطائفة الأولى {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي من بعد تلك
التوبةِ المقرونةِ بالإيمان {لَغَفُورٌ} للذنوب إن عظُمت
وكثُرت {رَّحِيمٌ} مبالِغٌ في إفاضةِ فنونِ الرحمةِ الدنيويةِ
والأخروية والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره
عليه السلام للتشريف
(3/276)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} شروعٌ
في بيان بقية الحكاية غثر ما بيّن تحزب القوم إلى مصر وتائب
والإشارةِ إلى مآل كلَ منهما إجمالاً أي لما سكن عنه الغضبُ
باعتذار أخيه وتوبةِ القوم وهذا صريحٌ في أنَّ ما حُكي عنهم من
الندم وما يتفرّع عليه كان بعد مجىء موسى عليه الصلاة والسلام
وفي هذا النظم الكريمِ من البلاغة والمبالغةِ بتنزيل الغضبِ
الحاملِ له عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ من الفعل والقول منزلةَ
الآمرِ بذلك المُغري عليه بالتحكم والتشديد والتعبير عن شكوته
بالسكوت ما لا يخفى وقرىء سَكَن وسكَت وأسكتَ على أن الفاعل هو
الله تعالى أو أخوه أو التائبون {أَخَذَ الالواح} التي ألقاها
{وَفِى نُسْخَتِهَا} أي فيما نُسخ فيها وكُتب فُعلة بمعنى
مفعول كالخُطبة وقيل فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة
{وهدى} أي بيانٌ للحق {وَرَحْمَةً} للخلق بإرشادهم إلى ما فيه
الخيرُ والصلاح {لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ}
اللامُ الأولى متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرحمة أي كائنةٌ لهم أو
هي لامُ الأجَل أي هدى ورحمةٌ لأجلِهم والثانيةُ لتقوية عمل
الفعلِ المؤخّر كما في قوله تعالى إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا
تَعْبُرُونَ أو هي أيضاً لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي
يرهبون المعاصيَ لأجل ربهم لا للرياء والسمعة
(3/276)
وَاخْتَارَ مُوسَى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا
فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ
تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْغَافِرِينَ (155)
{واختار موسى قَوْمَهُ} شروعٌ في بيانِ
كيفيةِ استدعاءِ التوبةِ وكيفية وقوعِها واختار يتعدّى إلى
اثنين ثانيهما مجرورٌ بمن أي اختار من قومه بحذفِ الجارِّ
وإيصالِ الفعلِ إلى المجرور كما قوله ... اختارك الناسَ إذْ
رثت خلائقهم واعتنل مَنْ كان يُرجَى عنده السُّولُ أي اختارك
من الناس {سَبْعِينَ رَجُلاً} مفعولٌ لاختار أُخِّر عن الثاني
لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر
{لميقاتنا} الذي وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقاتِ
الكلام الذي ذكر
(3/276)
الأعراف آية 155
قبل ذلك كما قيل قال السدي أمره الله تعالى بأن يأتيَه في ناس
من بني إسرائيلَ يعتذرون إليه تعالى من عبادة العجلِ ووعدهم
موعداً فاختار عليه السلام من قومه سبعين رجلاً وقال محمد بن
إسحق اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبةَ
على من ترطكوهم وراءهم من قومهم قالوا اختار عليه الصلاة
والسلام من كل سِبطٍ ستةً فزاد اثنانِ فقال ليتخَلَّفْ منكم
رجلان فتشاحّوا فقال عليه الصلاة والسلام إن لمن قعد مثلَ أجرِ
من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا
ويتطهروا ويُطهِّروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنَوا
من الجبل غشية غمانم فدخل موسى بهم الغمامَ وخرّوا سُجّداً
فسمِعوه تعالى يكلم موسى يأمرُه وينهاه حسبما يشاءُ وهو الأمرُ
بقتل أنفسِهم توبةً {فَلَمَّا أخذتهم الرجفة} مما اجترءوا عليه
من طلب الرؤيةِ فإنه يروى أنه لما انكشف الغمامُ أقبلوا إلى
مُوسى عليهِ السَّلامُ وقالُوا لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرة
فأخذتهم الرجفةُ أي الصاعقةُ أو رجفةُ الجبل فصُعِقوا منها أي
ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم لن نؤمنَ لك لن نصدِّقك في أن
الآمر بما سمعنا من الأمرَ بقتل أنفسِهم هو الله تعالى حتى
نراه حيث قاسوا رؤيتَه تعالى على سماع كلامِه قياساً فاسداً
فحين شاهد موسى تلك الحالةَ الهائلة {قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ} أي حين فرّطوا في النهي عن عبادة
العجلِ وما فارقوا عبَدَتَه حين شاهدوا إصرارَهم عليها {وإياى}
أيضاً حين طلبتُ منك الرؤيةَ أي لو شئتَ إهلاكَنا بذنوبنا
لأهلكتَنا حينئذ أراد به عليه السلام تذكيرَ العفوِ السابقِ
لاستجلاب العفوِ اللاحقِ فإن الاعتراف باتلذنب والشكرَ على
النعمة مما يربِط العتيدَ ويستجلب المزيد يعني إنا كنا مستحقين
للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدمُ مشيئتِك إياه فحيث لطَفْتَ
بنا وعفوتَ عنا تلك الجرائمَ فلا غروَ في أنْ تعفوَ عنا هذه
الجريمةَ أيضاً وحملُ الكلام على التمني يأباه قوله تعالى
{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} أي الذين لا
يعلمون تفاصيل شئونك ولا يتثبتون في المداحض والهمزةُ إما
لإنكار وقوعِ الإهلاكِ ثقةً بلطف الله عزَّ وجلَّ كما قاله ابن
الأنباري أو للاستعطاف كما قاله المبرد أي لا تهلكنا {إن هى
إلا فتنتك} استئناف مقرر لما قبله واعتذارٌ عما صنعوا ببيان
منشأ غلطِهم أي ما الفتنةُ التي وقع فيها السفهاءُ وقالوا
بسببها ما قالوا من العظيمة إلا فتنتُك أي محنتُك وابتلاؤك حيث
أسمعتهم كلامك فاتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمِعوا فيما فوق ذلك
تابعين للقياس الفاسد وقوله تعالى {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء
وَتَهْدِى مَن تَشَاء} إما استئنافٌ مبينٌ لحُكم الفتنةِ أو
حالٌ من فتنتك أي حالَ كونِها مضِلاًّ بها الخ أي تُضل بسلببها
من تشاء إضلالَه فلا يهتدي إلى التثبت وتهدي من تشاء هِدايتَه
إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها غيمانه {أَنتَ
وَلِيُّنَا} أي القائمُ بأمورنا الدنيويةِ والأخرويةِ وناصرُنا
وحافظُنا لا غيرُك {فاغفر لَنَا} ما قارفناه من المعاصي
والفاءُ لترتيب الدعاءِ على مكا قبله من الولاية كأنه قيل فمن
شاء الوليِّ المغفرةُ والرحمةُ وقيل إن إقدامه عليه الصلاة
والسلام على أن يقولُ إِنْ هِىَ إِلاَّ فتنتُك الخ جراءةٌ
عظيمةٌ فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوزَ عنهات {وارحمنا}
بإفاضة آثار الحمة الدنيويةِ والأخروية علينا {وَأَنتَ خَيْرُ
الغافرين} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله من الدعاء
وتخصيصُ المغفرةِ بالذكر لأنها الأهمُّ بحسب المقام
(3/277)
الأعراف آية 156
(3/278)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{واكتب لَنَا} أي عيِّنْ لنا وقيل أوجِبْ
وحقِّقْ وأثبتْ {فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي نعمةً وعافيةً أو
خَصلة حسنةً قال ابن عباس رضي الله عنهما اقبَلْ وِفادتَنا
ورُدَّنا بالمغفرة والرحمة {وَفِي الاخرة} أي واكتبْ لنا فيها
أيضاً حسنةً وهي المثوبةُ الحسنى والجنة {إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ} أي تُبْنا وأنبْنا إليك من هاد يهودُ إذا رجَع وقرىء
بكسر الهاء من هاده يهيدُه إذا حرَّكه وأماله ويحتمل أن يكون
مبنياً للفاعل أو للمفعول بمعنى أمَلْنا أنفسَنا أو أمِلْنا
إليك وتجويزُ أن تكون القراءةُ المشهورةُ على بناء المفعول على
لغة من يقول عودَ المريضُ مع كونها لغةً ضعيفةً مما لا يليق
بشأن التنزيل الجليل والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الدعاءِ
فإن التوبة مما يوجي قبله بموجَب الوعدِ المحتوم وتصديرُها
بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاطِ والرغبةِ في التوبة والمعنى
إنا تُبنا ورجَعْنا عما صنعنا من المعصية العظيمةِ التي جئناك
للاعتذار عنها وعما وقع ههنا من طلب الرؤية فيعيد من لطفك
وفضلك أن لا تقبلَ توبةُ التائبين قيل لما أخذتْهم الرجفةُ
ماتوا جميعاً فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله
تعالى حتى أحياهم وقيل رجَفوا وكادت تَبينُ مفاصلُهم وأشرفوا
على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى فكشفها الله
تعالى عنهم {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينساقُ إليهِ
الكلامُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى عند دعاءِ مُوسى
عليه السَّلامُ فقيل قال {عَذَابِى أصيب به من أشاء} لعله عز
وجل حين جعل توبةَ عبدةِ العجلِ بقتلهم أنفسَهم ضمّن موسى عليه
السلام دعاءَه التخفيفَ والتيسير حيث قال واكتب لنا في هذه
الدنيا حسنة أي خَصلةً حسنةً عاريةً عن المشقة والشدة فإن في
قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى فأجاب تعالى بأن
عذابي شأنُه أن أُصيبَ به من أشاء تعذيبَه من غير دخل لغيري
فيه وهم ممن تناولَتْه مشيئتي ولذلك جُعلت توبتُهم مشوبةً
بالعذاب الدنيوي {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء} أي شأنُها
أن تسَعَ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ بل كلَّ ما يدخل تحته
الشيئية من المكلفين وغيرِهم وقد نال قومَك نصيبٌ منها في ضمن
العذاب الدنيوي وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارعِ
ونسبةِ السعةِ إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمةَ
مقتضى الذاتِ وأما العذاب فبمقتضى العذاب معاصي العباد
والمشيئةُ معتبرةٌ في جانب الرحمةِ أيضاً وعدمُ التصريحِ بها
للإشعار بغاية الظهور ألا يُرى إلى قوله تعالى
{فَسَأَكْتُبُهَا} أي أُثبتها وأعيِّنُها فإنه متفرعٌ على
اعتبار المشيئةِ كأنه قيل فإذا كان الأمرُ كذلك أي كما ذكر من
إصابة عذابي وسَعةِ رحمتي لكل من أشاء فسأكتبُها كَتْبةً كائنة
كما دعوتَ بقولك واكتب لنا في هذه الخ أي شأكتبها خالصةً غيرَ
مشوبةٍ بالعذاب الدنيوي {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي الكفَر
والمعاصي إما ابتداء أو بعد ملابستهما وفيه تعريض بقومه كأنه
قيل لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة
وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوي {ويؤتون الزكاة}
(3/278)
وفيه أيضا تعريضٌ بهم حيث كانت الزكاةُ
شاقةً عليهم ولعل الصلاةَ إنما لم تذكَرْ مع إنافتها على سائر
العبادات اكتفاءً عنها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الموجبات
بأسرها وتركِ المنكرات عن آخرها وإيرادُ إيتاءِ الزكاة لما مر
من التعريض {والذين هم بآياتنا} جميعاً {يُؤْمِنُونَ} إيماناً
مستمراً من غير إخلالٍ بشيء منها وفيه تعريضٌ بهم وبكفرهم
بالآيات العظامِ التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما
سيجيء بعد ذلك من الآيات البيناتِ كتظليل الغمامِ وإنزالِ
المنِّ والسَّلْوى وغيرِ ذلك وتكريرُ الموصولَ مع أن المرادَ
به عينُ ما أريد بالموصول الأولِ دون أن يقال يؤمنون بآياتنا
عطفاً على يؤتون الزكاة كما عُطف هو على يتقون لما أشير إليه
من القَصْر بتقديم الجار والمجرور ورأى هم بجميع آياتنا يؤمنون
لا ببعضها دون بعض
(3/279)
الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ
الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{الذين يَتَّبِعُونَ الرسول} الذي نوحي
إليه كتاباً مختصاً به {النبى} أي صاحبَ المعجزة وقيل عنوانُ
الرسالةِ بالنسبة إليه تعالى وعنوانُ النبوة بالنسبة إلى الأمة
{الامى} بضم الهمزة نسبةً إلى الأم كأنه باقٍ على حالته التي
وُلد عليها من أمّه أو إلى أمة العرب كما قال صلى الله عليه
وسلم إنا أمةٌ لا نحسُب ولا نكتب أو إلى أم القرى وقرىء بفتح
الهمزة أي الذي لم يمارس القراءةَ والكتابة وقد جمع مع ذلك
علومَ الأولين والآخِرين والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ
بدلَ الكلِّ أو منصوبٌ على المدحِ أو مرفوع عليه أي أعني الذين
أو هم اللذين وأما جعلُه مبتدأً على أن خبرَه يأمرُهم أو أولئك
هم المفلحون فغيرُ سديد {الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا} باسمه
ونعة وته بحيث لا يشكّون أنه هو ولذلك عدل عن أن يقال يجدون
اسمَه أو وصفه مكتوباً {عِندَهُمُ} زيد هذا لزيادة التقريرِ
وأن شأنِه عليه الصلاةُ والسلام حاضرٌ عندهم لا يَغيب عنهم
أصلاً {فِي التوراة والإنجيل} اللذيْن تُعِبِّد بهما بنو
إسرائيلَ سابقاً ولاحقاً والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوباً
وذكرُ الإنجيلِ قبل نزولِه من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبيِّ
صلَّى الله عليهِ وسلم والقرآنِ الكريم قبل مجيئِهما
{يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر} كلامٌ مستأنفٌ لا
محلَّ له من الإعراب قاله الزجاج متضمنٌ لتفصيل بعض أحكامِ
الرحمةِ التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالاً فإن ما بُيّن فيه من
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ
الخبائث وإسقاطِ التكاليف الشاقةِ كلُّها من آثار رحمته
الواسعة وقيل في محل النصب على أنه حالٌ مقدرةٌ من مفعول
يجدونه أو من النبي أة ومن المستكن في مكتوباً أو مفسِّرٌ
لمكتوباً أي لما كُتب {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} التي حُرِّمت
عليهم بشؤم ظلمهم {ويحرم عليهم الخبائث} كالدم ولحمِ الخِنزيرِ
والربا والرشوة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى
كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يخفف عنهم ما كُلّفوه من التكاليف
الشاقةِ التي هي من قَبيل ما كتب عليهم حينئذ من كونه التوبة
بقتل
(3/279)
الأعراف آية 158
النفس كتعيين القصاصِ في العمد والخطأ من غير شرعِ الدية وقطع
الأعضاءِ الخاطئةِ وقرضِ موضعِ النجاسة من الجلد والثوب
وإحراقِ الغنائم وتحريمِ السبت وعن عطاء أنه كانت بنو إسرائيلَ
إذا قاموا يصلون لبسوا المسموح وغلّوا أيديَهم إلى أعناقهم
وربما ثقَبَ الرجلُ تَرْقُوتَه وجعل فيها طرف السلسلةِ وأوثقها
إلى السارية يحبِس نفسه على العبادة وقرىء آصارَهم أصل الأصر
الثق الذي يأصر صاحيه من الحراك {فالذين آمنوا بِهِ} تعليمٌ
لكيفية اتّباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبيانٌ لعلو رتبةِ
متّبعيه واغتنامِهم مغانمَ الرحمةِ الواسعةِ في الدارين إثرَ
بيانِ نعوتِه الجليلة والإشارةِ إلى إرشاده عليهِ الصلاةُ
والسلامُ إيَّاهُم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ
الطيبات وتحريمِ الخبائث أي فالذين آمنوا بنبوته وأطاعوه في
أوامره ونواهيه {وَعَزَّرُوهُ} أي عظّموه ووقّروه وأعانوه بمنع
أعدائه عنه وقرىء بالتخفيف وأصلُه المنعُ ومنه التعزير
{ونصروه} على أعجائه في الدين {واتبعوا النور الذى أُنزِلَ
مَعَهُ} أي مع نوبته وهو القرآنُ عبّر عنه بالنور المنبىءِ عن
كونه ظاهراً بنفسه ومُظهِراً لغيره أو مظهِراً للحقائق كاشفاً
عنها لمناسبة الاتّباعِ ويجوزُ أن يكون معه متعلقاً باتّبعوا
أي واتّبعوا القرآنَ المنزل مع اتباعه صلى الله عليه وسلم
بالعمل بسنته وبما أُمِرَ به ونُهيَ عنه أو اتبعوا القرآنَ
مصاحبين له في اتباعه {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من حيث
اتصافُهم بما فُصّل من الصفاتِ الفاضلة للإشعار بعليتهاللحكم
وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتِهم وسمو طبقتهم
فيالفضل والشَّرفِ أي أولئك المنعوتُون بتلك النعوت الجليلة
{هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون بالمطلوب الناجون عن الكروب لا
غيرُهم من الأمم فيدخُل فيهم قوم موسى عليه الصلاة والسلام
دخولاً أولياً حيث لم ينجو عما في توبيتهم من المشقة الهائلةِ
وبه يتحقق التحقيقُ ويتأتّى التوفيقُ والتطبيق بين دعائِهِ
عليهِ الصلاةُ والسلام وبين الجوابِ لا بمجرد ما قيل من أنه
دعا لنفسه ولبني إسرائيلَ أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني
إسرائيلَ على استجازتهم الرؤيةَ على الله عزَّ وجلَّ وعلى
كفرهم بآياته العظامِ التي أجرها على يد موسى عليه الصلاة
والسلام وعرّض بذلك في قوله تعالى والذين هم بآياتنا
يُؤْمِنُونَ وأريد أن يكون استماعُ أوصافِ أعقابِهم الذين
آمنوا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما جاء به كعبدِ
اللَّه بنِ سَلاَم وغيرِه من أهل الكتابين لطفاً بهم وترغيباً
في إخلاص الإيمانِ والعمل الصالح
(3/280)
قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ
الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
{قل يا أيها الناسُ أنى رَسُولُ الله
إِلَيْكُمْ} لما حكي في الكتابين من نعوت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وشرف مَنْ يتّبعه من أهلهما ونيلِهم لسعادة الدارين
أمرعليه الصلاةُ والسلامُ ببيانِ أنَّ تلكَ السعادةَ غيرُ
مختصةٍ بهم بل شاملةٌ لكل من يتبعه كائناً مَنْ كان ببيان
عمومِ رسالتِه للثقلين مع اختصاص رسالةِ سائرِ الرسلِ عليهم
السلام بأقوامهم وإرسالِ موسى عليه السلام إلى فرعون وملته
بالآيات التسعِ إنما كان لأمرهم بعبادة ربِّ العالمين عز
سلطانه
(3/280)
الأعراف آية 159
وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ
فتنة الباغية وإرسال بني إسرائيلَ من الأسرِ والقسرِ وأما
العملُ بأحكام التوارة فمختص ببني إسرايل {جَمِيعاً} حالٌ من
الضمير في إليكم {الذى لَهُ ملك السماوات والارض} منصوبٌ أو
مرفوعٌ على المدح أو مجرورٌ على أنه صفةٌ للجلالة وإن حيل
بينهما بما هو متعلقٌ بما أضيف إليه فإنه في حكم المتقدّمِ
عليه وقولُه تعالى {لاَ إله إلا هو} بيانٌ لما قبله مَنْ ملَك
العالمَ كان هو الإله لا غيرُه وقوله تعالى {يُحْيِي
وَيُمِيتُ} لزيادة تقرير ألوهيتِه والفاءُ في قوله تعالى
{فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} لتفريع الأمرِ على ما تمهّد
وتقرّر من رسالته صلى الله عليه وسلم وإيراد نفسه عليه الصلاة
والسلام بعنوان الرسالةِ على طريقة الالتفاتِ إلى الغيبة
المبالغة في إيجاب الامتثالِ بأمره ووصف الرسول بقوله {النبى
الامى} لمدحه عليه الصلاة والسلام بهما ولزيادة تقريرِ أمرِه
وتحقيق أنه الكتوب في الكتابين ووصفُه بقوله تعالى {الذى
يُؤْمِنُ بالله وكلماته} أي ما أنزل إليه وإلى سائر الرسلِ
عليهم السَّلامُ من كُتُبه ووحيِه لحمل أهلِ الكتابين على
الامتثال بما أُمروا به والتصريحُ بإيمانه بالله تعالى للتنبيه
على أن الإيمانَ به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا
يتحقق إلا به وقرىء وكلمتِه على إرادة اجنس أو القرآنِ تنبيهاً
على أن المأمورَ به هو الإيمان به عليه الصلاة والسلام من حيث
أنزل عليه القرآنُ لا من حيثيةٍ أخرى أو على أنَّ المرادَ بها
عيسى عليه الصلاة والسلام تعريضاً باليهود وتنبيهاً على أن من
لم يؤمن به لم يُعتدَّ بإيمانه {واتبعوه} أي في كلِّ ما يأتي
وما يذرُ من أمور الدين {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} علةٌ
للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاءً لاهتدائكم إلى المطلوب أو
راجين له وفي تعليقه بهما إيذانٌ بأن من صدّقه ولم يتبعْه
بالتزام أحكام شريعتِه فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغي
والضلال
(3/281)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى} كلامٌ مبتدأ لدفع ما
عسى يُوهِمه تخصيصُ كَتْبِ الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات
بمتّبعي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من حِرمانِ أسلافِ قومِ
موسى عليه السلام من كل خير وبيانِ أن كلَّهم ليسوا كما حُكيت
أحوالُهم بل منهم {أُمَّةٌ يَهْدُونَ} أي الناسَ {بالحق} أي
ملتبسين به أو يهدونهم بكلمة الحق {وَبِهِ} أي بالحق
{يَعْدِلُونَ} أي في الأحكام الجاريةِ فيما بينهم وصيغةُ
المضارعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضيةِ وقيل هم الذين
آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأباه أنه قد مر ذكرُهم فيما
سلف وقيل إن بني إسرائيلَ لما بالغوا في العتُوّ والطغيان حتى
اجترءوا على قتل الأنبياءِ عليهم السلام تبرّأ سِبطٌ منهم مما
صنعوا واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرِّق بينهم وبين أولئك
الطاغين ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنةً
ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم اليوم هنالك حنفاءُ مسلمون
يستقبلون قِبلتَنا وقد ذكر عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم
أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ذهب به ليلة الإسراءِ نحوَهم
فكلمهم فقال جبريلُ عليه السَّلامُ هل تعرِفونَ من تكلمون
قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسولَ
الله إنَّ موسى أوصانا مَنْ أدرك منكم أحمد غفليقرأ مني عليه
السلام فرد محمد على موسى السلام عليهما السلامَ ثم أقرأهم
عشرَ سورٍ من القرآن نزلت بمكة
(3/281)
الأعراف آية 160
ولم تكن نزلت يومئذ فريضةٌ غيرَ الصلاة والزكاة أمرهم أن
يُقيموا مكانهم وكانوا يسْبِتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا البت
هذا وأنت خبيرٌ بأن تخصيصَهم بالهداية من بين قومِه عليه
الصلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ منهم مَنْ آمن بجميع الشرائعِ لا
يخلو عن بعد
(3/282)
وَقَطَّعْنَاهُمُ
اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا
عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{وقطعناهم} أي قومَ موسى لا الأمةَ
المذكورةَ منهم وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى {اثنتى عَشْرَةَ}
ثاني مفعولي قطع لتضمّنه معنى التصيير والتأنيثُ للحمل على
الأمة أو القِطعة أي صيرناهم اثنتي عشْرةَ أمةً أو قطعةً
متميزاً بعضُها من بعض أو حالٌ من مفعولِهِ أي فرقناهم معدودين
هذا العددَ وقوله تعالى {أسباطا} بدل منه وذلك جُمع أو مميزٌ
له على أن كل واحدةٍ من اثنتي عشرةَ قطعةً أسباطٌ لا سبطٌ
وقرىء عشِرة بكسر الشين وقوله تعالى {أُمَمًا} على الأول بدلٌ
بعدَ بدلٍ أو نعتٌ لأسباطاً وعلى الثاني بدل من أسباكا
{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} حين استولى
عليهم العطشُ في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعِهم لا بمجرد
استسقائِهم إياه عليه الصلاة والسلام بل باستسقائه لقوله تعالى
وإذ استسقة موسى قومه وقولُه تعالى {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ
الحجر} مفسرٌ لفعل الإيحاءِ وقد مر بيانُ شأنِ الحَجَر في
تفسير سورة البقرة {فانبجست} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه
الكلام قد حذفتعويلا على كمال الظهورِ وإيذاناً بغاية مسارعتِه
عليه السَّلامُ إلى الامتثال وإشعاراً بعدم تأثير الضربِ
حقيقةً وتنبيهاً على كمال سرعةِ الانبجاسِ وهو الانفجارُ كأنه
حصل إثرَ الأمر قبل تحقق الضربِ كما في قوله تعالى اضرب بعصاك
فانفلق أي فضرب فابجست {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد
الأسابط وأما ما قيل من أن التقديرَ فإن ضربت فقد انبجست فغيرُ
حقيقٍ بجزالة النظمِ التنزيلي وقرىء عشِرة بكسر الشين وفتحها
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كلُّ سبطٍ عبّر عنهم بذلك إيذاناً
بكثرة كل واحدٍ من الأسباط {مَّشْرَبَهُمْ} أي عينَهم الخاصةَ
بهم {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} أي جعلناها بحيث تُلقي
عليهم ظلَّها تسير في التيه بسيرهم وتسكُن بإقامتهم وكان ينزل
بالليل عمودٌ من نار يسيرون بضوئه {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ
المن والسلوى} أي الترنجبين والسمانى قيل كان ينزل عليهم
المنُّ مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاعٌ
وتبعَثُ الجَنوبُ عليهم السُّمانى فيذبح الرجلُ منه ما يكفيه
{كُلُواْ} أي وقلناهم كلوا {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي
مستلذاته وما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن المن والسلوى
{وَمَا ظَلَمُونَا} رجوعٌ إلى سنن الكلامِ الأولِ بعد حكايةِ
خطابِهم وهو معطوفٌ على جملة محذوفةٍ للإيجاز والإشعارِ بأنه
أمرٌ محققٌ غني عن اتصريح به أي فظلموا بأن كفروا بتلك النعمَ
الجليلةَ وما ظلمونا بذلك {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ} إذ لا يتخطاهم ضررُه وتقديمُ المفعولِ لإفادة
القصْرِ الذي يقتضيه النفيُ السابقُ وفيه ضرب من
(3/282)
الأعراف آية 161 162 التهكم بهم والجمعُ
بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم فيمَا هُم
فيهِ من الظلم والكفر
(3/283)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ
اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ
شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
(161)
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب
به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإيرادُ الفعلِ على البناء مع
استناده إليه تعالى كما يُفصح عنه ما وقع في سورةِ البقرةِ من
قولِه تعالى وَإِذْ قُلْنَا للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ
والإيذان بالغِنى عن التصريح به لتعين الفاعلِ وتغيير النظلم
بالأمر بالذكر للتشديد في التوبيخ أي أذكُر لهم وقت قولِه
تعالى لأسلافهم {اسكنوا هذه القرية} منصوب على المفعولية يقال
سكنت الدارَ وقيل على الظرفية اتساعاً وهي بيتُ المقدِس وقيل
أريحا وهي قريةُ الجبارين وكان فيها قومٌ من بقية عادٍ يقال
لهم العمالقة رأسهم عوجُ بنُ عنقٍ وفي قوله تعالى اسكنوا إيذان
بأن امأمور به في سورة البقرة هو الدخول على لوجه السُّكنى
والإقامة ولذلك اكتُفي به عن ذكر رغداً في قوله تعالى
{وَكُلُواْ مِنْهَا} أي من مطاعمها وثمارِها على أن من تبعيضية
أو منها على أنها ابتدائية {حَيْثُ شِئْتُمْ} أي من نواحيها من
غير أن يزاحمكك فيها أحدٌ فإن الأكلَ المستمرَّ على هذا الوجه
لا يكون إلا رغداً واسعاً وعطفُ كلوا على اسكنوا بالواو
لمقارنتهما زماناً بخلاف الدخولِ فأنه مقدمٌ على الأكل ولذلك
قيل هناك فكلوا {وَقُولُواْ حطة} أي مئلتنا أو أمرُك حِطةٌ
لذنوبنا وهي فِعلة من الحَطّ كالجِلسة {وادخلوا الباب} أي بابَ
القرية {سُجَّدًا} أي متطامنين مُخْبتين أو ساجدين شكرا على
إخراجهممن التيه وتقديم الأمر باالدخول على الأمر بالقول
المذكور في سورة البقرة غيرُ مُخلَ بهذا الترتيب لأن المأمور
به هو الجمعُ بين الفعلين من غير اعتبارِ الترتيبِ بينهما ثمَّ
إنْ كان المرادُ بالقرية أريحا فقد روي أنهم دخلوها حيث سار
إليها موسى عليه السلام بمن بقيَ من بني إسرائيلَ أو بذراريهم
على اختلاف الروايتين ففتحها كما مر في سورة المائدة وأما إن
كانت بيتَ المقدس فقد رُوي أنهم لم يدخُلوه في حياة مُوسى عليه
السَّلامُ فقيل المرادُ بالباب بابُ القُبة التي كانوا يصلّون
إليها {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم} وقرىء خطاياكم كما في سورة
البقرةِ وتُغفَرْ لكم خطيئاتُكم وخطاياكم وخطيئتُكم على البناء
للمفعول {سَنَزِيدُ المحسنين} عِدةٌ بشيئين بالمغفرة وبالزيادة
وطرح الواو ههنا لا يخل بذلك لأنه استئنافٌ مترتبٌ على تقدير
سؤال نشأ من الإخبار بالغفران كأنه قيل فماذا لهم بعد الغفرانِ
فقيل سنزيد وكذلك زيادةٌ منهم زيادةَ بيان
(3/283)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} بما
أُمروا به من التوبة والاستغفارِ حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعَه
{قَوْلاً} آخ رمما لا خيرَ فيه رُوي أنهم دخلوه زاحفين على
أستاههم وقالوا مكانَ حطةٌ حنطة وقيلقالوا بالنبطية حطاً
شمقاثاً يعنون حنطةً حمراءَ استخفافاً بأمر الله تعالى
واستهزاءً بموسى عليه السلام
(3/283)
الأعراف ى ية 163
والسلام وقوله تعالى {غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ} نعتٌ لقولاً
صرّح بالمغايرة مع دِلالة التبديلِ عليها قطعاً تحقيقاً
للمهالفة وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه {فَأَرْسَلْنَا
عَلَيْهِمُ} إثرَ ما فعلُوا ما فعلُوا من غير تأخير وفي سورة
البقرة عَلَى الذين ظَلَمُواْ والمعنى واحدٌ والإرسالُ من فوق
فيكون كالإنزال {رِجْزًا مّنَ السماء} عذاباً كائناً منها
والمراد الطاعون وروي أنه مات منهم في ساعة واحدةٍ أربعةٌ
وعشرون ألفاً {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} بسببظلمهم
المستمرِّ السابق واللاحقِ حسبما يفيدُه الجمعُ بينَ صيغتي
المَاضِي والمستقبلِ لا بسبب التبديلِ فقط كما يُشعِرُ به
ترتتي الإرسالِ عليه بالفاء والتصريحُ بهذا التعليل لما أن
الحكم ههنا مترتبٌ على المضمر دون الموصولِ بالظلم كما في سورة
البقرةِ وأما التعليلُ بالفسق بعد الإشعارِ بعلّية الظلمِ فقد
مر وجهُه هناك والله تعالى أعلم
(3/284)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ
كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{واسألهم} عطفعلى المقدر في إذ قيل أي
واسأل اليهودَ المعاصرين لك سؤالَ تقريعٍ وتقرير بقديم كفرَهم
وتجاوزَهم لحدود الله تعالى وإعلاما بأن ذلك مع كونه من علومهم
الخفيةِ التي لا يقف عليها إلا من مارس كتبَهم قد أحاط به
النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم خُبْراً وإذ ليس ذلك بالتلقي من
متبهم لأنه صلى الله عليه وسلم بمعزل من ذلك تعين أنه من الجهة
الوحي الصريح {عَنِ القرية} أي عن حالها وخيرها وما جرى على
أهلها من الداهية الدهياءِ وهي أَيْلَةُ قريةٌ بين مدْيَنَ
والطور وقيل هي مدينُ وقيب طبرية والعرب تسمي المدينةَ قرية
{التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} أي قريبةً منه مشرقة على شاطئه
{إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت} أي يتجاوزون حدودَ الله تعالى
بالصيد يوم السبت وإذ ظرفٌ للمضاف المحذوفِ أو بدلٌ منه وقيل
ظرفٌ لكانت أو حاضرة وليس بذاك إذْ لا فائدةَ في تقييد الكونِ
أو الحضور بوقت العجة وان وقرىء يعدون وألصه يعتدون ويُعِدّون
من الإعداد حيث كانوا يُعِدّون آلاتِ الصيد يوم السبت منهيّون
عن الاشتغال فيه بغير العبادة {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ}
ظرفٌ ليَعْدون أو بدلٌ بعد بدلٍ والأولُ هو الأولى لأن السؤالَ
عن عداوتهم أدخلُ في التقريع والحيتانُ جمعُ حوتٍ قُلبت الواوُ
ياءً لانكسار ما قبلها كنونٍ ونينانٍ لفظاً ومعنى وإضافتُها
إليهم للإشعار باختصاصها به لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في
سائر أفرادِ الجنس من الخواصّ الخارقةِ للعادة أو لأن المرادَ
بها الحيتانُ الكائنةُ في تلك الناحيةِ وأن ما ذُكر من الإتيان
وعدمِه لاعتيادها أحوزالهم ف عدم التعرّض يوم السبت {يَوْمَ
سَبْتِهِمْ} ظرفٌ لتأتيهم أي تأتيهم يومَ تعظيمِهم لأمر السبت
وهو مصر سَبَتت اليهودُ إذا عظّمت السبْت بالتجرد للعبادة وقيل
اسمٌ لليوم والإضافةُ لاختصاصهم بأحكام فيه ويؤيد الأولَ
قراءةُ من قرأ يوم أسباتِهم وقوله تعالى {شُرَّعًا} جمعُ شارع
من شرع عليه إذا دنا وأشرف وهو حا من حيتانُهم أي تأتيهم يوم
سبْتِهم ظاهرةً على وجه الماء قريبةً من الساحل {وَيَوْمَ لاَ
يَسْبِتُونَ} أي لا يراعون أمرَ اسبت لكن لا بمجرد عدمِ
المراعاةِ مع تحقق يوم السبتِ كما هو المتبادرُ بل مع
انتفائهما معاً أي لا سبت ولا مراعاة كما في قوله ولاَ ترَى
الضبَّ بها ينجحِرُ وقرىء
(3/284)
الأعراف آية 164 لا يُسبتون من أسبت ولا
يُسبَتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا
يُدار عليهم حكمُ السبتِ ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم
السبت {لاَ تَأْتِيهِمْ} كما كانت تأتيهم يوم السبت حذارا من
صيدهم وتغيرر السبْكِ حيث لم يقل ولا تأتيهم يوم لا يسبتون لما
أن الإخبارَ بإتيانها يوم سبْتهم مظِنةُ أن يقال فماذا حالهم
يوم لا يسبتون فقيل يوم لا يسبتون لا تأتيهم {كذلك نَبْلُوهُم}
أي مثلَ ذلك البلاءِ العجيب الفظيعِ نعاملهم معاملةَ من
يختبرهم ليظهر عدواتهم ونؤاخذهم به وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ
الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها والتعجيبِ منها {بِمَا
كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقِهم المستمرِّ المدلولِ عليه
بالجمع بين صيغتي الماضي والمستقبلِ لكن لا في تلك المادةِ فإن
فسقَهم فيها لا يكون سبباً للبلوى بل بسبب فسقهم المستمر في
كلِّ ما يأتُون وما يذرون وقيل كذلك متصلٌ بما قبله أي لا
تأتيهم مثلَ ما تأتيهم يوم سبتهم فاجملة بعده حينئذ استئنافٌ
مبنيٌّ على السؤالِ عن حكمة اختلافِ حال الحيتانِ بالإتيان
تارة وعدمِه أخرى
(3/285)
وَإِذْ قَالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ
أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً
إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
{وَإِذْ قَالَتِ} عطفٌ على إذ يعدون مَسوقٌ
لتماديهم في العدوان وعدمِ انزجارِهم عنه بعد العظاتِ
والإنذارات {أُمَّةٌ مّنْهُمْ} أي جماعةٌ من صلحائهم الذين
ركبوا في عِظتهم متن كلِّ صعبٍ وذَلول حتى يئسوا من احتمال
القبولِ لآخرين لا يقلعون عن التذكيررجاء للنفع والتأثير
مبالغةً في الإعذار وطمعاً في فائدة الإنذار {لِمَ تَعِظُونَ
قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ} أي مخترِمُهم بالكلية ومطهرُ الأرض
منهم {أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا} دون الاستئصال
بالمرة وقيل مهلكهم مخزيهم في الدنيا أو معذبُهم في الآخرة
لعدم إقلاعِهم عمَّا كانوا عليه من الفسق والطغيانِ والترديد
لمنه الخلوِّ دون منع الجمعِ فإنهم مهلَكون في الدنيا
ومعذَّبون في الآخرة وإيثارُ صيغةِ اسمِ الفاعل مع أن كلاًّ من
الإهلاك والتعذيب مترقَّبٌ للدِلالة على تحققهما وتقرُّرِهما
البتةَ كأنهما واقعان وإنما قالوه مبالغةً في أن الوعظَ لا
ينجع فيهم أو ترهيباً للقوم أو سؤالاً عن جكمة الوعظِ ونفعِه
ولعلهم إنما قالوه بمحضر من القوم حثاً لهم على الاتعاظ فإن
بتَّ القولِ بهلاكهم وعذابهم بما يُلقي في قلوبهم الخوفَ
والخشيةَ وقيل المرادُ طائفةٌ من الفِرقة الهالكةِ أجابوا به
وُعّاظَهم رداً عليهم وتهكماً بهم وليس بذاك كما ستقف عليه
{قَالُواْ} أي الوعاظُ {مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ} أي نعظُهم
معذرةً إليه تعالى على أنَّه مفعولٌ له وهو الأنسب بظاهر
قولِهم لمَ تعِظون أو نعتذر معذرةً على أنه مصدرٌ لفعل محذوفٍ
وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتُنا معذرةٌ إليه
تعالى حتى لا نُنسَبَ إلى نوع تفريطٍ في النهي عن المنكر وفي
إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطَبين نوع تعرض بالسائلين {ولعلهم
يتقون} عطفعلى معذرةً أي ورجاءً لأن يتقوا بعضَ التقاة وهذا
صريحٌ في أنَّ القائلين لمَ تعظون الخ ليسوا من الفِرقة
الهالكةِ وإلا لوجب الخطاب
(3/285)
الأعراف آية 165 166
(3/286)
فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ
السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي
تركوا ما ذكرهم به صلحاؤُهم تركَ الناسي للشيء وأعرضوا عنه
إعراضاً كلياً بحيث لم يخطر ببالِهم شيءٌ من تلك المواعظ أصلاً
{أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} وهم الفريقان
المذكورانِ وإخراجُ إنجائهم مخرج الحواب الذي حقُّه الترتبُ
على الشرط وهو نِسيانُ المعتدين المستتبِعُ لإهلاكهم لما أن ما
في حيز الشرط شيآنِ النسيانُ والتذكيرُ كأنه قيل فلما ذكر
المذكرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخَرين
وأما تصديرُ الجواب بإنجائهم فلما مر مراراً من المسارعة إلى
بيان نجاتِهم من أول الأمرِ مع ما في المؤخر من نوع طُول
{وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} بالاعتداء ومخالفةِ الأمر
{بِعَذَابٍ بئيس} أيشديد وزناً ومعنى من بَؤُس يبؤُس بأساً إذا
اشتد وقرىء بيئس على وزن فيعل بفتح العين وكسرها وبئس كحذر على
تخفيف العين ونقلِ حركتِها إلى الفاء ككَبِد في كبد وءيس بقلب
الهمزة ياءً كذيب في ذئب وبيّس كريّس بقلب همزةِ بئيس ياءً
وإدغام الياء فيها وبَيْسٍ على تخفيف بيّس كهَيْن في هيّن
وتنكيرُ العذاب للتفخيم والتهويل {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}
متعلقٌ بأخذنا كالباء الأولى ولا ضيرَ فيه لاختلافهما معنى أي
أخذناهم بما ذُكِرَ من العذابِ بسبب تماديهم في الفسق الذي هو
الخروجُ عن الطاعة وهو الظلمُ والعدوانُ أيضاً وإجراءُ الحكم
على الموصول وإن أشعرَ بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ له لكنه
صرّح بالتعليل المذكورِ إيذاناً بأن العلةَ هو الاستمرارُ على
الظلم والعدوان مع اعتبار كونِ ذلك خروجاً عن طاعةِ الله عزَّ
وجلَّ لا نفسُ الظلم والعدوان وإلا لما أخّروا عن ابتجاء
المباشرة ساعة ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصالِ
فلم يُقلعوا عما كانوا عليه بل ازدادوا في الغي فمسخهم بعد ذلك
لقوله تعالى
(3/286)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ
مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ
(166)
{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ
عَنْهُ} أي تمرّدوا وتكبروا وأبوا أن يتركواما نُهوا عنه
{قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} صاغرين أذلاء بعجاء
عن الناس والمرادُ بالأمر هو الأمرُ التكوينيُّ لا القولي
وترتيبُ المسخِ على العتو عن الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ
للإيذان بأنه ليس لخصوصيات الحوتِ بل العمدةُ في ذلك هو
مخالفةُ الأمر وة الاستعصاء عليه تعالى وقيل المرادُ بالعذاب
البئيس هو المسخُ والجملةُ الثانية تقريرٌ للأولى روي أن
اليهودَ أُمروا باليوم الذي أُمرنا به وهو يومُ الجمعة فتركوه
واختاروا السبت وهو المعنيُّ بقوله تعالى إنما جعل السبت على
الذين اختلفوا فِيهِ فابتُلوا به وحُرّم عليهم الصيدُ فيه
وأمرة وا بتعظزيمه فكانت الحيتانُ تأتيهم يوم السبت كأنها
المخاضُ لا يُرى وجهُ الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر
الأيامِ فكانوا على ذلك برهةً من الدهر ثم جاءهم غبليس فقال
لهم إنما نُهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياض سهلة الورود
صعبة الصجور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتانَ إليها يوم السبت
فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم
حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى
(3/286)
الأعراف آية 167 168 خشبة في الساحل ثم
شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطاله في تنّوره فقال له
إني أرى الله سيعذبك فلما لم يَرَه عُذّب أخذ في يوم السبت
القابلِ حُوتين فلما رأوا أن العذابَ لا يعاجلُهم استمروا على
ذلك فصادوا وأكلوا وملّحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً
فصار أهلُ القرية أثلاثاً ثلثٌ استمروا على النهي وثلثٌ ملُّوا
التذكير وسئِموه وقالوا للواعظين لم تعِظون الخ وثلث باشروا
الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون نحن لا نساكنُكم فسموا
القريةَ بجدار للمسلمين بابٌ وولمعتدين باب ولعنهم داودُ عليه
السلام فأصبح الناهون ذاتَ يوم في مجالسهم ولم يخرج من
المعتديم أحد فقالوا إن لهم لشأناً فعَلَوا الجدارَ فنظروا
فغذا هم قردةٌ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفتالقدرة أسباءهم
من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القردُ يأتي نسيبَه فيشم ثيابه
فيبكي فيقول له نسيبُه ألم ننهَكم فيقول القردُ برأسه بللا ثم
ماتوا عن ثلاث وقيل صار الشباة قردةً والشيوخُ خنازير وعن
مجاهد رضي اللهعنه مُسخت قلوبُهم وقال الحسن البصري أكلوا
وااله أوخَمَ أكلةٍ أكلها أهلُها أثقلُها خزياً في الدنيا
وأطولُها عذاباً في الآخرة هاه وأيمُ الله ما حوتٌ أخذه قومٌ
فأكلوه أعظمُ عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل
موهدا والساعةُ أدهى وأمرّ
(3/287)
وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ
الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} منصوبٌ على
المفعوليةِ بمضمرِ معطوفٍ على قوله تعالى واسألهم وتأذّن بمعنى
آذن كما أن توعّد بمعنى أوعد أو بمعنى عزم فإن العازمَ على
الأمر يحدث به نفسه وأُجري مُجرى فعل القسمِ كعلم الله وشهد
الله فلذك أجيب بجوابه حيث قيل {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى
يَوْمِ القيامةِ} أي واذكر لهم وقت إيجابِه تعالى على نفسه أن
يسلِّط على اليهود البتة {مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب}
كالإذلال وضربِ الجزية وغير ذلكَ من فنونِ العذابِ وقد بعثَ
الله تعالى عليهم بعد سليمانَ عليه السلام بُختَ نَصّر فخرّب
ديارهم وقتل مقاتِلتَهم وسبى نساءَهم وذرارِيَهم وضربِ الجزية
على مَنْ بقي منهم ووكانوا يؤدّونها إلى المجوس حتى بعث
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزيةَ
عليهم فلا تزوال مضروبةً إلى آخر الدهر {إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ العقاب} يعاقبهم في الدنيا {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ
رَّحِيمٌ} لمن تاب وآمن منهم
(3/287)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ
ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
{وقطعناهم} أي فرقنا بني إسرائيلَ {فِى
الأرض} وجعلنا كل فِرقةٍ منهم في قُطر من أقطارها بحيث لا
تخلوا ناحيةٌ منها منهم تكملةً لأدبارهم حتى لا تكون لهم شوكةٌ
وقوله تعالى {أُمَمًا} إما مفعولٌ ثانٍ لقطّعنا أو حالٌ من
مفعوله {مّنْهُمُ الصالحون} صفةٌ لأمماً أو بدلٌ منه وهم الذين
آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي
ناسٌ دون ذلك الوصفِ أي منحطّون عن الصلاح وهم كَفرتُهم
وفَسَقتُهم {وبلوناهم بالحسنات والسيئات}
(3/287)
بالنعم والنقم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
عمَّا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ والمعاصي
(3/288)
فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ
هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ
الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(169)
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد
المذكورين {خَلْفٌ} أي بدلُ سوءٍ مصدرٌ نُعت به ولذلك يقعُ على
الواحدِ والجمعِ وقيل جمع وهو شائعٌ في الشر والخَلَفُ بفتح
اللام في الخير والمرادُ به الذين كانوا في عصر رسول الله صلى
الله عليه وسلم {وَرِثُواْ الكتاب} أي التوراةَ مِن أسلافهم
يقرءونها ويقفُون عَلى ما فَيها {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا
الادنى} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتِهم
إياه أي يأخذون حُطامَ هذا الشيءِ الأدنى أي الدنيا وهو من
الدنو أو الدناءة والمرادُ به ما كانوا يأخذونه من الرِّشا في
الحكومات وعلى تحريف الكلاموقيل حال من واو ورثوا
{وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ولا يؤاخذُنا الله تعالى بذلك
ويتجاوز عنه والجملةُ تحتمل العطفَ والحالية والفعلُ مسندٌ
مسندٌ إلى الجار والمجرور أو مصدر يأخذون {وَإِن يَأْتِهِمْ
عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} حال من الضمير في لنا أي يرجعون
المغفرةَ والحال أنهم مُصِرّون على الذنب عائدون إلى مثله غيرَ
تائبين عنه {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب} أي
الميثاقُ الواردُ في الكتاب {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله
إِلاَّ الحق} عطفُ بيانٍ للميثاق أو متعلق به أي بأن لا يقولوا
الخ والمرادُ به الردُّ عليهم والتوبيخُ على بتّهم القولَ
بالمغفرة بلا توبةٍ والدِلالةُ على أنها افتراءٌ على الله
تعالى وخروجٌ عن ميثاق الكتاب {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} عطفٌ
على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقريرٌ أو على ورِثوا وهو
اعتراض {والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ما فعل
هؤلاء {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى
المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد وقرىء بالياء وفي الالتفات
تشديدٌ التوبيخ
(3/288)
وَالَّذِينَ
يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} أي يتمسكون
في أمور دينهم يقال مسَك بالشيء وتمسّك به قال مجاهد هم الذين
آمنوا من أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنُ سَلاَمٍ وأصحابِه
تمسكوا بالكتاب الذي جاءَ به موسَى عليه السلام فلم يحرّفوه
ولم يكتُموه ولم يتخذوه مأكلةً وقال عطاء هم أمة محمدٍ صلَّى
الله عليهِ وسلم وقرىء يُمْسِكون من الإمساك وقرىء تمسكوا
واستمسكوا موافقاً لقوله تعالى {وأقاموا الصلاة} ولعلالتغيير
في المشهور للدلالة على أن التمسّك بالكتاب أمرٌ مستمرٌ في
جميع الأزمنة بخلاف إقامةِ الصلاة فإنها مختصةٌ بأوقاتها
وتخصيصُها بالذِّكرِ من بين سائر العبادات لإنافتها عليها
ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ نسقاً على الذين يتقون وقولُه أفلا
تعقلون اعتراضٌ مقرر لما قبله وإما الرفعُ على الابتداءِ
والخبرُ قوله تعالى {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين}
والرابطُ إما الضميرُ المحذوفُ كما هو رأيُ جمهورِ البصْريين
والتقديرُ أجرُ المصلحين منهم وإما الألفُ واللامُ كما هو رأيُ
الكوفيِّينَ فإنه في حكم مُصلحيهم كما في قوله تعالى فإن الجنة
(3/288)
الأعراف آية 171 172
هِىَ المأوى أي مأواهم وقولُه تعالى مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ
الابواب أي أبوابُها وإما العمومُ في مصلحين فإنه من الروابط
ومنه نعم الرجلُ زيدٌ على أحد الوجة وه وقيل الخبرُ محذوفٌ
والتقديرُ والذين يمسّكون بالكتاب مأجورون أو مثابون وقوله
تعالى إِنَّا لاَ نُضِيعُ الخ اعتراضٌ مقرر لما قبله
(3/289)
وَإِذْ نَتَقْنَا
الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ
وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا
مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} أي
قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي سقيفةٌ
وهي كلُّ ما أظلك {وَظَنُّواْ} أي تيقنوا {أَنَّهُ وَاقِعٌ
بِهِمْ} ساقطٌ عليهم لأن الجبلَ لا يثبُت في الجو لأنهم كانوا
يُوعَدون به وإطلاق الظن في الحطكاية لعدم وقوعِ متعلَّقِه
وذلك أنهم أبَوْا أن يقبلوا أحكامَ التوراة لثقلها فرفع الله
تعالى عليهم الططور وقيل لهم إن قبِلتم ما فيها فبها وإلا
ليقعَنَّ عليكم {خُذُواْ ما آتيناكم} أي وقلنا أو قائلين خذوا
ما آتيناكم من الكتاب {بقوة} بحدو عزيمة على تحمل مشاقِّه وهو
حالٌ من الواو {واذكروا مَا فِيهِ} بالعمل ولا تتركوه
كالمنسيِّ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بذلك قبائحَ الأعمالِ
ورذائلَ الأخلاق أو راجين أن تنتظِموا في سلك المتقين
(3/289)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} منصوبٌ بمضمرٍ
معطوفٌ على ما انتصب به إذ نتقنا مَسوقٌ للاحتجاج على اليهود
بتذكير الميثاقِ العام المنتظمِ للناس قاطبةً وتوبيخِهم بنقضه
إثرَ الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاقِ الطورِ وتعليقُ الذكر
بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوزادث قد مر
بيانُه مراراً أي واذكرُ لهم أخذ ربُّك {مِن بَنِى آدم}
المرادُ بهم الذين وَلدَهم كائناً من كان نسلاً بعد نسلٍ سوى
مَنْ لم يولدْ له بسبب من الأسباب كالعُقم وعدمِ التزوج والموت
صغير وإيثارُ الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن
المأخوذِ لما فيه من الإنباء عن الاجتناء والاصطفاء هو السببُ
في إسناده إلى اسم الربِّ بطريق الالتفاتُ مع ما فيه من
التمهيد للاستفهام الآتي وإضافتُه إلى ضميره صلى الله عليه
وسلم للتشريف وقوله تعالى {مِن ظُهُورِهِمْ} بدلٌ من بني آدمَ
بدلَ البعضِ بتكرير الجار كما في قوله تعالى لِلَّذِينَ
استضعفوا لِمَنْ آمن منهم ومن في الموضعين ابتدائيةٌ وفيه
مزيدُ تقريرٍ لابتنائه على البيان بعد الإبهامِ والتفصيلُ غب
الإجمال وتنبيه على أن الميثاقَ قد أُخذ منهم وهم في أصلاب
الآباءِ ولم يُستودَعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى
{ذُرّيَّتُهُم} مفعولُ أخذَ أُخِّر عن المفعول بواسطة الجارِّ
لاشتماله على ضمير راجعٍ إليه ولمراعاة أصالتِه ومنشتيته ولما
مرا مراراً من التَّشويقِ إلى المؤخّر وقرىء ذرّياتِهم
والمرادُ بهم أولادُهم على العموم فيندرج فيهم اليهودُ
المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اندراجاً أولياً كما
اندرج أسلافُهم في بني آدم كذلك وتخصيصُهما باليهود سلفاً
وخلفاً مع أن ما أريد بيانُه من بديع صنع الله تعالى عزَّ
وجلَّ شاملٌ للكل كافة مُخِلٌّ بفخامة التنزيلِ وجزالةِ
التمثيل {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي أشهد كل واحدةٍ
من أولئك الذرياتِ المأخوذين من
(3/289)
الأعراف آية 173
ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريراً لهم بربوبيته
التامةِ وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص وغيرِ ذلك من
أحكامها وقوله تعالى {أَلَسْتَ بربكم} على إرادى ة القولِ أي
قائلاً ألست بربكم ومالكَ أمرِكم ومربيكم على الإطلاق من غير
أن يكون لأحد مدخلٌ في شأن من شئونكم فينتظم استحقاقُ
المعبودية ويستلزم اختصاصَه به تعالى {قَالُواْ} استئناف
مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا قالوا حينئذ
فقيل {قالوا بلى شَهِدْنَا} أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا
ربَّ لنا غيرُك كما ورد في الحديث الشريف وهذا تمثيلٌ لخلقه
تعالى إياهم جميعاً في مبدأ الفطرةِ مستعدين للاستدلال
بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ المؤدية إلى التوحيد
والإسلامِ كما ينطِق به قوله صلى الله عليه وسلم كلُّ مولودٍ
يُولد على الفطرة الحديث مبنيٌّ على تشبيه الهيئةِ المنتزَعَةِ
من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيتِه بعد تمكينِهم منها بما
رَكَّز فيهم من العقول والبصائر ونصبَ لهم في الآفاق والأنفسِ
من الدلائل تمكيناً تاماً ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا
وتعهرضهم لها تعرضاً قوياً بهيئة منتزعةٍ من حمله تعالى إياهم
على الاعتراف بها بطريق الأمرِ ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير
تلعثم أصلاً من غير أن يكون هناك أخذٌ وإشهادٌ وسؤالٌ وجواب
كما في قوله تعالى فَقَالَ لهاوللأرض ائتيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وقوله تعالى {أَن
تَقُولُواْ} بالتاء على تلوين الخطابِ وصرفِه عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديداً في الإلزام أو
إليهم وإلى متقدّميهم بطريق التغليبِ لكن لا من حيث إنهم
مخاطَبون بقوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ فإنه ليس من الكلام
المحكىء وقرىءبالياء على أن الضمير للذرية وأيا ما كان فهو
مفعولٌ له لما قبله من الأخذ والإشهاد أيْ فعلنَا ما فعلنَا
كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ أو يقولوا هم
{يَوْمُ القيامة} عند ظهور الأمرِ {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} عن
وحدانية الربوبيةِ وأحكامِها {غافلين} لم ننبه عليه فإنه حيث
جُبلوا على ما ذكر من التهيؤ التامِّ لتحقيق الحقِّ والقوة
القريبةِ من الفعل صاروا محجوجين عاجزين عن الاعتذار بذلك إِذْ
لا سبيلَ لأحدٍ إلى إنكار ما ذُكر من خلقَهم على الفطرة
السليمةِ وقوله تعالى
(3/290)
أَوْ تَقُولُوا
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً
مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
(173)
{أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ
آباؤنا} عطف على تقولوا وأو لمنعِ الخلوِّ دونَ الجمعِ أي هم
اخترعوال الإشراكَ وهم سنّوه {مِن قَبْلُ} أي من قبل زمانِنا
{وَكُنَّا} نحن {ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى
السبيل ولا نقدِر على الاستدلال بالدليل {أَفَتُهْلِكُنَا
بِمَا فَعَلَ المبطلون} من آبائنا المُضلّين بعد ظهور أنهم
المجرمون ونحن عاجزون عن التجبير والاستبداج بالرأي أو تؤاخذنا
فتهلكنا الخ فإنَّ ما ذُكر من استعدادهم الكاملِ يسُدّ عليهم
بابَ الاعتذار بهذا أيضاً فإن التقليدَ عند قيامِ الدلائلِ
والقدرةِ على الاستدلال بها مما لا مساغَ له أصلاً هذا وقد
حُملت هذه المقاولة على الحقيقة كما رُوي عن ابنِ عباس رضي
الله عنهما من أنه لما خلقَ الله تعالى آدمَ عليه السلام مسحَ
ظهرَه فأخرج منه كلَّ نسَمةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامة فقال
أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى فنودي يومئذ جَفّ القلمُ بما
هو كائنٌ إلى يوم القيامة وقد روي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه
سئل عن الآية الكريمة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
سُئل عنها فقال إنَّ الله تعالى خلق آدمَ ثم مسحَ ظهرَه بيمينه
فاستخرج منه ذريةً فقال خلقت هؤلاء للجنة
(3/290)
الأعراف آية 174 175 وبعمل أهلِ الجنة
يعملون ثم مسح ظهرَه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار
وبعمل أهلِ النار يعملون وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكلَّ من
ظهره عليه الصلاة والسلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه السلام
أبناءَه الصُّلبية ومن ظهرهم أبناءَهم الصلبية وهكذا إلى آخر
السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصَّلاة
والسَّلام كان مَساقُ الحديثين الشريفين بيانَ حال الفريقين
إجمالا من غير أيتعلق بذكر الوسايط غرض علمي نسلب إخراجِ
الكلِّ إليه وأما الآيةُ الكريمة فحيث كانت مسوقةً للاحتجاج
على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانِ
عدمِ إفادةِ الاعتذارِ بإسناد الإشراكِ إلى آبائهم اقتضى
الحالُ نسبةَ إخراجِ كل واحدٍ منهم إلى ظهر أبيهم من غير
تعرّضٍ لإخراج الأبناءِ الصلبيةِ لآدم عليه السلام من ظهره
قطعاً وعدمُ بيان الميثاقِ في حديث عمرَ رضي الله تعالى عنه
ليس بياناً لعدمه ولا مستلزِماً له وأما ما قالُوا من أنَّ
أخذَ الميثاق لإسقاط عذرِ الغفلةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى
أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين
ومعلوم أنه غيرُ دافع لغفلتهم في دار التكليفِ إذ لا فردٍ من
أفراد البشر يذكُر ذلك فمردودٌ لكنْ لا بما قيلَ من أن الله عز
وجل قد أوضح الدلائلَ على وحدانيته وصدقِ رسلهِ فيما أَخبروا
به فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزِمتْه الحُجة
ونسيانُهم وعدمُ حفظهم لا يُسقط الاحتجاجَ بعد إخبار المخبِرِ
الصادقِ بل بأن قوله تعالى أَن تَقُولُواْ الخ ليس مفعولا لا
لقوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ وما يتفرَّع عليه من قوله بلى
شهِدنا حتى يجب كونُ ذلك الإشهادِ والشهادة محفوظاً لهم في
إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلامُ والمعنى فعلنَا مَا
فعلنَا منْ الأمر بذكر الميثاقِ وبيانِه كراهةَ أن تقولوا أو
لئلا تقولوا أيها الكفرةُ يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك
الميثاقِ لم نُنَبَّه عليه في دار التكليفِ وإلا لعمِلنا
بموجبه هذا على قراءة الجمهور وأما على القراءة بالياء فهو
مفعول له لنفس الأمر المضمرِ العاملِ في إذ أخذ والمعنى اذكُرْ
لهم الميثاقَ المأخوذَ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة
بالغفلة عنه أو بتقليد الآباءِ هذا على تقديرِ كونِ قوله تعالى
شَهِدْنَا من كلام الذرية وهو الظاهرُ فأما على تقديرِ كونِه
من كلامه تعالى فهو العامل في أن تقولوا ولا محذور ألأصلا إذ
المعنى شهِدنا قولَكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا
نردكم ونكذبكم حينئذ
(3/291)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
{وكذلك} إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكور
بعجه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المُشَارِ إليهِ
وبُعْدِ منزلتِه والكاف مقحمة لما أفاده اسمُ الإشارةِ من
الفخامة والتقديمُ على الفعلِ لإفادةِ القصْر ومحلُه النصبُ
على المصدرية أي ذلك التفصيلَ البليغَ المستتبِعَ للمنافع
الجليلة {نُفَصّلُ الآيات} المذكورةَ لا غيرَ ذلك
{وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وليرجعوا عمَّا هُم عليهِ من
الإصرار على الباطل وتقليدِ الآباء نفعل التفصيلَ المذكورَ
قالوا إن ابتدائيتان ويجوز أن تكون الثانيةُ عاطفةً على
مقدَّرَ مترتبٍ على التفصيل أي وكذلك نفصل الآيات ليقفوا عَلى
ما فَيها من المرغّبات والزواجر وليرجعوا الخ
(3/291)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
{واتل عليهم} عطف
(3/291)
الأعراف آية 176
على المضمرِ العاملِ في غذ أخذ واردٌ على نمطه في الإنباء عن
الحَوْر بعد الكَوْر والضلالةِ بعد الهدى أي واتل على اليهود
{نَبَأَ الذى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أي خبَره الذي له شأنٌ
وخطَرٌ وهو أحدُ علماءِ بني إسرائيلَ وقيل هو بلعمُ بنُ
باعوراءَ أو بلعامُ بنُ باعر من الكنعانيين أوتي علمَ بعضِ
كتبِ الله تعالى وقيلَ هُو أُميةُ بنُ أبي الصَّلْت وكان قد
قرأ الكتبَ وعلم أن الله تعالى مرسِلٌ في ذلك الزمان رسولاً
ورجا أن يكون هو الرسولَ فلما بعث الله تعالى النبيِّ صلَّى
الله عليهِ وسلم حسَده وكفر به والأولُ هو الأنسبُ بمقام
التوبيخ اليهود بهَناتهم {فانسلخ مِنْهَا} أي من تلك الآيات
انسلاخَ الجِلد من الشاة ولم يُخطِرْها بباله أصلاً أو خرج
منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهرِه وأياً ما كان
فالتعبير عنه بالانسلاخ المنبىءعن اتصال المحيد بالمُحاط خلقةً
وعن عدم الملاقاة بينهما أبداً للإيذان بكمال مباينتِه للآيات
بعد أن كان بينهما كمالُ الاتصال {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} أي
تبعه حتى لحِقه وأدركه فصار قريناً له وهو المعنى على قراءة
فاتّبعه من الافتعال وفيه تلويحٌ بأنه أشدُّ من الشيطان
غَوايةً أو أتبعه خُطُواتِه {فَكَانَ مِنَ الغاوين} فصار من
زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين
وروي أن قومه طلبوا إليه أن يدعوَ على موسى عليه السلامك فقال
كيف أدعو على مَنْ معه الملائكة فلم يزالوا به حتى فعل فبقُوا
في التيه ويرده أن التيهَ كان لموسى عليه السلام رَوْحاً وراحة
وإنما عُذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام
عليهم كما مر في سورة المائدة
(3/292)
وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{وَلَوْ شِئْنَا} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ
لبيانِ مناطِ ما ذُكر من انسلاخه من الآيات ووقوعِه في مهاوي
الغَواية ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ
مفعولِها مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المستمرة أي ولو شئنا
رفعه لرفعنا أي إلى المنازل العاليةِ للأبرار العالمين بتلك
الآياتِ والعاملين بموجبها لكن لا بمحض مشيئتِنا من غير أن
يكون له دخلٌ في ذلك أصلاً فإنه منافٍ للحكمة التشريعية
المؤسسةِ على تعليق الأجزيةِ بالأفعال الاختيارية للعباد بل مع
مباشرته للعمل المؤدِّي إلى الرفع بصرف اختيارِه إلى تحصيله
كما ينبىء عنه قوله تعالى {بِهَا} أي بسبب تلك الآياتِ بأن
عمِل بموجبها فإن اختيارَه وإن لم يكن مؤثراً في حصوله ولا في
ترتب الرفعِ عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقَه تعالى
مَنوطٌ بذلك البتةَ حسب جَرَيان العادةِ الإلهية وقد أُشير إلى
ذلك في الاستدراك بأن أُسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث
قيل {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض} مع أن الإخلادَ إليها أيضاً
مما لا يتحقق عند صرف اختيارِه إليه إلا بخلقه تعالى كأنه قيل
ولو شئنا رفعَه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي
هي أقوى أسبابِ الرفع ولكن لم نشأْه لمباشرته لسبب نقيضِه
فتُرك في كل من المقامين ما ذُكِرَ في الآخر تعويلاً على إشعار
المذكورِ بالمطويّ كما في قوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ الله
بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ فلا راد
(3/292)
الأعراف آية 176
لِفَضْلِهِ وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن
الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه
لفعله حقيقةً كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى
وتفضّلاته وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب
الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكر
الإرادة مع الخير والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو
السرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى
وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ
فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائرِه والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع
الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل السفالة والمعنى
ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية أو الضَّعةَ
والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة {واتبع هَوَاهُ} مُعرِضاً عن
تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين
وإلى ذلك أشير بقوله تعالى {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} لما
أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه
وأذلِّها حيث قيل {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ
تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته
في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ
والراحة فكأنه قيل فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة
والدناءة وإيثارُ الجملة الاسميةِ على العفلية بأن يقال فصار
مثلُه كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافه لتلك الحالة
الخسيسة وكمال استقراره واستمراره عليها والخطابُ في فعل
الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة
فظاعةِ حالِه واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد أي هو
ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأعجته
بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر
على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف
قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج
إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب
والإعياءِ والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل
وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ لا
محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى خَلَقَهُ مِن
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ إثرَ قولَه تعالى
إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدم وقيل هي في محل
النصب على الحالية من الكلب بناءً على خروجهما من حقيقة الشرطِ
وتحوّلِهما إلى معنى التسوية حسب تحولِ الاستفهامين المتناقضين
إليه في مثلِ قولِه تعالى أأنذرتهم أم لم تنذرهم كأنه قيل
لاهثاً في الحالتين وأياً ما كان فالأظهرُ أنه تشبيهٌ للهيئة
المنتزَعَة مما اعتراه بعد الانسلاخِ من سوء الحالِ واضطرامِ
القلب ودوامِ القلق والاضطراب وعدمِ الاستراحة بحال من الأحوال
بالهيئة المنتزعةِ مما ذكر من حال الكلب وقيل لما دعا بلعم على
موسى عليه السلام خرج لسانُه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب
إلى أن هَلَك {ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من الحالة الخسيسةِ
منسوبةٌ إلى الكلب أو إلى المنسلخ وما فيه من معنى البعد
للإيذان ببُعد منزلتِها في الخسة والدناءة أي ذلك المثلُ
السيءُ {مَثَلُ القوم الذين كذبوا بآياتنا} وهم اليهودُ حيث
أوُتوا في التوراة ما أوُتوا من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ
وسلم وذكر القرآن المعجزة وما فيه فصدقوه وبشروا الناسَ
باقتراب مبعثِه وكانوا يستفتِحون به فلما جاءهم ما عَرَفوا
كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة {فاقصص القصص} القَصصُ مصدرٌ
سُمِّي به المفعولُ كالسلْب واللامُ للعهد والفاءُ لترتيب ما
بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكورَ مثلُ هؤلاء
المكذبين فاقصُصه عليهم حسبما أوحي إليك {لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ} فيقفون على جلية الحالِ وينزجرون
(3/293)
الأعراف آية 177 178
عمَّا هُم عليهِ من الكفر والضلالِ ويعلمون أنك قد علِمتَه من
جهة الوحي فيزدادون إيقاناً بك والجملة في محل النصب على أنها
حالٌ من ضمير المخاطَب أو على أنها مفعولٌ له أي فاقصُص القصص
راجياً لتفكرهم أي أو رجاءً لتفكرهم
(3/294)
سَاءَ مَثَلًا
الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ
كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
{سَاء مَثَلاً} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان
كمالِ قبحِ حالِ المكذبين بعد بيانِ كونِه كحال الكلبِ أو
المنسلخ وساء بمعنى بئس وفاعلُها مضمرٌ فيها ومثلاً تمييزٌ
مفسرٌ له والمخصوصُ بالذم قولُه تعالى {القوم الذين كذبوا
بآياتنا} وحيث وجب التصادقُ بينه وبين الفاعلِ والتمييز وجب
المصيرُ إلى تقدير مضافٍ إما إليه وهو الظاهرُ أي ساء مثلاً
مثَلُ القو الخ أو إلى التمييز أي ساء أصحابُ مثلِ القوم الخ
وقرىء ساء مثلُ القوم وإعادةُ القومِ موصوفاً بالموصول مع
كفاية الضميرِ بأن يقال ساء مثلاً مثلُهم للإيذان بأن مدارَ
السوء مَا في حيزِ الصِّلةِ ولربط قولِه تعالى {وَأَنفُسَهُمْ
كَانُواْ يَظْلِمُونَ} به فإنه إما معطوفٌ على كذَبوا داخلٌ
معه في حكم الصلةِ بمعنى جمعوا بين تكذيبِ آياتِ الله بعد قيام
الحجةِ عليها وعلْمِهم بها وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة أو منقطع
عنه بمعنى وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وبالَه لا
يتخطاها وأيا ما كان ففي يظلمون لمحٌ إلى أن تكذيبَهم بالآيات
متضمنٌ للظلم وأن ذلك أيضاً معتبرٌ في القصرُ المستفادِ من
تقديمِ المفعول
(3/294)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (178)
{مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى} لما أُمر
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يقُصَّ قصصَ المنسلخِ على
هؤلاء الضالين الذين مثلُهم كمثله ليتفكروا فيه ويترُكوا ما هم
عليه من الإخلاد إلى ى الضلالة ويهتدوا إلى الحقعقب ذلك بتحقيق
أن الهدايةَ والضلالةَ من جهةِ الله عزَّ وجل وإنما العِظةُ
والتذكيرُ من قبيل الوسائطِ العادية في حصول الاهتداءِ من غير
تأثير لها فيه سوى كونِها دواعيَ إلى صرف العبدِ اختيارَه نحو
تحصيلِه حسبما نيط به خلقُ الله تعالى إياه كسائر أفعالِ
العباد فالمرادُ بهذه الهدايةِ ما يوجب الاهتداءَ قطعاً لكن لا
لأن حقيقتَها الدلالة الموصلة إلى الغية البتة بل لأنها الفردُ
الكاملُ من حقيقة الهدايةِ التي هي الدلالةُ إلى ما يوصل إلى
البغتة أي ما مِنْ شأنِه الإيصالُ إليها كما سبق تحقيقُه في
تفسيرِ قولِه تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وليس المرادُ مجردَ
الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى حتى يُتوهّم عدمُ الإفادةِ
بحسب الظاهر لظهور استلزامه هدايتِه تعالى للاهتداء ويُحمل
النظمُ الكريمُ على تعظيم شأن الأهتداءِ والتنبيه على أنه في
نفسه كمالٌ جسيمٌ ونفعٌ عظيمٌ لو لم يحصل له غير لكفاه بل هو
قصرُ الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريفُ
الخبرِ فالمعنى من يهدِه الله أي يخلقْ فيه الاهتداء على الوجه
المذكور فهو المهتدي لا غيرُ كائناً من كان {وَمَن يُضْلِلِ}
بأن لم يخلُقْ فيه الاهتداءَ بل خلق فيه الضلاللا لصرف اختياره
نحوَها {فَأُوْلَئِكَ} الموصوفون بالضلالة على الوجه المذكور
{هُمُ الخاسرون} أي الكاملونَ في الخُسران لا غير وإفرادُ
المهتدي نظراً إلى لفظ مَنْ وجمع الخاسرين نظراً إلى معناها
للإيذان باتحاد منهاجِ الهُدى وتفرّقِ
(3/294)
الأعراف آية 179
طرقِ الضلال
(3/295)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا
يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا
أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ (179)
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} كلامٌ مستأنفٌ مقرّرٌ
لمضمون ما قبله بطريق التذييلِ أيخلقنا {لِجَهَنَّمَ} أي
لدخولها والتعذيبِ بها وتقديمُه على قوله تعالى {كَثِيراً} أي
خلقاً كثيراً مع كونه مفعولاً به لما في توابعه من نوع طولٍ
يؤدي توسيطه بينهما وتأخيره وعنها إلى الإخلالِ بجَزَالةِ
النظمِ الكريمِ وقوله تعالى {مّنَ الجن والإنس} متعلقٌ بمحذوفٍ
هو صفةٌ لكثيراً أي كائناٍ منهما وتقديمُ الجنِّ لأنهما أعرف
من الإنس في الاتصاف بما نحن فيه من الصفات وأكثرُ عدداً
وأقدمُ خلقاً والمرادُ بهم الذين حقت عليهم الكلمةُ الأزليةُ
بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبرِ من غير أنْ يكون مِنْ قِبَلهم
ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارَهم
نحوَ الحقِّ أبداً بل يُصِرُّون على الباطل من غير صارف يلويهم
ولا عاطفٍ يَثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الاعتبارِ جُعل
خلقهم مغيابها كما أن جميعَ الفريقين باعتبار استعدادِهم
الكامِل الفطري للعبادة وتمكنِهم التامِّ منها جعل خلقهم
مغيابها كما نطق به قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس
إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وقوله تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل
النصبُ على أنَّه صفةٌ أخرى لكثيرا وقوله تعالى {لاَّ
يَفْقَهُونَ بِهَا} في محلِ الرفعِ على أنه صفةٌ لقلوبٌ مؤكدةٌ
لما يفيده تنكيرُها وإبهامُها من كونها غيرَ معهودةٍ مخالِفةً
لسائر أفرادِ الجنس فاقدةً لكماله بالكلية لكن لا بحسب الفطرة
حقيقةً بل بسبب امتناعِهم عن صرفها إلى تحصيله وهذا وصفٌ لها
بكمال الإغراقِ في القساوة فإنها حيث لم يَتأتَّ منها الفقهُ
بحال فكأنها خلقت غيرَ قابلةٍ له رأساً وكذا الحالُ في أعينهم
وآذانِهم وحذفُ المفعول للتعميم أي لهم قلوبٌ ليس من شأنها أن
يفقهوا بها شيئاً مما مِنْ شأنه أن يُفقَه فيدخلُ فيه ما يليق
بالمقام من الحق ودلائلِه دخولاً أولياً وتخصيصُه بذلك مُخلٌّ
بالإفصاح عن كُنه حالِهم {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ
بِهَا} الكلامُ فيه كما فيما عطف هو عليه والمرادُ بالأبصار
والسمع المنفيَّيْن ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو
وظيفةُ الثقلين لا ما يتناول مجردَ الإحساسِ بالشبَح والصوتِ
كما هو وظيفة الأنعام أي لا يبصرون بها شيئاً من المبصرا
فيندرج فيه الشواهدُ التكوينيةُ الدالةُ على الحق اندراجاً
أوليا {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} أي شيئاً من
المسموعات فيتناول الآياتِ التنزيلية تناولاً أولياً وإعادةُ
الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظامِ الكلامِ بأنْ يقال
وأعينٌ لا يبصرون بها وآذانٌ لا يسمعون بها لتقرير سوءِ حالهِم
وفي إثبات المشاعر الثلاثةِ لهم ثم وصفِها بعدم الشعورِ دون
سلبِها عنهم ابتداءً بأن يقال ليس لهم قلوبٌ يفقهون بها ولا
أعينٌ يبصرون بها ولا آذانٌ يسمعون بها من الشهادة بكمالِ
رسوخِهم في الجهل والغَواية ما لا يخفى {أولئك} إشارةٌ إلى
المذكورين باعتبار اتصافِهم بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى
البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الضلال أي أولئك الموصوفون
بالأوصاف المذكورة {كالانعام} أي في انتفاء الشعورِ على الوجهِ
المذكورِ أو في أن مشاعرَهم متوجهةٌ إلى أسباب التعيشِ مقصورةٌ
عليها {بَلِ هُمْ أَضَلُّ} فإنها تدرِكُ ما من شأنها أن
تُدركَه من المنافع والمضارِّ فتجتهد في جلبها وسلبِها غايةَ
جهدِها مع كونها بمعزلٍ من الخلود وهؤلاء ليسوا
(3/295)
الأعراف آية 180 181
كذلك حيث لا يميِّزون بين المنافعِ والمضارِّ بل يعكسون الأمرَ
فيتركون النعيمَ المقيمَ ويُقْدِمون على العذاب الخالد وقيل
لأنها تعرِف صاحبها وتذكره وتطيعه وهوؤلاء لا يعرِفون ربَّهم
ولا يذكُرونه ولا يطيعونه وفي الخبر كلُّ شيءٍ أطوعُ لله من
ابن آدم {أولئك} المعنوتون بما مرّ من مِثْلية الأنعامِ
والشرِّيَّة منها {هُمُ الغافلون} الكاملون في الغفلة
المستحِقّون لأن يُخَصَّ بهم الاسمُ ولا يطلقَ على غيرهم كيف
لا وإنهم لا يعرون من شئون الله عز وجل ولا من شئون ما سواه
شيئاً فيشركون به سبحانه وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير
أصنامَهم التي هي من أخسّ مخلوقاتهِ تعالى
(3/296)
وَلِلَّهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (180)
{وَللَّهِ الأسماء الحسنى} تنبيهٌ للمؤمنين
على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملةِ مع المُخِلّين بذلك
الغافلين عنه سبحانه عما يليق به من الأمور وما لا يليقبه إثرَ
بيانِ غفلتِهم التامةِ وضلالتهم الطامة والحسنى تأثيث الأحسن
أي الأسماءُ التي هي أحسنُ الأسماءِ وأجلُّها لإنبائها عن أحسن
المعاني وأشرفِها {فادعوه بِهَا} أي فسمُّوه بتلك الأسماء
{وَذَرُواْ الذين يلحدون في أسمائه} الإلحاد واللحد الميل
وافنحراف يقال لحَد وألحَد إذا مال عن القصد وقرىء يَلحَدون من
الثلاثي أي يَميلون في شأنها عن الحق إلى الباطل إما بأن
يسمّوه تعالى بما لا توقيفَ فيه أو بما يوهم معنى فاسداً كما
في قول أهل البدو يا أبا المكارم يا أبيضَ الوجه يا بخى ونحوُ
ذلك فالمرادُ بالترك المأمور به الاجتنابُ عن ذلك وبأسمائه ما
أطلقوه عليه تعالى وسمَّوْه به على زعمهم لا أسماؤُه تعالى
حقيقةً وعلى ذلك يُحمل تركُ الإضمارِ بأن يقال يلحدون فيها
وإما بأن يعدلوا عن تسميته تعالى ببعض أسمائِه الكريمة كما
قالوا وما الرحمن ما نعرِف سوى رحمانِ اليمامة فالمرادُ بالترك
الاجتنابُ أيضاً وبالأسماء أسماؤُه تعالى حقيقةً فالمعنى
سمُّوه تعالى بجميع أسمائِه الحسنى واجتنبوا إخراجَ بعضِها من
البين وإما بأن يُطلقوها على غيره تعالى كما سمَّوا أصنامَهم
آلهة وإما بأن يشتقوا من بعضها أسماءَ أصنامِهم كما اشتقوا
اللاتَ من الله تعالى والعُزّى من العزيز فالمراد بالأسماء
أسماؤُه تعالى حقيقةً كما في الوجه الثاني والإظهارُ في موقعِ
الإضمارِ مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادَهم في
نفس الأسماءِ من غير اعتبار الوصفِ وليس المرادُ بالترك حينئذ
الاجتنابَ عن ذلك إذ لا يتوهم صدورُ مثلِ هذا الإلحادِ عن
المؤمنين ليُؤمَروا بتركه بل هو الإعراضُ عنهم وعدمُ المبالاة
بما فعلوا ترقباً لنزول العقوبةِ بهم عن قريب كما هو
المتبادَرُ من قوله تعالى {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ} فإنه استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر
بعدم المبالاةِ والإعراض عن المجازاة كأنَّه قيلَ لَم لا نبالي
بإلحادهم ولا نتصدىّ لمجازاتهم فقيل لأنه ينزل بهم عقوبتَه
وتتشفَّوْن بذلك عن قريب وأما على الوجهين الأولين فالمعنى
اجتنبوا إلحادَهم كيلا يُصيبَكم ما أصابهم فإنه سينزِل بهم
عقوبةُ إلحادهم
(3/296)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ
بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} بيانٌ إجمالي لحال
(3/296)
الأعراف آية 182 183
مَنْ عدا المذكورين من الثقلين الموصوفينَ بما ذُكر من الضلال
والإلحادِ عن الحق ومحلُّ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ إما
باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوفِ وما بعده خبرُه كما مرَّ
في تفسيرِ قولِه تعالى وَمِنَ الناس الخ أي وبعضُ مَنْ خلقنا
أو وبعضٌ ممن خلقنا أمةٌ أي طائفةٌ كثيرةٌ يهدون الناسَ
ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحقِّ ويدلونهم على الاستقامة
وبالحق يحكمون في الحكومات الجاريةِ فيما بينهم ولا يجورون
فيها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها
هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة
الآيةَ وعنه عليه الصَّلاةُ والسلام إن من أمتي قوماً على الحق
حتى ينزل عيسى وروي لا تزال من أمتي طائفةٌ على الحق إلى أن
يأتي أمرُ الله وروي لا تزال من أمتي أمةٌ قائمةً بأمر الله لا
يضرُهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله تعالى وهم
ظاهرون وفيه من الدلالة على صحة الإجماعِ ما لا يخفي والاقتصار
على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمرٌ
محققٌ غنيٌّ عن التصريح به
(3/297)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
(182)
{والذين كذبوا بآياتنا} شروعٌ في تحقيق
الحقِّ الذي به يهدي الهادون وبه بعدل العادلون وحملُ الناسِ
على الأهتداء به على وجه الترهيب ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على
أنَّه مبتدأٌ خبرُه ما بعدَهُ من الجملةِ الاستقبالية وإضافةُ
الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لتشريفها واستعظامِ الإقدام على
تكذيبها أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيارُ الحقِّ
ومصداقُ الصدقِ والعدل {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي نستدينهم البتةَ
إلى الهلاك شيئاً فشيئاً والاستدراجُ استفعالٌ من درَجَ إما
بمعنى صعِد ثم اتُسِع فيه فاستُعمل في كل نقل تدريجيَ سواءٌ
كان بطريق الصعودِ أو الهبوط أو الاستقامة وإما بمعنى مضى
مشياً ضعيفاً وإما بمعنى طوَى والأولُ هو الأنسبُ بالمعنى
المرادِ الذي هو النقلُ إلى أعلى درجاتِ المهالك ليبلُغ أقصى
مراتبِ العقوبة والعذاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجيَ من حال
إلى حال من الأحوال الملائمةِ للمنتقل الموافقةِ لهواه بحيث
يزعُم أن ذلك ترقَ في مراقي منافعِه مع أنه في الحقيقة تردَ في
مهاوي مصارعِه فاستدراجُه سبحانه إياهم أن يواتر عليهم النعم
مع انهماكهم في الغيّ فيحسَبوا أنها لُطفٌ لهم منه تعالى
فيزداد بطراً وطغياناً لكن لا على أن المطلوبَ تدرُّجُهم في
مراتب النعمِ بل هو تدرجُهم في مدارج المعاصي إلى أن يحِقَّ
عليهم كلمةُ العذاب على أفظع حال وأشعنها والأولُ وسيلةٌ إليه
وقوله تعالى {من حيث لا يَعْلَمُونَ} متعلقٌ بمُضمرٍ وقع صفةً
لمصدر الفعلِ المذكور أي سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا
يعلمون أنه كذلك بل يحسَبون أنه أثَرةٌ من الله عز وجل وتقريبٌ
منه وقيل لا يعلمون ما يراد بهم
(3/297)
وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
{وَأُمْلِى لَهُمْ} عطفٌ على سنستدرجهم
غيرُ داخلٍ في حكم السين لِما أن الإملاءِ الذي هو عبارةٌ عن
الإمهال والإطالةِ ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصلِ
في نفسه شيئاً فشيئاً بل هو فعلٌ يحصُل دفعةً وإنما الحاصلُ
بطريق التدريج آثاره
(3/297)
8 -
الأعراف آية 184
وأحكامهُ لا نفسُه كما يلوح به تغييرُ التعبيرِ بتوحيد الضميرِ
مع ما فيه من الافتنان المنبىءِ عن مزيدِ الاعتناءِ بمضمون
الكلامِ لابتنائه على تجديد القصدِ والعزيمة وأما أن ذلك
للإشعار بأنه بمحض التقديرِ الإلهي والاستدراجِ بتوسط
المدبّرات فمبْناه دِلالةُ نون الفظيعة على الشركة وأنى ذلك
وإلا لاحتُرز عن إيرادها في قوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ
الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ
أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ الآية بل إنما إيرادُها في أمثال هذه
المواردِ بطريق الجَرَيانِ على سَننِ الكبرياء {إِنَّ كَيْدِى
مَتِينٌ} تقريرٌ للوعيد وتأكيدٌ له أي قويلا يُدافع بقوة ولا
بحيلة والمرادُ به إما الإستدراجُ والإملاءُ مع نتيجتهما التي
هي الآخذُ الشديدُ على غِرّة فتسميتُه كيداً لما أن ظاهرَه
لطفٌ وباطنَه قهو وإما نفس ذلك ألخذ فقط فالتسميةُ لكون
مقدماتِه كذلك وأما أن حقيقةَ الكيدِ هو الأخذُ على خفاء من
غيرِ أنْ يُعتبر فيه إظهارُ خلافِ ما أبطنه فمما لا تعويلَ
عليه مع عدم مناسبتِه للمقام ضرورةَ استدعائِه لاعتبار القيدِ
المذكورِ حتماً
(3/298)
أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
{أولم يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن
جِنَّةٍ} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لإنكار عدمِ تفكرهم في شأنه صلى
الله عليه وسلم وجعلهم بحقيقة حالِه الموجبةِ للإيمان به وبما
أنزل عليه من الآيات التي كذبوا بها والهمزةُ للإنكار
والتعجيبِ والتوبيخ والواو للعطفِ على مقدرٍ يستدعيه سياق
النظم الكريم وسياقه وما إما استفهاميةٌ إنكاريةٌ في محل
الرفِع بالابتداء والخبرُ بصاحبهم وإما نافيةٌ اسمُها جِنةٌ
وخبرُها بصاحبهم والجِنةُ من المصادر التي يُراد بها الهيئة
كالركبة والجِلْسة وتنكيرُها للتقليل والتحقير والجملة معلقة
فعل التفكر لكونه من أفعل القلوب ومحلُها على الوجهين النصبُ
على نزعِ الجارِّ أي أكذّبوا بها ولم يتفكروا في أي شيء من
جنون ما كائنٍ بصاحبهم الذي هو أعظمُ الأمةِ الهادية بالحق
وعليه أنزلت الآيات أوفى أنه ليس بصاحيهم شيءٌ من جِنّة حتى
يؤدِّيَهم التفكرُ في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحةِ نبوته
فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات وقيل قد تم الكلامُ عند
قوله تعالى أولم يَتَفَكَّرُواْ أي أكذّبوا بها ولم يفعلوا
التفكرَ ثم ابتُدىء فقيل أيُّ شيءٍ بصاحبهم من جنة ما على
طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت أو قيل ليس بصاحبهم شيءٌ منها
والتعبيرُ عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم للإيذان بأن طولَ
مصاحبتهم له صلى الله عليه وسلم مما يطلعهم على نزاهته صلى
الله عليه وسلم عن شائبة ما ذكر ففيه تأكيدٌ للنكير وتشديدٌ له
والتعرضُ لنفي الجنونِ عنه صلى الله عليه وسلم مع وضوح
استحالةِ ثبوتِه له صلى الله عليه وسلم لما أن التكلمَ بما هو
خارقلقضية العقولِ والعادات لا يصدُر إلا عمن به مسن من
الجنونِ كيفما اتَّفق من غيرِ أن يكون له أصلٌ ومعنى أو عمن له
تأييد إلهي يخبر به عن الأمور الغيبية وإذ ليس به صلى الله
عليه وسلم شائبةُ الأولِ تعين أنه صلى الله عليه وسلم مؤيدٌ من
عندِ الله تعالى وقيل إنه صلى الله عليه وسلم علا الصفات ليلا
فجعل يدعو قريضا فخِذاً فخِذاً يحذّرهم بأسَ الله تعالى فقال
قائلُهم إن صاحبَكم هذا لمجنونٌ بات يهوت إلى الصباح فنزلت
فالتصريحُ بنفي الجنونِ حينئذ الرد على عظيمتهم الشنعاءِ
والتعبيرُ عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم واردٌ على شاكلة
كلامِهم مع ما فيه من النكتة المذكورة وقوله تعالى {إِنْ هُوَ
إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} جملةٌ مقررة لمضمون ما قبلها ومبينةٌ
لحقيقة حاله صلى الله عليه وسلم على منهاج قوله تعالى إِنْ هذا
إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ بعد قوله تعالى مَا هذا بَشَرًا أي ما
هو إلا مبالغٌ في الإنذار مظهرٌ له غاية الإظهار إبراز لكمال
الرأفة
(3/298)
الأعراف آية 185
ومبالغةً في الإعذار وقوله تعالى
(3/299)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ
أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
{أولم ينظُروا في ملكوت السماوات والارض}
استئناف آخرُ مسوقٌ للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل في
الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ الشاهدةِ
بصحة مضمونِ الآيات المنزلةِ إثر مانعي عليهم إخلالُهم بالتفكر
في شأنه صلى الله عليه وسلم والهمزةُ لما ذكر من الإنكار
والتعجب والتوبيخ والوا للعطف على المقدر المذكورِ أو على
الجملة المنفيةِ بلم والملكوتُ الملكُ العظيم أي أكذبوا بها أو
ألم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظرَ تأملٍ فيما يدل عليه
السمواتُ والأرض من عِظَم المُلك وكمالِ القدرة {وَمَا خَلَقَ
الله} أي وفيما خلق فيهما على أنَّه عطفٌ على ملكوت وتخصيصه
بهما لكما ظهورِ عِظَم المُلك فيهما أو وفي ملكوت ما خلق على
أنَّه عطفٌ على السموات والأرض والتعميمُ لاشتراك الكل في
الدِلالة على عظم الملكِ في الحقيقة وعليه قوله تعالى فسبحان
الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى {مِن شَىْء}
بيانٌ لما خلق مفيدٌ لعدم اختصاص الدِلالة المذكورة بجلائل
المصنوعاتِ دون دقائِقها والمعنى أولم ينظروا فى ملكوتُ
السموات والأرض وما خُلق فيهما من جليل ودقيقٍ مما ينطلق عليه
اسمُ الشيءِ ليدلَّهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى وبسائر
شئونه التي ينطِق بها تلك الآياتُ فيؤمنوا بها لاتحادهما في
المدلول فإن كلَّ فردٍ من أفراد الأكوانِ مما عزوهان دليلٌ
لائحٌ على الصانع المجيد وسبيلٌ واضحٌ إلى عالم التوحيد وقوله
تعالى {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} عطف على
ملكوت وإنْ مخففةٌ من أن واسمُها ضميرُ الشأن وخبرُها عسى مع
فاعلها الذي هو أن يكون واسمُ يكون أيضاً ضميرُ الشأن والخبرُ
قد اقترب أجلهم والمعنى أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى أن الشأن عسى
أن يكون الشأنُ قد اقترب أجلُهم وقد جوز أن يكون اسمُ يكون
أجلُهم وخبرُها قد اقترب على أنها جملةٌ من فعل وفاعل هو ضمير
أجلهم لتقدمه حكماً وأياً ما كان فمناطُ الإنكارِ والتوبيخِ
تأخيرُهم للنظر والتأمل أي لعلم يموتون عما قريب فمالهم لا
يسارعون إلى التدبُّر في الآيات التكوينيةِ الشاهدة بما كذبوه
من الآيات القرآنيةِ وقد جوز أن يكون الأجلُ عبارةً عن الساعة
والإضافةُ إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارِهم لها
وبحثِهم عنها وقوله تعالى {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بعده يؤمنون} قطع
الاحتمال إيمانِهم رأساً ونفيٌ له بالكلية مترتبٌ على ما ذكر
من تكذيبهم بالآيات وإخلالِهم بالتفكر والنظر والباءُ متعلقةٌ
بيؤمنون وضميرُ بعده للآيات على حذفِ المضاف المفهومِ من كذبوا
والتذكيرُ باعتبار كونِها قرآناً أو بتأويلها بالمذكور وإجراءِ
الضَّميرِ مُجرى اسمِ الإشارةِ والمعنى أكذبوا بها ولم يتفكروا
فيما يوجب تصديقها من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوالِ
المصنوعاتِ فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثلُ هذه
الشواهدِ القويةِ كلا وهيهات وقيل الضميرُ للقرآن والمعنى فبأي
حديث بعد القرآنِ يُؤْمِنُونَ إذَا لم يُؤمنُوا به وهو
النهايةُ في البيان وقيل هو إنكارٌ وتبكيتٌ لهم مترتيب على
إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذُكر كأنه قيل لعل أجلَهم
قد اقترب
(3/299)
الأعراف آية 186 187
فما لهم لا يبادِرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفَوْتِ وماذا
ينتظرون بعد وضوحِ الحقِّ وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن
يؤمنوا وقيل الضميرُ لأجَلهم والمعنى فبأي حديث بعد انقضائ
أجلِهم يؤمنون وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم على حذفِ مضافٍ
أيْ فبأي حديثٍ بعد حديثِه يؤمنون وهو أصدقُ الناس وقوله تعالى
(3/300)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (186)
{مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}
استئنافٌ مقررٌ لما قبله منبىءٌ عن الطبع على قلوبهم وقوله
تعالى {وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم} بالياء والرفع على الاستئناف
أي وهو يذرُهم وقرىء بنون العظيمة على طريقة الالتفاتِ أي ونحن
نذرهم وقرىء بالياء والجزمِ عطفاً على محل فلا هاديَ له كأنه
قيل من يُضللِ الله لا يهدِهِ أحدٌ ويذرْهم وقد روي الجزمُ
بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ وقوله تعالى {يعمهون} أي
يترددون ويتحيرون حالٌ من مفعول يذرُهم وتوحيدُ الضمير في حيز
النفي نظراً إلى لفظ مَنْ وجمعُه في حيز افثبات نظراً إلى
معناها للتنصيص على شمول النفي والإثباتِ للكل
(3/300)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ
إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{يسألونك عَنِ الساعة} استئنافٌ مَسوقٌ
لبيان بعضأحكام ضلالِهم وطغيانِهم أي عن القيامة وهي من
الأسماء الغالبة وإطلاقُها عليها إما لوقوعها بغتةً أو لسرعة
ما فيها من الحساب أو لأنها ساعةٌ عندِ الله تعالى معَ طولها
في نفسها قيل إن قوماً من اليهود قالوا يا محمدج أخبرنا متى
الساعةُ إن كنت نبياً فإنا نعلم متى هي وكان ذلك امتحاناً منهم
مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها وقيل السائلون قريشٌ
وقوله تعالى {أَيَّانَ مرساها} بفتح الهمزة وقد قرىء بكسرها
وهو ظرفُ زمانٍ متضمِّنٌ لمعنى الاستفهام ويليه المبتدأُ أو
الفعلُ المضارِعُ دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما قيل
اشتقاقُه من أيّ فَعْلانَ منه لأن معناه أيّ وقتٍ وهو من أويتُ
إلى الشيء لأن البعضَ آو إلى الكل ممتساند إليه ومحلُّه الرفعُ
على أنَّه خبرٌ مقدمٌ ومرساها مبتدأٌ مؤخرٌ أي متى إرساؤُها أي
إثباتُها وتقريرُها فإنه مصدرٌ ميميٌّ من أرساه إذا أثبته
وأقره ولا يكاد يُستعمل إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى
والجبال أرساها ومنه مرساةُ السفن ومحلُّ الجملة قيل الجرُّ
على البدليَّةِ من الساعة والتحقيقُ أن محلها النصبُ بنزع
الخافضِ لأنها بدلٌ من الجار والمجرور لا من المجرور فقط كأنه
قيل يسألونك عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرساها وفي تعليق السؤالِ
بنفس الساعةِ أولاً وبوقت وقوعِها ثانياً تنبيهٌ على أن
المقصِدَ الأصليَّ من السؤال نفسُها باعتبار حلولِها في وقتِها
المعين لا وقتُها باعتبار كونِه محلاً لها وقد سُلك هذا
المسلكُ في الجواب المقن أيضاً حيث أُضيف العلمُ بالمطلبو
بالسؤال إلى ضميرها فأخبر باختصاصه به عز وجل وحيث قيل {قُلْ
إِنَّمَا عِلْمُهَا} أي علمُها بالاعتبار المذكور {عِندَ
رَبّى} ولم يقل إنما علمُ وقتِ إرسائِها ومن لم يتنبّه لهذه
النكتة حمل
(3/300)
الأعراف آية 187
النظمَ الكريمَ على حذف المضافِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع
الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإيذان بأن توفيقه صلى
الله عليه وسلم للجواب على الوجه المذكور من باب التربية
والإرشاد ومعنى كونِه عنده تعالى خاصة أنه تعالى قد استأثر به
بحيث لم يخبِرْ به أحداً من ملك مقرّبٍ أو نبيَ مرسل وقوله
تعالى {لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} بيانٌ
لاستمرار تلك الحالةِ إلى حين قيامِها وإقناطٌ كليٌّ عن إظهار
أمرها بطريق الإخبارِ من جهتِه تعالى أو من جهة غيرِه لاقتضاء
الحكمةِ التشريعيةِ إياه فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجرُ عن
المعصية كما أن إخفاءَ الأجل الخاصِّ للإنسان كذلك والمعنى لا
يَكِشفُ عنها ولا يُظهر للناس أمرَها الذي تسألونني عنه إلا هو
بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسّط في إظهاره
لهم لكن لا بأن لا يُخبرَهم بوقتها قبل مجيئِه كما هوئول بل
بأن يُقيمَها فيشاهدوها عِياناً كما يفصح عنه التجليةُ
المُنبئةُ عن الكشف التامِّ المزيلِ للإبهام بالكلية وقوله
تعالى لِوَقْتِهَا أي في وقتها قيْدٌ للتجلية بعد ورودِ
الاستثناء عليها لا قبلَه كأنه قيل لا يجلّيها إلا هو في وقتها
إلا أنه قدم على الاتثناء للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أن
تجليتَها ليست بطريق الإخبارِ بوقتها بل بإظهار عينِها في
وقتها الذي يسألون عنه وقوله تعالى {ثقلت في السماوات والارض}
استئنافٌ كما قبله مقرر لمضمون ما قبله أي كبُرت وشقتْ على
أهلهما من الملائكة والثقلين كلٌّ منهم أهمّه خفاؤُها وخروجُها
عن دائرة العقولِ وقيل عظُمت عليهم حيث يُشفقون منها ويخافون
شدائدَها وأهوالَها وقيل ثقلت فيهما إذ لا يُطيقها منهما ومما
فيهما شيءٌ أصلاً والأولُ هو الأنسبُ بما قبله وبما بعده من
قوله تعالى {لاَ تَأْتِيكُمْ إلا بغتة} فإنَّه استئنافٌ مقررٌ
لمضمونِ ما قبله فلا بُدَّ من اعتبار الثِقَل من حيث الخفاءُ
أي لا تأتيكم إلا فجأةً على غفلة كما قال صلى الله عليه وسلم
إن الساعةَ تهيجُ بالناس والرجلُ يُصلح حَوضَه والرجلُ يسقي
ماشيتَه والرجلُ يقوّم سلعتَه في سوقه والرجلُ يخفض ميزانه
ويرفعه {يسألونك كَأََنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} استئنافٌ مَسوقٌ
لبيان خطئِهم في توجيه السؤالِ إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بناءً على زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالمسئول
عنه أو أن العلمَ بذلك من مواجب الرسالةِ إثرَ بيانِ خطِئهم في
أصل السؤال بإعلام شأنِ المسئول عنه والجملةُ التشبيهيةُ في
محل النصب على أنها حالٌ من الكاف جيء بها بياناً لما يدعوهم
إلى السؤال على زعمهم وإشعاراً بخطئهم في ذلك أي يسألونك
مُشبّهاً حالُك عندهم بحال من هو حفيٌّ عنها أي مبالِغٌ في
العلم بها فعيلٌ من حِفيَ وحقيقتُه كأنك مبالغٌ في السؤال عنها
فإن ذلك في حكم المبالغةِ في العلم بها لِما أن مَنْ بالغ في
السؤال عن الشيء والبحثِ عنه استحكم علمُه به ومبنى التركيبِ
على المبالغة والاستقصاءِ ومنه إحفاءُ الشاربِ واحتفاءُ البقل
أي استئصالُه والإحفاءُ في المسألة أي الإلحافُ فيها وقيل عن
متعلقةٌ بيسألونك وقولُه تعالى كَأَنَّكَ حَفِىٌّ معترض وصلةُ
حفيٌّ محذوفة أي حفي بها وقد قرىء كذلك وقيل هو من الحَفاوة
بمعنى البِرِّ والشفقة فإن قريشاً قالوا له صلى الله عليه وسلم
إن بيننا وبينك قرابةً فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك
كأنك تتحفّى بهم فتخصّهم بتعليم وقتِها لأجل القرابة وتَزْوي
أمرَها عن غيرهم ففيه تخطئةٌ لهم من جهتين وقيل هو من حفِيَ
بالشيء بمعن فرح به والمعنى كأنك فرِحٌ بالسؤال عنها تحبّه مع
أنك كارِهٌ له لِما أنه تعرُّضٌ لحُرَم الغيبِ الذي استأثر
الله عز وجل بعلمه {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} أمر
صلى الله عليه وسلم بإعادة الجوابِ الأول تأكيداً للحكم
وتقريراً له وإشعاراً بعلته على الطريقة البرهانيةِ بإيراد
اسمِ الذات المُنبىءِ عن
(3/301)
الأعراف آية 188 189
استتباعها لصفات الكمالِ التي من جملتها العلمُ وتمهيداً
للتعريض بجهلهم بقوله تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون ما ذُكر من اختصاص علمِها به تعالى
فبعضُهِم ينكرونها رأساً فلا يعلمون شيئاً مما ذكر قطعاً
وبعضُهم يعلمون أنها واقعةٌ البتةَ ويزعُمون أنك واقفٌ على وقت
وقوعِها فيسألونك عنه جهلاً وبعضُهم يدّعون أن العلم بذلك من
مواجب الرسالةِ فيتخذون السؤالَ عنه ذريعةً إلى القدح في
رسالتك والمستثنى من هؤلاء هم الواقفون على جلية الحالِ من
المؤمنين وأما السائلون عنها من اليهود بطريق الامتحانِ فهم
منتظِمون في سلك الجاهلين حيث لم يعلموا بعلمهم وقوله تعالى
(3/302)
قُلْ لَا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ
وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{قل لا أملك لنفسى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا}
شروعٌ في الجواب عن السؤال ببيان عجزِه عن علمها إثرَ بيانِ
عجزِ الكلِ عنه وإبطالُ زعمِهم الذي بنَوْا عليه سؤالَهم من
كونه صلى الله عليه وسلم ممن يعلمها وإعادةُ الأمر لإظهار
كمالِ العنايةِ بشأن الجوابِ والتنبيهِ على استقلاله ومغايرتِه
للأول والتعرضُ لبيان عجزه عما ذُكر من النفع والضُرِّ لإثبات
عجزِه عن علمها بالطريق البرهاني واللامُ إمَا متعلقٌ بأملك أو
بمحذوفٍ وقعَ حالاً من نفعا أي لا أقدر لأجل نفسي على جلب نفعٍ
ما ولا على دفع ضرَ ما {إِلاَّ ما شاء الله} أن أملِكَه من ذلك
بأن يُلْهِمنيه فيُمكِنَني منه ويُقدِرَني عليه أو لكنْ ما شاء
الله من ذلك كائنٌ فالاستثناءُ منقطعٌ وهذا أبلغُ في إظهار
العجز {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب} أي جنسَ الغيبِ الذي من
جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححةِ عادة للسببية
والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمانعة والمدافعةِ
{لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير} أي لحصّلتُ كثيراً من الخير الذي
نيط تحصيلُه بالأفعال الاختياريةِ للبشر بترتيب أسبابِه ودفعِ
موانِعه {وَمَا مَسَّنِىَ السوء} أي السوءُ الذي يمكن التقصّي
عنه بالتوقيِّ عن موجباته والمدافعةِ بموانعه لا سوءٌ ما فإن
منه ما لا مدفعَ له {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي
ما أنا إلا عبدٌ مرسَلٌ للإنذار والبشارة شأني حيازةُ ما يتعلق
بهما من العلوم الدينيةِ والدنيوية لا الوقوفُ على الغيوب التي
لا علاقة بينها وبين الأحكامِ والشرائعِ وقد كشفتُ من أمر
الساعةِ ما يتعلق به الإنذارُ من مجيئها لا محالة واقترابِها
وأما تعيينُ وقتِها فليس ما يستدعيه الإنذارُ بل هو مما يقدح
فيه لما مرَّ منْ أنَّ إيهامه أدعى إلى الانزجار عن المعاصي
وتقديمُ النذيرِ على البشير لما أن المَقام مقامُ الإنذار
وقوله تعالى {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إما متعلقٌ بهما جميعاً
لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة وإما بابشير فقط
وما يتعلق بالنذير محذوف أي نذير للكافرين أي الباقين على
الكفر وبشيرٌ لقوم يؤمنون أي في أيّ وقتٍ كان ففيه ترغيبٌ
للكفرة في إحداث الإيمانِ وتحذيرٌ عن الإصرار على الكفر
والطغيان
(3/302)
هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا
خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ
رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (189)
{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ} استئناف سيق لبيان
كمالِ عِظَمِ جنايةِ الكَفَرةِ في جراءتهم على الإشراك بتذكير
مبادى
(3/302)
الأعراف آية 189 أحوالِهم المنافيةِ له
وإيقاعُ الموصول خبراً لتفخيم شأنِ المبتدأ أي هو ذَلِكَ
العظيمُ الشأنِ الذي خلقكم جميعاً وحدَه من غير أن يكون لغيره
مدخلٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوه {مّن نَّفْسٍ واحدة} هو آدم عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أشيرَ إليه في
مطلعِ السورة الكريمة إشارة إجالية من خلقهم وتصويرِهم في ضمن
خلق آدمَ وتصويرِه وبيانٌ لكيفيته {وَجَعَلَ} عطف على خلقكم
داخلٌ في حكمِ الصلةِ ولا ضيرَ في تقدمه عليه وجوداً لِما أن
الواوَ لا تستدعي الترتيبَ في الوجود {مِنْهَا} أي من جنسها
كما في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
أو من جسدها لما يُروى أنه تعالى خلقَ حواءَ من ضلع من أضلاع
آدم عليه الصلاة والسلام والأولُ هو الأنسُب إذِ الجنسيةُ هي
المؤديةُ إلى الغاية الآتيةِ لا الجزئيةُ والجعلُ إما بمعنى
التصييرِ فقوله تعالى {زَوْجَهَا} مفعولُه الأولُ والثاني هو
الظرفُ المقدّم وإما بمعنى الإنشاءِ والظرفُ متعلقٌ بجعل قُدّم
على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق
إلى المؤخر أو بمحذوفٍ هو حالٌ من المفعول والأولُ هو الأولى
وقوله تعالى {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} علةٌ غائيةٌ للجعل باعتبار
تعلُّقِه بمفعولِه الثاني أي ليستأنسَ بها ويطمئِنّ إليها
اطمئناناً مصححاً للازدواج كما يلوح به تنذكير الضميرِ ويُفصح
عنه قوله تعالى {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي جامعها {حَمَلَتْ
حَمْلاً خَفِيفًا} في مبادىء الأمرِ فإنه عند كونه نطفةً أو
علقة أو مضغة أخفُّ عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب
والتعرض لذكر خِفته للإشارة إلى نعمته تعالى عليهم في إنشائه
تعالى إياهم متدرجين في أطوار الخلقِ من العدم إلى الوجود ومن
الضَّعف إلى القوة {فَمَرَّتْ بِهِ} أي فاستمرّت به كما كانت
قبل حيث قامتْ وقعدت وأخذت وتركت وعليه قراءةُ ابن عبَّاسً رضي
الله تعالى عنهما وقرىء فمرت بالتخفيف وفمارت من المورود هو
المجيءُ والذهابُ أو من المِرْية فظنت الحملَ وارتابت به وأما
ما قيل من أن المعنى حملت حملاً خفّ عليها ولم تلْقَ منه ما
يلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الكرب والأذّية ولم تستثقِلْه
كما يستثقِلْنَه فمرّت به أي فمضَت به إلى ميلاده منن غير
إخداج ولا إزلاق فيرده قوله تعالى {فَلَمَّا أَثْقَلَت} إذ
معناه فلما صارت ذاتَ ثِقلٍ لكبر الولدِ في بطنها ولا ريب في
أن الثقلَ بهذا المعنى ليس مقابلاً للخفة بالمعنى المذكور إنما
يقابلها الكربُ الذي يعتري بعضَهن من أول الحمل إلى آخره دون
بعضٍ أصلاً وقرىء أُثقِلت على البناء للمفعول أي أثقلها حملُها
{دَّعَوَا الله} أي آدمُ وحواءُ عليهما السلام لمّا دَهِمهما
أمرٌ لم يعهَداه ولم يعرِفا مآله فاهتما به وتضرّعا إليه عزَّ
وجلَّ وقولُه تعالَى {رَبُّهُمَا} أي مالكَ أمرِهما الحقيقُ
بأن يُخصَّ به الدعاءُ إشارةٌ إلى أنهما قد صدّرا به دعاءَهما
كما في قولهما رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا الآية ومتعلَّقُ
الدعاءِ محذوفٌ تعويلاً على شهادة الجملةِ القسَمية به أي
دَعَواه تعالى أن يُؤتيَهما صالحاً ووعدا بمقابلته الشكرَ على
سبيل التوكيدِ القسَميِّ وقالا أو قائلين {لئن آتيتنا صالحا}
أي ولداً من جنسنا سوياً {لَنَكُونَنَّ} نحن ومن يتناسل من
ذريتنا {مِنَ الشاكرين} الراسخين في الشكر على نعمائك التي من
جملتهخا هذه النعمةُ وترتيبُ هذا الجوابِ على الشرط المذكورِ
لما أنهما قد علما أن ما علّقا به دعاءَهما أُنموذَجٌ لسائر
أفرادِ الجنسِ ومعيارٌ لها ذاتاً وصفةَ وجودُه مستتبعٌ لوجودها
وصلاحُه مستلزِمٌ لصلاحها فالدعاءُ في حقه متضمنٌ للدعاء في حق
الكل مستتبِعٌ له كأنهما قالا لئن آتيتنا وذريتَنا أولاداً
صالحة وقيل إن ضميرَ آتيتَنا أيضاً لهما ولكل من يتناسل من
ذريتهما فالوجهُ ظاهرٌ وأنت خبيرٌ بأن نظم الكل
(3/303)
الأعراف آية 190
في سلك الدعاءِ أصالةً يأباه مقام المبالغةِ في الاعتناء بشأن
ما هما بصدده وأما جعلُ ضميرِ لنكونن للكل فلا محذورَ فيه لأن
توسيع دائر الشكر غيرُ مُخِلَ بالاعتناء المذكور بل مؤكدٌ له
وَأياً مَا كان فمَعنى قوله تعالى
(3/304)
فَلَمَّا آتَاهُمَا
صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى
اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
{فلما آتاهما صالحا} لما ى تاهما ما طلباه
أصالةً واستتباعاً من الولد وولد الولدِ ما تناسلوا فقوله
تعالى {جَعَلاَ} أي جعل أولادُهما {لَهُ} تعالى {شُرَكَاء} على
حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامه ثقةً بوضوح الأمرِ
وتعويلاً على ما يعقُبه من البيان وكذا الحالُ في قولِه تعالى
{فيما آتاهما} أي فيما آتى أولادَهما من الأولد حيث سمَّوْهم
بعبد مناف وعبدِ العزّى ونحوِ ذلك وتخصيصُ إشراكِهم هذا بالذكر
في مقام التوبيخِ مع أن إشراكَهم بالعبادة أغلظُ منه جنايةً
وأقدمُ وقوعاً لما أنَّ مساقَ النظمِ الكريمِ لبيان إخلالِهم
بالشكر في مقابلة نعمةِ الولدِ الصلح وأولُ كفرِهم في حقه إنما
هو تسميتُهم إياه بما ذُكر وقرىء شِرْكاً أي شركةً أو ذوي
شركةٍ أي شركاءَ إن قيل ما ذُكر من حذفِ المضافِ وإقامةِ
المضافِ إليه مقامه إنما يصادر إليه فيما يكون للفعل ملابسةٌ
ما بالمضاف إليه أيضاً بسرايته إليه حقيقةً أو حكماً وتتضمن
نسبتُه إليه صورةً مزيةً يقتضيها المقام كما في مثلِ قولِه
تعالى وَإِذْ نجيناكم مّنْ آل فِرْعَوْنَ الآية فإن الإنجاءَ
منهم مع أن تعلّقه حقيقةً ليس إلا بأسلاف اليهودِ قد نُسب إلى
أخلافهم بحكم سرايتِه إليهم توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وكذا
في قولِه تعالى قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله الآية
فإن القتلَ حقيقةً مع كونه من جناية آبائِهم قد أُسند إليهم
بحكم رضاهم به أداءً لحق مقامِ التوبيخِ والتبكيت ولا ريبَ في
أنَّهما عليهما الصلاة والسلام بريئان من سرايةِ الجعلِ
المذكورِ إليهما بوجه من الوجوه فما وجهُ إسنادِه إليهما صورةً
قلنا وجهُه الإيذانُ بتركهما الأَوْلى حيث أقدما على نظم
أولادِهما في سلك أنفسِهما والتزما شكرَهم في ضمن شكرِهما
وأقسما على ذلك قبل تعرُّف أحوالِهم ببيان أن إخلالَهم بالشكر
الذي وعداه وعداً مؤكداً باليمين بمنزلة إخلالِهما بالذات في
استيجاب الحِنْثِ والخُلْف مع ما فيه من الاشعار بتضاعف
جنايتِهم ببيان أنهم بجعلهم المذكورِ أوقعوهما في ورطة الحِنثِ
والخُلفِ وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجنايةِ
على الله تعالى والجنايةِ عليهما عليهما السلام {فتعالى الله
عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيهٌ فيه معنى التعجبِ والفاءُ لترتيبه
على ما فُصِّل من أحكام قدرتِه تعاتلى وآثارِ نعمتِه الزاجرةِ
عن الشرك الداعية إلى التة وحيد وصيغةُ الجمعِ لما أشير إليه
من تعين الفاعلِ وتنزيهِ آدمَ وحواءَ عن ذلك وما في عما إما
مصدريةٌ أيْ عن إشراكِهم أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي عما يشركونه
به سبحانه والمرادُ بإشراكهم إما تسميتُهم المذكورةُ أو مطلقُ
إشراكِهم المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً وقرىء تشركون بتاء
الخطاب بطريق الالتفاتِ وقيل الخطابُ لآلقصي من قريش والمرادُ
بالنفس الواحدةِ نفسُ قصيّ فإنهم خُلقوا منه وكان له زوجٌ من
جنسه عربيةٌ قرشيةٌ وطلبا من الله تعالى ولداً صالحاً فأعطاهما
أربعةَ بنينَ فسمَّياهم عبدَ مناف وعبدَ شمسٍ وعبدَ قصي وعبد
الداروضمير يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأما ما قيل
من أنه لما حملت حواءُ أتاها إبليسُ في صورة رجل فقال لها ما
يُدريك ما في بطنك لعله بهيمةٌ أو كلبٌ أو خنزيرٌ وما يدريك من
أين يخرج فخافت من
(3/304)
الأعراف آية 191 193
ذلك فذكرته لآدمَ فأهمّهما ذلك ثم عاد إليها وقال إني من الله
تعالى بمنزلة فإن دعوتُه أن يجعله خلقاً مثلَك ويسهّل عليك
خروجَه تسمّيه عبد الحرث وكان اسمُه حارثاً في الملائكة فقبِلت
فلما ولدتْه سمته عبد الحرث فمما لا تعويلَ عليه كيف لا وأنه
صلى الله عليه وسلم كان علَماً في علم الأسماءِ والمسميات
فعدمُ علمِه بإبليسَ واسمِه واتباعُه إياه في مثل هذا الشأنِ
الخطيرِ أمرٌ قريبٌ من المحال والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ
الحال
(3/305)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا
يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
{أَيُشْرِكُونَ} استئنافٌ مسوقٌ لتوبيخ
المشركين واستقباحِ إشراكِهم على الإطلاق وإبطالِه بالكلية
ببيان شأنِ ما أشركوه به سبحانه وتفصيلِ أحوالِه القاضيةِ
ببطلان ما اعتقدوه في حقه أي أيشركون به تعالى {مَا لاَ
يَخْلُقُ شَيْئاً} أي لا يقدرُ على أنْ يخلقشيئا من الأشياء
أصلاً ومن حق المعبودِ أن يكون خالقاً لعابده لا محالةَ وقولُه
تعالَى {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} عطفٌ على لا يخلق وإيرادُ
الضميرين بجمع العقلاءِ وتسميتِهم لها آلهةً وكذا حالُ سائر
الضمائرِ الآتيةِ ووصفُها بالمخلوقية بعد وصفِها بنفي
الخالقيةِ لإبانة كمالِ منافاةِ حالِها لما اعتقدوه في حقها
وإظهارِ غايةِ جهلِهم فإنَّ إشراكَ ما لا يقدِرُ على خلق شيء
ما بخاقه وخالق جمسع الأشياء مما لا يمكن أن يسوّغه من له عقلٌ
في الجملة وعدمُ التعرضِ لخالقها للإيذان بتعينه والاستغناءِ
عن ذكره
(3/305)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ
لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي لعبدتعم
إ 1 احزبهم أمرٌ مهِمّ وخطبٌ مُلِمٌّ {نَصْراً} أي نصراً ما
بجلب منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا
اعتراهم حادثةٌ من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم وإيرادُ
النصر للمشاكلة وهذا بيانٌ لعجزهم عن إيصال منفعةٍ ما من
المنافع الوجوديةِ والعدميةِ إلى عبدتهم وأنفسِهم بعد بيانِ
عجزِهم عن إيصال منفعةِ الوجود إليهم وإلى أنفسهم خلا أنهم
وُصفوا هناك بالمخلوقية لكونهم أهلاً لها وههنا لم يوصفوا
بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلاً لها وقوله تعالى
(3/305)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى} بيانٌ
لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفيِّ عنهم وأيسر هو مجردُ
الدِلالةِ على المطلوب والإرشادِ إلى طريق حصولِه من غير أن
يحصّله الطالب والخطابُ للمشركين بطريق الالتفاتِ المنبىءِ عن
مزيد الاعتناءِ بأمر التوبيخِ والتبكيتِ أي إنْ تدعوهم أيها
المشركون إلى أن يَهدوكم إلى ما تحصلون به المطالبَ أو تنجون
به عن المكاره {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} إلى مرادكم وطِلْبتِكم
وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} استئنافٌ مقررٌ
لمضمونِ ما قبله ومبينٌ لكيفية عدمِ الاتباع أي مستوٍ عليكم في
عدم الإفادةِ دعاؤكم لهم وسكوتكم البحث فإنه لا يتغير حالُكم
في الحالين كما لا يتغير حالُهم بحكم الجمادية وقوله تعالى
أَمْ أَنتُمْ صامتون جملةٌ اسميةٌ في معنى الفعليةِ معطوفةٌ
على الفعلية لأنها في قوة أمْ صَمَتّم عُدل عنها للمبالغة في
عدم إفادةِ الدعاء
(3/305)
الأعراف آية 194 195
ببيان مساواتِه للسكوت الدائمِ المستمر وما قيل من أن الخطابَ
للمسلمين والمعنى وإن تدعوا لمشركين إلى الهدى أي الإسلامِ لا
يتبعوكم الخ مما يساعده سياق النظم الكريم وسياقُه أصلاً على
أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى سواء
عليهم أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ فإن استواءَ الدعاءِ
وعدمَه إنما هو بالنسبة إلى المشركين لا بالنسبة إلى الداعين
فإنهم فائزون بفضل الدعوة
(3/306)
إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ
فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (194)
{إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}
تقريرٌ لما قبلَهُ من عدم اتباعِهم لهم أي إن الذين تعبدونهم
مِن دُونِهِ تعالى مِن الأصنام وتسمونهم آلهى ة {عِبَادٌ
أَمْثَالُكُمْ} أي مماثلةٌ لكن لكن لا من كل وجهٍ بل من حيث
إنها مملوكة لله عز وجل مسخَّرةٌ لأمره عاجزة عن النفع والضررِ
وتشبيهُها بهم في ذلك مع كون عجزِها عنهما أظهرَ وأقوى من
عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسِهم وادّعائِهم لقدرتها
عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانةِ بها وقوله
تعالى {فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} تحقيقٌ لمضمون ما
قبله بتعجيزهم وتبكيتِهم أي فادعوْهم في جلب نفعٍ أو كشف ضُرَ
{إِن كُنتُمْ صادقين} في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون
عنه وقوله تعالى
(3/306)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ
لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ
فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} الخ
تبكيتٌ إثرَ تبكيتٍ مؤكدٌ لما يفيده الأمرُ التعجيزيُّ من عدم
الاستجابةِ ببيان فُقدانِ آلاتِها بالكلية فإن الاستجابةَ من
الهياكل الجُسمانية إنما تُتصوّر إذا كان لها حياةٌ وقُوىً
محرّكة ومُدركة وما ليس له شيءٌ من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل
بالمرة كأنه قيل ألهم هذه الآلاتُ التي بها تتحقق الاستجابةُ
حتى يمكن استجابتُهم لكم وقد وجه الإنكار إلى كل واحدةٍ من هذه
الآلات الأربعِ على حدة تكريراً للتبكيت وتثنية للتقريع إشعارا
بأن انتفاءَ كلِّ واحدةٍ منها يحيالها كافٍ في الدلالة على
استحالة اللاستجابة ووصف الأرجل باالمشي بها للإيذان بأن مدارَ
الإنكارِ هو الوصفُ وإنما وُجّه إلى الأرجلِ لا إلى الوصف بأن
يقال أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من
سائر الأرجلِ فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا الكلامُ فيما
بعده من الجوارحِ الثلاثِ الباقية وكلمةُ أم في قوله تعالى
{أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} منقطعةٌ وما فيها من
الهمزة لما مر من التبكيت والإلزامِ وبل للإضراب المفيدِ
للانتقال من فنّ من التبكيت بعد تمامِه إلى فن آخرَ منه لما
ذكر من المزوايا والبطشُ الآخذُ بقوة وقرىء يبطُشون بضمِّ
الطاءِ وهي لغةٌ فيه والمعنى بل ألهم أيدٍ يأخُذون بها ما
يريدون أخذَه وتأخيرُ هذا عما قبله لما أن المشيَ حالُهم في
أنفسهم والبطشَ حالُهم بالنسبة إلى الغير وأما تقديمُه على
قوله تعالى {أَمْ لَهم أَعْينٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بها}
(3/306)
الأعراف آية 196 198
مع أن الكل سواءٌ في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير
فلمراعاة المقابلةِ بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاءَ المشي
والبطشِ أظهرُ والتبكيتَ بذلك أقوى وأما تقديمُ الأعينِ فلما
أنها أشهرُ من الآذان وأظهرُ عيناً وأثراً هذا وقد قرىء إنِ
الذين تَدْعُونَ مِن دونه الله عباداً أمثالَكم على إعمال إنْ
النافية عملَ ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دونه تعالى
عباداً أمثالَكم بل أدنى منكم فيكونُ قوله تعالى أَلَهُمْ الخ
تقريراً لنفي المماثلةِ بإثبات القصورِ والنُقصان {قُلِ ادعوا
شُرَكَاءكُمْ} بعد ما بُيّن أن شركاءَهم لاَّ يَقْدِرُونَ على
شَىْء ما أصلاً أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن
يناصِبَهم للمُحاجّة ويكررَ عليهم التبكيتَ وإلقامُ الحجرِ أي
ادعوا شركاءهم واستعينوا بهم عليّ {ثُمَّ كِيدُونِ} جميعاً
أنتم وشركاؤكم وبالِغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من مبادى
الكيدِ والمكر {فَلاَ تُنظِرُونِ} أي فلا تُمهلوني ساعةً بعد
ترتيبِ مقدمات الكيدِ فإني لا أبالي بكم أصلاً
(3/307)
إِنَّ وَلِيِّيَ
اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
الصَّالِحِينَ (196)
{إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب}
تعليلٌ لعدم المبالاةِ المنفهمِ من السَّوْق انفهاماً جلياً
ووصفُه تعالى بتنزيل الكتابِ للإشعار بدليل الولايةِ والإشارةِ
إلى علة أخرى لعدم المبالاةِ كأنه قيل لا أبالي بكم وبشركائكم
لأن وليّيَ هو الله الذى أَنزَلَ الكتابَ الناطقَ بأنه وليِّي
وناصري وبأن شركاءَكم لاَ يَسْتَطِيعُونَ نصرَ أنفسِهم فضلاً
عن نصركم وقوله تعالى {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} تذييلٌ
مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من
عباده وينصُرَهم ولا يخذُلَهم
(3/307)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا
أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
{والذين تَدْعُونَ} أي تعبدونهم {مِن
دُونِهِ} تعالى أو تدعونهم للاستعانة بهم عليّ حسبما أمرتُكم
به {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} أي في أمرٍ من الأمورِ أو
في خصوص الأمرِ المذكور {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا
نابتْهم نائبةٌ
(3/307)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ
إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى} إلى أن
يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدَكم على الإطلاقِ أو في خصوص
الكيدِ المعهود {لاَ يَسْمَعُواْ} أي دعاءَكم فضلاً عن
المساعدة والإمدادِ وهذا أبلغُ من نفي الاتباعِ وقوله تعالى
{وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}
بيانٌ لعجزهم عن الإبصار بعد بيانِ عجزِهم عن السمع وبه يتم
التعليلُ فلا تكرارَ أصلاً والرؤيةُ بصريةٌ وقوله تعالى
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ حالٌ من المفعول والجملةُ الاسميةُ حالٌ
من فاعل ينظرون أي وترى الأصنامَ رأيَ العين يُشبهون الناظرين
إلأيك ويخيل إليك أنهم يبصرونك لما أنه صنعوا لها أعيناً
مركبةً بالجواهر المضيئة المتلألئة وصوّروها صورة مَنْ قلبَ
حدَقتَه إلى الشيء ينظُر إليه والحالُ أنهم غيرُ قادرين على
الإبصار وتوحيدُ الضمير في تراهم مع رجوعه إلى المشركين لتوجيه
الخِطابِ إلى كل واحد واحد منهم لا إلى الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ
الخطابات السابقةِ تنبيها على أن رؤية الأصنامِ على الهيئة
المذكورةِ لا تتسنّى للكل معا بل
(3/307)
الأعراف آية 199 201
لكل من يواجهها وقيل ضميرُ الفاعل في تراهم لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وضميرُ المفعولِ على حاله وقيل للمشركين على أن
التعليلَ قد تمَّ عند قولِه تعالى لاَ يَسْمَعُواْ أي وترى
المشركين ينظُرون إليك والحال أنهم لا يبصِرونك كما أنت عليه
وعن الحسن أن الخكاب في قوله تعالى وأن تَدْعُواْ للمؤمنين على
أن التعليلَ قد تمَّ عند قولِه تعالى يُنصَرُونَ أي وإن تدعوا
أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ثم خوطب
صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ بأنك تراهم ينظرون إليك
والحال أنهم لا يُبصرونك حقَّ الإبصار تنبيهاً على أن ما فيه
صلى الله عليه وسلم من شواهد النبوةِ ودلائلِ الرسالةِ من
الجلاءِ بحيث لا يكاد بخفى على الناظرين
(3/308)
خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{خُذِ العفو} بعدَ ما عُدّ من أباطيلِ
المشركين وقبائحِهم ما لا يطاق تحمله أمر صلى الله عليه وسلم
بمجامع مكارمِ الأخلاق التي من جملتها الإغضاءُ عنهم أي خذ ما
هفا لك من أفعا الناسِ وتسهل ولا تكلِّفْهم ما يشُقُّ عليهم من
العفو الذي هو ضدُّ الجَهدِ أو خذ العفوَ من المذنبين أو
الفضلَ من صدقاتهم وذلك قبل وجوبِ الزكاة {وَأْمُرْ بالعرف}
بالجميل المستحسَن من الأفعال فإنها قريبةٌ من قَبول الناس من
غير نكير {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} من غير مماراةٍ ولا مكافأة
قيل لما نزلت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلُ عليه
السَّلامُ فقال لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمدُ إن ربك
أمرك أن تصِل مَنْ قطعك وتعطيَ من حَرَمك وتعفُوَ عمّن ظلمك
وعن جعفرٍ الصادقِ أمر الله تعالى نبيَّه بمكارم الأخلاق وروي
أنه لما نزلت الآيةُ الكريمة قال صلى الله عليه وسلم كيف يا
ربّ والغضبُ متحقق فنزل قوله تعالى
(3/308)
وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نزغ}
النزغ والنسع والنخْسُ الغرزُ شُبّهت وسوستُه للناس وإغراؤه
لهم على المعاصي بغَرْز السائق لما يسوقه وإسنادُه إلى النزغ
من قَبيل جَدّ جِدُّه أي وإما يحمِلنّك من جهته وسوسةٌ ما على
خلاف ما أُمرت به من اعتراء غضبٍ أو نحوه {فاستعذ بالله}
فالتجِىءْ إليه تعالى من شره {إِنَّهُ سَمِيعٌ} يسمع استعاذتَك
به قولاً {عَلِيمٌ} يعلم تضرُّعَك إليه قلباً في ضمن القولِ أو
بدونه فيعصمُك من شره وقد جُوِّز أن يرادَ بنزغ االشيطان
اعتراءُ الغضبِ على نهج الاستعارة كما في قول الصدِّيقِ رضيَ
الله عنه إن لي شيطاناً يعتريني ففيه زيادةُ تنفيرٍ عنه وفرطُ
تحذيرٍ عن العمل بموجبه وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى
تهويلٌ لأمره وتنبيهٌ على أنه من الغوائل الصعبةِ التي لا
يُتخَلّص من مَضَرَّتها إلا بالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل وقيل
يعلمُ ما فيه صلاحُ أمرِك فيحملك عليه أو سميعٌ بأقوال مَنْ
آذاك عليمٌ بأفعاله فيجازيه عليها
(3/308)
إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
{إِنَّ الذين اتقوا} استئنافٌ مقرِّرٌ لما
قبله إِنَّ ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الاستعاذة بالله
تعالى سنةٌ مسلوكةٌ للمتقين والإخلالُ بها ديدنُ الغاوين أي إن
الذين اتصفوا بوقاية أنفسِهم عما يضُرّها {إِذَا مسهم طائف
مّنَ الشيطان} أدنى لمّةٍ منه على أن تنوينَه للتحقير وهو اسمُ
فاعلِ من طاف يطوف
(3/308)
الأعراف آية 202 203
كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقِعَ بهم أو من طاف به الخيالُ
يطيفُ طيفاً أي ألمَّ وقرىء طيفٌ على أنَّه مصدرٌ أو تخفيفٌ من
طيِّف من الواوي أو اليائي كهين ولين والمارد بالشيطان الجنسُ
ولذلك جُمع ضميرُه فيما سيأتي {تَذَكَّرُواْ} أي الاستعاذةَ
بهِ تعالى والتوكلَ عليه {فَإِذَا هُم} بسبب ذلك التذكّرِ
{مُّبْصِرُونَ} مواقِعَ الخطأ ومكايدَ الشيطانِ فيحترزون عنها
ولا يتبعونه
(3/309)
وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{وإخوانهم} أي إخوان الشيطان وهم
المنهمِكون في الغي المعرضون عن وقاية أنفسِهم عن المضار
{يَمُدُّونَهُمْ فِى الغي} أي يكونالشياطين مدداً لهم فيه
ويعضدونهم بالتزيين والحملِ عليه وقرىء يُمِدّونهم من الإمداد
ويُمادّونهم كأنهم يُعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء
بالاتباع والامتثال {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} أي لا يمسكون عنم
الإغواء حتى يردوهم بالكلية ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ للإخوان
أي لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ويجوز أن يراد
بالإخوان الشياطين ويرجعُ الضميرُ إلى الجاهليل فيكون الخبرُ
جارياً على من هو له
(3/309)
وَإِذَا لَمْ
تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ
إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا
بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (203)
{وإذا لم تأتهم بآية} من القرآن عند تراخي
الوحي أو بآية مما اقترحوه {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} اجتبى
الشيءَ بمعنى جباه لنفسه أي هلاّ جمعتَها من تلقاء نفسِك
تقوّلا يرون بذلك أن سائرَ الآياتِ أيضاً كذلك أو هلا تلقيتها
من ربك استدعاءً {قُلْ} رداً عليهم {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا
يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى} من غير أن يكون الي دخلٌ ما في ذلك
أصلاً على معنى تخصيص حاله صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى
إليه بتوجيِه القصرِ المستفادِ من كلمة إنما إلى نفس الفعلِ
بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه غياه صلى الله عليه وسلم لا على
معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه بتوجيه
القصر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الشائعُ في
موارد الاستعمال وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَنِ
أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ كأنه قيل ما أفعلُ إلا
اتباعَ ما يوحى إلي منه تعالى وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ
المنبئةِ عن المالكية والتبليغِ إلى الكمال اللائقِ مع الإضافة
إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه صلى الله عليه وسلم
والتنبيهِ على تأييده ما لا يخفى {هذا} إشارةٌ إلى القرآن
الكريم المدلولِ عليه بما يوحى إلي {بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ}
بمنزلة البصائرِ للقلوب بها تُبصِر الحقَّ وتدرك الصواب وقيل
حججٌ بينةٌ وبراهينُ نيِّرةٌ ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ
لبصائرَ مفيدةٌ لفخامتها أي بصائرُ كائنةٌ منه تعالَى والتعرضُ
لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم لتأكيد وجوبِ
الإيمانِ بها وقوله تعالى {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عطفٌ على
بصائرُ وتقديمُ الظرفِ عليهما وتعقيبُهما بقوله تعالى
{لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} للإيذان بأن كونَ القرآنِ بمنزلة
البصائرِ للقلوب متحققٌ بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على
الجميع وأما كونُه هدى ورحمةً فمختصٌّ بالمؤمنين به إذ هم
المقتسمون من أنواره والمغتنِمون بآثاره والجملةُ من تمام
القولِ المأمورِ به
(3/309)
الأعراف آية 304
(3/310)
وَإِذَا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (204)
{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا لَهُ} إرشادٌ
إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلةِ التي ينطوي
عليها القرآنُ أي وإذا قرىء القرآنُ الذي ذكرت شئونه العظيمةُ
فاستمعوا له استماعَ تحقيقٍ وقَبول {وَأَنصِتُواْ} أي واسكُتوا
في خلال القراءةِ وراعوها إلى انقضائها تعظيماً له وتكميلاً
للاستماع {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي تفوزون بالرحمة التي هي
أقصى ثمراتِه وظاهرُ النظم الكريمِ يقتضي وجوبَ الاستماعِ
والإنصاتِ عند قراءةِ القرآن في الصلاة وغيرِها وقيل معناه إذا
تلا عليكم الرسولُ القرآنَ عند نزولِه فاستمعوا له وجمهورُ
الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه في استماع المؤتمِّ وقد
روي أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فأُمروا باستماع قراءةِ
الإمامِ والإنصاتِ له وعن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا
أنَّ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قرأ في المكتوبة وقرأ
أصحابُه خلفه فنزلت وأما خارج الصلاة فعامةُ العلماءِ على
استحبابهما والآيةُ إما من تمام القول به أو استئنافٌ من جهتِه
تعالى فقوله تعالى
(3/310)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي
نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ
الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ
الْغَافِلِينَ (205)
{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} على الأولِ
عطفٌ على قل وعلى الثاني فيه تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو عام في الأذكار كافةً فإن الإخفاءَ أدخلُ
في الإخلاص وأقربُ من الإجابة {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} أي
متضرعاً وخائفاً {وَدُونَ الجهر مِنَ القول} أي ومتكلماً دون
الجهر فإنه أقرب إلى حسن التفكر {بالغدو والاصال} متعلقٌ باذكر
أي اذكره في وقت الغُدوات والعشيات وقرىء والإيصال وهو مصدر
آصَلَ أي دخل في الآصيل موافقٌ للغدو {وَلاَ تَكُنْ مّنَ
الغافلين} عن ذكرِ الله تعالى
(3/310)
إِنَّ الَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ} وهم الملائكةُ
عليهم السلام ومعنى كونِهم عنده سبحانه وتعالى قربُهم من رحمته
وفضلِه لتوفرهم على طاعته تعالى {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ} بل يؤدونها حسبما أمروا به {وَيُسَبّحُونَهُ} أي
ينزّهونه عن كل ما لا يليقُ بجنابِ كبريائِه {وَلَهُ
يَسْجُدُونَ} أي يخُصّونه بغاية العبوديةِ والتذللِ لا يشركون
به شيئاً وهو تعريضٌ بسائر المكلفين ولذلك شُرع السجود عند
قراءته عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم إذا قرأ ابنُ آدمَ
آيةَ السجدة فسجد اعتزل الشيطانُ يبكي فيقول يا ويله أُمر هذا
بالسجود فسجد فله الجنةُ وأُمرت بالسجود فعصَيت فلي النار وعنه
صلى الله عليه وسلم من قرأ سورةَ الأعرافِ جعل الله تعالى يومَ
القيامةِ بينه وبين إبليسَ ستراً وكان آدمُ عليه السلام شفيعاً
له يوم القيامة
(3/310)
|