تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم {بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/235)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ
أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ
كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} نزلتْ في
حاطبِ ابنِ أبي بَلْتَعةَ وذلكَ أنَّه لمَّا تجهزَ رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم لغزو الفتحِ كتبَ إلى أهلِ مكةٍ أن رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم يريدُكُم فخُذُوا حذْرَكُم وأرسلَهُ
مع سارةَ مولاةِ بني المطلبِ فنزلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ
بالخبرِ فبعثَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً
وطلحةَ والزبيرَ والمقدادَ وأبا مرثدٍ وقالَ انطلقُوا حتى
تأتُوا روضةَ خاخٍ فإنَّ بها ظعينةً معها كتب حاطبٍ إلى أهلِ
مكةَ فخذُوه منهَا وخلُّوها فإنْ أبتْ فاضربُوا عنقَهَا
فأدركُوهَا ثمةَ فجحدتْ فسلَّ عليٌّ سيفَهُ فأخرجْتَهُ من
عقاصِهَا فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال ما
حملكَ على هَذا فقالَ يا رسولَ الله ما كفرتُ منذ أسلمتُ ولا
غششتكَ منذُ نصحتكَ ولكني كنتُ أمرأ ملصَقاً في قريشٍ وليسَ لي
فيهم مَنْ يحمي أَهْلِي فأردتُ أن آخذَ عندهُم يداً وقد علمتُ
أن كتابي لن يغنة عنهُم شيئاً فصدَّقَهُ رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم وقبلَ عذرَهُ {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أى
توصلون إليم على أن الباء زائدة كما في قوله تعالى وَلاَ
تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة أو تلقونَ إليهم أخبارَ
النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ بسببِ المودَّةِ التي بينكُم
وبينَهُم والجملةُ إما حالٌ من فاعل لا تتخِذُوا أو صفةٌ
لأولياءَ وإبرازُ الضميرِ في الصفاتِ الجاريةِ على غيرِ مَنْ
هيَ لهُ إنما يُشترطُ في الإسمِ دونَ الفعلِ أو استئنافٌ
{وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق} حالٌ من فاعلِ
تلقونَ وقيل من فعل لا تتخذُوا وقُرِىءَ لِمَا جاءَكُم أي
كفرُوا لأجلِ ما جاءكُم بمعنى جعلِ ما هو سببُ الإيمانِ سبباً
للكفرِ {يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم} أي منْ مكةَ وهو إما حالٌ
من فاعلِ كفرُوا أو استئنافٌ مبينٌ لكفرِهِم وصيغةُ المضارعِ
لاستحضارِ الصُّورَةِ وقولِهِ تعالى {أَن تُؤْمِنُواْ بالله
رَبّكُمْ} تعليل للإخراج فيه تغليل المخاطبِ على الغائبِ
والتفاتٌ منَ التكلمِ إلى الغَيبة للإشعارِ بما يوجبُ الإيمانَ
من الأُلوهيةِ والرُّبوبيةِ
(8/235)
{إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى
سَبِيلِى وابتغاء مَرْضَاتِى} متعلقٌ بلا تتخذُوا كأنَّه قيلَ
لا تتولَّوا أعدائِي إن كُنتُم أوليائِي وقولُهُ تعالى
{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} استئنافٌ واردٌ على نهجِ
العتابِ والتوبيخِ أي تُسرونَ إليهِم المودَّةَ أو الأخبارَ
بسببِ المودَّةِ {وَأَنَاْ أَعْلَمُ} أيْ والحالُ أنِّي أعلمُ
منكُم {بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} ومُطْلعٌ رسولِي
عَلى ما تسرونَ فأيُّ طائلٍ لكم في الإسرارِ وقيلَ أعلمُ
مضارعٌ والباءُ مزيدةٌ وما موصلة أو مصدريةٌ وتقديمُ الإخفاءِ
على الإعلانِ قد مرَّ وجهُه في قولِهِ تعالى يَعْلَمُ مَا
يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي
الاتخاذَ {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} فقد أخطأَ طريق الحقَّ
والصوابَ
(8/236)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ (2)
{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أيْ إنْ يظفر وا بكُم
{يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء} أي يُظهروا ما في قلوبِهِم منَ
العداوةِ ويرتبُوا علَيها أحكامَهَا {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} بمَا يسُوؤكم من القتلِ
والأسرِ والشتمِ {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أي تمنَّوا
ارتدادكُم وصيغةُ الماضى للإيذان بتحقيق ودادتِهِم قبل أن
يثقفُوهُم أيضاً
(8/236)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{لن تنفعكم أرحامكم} قرباتكم {وَلاَ
أولادكم} الذين توالونَ المشركينَ لأجلِهِم وتتقربُونَ إليهِم
محاماةً عليهِم {يَوْمُ القيامة} بجلبِ نفعٍ أو دفعِ ضرَ
{يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} استئنافٌ لبيانَ عدمِ نفعِ الأرحامِ
والأولادِ يومئذٍ أي يفرق الله بينكم بما اعتراكُم من الهولِ
الموجبِ لفرارِ كلِّ منكُم من الآخرِ حسبما نطق به قوله تعالى
يَوْمَ يَفِرُّ المرء من أخيه الآية فمالكم ترفضونَ حقَّ الله
تعالى لمراعاةِ حقِّ منْ هَذا شأنُهُ وقُرِىءَ يُفْصَل ويفصَّل
مبينا للمفعول ويفصل يفصل مبينا للفاعلِ وهُو الله تعالَى
ونفصِل ونفصِّل بالنون {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
فيجازيكُم بهِ
(8/236)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ
قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ
لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
أيْ خصلةٌ حميدةٌ حقيقةٌ بأنْ يُؤتَسَى ويُقْتَدى بهَا وقولُهُ
تعالَى {فِى إبراهيم والذين مَعَهُ} أي منْ أصحابِهِ المؤمنينَ
صفةٌ ثانيةٌ لأسوةٌ أو خبرٌ لكانَ ولكُم للبيانِ أو حالٌ من
المستكنِّ في حسنةٌ أو صلةٌ لها لا لأسوةٌ عندَ من لا يجوزُ
العملَ بعدَ الوصفِ {إِذْ قَالُواْ}
(8/236)
5
ظرفٌ لخبرِ كَان {لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ} جمعُ
برئ كظريف وظرفاء وقرئ بِراءٌ كظِرافٍ وبُراءٍ كرُخالٍ
وبَرَاءٌ على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِن دُونِ الله} من الأصنام {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينِكُم أو
بمعبودِكُم أو بِكُم وبهِ فلا نعتدُّ بشأنِكُم وبآلِهَتِكُم
{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً}
أيْ هَذا دأبُنَا معكُم لا نتركُهُ {حتى تُؤْمِنُواْ بالله
وَحْدَهُ} وتتركُوا ما أنتُمْ عليهِ من الشركِ فتنقلبُ
العداوةُ حينئذٍ ولايةً والبغضاءُ محبةً {إِلاَّ قَوْلَ
إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} استثناءٌ من قولِهِ
تعالى أسوةٌ حسنةٌ فإنَّ استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
لأبيهِ الكافرِ وإنْ كانَ جائزاً عقلاً وشرعاً لوقوعِهِ قبل
تبينِ أنَّهُ من أصحابِ الجحيمِ كما نطقَ به النصُّ لكنَّهُ
ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُؤتسى بهِ أصلاً إذ المرادُ بهِ ما
يجبُ الائتساءُ بهِ حتماً لورودِ الوعيدِ على الإعراضِ عنه بما
سيأتي من قولِه تعالى وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى
الحميد فاستثناؤهُ من الأسوةِ إنما يفيدُ عدمَ وجوبِ استدعاءِ
الإيمانِ والمغفرةِ للكافرِ المرجوِّ إيمانُهُ وذلكَ مما لا
يرتابُ فيه عاقلٌ وأما عدم وأما عدمُ جوازِهِ فلا دِلالةَ
للاستثناءِ عليهِ قطعاً هذا وأما تعليلُ عدمِ كونِ استغفارِه
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ الكافرِ مما ينبغي أنْ
يُؤتَسى بهِ بأنَّه كانَ قبل النَّهيِ أو لموعِدة وعَدَهَا
إياهُ فبمعزلٍ منَ السَّداد بالكلية لابتنائه على تناول
النَّهي لاستغفارِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له وإنبائِهِ
عن كونِهِ مُؤْتَسَى به لو لم يُنْهَ عنه وكلاهما بين البلان
لما أنَّ موردَ النَّهي هو الاستغفارُ للكافر بعد تبين أمرِهِ
وقد عرفتَ أن استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ كان
قبلَ ذلكَ قطعاً وأنَّ ما يُؤْتَسَى به ما يجبُ الائتساءُ بهِ
لا ما يجوزُ فعلُهُ في الجملة وتجويزُ أن يكونَ استغفارِه عليه
الصَّلاةُ والسَّلامُ له بعدَ النَّهيِ كما هو المفهومُ من
ظاهر قوله أو لموعِدة وعدها إياه مما لا مساغَ له وتوجيهُ
الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفارِ لا إلى نفسِ الاستغفار
بقوله اغفر لاِبِى الآيةَ لأنها كانَتْ هي الحاملةَ لهُ عليهِ
الصَّلاةُ والسَّلامَ على الاستغفارِ وتخصيصُ هذهِ العِدَة
بالذكر دون ما وقع في سورة مريمَ من قوله تعالى سَأَسْتَغْفِرُ
لَكَ رَبِي لورودها على طريق التوكيدِ القسَميّ وأما جعلُ
الاستغفارِ دائراً عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبين الأمرِ فقد
مر تحقيقه في سورة التوبةِ وقولِهِ تعالى {وَمَا أملِك لَكَ
مِنَ الله مِن شَىْء} من تمامِ القولِ المُستثنى محلُّه النصبُ
على أنه حال من فاعل لأستغفرنَّ لكَ أي أستغفرُ لكَ وليسَ في
طاقتِي إلا الاستغفارُ فموردُ الاستثناءِ نفسُ الاستغفارِ لا
قيدُهُ الذي هُو في نفسه من خصال الخيرِ لكونِه إظهاراً للعجزِ
وتفويضاً للأمرِ إلى الله تعالَى وقولُهُ تعالَى {رَّبَّنَا
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ
المصير} الخ من تمام ما نُقلَ عن إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ
ومنْ معَهُ منَ الأسوةِ الحسنةِ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ
لقصرِ التوكلِ والإنابةِ والمصيرِ على الله تعالَى قالُوهُ
بعدَ المُجَاهَرَةِ وقشرِ العَصَا التجاءً إلى الله تعالَى في
جميعِ أمورِهِم لا سيما في مدافعةِ الكفرةِ وكفايةِ شرورِهِم
كما ينطق به قوله تعالَى
(8/237)
رَبَّنَا لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً
لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} بأنْ تسلطَهُم علَيْنَا فيفتنونَا
بعذابٍ لا نطيقُهُ {واغفر لَنَا} ما فرط منا من العذاب
{رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الغَالِبُ الذي لاَ يَذِلُّ
(8/237)
من التجأَ إليهِ ولاَ يخيبُ رجاءُ مَنْ
توكَّلَ عليهِ {الحكيم} الذي لاَ يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ
بالغةٌ وتكريرُ النداءِ للمبالغةِ في التضرعِ والجؤارِ هَذا
وأما جعلُ الآيتينِ تلقيناً للمؤمنينَ من جهتِهِ تعالَى
وأَمراً لهم بأنْ يتوكلُوا عليهِ وينيبُوا إليهِ ويستعيذُوا
بهِ من فتنةِ الكفرةِ ويستغفُرُوا مما فرطَ منهم تكملةً لما
وصَّاهُم بهِ من قطعِ العلائقِ بينهُمْ وبينَ الكفرةِ فلا
يساعدُهُ النظمُ الكريمُ
(8/238)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في
إبراهيمَ ومن مَعَهُ {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} تكريرٌ للمبالغةِ في
الحثِّ على الائتساءِ به عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولذلكَ صُدرَ
بالقسمِ وقولُهُ تعالى {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم
الأخر} بدلٌ من لكُم فائدَتُهُ الإيذانُ بأنَّ مَن يُؤْمِنُ
بالله واليومِ الآخرِ لا يتركُ الاقتداءَ بهم وأنَّ تركَهُ منْ
مخايل عدمِ الإيمان بهما كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى {وَمِنَ
يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنَّهُ مما يوعَدُ
بأمثالِهِ الكفرةُ
(8/238)
عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ
مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم} أي منْ أقاربكم المشركين
{مودة} بأن يوافقكم في الدين وعدهم الله تعالى بذلكَ لِما رأى
منهم من التصلبِ في الدينِ والتشددِ لله في معاداةِ آبائِهِم
وأبنائِهِم وسائِرِ أقربائِهِم ومقاطعَتِهِم إيَّاهُم بالكليةِ
تطيبا لقلوبِهِم ولقد أنجزَ وعدَهُ الكريمَ حينَ أتاحَ لهم
الفتحَ فأسلمَ قومُهُمْ فتمَّ بينَهُم من التحابِّ والتَّصافِي
ما تمَّ {والله قَدِيرٌ} أي مبالغٌ في القُدرةِ فيقدرُ على
تقليبِ القلوبِ وتغييرِ الأحوالِ وتسهيلِ أسبابِ المودَّةِ
{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفرُ لمن أسلمَ منَ المشركينَ
ويرحمُهُم وقيلَ غفورٌ لما فرطَ منكُم في موالاتِهِم مِن قبلُ
ولِمَا بقِيَ في قلوبِكُم من ميلِ الرحمِ
(8/238)
لَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(8)
{لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ
يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم} أي لا
ينهاكُم عن البرِّ بهؤلاءِ فإنَّ قولَهُ تعالى {أَن
تَبَرُّوهُمْ} بدلٌ من الموصولِ {وَتُقْسِطُواْ إليهم} أى
تفضوا إليهم بالقسطِ أي العدلِ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين}
أي العادلينَ رُويَ أنَّ قُتيلةَ بنتَ عبدِ العُزَّى قدمتْ
مشركةً على بنتِهَا أسماءُ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ
بهدايَا فلم تقبلْها ولم تأذنْ لَها بالدخولِ فنزلتْ فأمرَها
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تُدخلَها وتقبلَ منْهَا
وتُكرمَها وتُحسنَ إليها وقيلَ المرادُ بهم خزاعةُ وكانوا
صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلُوه ولا
يعينوا عليهِ
(8/238)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى
إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
{إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم
فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم} وهم عتاةُ أهلِ مكةَ
(8/238)
} 0
{وظاهروا على إخراجكم} وهم سائرُ أهلِها {أَن تَوَلَّوْهُمْ}
بدل اشتمال من الوصول أي إنما ينهاكُم عن تتولهم {وَمَن
يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لوضعهم الولايةَ في
موضعِ العداوةِ أو هم الظالمونَ لأنفسِهِم بتعريضِها للعذابِ
(8/239)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ
بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا
أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} بيانٌ
لحكمِ من يُظهرُ الإيمانَ بعدَ بيانِ حُكم فريقي الكافرينِ
{إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات} من بينِ الكفار {فامتحنوهن}
فاختبروهم بما يغلبُ على ظَنِّكم موافقة قلوبهنَّ للسانِهنَّ
في الإيمانِ يُروى أنَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ
يقولُ للتي يمتحنُهَا بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هُو ما خرجتِ
من بغضِ زوجٍ بالله ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرضٍ بالله ما
خرجتِ التماسَ دُنيا بالله ما خرجتِ إلا حباً لله ورسولِه
{الله أَعْلَمُ بإيمانهن} لأنَّه المطلعُ على ما في قلوبهنَّ
والجملةُ اعتراضٌ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعدَ الامتحانِ
{مؤمنات} علماً يمكنكم تحصيلُه وتبلغُه طاقتُكم بعد اللتيا
واللتى من الاستدلال بالعلائمِ والدلائلِ والاستشهادِ
بالأماراتِ والمخايلِ وهو الظنُّ الغالبُ وتسميتُه علماً
للإيذانِ بأنه جارٍ مجرى العلمِ في وجوبِ العملِ به {فَلاَ
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي إلى أزواجِهِنَّ الكفرةِ
لقولهِ تعالى {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ} فإنَّه تعليلٌ للنهي عن رجعهنَّ إليهمِ والتكريرُ إما
لتأكيدِ الحرمةِ أو لأنَّ الأولَ لبيانِ زوالِ النكاحِ الأولِ
والثانيَ لبيانِ امتناعِ النِّكاحِ الجديدِ {وَأَتُوهُم مَّآ
أَنفَقُواْ} أي وأعطُوا أزواجهنَّ مثلَ ما دفعُوا إليهنَّ من
المهورِ وذلكَ أنَّ صلحَ الحديبيةِ كانَ على أنَّ من جاءنا
منكم ورددناه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنَّبيُّ
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحديبية فأقبل زوجها مسافرٌ
المخزوميُّ وقيلَ صيفيُّ بنُ الراهبِ فقال يا محمدُ ارددْ
عليَّ امرأتِي فإنكَ قد شرطتَ أن تردَّ علينا من أتاكَ منا
فنزلتْ لبيانِ أن الشرطَ إنما كانَ في الرجالِ دُونَ النساءِ
فاستحلفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلفتْ فأَعطى
زوجَها ما أنفقَ وتزوجَها عمرُ رضيَ الله عنهُ {وَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِن تَنكِحُوهُنَّ} فإنَّ إسلامَهُنَّ حالَ بينهنَّ
وبينَ أزواجهن الكفار {إذا آتيتموهن أُجُورَهُنَّ} شُرطَ
إيتاءُ المهرِ في نكاحهنَّ إيذاناً بأنَّ ما أُعطَى
أزواجُهُنَّ لا يقومُ مقامَ المَهْرِ {وَلاَ تُمْسِكُواْ
بِعِصَمِ الكوافر} جمعُ عصمةٍ وهي ما يُعتصم به من عقدٍ وسببٍ
أيْ لا يكُنْ بينكُم وبين المشركات ولا عُلقةٌ زوجيةٌ قال ابن
عباس رضي الله عنهُمَا من كانتْ له امرأة كافرة بمكة ة فلا
يعتدنَّ بها من نسائِهِ لأنَّ اختلافَ الدارينِ قطعَ عصمتَها
منْهُ وعنِ النخعى رحمه الله هيَ المسلمةُ تلحقُ بدارِ الحربِ
فتكفُرُ وعن مجاهدٍ أمرهُم بطلاقِ الباقياتِ مع الكفار
ومفارقتهن وقرىء ولاتمسكوا بالتشديد ولا تَمسّكوا بحذف إحدى
(8/239)
} 2 1 {
التاءين من تتمسكوا {واسألوا مَّآ أَنفَقْتُمْ} من مهورِ
نسائكم للاحقات بالكفار {وليسألوا مَآ أَنفَقُواْ} من مهورِ
أزوزاجهم المهاجراتِ {ذلكم} الذي ذُكِرَ {حُكْمُ الله} وقولُه
تعالَى {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ أو حالٌ من حكمِ
الله على حذفِ الضميرِ أي يحكمُه الله أو جعل لكم حاكماً على
المبالغةِ {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرعُ ما تقتضيهِ الحكمةُ
البالغةُ رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ الآية أدَّى المؤمنونَ ما
أُمروا بهِ من مهورِ المهاجراتِ إلى أزواجهنَّ المشركينَ وأبى
المشركونَ أنْ يؤدُوا شيئاً من مهورِ الكوافرِ إلى أزواجِهنَّ
المسلمينَ فنزلَ قولُه تعالى
(8/240)
وَإِنْ فَاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا
أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ
مُؤْمِنُونَ (11)
{وَإِن فَاتَكُمْ} أي سبقكُم وانفلتَ منكُم
{شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} أي أحدٌ من أزواجِكم وقد
قُرِىءَ كذلكَ وإيقاعُ شيءٌ موقعَهُ للتحقيرِ والإشباعِ في
التعميمِ أو شيءٌ من مهورِ أزواجِكم {فعاقبتم} أي فجاءتُ
عقبتُكم أي نوبتُكم من أداءِ المهرِ شبه ما حَكَم بهِ على
المسلمينَ والكافرينَ من أداءِ هؤلاء مهورِ نساءِ أولئكَ تارةً
وأداءِ أولئكَ مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى بأمر يتعاقون فيه كما
يتعاقبون في الركوبِ وغيرِه {فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم
مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من مهرِ المهاجرةِ التي تزوجتُموها ولا
تؤتوهُ زوجَها الكافرَ وقيلَ معناهُ إنْ فاتكم فأصبتُم من
الكفارِ عُقْبى هيَ الغنيمةُ فآتُوا بدلَ الفائتِ من الغنيمةِ
وقُرىءَ فأعقبتُم وفعقَّبْتُم بالتشديدِ وفعقِبْتُم بالتخفيفِ
وفتحِ القافِ وبكسرِهَا قيلَ جميع من لحق بالمشكرين من نساءِ
المؤمنينَ المهاجرينَ ستُّ نسوةٍ أمُّ الحكمِ بنتُ أبي سفيانَ
وفاطمةُ بنتُ أميةٍ وبَرْوعُ بنتُ عُقْبةٍ وعبدةُ بنتُ عبدِ
العُزَّى وهندُ بنتُ أبي جهل كثلوم بنتُ جرولٍ {واتقوا الله
الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمانَ بهِ تعالى يقتضِي
التَّقوى منهُ تعالَى
(8/240)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى
أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا
يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ
بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{يا أيها النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات
يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعاتٍ لكَ أيْ قاصداتٍ للمبايعةِ نزلتْ
يومَ الفتحِ فإنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لما فرغَ من بَيعةِ
الرجالِ شرعَ في بيعة النساءِ {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله
شَيْئاً} أي شيئا من الأشياءِ أو شيئا من الإشراكِ {وَلاَ
يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} أُريدَ
به وأدُ البناتِ وقُرِىءَ ولا يُقَتِّلْنَ بالتشديدِ {وَلاَ
يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ
وَأَرْجُلِهِنَّ} كانتِ المرأةُ تلتقطُ المولودَ فتقولُ
لزوجِها هُو ولدي منكَ كُنِيَ عنْهُ بالبهتانِ المُفترى بينَ
يديها ورجلَيها لأنَّ بطنَها الذي تحملُهُ فيهِ بينَ يديها
وَمَخرجُه بينَ رِجْلَيْها {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ}
أي فيما تأمرهنَّ بهِ من معروفٍ وتنهاهنَّ عنْهُ من منكرٍ
والتقييدُ بالمعروفِ مع أنَّ الرسولَ صلى الله عله وسلم لا
يأمرُ إلا بهِ للتنبيه على أنَّه لا يجوزُ طاعةُ مخلوقٍ في
معصيةِ الخالق
(8/240)
} {
وتخصيص الأمر المعدودةِ بالذكرِ في حَقِّهنَّ لكثرةِ وقوعِها
فيمَا بينهنَّ معَ اختصاصِ بعضها بهنَّ {فَبَايِعْهُنَّ} أي
على ما ذُكر وما لم يُذكر لوضوحِ أمرِهِ وظهورِ أصالتِهِ في
المبايعةِ من الصلاةِ والزكاةِ وسائرِ أركانَ الدِّينِ وشعائرِ
الإسلامِ وتقييد مبايعتهنَّ بِما ذُكِرَ من مجيئهنَّ لحثن على
المسارعةِ إليها مع كمالِ الرغبةِ فيهَا من غيرِ دعوةٍ لهنَّ
إليها {واستغفر لَهُنَّ الله} زيادةٍ على ما في ضمنِ المبايعةِ
فإنها عبارةٌ عن ضمانِ الثوابِ من قبلِهِ عليهِ الصَّلاة
والسَّلام بمقابلةِ الوفاءِ بالأمورِ المذكورةِ من قبلهنَّ
{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالِغٌ في المغفرةِ
والرحمةِ فيغفرُ لهنَّ ويرحمهنَّ إذا وفَّينَ بما بايعنَ عليهِ
واختلفَ في كيفيةِ مبايعتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهن
يومئذٍ فَرُوِيَ أنه عليه الصلاةُ والسلام لما فرغَ من بَيعةِ
الرجالِ جلسَ على الصَّفا ومعه عمرُ رضيَ الله عنْهُ أسفلَ
منْهُ فجعلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يشترطُ عليهن البيعةَ
وعمرُ يصافحهنَّ ورُوِيَ أنَّه كلفَ امرأةٍ وقفتْ على الصَّفا
فبايعتهنَّ وقيلَ دَعا بقدحٍ من ماءٍ فغمسَ فيهِ يدَهُ ثم
غمسنَ أيديهنَّ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلام بايعهنَّ
وبين يديهِ وأيديهِنَّ ثوبٌ قطريٌّ والأظهرُ الأشهرُ ما قالتْ
عائشةَ رضيَ الله عنها والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه
وسلم على النساءِ قطُّ إلا بما أمرَ الله تعالَى وما مستْ كفُّ
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأةٍ قَط وكانَ يقولُ
إذا أخذَ عليهنَّ قَدْ بايعتكنَّ كلاماً وكانَ المؤمناتُ إذَا
هاجرنَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن يقولُ الله
عزَّ وجلَّ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات إلى آخرِ
الآيةِ فإذا أقررنَ بذلكَ من قولِهِنَّ قالَ لهنَّ انطلقنَ فقد
بايعتكن
(8/241)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} هُم عامةُ
الكفرةِ وقيلَ اليهودُ لما رُوي أنَّها نزلتْ في بعض فقراء
المسملين كانُوا يواصلونَ اليهودَ ليصيبُوا من ثمارِهِم {قَدْ
يَئِسُواْ مِنَ الأخرة} لكفرِهِم بهَا أو لعلهم بأنَّه لا
خلاقَ لهُمْ فيهَا لعنادِهِم الرسولَ المنعوتَ في التوراة
المجيد بالآياتِ {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور} أيْ
كَما يئسَ منها الذينَ ماتُوا منهُم لأنَّهم وقفُوا على حقيقةِ
الحالِ وشاهدُوا حرمانَهُم من نعيمِهَا المقيمِ وابتلاءَهُم
بعذابِهَا الأليمِ والمرادُ وصفهُم بكمالِ اليأسِ منهَا وقيلَ
المَعْنَى كما يئسُوا من موتاهُم أنْ يُبعثوا ويرجعُوا إلى
الدُّنيا أحياءً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإشعار بعلة
بأسهم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ
الممتحنةِ كانَ لهُ المؤمنونَ والمؤمناتُ شفعاءَ يومَ القيامة
(8/241)
} {
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/242)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1)
{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا
فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} الكلامُ فيه كالذي مر في
نظيره
(8/242)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لِمَ
تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} رُوِيَ أنَّ المسلمينَ قالُوا
لو علمنَا أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى لبذلنَا فيه أموالَنا
وأنفسَنا فلما نزلَ الجهادُ كرهوهُ فنزلت وما قيل من أن النازل
قوله تعالى إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ
صَفّاً بيّن الاختلال وروي أنهم قالوا يا رسولَ الله لو نعلم
أحبّ الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزلت هَلْ
أَدُلُّكمْ على تجارة إلى قوله تعالى وتجاهدون فِى سَبِيلِ
الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فولَّوا يومَ أحدٍ وفيه التزامُ
أنَّ ترتيبَ الآياتِ الكريمةِ ليسَ على ترتيبِ النزولِ وقيل
لما أخبرَ الله تعالى بثوابِ شهداءِ بدرٍ قالتِ الصحابةُ
اللَّهم أشهدْ لئِن لقِينا قتالاً لنُفْرغَن فيهِ وُسعنا
ففرّوا يومَ أحدٍ فنزلتْ وقيلَ إنَّها نزلتْ فيمن يمتدح كاذباً
حيثُ كانَ الرجلُ يقولُ قتلتُ ولم يقتُلْ ولم يَطعنْ وهكذا
وقيلَ كانَ رجلٌ قد آذَى المسلمينَ يومَ بدرٍ ونكى فيهم فقتله
صهيب وانثحل قتلَهُ آخرُ فنزلتْ في المنتحِلِ وَقِيلَ نزلتْ في
المنافقينَ ونداؤُهم بالإيمانِ تهكمٌ وبإيمانهم وليس بذلك كما
ستعرفُهُ ولمَ مركبةٌ من اللامِ الجارةِ وما الاستفهاميةِ قد
حذفتْ ألفُها تخفيفا لكثرة استعمالها معاً كما في عَمَّ وفيما
نظائرهما معنَاها لأيِّ شيءٍ تقولونَ نفعل مالا تفعلونَ من
الخيرِ والمعروفِ على أنَّ مدارَ التعبيرِ والتوبيخِ في
الحقيقةِ عدمُ فعلِهم وإنَّما وجها إلى قولِهِم تنبيهاً على
تضاعفِ معصيتِهِم ببيانِ أنَّ المنكرَ ترك وليس تركَ الخيرِ
الموعودِ فقط بلِ الوعدَ بهِ أيضاً وقد كانُوا يحسبونَهُ
معروفاً ولو قيلَ لمَ لا تفعلوا ما تقولونَ لفُهم منهُ أنَّ
المنكرَ هُو تركُ الموعودِ
(8/242)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ
اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ
مَا لاَ تَفْعَلُونَ} بيانٌ لغايةِ قُبحِ ما فعلوهُ وفرطِ
سماجتِه وكبُرَ من بابِ نِعْمَ وبِئْسَ فيه ضميرٌ مبهمٌ مفسرٌ
بالنكرةِ بعدهُ وأنْ تقولُوا هو المخصوصُ بالذمِّ وقيل قُصدَ
فيهِ التعجبُ من غيرِ لفظِهِ وأُسْندَ إلى أنْ تقولُوا ونصبُ
مقتاً على تفسيرِهِ دلالةٌ على أن قولهم مالا يفعلونَ مقتٌ
خالصٌ لا شوبَ فيهِ كبُرَ عندَ من يحقرُ دونَهُ كلُّ عظيمٍ
(8/242)
5 4
وقوله تعالى
(8/243)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
{إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى
سَبِيلِهِ صَفّاً} بيانٌ لِما هو مرضيٌّ عنده تعالى بعد بيانِ
ما هو ممقوتٌ عندهُ وهذا صريحٌ في أنَّ ما قالُوه عبارةٌ عن
الوعدِ بالقتالِ لا عما تقوله المتمدح أو انتحلَهُ المنتحِلُ
أو أعاده المنافقُ وأنَّ مناطَ التعبيرِ والتوبيخِ هو إخلافُهم
لا وعدُهم كما أشيرَ إليهِ وقُرِىءَ يقاتَلُونَ بفتح التاء
ويقاتلون وصفا مصدرٌ وقعَ موقعَ الفاعلِ أو المفعول نصبه على
الحاليةِ من فاعلِ يقاتلونَ أي صافِّينَ أنفسَهُم أو مصفوفِينَ
وقولُه تعالى {كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} حالٌ من المستكن
في حال الأُولى أي مشبهينَ في تراصِّهِم من غيرِ فُرجةٍ وخللٍ
ببنيانٍ رُصَّ بعضُهُ إلى بعضٍ ورُصفَ حتى صار شيئاً واحداً
وقولُه تعالى
(8/243)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ
أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (5)
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} كلامٌ
مستأنفٌ مقرِّرٌ لما قبله من شناعة تركِ القتالِ وإذْ منصوبٌ
على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبي عليه الصلاة والسلام
بطريقِ التلوينِ أيْ واذكُر لهؤلاءِ المعرضينَ عن القتالِ وقتَ
قولِ مُوسى لبني إسرائيلَ حينَ ندبَهُم إلى قتال الجبابرة
بقوله يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فتنقلبلوا
خاسربن فلم يمتثلُوا بأمرِهِ وعَصوه أشدَّ عصيانٍ حيثُ قالُوا
يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن
نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ
مِنْهَا فَإِنَّا داخلون إلى قولِهِ تعالى فاذهب أَنتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنا ههنا قاعدون وأصرُّوا على ذلكَ وآذُوه
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كلُّ الآذية {يا قوم لِمَ
تُؤْذُونَنِى} أي بالمخالفةِ والعصيانِ فيما أمرتكُم بهِ
وقولُه تعالَى {وَقَد تَّعْلَمُونَ إِنّى رَسُولُ الله
إِلَيْكُمْ} جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكارِ الإيذاءِ ونفيِ
سببِهِ وقدْ لتحقيقِ العلمِ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على
استمرارِهِ أي والحالُ أنَّكم تعلمونَ علماً قطعياً مستمراً
بمشاهدةِ ما ظهر بيديَّ من المعجزاتِ القاهرةِ التي معظمُها
إهلاكُ عدوِّكُم وإنجاؤُكم من ملكتِهِ إِنّى رَسُولُ الله
إِلَيْكُمْ لأرشدَكم إلى خيرِ الدُّنيا والآخرةِ ومن قضيةِ
علمكم بذلكَ أن تبالغُوا في تعاظيمى وتسارعُوا إلى طاعتِي
{فَلَمَّا زَاغُواْ} أي أصرُّوا على الزيغِ عن الحقُّ الذي
جاءَ به موسَى عليهِ السلامُ واستمرُّوا عليهِ {أَزَاغَ الله
قُلُوبَهُمْ} أيْ صرفَها عن قبولِ الحقِّ والميلِ إلى الصوابِ
لصرفِ اختيارِهِم نحو الغيِّ والضلالِ وقولُهُ تعالى {والله
لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} اعتراضٌ تذييليُّ مقرر لمضمون ما
قبله من الإزاغةِ ومؤذنٌ بعلتِهِ أيْ لا يهدِي القومَ
الخارجينَ عن الطاعةِ ومنهاجِ الحقِّ المُصرِّين على الغَوايةِ
هدايةً موصلةً إلى ما يوصل إليها فإنها شاملةٌ للكُلِّ
والمرادُ بهم إما المذكرورن خاصَّة والإظهارُ في موقعِ
الإضمارِ لذمِّهم بالفسقِ وتعليلِ عدم الهدية بهِ أو جنسِ
الفاسقينَ وهم داخلون ف حُكمه دخولاً أولياً وأيّاً ما كانَ
فوصفُهم بالفسقِ ناظرٌ إلى ما في قولِهِ تعالى فافرق بَيْنَنَا
وبين القوم الفاسقين هذا هُو الذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ
(8/243)
8 6
الكريمِ ويرتضيهِ الذوقُ السليمُ وأما ما قيلَ بصددِ بيانِ
أسبابِ الأذيةِ من أنهم كانُوا يؤذونَهُ عليهِ الصلاة اولسلام
بانواع الأذى من انقاصه وعيبِهِ في نفسِهِ وجحودِ آياتِهِ
وعصيانِهِ فيما تعودُ إليهِم منافعُهُ وعبادتِهِم البقرَ
وطلبِهِم رؤيةَ الله جهرةً والتكذيبِ الذي هو تضييعُ حقِّ الله
وحقِّه فممَّا لا تعلُّقَ له بالمقامِ وقوله تعالى
(8/244)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُبِينٌ (6)
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} إمَّا
معطوفٌ على إذ الأُولى معمولٌ لعاملِهَا وإما معمولٌ لمضمرٍ
معطوفٍ على عاملها {يا بني إسرائيل} ناداهُم بذلكَ استمالةً
لقلوبِهِم إلى تصديقه في قولِهِ {إِنّى رَسُولُ الله
إِلَيْكُمْ مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة}
فإنَّ تصديقَهُ عيه الصلاةُ والسلامُ إيِّاها من أَقْوى
الدَّواعي إلى تصديقِهِم إيَّاه وقولُهُ تعالَى {وَمُبَشّراً
بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى} معطوف على مصدقا داع الى
تصدقيه عليهِ الصلاةُ والسلامُ مثلَه من حيثُ إن البشارةَ به
واقعة في التوراة والعاملُ فيهما ما في الرسولِ من مَعْنَى
الإرسالِ لا الجارُّ فإنَّه صلةٌ للرسولِ والصلاتُ بمعزلٍ من
تضمنِ معنى الفعلِ وعليهِ يدورُ العملُ أي أرسلتُ إليكم حالَ
كونِي مصدقاً لما تقدمنى من التوراة ومبشراً بمنْ يأتي من
بعدِي من رسولٍ {اسمه أحمد} أى محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
يريدُ أنَّ دينيَ التصديقُ بكتبِ الله وأنبيائِهِ جميعاً ممن
تقدمَ وتأخَّر وقُرِىءَ منْ بعديَ بفتحِ الياءِ {فَلَمَّا
جَاءهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ الظاهرةِ {قَالُواْ هذا
سِحْرٌ مُّبِينٌ} مشيرينَ إلى ما جاءَ به أو إليه عليه الصلاة
والسلام وتسميتُه سحراً للمبالغةِ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ
هَذا ساحرٌ
(8/244)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى
إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (7)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله
الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} أيْ أيُّ الناسِ أشدُّ
ظُلماً ممن يُدعى إلى الإسلامِ الذى ويولصله إلى سعادةِ
الدارينِ فيضعَ موضعَ الإجابةِ الافتراءَ على الله عزَّ وجلَّ
بقولِهِ لكلامِهِ الذي هو دعاءُ عبادِهِ إلى الحقِّ هذا سحرٌ
أيْ هُو أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وإنْ لم يتعرضْ ظاهرُ الكلامِ
لنفيِ المُساوي وقد مرَّ بيانُهُ غيرَ مرةٍ وقُرِىءَ يُدّعى
يقال دَعَاهُ وادَّعاهُ مثلُ لمسَهُ والتمسَهُ {والله لاَ
يَهْدِى القوم الظالمين} أي لا يرشدهُم إلى ما فيهِ فلاحُهم
لعدمِ توجههم إليهِ
(8/244)
يُرِيدُونَ
لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} أي
يريدونَ أنْ يطفئُوا دينَهُ أو كتابَهُ أو حجتَهُ النيرةَ
واللامُ مزيدةٌ لما فيها من معنى الإرادةِ تأكيداً لها كما
زيدَتْ لِما فيها من مَعْنَى الإضافةِ تأكيداً لها في لا أبالك
أو يريدون لافتراء ليطفئُوا نورَ الله {بأفواههم} بطعهم فيه
مثلتْ حالهُم بحالِ من ينفخُ في نورِ الشمسِ بفيةِ ليطفئَهُ
{والله مُتِمُّ نُورِهِ} أي مبلِغُهُ إلى غايتِه بنشرِه في
الآفاقِ وإعلائِهِ وقُرِىءَ متمٌّ نورَهُ بلا إضافة {وَلَوْ
كره الكافرون} اإرغاما
(8/244)
} 3 9
لهم والجملةُ في حيزِ الحالِ على ما بُينَ مراراً
(8/245)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى}
بالقرآن أو بالمعجزة {ودين الحق} والملة الحنيفة {لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدين كُلّهِ} ليُعلِيَه على جميعِ الأديانِ المخالفةِ
لهُ ولقد أنجزَ اللَّهُ عزَّ وجل وعلاَ وعدَهُ حيثُ جعلَهُ
بحيثُ لم يبقَ دينٌ من الأديانِ إلا وهُو مغلوبٌ مقهورٌ بدينِ
الإسلامِ {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} ذلكَ وقُرِىءَ هُو الذي
أرسلَ نبيه
(8/245)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ هَلْ
أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
وقُرِىءَ تنجِّيكُم بالتشديدِ وقولُهُ تعالَى
(8/245)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
{تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون
فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} استئنافٌ وقعَ
جواباً عما نشأ مما قبله كأنَّهم قالوا كيفَ نعملُ أو ماذَا
نصنعُ فقيلَ تؤمنونَ بالله الخ وهو خبرٌ في مَعْنى الأمرِ جىء
للإيذان بوجوب الامتثال فكان فقد وقعَ فأخبرَ بوقوعِهِ ويُؤيده
قراءةُ مَن قرأَ آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا وقُرِىءَ
تُؤمِنُوا وتُجاهِدُوا على إضمارِ لامِ الأمرِ {ذلكم} إشارةٌ
إلى ما ذكر من الإيمانِ والجهادِ بقسميه وما فيه من معنى
البُعد لما مر غيرَ مرة {خَيْرٌ لَّكُمْ} على الإطلاقِ أو من
أموالكم أو أنفسكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إنْ كنتُم من
أهلِ العلمِ فإنَّ الجهلةَ لا يعتدُّ بأفعالِهِم أو إنْ كنتُم
تعلمونَ أنَّه خيرٌ لكم كان خيرا لكُم حينئذٍ لأنكُم إذَا
علمتم ذلك واعتفدتموه أحببتُم الإيمانَ والجهادَ فوقَ مال
تحبونَ أنفسَكُم وأموالَكُم فتُخلِصونَ وتفلحُونَ
(8/245)
يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جوابٌ
للأمرِ المدلولِ عليه بلفظ الخبرِ أو لشرطٍ أو استفهامٍ دلَّ
عليهِ الكلامُ تقديرُهُ أنْ تؤمنُوا وتُجاهِدوا أو هَلْ
تقبلُونَ أن أدلكُم يغفرْ لكُمْ وجعلُه جواباً لهَلْ أدلكُم
بعيدٌ لأنَّ مجردَ الدلالةِ لا يوجبُ المغفرةَ {وَيُدْخِلْكُمْ
جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً فِى جنات
عَدْنٍ ذَلِكَ} أي ما ذكرَ من المغفرةِ وإدخالِ الجناتِ
الموصوفةِ بما ذكرَ من الأوصاف الجليل {الفوز العظيم} الذِي
لاَ فوزَ وراءَهُ
(8/245)
وَأُخْرَى
تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (13)
{وأخرى} ولكُم إلى هذه النعمِ العظيمةِ
نعمةٌ أُخرى عاجلة {تحبونها} وترغبون فيه وفيهِ تعريضٌ بأنهم
يؤثرونَ العاجلَ على الآجلِ وقيلَ أُخرى منصوبةٌ بإضمارِ
يعطكُمْ أو تحبونَ أو مبتدأٌ خبرُهُ {نَصْرٌ مّن الله} وهو
عَلى الأولِ بدلٌ أو بيانٌ وعلى تقديرِ النصبِ خبرُ مبتدأٍ
محذوفٍ {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي عاجلٌ عطفٌ على
(8/245)
} 4
نصرٌ على الوجوهِ المذكورةِ وقُرِىءَ نصراً وفتحاً قريباً على
الاختصاصِ أو على المصدرِ أيْ تُنصرونَ نصراً ويُفتحُ لكم
فَتْحاً أو عَلى البدليةِ من أُخرى على تقدير نصبِهَا أي
يعطكُم نعمةً أُخرى نصراً وفتحاً {وَبَشّرِ المؤمنين} عطفٌ على
محذوفٍ مثل قُل يأيها الذين وبشر أو على تؤمنونَ فإنَّه في
معنى آمِنُوا كأنَّه قيلَ آمِنُوا وجاهِدُوا أيُّها المؤمنونَ
وبشرْهُم يأيها الرسولُ بما وعدتَهُم على ذلك عاجلا وآجلا
(8/246)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي
إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كُونُواْ
أنصار الله} وقُرِىءَ أنصار الله بلاَ إضافةٍ لأن المَعْنَى
كونُوا بعضَ أنصارِ الله وقُرِىءَ كونُوا أنتُم أنصارَ الله
{كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ
أنصارى إِلَى الله} أي مَنْ جُندي متوجهاً إلى الله كما يقتضه
قولُهُ تعالى {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله}
والإضافةُ الأُولى إضافةُ أحدِ المتشاركينِ إلى الآخرِ لما
بينهُما من الاختصاصِ والثانيةُ إضافةُ الفاعلِ إلى المفعولِ
والتشبيهُ باعتبارِ المَعْنَى أي كُونُواْ أنصارَ الله كَمَا
كانَ الحواريونَ أنصارَهُ حينَ قال لهُم عيسى مَن أنصارِي إلى
الله أو قُل لَهُم كونُوا كما قالَ عيسى للحواريينَ
والحواريونَ أصفياؤُه وهم أولُ من آمنَ به وكانوا اثنيْ عشَرَ
رجلاً {فآمنت طائفة من بني إسرائيل} أى بعيسى وطاعوه فيما
أمرهم من نصرة الدين {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} أُخرى به وقاتلوهم
{فأيدنا الذين آمنوا على عَدُوِّهِمْ} أي قوَّيناهُم بالحجة أو
بالسيفِ وذلكَ بعد رفع عيسى عليه السلامُ {فَأَصْبَحُواْ
ظاهرين} غالبينَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ
قرأَ سورةَ الصفِّ كانَ عيسى مصلياً عليهِ مستغفراً له مادام
في الدُّنيا وهُو يومَ القيامة رفيقه
(8/246)
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/247)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ
الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا
فِي الأرض} تسبيحاً مُستمِرَّاً {الملك القدوس العزيز الحكيم}
وَقَدْ قُرِىءَ الصفاتُ الأربعُ بالرَّفعِ عَلَى المدحِ
(8/247)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (2)
{هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين} أيْ في
العربِ لأنَّ أكثرَهُمْ لا يكتبونَ ولا يقرءون قيلَ بدئتْ
الكتابةُ بالطَّائفِ أخذُوها منْ أهلِ الحيرةِ وهُمْ من أهلِ
الأنبارِ {رَسُولاً مّنْهُمْ} أيْ كائناً منْ جُملتِهِم أمياً
مثلَهُم {يتلو عليهم آياته} مَعَ كونِهِ أمياً مثلَهُم لَم
يُعهدْ منْهُ قراءةٌ ولا تعلمٌ {وَيُزَكّيهِمْ} صفةٌ أُخرى
لرسولاً معطوفةٌ عَلَى يتلو أيْ يحملُهُم عَلى ما يصيرُونَ به
أزكياءَ مِن خبائثِ العقائدِ والأعمالِ {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب
والحكمة} صفةٌ أُخْرَى لرسولاً مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى
التِّلاوةِ وإنَّما وَسَّطَ بينَهُما التزكيةَ التي هيَ عبارةٌ
عنْ تكميلِ النفسِ بحسبِ قوتِهَا العمليةِ وتهذيبِهَا المتفرغ
وعلى تكميلِهَا بحسبِ القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ
المترتبِ على التلاوةِ للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الأمورِ
المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو
رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لتبادَر إلى الفهمِ كونُ الكلِّ نعمةً
واحدةً كما مر في سورة البقرةِ وهُوَ السرُّ في التعبيرِ عن
القرآنِ تارةً بالآياتِ وَأُخْرَى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى
أنَّه باعتبارِ كلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حِدةٍ ولا يقدحُ فيهِ
شمولُ الحكمةِ لِمَا في تضاعيفِ الأحاديثِ النبويةِ منَ
الأحكامِ والشرائعِ {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ لَفِى ضلال
مُّبِينٍ} منَ الشركِ وخبث الجاهليةِ وهو بيانٌ لشدةِ
افتقارِهِم إلى مَنْ يرشدهُم وإزاحةٌ لمَا عَسَى يُتوهَّم منْ
تعلُّمِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ منَ الغيرِ وإنْ هي المخففة
واللام في الفارقة
(8/247)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{وآخرين مِنْهُمْ} عطفٌ على الأميينَ أوْ
عَلى المنصوبِ في يعلِّمُهُم ويعلِّمُ آخرينَ منهُم أيْ من
الأميينَ وهُم الذينَ جَاءُوا بعدَ الصحابةِ إلى يومِ الدِّينِ
فإنَّ دعوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتعليمه يعمم الجميعَ
{لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفةٌ لآخرينَ أيْ لمْ يلحقُوا
بهمْ بعدُ وسيلحقونَ {وَهُوَ العزيز الحكيم} المبالغُ في
العزةِ والحكمةِ ولذلكَ مكَّنَ رجلاً أمياً منْ ذلكَ الأمرِ
(8/247)
7 4
العظيمِ واصطفاهُ منْ بينِ كافةِ البشرِ
(8/248)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(4)
{ذلك} الذي امتازَ بهِ منْ بينِ سائرِ
الأفرادِ {فَضَّلَ الله} وأحسانُهُ {يُؤْتِيهِ من يشاء} تفضيلا
وعطيةً {والله ذُو الفضل العظيم} الذي يُستحقَرُ دُونَهُ نعيمُ
الدُّنيا ونعيمُ الآخرةِ
(8/248)
مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
{مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} أي
عُلِّمُوهَا وكُلِّفُوا العملَ بهَا {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}
أيْ لَمْ يعملُوا بِمَا في تضاعِيفِها منَ الآياتِ التي منْ
جُملتِها الآياتُ الناطقةُ بنبوةِ رسولِ الله صلى الله عليه
وسلم {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} أيْ كتباً منَ
العلمِ يتعبُ بحملِهَا ولا ينتفعُ بهَا ويحملُ إمَّا حالٌ
والعاملُ فيهَا مَعْنَى المَثلِ أو صفةٌ للحمارِ إذْ ليسَ
المرادُ بهِ معيناً فهُو في حكمِ النكرةِ كما في قول من قالَ
... وَلَقَدْ أمرُّ عَلى اللئيمِ يَسُبُّنِي ...
{بِئْسَ مَثَلُ القومِ الذينَ كَذَّبُواْ بآياتِ الله} أيْ
بئسَ مثلاً مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتِ الله عَلى
أنَّ التمييزَ محذوفٌ والفاعلَ المُفسَّرَ بهِ مستترٌ ومثلُ
القومِ هُو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ للقومِ أو بئسَ
مثلُ القومِ مثلُ الذينَ كذَّبوا إلخ على أنَّ مثلُ القومِ
فاعلُ بئسَ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ وهم اليهودُ الذينَ
كذَّبُوا بمَا في التوارة من الآياتِ الشاهدةِ بصحةِ نبوة
محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {والله لاَ يَهْدِى القوم
الظالمين} الواضعينَ للتكذيبِ في موضعِ التصديقِ أو الظالمينَ
لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ
(8/248)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ
لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
{قُل يا أيُّها الذينَ هَادُواْ} أَيْ
تهودُوا {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن
دُونِ الناس} كانُوا يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه
ويَدَّعُونَ أنَّ الدارَ الآخرةَ لهُمْ عندَ الله خالصةً
ويقولونَ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ منْ كانَ هُوداً فأُمِرَ
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يقولَ لهُم إظهاراً
لكذبِهِمْ إنْ زعمتُم ذلكَ {فَتَمَنَّوُاْ الموت} أيْ فتمنَّوا
منَ الله أنْ يميتَكُم وينقُلَكُم منْ دارِ البليةِ إلى دارِ
الكرامةِ {إِن كُنتُمْ صادقين} جوابُه محذوفٌ لدِلالة ما قبله
عليه إِن كُنتُمْ صادقين في زَعْمِكُم واثقينَ بأنَّه حقٌّ
فَتَمَنَّوُاْ الموتَ فإنَّ مَنْ أيقنَ بأنَّهُ مِنْ أهلِ
الجنةِ أحبَّ أنْ يتخلصَ إلَيها منْ هذهِ الدارِ التي هيَ
قرارةُ الأكدارِ
(8/248)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ
أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (7)
{وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً} إخبارٌ بما
سيكون منهم والبناء في قولِهِ تعالى {بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ} متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ النفيُ أيْ يأبونَ
التمنِّي بسببِ ما عمِلوا من الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ
النارِ ولما كانتِ اليدُ من بينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ
عامَّةِ أفاعيله عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ
القدرةِ {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أيْ بهِم وإيثارُ الإظهارِ
على الإظهار
(8/248)
} 0 8
لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمونَ في كلِّ ما يأتُون
وما يذرونَ من الأمور التي من جملتها ادعاءُ ما هُمْ عنْهُ
بمعزلٍ والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ
بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي
المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ
الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم
يتمنَّ منهُم موتَهُ أحدٌ كَما يعرب عنه قوله تعالى
(8/249)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ
تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ}
فإنَّ ذلكَ إنَّما يقالُ لهُم بعدَ ظهورِ فرارِهِم منَ
التمنِّي وقد قال عليه الصلاة والسلام لو تمنوا لما توا منْ
ساعتِهِم وهذهِ إحدَى المعجزاتِ أيْ إنَّ الموتَ الذي تفرونَ
منهُ ولا تجسَرونَ عَلى أنْ تتمنَّوهُ مخافةَ أنْ تُؤخذُوا
بوبالِ كفرِكُم {فَإِنَّهُ ملاقيكم} اُلبتةَ من غير صارفٍ
يلويه ولا عاطف يثنيه والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبارِ
الوصفِ وقُرِىءَ بدونِهَا وقُرِىءَ تفرونَ منْهُ مُلاقِيكُم
{ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} الذي لا تَخفى
عليهِ خافيةٌ {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} منَ
الكُفر والمعاصِي بأنْ يجازيَكُم بها
(8/249)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(9)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا
نُودِىَ للصلاة} أيْ فُعِلَ النداءُ لهَا أيْ أُذِّنَ لَهَا
{مِن يَوْمِ الجمعة} بيانٌ لإذَا وتفسيرٌ لهَا وقيلَ من
بمَعْنَى في كَما في قولِه تعالَى أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ
مِنَ الأرض أيْ في الأرضِ وإنَّما سمِّي جمعةً لاجتماع الناس
منه للصلاةِ وقيلَ أولُ مَنْ سمَّاها جمعةً كعبُ بنُ لُؤَي
وكانتِ العربُ تسميهِ العَرُوبَةَ وقيلَ إنَّ الأنصارَ قالو
قبلَ الهجرةِ لليهودِ يومٌ يجتمعونَ فيهِ بكُلِّ سبعةِ أيامٍ
وللنَّصارَى مثلُ ذلكَ فهلمُّوا نجعلْ لَنَا يوماً نجتمعُ فيهِ
فنذكرُ الله فيهِ ونُصلِّي فقالُوا يومُ السبتِ لليهودِ ويومُ
الأحدِ للنَّصارَى فاجعلُوه يومَ العَروبَةِ فاجتمعُوا إلى
سعدِ بنِ زُرارةَ فصلَّى بهمْ ركعتَينِ وذكر هم فسمَّوه يومَ
الجمعةِ لاجتماعِهِم فيهِ فأنزلَ الله آيةَ الجمعةِ فهيَ أولُ
جمعةِ كانتْ في الإسلامِ وأما أولُ جمعةً جَمَّعها رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم فهُو أنَّه لما قدمَ مُهَاجِراً نزلَ
قُبَاءَ على بني عمرو بنِ عَوْف وأقامَ بها يومُ الإثنينِ
والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وأسَّس مسجدَهُم ثم خرجَ يومَ
الجمعةِ عامداً المدينةَ فأدركتْهُ صلاةُ الجمعةِ في بني سالمِ
بنِ عوفٍ في بطن وادلهم فحطب وصلَّى الجمعةَ {فاسعوا إلى
ذِكْرِ الله} أيْ امشُوا واقْصِدُوا إلى الخطبةِ والصلاةِ
{وَذَرُواْ البيع} واتركُوا المعاملةَ {ذلكم} أي السعيُ إلى
ذكرِ الله وتركُ البيعِ {خَيْرٌ لَّكُمْ} منْ مباشرتِهِ فإنَّ
نفعَ الآخرةِ أجلُّ وأبقَى {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي الخبر
والشر الحقيقيين أوْ إِنْ كنتم أهلَ العلمِ
(8/249)
فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (10)
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة}
(8/249)
} {
أي أُدِّيتْ وفُرغَ منهَا {فانتشروا فِى الأرض} لإقامةِ
مصالِحِكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي الربحَ فالأمرُ
للإطلاقِ بعدَ الحظرِ وعنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما لَمْ
يؤمُروا بطلبِ شيءٍ من الدُّنيا إنَّما هو عيادةُ المرضَى
وحضورُ الجنائزِ وزيارةُ أخٍ في الله وعنِ الحسنِ وسعيدِ بنِ
المسيِّبِ طلبُ العلمِ وقيلَ صلاةُ التطوعِ {واذكروا الله
كَثِيراً} ذِكراً كَثيراً أو زماناً كثيراً ولا تخصوا ذكرَهُ
تعالَى بالصلاةِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تفوزُوا بخيرِ
الدارينِ
(8/250)
وَإِذَا رَأَوْا
تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ
وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً
انفضوا إِلَيْهَا} رُوي أنَّ أهلَ المدينةِ أصابَهُم جوعٌ
وغلاءٌ شديدٌ فقدمَ دِحْيةُ بنُ خَلِيفةَ بتجارةٍ منْ زَيْتِ
الشامِ والنَّبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يخطبُ يومَ
الجمعةِ فقامُوا إليهِ خشيةَ أنْ يُسْبقُوا إليهِ فما بقيَ
معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا ثمانيةٌ وقيلَ أحدَ عشرَ
وقيلَ اثنا عشرَ وقيلَ أربعونُ فقال عليه الصلاة والسلام
والَّذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لَوْ خرجُوا جميعاً لأضرمَ الله
عليهِم الواديَ ناراً وكانُوا إذَا أقبلتْ العيرُ استقبلُوها
بالطبلِ والتصفيقِ وهُو المرادُ باللهوِ وتخصيصُ التجارةِ برجع
الضمير لأنه المقصودة أو لأن الإنقضاض للتجارةِ معَ الحاجةِ
إليهَا والانتفاعِ بهَا إذا كانَ مذموماً فمَا ظنُّكَ
بالانفضاضِ الى اللهو وهو المذمون في نفسهِ وقيلَ تقديرُهُ
إذَا رأَوا تجارةً انفضُّوا إليها أو لهوا انفضُّوا إليهِ
فحذفَ الثانيَ لدلالةِ الأولِ عليهِ وقُرىءَ إليهِمَا
{وَتَرَكُوكَ قَائِماً} أيْ عَلى المنبرِ {قُلْ مَا عِندَ
الله} منَ الثوابِ {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فإنَّ
ذلكَ نفعٌ محققٌ مخلَّدٌ بخلافِ ما فيهِمَا منَ النَّفعِ
المتوهَّمِ {والله خير الرازقين} فإليهِ اسعَوا ومنْهُ اطلبُوا
الرزق عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ
الجُمعةِ أُعطِيَ منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ أتَى
الجمعةَ ومَنْ لَم يأتِهَا في أمصارِ المسلمين
(8/250)
|