تفسير أبي السعود
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم } المنافقون {
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/251)
إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
{إِذَا جَاءكَ المنافقون} أي حضرُوا مجلسكَ
{قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} مؤكدينَ كلامَهُم
بأنَّ واللامُ للإيذانِ بأن شهادتهم هذه صاردة عن صميمِ
قلوبِهِم وخلوصِ اعتقادِهِم ووفورِ رغبتِهِم ونشاطِهِم وقولُهُ
تعالى {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} اعتراضٌ مقررٌ
لمنطوقِ كلامِهِم وُسِّطَ بينه وبينَ قولِهِ تعالى {والله
يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} تحقيقا وتعييناً لِما نيطَ
به التكذيبُ من أنَّهُم قالُوه عن اعتقادٍ كما أُشيرِ إليهِ
وإماطةً من أولِ الأمرِ لما عسى يتوهمُ من توجه التكذيبِ إلى
منطوقِ كلامِهِم أيْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبُونَ فيما
ضمَّنُوا مقالتَهُم من أنَّها صادرةٌ عن اعتقادٍ وطمأنينة قلب
وا لإظهار في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم والإشعارِ بعلةِ الحُكمِ
(8/251)
اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
{اتخذوا أيمانهم} الفاجرةَ التي من جملتها
ما حكي عنْهُم {جَنَّةُ} أيْ وقايةً عمَّا يتوجَّهُ إليهِمْ
منَ مؤاخذة بالقتلِ والسبي أو غيرِ ذلكَ واتخاذُها جنةً عبارةٌ
عن إعدادِهِم وتهيئتِهِم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بهَا
ويتخلصُوا عنِ المؤاخذةِ لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر
عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن
يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يُفصح عنهُ الفاءُ في
قولِهِ تعالى {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي فصدوا منْ
أرادَ الدخولَ في الإسلامِ بأنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ليسَ
برسولٍ ومن أرادَ الإنفاقَ في سبيلِ الله بالنَّهيِ عنهُ كما
سيُحْكَى عنهُم ولا ريبَ في أنَّ هذا الصدَّ منهم متقدمٌ على
حلفِهِم بالفعلِ وقُرِىءَ إيمانَهُم أي ما ظهوره على ألسنتِهِم
فاتخاذُهُ جنةً عبارةٌ عنِ استعمالهِ بالفعلِ فإنه وقايةٌ دونَ
دمائهِم وأموالِهِم فمَعْنَى قولِهِ تعالى فصدُّوا حينئذٍ
فاستمرُّوا على ما كانوا عليه من الصدِّ والإعراضِ عن سبيلِهِ
تعالَى {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من النفاقِ
والصدِّ وفي ساءَ مَعْنَى التعجبِ وتعظيمُ أمرِهِم عندَ
السامعين
(8/251)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَفْقَهُونَ (3)
{ذلك} ذلك إشارة إلى ما تقدمَ من القولِ
(8/251)
5 4
النَّاعِي عليهِمْ إنَّهم أسوأُ الناسِ أعمالاً أو إلى ما وصف
حالِهِم في النفاقِ والكذبِ والاستتارِ بالإيمانِ الصوريِّ وما
فيه من معنى البعد مع قُربِ العهدِ المشارِ إليه لما مرَّ
مرارا من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الشرِّ {بِأَنَّهُمْ} أي
بسبب أنهم {آمنوا} أي نطقُوا بكلمة الشهادةِ كسائرِ منْ يدخُل
في الإسلامِ {ثُمَّ كَفَرُواْ} أي ظهرَ كفرُهُم بما شُوهدَ
منهم من شَواهدِ الكُفْرِ ودلائِلِه أو نطقُوا بالإيمانِ عندَ
المؤمنينَ ثم نطقُوا بالكفرِ عند شياطينهم {فَطُبِعَ على
قُلُوبِهِمْ} حتى تمرنُوا على الكفرِ واطمأنُّوا بهِ وقرىء على
البناء للفاعل وقُرِىءَ فطبعَ الله {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}
حقيقةَ الإيمانِ ولا يعرفون حقيقته أصلاً
(8/252)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ
كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم}
لضخامتها ويروقكَ منظرُهُم لصباحةِ وجوهِهِم {وَإِن يَقُولُواْ
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لفصاحتهِم وذلاقةِ ألسنتِهِم وحلاوةِ
كلامِهِم وكان ابنُ أُبيَ جسيماً فصيحاً يحضرُ مجلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم في نفرٍ منْ أمثالِهِ وهُم رؤساءُ المدينةِ
وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومنْ معه يعجبون بها كلهم
ويسمعونَ إلى كلامِهم وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح
للخطابِ ويؤيدُه قراءةُ يُسمعْ على البناءِ للمفعولِ وقولُه
تعالَى {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} في حيزِ الرفعِ على
أنه خبر مبتدأ محذوفٍ أو كلامٌ مستأنفٌ لا محلَّ له شُبهوا في
جلوسِهِم في مجالِس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندينَ
فيها بخشبٍ منصوبةٍ مُسندةٍ إلى الحائطِ في كونِهِم أشباحاً
خاليةً عن العلمِ والخيرِ وقُرِىءَ خُشْبٌ على أنه جمعُ خشبةٍ
كبُدْنٍ جمعُ بَدَنةٍ وقيل هو جمعُ خشباءَ وهيَ الخشبةُ التي
دُعِرَ جوفُها أي فسدَ شُبهوا بها في نفاقِهِم وفسادِ
بواطِنِهم وقُرِىءَ خَشَبٌ كمَدَرةٍ ومدَرٍ {يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي واقعةً عليهم ضارةً لهم لجبنِهِم
واستقرارِ الرعبِ في قلوبِهِم وقيلَ كانُوا على وجلٍ من أنْ
يُنزلَ الله فيهم ما يهتكُ أستارَهُم ويبيحُ دماءَهُم
وأموالَهُم {هُمُ العدو} أي هُم الكاملونَ في العداوةِ
والراسخونَ فيها فإنَّ أعْدَى الأعادِي العدوُّ المُكاشرُ الذي
يُكاشِرُكَ وتحتَ ضُلوعِهِ الداءُ الدَّوِيُ والجملةُ مستأنفةٌ
وجعلُها مفعولاً ثانياً للحسبانِ ممَّا لا يساعده النظمُ
الكريم أصلاً فإنَّ الفاءَ في قولِهِ تعالَى {فاحذرهم} لترتيبِ
الأمرِ بالحذرِ على كونِهِم أعْدَى الأعداءِ {قاتلهم الله}
دعاءٌ عليهمْ وطلبٌ من ذاتِهِ تعالَى أنْ يلعنَهُم ويُخزيَهم
أو تعليمٌ للمؤمنينَ أن يدعُوا عليهِم بذلكَ وقوله تعلى {أنى
يُؤْفَكُونَ} تعجيبٌ من حالِهِم أي كيفَ يُصرفون عن الحقِّ إلى
ما هم عليه من الكفر الضلال
(8/252)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا
رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(5)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عندَ ظهورِ
جنايتِهِم بطريقِ النصيحةِ {تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ
رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ} أي عطفُوها استكباراً
{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يُعرضونَ عن القائلِ أو عن
الاستغفارِ {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}
(8/252)
8 6
عن ذلكَ
(8/253)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ (6)
{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ}
كما إذا جاءوكَ معتذرينَ من جناياتهم وقُرِىءَ استغفرتَ بحذفِ
حرفِ الاستفام ثقةً بدلالةٍ أمْ عليهِ وقُرِىءَ آستغفرتَ
بإشباعِ همزةِ الاستفهامِ لا بقلبِ همزةِ الوصلِ ألفاً {أَمْ
لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كما إذا أصرُّوا عَلى قبائِحهم
واستكبرُوا عن الاعتذارِ والاستغفارِ {لَن يَغْفِرَ الله
لَهُمْ} أبداً لإصرارِهِم على الفسقِ ورسوخِهِم في الكفرِ
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الكاملينَ في الفسقِ
الخارجينَ عن دائرةِ الاستصلاحِ المنهمكينَ في الكفرِ والنفاقِ
والمرادُ إما هُم بأعيانِهِم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ
لبيانِ غُلوهم في الفسقِ أو الجنسُ وهم داخلونَ في زمرتهم
دخولاأوليا وقولُه تعالَى
(8/253)
هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
{هُمُ الذين يَقُولُونَ} أيْ للأنصارِ {لاَ
تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله} صلى الله عليه وسلم
{حتى يَنفَضُّواْ} يعنونَ فقراءَ المهاجرينَ استئنافٌ جارٍ
مَجْرَى التَّعليلِ لفسقِهِم أو لعدمِ مغفرتِهِ تعالَى لَهُم
وقُرِىءَ حتى يَنْفِضُوا من أنفضَ القومُ إذا فنيتْ أزوادُهُم
وحقيقتُه حانَ لهم أن ينفضوا مزادوهم وقولُه تعالى {وَلِلَّهِ
خَزَائِنُ السماوات والأرض} ردُّ وإبطالٌ لما زعمُوا من أن
عدمَ إنفاقهِم يؤدي إلى انفضاضِ الفقراء من حوله صلى الله عليه
وسلم ببيان ان خزائن الأرزان بيدِ الله تعالَى خاصَّة يعطة منْ
يشاءُ ويمنعُ من يشاءُ {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} ذلكَ
لجهلِهم بالله تعالى وبشئونه ولذلكَ يقولونَ مِنْ مقالاتِ
الكفرِ ما يقولونَ
(8/253)
يَقُولُونَ لَئِنْ
رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(8)
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} رُوِيَ أن جَهْجَاهَ بنَ
سعيدٍ أَجيرَ عمرَ رضيَ الله عنهُ نازعَ سِناناً الجُهْنَيَّ
حليفَ ابنِ أبيى واقتتلا فصرخ جهجاه ياللمهاجرين وسنان
بالأنصار فاعان جهجاها جعال من فقراءِ المهاجرينَ ولطمَ سنان
فاشتكى الى اين أُبيَ فقالَ للأنصارِ لا تُنفقُوا الخ والله
لئِن رجدعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل عَنَى
بالأعزِّ نفسَهُ وبالأذلِّ جانبَ المؤمنينَ وإسنادُ القولِ
المذكورِ إلى المنافقينِ لرضاهُم بهِ فرُدّ عليهِم ذلكَ بقولِه
تعالَى {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي
ولله الغالبة والقوةُ ولمنْ أعزَّهُ من رسولِهِ والمؤمنينَ لا
لغيرِهِم {ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} من فرطِ جهلِهِم
وغرورِهِم فيهذُونَ ما يهذُون رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بنِ
أُبيَ لما أرادَ أن يدخلَ المدينةَ اعترضَهُ ابنُهُ عبدَ
اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان مخلصاً وقالَ لئِن لم
تُقِرَّ لله ولرسولِه بالعزِّ لأضربهم عنقَكَ فلمَّا
(8/253)
} 1 9
رَأى منه الجِدَّ قال أشهدُ أنَّ العزةَ لله ولرسولِه
وللمؤمنينَ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابنهِ جزاكَ
الله عن رسولِهِ وعن المؤمنينَ خيراً
(8/254)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ
تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذكرِ الله} أي لا
يشغَلْكُم الاهتمامُ بتدبيرِ أمورِهَا والاعتناءُ بمصالحِهَا
والتمتعُ بها عن الاشتغالِ بذكرِهِ عزَّ وجلَّ من الصلاة وسائر
العبادات المذكورة للمعبودِ والمرادُ نهيهُم عنِ التَّلهّي
بهَا وتوجيهُ النهيِ إليهَا للمبالغةِ كما في قولِهِ تعالَى
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الخ {وَمَن يَفْعَلْ
ذلك} أي التَّلهي بالدُّنيا منَ الدينِ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الخاسرون} أي الكاملونَ في الخسرانِ حيثُ باعُوا العظيم الباقي
بالحقير الفانئ
(8/254)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
{وأنفقوا من ما رزقناكم} أي بعضَ ما
أعطينَاكُم تفضلاً منْ غيرِ أنْ يكونَ حصولُهُ من جهتِكُم
ادخاراً للآخرةِ {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت}
بأنْ يشاهدَ دلائلَهُ ويعاينَ أماراتِهِ ومخايلَهُ وتقديمُ
المفعولِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بما قدم
والتشويق إلى ما أُخِّر {فَيَقُولُ} عند تيقنِه بحلولِهِ {رَبّ
لَوْلا أخرتني} اأمهلتني {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي أمدٍ قصيرٍ
{فَأَصَّدَّقَ} بالنصبِ على جوابِ التمنِي وقُرِىءَ فأتصدقَ
{وَأَكُن مّنَ الصالحين} بالجزمِ عطفاً على محلِّ فأصدقَ كأنه
قيلَ إنْ أخرتنِي أصدقْ وأكنْ وقُرِىءَ وأكونَ بالنصبِ عطفاً
على لظفه وقُرِىءَ وأكونُ بالرفعِ أي وأنَا أكونَ عِدة منه
بالصلاحِ
(8/254)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً} أي ولَنْ
يُمهلَهَا {إِذَا جَاء أَجَلُهَا} أي آخرُ عُمرِهَا أو انتهى
إنْ أُريدَ بالأجلِ الزمانُ الممتدُ من أولِ العمرِ إلى آخرِهِ
{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجاز لكم عليهِ إنْ خيراً
فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فسارَعُوا في الخيراتِ واستعدُّوا لما
هُو آتٍ وقُرِىءَ يعملُونَ بالياءِ التحتانيةِ عن النبيِّ صلى
الله عليه وسلم مَنْ قَرأ سورةَ المنافقينَ برى من النفاق
(8/254)
التغابن 4 {
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/255)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا
فِي الأرض} أي ينزهُهُ سبحانَهُ جميعِ ما فيهما من المخلوقاتِ
عمَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه تنزيهاً مُستمراً {لَهُ الملك
وَلَهُ الحمد} لا لغيرِه وإذ هو المُبدىءُ لكلِّ شيءٍ وهو
القائمُ به والمهيمنُ عليهِ وهو المُولِي لأصولِ النعمِ
وفروعِها وأما ملكُ غيرِهِ فاسترعاءٌ من جنابِهِ وحمد غيره
اعتداد بأنَّ نعمةَ الله جرتْ على يدِه {وَهُوَ على كُلّ شَىْء
قَدِيرٌ} لأن نسبةَ ذاتِهِ المقتضيةَ للقدرةِ إلى الكلِّ سواءٌ
(8/255)
هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ} خلقاً بديعا حاويا
لجميع مبادىء الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ ومع ذلكَ
{فَمِنكُمْ كَافِرٌ} أي فبعضُكم أو فبعضٌ منكُم مختارٌ للكفرِ
كاسبٌ له على خلافِ ما تستدعيهِ خلقتُه {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ}
مختارٌ للإيمانِ كاسبٌ له حسبما تقتضيهِ خلقتُه وكان الواجبُ
عليكم جميعاً أن تكونُوا مختارينَ للإيمانِ شاكرينَ لنعمةِ
الخلقِ والإيجادِ وما يتفرَّع عليها من سائرِ النعمِ فما
فعلتُم ذلكَ مع تمامِ تمكنِكُم منهُ بل تشعبتُم شعباً وتفرقتُم
فرقاً وتقديمُ الكفرِ لأنه الأغلب فيما بينَهُم والأنسبُ
بمقامِ التوبيخِ وحملُه على مَعْنَى فمنكم كافر مقدرة كفرُه
موجهٌ إليهِ ما يحملُه عليهِ ومنكُم مؤمنٌ مقدرٌ إيمانُهُ
موفقٌ لما يدعُوه إليهِ مما لا يلائمُ المقامَ {والله بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بذلكَ فاختارُوا منه ما
يجديكُم من الإيمانِ والطاعةِ وإياكُم وما يُرديكم من الكفرِ
والعصيان
(8/255)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{خلق السماوات والأرض بالحق} بالحكمةِ
البالغةِ المتضمنة للمصالح الدينينة الدنيوية {وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} حيثُ براكم في أحسن تصوير وأودعَ فيكُم
من القُوى والمشاعرِ الظاهرةِ والباطنةِ ما نيط بها عن
الكمالاتِ البارزةِ والكامنةِ وزينكُم بصفوةِ صفاتِ
مصنُوعاتِهِ وخصَّكُم بخلاصةِ خصائصِ مُبدِعَاتِهِ وجعلَكُم
أنموذجَ جميعَ مخلوقاتِهِ في هَذه النشأة {وَإِلَيْهِ المصير}
في النشأة الأخرة لا الى غيره استلالا أو اشتراكاً فأحسِنُوا
سرائركُم باستعمالِ تلكَ القُوى والمشاعرِ فيا خُلقنَ لَهُ
(8/255)
يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
{يعلم ما فِى السماوات والأرض} من الأمورِ
الكليةِ والجزئيةِ والأحوالِ الجليةِ والخفيةِ
(8/255)
7 5
{وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تعلنون} أى ما تسرونه فيما
بينَكُم وما تظهرونَهُ من الأمورِ والتصريحُ بهِ مع اندراجه
فيما قبله لأنَّه الذي يدورُ عليهِ الجزاءُ ففيهِ تأكيدٌ
للوعدِ والوعيدِ وتشديدٌ لهما وقولُه تعالَى {والله عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصدور} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلَهُ من شمولِ
علمِهِ تعالَى لسرِّهم وعلنِهِم أي هو محيطٌ بجميعِ المضمرات
المستكنةِ في صدورِ الناسِ بحيثُ لا تفارقُها أصلاً فكيف يخفى
عليه ما يُسرونَهُ وما يُعلنونَهُ وإظهارُ الجلالةِ للإشعارِ
بعلةِ الحكمِ وتأكيدا استقلالِ الجملةِ قيلَ وتقديمُ تقريرِ
القدرةِ على تقريرِ العلمِ لأنَّ دلالةَ المخلوقاتِ على
قدرتِهِ بالذاتِ وعلى علمه بما فيه من الإتقانِ والاختصاصِ
ببعضِ الأنحاءِ
(8/256)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها الكفرةُ {نبأ
الذين كفروا مِن قَبْلُ} كقومِ نوحٍ ومَنْ بعدهم من الأممِ
المصرةِ على الكفرِ {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} عطفٌ على
كفرُوا والوبالُ الثقلُ والشدةُ المترتبةُ على أمرٍ من الأمورِ
وأمرُهُم كفرُهُم عبرَ عنْهُ بذلكَ للإيذانِ بأنه أمرٌ هائلٌ
وجنايةٌ عظيمةٌ أي ألم يأتكم خبرُ الذينَ كفرُوا مِن قَبْلُ
فذاقُوا من غيرِ مهلةٍ ما يستتبعُه كفرهم في الدنيا {وَلَهُمْ}
في الآخرةِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قدرُهُ
(8/256)
ذَلِكَ بِأَنَّهُ
كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا
أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى
اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ذلك} أي ما ذكر من العذابِ الذي ذاقُوه في
الدُّنيا وما سيذوقونَهُ في الآخرةِ {بِأَنَّهُ} بسببِ أن
الشأنَ {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي
بالمعجزاتِ الظاهرةِ {فَقَالُواْ} عطفٌ على كانتْ {أَبَشَرٌ
يَهْدُونَنَا} أي قالَ كلُّ قومٍ من المذكورينَ في حقِّ
رسولِهِم الذي أتاهُم بالمعجزاتِ منكرينَ لكونِ الرسولِ من
جنسِ البشرِ متعجبينَ من ذلكَ أبشرٌ يهدينَا كما قالتْ ثمودُ
أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ وقد أُجملَ في الحكايةِ
فأُسنِدَ القولُ إلى جميعِ الأقوامِ وأُريدَ بالبشرِ الجنسُ
فوصفَ بالجمعِ كما أُجملَ الخطابُ والأمرُ في قوله تعالى يا
أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا {فَكَفَرُواْ}
أي بالرسلِ {وَتَوَلَّواْ} عن التدبرِ فيما أتَوا بهِ من
البيناتِ وعن الإيمانِ بهم {واستغنى الله} أي أظهرَ استغناءَهُ
عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم حيثُ أهلكهُم وقطعَ دابرَهُم ولولا
غناهُ تعالَى عنهُما لما فعلَ ذلكَ {والله غَنِىٌّ} عنِ
العالمينَ فضلاً عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم {حَمِيدٌ} يحمدُه
كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ أو مستحقٌ للحمدِ بذاتِهِ وإنْ لم
يحمَدهُ حامدٌ
(8/256)
زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
{زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن
يُبْعَثُواْ} الزعمُ ادعاءُ العلمِ يتعدَّى إلى مفعولينِ وقد
قام مقامَهُما أن المخففةُ معَ مَا في حيزِهَا والمرادُ
بالموصولِ كفارُ مكةَ أي زعمُوا أنَّ الشأنَ لن يبعثُوا بعد
موتهم أباد {قُلْ} رداً عليهِم وإبطالاً لزعمِهِم بإثباتِ ما
نَفوه {بلى} أى تبعثون قوله {وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي لتُحاسبُنَّ ولتُجزَوُنَّ
بأعمالِكُم جملةٌ
(8/256)
} 1 8
مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمرِ واردةٌ لتأكيدِ ما أفادَهُ كلمةُ
بَلَى من إثباتِ البعث وبيان تحقق أمرٍ آخرَ متفرعٍ عليهِ منوط
ففيه تأكيد لتحقق البعثِ بوجهينِ {وَذَلِكَ} أي ما ذُكِرَ من
البعثِ والجزاءِ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لتحققِ القدرةِ التامةِ
وقبولِ المادة والفاء في قوله تعالى
(8/257)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
{فآمنوا} فصيحةٌ مفصحةٌ عن شرطٍ قد حذف ثقة
ظهورِهِ أي إذا كانَ الأمرُ كذلكَ فآمنُوا {بالله ورسوله}
محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {والنور الذى أَنزَلْنَا} وهُو
القرآنُ فإنَّه بإعجازِهِ بيِّنٌ بنفسِهِ مبيِّنٌ لغيرِهِ كما
أنَّ النورَ كذلكَ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ
العنايةِ بأمرِ الإنزالِ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من
الامتثالِ بالأمرِ وعدمِهِ {خَبِيرٌ} فمجاز لكم عليهِ والجملةُ
اعتراضٌ تذييليٌّ مقرر لما قبله من الأمرِ موجبٌ للامتثالِ به
بالوعدِ والوعيدِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة
وتأكيدا استقلالِ الجُملةِ
(8/257)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (9)
{يوم يجمعكم} ظرف لتنبؤون وقيلَ لخبير لما
فيهِ من مَعْنَى الوعيدِ كأنَّه قيلَ والله مجازيكُم ومعاقبكُم
يومَ يجمعُكُم أو مفعولٌ لا ذكر وقُرِىءَ نَجْمعكُم بنونِ
العظمةِ {لِيَوْمِ الجمع} ليومٍ يُجمعُ فيهِ الأولونَ
والآخرونَ أي لأجلِ ما فيهِ من الحسابِ والجزاءِ {ذَلِكَ
يَوْمُ التغابن} أي يومُ غَبْنِ بعضِ الناسِ بعضاً بنزولِ
السعداءِ منازلَ الأشقياءِ لو كانوا سعداءَ وبالعكسِ وفي
الحديثِ ما منْ عبدٍ يدخلُ الجنةَ إلا أُري مقعدَهُ من النارِ
لو أساء ليزداد شُكراً وما من عبدٍ يدخلُ النارَ إلا أري مقعده
من الجنةِ لو أحسنَ ليزدادَ حسرةً وتخصيصُ التغابنِ بذلكَ
اليوم للإيذان بأن التغبن في الحقيقةِ هو الذي يقعُ فيهِ لا ما
يقعُ في أمورِ الدُّنيا {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ
صالحا} أي عملاً صالحاً {يَكْفُرْ} أي الله عزَّ وجلَّ وقُرىءَ
بنونِ العظمةِ {عَنْهُ سيئاته} يومَ القيامةِ {وَيُدْخِلْهُ
جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً}
وقرىء ندخله بنون {ذلك} أى أي ما ذكر من تكفيرِ السيئاتِ
وإدخالِ الجناتِ {الفوز العظيم} الذِي لاَ فوز وراءه لا نطوائه
على النجاةِ من أعظمِ الهلكاتِ والظفرِ بأجلِّ الطلباتِ
(8/257)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا
أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير} أي
النارُ كأنَّ هاتينِ الآيتينِ الكريميتين بيانٌ لكيفيةِ
التغابنِ
(8/257)
مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} فمن المصائبِ
الدنيويةِ {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي تقديره وإرادتِهِ كأنَّها
بذاتِهَا متوجهةٌ إلى الإنسانِ متوقفةٌ على إذنِهِ تعالى
{وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} عند إصابتِهَا للثباتِ
والاسترجاعِ وقيل يهدِ قلبَهُ حتَّى يعلمَ
(8/257)
} 4 1 {
أنَّ ما أصابَهُ لم يكن لخطئه وما أخطأهُ لم يكُن ليصيبَهُ
وقيلَ يهدِ قلبَهُ أي يلطفُ بهِ ويشرحُهُ لازديادا الطاعةِ
والخيرِ وقُرِىءَ يُهْدَ قلبُهُ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ
قلبَهُ وقُرِىءَ بنصبِه على نهجِ سفِه نفسَهُ وقرىء يهدأ قلبه
بالهمزةِ أي يسكُن {والله بِكُلّ شَيْء} من الأشياء التي من
جُملتِهَا القلوبُ وأحوالِهَا {عَلِيمٌ} فيعلمُ إيمانَ المؤمنِ
ويهدي قلبَهُ إلى ما ذُكِرَ
(8/258)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}
كرَّر الأمرَ للتأكيدِ والإيذانِ بالفرقِ بينَ الطاعتين في
الكيفيةِ وتوضيحِ موردِ التولِّي في قولِه تعالَى {فَإِنَّ
تَوَلَّيْتُمْ} أي عن إطاعةِ الرسولِ وقولُهُ تعالَى
{فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} تعليلٌ للجوابِ
المحذوفِ أي فلا بأسَ عليهِ إذْ ما عليهِ إلا التبليغُ المبينُ
وقد فعلَ ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ وإظهارُ الرسولِ مضافاً إلى
نونِ العظمةِ في مقامِ إضمارِهِ لتشريفِهِ عليهِ الصَّلاةُ
والسَّلامُ والإشعارُ بمدارِ الحكمِ الذي هوَ كونُ وظيفتُه
عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ محضَ البلاغِ ولزيادةِ تشنيعِ
التولِّي عنْهُ
(8/258)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(13)
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملةٌ من
مبتدإٍ وخبرٍ أي هو المستحقُّ للمعبوديةِ لا غيرُهُ وفي إضمارِ
خبرِ لا مِثلَ في الوجودِ أو يصِح أن يوجد خلاف للنحاة معروفٌ
{وَعَلَى الله} أي عليهِ تعالى خاصَّة دُونَ غيرِه لا
استقلالاً ولا اشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وإظهارُ
الجلالةِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ التوكلِ والأمرِ به
فإن الأولهية مقتضيةٌ للتبتلِ إليهِ تعالى بالكليةِ وقطعِ
التعلقِ عما سراه بالمرة
(8/258)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ
أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ} يشغلونَكُم عن طاعةِ الله
تعالَى أو يخاصمونَكُم في أمورِ الدينِ أو الدُّنيا {فاحذروهم}
الضميرُ للعدوِّ فإنَّه يطلقُ على الجمعِ نحو قولِهِ تعالَى
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى أو للأزواجِ والأولادِ جميعاً
فالمأمورُ بهِ على الأولِ الحذرُ عن الكلِّ وعلى الثاني إما
الحذرُ عن البعضِ لأنَّ منهم من ليسَ بعدوَ وإما الحذرُ عن
مجموعِ الفريقينِ لاشتمالِهِم على العدوِّ {وَأَن تَعْفُواْ}
عن ذنوبِهِم القابلةِ للعفوِ بأن تكونَ متعلقةً بأمورِ
الدُّنيا أو بأمورِ الدينِ لكن مقارنةٌ للتوبةِ
{وَتَصْفَحُواْ} بتركِ التثريبِ والتعييرِ {وَتَغْفِرُواْ}
بإخفائِهَا وتمهيدِ عُذرِهَا {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
يعاملكم ويتفضلُ عليكُم وقيلَ إنَّ ناساً من المؤمنينَ أرادُوا
الهجرةَ عن مكَة فثبطهُم أزواجهم وأولادهم وقالوا تنطلقوا
وتضيعونَنَا فرقُّوا لهُم ووقفُوا فلما هاجَرُوا بعد ذلكَ ورأو
المهاجرينَ الأولينَ قد فقهُوا في الدينِ أرادُوا أن يعاقبُوا
أزواجَهُم وأولادَهُم فزُينَ لهم العفوُ وقيلَ قالُوا لهُم
أينَ تذهبونَ وتدعُونَ بلدكُم وعشيرتَكُم وأموالَكُم فغضبُوا
عليهِم وقالُوا لئِن جمعنَا الله في دارِ الهجرةِ لم نُصِبكم
بخيرٍ فلما هاجروا ومنعوهم الخير فحَثُّوا على أنْ يعفُوا
عنهُم ويردُّوا إليهِمْ البرَّ والصلةَ
(8/258)
} 8 15
(8/259)
إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
{أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} بلاء
ومحنة يوقوعونكم في الإثمِ من حيثُ لا تحتسبون {والله عِندَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثَرَ محبةَ الله تعالَى وطاعَتَهُ على
محبةِ الأموالِ والأولادِ والسعيِ في تدبيرِ مصالحِهِم
(8/259)
فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا
خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
{فاتقوا الله مَا استطعتم} أي ابذلُوا في
تقواهُ جهدَكُم وطاقَتَكُم {واسمعوا} مواعظَهُ {وَأَطِيعُواْ}
أوامرَهُ {وَأَنْفِقُواْ} مما رزقكُم في الوجوهِ التي أمركُم
بالإنفاقِ فيها خالصاً لوجهِهِ {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أي
ائتُوا خيراً لأنفسِكُم وافعلُوا ما هو خيرٌ لها وأنفعُ وهو
تأكيدٌ للحثِّ على امثتال هذهِ الأوامرِ وبيانٌ لكونِ الأمورِ
المذكورةِ خيراً لأنفسِهِم ويجوزُ أن يكونَ صفةٌ لمصدر محذوفٍ
أي إنفاقاً خيراً أو خبراً لكان مقدرا جوابا الأوامر أي يَكُنْ
خيراً لأنفسِكُم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ
هُمُ المفلحون} الفائزونَ بكلِ مرامٍ
(8/259)
إِنْ تُقْرِضُوا
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
{إن تقرضوا الله} يصرف أموالكم إلى الماصرف
التي عينها {قَرْضًا حَسَنًا} مقروناً بالإخلاصِ وطيبِ النفسِ
{يضاعفه لَكُمْ} بالواحدِ عشرةً إلى سبعمائةٍ وأكثرَ وقُرِىءَ
يُضعّفهُ لكُم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركةِ الإنفاقِ ما فرَط
منكُم من بعضِ الذنوبِ {والله شَكُورٌ} يَعطى الجزيلَ بمقابلةِ
النزرِ القليلِ {حَلِيمٌ} لا يعاجلُ بالعقوبةِ مع كثرةِ
ذنوبِكُم
(8/259)
عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{عالم الغيب والشهادة} لا يَخفى عليهِ
خافيةٌ {العزيز الحكيم} المبالغُ في القدرةِ والحكمة عنِ
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التغابنِ
دُفِعَ عنهُ موت الفجأة
(8/259)
الطلاق {
{بسم الله الرحمن الرحيم}
(8/260)
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ
رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا
يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
{يا أيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء}
تخصيصُ النداءِ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مع عُمومِ الخطابِ
لأمتِهِ أيضاً لتشريفه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإظهارِ
جلالةِ منصبِهِ وتحقيقِ أنَّه المخاطبُ حقيقةً ودخولِهِم في
الخطابِ بطريقِ استتباعِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم
وتغليبِهِ عليهِم لاَ لأنَّ نداءَهُ كندائهم فإذ ذلكَ
الاعتبارَ لو كانَ في حيزِ الرعايةِ لكانَ الخطابُ هو الأحقَّ
بهِ لشمولِ حُكمهِ للكلِّ قطعاً والمَعْنَى إذا أردتُم
تطليقهنَّ وعزمتُم عليهِ كما في قولِهِ تعالَى إِذَا قُمتُم
إِلَى الصلاة {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلاتٍ
لها كقولكَ أتيته ليلة خلتْ من شهرِ كَذَا فإن المرأةَ إذا
طُلقَتْ في طُهرٍ يعقبُهُ القُرْءُ الأولُ من أقرائِهَا فقد
طُلقَتْ مستقبلةً لعدتِهَا والمرادُ أن يطلقن فيطهر لم يقعْ
فيهِ جماعٌ ثم يُخلَّينَ حتى تنقضيَ عدتها وهَذا أحسنُ الطلاقِ
وأدخلُهُ في السنةِ {وَأَحْصُواْ العدة} واضبِطُوها وأكملوها
ثلاثةَ أقراءٍ كواملَ {واتقوا الله رَبَّكُمْ} في تطويل العدة
عليهم والإضرارِ بهنَّ وفي وصفِهِ تعالى بربويته لهم تأكيدٌ
للأمر ومبالغةٌ في إيجابِ الاتقاءِ {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن
بُيُوتِهِنَّ} من مساكنِهِنَّ عندَ الفراقِ إلى أنْ تنقضيَ
عِدتُهُنَّ وإضافتُهَا إليهنَّ وهيَ لأزواجهنَّ لتأكيدِ
النَّهيِ ببيانِ كمالِ استحقاقهِنَّ لسُكنَاهَا كأنها
أملاكهُنَّ {وَلاَ يَخْرُجْنَ} ولو بإذنٍ منكُم فإنَّ الإذنَ
بالخروجِ في حُكمِ الإخراجِ وقيلَ المَعْنَى لا يخرجنَّ
باستبدادٍ منهنَّ أما إذَا اتفقَا على الخروجِ جازَ إذِ الحقُّ
لا يعدوهُمَا {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ}
استثناءٌ من الأولِ قيلَ هيَ الزنا فيخرجنَ لإقامة الحدِّ
عليهنَّ وقيلَ إلا أنْ يبذُونَ على الأزواجِ فيحلُّ حينئذٍ
إخراجهُنَّ ويؤيدُهُ قراءةُ إلا أنْ يُفْحِشْن عليكُم أو من
الثانِي للمبالغةِ في النَّهيِ عن الخروجِ ببيانِ أنَّ
خروجَهَا فاحشةٌ {تِلْكَ} إشارة إلى ما ذكر من الأحكامِ وما في
إسمِ الإشارةِ من مَعْنَى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه
للإيذان بعلو درجتها وبعدمنزلتها {حُدُودَ الله} التي
عيَّنَهَا لعباده {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} أي حدودَهُ
المذكورةَ بأن أخل بشيءٍ منها على أنَّ الإظهارَ في حيزِ
الإضمارِ لتهويلِ أمرِ التعدِّي والإشعارِ بعلةِ الحكمِ في
قولِهِ تعالَى {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} اى اضربها وتفسيرُ
الظلمِ بتعريضِهَا للعقابِ يأباهُ
(8/260)
} {
قولُهُ تعالَى {لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْراً} فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ مضمونِ الشرطيةِ
وقد قالُوا إن الأمرَ الذي يحدثُهُ الله تعالى أنْ يقلبَ
قلبَهُ عمَّا فعلَهُ بالتعدِّي إلى خلافِهِ فلا بد أن يكون
الظلمُ عبارةً عن ضررٍ دنيويَ يلحقُهُ بسببِ تعدِّيهِ ولا
يُمكنُ تدارُكُهُ أو عنْ مُطلقِ الضررِ الشاملِ للدنيويِّ
والأُخرويِّ ويخُصُّ التعليلُ بالدنيويِّ لكونِ احترازِ الناسِ
منهُ أشدَّ واهتمامِهِمْ بدفْعِهِ أوقى وقولُهُ تعالَى لا
تَدْرِى خطابٌ للمتعدِّي بطريقِ الالتفاتِ لمزيدِ الاهتمامِ
بالزجرِ عن التعدِّي لا للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كما
توهِّمَ فالمَعْنَى وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فقدْ أضرَّ
بنفسِهِ فإنك لا نردي أيُّها المتعدِّي عاقبَة الأمرِ لعلَّ
الله يحدثُ في قلبكَ بعدَ ذلكَ الذي فعلتَ من التعدِّي أمراً
يقتضِي خلافَ ما فعلتَهُ فيبدَّل ببغضِهَا محبةً وبالإعراضِ
عنعا إقبالاً إليها ويتسنَّى تَلاَفيهِ رجعةً أو استئنافَ
نكاحٍ
(8/261)
فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} شارفنَ
آخرَ عدتِهِنَّ {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فراجعوهنَّ {بِمَعْرُوفٍ}
بحسنِ معاشرةٍ وإنفاقٍ لائقٍ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
بإيفاء الحق واتقاء الضرار بأنْ يراجعَهَا ثم يُطلقهَا تطويلاً
للعدةِ {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} عند الرجعةِ
والفرقة قطعا للتنازع وهذ أمرُ ندبٍ كما في قولِهِ تعالَى
وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ويُروَى عن الشافعي أنه
للوجوبِ في الرَّجعَةِ {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} أيُّها
الشهودُ عندَ الحاجةِ خالصاً لوجهه تعالى {ذلكم} إشارةٌ إلى
الحثِّ على الإشهادِ والإقامةِ أو على جميعِ ما في الآيةِ
{يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر}
إذْ هو المنتفعُ بهِ والمقصودُ تذكيرُهُ وقولُهُ تعالَى {وَمَن
يَتَّقِ الله} الخ جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكدةٌ لما سبقَ منْ وجوبِ
مراعاةِ حدودِ الله تعالى بالوعدِ على الاتقاءِ عن تعدِّيها
كَما أن ما تقدمَ من قولِهِ تعالَى وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مؤكدٌ لهُ بالوعيدِ على تعدِّيها
فالمعنَى ومنْ يتقَ الله فطلقَ للسنةِ ولم يُضارَّ المعتدةَ
ولم يُخرجها من مسكنِهَا واحتاطَ في الإشهادِ وغيرِهِ من
الأمورِ {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} مما عَسَى يقعُ في شأنِ
الأزواجِ من الغُمومِ والوقوعِ في المضايقِ ويفرجْ عنه ما
يعتريهِ من الكُروبِ
(8/261)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ
اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسبُ} أي
من وجهٍ لا يخطرُ ببالِهِ ولا يحتسبُهُ ويجوزُ أن يكونَ كلاماً
جيءَ بهِ على نهجِ الاستطرادِ عند ذكرِ قولِهِ تعالى ذَلِكُمْ
يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله إلى آخرِهِ فالمَعْنَى
ومن يتق الله في كلِّ ما يأتي وما يدر يجعلْ لهُ مخرجاً
ومخلصاً من غمومِ الدُّنيا والآخرةِ فيندرجُ فيهِ ما نحنُ فيهِ
اندراجاً أولياً عن النبي عله الصلاة والسلام أنه قرأها فقالَ
مخرجاً من شبهاتِ الدُّنيا ومن غمراتِ الموتِ ومن شدائدِ
(8/261)
5 4
يومِ القيامةِ وقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إِنّى لأعلمُ
أخذَ الناسُ بها لكفتْهُم ومن يتقِ الله فما زال يقرؤها
ويعيدُهَا ورُوِيَ أن عوف بن الأشجعيَّ أسرَ المشركونَ ابنَهُ
سالماً فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال أسرَ ابنِي
وشكَا إليهِ الفاقةَ فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ اتقِ الله
وأكثِرْ قولَ لا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله العليِّ العظيمِ
ففعلَ فبينَا في بيتِهِ إذ قرعَ ابنُهُ البابَ ومعهُ مائةٌ من
الإبلِ غفلَ عنها العدو فاستقها فنزلتْ {وَمَن يَتَوَكَّلْ
عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أيْ كافيهِ في جميعِ أمورِهِ
{إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} بالإضافةِ أي منفذُ أمرِهِ
وقُرِىءَ بتنوينِ بالغُ ونصبِ أمره أى يريدُهُ لا يفوتُهُ
مرادٌ ولا يعجزه مطلوب وقرئ برفعِ أمرِهِ على أنَّه مبتدأٌ
وبالغٌ خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ إنَّ أو بالغٌ خبر إنَّ
وأمرُهُ مرتفعٌ به على الفاعليةِ أي نافذ أمرُهُ وقُرِىءَ
بالغاً أمرَهُ على أنَّه حال وخبرإن قولُهُ تعالَى {قَدْ
جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً} أى تقدير وتوقيتا أو مقدار
وهُو بيانٌ لوجوبِ التوكلِ عليهِ تعالَى وتفويضِ الأمرِ إليهِ
لأنَّه إذا علمَ أنَّ كلَّ شيءٍ من الرزقِ وغيرِه لا يكونُ إلا
بتقديرِه تعالَى لا يبقى إلا التسليمُ للقدرِ والتوكلُ على
الله تعالى
(8/262)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
{واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن
نّسَائِكُمْ} لِكبرهنَّ وقد قدروه بستين سنة ويخمس وخمسينَ
{إِنِ ارتبتم} أي شككتُم وجهِلْتُم كيفَ عدّتُهُن
{فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللائى لَمْ يَحِضْنَ} بعدُ
لصغرِهِنَّ أي فعدَّتهنَّ أيضاً كذلكَ فحذفَ ثقةً بدِلالة ما
قبلَهُ عليهِ {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ} أي مُنْتهى
عدتِّهِنَّ {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سواءً كُنَّ مطلقاتٍ أو
مُتوفيًّ عنهُنَّ أزواجُهُنَّ وقد نُسخَ بهِ عمومُ قولِه
تعالَى والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشهر وعشرا لتراخى
نزلوله عن ذلكَ لما هُو المشهورُ من قولِ ابنِ مسعود رضي الله
عنه من شاءَ باهلتُه أنَّ سورةَ النساءِ القُصْرى نزلتْ بعدَ
التي في سورةِ البقرةِ وقد صحَّ أن سبيعة بنت الحرث الأسلميةَ
ولدتْ بعدَ وفاةِ زوجِهَا بليالٍ فذكرتْ ذلكَ لرسول الله صلى
الله عليه وسلم قال لَهَا قدْ حللتِ فتزوَّجِي {ومن يتق الله}
في شأنِ أحكامِهِ ومراعاةِ حقوقِهَا {يَجْعَل لَّهُ مِنْ
أَمْرِهِ يسرا} أى يسهل عله أمرَهُ ويوفِّقْهُ للخيرِ
(8/262)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ
أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه
من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد
منزلِته في الفضلِ وإفرادُ الكافِ معَ أن الخطابَ للجمعِ كما
يفصح عن قولُه تعالى {أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} لِما
أنها لمجردِ الفَرْق بين الحاضرِ والمنقضي لا لتعين خصوصية
المخاطبين وقدمر في قولِه تعالَى ذلك بوعظ به كَانَ مِنكُمْ
يُؤْمِنُ بالله من سورةِ البقرةِ {وَمَن يَتَّقِ الله}
بالمحافظةِ على أحكامِهِ {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته} فإنَّ
الحسناتِ يُذهبنَ السيئاتِ {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}
بالمضاعفةِ
(8/262)
9 6
وقولُه تعالى
(8/263)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أُخْرَى (6)
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم}
استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحثِّ عَلى
التَّقوى كأنَّه قيلَ كيفَ نعملُ بالتَّقوى في شأنِ المعتداتِ
فقيلَ أسكنوهنَّ مسكناً من حيثُ سكنتُم أي بعضَ مكانٍ سكناكم
وقولُه تعالَى {مّن وُجْدِكُمْ} أي من وُسعِكم أي مما
تطيقونَهُ عطفُ بيانٍ لقولِهِ من حيثُ سكنتُم وتفسيرٌ لهُ
{وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} أيْ في السكنى {لتضيقوا عليهن}
وتلتجئوهن إلى الخروجِ {وَإِن كُنَّ} أي المطلقاتُ {أولات
حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
فيخرُجنَ من العدةِ أما المُتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ فلا
نفقةَ لهُنَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} بعدَ ذلكَ {فآتوهن
أُجُورَهُنَّ} على الإرضاعِ {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ
بِمَعْرُوفٍ} أي تشاورُوا وحقيقتُه ليأمرْ بعضُكم بعضاً بجميلٍ
في الإرضاعِ والأجرِ ولا يكون من الأب مماسكة ولا من الأمِّ
مُعاسرةٌ {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتُم {فَسَتُرْضِعُ
لَهُ أخرى} أي فستوجَدُ ولا تُعوزُ مرضعةٌ أُخرى وفيه معاتبةٌ
للأمِّ على المعاسرةِ
(8/263)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ
مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن
قُدِرَ عَلَيْهِ رزقه فلينفق مما آتاه الله} وإنْ قلَّ أي
لينفقْ كُلُّ واحدٍ من الموسرِ والمعسرِ ما يبلغُه وسعُه {لاَ
يُكَلّفُ الله نَفْسًا إلا ما آتاها} جَلَّ أو قَلَّ فإنَّه
تعالَى لا يكلفُ نفساً إلا وُسعَها وفيهِ تطييبٌ لقلبِ
المُعسرِ وترغيبٌ لهُ في بذل مجهود وقد أُكِّدَ ذلكَ بالوعدِ
حيثُ قيلَ {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي عاجلاً
أو آجلاً
(8/263)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا
نُكْرًا (8)
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أي كثيرٌ من أهلِ
قريةٍ {عَتَتْ} أي أعرضتْ {عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ}
بالعُتوِّ والتمردِ والعنادِ {فحاسبناها حِسَاباً شديدا}
بالاستقصاء والتنقير والمناقشةِ في كلِّ نقيرٍ وقِطْميرٍ
{وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي مُنكراً عظيماً وقُرِىءَ
نكراً والمرادُ حسابُ الآخرةِ وعذابُها والتعبيرُ عنهما بلفظِ
الماضى للدلالة على تحقيقها كما في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب
الجنة
(8/263)
فَذَاقَتْ وَبَالَ
أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ
عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} هائلاً لا خُسَر وراءَهُ
(8/263)
} 1 10
(8/264)
أَعَدَّ اللَّهُ
لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}
تكريرٌ للوعيدِ وبيانٌ لكونه متقبا كأنَّه قيلَ أعدَّ الله لهم
هَذا العذابَ {فاتقوا الله يا أولي الألباب} ويجوزُ أن يرادَ
بالحسابِ استقصاءُ ذنوبهِم وإثباتُها في صحائفِ الحفظةِ
وبالعذابِ ما أصابَهُم عاجلاً وقد جُوِّزَ أن يكونَ عتتْ وما
عُطفَ عليهِ صفةً عليهِ صفةً للقريةِ وأعدَّ الله لهم جواباً
لقولِه تعالَى كأى {الذين آمنوا} منصوبٌ بإضمارِ أعنِي بياناً
للمُنادَى أو عطفُ بيانٍ لهُ أو نعتٌ وفي إبدالهِ منهُ ضعفٌ
لتعذرِ حلولِهِ محلَّه {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً}
هُو جبريلُ عليهِ السَّلامُ سمِّيَ بهِ لكثرةِ ذكرِهِ أو
لنزولِه بالذِكر الذي هُو القرآنُ كما ينبىءُ عنْهُ إبدالُ
قولِه تعالَى
(8/264)
رَسُولًا يَتْلُو
عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا
(11)
{رَسُولاً} منْهُ أو لأنَّه مذكورٌ في
السمواتِ وفي الأممِ أو أُريدَ بالذكرِ الشرفُ كما في قولِه
تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ كأنَّه في نفسِه
شرفٌ إما لأنه شرفٌ للمنزلِ عليهِ وإما لأنَّه ذو مجدٌ وشرفٌ
عند الله تعالَى كقولِه تعالَى عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ أو هُو
النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ وعليهِ الأكثرُ عبرَ عنهُ
بالذكرِ لمواظبتِهِ على تلاوةِ القرآنِ أو تبليغِهِ والتذكيرِ
بهِ وعبرَ عن إرسالِهِ بالإنزالِ بطريقِ الترشيحِ أو لأنه
مسببٌ عن إنزالِ الوَحيِ إليهِ وأُبدلَ منهُ رسولاً للبيانِ أو
هو القرآنُ ورسولاً منصوبٌ بمقدرٍ مثلُ أرسلَ أوْ بذكرَا على
إعمالِ المصدرِ المنونِ أو بدلٌ منْهُ على أنَّه بمعنى
الرسالةِ وقولُه تعالى {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيات الله مبينات}
نعتٌ لرسولاً وآيات الله القرآن وبينات حالٌ منها أي حالَ
كونِهَا مبيناتٍ لكُم ما تحتاجونَ إليهِ من الأحكامِ وقُرِىءَ
مبيَّناتٍ أي بينَها الله تعالَى لقولِه تعالَى قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ الأيات واللام في قوله تعالى {ليخرج الذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} متعلقة بيتلوا أو بأنزلَ وفاعلُ
يخرجَ على الأولِ ضميرُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام أو ضميرُ
الجلالةِ والموصولِ عبارةٌ عنِ المؤمنينَ بعد إنزالهِ أي
ليحصلَ لهم الرسولُ أو الله عزَّ وعلاَ ما هُم عليهِ الآنَ من
الإيمان والعملِ الصالحِ أو ليخرجَ من علِمَ أو قدَّرَ أنَّه
سيؤمنُ {مّنَ الظلمات إِلَى النور} من الضلالةِ إلى الهُدَى
{وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} حسبما بُيِّن في
تضاعيفِ ما أُنزلَ من الآياتِ المبيناتِ {يُدْخِلْهُ جنات
تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقُرِىءَ نُدْخِلْهُ بالنون
وقولُه تعالَى {خالدين فِيهَا أَبَداً} حالٌ من مفعولِ
يُدخلْهُ والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائرِ
الثلاثةِ باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى {قَدْ أَحْسَنَ الله
لَهُ رِزْقاً} حالٌ أُخرى منْهُ أو من الضميرِ في خالدينَ
بطريقِ التداخلِ وإفرادُ ضميرِ لهُ قد مرَّ وجهُه وفيهِ
مَعْنَى التعجبِ والتعظيمِ لما رزقَهُ الله المؤمنينَ من
الثوابِ
(8/264)
} {
(8/265)
اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات} مبتدأٌ
وخبرٌ {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي خلقَ من الأرضِ مثلَهُنَّ
في العددِ وقُرِىءَ مثلهُن بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ ومِنَ
الأرضِ خبرُهُ واختلفَ في كيفيةِ طبقات الأرض قالوا الجمهور
على أنها سبع أراضين طباقاً بعضُها فوقَ بعضٍ بين كلِّ أرضٍ
وأرضٍ مسافةٌ كما بينَ السماءِ والأرضِ وفي كلِّ أرضٍ سكانٌ من
خلقِ الله تعالَى وقالَ الضحاكُ مطبقةٌ بعضها فوق من غيرِ
فتوقٍ بخلافِ السمواتِ قال القرطبيُّ والأولُ أصحُّ لأنَّ
الأخبارَ دالةٌ عليهِ كما رَوَى البخاريُّ وغيرُه مِنْ أنَّ
كعباً حلفَ بالذي فلقَ البحرَ لمُوسى أنَّ صُهيباً حَدَّثهُ أن
النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم يرَ قريةً يريدُ دخولَها إلا
قالَ حينَ يراهَا اللَّهم ربِّ السمواتِ السبعِ وما أظللنَ
وربَّ الأرضينَ السبعِ وما أقللنَ ورب الشيطاطين وما أضللنَ
وربَّ الرياحِ وما أذرينَ نسألُكَ خيرَ هذه القريةِ وخيرَ
أهلِهَا ونعوذ بكَ من شرِّها وشرِّ أهلها وشرِّ مَنْ فيهَا وعن
ابن عباس رضي الله عنهُما أنَّ نافعَ بنَ الأزرق سأله عن تحتَ
الأرضينَ خلقٌ قالَ نعمْ قالَ فما الخلقُ قال إما ملائكةٌ أو
جنٌّ قال الماورديُّ وعَلى هَذا تختصُّ دعوةُ الإسلامِ بأهلِ
الأرضِ العُليا دونَ مَنْ عداهُم وإنْ كانَ فيهنَّ منْ يعقلُ
منْ خلقٍ وفي مشاهدتِهِم السماءَ واستمدادِهِم الضوءَ منهَا
قولانِ أحدُهما أنهم يشاهدونَ السماءَ مِن كُلّ جَانِبٍ من
أرضِهِم ويستمدونَ الضياءَ منهَا والثاني أنهم لا يشاهدونَ
السماءِ وأنَّ الله تعالَى خلقَ لهم ضياءً يشاهدُونَهُ وحَكَى
الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما أنها
سبعُ أرضينَ متفرقةٌ بالبحارِ وتُظِلُّ الجميعَ السماءُ
{يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} أي يَجْرِي أمرُه وقضاؤُه
بينهنَّ وينفذُ ملكُهُ فيهنَّ وعن قَتَادَةَ في كلِّ سماءٍ وفي
كلِّ أرضٍ خلقٌ من خلقِه وأمرٌ من أمرِه وقضاءٌ من قضائِه
وقيلَ هو مَا يُدبرُ فيهنَّ من عجائبِ تدبيرِه وقُرِىءَ ينزلُ
الأمرُ {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ}
متعلقٌ بخلقَ أو بيتنزلُ أو بمضمرٍ يعمُّهمَا أيْ فعلَ ذلكَ
لتعلَمُوا أن من قدر على ما ذُكرَ قادرٌ على كلِّ شيءٍ
{وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شيءٍ عِلْمَا} لاستحالةِ
صدورِ الأفاعيلِ المذكورةِ ممن ليسَ كذلكَ ويجوزُ أن يكونَ
العاملُ في اللامِ بيانَ ما ذُكر من الخلقِ وتنزّلِ الأمرِ أيْ
أَوْحى ذلكَ وبيَّنهُ لتعلمُوا بما ذكرَ من الأمورِ التي
تشاهدونَها والتي تتلقَّونها من الوحي من عجائبِ المصنوعاتِ
أنه لا يخرجُ عن قدرتِهِ وعلمِهِ شيءٌ ما أصلاً وقُرِىءَ
ليعلمُوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ قرأَ سورةَ
الطلاقِ ماتَ على سنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
(8/265)
|