تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

} 07 سورة النصر مدنية وآيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/208)


إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)

{إِذَا جَاء نَصْرُ الله} أيْ إعانتُهُ تعالَى وإظهارُهُ إياكَ على عدوكَ {والفتح} أيْ فتحُ مكةَ وقيلَ جنسُ نصرِ الله تعالَى ومطلقُ الفتحِ فإنَّ فتحَ مكةَ لمَّا كانَ مِفْتاحَ الفتوحِ ومناطَهَا كمَا أنَّ نفسَها أمُّ القُرَى وإمامُها جُعلَ مجيئُهُ بمنزلةِ مجيءِ سائرِ الفتوحِ وعلقَ بهِ أمرَهُ عليهِ السلامُ بالتسبيحِ والحمدِ والتعبيرُ عنْ حصولِ النصرِ والفتحِ بالمجيءِ للإيذانِ بأنهُمَا متوجهانِ نحوَهُ عليهِ السلامُ وأنهُمَا على جناحِ الوصولِ إليهِ عليهِ السلامُ عن قريبٍ رُوي أنها نزلتْ قبلَ الفتحِ وعليهِ الأكثرُ وقيلَ في أيامِ التشريقِ بمِنًى في حجةِ الوداع فلكمة إذَا حينئذٍ باعتبارِ أنَّ بعضَ مَا في حيزِهَا أَعْنِي رؤيةَ دخولِ الناسِ الخ غيرُ منقضٍ بعدُ وكانَ فتحُ مكةَ لعشرٍ مضينَ من شهرِ رمضانَ سنةَ ثمانٍ ومعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرةُ آلافٍ منَ المهاجرينَ والأنصارِ وطوائفِ العربِ وأقامَ بهَا خمس عشرَةَ ليلةً وحينَ دخلَها وقفَ على بابِ الكعبةِ ثمَّ قالَ لا إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شريكَ لَهُ صدقَ وعدَهُ ونصرَ عبدَهُ وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ ثمَّ قالَ يا أهلَ مكةَ ما ترونَ أني فاعلٌ بكُم قالُوا خيراً أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ قالَ اذهبُوا فأنتُمْ الطلقاءُ فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدْ كانَ الله تعالَى أمكنَهُ من رقابِهم عنوةً وكانُوا له فياءً ولذلكَ سميَ أهلُ مكةَ الطلقاءَ ثمَّ بايعُوه على الإسلام ثمَّ خرجَ إلى هوازنَ

(9/208)


وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)

{وَرَأَيْتَ الناس} أيْ أبصرتهُمْ أو علمتهُمْ {يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله} أيْ ملةَ الإسلامِ التي لا دينَ يضافُ إليهِ تعالَى غيرُهَا والجملةُ على الأولِ حالٌ من الناسِ وعلى الثاني مفعولٌ ثانٍ لرأيتَ وقولُه تعالَى {أَفْوَاجاً} حالٌ من فاعلِ يدخلونَ أيْ يدخلونَ فيهِ جماعاتٍ كثيفةً كأهلِ مكةَ والطائفِ واليمنِ وهوازنَ وسائرِ قبائلِ العربِ وكانُوا قبلَ ذلكَ يدخلونَ فيهِ واحِداً واحِداً واثنينِ اثنينِ روي أنه عليه السلام لما فتحَ مكةَ أقبلتِ العربُ بعضُها على بعضٍ فقالوا إذَا ظفِرَ بأهلِ الحرمِ فلنْ يقاومَهُ أحدٌ وقدْ كانَ الله تعالَى أجارَهُم من أصحابِ الفيلِ ومن كُلِّ من أرادهُم فكانُوا يدخلونَ في دينِ الإسلامِ أفواجاً من غيرِ قتالٍ وقرىءَ فتحُ الله والنصر

(9/208)


} 07 سورة النصر آية (3) وقرىء يدخلون على لبناء للمفعول
الآية 3

(9/209)


فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)

{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فقُلْ سبحانَ الله حامداً لهُ أو فتعجبَ لتيسيرِ الله تعالَى ما لَمْ يخطُرْ ببالِ أحدٍ من أنْ يغلبَ أحدٌ على أهْلِ حرمِهِ المحترمِ واحمدْهُ على جميلِ صُنعِه هذا على الروايةِ الأُولى ظاهرٌ وأمَّا على الثانيةِ فلعلَّهُ عليهِ السلامُ أُمر بأنْ يداومَ على ذلكَ استعظاماً لنعمِه لاِ بإحداثِ التعجبِ لما ذُكرَ فإنَّهُ إنما يناسبُ حالةَ الفتحِ أو فاذكُرْهُ مسبحاً حامداً زيادةً في عبادتِهِ والثناءِ عليهِ لزيادةِ إنعامِه عليكَ أو فصلِّ لهُ حامداً على نعمِه رُويَ أنَّه لما فتحَ بابَ الكعبةِ صلَّى صلاة الضحى ثمانِ ركعاتٍ أو فنزههُ عما يقولُه الظلمةُ حامداً لهُ على أنْ صدقَ وعدَهُ أو فاثنِ على الله تعالَى بصفاتِ الجلالِ حَامِداً له على صفاتِ الإكرامِ {واستغفره} هَضْماً لنفسكَ واستقصاراً لعملكَ واستعظاماً لحقوقِ الله تعالَى واستدراكاً لما فرَطَ منكَ من تركِ الأولَى عن عائشةَ رضيَ الله عنهَا أنه كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يكثرُ قبلَ موتِه أنْ يقولَ سُبْحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ استغفركَ وأتوبُ إليكَ وعنهُ عليهِ السلامُ إنِّي لأستغفرُ في اليومِ والليلةِ مائةَ مرةٍ ورُويَ أنَّه لمَّا قرأها النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أصحابِه استبشرُوا وبكَى العباسُ فقالَ عليهِ السلامُ ما يبكيكَ يا عمُّ فقالَ نعيتْ إليكَ نفسُكَ قالَ عليهِ السلامُ إنَّها لكمَا تقولُ فلَمْ يُرَ عليهِ السلامُ بعدَ ذلكَ ضاحكاً مستبشراً وقيلَ إنَّ ابنَ عباسٍ هُو الذي قالَ ذلكَ فقالَ عليهِ السَّلامُ لقدْ أُوتي هذا الغلام علما كثيرا ولعل ذلكَ للدلالةِ على تمامِ أمرِ الدعوةِ وتكاملِ أمرِ الدينِ كقولِه تعالَى {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ورُوي أنَّها لمَّا نزلتْ خطبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ إنَّ عبداً خيرهُ الله تعالَى بينَ الدُّنيا وبينَ لقائِه فاختارَ لقاءَ الله تعَالَى فعلَم أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فقالَ فديناكَ بأنفسِنا وآبائِنا وأولادِنا وعنْهُ عليهِ السلامُ أنهُ دعَا فاطمةَ رضيَ الله عنْهَا فقالَ يا بنتاهُ إنَّه نعيتْ إليَّ نفسِي فبكتْ فقالَ لا تبكِي فإنكِ أولُ أَهْلي لحوقاً بِي وعنِ ابنِ مسعود رضي الله عنه أنَّ هذه السورةَ تُسمَّى سورةَ التوديعِ وقيلَ هو أمرٌ بالاستغفارِ لأمتِه {إِنَّهُ كان توابا} منذُ خلقَ المكلفينَ أيْ مبالغاً في قَبول توبتِهم فليكُنْ كُلُّ تائبٍ مستغفرٍ متوقعاً للقبولِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ النصرِ أعطي من الأجر كمن شهدَ معَ محمدٍ يومَ فتح مكة

(9/209)


} 11 سورة المسد مكية وآيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/210)


تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)

{تُبْتُ} أيْ هلكَتْ {يَدَا أَبِى لَهَبٍ} هُو عبدُ العُزَّى بنُ عبدِ المطلبِ وإيثارُ التبابِ على الهلاكِ وإسنادُه إلى يديهِ لما روى لما نزلَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين رَقَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّفَا وجمعَ أقاربَهُ فأنذرهُم فقالَ أبُو لهبٍ تباً لكَ ألِهذَا دعوتَنَا وأخذَ حجراً ليرميهِ عليهِ السلامُ بهِ {وَتَبَّ} أيْ وهلكَ كُلُّه وقيلَ المرادُ بالأولِ هلاكُ جملتِه كقولِه تعالَى {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} ومَعْنى وتَبَّ وكانَ ذلكَ وحصلَ كقولِ من قالَ جَزَانِي جَزَاهُ الله شَرَّ جزائِه جزاءَ الكلابِ العاوياتِ وَقَدْ فَعَلْ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ وقَدْ تَبَّ وقيلَ الأولُ إخبارٌ عن هلاكِ عملِه لأنَّ الأعمالَ تزاولُ غالباً بالأيدِي والثاني إخبار عن هلاك نفسه وقيل كلاهما دعاء عليه بالهلاك وقيل الأول دعاء والثاني إخبار وذِكرُ كنيتِه للتعريضِ بكونِه جُهنمياً ولاشتهارِه بهَا ولكراهةِ ذكرِ اسمِه القبيحِ وقُرِىءَ أَبُو لهبٍ كما قيلَ عليُّ بنُ أبُو طالبٍ وقرىءَ أبي لَهْبٍ بسكون الهاء

(9/210)


مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)

{مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أيْ لَمْ يُغنِ عنْهُ حينَ حَلَّ بهِ التبابُ على أنَّ ما نافيةٌ أو أيَّ شيءٍ أغنَى عنْهُ على أنَّها استفهاميةٌ في مَعْنى الإنكارِ منصوبةٌ بمَا بعدَها أصلُ مالِه وما كسبَهُ مِنَ الأرباحِ والنتائجِ والمنافعِ والوجاهةِ والأتباعِ أو مالُه الموروثُ من أبيهِ والذي كسبَهُ بنفسِه أو عملُه الخبيثُ الذي هُو كيدُه في عداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو عملُه الذي ظَنَّ أنَّه منْهُ على شيءٍ كقولِه تعَالَى {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وعَنِ ابن عباس رضي الله عنهُمَا ما كسبَ ولدُهُ ورُويَ أنه كانَ يقولُ إنْ كانَ ما يقولُ ابنُ أخِي حقاً فأنَا أفتدِي منْهُ نفسِي بمالِي وولدِي فأستخلصُ منهُ وقد خابَ مرجاهُ وما حصلَ ما تمناهُ فافترسَ ولدَهُ عتبةَ أسدٌ في طريقِ الشامِ بينَ العيرِ المكتنفةِ بهِ وقدْ كانَ عليهِ السلامُ دعَا عليهِ وقالَ اللهمَّ سلِّطْ عليهِ كلباً من كلابكَ وهلك نفسه بالعدسةِ بعدَ وقعةِ بدرٍ لسبعِ ليالٍ فاجتنبَهُ أهلُهُ مخافةَ العدوَى وكانتْ قريشٌ تتقيهَا كالطاعونِ فبقَي ثلاثاً حتى أنتنَ ثم استأجرُوا بعضَ السودانِ فاحتملُوه ودفنُوه فكان

(9/210)


} 11 سورة المد آية (3 5)
الأمرُ كما أخبرَ بهِ القرآن
الآيات 3 5

(9/211)


سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)

{سيصلى} بفتحِ الياءِ وقُرِىءَ بضمِّها وفتحِ اللامِ بالتخفيفِ والتشديدِ والسينُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِه أيْ سيدخلُ لا محالةَ بعدَ هذا العذابِ العاجلِ في الآخرةِ {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أيْ ناراً عظيمةً ذاتَ اشتعالٍ وتوقدٍ وهيَ نارُ جهنمَ وليسَ هذا نصاً في أنَّه لا يؤمنُ أبداً حَتَّى يلزم من تكليفه الإيمان بالقرآن أن يكون مكلفاً بأنُ يؤمنَ بأنَّهُ لاَ يؤمنُ أبداً فيكونَ مأموراً بالجمعِ بينَ النقيضينِ كما هُوَ المشهورُ فإنَّ صِلي النارِ غيرُ مختصَ بالكفارِ فيجوزُ أنْ يفهمَ أبْو لهبٍ من هذا أنَّ دخولَهُ النارَ لفسقِه ومعاصيهِ لا لكفرِهِ فلا اضطرارَ إلى الجوابِ المشهورِ من أنَّ ما كلفَهُ هُوَ الإيمانُ بجميعِ ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم إجمالاً لا الإيمانَ بتفاصيلِ ما نطقَ بهِ القرآنُ حتَّى يلزمَ أنْ يكلفَ الإيمانَ بعدمِ إيمانِه المستمرِ

(9/211)


وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

{وامرأته} عطفٌ على المستكنِّ في سيصلَى لمكانِ الفصلِ بالمفعولِ وهيَ أمُّ جميلٍ بنت حرب أخب أبي سفيانَ وكانتْ تحملُ حزمةً من الشوكِ والحَسَكِ والسعدانِ فتنثرَها بالليلِ في طريق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يطؤُه كمَا يطأُ الحريرَ وقيلَ كانتْ تمشِي بالنميمةِ ويقالُ لمنْ يمشِي بالنمائمِ ويفسدُ بينَ الناسِ يحملُ الحطبَ بينهُمْ أيْ يوقدُ بينهُم النارَ {حَمَّالَةَ الحطب} بالنصبِ على الشتمِ والذمِّ وقيلَ على الحاليةِ بناءً على أنَّ الإضافةَ غيرُ حقيقيةٍ إذِ المرادُ أنَّها تحملُ يومَ القيامةِ حزمةً من حطبِ جهنمَ كالزقومِ والضريعِ وعن قتادةَ أنَّها معَ كثرةِ مالِها كانتْ تحملُ الحطبَ على ظهرِهَا لشدةِ بُخْلها فعيرتْ بالبخلِ فالنصبُ حينئذٍ على الشتمِ حتما وقرئ بالرفع على أنه خبرُ وأمرأته مبتدأ وقرئ حمالةٌ للحطبِ بالتنوينِ نصباً ورفعا وقرئ مُريَّتُهُ بالتصغيرِ للتحقيرِ

(9/211)


فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

{فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخرٍ والجملةُ حاليةٌ وقيلَ الظرفُ خبرٌ لامرأتِه وحبلٌ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ وقيلَ هُو حالٌ من امرأتِه على تقديرِ عطفِها على ضميرِ سيصلَى وحبلٌ فاعلٌ كما ذُكرَ والمسدُ ما يُفتلُ من الحبالِ فتلاً شديداً من ليفِ المقلِ وقيلَ من أيِّ ليفٍ كانَ وقيلَ من لُحاءِ شجرٍ باليمنِ وقَدْ يكونُ من جلودِ الإبلِ وأوبارِها والمَعْنى في عنقِها حبلٌ ممَّا مسد من الحبل وأنها تحملُ تلكَ الحزمةَ من الشوكِ وتربطُها في جيدِها كما يفعلُ الحطابونَ تخسيساً بحالِها وتصويراً لهَا بصورةِ بعضِ الحطاباتِ من المواهنِ لتمتعضَ من ذلكَ ويتمعضَ بعلُها وهُما في بيتِ العزِّ والشرفِ قالَ مُرةُ الهَمْدانيُّ كانتْ أمُّ جميلٍ تأتِي كُلَّ يومٍ بإبالةٍ من حَسَكٍ فتطرحُها على طريقِ المسلمينَ فبينَا هي ذاتَ ليلةٍ حاملةٌ حزمةً أعيتْ فقعدتْ على حجرٍ لتستريحَ فجذبَها الملكُ من خلفِها فاختنقتْ بحبلِها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة المسد ثبت رجوتُ أنْ لا يجمعَ الله بينَهُ وبينَ أبي لهبٍ في دارٍ واحدةٍ

(9/211)


} 12 سورة الإخلاص مكية مختلف فيها وآيها أربع
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/212)


قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)

{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} الضميرُ للشأنِ ومدارُ وضعِهِ موضعه معَ عدمِ سبْق ذكرِه الإيذانُ بأنَّه منَ الشهرةِ والنباهةِ بحيثُ يستحضرُهُ كلُّ أحدٍ وإليهِ يشيرُ كُلُّ مشيرٍ وإليهِ يعودُ كلُّ ضميرٍ كما ينبىءُ عَنْهُ اسمُهُ الذي أصلُهُ القصدُ أطلق على المفعول مبالغة ومحله الرفع على الابتداء خبرُهُ الجملةُ بعدَهُ ولا حاجةَ إلى الربطِ لأَنَّها عينُ الشأنِ الذي عبرَ عَنْهُ بالضميرِ والسرُّ في تصديرِ الجملةِ بهِ التنبيهُ منْ أولِ الأمرِ عَلى فخامةِ مضمونِهَا وجلالةِ حيزِهَا مع ما فيه من زيادةِ تحقيقٍ وتقريرٍ فإنَّ الضميرَ لا يفهم منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ جليلٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما أمامَهُ مما يفسرُهُ ويزيلُ إبهامَهُ فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكنٍ وهمزةُ أحدٍ مُبدلةٌ منْ الواوِ وأصلُهُ وَحَدٌ لاَ كهمزةِ ما يلازمُ النفيَ ويرادُ بهِ العمومَ كمَا في قوله تعالى {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} ومَا في قولِهِ عليهِ السلامُ ما أُحِلَّتِ الغنائمُ لأحدٍ سودِ الرؤوسِ غيركم فإن أصليةٌ وقالَ مكيٌّ أصلُ أحدٍ واحدٌ فأبدلتْ الواوُ همزةً فاجتمعَ ألفانِ لأنَّ الهمزةَ تشبهُ الألفَ فحذفتْ إحداهُمَا تخفيفاً وقالَ ثعلبٌ إن أحد إلا يُبنى عليهِ العددُ ابتداءً فلا يقالُ أحدٌ واثنانِ كَما يقالُ واحدٌ واثنانِ ولا يقالُ رجلٌ أحدٌ كما يقالُ رجلٌ واحدٌ ولذلكَ اختصَّ بهِ تعالَى أو هو كما سئِلَ عَنْهُ أيِ الذي سألتُم عنْهُ هُو الله إذ رُوِيَ أنَّ قريشاً قالُوا صِفْ لَنَا ربكَ الذي تدعونَا إليهِ وانسُبْهُ فنزلتْ فالضميرُ مبتدأٌ والله خبرُهُ وأحدٌ بدلٌ منْهُ أو خبرٌ ثانٍ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقُرِىءَ هُوَ الله أحدٌ بغيرِ قُلْ وقرئ الله أحدٌ بغيرِ قُلْ هو وقرئ قُلْ هُوَ الواحدُ وقولُهُ تعالَى

(9/212)


اللَّهُ الصَّمَدُ (2)

{الله الصمد} مبتدأٌ وخبر والصمدُ فَعَلٌ بمَعْنَى مفعولٍ من صمد إليهِ إذَا قَصَدَهُ أيْ هُوَ السيدُ المصمودُ إليهِ في الحوائجِ المُسْتغنى بذاتِهِ وَكُلَّ ما عداهُ محتاجٌ إليهِ في جميعِ جهاتِهِ وقيلَ الصمدُ الدائمُ الباقِي الذي لَمْ يزلْ وَلاَ يزالُ وقيلَ الذي يفعلُ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ وتعريفُهُ لعلمِهِم بصمديتِهِ بخلافِ أحديَتِهِ وتكريرُ الإسمِ الجليلِ للإشعارِ بأنَّ منْ لم يتصفْ بذلكَ فهوَ بمعزلٍ منَ استحقاقِ الألوهيةِ وتعريةُ الجملةِ عنِ العاطفِ لأنَّها كالنتيجةِ للأولى بيَّنَ أولا ألوهيته عن

(9/212)


} 12 سورة الإخلاص آية (3 4) وجلَّ المستتبعةَ لكافةِ نعوتِ الكمالِ ثمَّ أحديتَهُ الموجبةَ تنزهَّهُ عنْ شائبةِ التعددِ والتركيبِ بوجهٍ منَ الوجوهِ وتوهمِ المشاركةِ في الحقيقةِ وخواصِّهَا ثُمَّ صمديتَهُ المقتضيةَ لاستغنائِهِ الذاتِيِّ عَمَّا سواهُ وافتقارِ جميعِ المخلوقاتِ إليهِ في وجودِهَا وبقائِهَا وسائرِ أحوالِهَا تحقيقاً للحقِّ وإرشاداً لهم إلى سننه الواضحِ ثُمَّ صرحَ ببعضِ أحكامٍ جزئيةٍ مندرجةٍ تحتَ الأحكامِ السابقةِ فقيلَ

(9/213)


لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)

{لَمْ يَلِدْ} تنصيصاً على إبطالِ زعمِ المفترينَ في حقِّ الملائكةِ والمسيحِ ولذلكَ وردَ النفيُ على صيغةِ الماضِي أيْ لَمْ يصدُرْ عنْهُ ولدٌ لأنَّهُ لا يجانسُهُ شيءٌ ليمكنَ أنْ يكونَ لهُ من جنسِهِ صاحبة فيتوالدا كما نطق به قوله تعالى {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} ولا يفتقرُ إلى ما يعينُهُ أو يخلفُهُ لاستحالةِ الحاجةِ والفناءِ عليهِ سبحانَهُ {وَلَمْ يُولَدْ} أيْ لمْ يصدر عن شيءٌ لاستحالةِ نسبةِ العدمِ إليه سابقاً ولاحقاً والتصريحُ بهِ مع كونهم معترفين بمضمونِهِ لتقريرِ ما قبلَهُ وتحقيقه بالإشارةِ إلى أنَّهما متلازمانِ إذِ المعهودُ أنَّ ما يلد يولد ومالا فَلاَ ومنْ قضيةِ الاعترافِ بأنه لم يولد الاعترافِ بأنَّهُ لا يلدُ فهو قريبٌ منْ عطفِ لا يستقدمون على ما يستأخرونَ كمَا مرَّ تحقيقُهُ

(9/213)


وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)

{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أيْ لم يكافئهُ أحدٌ ولَمْ يماثلهُ ولَمْ يشاكلهُ من صاحبةٍ وَغيرِهَا وله صلة لكفؤا قدمتْ عليهِ معَ أنَّ حَقَّهَا التأخرُ عَنْهُ للاهتمامِ بِهَا لأنَّ المقصودَ نفيُ المكافأةِ عنْ ذاتِهِ تعالَى وقد جُوِّزَ أنْ يكون خبراً لا صلةَ ويكونَ كُفؤاً حالاً من أحدٍ وليسَ بذاكَ وأما تأخيرُ اسمِ كانَ فلمراعاةِ الفواصلِ ووجهُ الوصلِ بينَ هذهِ الجملِ غنيٌّ عن البيانِ وقرئ بضمِّ الكافِ والفاءِ معَ تسهيلِ الهمزةِ وبضمِّ الكافِ وَكسرِهَا معَ سُكُونِ الفاءِ هَذا ولانطواءِ السورةِ الكريمةِ معَ تقاربِ قُطْريها عَلى أشتاتِ المعارفِ الإلهيةِ والردِّ عَلى منْ ألحَدَ فيهَا وردَ في الحديثِ النبويِّ أنها تدل ثلثَ القرآنِ فإنَّ مقاصدَهُ منحصرةٌ في بيانِ العقائدِ والأحكامِ والقصصِ ومَنْ عَدَلَها بكله اعتبرَ المقصودَ بالذاتِ منْهُ روى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال أسست السمزات السبعُ والأرضونَ السبعُ عَلى قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ أي ما خالقت إلا لتكونَ دلائلَ عَلَى توحيدِ الله تعالَى ومعرفةِ صفاتِهِ التي نطقتْ بها هذِه السورةُ وعنهُ عليهِ السَّلامُ أنه سمعَ رجلاً يقرأُ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فقالَ وجبتْ فقيلَ وما وجبتْ يا رسولَ الله قالَ وجبتْ لَهُ الجنةُ

(9/213)


} 13 سورة الفلق مكية مختلف فيها وآيها خمس بسم الله الرحمن الرحيم

(9/214)


قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} الفَلَقُ الصُّبْحُ كالفرقِ لأنَّه يفلق عنه الليل ويفرق فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ فإنَّ كلَّ واحدٍ منَ المفلوقِ والمفلوقِ عنْهُ مفعولٌ وقيلَ هُوَ ما انفلقَ منْ عمودِهِ وقيلَ هُو كُلَّ ما يفلُقُهُ الله تعالَى كالأض عنِ النباتِ والجبالِ عنِ العيونِ والسحابِ عنِ الأمطارِ والحبِّ والنَّوى عما يخرجُ منهُمَا وغيرُ ذلكَ وفِي تعليقِ العياذِ باسمِ الرَّبِّ المضافِ إلى الفلقِ المنبىءِ عنِ النورِ عَقيبَ الظلمةِ والسَّعةِ بعدَ الضيقِ والفتقِ بعدَ الرتقِ عدةٌ كريمةٌ بإعادة العائذِ مِمَّا يعوذُ منْهُ وإنجائِهِ منْهُ وتقويةٌ لرجائِهِ بتذكيرِ بعضِ نظائِرِهِ ومزيدُ ترغيبٍ لَهُ في الجدِّ والاعتناءِ بقرعِ بابِ الالتجاءِ إليهِ تعالَى وأمَّا الإشعارُ بأنَّ منْ قدرَ أنْ يزيلَ ظلمةَ الليلِ منْ هذَا العالمِ قدرَ أنْ يزيلَ عنِ العائذِ ما يخافُهُ كما قيلَ فَلاَ إذ لا ريب العائذ في قدرتِهِ تَعَالَى عَلى ذلكَ حتى يحتاجَ إلى التنبيهِ عليهَا

(9/214)


مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)

{مِن شَرّ مَا خَلَقَ} أَيْ مِنْ شَرِّ ما خلقه من الثقلين وغيرِهم كائناً ما كانَ منْ ذواتِ الطبائعِ والاختيارِ وهَذَا كَمَا تَرَى شَاملٌ لجميعِ الشرورِ فمَنْ توهَم أنَّ الاستعاذة هاهنا من المضارِّ البدنيةِ وأنَّها تعم الإنسان وغيره بما بصددِ الاستعاذةِ ثُمَّ جعلَ عُمومَهَا مَداراً لإضافةِ الربِّ إلى الفلقِ فقدْ نَأَى عنِ الحَقِّ بمراحلَ وإضافةُ الشرِّ إليهِ لاختصاصِهِ بعالمِ الخلقِ المؤسسِ على امتزاجِ الموادِّ المتباينةِ وتفاعلِ كيفياتِهَا المتضادةِ المستتبعةِ للكونِ والفسادِ وأما عالمُ الأمرِ فهُوَ خيرٌ محضٌ منزهٌ عنْ شوائبِ الشرِّ بالمرةِ

(9/214)


وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)

وقولُهُ تعالَى {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ} تخصيصٌ لبعضِ الشرورِ بالذكرِ معَ اندراجِهِ فيما قبلَهُ لزيادةِ مساسِ الحاجةِ إلى الاستعاذةِ منْهُ لكثرةِ وقوعِهِ ولأنَّ تعيينَ المستعاذِ منْهُ أدلّ على الاعتناءِ بالاستعاذةِ وأدعَى إلى الإعاذةِ أيْ وَمِنْ شرِّ ليلٍ مُعتكرٍ ظَلامُهُ مِنْ قوله تعالى {إلى غسق الليل} وأصل الغسق سيلانُ دمعِهَا وإضافةُ الشرِّ إلى اللليل لملابستِهِ لَهُ بحدوثِهِ فيهِ وتفكيره لعدمِ شمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِ ولا لكُلِّ أجزائِهِ وتقييدُهُ بقولِهِ تعالَى {إِذَا وقب}

(9/214)


} 13 سورة الفلق آية (4 5) أيْ دخلَ ظلامُهُ في كُلِّ شيءٍ لأَنَّ حدوثَهُ فيهِ أكثرُ والتحرزَ منْهُ أصعبُ وأعسرُ ولذلكَ قيلَ الليلُ أَخْفَى للويلِ وقيلَ الغاسقُ هُوَ القمرُ إذَا امتلأَ ووقوبُهُ دخولُهُ في الخسوفِ واسودادُهُ لمَا رُوِيَ عن عائشةَ رضيَ الله عنْهَا أنَّها قالتْ أخذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشارَ إلى القمرِ فقالَ تعوذِي بالله تَعَالَى من شر هذا الغاسقُ إذَا وقبَ وقيلَ التعبيرُ عنِ القمرِ بالغاسقِ لأنَّ جُرْمَهُ مظلمٌ وإنما يستنيرُ بضوءِ الشمسِ ووقوبُهُ المحاقُ في آخرِ الشهرِ والمنجمونَ يعدونَهُ نحساً ولذلكَ لا يشتغلُ السحرةُ بالسحرِ المورث للتمريضِ إلاَّ في ذلكَ الوقتِ قيلَ وهُو المناسبُ لسببِ النزولِ وقيلَ الغاسقُ الثُّريا ووقوبُهَا سقوطُها لأنَّها إذَا سقطتْ كثرتِ الأمراضُ والطواعينُ وقيلَ هُو كلُّ شرَ يعترِي الإنسانَ ووقوبُهُ هجومُهُ

(9/215)


وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)

{وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد} أيْ وَمِنْ شَرِّ النفوسِ أو النساءِ السواحرِ اللاتي يعقد عُقَداً في خيوطٍ ويَنْفُثنَ عليهَا والنفثُ النفخُ معَ ريقٍ وقيلَ بدونِ ريقٍ وقُرِىءَ النافثاتُ كما قُرِىءَ النفثاتُ بغيرِ ألفٍ وتعريفُهَا إمَّا للعهدِ أوْ للإيذانِ بشمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِنَّ وتمحضهنَّ فيهِ وتخصيصُهُ بالذكرِ لما رَوَى ابْنُ عبَّاسٍ وعائشةُ رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ كانَ غلامٌ من اليهود يخدم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكانَ عندَهُ أسنانٌ منْ مشطه صلى الله عليه وسلم فأعطاها لليهود فسحرُوهُ عليهِ السلامُ فيهَا وتولاَّهُ لبَيْدُ بنُ الأَعصمِ اليهوديُّ وبناتُهُ وهُنَّ النافثاتُ في العقدِ فدفَنَها في بئرِ أريسٍ فمرضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ بالمعوذتينِ وأخبرَهُ بموضعِ السحرِ وبمَنْ سحرَهُ وبمَ سحرَهُ فأرسل صلى الله عليه وسلم علياً كرمَ الله وجْهَهُ والزبيرَ وعمَّاراً رضيَ الله عنْهُما فنزحُوا ماءَ البئرِ فكأنَّهُ نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ثمَّ رفعوا راعوثة البئرِ وهيَ الصخرةُ التي توضعُ في أسفلِ البئرِ فأخرجُوا منْ تحتِهَا الأسنانَ ومعَها وترٌ قدْ عُقِدَ فيهِ إحدَى عشرةَ عقدةً مغرزة بالإبرة فجاؤوا بها إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فجعلَ يقرأُ المعوذتينِ عليهَا فكانَ كلَّما قرأَ آيةً انحلت عقدة ووجد صلى الله عليه وسلم خفةً حتَّى انحلتْ العقدةُ الأخيرة عنه تمام السورتين فقام صلى الله عليه وسلم كأنَّما أُنْشِط مِنْ عِقال فقالُوا يا رسولَ الله أفلا نقتلُ الخبيثَ فقالَ صلى الله عليه وسلم أمَّا أنَا فقَد عافانِي الله عزَّ وجلَّ وأكرَهُ أنْ أثيرَ عَلى الناسِ شَراً قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنهَا ما غضبَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم غضباً ينتقمُ لنفسِهِ قطُّ إلاَّ أنْ يكونَ شيئاً هُو لله تَعَالَى فيغضبُ لله وينتقمُ وقيلَ المرادُ بالنفثِ في العُقَدِ إبطالُ عزائم الرجال بالحيل ومستعار مِنْ تليينِ العقدةِ بنفثِ الريق ليسهلَ حلُّها

(9/215)


وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)

{وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أيْ إذَا أظهَرَ ما في نفسِه من الحسدِ وعملَ بمقتضاهُ بترتيبِ مقدماتِ الشرِّ ومبادىءِ الأضرارِ بالمحسودِ قولاً أو فعلاً والتقييدُ بذلكَ لما أنَّ ضررَ الحسدِ قبلَهُ إنما يحيق بالحسد لا غيره عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ المعوذتينِ فكأنَّما قرأَ الكتبَ التي أنزلَهَا الله تعالَى

(9/215)


} 14 سورة الناس مكية مختلف فيها وآياتها ست
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/216)


قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)

{قل أعوذ} وقرىء فى السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إِلى اللام {برب الناس} أَى مالك أُمورهم ومربيهم بإِفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم
وقوله تعالى

(9/216)


مَلِكِ النَّاسِ (2)

{ملك الناس} عطف بيان جىء به لبيان أَن تربيته تعالى إِياهم ليست بطريق تربية سائرا لملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلى والسلطان القاهر

(9/216)


إِلَهِ النَّاسِ (3)

وكذا قوله تعالى {إله الناس} فإِنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمورهم وسياستهم والتولى لترتيب مبادىء حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهم إحياء وإماتة وإيجاداً وإعداماً وتخصيص الإِضافة بالناس مع انتظام جميع العالمين فى سلك ربوبيته تعالى وملكوتيته وألوهيته للإرشاد إلى منهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى الحقيقة بالإِعاذة فإِن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والمملوكية والعبودية فى ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعى مزيد الرحمة والرأفة وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففى التنصيص على انتظامهم فى سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطِق به قوله تعالى {إِن عبادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} فمن جعل مدار تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر فى توفية المقام حقه وأما جعل المستعاذ منه فيما سبق المضار البدنية فقد عرفت حاله وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة

(9/216)


مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)

{من شر الوسواس} هو اسم بمعنى الوسوسة وهى الصوت الخفى كالزلزال بمعنى

(9/216)


} 14 سورة الناس آية (5 6) الزلزلة وأما المصدر فبالكسر والمراد به الشيطان سمى بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة {الخناس} الذى عادته أن يخنس أى يتأخر إذا ذكر الإنسان ربه

(9/217)


الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)

{الذى يوسوس فى صدور الناس} إذا غفلوا عن ذكره تعالى ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ على الوصف وإما الرفع أو النصبُ على الذم

(9/217)


مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)

{من الجنة والناس} بيان للذى يوسوس على أنه ضربان جنى وإنسى كما قال عز وجل شياطين الإنس والجن أو متعلق بيوسوس أي يوسوس في صدرهم من جهة الجن ومن جهة الإنس وقد جوز أن يكون بياناً للناس على أنه يطلق على الجن أيضاً حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ولا تعويل عليه وأقرب منه أن يراد بالناس الناسى ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى {يَوْمَ يدع الداع} ثم يبين بالجنة والناس فإن كلَّ فردٍ من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته عصمنا الله تعالى من الغفلة عن ذكره ووفقنا لأداء حقوق شكره
تم بحمد الله وعونه هذا التفسير الجليل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

(9/217)


خاتمة المؤلف
قال العبد الذليل متضرعا إلى ربه الجليل اللهم يا ولي العصمة والإرشاد وهادي الغواة إلى سنن الرشاد بارىء البرية مالك الرقاب عليك توكلي وإليك متاب أنت المغيث لكل حائر ملهوف والمجير من كل هائل مخوف ألوذ بحرمك المأمون من غوائل ريب المنون وألتجئ إلى حرزك الحريز وآوى إلى ركنك العزيز وأسألك من خزائن برك المخزون في مكامن سر المكنون خير ما جرى به قلم التكوين من أمور الدنيا والدين وأعوذ بك من فنون الفتن والشرور لا سيما الاطمئنان بدار الغرور والاغترار بنعيمها وزهرتها والافتتان بزخارفها وزينتها فأعذني بحمايتك وأعني بعنايتك وأفض على من شوارق الأنوار الربانية وبوارق الآثار السبحانية ما يخلصني من العوائق الظلمانية ويجردني من العلائق الجسمانية وهذب نفسي الأبية من دنس الطبائع والأخلاق ونور قلبي القاسي بلوامع الإشراق ليستعد للعبور على سرائر الأنس ويتهيأ للحضور في حظائر القدس وثبتني على مناهج الحق والهدى وأرشدني إلى مسالك البر والتقى واجعل أعز مرامي ابتغاء رضاك وأشرف أيامي يوم لقاك يوم يقوم الناس لرب العالمين فريقا فريقا واحشرني مع الذين أنعمت عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

(9/218)