تفسير أبي السعود إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

} 05 سورة الفيل مكية وآيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/200)


أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل} الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزةُ لتقريرِ رؤيتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بإنكارِ عَدَمِها وكيفَ معلقةٌ لفعلِ الرؤيةِ منصوبةٌ بما بعدَهَا والرؤيةُ عِلْميةٌ أيْ ألمْ تعلْم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدةِ والعَيَانِ باستماعِ الأخبارِ المتواترةِ ومعاينةِ الآثارِ الظَّاهرةِ وَتعليقُ الرؤيةِ بكيفيةِ فعلِه عَزَّ وَجَلَّ لاَ بنفسِه بأَنْ يقالَ ألْم ترَ ما فعلَ ربُّكَ الخ لتهويلِ الحادثةِ والإيذانِ بوقوعِها عَلَى كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ عجيبةٍ دالةٍ عَلَى عظمِ قُدرةِ الله تعالَى وكمالِ علمِه وحكمتِه وعزةِ بيتِه وشرفِ رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلكَ منَ الإرهاصاتِ لما رُوي أنَّ القصةَ وقعتْ في السنةِ التي ولد فيها النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتفصيلُها أنَّ أبرهةَ بْنَ الصبَّاحِ الأشرمَ ملكَ اليمنِ مِنْ قبلِ أصحمةَ النجاشيِّ بنَى بصنعاءَ كنيسةً وسَمَّاها القُلَّيْسَ وأرادَ أنْ يصرفَ إليها الحاجَّ فخرجَ رجلٌ منْ كِنانةَ فقعدَ فيهَا ليلاً فأغضَبهُ ذلكَ وقيلَ أججتْ رفقةٌ منَ العربِ ناراً فحملتها الريحْ فأحرقتَها فحلف ليهد الكعبةَ فخرجَ معَ جيشِه ومعه فيلٌ له اسُمه محمودٌ وكانَ قوياً عظيماً وإثنا عشرَ فيلاً غيرهُ وقيلَ ثمانيةٌ وقيل ألفٌ وقيلَ كانَ معه وَحْدَهُ فلما بلغَ المُغمَّسَ خرجَ إليه عبدُ المطلبِ وعرضَ عليه ثلثَ أموالِ تهامةَ ليرجعَ فأبىَ وعبَّأَ جيشَهُ وقدَّمَ الفيلُ فكانَ كلمَا وجهوه إلى الحرمِ بركَ ولم يبرحْ وإذا وجهوه إلى اليمنِ أو إلى غيرِه من الجهاتِ هرولَ فأرسلَ الله تعالَى طيراً سُوداً وقيلَ خُضراً وقيل بيضَاً مع كُلِّ طائرٍ حجرٌ في منقارِه وحجرانِ في رجليهِ أكبرُ من العدسةِ وأصغرُ من الحِمُصَةِ فكان الحجر يلقى عَلى رأسِ الرجلِ فيخرجُ من دُبُرهِ وعلى كُلِّ حجرٍ اسمُ منْ يقعُ عليهِ ففروا فهلكُوا في كلِّ طريقٍ ومنهلٍ ورويَ أنَّ أبرهةَ تساقطتْ أناملُه وآرابُه وما ماتَ حتى انصدر صدْرُهُ عن قلبهِ وانفلتَ وزيرُهُ أبو يكسومَ وطائرٌ يُحلِّقُ فوقَهُ حتى بلغَ النجاشيِّ فقصَّ عليهِ القصةَ فلما أتمَّها وقعَ عليهِ الحجرُ فخرَّ ميتاً بينَ يديِه وقيلَ إنَّ أبرهةَ أخذَ لعبدِ المطلبِ مائتي بعيرٍ فخرجَ إليهِ في شأنِها فلما رآه أبرهةُ عظُمَ في عينِه وكانَ رجُلاً وَسيماً جَسيماً وقيلَ هذا سَيِّدُ قُريشٍ وصاحبُ عِيرِ مكةَ الذي يطعمُ الناسَ في السهلِ والوحوشَ في رؤوسِ الجبالِ فنزلَ أبرهةُ عن سريرهِ وجلسَ عَلَى بساطِه وقيل أجلَسه مَعَهُ على سريرِه ثم قالَ لترجمانِه قُلْ لَهُ ما حاجتُكَ فلما ذكرَ حاجتَهُ قالَ سقطتَ مِنْ عَينِي حيثُ جئتُ لأهدمَ البيتَ الذي هُوَ دينُكَ ودينُ

(9/200)


آبائِك وعصمتُكم وشرفُكم في قديمِ الدهرِ لا تكلمِني فيهِ ألهاكَ عنْهُ ذَودٌ أخذتُ لكَ فقالَ عبدُ المطلبِ أنا ربُّ الإبلِ وإن للبيت رباً يحميِه ثم رجعَ وأتىَ بابَ الكعبةِ فأخذَ بحلقتِه ومعهَ نفرٌ من قريشٍ يدعونَ الله عَزَّ وجَلَّ فالتفتَ وهو يدعُو فإذا هو بطيرٍ منْ نحوِ اليمنِ فقالَ والله إنها لطيرٌ غريبةٌ مَا هيَ نجديةٌ ولا تهاميةٌ فأرسلَ حلقةَ البابِ ثمَّ انطلقَ معَ أصحابِه ينتظرونَ ماذَا يفعلُ أبرهةُ فأرسلَ الله تعالَى عليهُم الطيرَ فكانَ ما كانَ وقيلَ كانَ أَبْرهةُ جَدَّ النجاشيِّ الذي كانَ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعنْ عائشةَ رضيَ الله عَنْهَا قالتْ رأيتُ قائدَ الفيلِ وسائسَه أعميينِ مُقعدينِ يستطعمان وقُرِىءَ أَلم تَرْ بسكونِ الراءِ للجدِّ في إظهارِ أثرِ الجازمِ وقولُه تعالَى

(9/201)


أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)

{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} الخ بَيَانٌ إِجْمَاليٌ لمَا فعلَه الله تَعَالى بهمْ وَالهْمزةُ للتقريرِ كَما سبقَ ولذلكَ عطفٌ عَلَى الجملةِ الاستفهاميةِ ما بعدَهَا كأنَّه قيلَ قدْ جعلَ كيدَهُم في تعطيلِ الكعبةِ وتخريبِها في تضييعٍ وإبطالٍ بأنْ دمَّرهُم أشنعَ تدميرٍ

(9/201)


وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)

{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} أَيْ طوائفَ وجماعاتٍ جمعُ أبالةٍ وهيَ الحزمةُ الكبيرةُ شُبهتْ بَها الجماعةُ من الطيرِ في تضامِّها وقيلَ أبابيلَ مثلُ عبابيدَ وشماطيطَ لا واحدَ لهَا

(9/201)


تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

{ترميهم بحجارة} صفة لطير وقُرِىءَ يَرْميهِمْ بالتذكيرِ لأنَّ الطير اسم جمع تأنيثه باعتبارِ المَعْنَى {مّن سِجّيلٍ} من طينٍ مُتحجرٍ مُعَرَّبُ سَنْك كِلْ وقيلَ كأنهُ عَلمٌ للديوانِ الذي كتبَ فيهِ عذابُ الكفارِ كما أنَّ سجيناً علمٌ للديوانِ الذي يكتبُ فيه أعمالُهم كأنَّه قيلَ بحجارةٍ من جملةِ العذابِ المكتوبِ المدونِ وَاشتقاقُه منَ الإسجالِ وهُوَ الإرسالُ

(9/201)


فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} كورقِ زرع فيهِ الأكالُ وهُوَ أنْ يأكلُه الدودُ أوْ أكلَ حبُّه فبقَي صِفراً منْهُ أوْ كتبنٍ أكلتْهُ الدوابُّ وَرَاثتْهُ أشيرَ إليهِ بأولِّ أحواله عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الفيلِ أعفاهُ الله تعالَى أيامُ حياتِهِ منَ الخسفِ والمسخِ وَالله أعلمُ

(9/201)


} 06 سورة قريش مكية وآيها أربع
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/202)


لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)

{لإيلاف قُرَيْشٍ} متعلقٌ بقولِه تعالَى فليعبدُوا والفاءُ لما في الكلامِ منْ مَعْنى الشَّرطِ إذِ المعَنْى أنَّ نِعمَ الله تعالَى عليهمْ غيرُ محصورةٍ فإنْ لَمْ يعبدُوه لسائرِ نعمهِ فليعبدُوه لهذِه النعمةِ الجليلةِ وقيلَ بمضمر تقديرُهُ فعلنَا مَا فعلنَا منْ إهلاكِ أصحابِ الفيلِ لإيلافِ الخ وقيلَ تقديرُهُ أعْجَبُوا لإيلافِ الخ وقيلَ بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه تعالَى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} ويؤيدُهُ أنهُمَا في مُصْحفِ أبي سورة واحدة فلا فصلٍ وَالمَعْنى أهلكَ مَنْ قصدَهُم منَ الحبشةِ ليتسامعَ الناس فيتهيبُوا لَهُمْ زيادةَ تهيبٍ ويحترمون فضلَ احترامٍ حَتَّى ينتظَم لهُمْ الأمنُ في رحلتيِهمْ فَلاَ يجترىءُ عليهمْ أحدٌ وكانتْ لقريشٍ رحلتانِ يرحلونَ في الشتاءِ إلى اليمنِ وفي الصيفِ إِلى الشامِ فيتمارون ويتجرونَ وكانُوا في رحلتيِهمْ آمنينَ لأنَّهُم أهلُ حرمِ الله تعالَى وولاةُ بيتِه العزيزِ فَلاَ يُتَعرضُ لهُمْ والنَّاسُ بينَ مُتخطَّفٍ ومنهوبٍ وَالإيلافُ منْ قولِكَ آلفتْ المكانَ إيلافاً إذا أَلفْتَهُ وقُرِىءَ لإلافِ قُريشٍ أيْ لمؤالفتِهمْ وقيلَ يقالُ ألفتُهُ إلفاً وإلافاً وَقُرِىءَ لإلفِ قريشٍ وقريشٌ ولدُ النَّضْرِ بنِ كنَانَةَ سُمُّوا بتصغيرِ القِرشِ وهُوَ دابةٌ عظيمةٌ في البحرِ تعبثُ بالسفنِ وَلاَ تُطَاقُ إِلاَّ بالنارِ والتصغيرُ للتعظيمِ وقيلَ منَ القَرْشِ وهُوَ الكسبُ لأنهمْ كانُوا كسَّابينَ بتجاراتِهمْ وضربِهمْ في البلادِ
وقولُه تعالَى

(9/202)


إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)

{إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف} بدلٌ منَ الأولِ ورحلةَ مفعولٌ لإيلافِهم وإفرادُهَا معَ أنَّ المرادَ رِحْلَتي الشتاءِ والصيفِ لأمنِ الإلباسِ وَفي إطلاقِ الإيلافِ عنِ المفعولِ أولاً وإبدالُ هَذا منْهُ فتخيم لأمرِهِ وتذكيرُ لعظيمِ النعمةِ فيهِ وَقُرِىءَ ليألفَ قريشٌ إلَفهُمْ رحلةَ الشتاءِ والصيفِ وقُرِىءَ رُحلةَ بالضمِّ وهيَ الجهةُ التي يُرحلُ إليَها

(9/202)


فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

{فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} {الذى أَطْعَمَهُم} بسببِ تينكِ الرحلتينِ اللتينِ تمكُنوا فيهَما بواسطةِ كونِهم منْ جيرانِهِ

(9/202)


} 06 سورة قريش آية (4) {مِن جُوعٍ} شديدٍ كانُوا فيهِ قَبْلَهُما وقيلَ أريدَ بهِ القحطُ الذي أكلُوا الجيف والعظام {وآمنهم مِّنْ خَوْفٍ} عظِيمٌ لاَ يُقادرُ قَدرُه وهُوَ خوفُ أصحابِ الفيلِ أوْ خوفُ التخطف في بلدهم ومسايرهم وقيلَ خوفُ الجُذَامِ فلاَ يصيبُهمْ في بلدِهِم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ قريشٍ أعطاهُ الله تَعالَى عشر حسنات بعدد من طَافَ بالكعبةِ واعتكفَ بَها
} 07 سورة الماعون مكية مختلف فيها وآيها سبع
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/203)


أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)

{أرأيت الذى يُكَذّبُ بالدين} استفهامٌ أريدَ بهِ تشويقُ السامعِ إلى معرفةِ مَنْ سيقَ لَهُ الكلاَمُ والتعجيبُ منْهُ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ لكُلِّ عاقلٍ والرؤيةُ بمَعْنى المَعْرفةِ وقُرِىءَ أرأيتَكَ بزيادةِ حَرْفِ الخطابِ والفاءُ في قولِه تعالَى

(9/203)


فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)

{فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم} جوابُ شرطٍ محذوفٍ على أن ذلك مبتدأو الموصول خبرُهُ والمَعْنى هَلْ عرفتَ الذي يكذبُ بالجزاءِ أو بالإسلامِ إنْ لَمْ تعرفْهُ أو إنْ أردتَ أنْ تعرفَهُ فهُوَ الذي يدفعُ اليتيمَ دفعاً عنيفاً ويزجرُهُ زَجْراً قَبيحاً ووضعُ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصفِ المشارِ إليهِ موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم والتنبيهِ بمَا فيه من معنى البعد على بُعدِ منزلتِه في الشرِّ والفسادِ قيلَ هُوَ أبُو جهلٍ كانَ وصياً ليتيمٍ فأتاهُ عُرياناً يسألُهُ من مالِ نفسِه فدفعَهُ دفعاً شنيعاً وقيلَ أبُو سفيانَ نحرَ جزوراً فسألَهُ يتيمٌ لحماً فقرعَهُ بعصاهُ وقيلَ هُوَ الوليدُ بنُ المُغِيرَةِ وقيلَ هُوَ العَاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ وقيلَ هُوَ رجُلٌ بخيلٌ مِنَ المنافقينَ وقيلَ الموصولُ على عمومِهِ وقُرِىءَ يَدَعُ اليتيمَ أيْ يتركُه ويجفُوهُ

(9/203)


وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)

{وَلاَ يَحُضُّ} أيْ أهلَهُ وغيرَهُم مِنَ الموسرينَ {على طَعَامِ المسكين} وإذَا كانَ حالُ من تركَ حَثَّ غيرَه على ما ذُكرَ فمَا ظنُّك بحالِ مَن ترك معَ القُدرةِ عليهِ
والفاءُ في قولِه تعالَى

(9/203)


فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)

{فَوَيْلٌ} الخ إما لربطِ مَا بعدَهَا بشرطٍ محذوفٍ كأنَّه قيلَ إذَا كانَ ما ذُكر من

(9/203)


} 07 سورة الماعون آية (5 7)
عدم المبالاة باليتيم والمسكين مِنْ دَلاَئلِ التكذيبِ بالدِّينِ وموجباتِ الذمِّ والتوبيخِ فويلٌ {لّلْمُصَلّينَ}

(9/204)


الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)

{الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} غافلونَ غيرُ مبالينَ بها

(9/204)


الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)

{الذين هم يراؤون} أيْ يرونَ النَّاسَ أعمالَهُم ليروهُمْ الثناءَ عَلَيهَا

(9/204)


وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)

{وَيَمْنَعُونَ الماعون} أي الزكاةَ مَا يُتعَاورُ عادةً فإنَّ عدم المبالاة باليتيم والمسكين حيثُ كانَ كمَا ذُكِرَ فعدمُ المبالاةِ بالصلاةِ التي هي عمادُ الدينِ والرياءُ الذي هُوَ شعبةٌ منَ الكفرِ ومنعُ الزكاةِ التي هيَ قنطرةُ الإسلامِ وسوءُ المعاملةِ مَعَ الخلقِ أحقُّ بذلكَ وإمَّا لترتيبِ الدعاءِ عليهم بالويلِ على ما ذكرَ من قبائحِهم ووضعُ المصلينَ موضعَ ضميرِهم ليتوسلَ بذلكَ إلى بيانِ أنَّ لهُم قبائحَ أُخَرَ غيرَ ما ذكرَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الدينِ غُفرَ لَهُ إنْ كان للزكاة مؤديا

(9/204)


} 08 سورة الكوثر مكية وآيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/205)


إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)

{إِنَّا أعطيناك} وقُرِىءَ أَنْطَينَاكَ {الكوثر} أيِ الخيرُ المفرطُ الكثيرُ من شرفِ النبوةِ الجامعةِ لخيريِّ الدارينِ والرياسةِ العامةِ المستتبعةِ لسعادةِ الدُّنيا والدين فوعلٌ منَ الكثرةِ وقيلَ هُوَ نهرٌ في الجَّنةِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قرأهَا فقالَ أتدرونَ ما الكوثَرُ إنَّه نهرٌ في الجنةِ وَعَدنيهِ ربِّي فيهِ خيرٌ كثيرٌ ورُويَ في صفتِهِ أنَّه أَحْلَى من العسلِ وأشدُّ بياضاً من اللبنِ وأبردُ من الثلجِ وألينُ من الزبدِ حافتاهُ الزبرجدُ وأوانيهِ من فضةٍ عددَ نجومِ السماءِ ورُوي لا يظمأُ من شربَ منْهُ أبداً أولُ وارديهِ فقراءُ المهاجرينَ الدَّنِسُو الثيابِ الشُّعْثُ الرؤوسِ الذينَ لا يزوجونَ المنعمّاتِ ولا تفتحُ لهم أبوابُ السُّدَدِ يموتُ أحدُهم وحاجتُهُ تتلجلجُ في صدرِه لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ وعنِ ابن عباس رضي الله عنهُما أنه فسرَ الكوثرَ بالخيرِ الكثيرِ فقالَ لَه سعيدُ بنُ جُبيرٍ فإنَّ ناساً يقولونَ هُوَ نهرٌ في الجنةِ فقالَ هُو منَ الخيرِ الكثيرِ وقيلَ هو حوضٌ فيهَا وقيلَ هو وأولاده وأتباعُه أو علماءُ أمتِه أو القرآنُ الحاوِي لخيرِ الدُّنيا والدينِ

(9/205)


فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)

والفاء في قوله تعالى {فَصَلّ لِرَبّكَ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها فإنَّ إعطاءَهُ تعالَى إيَّاهُ عليهِ السلامُ ما ذكرَ من العطيةِ التي لم يُعطِهَا ولنْ يعطيهَا أحداً منَ العالمينَ مستوجبٌ للمأمورِ بهِ أيَّ استيجابٍ أي فدُمْ على الصلاةِ لربكَ الذي أفاضَ عليكَ هذه النعمةِ الجليلةِ التي لاَ يضاهيها نعمة خالصا لوجهِه خلافَ الساهينَ عنهَا المرائينَ فيهَا أداءً لحقوقِ شكرِهَا فإنَّ الصلاةَ جامعةٌ لجميعِ أقسامِ الشكرِ {وانحر} البدنَ التي هيَ خيارُ أموالِ العربِ باسمِه تعالَى وتصدقْ على المحاويجِ خلافاً لمن يدعهُمْ ويمنعُ عنهُم الماعونَ وعن عطيةَ هيَ صلاةُ الفجرِ بجمعٍ والنحُرُ بمنًى وقيلَ صلاةُ العيدِ والتضحيةُ وقيلَ هيَ جنسُ الصلاةِ والنحرُ وضعُ اليمينِ على الشمالِ وقيلَ هُوَ أنْ يرفعَ يديهِ في التكبيرِ إلى نحرِه هُوَ المروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهمَا استقبلِ القبلةَ بنحركَ وهُو قولُ الفَرَّاءِ والكَلْبي وأبي الأَحْوَص

(9/205)


إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

{إِنَّ شَانِئَكَ} أيْ مبغضكَ كائناً منْ كانَ {هُوَ الأبتر} الذي لاَ عقِبَ له

(9/205)


} 08 سورة الكوثر آية (3) حيثُ لا يبقَى منهُ نسلٌ ولا حُسنُ ذكرٍ وأمَّا أنتَ فتبقَى ذريتُكَ وحسنُ صيتكَ وآثارُ فضلكَ إلى يوم القيامة لك في الآخرةِ ما لا يندرجُ تحتَ البيانِ وقيلَ نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ وأياً ما كانَ فلا ريب وفي عمومِ الحكمِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الكوثرِ سقاهُ الله تُعالى مِنْ كلِّ نهرٍ في الجنةِ ويكتبُ لهُ عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ قُربانٍ قربَهُ العبادُ في يومِ النحرِ
} 09 سورة الكافرون مكية وآيها ست
بسم الله الرحمن الرحيم

(9/206)


قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)

{قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون} هم كفرةٌ مخصوصونَ قدْ علَم الله تعالَى أنَّه لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ أبداً رُوِيَ أنَّ رهصا مِنْ عُتاةِ قريشٍ قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هلمَّ فاتبعْ دينَنَا ونتبعُ دينك تعبد آلهتنا ونعبدُ إلهك سنةً فقالَ معاذَ الله أنْ أشركَ بالله غيرَهُ فقالُوا فاستلمْ بعضَ آلهتِنَا نصدقكَ ونعبدَ إلهك فنزلتْ فغدَا إلى المسجدِ الحرامِ وفيهِ الملأُ من قريشٍ فقامَ على رؤوسِهم فقرأَهَا عليهم فأيِسوا

(9/206)


لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)

{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أيْ فيمَا يُستقبلُ لأَنَّ لاَ لاَ تدخلُ غالباً إلا على مضارع في الاستقبالِ كما أنَّ مَا لاَ تدخلُ إلاَّ على مضارعٍ في مَعْنى الحالِ والمَعْنى لا أفعلُ في المستقبلِ ما تطلبونَهُ مِنِّي من عبادةِ آلهتكم

(9/206)


وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)

{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أيْ ولا أنتُم فاعلونَ فيهِ ما أطلبُ منكُم من عبادةِ إلهي

(9/206)


وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)

{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أيْ وما كنتُ قطُّ عابداً فيمَا سلفَ ما عبدتُم فيه أيْ لم يُعْهدْ مِنِّي عبادةُ صنمٍ في الجاهليةِ فكيفَ تُرْجَى مِنِّي في الإسلامِ

(9/206)


وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)

{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أيْ وما عبدتُم في وقتٍ من الأوقاتِ مَا أنا على عبادتِهِ وقيلَ هاتانِ الجملتانِ لنفي العبادةِ حالاً كما أنَّ الأولين لنفيها استقبالاً وإنَّما لم يقُلْ ما عبدتُ

(9/206)


} 09 سورة الكافرون آية (5)
ليوافق ما عبدتمم لأنَّهم كانُوا موسومينَ قبلَ البعثةِ بعبادةِ الأصنامِ وهُوَ عليهِ السلامُ لم يكُنْ حينئذٍ موسوماً بعبادةِ الله تعَالَى وإيثارُ مَا في أعبدُ على مَنْ لأنَّ المرادَ هُوَ الوصفُ كأنَّه قيلَ مَا أعبدُ مِنَ المعبودِ العظيمِ الشأنِ الذي لا يُقادَرُ قدرُ عظمتِهِ وقيلَ إنَّ مَا مصدريةٌ أي لا أعبد عبادتَكُم ولا تعبدونَ عبادَتِي وقيلَ الأوليانِ بمَعْنى الذي والأخريانِ مصدريتانِ وقيلَ قولُه تعالَى {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيدٌ لقولِه تعَالَى {لاَ أَعْبُدُ مَا تعبدون} وقوله تعالى {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} ثانياً تأكيدٌ لمثلِه المذكورِ أولاً
وقولُه تعالَى

(9/207)


لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)

{لَكُمْ دِينَكُمْ} تقريرٌ لقولِه تعَالَى لاَ أَعْبُدُ مَا تعبدون وقوله تعالى ولا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ كما أن قوله تعالى {وَلِىَ دِينِ} تقريرٌ لقولِه تعالَى {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} والمَعْنى أنَّ دينَكُم الذي هُوَ الإشراكُ مقصورٌ على الحصولِ لكُم لا يتجاوزه إلى الحصول لِي أيضاً كما تطمعونَ فيهِ فلاَ تعلقُوا بهِ أمانيَّكُم الفارغةَ فإنَّ ذلكَ المُحالاتِ وأنَّ دينيَ الذي هُوَ التوحيدُ مقصورٌ على الحصولِ لي لا يتجاوزُه إلى الحصولِ لكُم أيضاً لأنَّكم علقتمُوه بالمحالِ الذي هُوَ عبادتِي لآلهتِكم أو استلامِي إيَّاها ولأنَّ ما وعدتمُوه عينُ الإشراكِ وحيثُ كانَ مَبْنى قولِهم تعبدُ آلهتَنَا سنةً ونعبدُ إلهك سنةً على شركةِ الفريقينِ في كلتا العبادتينِ كان القصرُ المستفادُ من تقديمِ المسندِ قصرُ إفرادٍ حتماً ويجوز أن يكون هذا تقريراً لقولِه تعالَى {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أيْ ولِي دِيني لا دينُكم كمَا هُوَ في قولِه تعَالَى {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُم} وقيلَ المَعْنى إنِّي نبيٌّ مبعوثٌ إليكُم لأدعوَكُم إلى الحقِّ والنجاةِ فإذَا لم تقبلُوا مِنِّي ولَمْ تتبعونِي فدعونِي كَفافاً ولا تدعونِي إلى الشركِ فتأملْ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ من سورةَ الكافرونَ فكأنَّما قرأَ ربعَ القرآنِ وتباعدتْ عنْهُ مَرَدةُ الشَّياطينِ وبرىءَ مِنَ الشركِ وتعافَى مِنَ الفزعِ الأكبر

(9/207)