تفسير الإمام
الشافعي سورة آل عمران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
الأم: باب (القراءة في الرمعتين الأخيرتين) :
سألت الشَّافِعِي رحمه الله: أتقرأ خلف الإمام أم القرآن في
الركعة
الأخيرة تُسِرُّ؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أحبُّ ذلك، وليس بواجب عليه،
فقلت: وما
الحجة فيه؟
فقال: أخبرنا مالك، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، أن
عبادة بن نسَي أخبره، أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو
عبد اللَّه
الصنابحي أنه قدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق، فصلى وراء
أبي بكر
المغرب، فقرأ في الركعتين الأوْلَيَين بأم القرآن، وسورة من
قصار المفضل، ثم قام في الركعة الثالثة، فدنوت منه حتى إن
ثيابي لتكاد أنْ تمس ثيابه، فسمعته قرأ بأم القرآن، وبهذه
الآية: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ) الآية، الحديث.
(1/461)
فقلت: للشافعي: فإنا نكره هذه، ونقول ليس
عليه العمل، لا يقرأ على
إثر أم القرآن في الركعة الثالثة بشيء؟
فقال الشَّافِعِي رحمه اللَّه: وقال سفيان بن عيينة: لما سمع
عمر بن عبد العزيز بهذا عن أبي بكر الصديق قال: إن كنت لعلى
غير هذا، حتى سمعت بهذا، فأخذت به، قال: فهل تركتم للعمل عمل
أبي بكر، وابن عمر، وعمر بن عبد العزيز؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله
(ابن عمر) .
أنه كان إذا صلى وحده يقرأ في الأربع جميعاً، في كل ركعة بأم
القرآن، وبسورة من القرآن، قال: وكان يقرأ أحياناً بالسورتين
والثلاث في الركعة الواحدة في صلاة الفريضة الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
الزاهر باب (الوصية)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن المرض المَخُوف: الحمى تدأب
صاحبها.
(1/462)
معنى تدأب، أي: تلازم وتغبِط عليه فلا
تفارقه، وكل ذي عمل إذا دام
عليه فقد دَأبَ، يَدأبُ، دَأباً، وأدأبَ الرجل السير إذا لم
يفتر فيه.
قال الله - عزَّ وجلَّ: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الآية، أي:
تظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتظاهر آل فرعون على
موسى عليه الصلاة والسلام، وقيل: عادتهم في كفرهم كعادة آل
فرعون.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
الأم: ما جاء في أمرالنكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والرجل يدخل في بعض أمره في معنى
الأيامى.
الذين على الأولياء أن ينكحوهن، إذا كان مولى بالغاً يحتاج إلى
النكاح، ويقدر بالمال، فعلى وليه إنكاحه، فلو كانت الآية،
والسنة في المرأة خاصة، لزم ذلك عندي الرجل، لأن معنى الذي
أريد به نكاح المرأة العفاف، لما خلق فيها من الشهوة وخوف
الفتنة، وذلك في الرجل مذكور في الكتاب، لقول اللَّه - عز وجل
-:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)
الآية.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن لم تتق نفسه، ولم يحتج إلى
النكاح من الرجال
والنساء، بأن لم تخلق فيه الشهوة التي جعلت في كثر الخلق، فإن
اللَّه يقول - عز وجل -:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)
الآية، أو بعارض أذهب الشهوة
(1/463)
(من كبر أو غيره) ، فلا أرى بأساً أن يدع
النكاح، بل أحِبُّ ذلك، وأن يتخلى لعبادة الله.
* * *
قال الله - عز وجل - (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(18)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما جاء في خروجه إلى اليمن ومقامه
بها، ثم في حمله
من اليمن إلى هارون، وما جرى بينه وبين محمد بن الحسن من
المناظرة.
رحمهما الله)
وقد روي في أخبار دخول الشَّافِعِي رحمه اللَّه على الرشيد
رحمه اللَّه، أنه دعا
عند دخوله - أي الشَّافِعِي - عليه - أي على الرشيد - بدعاء
سأله عنه
الفضل بن الربيع فعلمَهُ إيَّاه، وهو أنه قرأ أولاً: (شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلَامُ) الآيتان.
ثم قال: وأنا أشهد بما شهد اللَّه به، وأستودع اللَّه هذه
الشهادة، وهذه
الشهادة وديعة لي عند اللَّه يؤدِّيها إليَّ يوم القيامة،
اللهم إني أعوذ بنور قدسك، وعظمة طهارتك، وبركة جلالك، من كل
آفة وعاهة، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير،
اللهم أنت غياثي فبك أغوث، وأنت
(1/464)
ملاذي فبك ألوذ، وأنت عياذي فبك أعوذ، يا
من ذلَّت له رقاب الجبابرة.
وخضعت له أعناق الفراعنة، أعوذ بك من خزيك، ومن كشف سترك، ومن
نسيان ذكرك، والانصراف عن شكرك، أنا في حرزك في ليلي ونهاري،
ونومي وقراري، وضعفي وأسفاري، وحياتي ومماتي، ذكرك شعاري،
وثناؤك دثاري، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، تشريفاً لعظمتك،
وتكريماً لسبحات وجهك، أجرني من خزيك، ومن شرِّ عبادك، واضرب
على سرادقات حفظك، وأدخلني في حفظ عنايتك، وجُد عليَّ منك بخير
يا أرحم الراحمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الكريم، والصلاة على النبي المرتضى محمد وآله وسلم كثيراً.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ)
الأم: باب ذبائح بني إسرائيل:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلم يزل ما حرّم اللَّه
تعالى على بني إسرائيل -
اليهود خاصة، وغيرهم عامة - محرماً حيث حرَّمه حتى بعث اللَّه
جل جلاله
محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ففرض الإيمان به، وأمر بإتباع
رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وطاعة أمره، وأعلم خلقه:
أن طاعتَه، طاعتُه، وأن دين الإسلام الذي نسخ به كل دين كان
قبله، وجعل من
(1/465)
أدركه، وعلم دينه، فلم يتبعه كافراً به،
فقال: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)
فكان هذا بالقرآن.
* * *
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ
تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ
بِالْعِبَادِ (30)
الأم: الوصية التي صدوت من الشَّافِعِي رضي الله عنه:
قال الربيع بن سليمان: هذا كتاب كتبه محمد بن إدريس بن العباس
الشَّافِعِي في شعبان سنة ثلاث ومائتين، وأشهد اللَّه عالم
خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكفى به جل ثناؤه شهيداً، ثم من
سمعه أنه شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً
عبده ورسوله لم يزل يدين بذلك، وبه يدين حتى يتوفاه اللَّه
ويبعثه عليه إن شاء اللَّه، وأنه يوصي نفسه، وجماعة من سمع
وصيته، بإحلال ما أحل اللَّه - عز وجل - في كتابه، ثم على لسان
نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتحريم ما حرم اللَّه في
الكتاب، ثم في السنة، وألا يجاوز من ذلك إلى غيره، وأن مجاوزته
ترك رضا اللَّه، وترك ما خالف الكتاب والسنة، وهما من
المحدثات، والمحافظة على أداء فرائض اللَّه في القول، والعمل،
والكفِّ عن محارمه خوفاً لله، وكثرة ذكر الوقوف بين يديه:
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ
مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) الآية.
وأن تنزل الدنيا حيث أنزلها اللَّه،
(1/466)
فإنه لم يجعلها دار مقام إلا مقام مدة
عاجلة الانقطاع، وإنما جعلها دار عمل، وجعل الآخرة دار قرار
وجزاء فيها بما عمل في الدنيا من خير أو شر، إن لم يعف اللَّه
جل ثناؤه. . . الخ.
وقال البيهقي رحمه اللَّه في نهاية ذكر هذه الوصية: ولم يغير -
أي الشَّافِعِي
- وصيته هذه.
الرسالة: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وَوَعَظَهُمْ - القرآن الكريم -
بِالْإِخْبَارِ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِمَّنْ كَانَ
أَكْثَرَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَأَطْوَلَ
أَعْمَارًا، وَأَحْمَدَ آثَارًا، فَاسْتَمْتَعُوا
بِخَلَاقِهِمْ فِي حَيَاةِ دُنْيَاهُمْ، فَأَذَاقَهُمْ عِنْدَ
نُزُولِ قَضَائِهِ مَنَايَاهُمْ دُونَ آمَالِهِمْ وَنَزَلَتْ
بِهِمْ عُقُوبَتُهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ؛
لِيَعْتَبِرُوا فِي آنِفِ الْأَوَانِ، وَيَتَفَهَّمُوا
بِجَلِيَّةِ التِّبْيَانِ، وَيَنْتَبِهُوا قَبْلَ رَيْنِ
الْغَفْلَةِ وَيَعْمَلُوا قَبْلَ انْقِطَاعِ الْمُدَّةِ، حِينَ
لَا يُعْتَبُ مُذْنِبٌ، وَلَا تُؤْخَذُ فِدْيَةٌ وَ (يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا
عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ
أَمَدًا بَعِيدًا) الآية.
(1/467)
فكل ما أنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة
وحجة، علمه من علمه.
وجَهِلَه من جهله، لا يعلم من جَهِلهُ، ولا يَجهَل من علمه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا
وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
الأم: كتاب الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ثم ذكر - سبحانه - من خاصته
صفوته فقال
جل وعز: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)
فخص آدم ونوحاً، بإعادة ذكر اصطفائهما.
أحكام القرآن: فصل فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في
الطهارات والصلوات:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذكر صفوته من خلقه، فأعلم أنهم
أنبياؤه، ثم
ذكر صفوته من آلهِم، فذكر أنهم أولياء أنبيائه، فقال: (إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) .
وكان حديث أبي مسعود رضي الله عنه أن ذكر الصلاة على محمد وآل
محمد - يشبه عندنا لمعنى الكتاب - واللَّه أعلم -.
(1/468)
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: دلَّ ذلك على
أن الذين أعطاهم رسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم - الخُمسَ هم: آل محمد الذين أمر رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليهم معه، والذين
اصطفاهم من خلقه، بعد نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يقول:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ
وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) .
فأعلم: أنه اصطفى الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، وآلِهم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (39)
الأم: ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذكر - اللَّه - عبداً كرمه، فقال:
(وَسَيِّدًا وَحَصُورًا) الآية، والحصور: الذي لا يأتي النساء،
ولم يندبه إلى النكاحْ، فدلَّ ذلك - واللَّه أعلم - على أن
المندوب إليه من يحتاج إليه، ممن يكون مُحصناً له عن المحارم
والمعاني التي في النكاح.
(1/469)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
الأم: قَسْمُ النساء إذا حضر السفر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع،
عن ابن
شهاب، عن عبيد اللَّه، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا أراد سفراً، أقْرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها.
وبهذا أقول: إذا حضر سفر المرء، وله نسوة فأراد إخراج واحدة
للتخفيف
من مؤنة الجميع، والاستغناء بها، فحقهن في الخروج معه سواء،
فيقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها للخروج، خرج بها، فإذا حضر
قَسَمَ بينها وبينهن، ولم يحسب عليها الأيام التي غاب بها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد ذكر الله جل وعز القرعة
في كتابه في
موضعين، فكان ذكرها موافقاً ما جاء عن النبي - صلى الله عليه
وسلم -
1 - قال الله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
(139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
2 - وقال: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)
الآية.
(1/470)
فأما مريم - عليها السلام - فلا يعدو
الملقون لأقلامهم يقترعون عليها.
أن يكونوا سواء في كفالتها؛ لأنه إنما يقارع من يدلي بحق فيما
يفارع، ولا
يعدون إذا كان أرفق بها، وأبهل في أمرها، أن تكون عند واحد لا
يتداولها
كلهم مدةَ مدة، أو يكونوا يقسموا كفالتها، فهذا أشبه معناها
عندنا - واللَّه أعلم -.
فاقترعوا أيهم يتولى كفالتها دون صاحبه، أو تكون يدافعوها لئلا
يلزم مؤنة
كفالتها واحداً دون أصحابه، وأيهما كان فقد اقترعوا لينفرد
بكفالتها أحدهم، ويخلو منها من بقي.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلما كان المعروف لنساء الرافق
بالنساء، أن يخرج
بواحدة منهن، فهنَّ في مثل هذا المعنى، ذوات الحق كلهنَّ، فإذا
خرج سهم
واحدة كان السفر لها دونهن، وكان هذا في معنى القرعة في مريم،
وقرعة يونس حين استوت الحقوق، أقرع لتنفرد واحدة دون الجميع.
الأم (أيضاً) : كتاب القرعة:
أخبرنا الربيع بن سلبمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: قال اللَّه تعالى: (وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأصل القرعة في كتاب اللَّه - عز
وجل - في قصة المقترعين على مريم - عليها السلام - والمقارعي
بونس عليه السلام مجتمعة، فلا تكون القرعة - واللَّه أعلم -
إلا بين قوم مستوين في الحجة.
(1/471)
ولا يعدو - واللَّه تعالى أعلم - المقترعون
على مريم أن يكونوا: كانوا
سواء في كفالتها فتنافسوها، فلما كان أن تكون عند واحد منهم
أرفق بها؛ لأنها لو صُيِّرت عند كل واحد منهم يوماً أو أكثر،
وعند غيره مثل ذلك، كان أشبه أن يكون أضَر بها من قِبَل أن
الكافل إذا كان واحداً كان أعطف له عليها، وأعلم بما فيه
مصلحتها، للعلم بأخلاقها، وما تقبل، وما ترد، وما يحسن به
اغتذاؤها، فكل من اعتنف كفالتها، كفلها غير خابر بما يصلحها،
ولعله لا يقع على صلاحها حتى تصير إلى غيره، فيعتنف من كفالتها
ما اعتنف غيره.
وله وجه آخر يصح، وذلك أن ولاية واحد إذا كانت صبية، غير
ممتنعة مما
يمتنع منه من عَقَل، يستر ما ينبغي ستره، كان أكرم لها، وأستر
عليها، أن يكفلها واحد دون جماعة.
وقال: يجوز أن تكون عند كافل، ويغرم من بقي مؤنتها بالحصص، كما
تكون الصبية عند خالتها وعند أمها، ومؤنتها على من عليه
مؤنتها.
ولا يعدو الذين اقترعوا على كفالة مريم، أن يكونوا تشاحوا على
كفالتها.
وهو أشبه - واللَّه تعالى أعلم - أو يكونوا تدافعوا كفالتها،
فاقترعوا أيهم تلزمه، فإذا رضي من شح على كفالتها أن يموِّنها،
لم يكلف غيره أن يعطيه من مؤنتها شيئاً، برضاه بالتطوع بإخراج
ذلك من ماله.
وأي المعنيين كان، فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفع عن نفسه، وتخلص
له ما
يرغب فيه لنفسه، وتقطع ذلك عن غيره، ممن هو في مثل حاله.
(1/472)
وهذا معنى القرعة في الذين اقترعوا على
كفالة مريم، غُزم، وسقوط
غُرم.
وقرعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل موضع أقرع فيه، في
مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء، لا يخالفه.
وذلك أنه أقرع بين مماليك اعتقوا معاً. . . كما يجمع القَسم
بين أهل
المواريث ولا يبعّض عليهم، وكذلك كان إقراعه لنسائه، أن يقسِم
لكل واحدة منهن في الحضر، فلما كان في السفر، كان منزلة يضيق
فيها الخروج بكلهنَ، فأقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها
معه، وسقط حق غيرها في غيبته بها، فإذا حضر، عاد للقَسم
لغيرها، ولم يحسب عليها أيام سفرها.
وكذلك قَسَّمَ خيبر، فكان أربعة أخماسها لمن حضر، ثم أقرع،
فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله، وانقطع منه حق
غيره، وانقطع حقه عن غيره.
الزاهر باب (فتح السواد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولما جمع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - سبي هوازن وأموالهم، جاءت هوازن وكلموه، وسألوه أن
يمنُّ عليهم، وقالوا: إنا كنا مَلَحنَا من نأى نسبه عنا لنظر
لنا وأنت أحق المكفولين، فخيرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
بين السبي والمال.
فقالوا: أخيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، فنختار أحسابنا، وقوله:
أنت أحق
المكفولين: أي أحق من كُفِلَ في صغره، وأرضع ورُبّي حتى نشأ،
قال اللَّه تعالى: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) الآية، أي:
يقوم بأمرها.
(1/473)
قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ
بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
الأم: باب ذبائح بني إسرائيل:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأنزل - عز وجل - في أهل الكتاب من
المشركين: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) إلى قوله:
(مُسْلِمُونَ)
الآية، وأمرنا بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يدِ وهم صاغرون، إن
لم يسلموا، وأنزل فيهم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ) .
فقيل - واللَّه أعلم -: أوزارهم وما منعوا بما أحدثوا قبل ما
شرع من
دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلم يبق خلق يعقل منذ بعث
اللَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، كتابي، ولا وثني.
ولا حي ذو روح، من جن ولا أنس بلغته دعوة محمد - صلى الله عليه
وسلم - إلا قامت عليه حجة الله - عزَّ وجلَّ باتباع دينه، وكان
مؤمناً باتباعه، وكافراً بترك اتباعه، ولزم كل امرئ
منهم آمن به، أو كفر، تحريم ما حرّم اللَّه - عز وجل - على
لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كان مباحاً قبله
(1/474)
في شيء من المِلل. (أو غير مباح) ، وإحلال
ما أحَل على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - كان حراماً في
شيء من الملل، أو غير حرام.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا
خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
الأم: باب اليمين مع الشاهد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من ادعى مالاً، فأقام عليه
شاهداً، أو ادعي
عليه مال، فكانت عليه يمين، ئظِرَ في قيمة المال، فإن كان
عشرين ديناراً فصاعداً، وكان الحكم بمكة: أحْلِف بين المقام
والبيت على ما يَدّعى، ويُدعى عليه، وإن كان بالمدينة حُلف على
منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) .
ومن كان ببلد غير مكة والمدينة، أخلِفَ على عشرين ديناراً، أو
على
العظيم من الدم والجراح، بعد العصر في مسجد ذلك البلد ويتلى
عليه:
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا عبد اللَّه بن المؤمِّل، عن
ابن أبي مليكة قال:
كتبت إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما من الطائف في جاريتين،
ضربت إحداهما
(1/475)
الأخرى، ولا شاهد عليهما، فكتب إليَّ أن
أحبسهما بعد العصر، ثم اقراً
عليهما: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) الآية، ففعلتُ.
فاعترفت.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وأخبرنا مطرف بن مازن (قاضي
اليمن) ، بإسناد
لا أعرفه، أن ابن الزبير أمر بأن يُحلف على المصحف.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ورأيت مطرفاً بصنعاء يُحلف على
المصحف.
وقال: يحلف الذميون في بيعتهم، وحيث يعظمون، وعلى التوراة
والإنجيل.
وما عظموا من كتبهم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والمسلمون البالغون، رجالهم
ونسائهم ومماليكهم
وأحرارهم سواء في الأَيمان يحلفون كما وصفنا، والمشركون من أهل
الذمة
والمستأمنون في الأيمان كما وصفنا.
السنن المأثورة: ما جاء في اليمين:
حدثنا المزني قال: حدثنا الشَّافِعِي رحمه اللَّه، عن سفيان بن
عيينه قال:
حدثنا جامع، وعبد الملك سمعا - أبا وائل يخبر، عن عبد اللَّه
بن مسعود - رضي الله عنه - قال:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلف على يمين
ليقتطع بها مال امرئ مسلم لَقِيَ الله وهو عليه غضبان" الحديث.
ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من كتاب
الله - عز وجل -: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) الآية.
(1/476)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78)
الأم: الحكم بين أهل الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو أوصى - الذمي - أن يكتب بثلثه
الإنجيل
والتوراة لِدَرْسٍ لم تجز الوصية؛ لأن الله - عزَّ وجلَّ قد
ذكر تبديلهم منها، فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ) .
وقال: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ)
قرأ الربيع الآية.
ولو أوصى (الذمي) أن يكتب به - أي بثلثه - كتُبَ طبٍّ فتكون
صدقة.
جازت له الوصية، ولو أوصى أن تكتب له كتب سحر لم يجز.
الرسالة: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعث - اللَّه نبيه - والناس صنفان:
أحدهما: أهل الكتاب: بدلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا
كذباً
صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق اللَّه الذي أنزل إليهم، فذكر
تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم. (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ
الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ا.
(1/477)
ثانيهما: وصنف كفروا بالله: فابتدعوا ما لم
يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم
حجارة وخشباً وصوراً استحسنوها، ونبذوا أسماء افتعلوها، ودعوها
آلهة
عبدوها، فإذا استحسنوا غير ماعبدوا منها، ألقوا ونصبوا بأيديهم
غيره فعبدوه، فأولئك العرب.
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من
حوت ودابة ونجم ونار وغيره.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (85)
الأم: المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن انتقل عن الشرك إلى إيمان، ثم
انتقل عن الإيمان
إلى الشرك من بالغي الرجال والنساء استتيب، فإنه تاب قُبِلَ
منه، وإن لم يتب قُتِل.
قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ) الآية.
وقال اللَّه - عز وجل -:
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ
مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) .
الأم (أيضاً) : كتاب الحج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينه، عن ابن أبي
نجيح، عن
عكرمة قال: لما نزلت: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية.
"قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال اللَّه تعالى لنبيه - صلى
الله عليه وسلم - فحجهم، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم
-
(1/478)
"حجُّوا" فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن
يحجوا، قال اللَّه جل ثناءه: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) .
قال عكرمة: من كفر من أهل الملل، فإن الله غني عن العالمين،
وما أشبه ما
قال عكرمة بما قال - واللَّه أعلم -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
مختصر المزني: باب عطية الرجل لولده:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد حمد اللَّه جل ثناؤه على إعطاء
المال والطعام في
وجوه الخير، وأمر بهما، وذكر عدة آيات في الإنفاق منها، قال
تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
الأم: باب ذبائح بني إسرائيل:
أخبرنا الربيع قال:
(1/479)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك
وتعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ الآية.
وقال عز ذكره: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي: يعني - والله تعالى أعلم - طيبات كانت أحِلت
لهم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
الأم: كتاب (الحج) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والآية التي فيها بيان فرض
الحج، على من
فُرضِ عليه، قال اللَّه جل ذكره: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ
كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينه، عن ابن أبي
نجيح، عن
عكرمة قال: لما نزلت: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الآية، قالت اليهود: فنحن
مسلمون، فقال اللَّه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -
فحجهم، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: حجوا"
فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا، قال الله عزَّ وجلَّ:
(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)
الآية.
(1/480)
قال عكرمة: من كفر من أهل الملل، فإن
اللَّه غني عن العالمين، وما أشبه ما
قال عكرمة بما قال - واللَّه أعلم -، لأن هذا كفر بفرض الحج،
وقد أنزله الله.
والكفر بآية من كتاب الله كفر.
أخبرنا مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، عن ابن جريج قال: قال
مجاهد في
قول اللَّه - عز وجل -: (وَمَنْ كَفَرَ) ، قال هو: ما إن حج لم
يره بزاً، وإن
جلس لم يره إثماً. كان سعيد بن سالم يذهب إلى أنه كفر بفرض
الحج.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن كفر بآية من كتاب الله كان
كافراً، وهذا إن شاء
الله كما قال مجاهد رحمه اللَّه، وما قال عكرمة فيه أوضح، وإن
كان هذا واضحاً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فعئم فرض الحج كل بالغ مستطيع إليه
سبيلاً.
الأم (أيضا) : باب (تفرى حع الصبي والمملوك) :
بعد أن ذكر قول عطاء، وفسئر معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما
في
حج المبي قبل بلوغه، أو المملوك قبل عتقة، هل يلزمه حجة
الإسلام بعد
البلوغ، أو بعد العتق؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذلك أنه - أي: ابن عباس رضي الله
عنهما -
وغيره من أهل الإسلام، لا يرون فرض الحج على أحد إلا مرة
واحدة؛ لأن
الله - عزَّ وجلَّ يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية، فذكره
مرة، ولم يردد ذكره مرة أخرى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مسلم، وسعيد، عن ابن جريج
أنه قال
لعطاء: أرأيت إن حج العبد تطوعاً يأذن له سيده بحج، لا أجر
نفسه، ولا حج به أهله يخدمهم؟
قال: سمعنا أنه إذا عُتِق حج لابدَّ.
(1/481)
أخبرنا مسلم، وسعيد، عن ابن جريج، عن ابن
طاووس، أن أباه كان
يقول: تقضى حجة الصغير عنه حتى يعقل، فإذا عقل وجبت عليه حجة
لابد
منها، والعبد كذلك أيضاً، قالا: أي مسلم وسعيد - وأخبرنا ابن
جريج، أن قولهم هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إذا عقل الصي: إذا احتلم - والله
أعلم -.
الأم (أيضاً) : باب (الاستطاعة بنفسه وغيره) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولما أمر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - الخثعمية بالحج عن أبيها.
دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قول الله: (مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية، على معنيين:
أحدهما: أن يستطيعه بنفسه وماله.
والآخر: أن يعجز عنه بنفسه بعارض: (كبر، أو سقم، أو فطرة
خِلقةِ، لا
يقدر معها على الثبوت على المركب) ، ويكون من يطيعه إذا أمره
بالحج عنه، إما بشيء يعطيه إياه وهو واجد له، واما بغير شيء
فيجب عليه أن يعطى إذا وجد، أو يأمر إن أطيع، وهذه إحدى
الاستطاعتين.
وجماع الطاعة التي توجب الحج وتفريعها اثنان:
أحدهما: أن يأمر فيُطَاع بلا مال.
(1/482)
والآخر: أن يجد مالاً يستأجر به من يطيعه،
فتكون إحدى الطاعتين.
ولو تحامل فحج أجزأت عنه، ورجوت أن يكون أعظم أجراً ممن يخفُّ
ذلك
عليه، ولما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة -
الخثعيمة - أن تحج عن أبيها إذ أسلم، وهو لا يستمسك على
الراحلة، فدل ذلك على أن عليه الفرض إذا كان مستطيعاً بغيره،
إذا كان في هذه الحال.
والميت أولى أن يجوز الحج عنه؛ لأنه في أكثر من معنى هذا الذي
لو تكلف
الحج بحال أجزأه، والميت لا يكون فيه تكلْف أبداً.
الأم (أيضاً) : باب (هل تجب العمرة وجوب الحج؟) :
بعد أن ذكر قول بعض المشرقيين: العمرة تطوع؛ لأن اللَّه - عز
وجل - يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية.
ولم يذكر في الموضع الذي بين فيه إيجاب الحج، إيجاب العمرة،
وألا لم نعلم أحداً من المسلمين أمر بقضاء العمرة عن ميت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت له: قد يحتمل قول اللَّه - عز
وجل -: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية.
أن يكون فرضها معاً، وفَرْضُه إذا كان في موضع واحد يثبت ثبوته
في مواضع كثيرة، - وضرب أمثلة من القرآن على ذلك -.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال بعض أصحابنا: العمرة سُنة لا
نعلم أحداً
أرخص في تركلها، وهذا القول يحتمل إيجابها، إن كان يريد أن
الآية تحتمل
(1/483)
إيجابها، وأن ابن عباس رضي اللَّه عنهما
ذهت إلى إيجابها، ولم يخالفه غيره من
الأئمة، ويحتمل تأكيدها، لا إيجابها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذي هو أشبه بظاهر القرآن، وأولى
بأهل العلم
عندي - وأسال اللَّه التوفيق - أن تكون العمرة واجبة، فإن
اللَّه - عز وجل - قرنها مع
الحج فقال: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)
وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر قبل أن يحج، وأن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنَّ إحرامها والخروج منها،
بطواف وحِلاَق وميقات، وفي الحج زيادة عمل
على العمرة، فظاهر القرآن أولى إذا لم يكن دلالة على أنه باطن
دون ظاهر، ومع ذلك قول ابن عباس رضى اللَّه عنهما وغيره.
أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس
رضي
الله عنهما أنه قال: والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب
اللَّه: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: "ليس من
خلق
الله تعالى أحد إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان"
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: قد قال غيره من مكيينا، وهو قول
الأكثر منهم.
الأم (أيضاً) : باب (دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل -:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا) .
الآية، فكان ذلك دلالة كتاب اللَّه - عز وجل - فينا وفي الأمم،
على أن الناس مندوبون إلى إتيان البيت بإحرام.
(1/484)
الأم (أيضاً) ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)
الآية، فذكر الحج والعمرة معاً في الأمر، وأفرد الحج في الفرض.
فلم يقل أكثر أهل العلم العمرة على الحتم، وإن كُنا نحبُّ ألا
يدعها مسلم.
وأشباه هذا في كتاب اللَّه - عز وجل - كثير.
الرسالة: جمل الفرائض:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)
الآية، أحكم اللَّه فرضه في كتابه في الصلاة والزكاة والحج،
وبين كيف فَرَضَه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
الرسالة (أيضاً) : في الحج:
وفرض اللَّه الحج على من يجد السبيل - قال اللَّه تعالى:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية -، فذكر عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أن السبيل: الزاد والمركب، وأخبر رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بموافيت الحج، وكيف التلبية فيه؛ وما
(1/485)
سَنَّ؟ وما يتقي المحرم من لبس الثياب
والطيب، وأعمال الحج سواها؛ من عرفة والمزدلفة والرمي
والحِلاَق والطواف، وما سوى ذلك.
فلو أن امرا لم يعلم لرسول الله سنة مع كتاب الله إلا ما وصفنا
مما سن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه معنى ما أنزله الله
جملة، وأنه إنما استدرك ما وصفت من فرض الله الأعمال، وما
يحرّم وما يحل، ويُدخل به فيه ويُخرج منه، ومواقيته.
وما سُكِت عنه سوى ذلك من أعماله - قامت الحجة عليه بأن سنة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامت هذا المقام مع فرض
الله في كتابه مرة أو أكثر: قامت كذلك أبداً.
واستُدِل أنه لا تخالف له سنة أبدا كتاب الله وأن سنته وإن لم
يكن فيها نص كتاب-: لازمة بما وصفت من هذا مع ما ذكرت سواه مما
فرض الله من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ووجب عليه أن يعلم أن الله لم يجعل هذا لخلق غير رسوله صلى
الله عليه وسلم.
وأن يجعل قول كل أحد وفعله أبدا: تبعا لكتاب الله ثم سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
وأن يعلم أن عالما إن روي عنه قول يخالف فيه شيئا
سن فيه رسول الله سنة -: لو علم سنة رسول الله لم يخالفها
وانتقل عن وقوله إلى سنة النبي إن شاء الله وإن لم يفعل كان
غير موسع له.
فكيف والحجج في مثل هذا لله قائمة على خلقه بما افترض من طاعة
النبي صلى الله عليه وسلم وأبان من موضعه الذي وضعه به من وحيه
ودينه وأهل دينه (1) .
اختلاف الحديث: خطبة الكتاب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الق تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)
الآية، قد، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مواقيت الحج
وما يدخل به فيه، وما يخرج به منه، وما يُعمل فيه بين الدخول
والخروج.
__________
(1) يستحسن ذكر تعليق المحقق أحمد محمد شاكر في الهامش على
الفقرات بقوله: هذه الفقرات العالية الرائعة (536 - 541) في
نصرة السنة، وتعليم العلماء وجوب اتباعها، مما يكتب بذوب
التبر، لا بماء الحبر رحم الله الشَّافِعِي ورضي عنه.
(1/486)
اختلاف الحديث (أيضاً) : باب (خروج النساء
إلى المساجد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لا يجوز له (أي: للزوج) أن كلنعها
(أي: امرأته)
مسجد الله الحرام لفريضة الحج، وله أن كلنعها منه تطوعاً، ومن
المساجد غيره.
قال (أي: المحاور) : فما دلَّ على ما قلتَ؟
قلتُ: قال الله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية، وروي عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "السبيل:
الزاد والمركب". فإذا كانت المرأة ممن يجد مركباً وزاداً،
وتطيق السفر للحج، فهي ممن عليه فرض الحج، ولا يحلُّ أن يمنع
فريضة الحج، كما لا تمنع فريضة الصلاة والصيام وغيرهما من
الفرائض،. . . وإذا وجدت نسوة ثقات حجت معهن، وأجبرتُ وليها
على تركها، والحج مع نسوة ثقات، إذا كانت طريقها آمنة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
الرسالة: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال سبحانه في جماعتهم -
أي: الكفار.
ومن كان على شاكلتهم - يذكرهم من نعمه، ويخبرهم ضلالتهم عامة،
وَمَنهُ على من آمن منهم: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) الآية.
(1/487)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فكانوا
قبل إنقاذه إياهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أهل كفر في
تفرقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور، الكفر بالله، وابتداع
ما لم يأذن به اللَّه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، لا
إله غيره، وسبحانه وبحمده، رب كل شيء وخالقه.
من حيَّ منهم فكما وصف حاله حياً: عاملاً قائلا بسخط ربه،
مزداداً من
معصيته، ومن مات فكما وصف قوله عمله: صار إلى عذابه.
فلما بلغ الكتاب أجله، فحق قضاءُ الله بإظهار دينه الذي اصطفى،
بعد
استعلاء معصيته التي لم يرضَ - فتح أبواب سماواته برحمته، كما
لم يزل يجري - في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية
- قضاؤه، فإنه تبارك وتعالى يقول:
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) .
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
الأم: باب (حكاية قول من رد خبر الخاصة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قلت: الاختلاف وجهان:
1 - فما كان لله فيه نص حكم، أو لرسوله سنة، أو للمسلمين فيه
إجماع، لم يسع أحداً علم من هذا واحداً أن يخالفه.
(1/488)
2 - وما لم يكن فيه من هذا واحد، كان لأهل
العلم الاجتهاد فيه بطلب
الشبهة بأحد هذه الوجوه الثلاثة، فإذا اجتهد من له أن يجتهد،
وسِعهُ أن يقول بما وجد الدلالة عليه، بأن يكون في معنى كتاب،
أو سنة، أو إجماع، فإن ورد أمر مشتبه يحتمل حكمين مختلفين،
فاجتهد فخالف اجتهاده اجتهاد غيره، وَسِعَه أن يقول بشيء،
وغيره بخلافه، وهذا قليل إذا نظر فيه.
قال (أي: المحاور) فما حجتك فيما قلت؟
قلتُ له: الاستدلال بالكتاب، والسنة، والإجماع.
قال: فاذكر - الفرق بين حكم الاختلاف.
من الكتاب: قلت له: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) الآية، فإنما رأيت اللَّه ذم
الاختلاف في الموضع الذي أقام عليهم الحجة، ولم يأذن لهم فيه.
قال (أي: المحاور) : فأين السنة التي دلت على سعة الاختلاف؟
قلت: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد اللَّه بن
الهاد، عن محمد
ابن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العا ع،
عن
عمرو بن العاص لؤحه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب فله أجران، وإذا حكم
فاجتهد فأخطأ فله أجر" الحديث.
أما الإجماع: قلت: ما وصفنا من أن الحكام والمفتين إلى اليوم،
قد اختلفوا
في بعض ما حكموا فيه وأفتوا، وهم لا يحكمون ويفتون إلا بما
يسعهم
(1/489)
عندهم، وهذا عندك - الخطاب للمحاور -
إجماع، فكيف يكون إجماعاً إذا كان موجوداً في أفعالهم
الاختلاف؟ - واللَّه أعلم -
الرسالة: باب (الاختلاف) :
قال - المحاور للشافعي -: فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً
مختلفين في
بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت له: الاختلاف من وجهين:
أحدهما محرّم.
ولا أقول ذلك في الآخر.
قال: فما الاختلاف المحرَّمُ؟
قلتُ: كل ما أقام اللَّه به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه
- صلى الله عليه وسلم - منصوصاً بيناً، لم يحل الاختلاف فيه
لمن علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل وُيدرك قياساً، فذهب
المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه
فيه غيره، لم أقل إنه يُضيَّق عليه ضِيقَ الخلاف في المنصوص.
قال: فهل في هذا حجة تبين فرقك بين الاختلافين؟
قلت: قال اللَّه في ذم التفرق: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَةُ (4) .
وقال جل ثناؤه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)
الآية، فذم الاختلاف فيما جاءتهم به
البينات، فأما ما كُلفوا فيه الاجتهاد فقد مثلته لك بالقبلة
والشهادة وغيرها.
قال: فمثل لي بعض ما افترق عليه من رُوي قوله من السلف، مما
لله فيه
نصُّ حكم يحتمل التأويل، فهل يوجد على الصواب فيه دلالة؟
قلت: قل ما اختلفوا فيه إلا وَجَدنا فيه عندنا دلالة من كتاب
اللَّه، أو سنة
رسوله، أو قياساً عليهما، أو على واحد منهما.
(1/490)
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)
الأم: كتاب (الجزية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال لأمته: (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)
الآية.
ففضيلتهم بكينونتهم من أمته دون أمم الأنبياء قبله.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى
عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي
اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
الرسالة: الحجة في تثبيت خبر الواحد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعد أن ذكر مجموعة من الآيات في
إرسال الرسل -
وقال سبحانه -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الآية.
(1/491)
فأقام جل ثناؤه - حجته على خلقه في
أنبيائه، في الأعلام التي باينوا بها
خلقه سواهم، وكانت الحجة بها ثابتة على من شاهد أمور الأنبياء،
ودلائلهم
التي باينوا بها غيرهم، ومن بعدهم - وكان الواحد في ذلك وأكثر
منه سواء - تقوم الحجة بالواحد منهم قيامها بالأكثر.
أحكام القرآن: فصل في تثبيت خبر الواحد من الكتاب:
واحتج الشَّافِعِي بالآيات التي وردت في القرآن، في فرض اللَّه
طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعده إلى يوم القيامة
واحداً واحداً، في أنَّ على كل واحد طاعته، ولم يكن أحد غاب عن
رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له يعلم أمر رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وشرَّف وكرَّم، إلا بالخبر عنه - وبسط
الكلام فيه -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي
صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
الرسالة: باب (كيف البيان؟) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومنه - أي من البيان - ما فرض
اللَّه على خلقه
الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى
طاعتهم في غيره مما فرض عليهم، قال سبحانه: (وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي
قُلُوبِكُمْ) الآية.
(1/492)
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
الأم: ما جاء في نكاح الأباء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى لنبيه - صلى الله
عليه وسلم -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)
ولم يجعل اللَّه لهم معه - صلى الله عليه وسلم - أمراً، إنما
فرض عليهم طاعته، ولكن في المشاورة استطابة أنفسهم، وأن يستنّ
بها من ليس له على الناس ما لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم
-.
والاستدلال بأن يأتي من بعض المشاوَرِين بالخير قد غاب عن
المستشير، وما
أشبه هذا.
الأم (أيضاً) : باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يُشركِ الأبَ أحد في الولاية،
بانفراده بالولاية
بما وجب له من اسم الأبوة مطلقاً، له دون غيره.
كما أوجب للأم الوالدة اسم الأم مطلقاً، لها دون غيرها.
فإن قال قائل: فإنما يؤمر بالاستئمار من له أمر في نفسه، يرد
عنه إن
خُولف أمره، وسأل الدلالة على ما قلنا من أنه: قد يؤمر
بالاستئمار من لا يحلُّ، محلَّ أن يَرِد عنه خلاف ما أمر به،
فالدلالة عليه أن الله - عزَّ وجلَّ يقول لنبيه - صلى الله
عليه وسلم -:
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) الآية، فإنما افترض عليهم
طاعته، فيما أحبّوا وكرهوا، وإنما أُمِر بمشاورتهم - واللَّه
أعلم - لجمع الألفة،
(1/493)
وأن يستن بالاستشارة بعده من ليس له من
الأمر ما له، وعلى أن أعظم
لرغبتهم وسرورهم أن يشاوروا، لا على أن لأحدٍ من الآدميين مع
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يرده عنه؛ إذا عزم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمر به، والنهي عنه.
الأم (أيضاً) : الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قوله - عز وجل -: (وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ) الآية، على معنى استطابة أنفس المستشارين، أو
المستشار منهم، والرضا بالصلح على ذلك ووضع الحرب بذلك السبب،
لا أن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة إلى مشورة أحد،
والله - عز وجل - يؤيده بنصره، بل لله ولرسوله المنُّ والطول
على جميع الخلق، وبجميع الخلق
الحاجة إلى اللَّه - عز وجل -.
الأم (أيضاً) : باب (المشاووة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) الآية.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري قال: قال
أبو هريرة
- رضي الله عنه -: مارأيت أحداً كثر مشاورة لأصحابه من رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال اللَّه - عز وجل -:
(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الحسن رضي اللَّه عنه: إن كان
النبي - صلى الله عليه وسلم - لغنياً عن مشاورتهم، ولكنه:
سبحانه وتعالى - أراد أن يستن بذلك الحكام بعده، إذا
(1/494)
نزل بالحاكم الأمر يحتمل وجوهاً، أو مشكل
انبغى له أن يشاور، ولا ينبغي
له أن يشاور جاهلاً؛ لأنه لا معنى لمشاورته، ولا عالماً غير
أمين، فإنه ربما أضل من يشاوره، ولكنه يشاور من جَمَعَ العلم
والأمانة، وفي المشاورة رضا الخصم، والحجة عليه.
الأم (أيضاً) : باب (النكاح) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إنكاح الأب خاصة جائز على البكر
(بالغة، وغير
بالغة) ، والدلالة على ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها"
الحديث.
ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما فجعل الأيم
أحق بنفسها، وأمر في هذه بالمؤامرة، والمؤامرة قد تكون على
استطابة النفس؛ لأنه رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال:
"وأمروا النساء في بناتهن) الحديث.
ولقول اللَّه - عز وجل -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)
الآية.
ولو كان الأمر فيهن واحداً لقال: الأيم والبكر أحق بنفسيهما.
مختصر المزني: كتاب (أدب القاضي) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: - وعلى القاضي أن - يشاور، قال
اللَّه - عز وجل (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)
وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) ،
(1/495)
قال الحسن - رضي الله عنه -: إن كان النبي
- صلى الله عليه وسلم - عن مشاورتهم لغنياً، ولكنه أراد أن
يستن بذلك الحكام بعده، ولا يشاور إذ نزل به المشكل إلا
عالماً، بالكتاب والسنة، والآثار، وأقاويل الناس، والقياس، وإن
العرب، ولا يقبل وإن كان أعلم منه
حتى يعلم كعلمه أن ذلك لازم له، من حيث لم تختلف الرواية فيه،
أو بدلالة
عليه، أو أنه لا يحتمل وجهاً أظهر منه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
الرسالة: باب (ما نزل عاماً دلت السنة خاصة على أنه يراد به
الخاص) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال المئه تعالى: (لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الآية.
وذكر غيرها من الآيات التي وردت في معناها
ثم قال: فذكر الله الكتاب: وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من
أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -.
وهذا ما يشبه ما قال - والله أعلم -؛ لأن القرآن ذُكِرَ
وأتبِعَثهُ الحكمة.
ودكَرَ الله مَنَّهُ على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم
يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، لما وصفنا، من أن الله جعل الإيمان
برسوله مقروناً بالإيمان به.
وسنة رسوله مبينة عن الله معنى ما أراد، دليلاً على خاصهِ
وعامهِ.
ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من
خَلقه غير رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(1/496)
أحكام القرآن: فصل في فرض الله - عزَّ
وجلَّ في كتابه واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: - بعد أن نقل ما ورد في الرسالة
الفقرة السابقة حرفياً - قال البيهقي رحمه اللَّه: وأن الله
افترض طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحتم على الناس
اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرض، إلا لكتاب اللَّه، ثم
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مبينة عن اللَّه ما أراد دليلاً على خاصِّهِ وعامِّهِ. . . -
ثم تابع بقية فقرة الرسالة -.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ:
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) :
. . . أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن عبد الجبار السكّري
(ببغداد) .
أنبأنا أبو بكر الشَّافِعِي، حدثنا جعفر بن محمد بن الأزهر،
حدثنا الغلابي، حدثنا يحيى بن معين، عن هشام بن يوسف، عن عبد
اللَّه بن سليمان النوفلي، عن الزهري، عن عُروة، عن عائشة رضي
اللَّه عنها: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الآية.
قالت - أي عائشة رضي اللَّه عنها -:
هذه للعرب خاصة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
(173)
الأم: سنَّ تفريق القَسْم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قول اللَّه - عز وجل -: (الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ) الآية، فنحن وأنت تعلم،
أن لم يقل ذلك إلا بعض الناس، والذين قالوه أربعة نفر، وأنْ لم
يجمع لهم الناس كلهم، إنما جمعت لهم عصابة انصرفت عنهم من
أُحُدٍ.
(1/497)
الرسالة: باب (ما نزل من الكتاب عام الظاهر
يراد به كله الخاص) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تبارك وتعالى:
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) .
فإذ كان من مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناساً غيرَ من
جمع لهم
من الناس، وكان المخبرون لهم ناساً غير من جُمع لهم، وغير من
معه ممن جمع
عليه معه، وكان الجامعون لهم ناساً فالدلالة بينه مما وصفت، من
أنه إنما جمع لهم بعض الناس دون بعض.
والعلم يحيط أن لم يجمع لهم الناس كلهم، ولم يخبرهم الناس
كلهم، ولم
يكونوا هم الناسَ كلهم.
ولكنه لما كان اسم (الناس) يقع على ثلاثة نفر وعلى جميع الناس.
وعلى من بين جميعهم وثلاثة منهم - كان صحيحاً في لسان العرب أن
يقال:
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) ، وإنما الذين لْال لهم ذلك
أربعة نفر، (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) يعنون
المنصرفين عن أحُد.
وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، والجامعون منهم غير المجموع
لهم.
والمخبرون للمجموع لهم غير الطائفتين، والأكثر من الناس في
بلدانهم غير
الجامعين، ولا المجموع لهم، ولا المخبرين.
(1/498)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما جاء في قدوم
الشَّافِعِي رضي الله عنه العراق أيام
المأمون للتدريس والتعليم وانتفاع المسلمين بعلمه) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه (محمد بن عبد الله) قال: أخبرني محمد بن
يوسف
الدَقيقي قال: حدثنا علي بن الحسين بن عثمان الورَّاق، قال:
حدثنا محمد بن علي العمري، قال: حدثنا أبو بكر بن الجُنيد،
قال: سمعت أبا ثور (إبراهيم بن خالد) يقول: لولا أن اللَّه -
عز وجل -، مَنَّ عليَّ بالشَّافِعِي للقيت اللَّه وأنا ضال. .
. ثم يقول رحمه اللَّه: قلت - للشافعي - رحمك الله، وما الخاص
الذي يريد - اللَّه - به العام؟
وما العام الذي يريد به الخاص؟ -
وكنا لا نعرف الخاص من العام، ولا العام من الخاص -
فقال ببيانه قوله جل وعلا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ) الآية.
إنما أراد به أبا سفيان.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ
خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا
بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (180)
الأم: كتاب (الزكاة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأبان اللَّه - عز وجل - أنه فرض
عليهم أن يعبدوه مخلصين له الدين، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا
الزكاة.
(1/499)
وقال اللَّه - عز وجل -: (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ) الآية.
وقال عز ذكره: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ
شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) الآية.
فأبان اللَّه - عز وجل - في هاتين الآيتين، فرض الزكاة؛ لأنه
إنما عاقب
على منع ما أوجب، وأبان أن في الذهب والفضة: الزكاة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قول اللَّه - عز وجل -: (وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية.
يعني - واللَّه تعالى أعلم - في سبيله الذي فرض من زكاة
وغيرها.
وأما دفن المال فضَربٌ من إحرازه، وإذا حل إحرازه بشيء، حل
بالدفن
وغيره، وقد جاءت السنة بما يدل على ذلك، ثم لا أعلم فيه
مخالفاً، ثم الآثار.
أخبرنا الربيع بن سليمان، قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان قال: أخبرنا جامع بن أبي
راشد.
وعبد الملك بن أعين، سمعا أبا وائل يخبر، عن عبد اللَّه بن
مسعود رضي اللَّه عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول:
"ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا مُثِّل له يوم القيامة
شجاعاً أقرع، يفرُّ منه، وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه "
الحديث.
ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
الحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا مالك، عن عبد الله
بن دينار، عن أبي
صالح السمان، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه كان يقول: "من
كان له
(1/500)
مال لم يود زكاته، مُثِّل له يوم القيامة
شجاعاً أقرع، له زبيبنان، يطلبه حتى يمكنه، يقول: أنا كنزك"
الحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع،
عن ابن
عمر رضي اللَّه عنهما قال: "كل مال يؤدى زكاته، فليس بكنز، وإن
كان
مدفوناً، وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز، وإن لم يكن مدفوناً"
الحديث.
الأم (أيضاً) : باب (غلول الصدقة) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: فرض اللَّه - عز وجل -
الصدقات، وكان حبسها حراماً، ثم أكد تحريم حبسها فقال عز وعلا:
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية، ثم ذكر ما ورد في الفقرة
سابقاً.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن دينار،
قال: سمعت
عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما وهو يُسأل عن الكنز؟ فقال:
(هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة) الحديث.
(1/501)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذا كما قال
ابن عمر - إن شاء اللَّه تعالى -.
لأنهم إنما عُذِّبوا على منع الحق، فأما على دفن أموالهم
وحبسها فذلك غير محرم عليهم، وكذلك إحرازها، والدفن ضرب من
الإحراز، ولولا إباحة حبسها ما وجبت فيها الزكاة في حول، لأنها
لا تجب حتى تحبس حولاً.
(1/502)
|