تفسير الإمام الشافعي

قال الله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
الأم: كتاب الحيض:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأبان - عز وجل - أنها حائض، غير طاهر، وأمر ألا تقرب حائض حتى تطهر، ولا إذا طهرت حتى تتطهر بالماء، وتكون ممن تحل لها الصلاة، ولا يحل لامرئ كانت امرأته حائضاً أن يجامعها حتى تطهر، فإن اللَّه تعالى جعل التيمم طهارة إذا لم يوجد الماء، أو كان التيمم مريضاً، ويحل لها الصلاة بغسل إن وجدت ماء، أو تيمم إذا لم تجده.

(1/332)


الأم (أيضاً) : باب (ترك الحائض الصلاة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية، فكان بيناً في قول اللَّه - عز وجل -: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بأنهن حِيَّض في غير حال الطهارة، وقضى على الجنب ألا يقرب الصلاة حتى يغتسل، وكان بيناً أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل، وأن لا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب الحيض، ثم الاغتسال لقول اللَّه - عز وجل -: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)
وذلك بانقضاء الحيض، (فَإِذَا تَطَهرْنَ) يعني بالغسل، فإن السنة تدل على أن
طهارة الحائض بالغسل، ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيان ما دلَّ عليه كتاب اللَّه تعالى من ألا تصلي الحائض - حتى تطهر -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، فدل على ألا تصلي حائضاً، لأنها غير طاهر ما كان الحَيض قائماً.
وكذلك قال اللَّه - عز وجل -: (حَتى يَطهُرْنَ) .
الأم (أيضاً) : باب (المستحاضة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يُذكَر في حديث عائشة الغسل عند تولي
الحيضة، وذكِرَ غَسْلُ الدم، فأخذنا بإثباث الغسل من قول اللَّه - عز وجل - ق: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية، فقيل: - واللَّه تعالى أعلم - يطهرن: من الحيض، فإذا تطهرن: بالماء.

(1/333)


ثم من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الطهارة بالماء الغسل.
وفي حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها فأمرها في الحيض أن تغتسل إذا رأت أنها طَهُرَت، ثم أمرها - في حديث حمنة - بالصلاة. فدل ذلك على أن لزوجها أن يصيبها، لأن الله تبارك ؤتعالى أمر باعتزالها حائضاً، وأذن في إتيانها "طاهراً.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: أخبرنا سفيان قال: أخبرني الزهري.
عن عمرة، عن عائشة، أن أم حبيبة (بنت جحش رضي الله عنها) استحيضت فكانت لا تصلي سبع سنين فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّما هو عِرْق وليست بالحيضة"، فأمرها رسول الله أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة
وتجلس في المِرْكن فيعلوه الدم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد روى غير الزهري هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل لكل صلاة ولكن رواه عن عمرة بهذا الإسناد والسياق.
والزهري أحفظ منه، وقد روى فيه شيئاً، يدل على أن الحديث غلط، قال: تترك الصلاة قدر أقرائها، وعائشة تقول الأقراء: الأطهار، قال: أفرأيت لو كانت تثبت الروايتان فإلى أيهما تذهب؟
قلت: إلى حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها
وغيره مما أعرف فيه بالغسل عند انقطاع الدم، ولو لم يؤمرن به عند كل صلاة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال فهل من دليل غير الخبر؟
قيل:
نعم، قال - عز وجل -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) إلى قوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الطهر: هو الغسل.

(1/334)


الأم (أيضاً) : باب - (الخلاف في المستحاضة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال لي قائل: تصلي المستحاضة، ولا يأتيها
ْزوجها، وزعم لي بعض من يذهب مذهبه، أن حجته فيه أن اللَّه تبارك وتعالى
قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) الآية، وأنه قال في الأذى أنه
أمر باجتنابها فيه، فأثم فيها، فلا يحل له إصابتها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقيل له: حكم اللَّه - عز وجل - في أذى المحيض أن تعتزل المرأة، ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن حكم اللَّه - عز وجل - أن الحائض لا تصلي، فدل حكم اللَّه وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن الوقت الذي أمر الزوج باجتناب
المرأة فيه للمحيض، الوقت الذي أمرت المرأة فيه إذا انقضى المحيض بالصلاة.
قال: نعم. فقيل له: فالحائض لا تطهر وإن اغتسلت، ولا يحل لها أن تصلى، ولا تمس مصحفاً، قال: نعم. فقيل له: حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن حكم أيام الاستحاضة حكم الطهر، وقد أباح اللَّه للزوج الإصابة إذا تطهرت الحائض.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - قال في الاستحاضة: إنما ذلك عِرق وليس بالحيضة. . ..
الأم (أيضاً) : باب (إتيان النساء حِيَّضاً) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) الآية.
قال: فزعم بعض أهل العلم بالقرآن، أن قول اللَّه - عز وجل -: (حَتَّى يَطْهُرْنَهُ) حتى يَرَيْن الطهر (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أن تجتنبوهن.

(1/335)


قال وما أشبه ما قال - والله تعالى أعلم - بما قال، ويشبه أن يكون تحريم
الله - عز وجل - إتيان النساء في المحيض؛ لأذى الحيض، وإباحته إتيانهن إذا طهرن، وتطهُّرن بالماء من الحيض، على أن الإتيان المباح في الفرج نفسه كالدلالة على أن إتيان النساء في أدبارهن محرم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وبين في الآية: إنما نهى عن إتيان النساء في
المحيض، ومعروف أن الإتيان، الإتيان في الفرج؛ لأن التلذذ بغير الفرج في شيء من الجسد ليس إتياناً.
الأم (أيضاً) : باب (في إتيان الحائض) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) الآية، يحتمل معنين:
أحدهما: فاعتزلوهن في غير الجماع.
ثانيهما: لا تقربوهن في الجماع.
فيكون اعتزالهن من وجهين؛ والجماع أظهر معانيه لأمر اللَّه بالاعتزال ثم
قال: (وَلَا تَقرَبُوهُن) الآية، فأشبه أن يكون أمراً بيناً وبهذا نقول لأنه قد
يحتمل أن يكون أمر باعتزالهن، ويعني أن اعتزالهن: الاعتزال في الجماع.
الأم (أيضاً) : باب (طهر الحائض) :
أخبرنا الربيع قال:

(1/336)


أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا انقطع عن الحائض الدم، لم يقربها زوجها
حتى تطهر للصلاة، فإن كانت واجدة للماء فحتى تغتسل، وإن كانت مسافرة
غير واجدة للماء فحتى تتيمم لقول الله - عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)
الآية، أي حتى ينقطع الدم ويرين الطهر، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني - واللَّه تعالى
أعلم -: الطهارة التي تحل بها الصلاة لها، ولو أتى رجل امرأته حائضاً، أو بعد تولية الدم، ولم تغتسل، فليستغفر اللَّه ولا يعد حتى تطهر، وتحل لها الصلاة، وقد روي فيه شيء لو كان ثابتاً أخذنا به، ولكنه لا يثبت مثله.
الأم (أيضاً) : باب (ما ينال من الحائض) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخيرنا مالك، عن نافع، أن ابن عمر رضي
الله عنهما أرسل إلى عائشة رضي الله عنها يسألها: "هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؛ فقالت: لتشدد إزارها على أسفلها ثم يياشرها إن شاء" الحديث.
الأم (أيضاً) : باب (نكاح حرائر أهل الكتاب) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - وبينَ في نكاح الكتابية - وله جبرها على
الغسل من الحيضة، ولا يكون له إصابتها إذا طهرت من الحيض حتى تغتسل؛ لأن الله - عزَّ وجلَّ يقول (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فقال بعض أهل العلم بالقرآن: حتى ترى
الطهر قال: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني: بالماء إلا أن تكون في سفر لا تجد الماء فتتيمم، فإذا صارت ممن تحل لها الصلاة بالطهر حلت له.

(1/337)


الأم (أيضاً) : النصرانية تحت المسلم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كانت النصرانية عند المسلم فطهرت من
الحيضة، جُبرت على الغسل منها، فإن امتنعت أُدِّبت حتى تفعل؛ لأنها تمنعه
الجماع في الوقت الذي يحل له، وقد قال اللَّه - عز وجل -: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)
الآية، فزعم بعض أهل التفسير أنه حتى يطهرن من الحيض قال اللَّه تعالى 1:
(فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية.
الرسالة: باب (فرض الصلاة الذى دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه
بالعذر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: افثرض اللَّه الطهارة على المصلي، في الوضوء
والغسل من الجنابة، فلم تكن لغير طاهر صلاة.
ولما ذكر اللَّه المحيض فأمر باعتزال النساء فيه حتى يطهرن، فإذا تطهرن أتِينَ.
استدللنا على أن تطهرهن بالماء بعد زوال المحيض، لأن الماء موجود في الحالات كلها في الحضر، فلا يكون للحائض طهارة بالماء، لأن اللَّه إنما ذكر التطهر بعد أن يَطْهُرن، ويطَهرُهُن: زوال المحيض في كتاب اللَّه ثم سنة رسوله.

(1/338)


ْأخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه
عنها: وذكرت إحرامها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنها حاضت، فأمرها أن ئقضي ما يقضي الحاج "غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" الحديث.
أحكام القرآن: فصل فيما يؤثر عن الشَّافِعِي من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات:
وفيما أنباني أبو عبد اللَّه (إجازة) عن الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) الآية.
فأبان: أنها حائض غير طاهر. وأمرنا: أن إلا نقرب حائضاً حتى تطهر، ولا
إذا طهرت حتى تتطهر بالماء، وتكون ممن تحل لها الصلاة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال بعض أهل العلم بالقرآن: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) الآية، أن تعتزلوهن يعني: في مواضع الحيض.
وكانت الآية محتملة لما قال.
ومحتملة: أن اعتزالهن: اعتزال جميع أبدانهن، ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على اعتزال ما تحت الإزار منها، وإباحة ما فوقها - أي: ما فوق الإزار -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكان مبيناً في قول اللَّه - عز وجل -:
(حَتَّى يَطْهُرْنَ)
أنهن حُيض في غير حال الطهارة وقضى اللَّه على الجنب: أن لا يقرب الصلاة

(1/339)


حتى يغتسل، فكان مبيناً: أن لا مدة لطهارة الجنب إلا الغسل، ولا مدة لطهارة الحائض إلا ذهاب الحيض، ثم الغسل، لقول اللَّه - عز وجل -: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، وذلك انقضاء الحيض، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يعني: بالغسل، لأن السنة دلت على أن طهارة
الحائض: الغسل، ودلت على بيان ما دلَّ عليه كتاب اللَّه: من ألَّا تصلي الحائض.
فذكر حديث عائشة رضي اللَّه عنها ثم قال: وأقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي اللَّه عنها: "أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ". الحديث، يدل على ألَّا تصلي حائضاً؛ لأنها غير طاهر ما كان الحيض قائماً، ولذلك قال اللَّه - عز وجل: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) .
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
الأم: باب (إتيان النساء في أدبارهن) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)) الآية، قال: وبيِّن أن موضع الحرث موضع الولد، وأن اللَّه تعالى أباح الإتيان فيه إلا في وقت المحيض.
و (أَنَّى شِئْتُمْ) : من أين شئتم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإباحة الإتيان في موضع الحرث، يشبه أن
يكون تحريم إتيان في غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القُبُل محرَّم بدلالة الكتاب ثم السنة.
وذكر حديث جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن هذه الآية: " أمن دبرها في قبلها فنعم، أم من دبرها في دبرها فلا، إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن" الحديث.

(1/340)


الأم (أيضاً) : باب (إتيان النساء في أدبارهن) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله عزَّ وجلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الآية، قال: احتملت الآية معنيين:
أحدهما: أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها، لأن (أَنَّى شِئْتُمْ) يبين أين
شئتم لا محظور منها، كما لا محظور من الحرث.
ثانيهما: واحتملت أن الحرث إنما يراد به النبات، وموضع الحرث الذي
يطلب به الولد، الفرج دون ما سواه، لا سبيل لطلب الولد غيره. ..
ثم ختم الباب بقوله - أي الشَّافِعِي -: فلست أرَخِّصُ فيه بل أنهى عنه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
مختصر المزنى: باب لغو اليمين من هذا، ومن اختلاف مالك والشافعى
رحمهما الله:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه.
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لغو اليمين قول الإنسان لا والله، وبلى والله" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واللغو في لسان العرب: الكلام غير المعقود عليه.
وجماع اللغو: هو الخطأ واللغو، كما قالت عائشة رضي اللَّه عنها - واللَّه أعلم -.

(1/341)


وذلك إذا كان على اللجاج والغضب والعجلة، وعقد اليمين أن يثبتها
على الشيء بعينه.
مختصر المزني (أيضاً) : من كتاب الكفارات والنذور والأيمان:
أخبرنا سفيان، حدثنا عمرو، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها، وهي معتكفة في ثَبير فسألناها عن قول الله عزَّ وجلَّ:
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) الآية، قالت: " هو لا والله، وبلى والله ".
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي
المهلب، عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
الأم: الخلاف في طلاق المختلعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله عزَّ وجلَّ: (فخالفنا بعض الناس في
المختلعة، فقال: إذا طُلِّقت في العدة لحقها الطلاق، فسألته هل يروي في قوله

(1/342)


خبراً؛ فذكر حديثاً لا تقوم بمثله حجة عندنا ولا عنده.
فقلت: هذا عندنا وعندك غير ثابت.
قال: فقد قال به بعض التابعين.
فقلت له: وقول بعض التابعين لا يقوم به حجة لو لم يخالفهم غيرهم.
قال فما حجتك في أن الطلاق لا يلزمها؟
قلت: حجتي فيه من القرآن والأثر والإجماع، على ما يدل على أن الطلاق
لا يلزمها، قال: وأين الحجة من القرآن؟
قلت: قال اللَّه تبارك وتعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) الآية.
وذكر منها أربع آيات أخرى -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ألا إن أحكام الله تبارك وتعالى في هذه الآيات
الخمس تدل على أنها ليست بزوجة؛ قال: نعم. ..
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وابن
الزبير رضي اللَّه عنهما أنهما قالا في المختلعة يطلقها زوجها، قالا: لا يلزمها
طلاق، لأنه طلَّق ما لا يملك. . . فكيف يطلق غير امرأته؟!
الأم (أيضاً) : الإيلاء واختلاف الزوجين في الإصابة:
أخبرنا الربيع بن سليمان، قال:

(1/343)


أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي قال: قال الله تبارك وتعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . الآيتان.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان
ابن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يقول بوقف المُوْلِي.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي
الله عنهما أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته، لم يقع عليه طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإمُّا أن يطلق، وإما أن يفيء.
الأم (أيضاً) : الظهَار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا تظاهر من أمته - أم ولد كانت، أو غير
أم ولد - لم يلزمه الظهار؛ لأن اللَّه - عز وجل - يقول:
(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) الآية، وليست من نسائه، ولا يلزمه الإيلاء، ولا الطلاق، فيما لا يلزمه الظهار، وكذلك قال الله تبارك وتعالى:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍر) الآية.
فلو آلى من أمته لم يلزمه الإيلاء.

(1/344)


مختصر المزني: كتاب الظهَار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لأن الله - عز وجل - يقول: (يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ)
فعقلنا عن اللَّه - عز وجل - أنها ليست من نسائنا - الإماء أو أم ولد - وإنَّما نساؤنا: أزواجنا.
الرسالة: باب (الاختلاف) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله - عز وجل -:
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . الآيتان.
فقال: الأكثر ممن رُوي عنه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عندنا: إذا مضت أربعة أشهر وُفِفَ المُولِي، فإمَّا أن يفيء، وإما أن يطلق.
ورُوِيَ عن غيرهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر.
ولم يُحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا - بأبي هو وأمي - شيئاً.
قال: فأيُّ القولين ذهبتَ؟
قلتُ: ذهبت إلى أن المولى لا يلزمه الطلاق، وأن
امرأته إذا طلبت حقها منه لم أعرِضْ له حتى تمضي أربعة أشهر، فإذا مضت
أربعة أشهر قلت له: فِئ أو طَلِّق، والفَيئَة: الجماع.
قال: فكيف اخترْته على القول الذي يخالفه؟
قلت: رأيته أشبه بمعنى كتاب الله - عز وجل - وبالمعمول.

(1/345)


قال: وما دل عليه من كتاب اللَّه؟
قلت: لما قال اللَّه - عز وجل: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) الآية، كان ظاهر الآية أن من أَنظَرَهُ اللَّه أربعة
أشهر في شيء، لم يكن عليه سبيل حتى تمضي أربعة أشهر.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وليس في الفيئة دلالة على ألَّا يفيء
الأربعة إلا مضيُّها، لأن الجماع يكون في طرفة عين، فلو كانت على ما وصفتَ تزَايَلَ حاله حتى تمضي أربعة أشهر، ثم تزايل حالُه الأولى، فإذا زايلها صار إلى أنُّ لله عليه حقاً، فإمَّا أن يفيء، وإمَّا أن يطلق.
فلو لم يكن في آخر الآية ما يدل على أن معناها غير ما ذهبتَ إليه، كان
قوله أَوْلاَهُما بها، لما وصفنا، لأنه ظاهرها.
والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالة منه، أو سنة، أو إجماع، بأنَّه على
باطن وظاهر.
قال: فما في سياق الآية ما يدلُّ على ما وصفت؟.
قلت: لما ذكر اللَّه - عز وجل -: أنُّ للمولي أربعة أشهر ثم قال:
(فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . الآيتان.
فذكر الحكمين معاً بلا فصل بينهما: أنهما إنما يقعان بعد الأربعة أشهر، لأنَّه
إنما جعل عليه الفيئة أو الطلاق، وجعل له الخيار فيهما في وقت واحد، فلا يتقدم واحد منهما صاحبه، وقد ذكِرا في وقت واحد، كما يقال له في الرهن أَفْدِه أو نبيعه عليك، بلا فصل، وفي كل ما خُيِّر فيه افعل كذا أوكذا بلا فصل.

(1/346)


ثم قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فَتَكَلْمُ الموُلي بالإيلَى ليس هو طلاق.
إنَّما هي يمين، ثم جاءت عليها مدة جعلتها طلاقاً، أيجوز لأحد يعقل من حيث يقول: أن يقول مثل هذا إلا بخبر لازم؟!
قال: فهو يدخلُ عليك مثلُ هذا. قلتُ: وأين؟
قال: أنت تقول: إذا مضت أربعة أشهر وُقِفَ، فإن فاء وإلا جُبِرَ على أن
يُطلق.
قلت: ليس من قِبَلِ أن الإيلى طلاق، ولكنها يمين جعل اللَّه لها وقتاً، منع
بها الزوج من الضِّرار، وحكم عليه إذا كانت أن جعل عليه إمَّا أن يفيء، وإمَّا أن يُطَلِّق، وهذا حكم حادث بمضي أربعة أشهر، غير الإيلى، ولكنه مُؤتنَف، يُجبر صاحبُه على أن يأتي بأيهما شاء، فَيئةِ أو طلاق، فإن امتنع منهما أخذ من الذي يُقدر على أخذه منه، وذلك أن يطلق عليه، لأنَّه لا في أن يُجامَع عنه!!.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على فقه الشافعى، وتقدُّمه فيه، وحسُنُ استنباطه) :
وقال تبارك وتعالى: (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . الآية.
وقال (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ) الآية.
وقال (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أفرأيت إن قذفها أيُلاعِنُها؛ وآلى منها أيلزمه
الإيلاء؛ أو ظاهر أيلزمه الظهار؛ أو ماتت أيرثها؛ أو مات أترثه؟
قال: لا.

(1/347)


قلت: الآن أحكام الله هذه الخمسة تدل على أنها ليست بزوجة.
قال: نعم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
الأم: رضاعة الكبير:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما جعل اللَّه تعالى له غاية فالحكم بعد مضي
الغاية فيه غيره قبل مضيها، قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، فكنَّ - إذا مضت الثلاثة الأقراء فحكمهن بعد مضيها غير
حكمهن فيها.
الأم (أيضاً) : الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: الفرقة بين الزوجين وجوه، يجمعها
اسم الفرقة، ويفترق بها أسماء دون اسم الفرقة.
فمنها الطلاق: والطلاق ما ابتدأه الزوج، فأوقعه على امرأته بطلاق
صريح، أو كلام يشبه الطلاق يريد به الطلاق، وكذلك ما جعل إلى امرأته من أمرها فطلَّقت نفسها، أو إلى غيرها فطلقها، فهو كطلاقه، لأنه بأمره وقع، وهذا

(1/348)


كله إذا كان الطلاق فيه من الزوج، أو ممن جعله إليه الزوج واحدة أو اثنتين، فالزوج يملك فيه رجعة المطلقة ما كانت في عدة منه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال لي بعض الناس: ما الحجة فيما قلت؟
قلت: الكتاب والسنة والآثار والقياس.
قال: فأوجدني ما ذكرته.
قلت: قال الله تبارك وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)
وقال تعالى ذكره: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (إِصْلَاحًا) الآية، وقلت: أما يتبين لك في هاتين الآيتين أن اللَّه تبارك وتعالى جعل لكل مطلق لم يأت على جميع الطلاق الرجعة في العدة؛ ولم يخصص مطلّقاً دون مطلّق، ولا مطلقة دون مطلقة.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وقوله في العدة: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، فلما لم تكن هذه معتدة بحكم اللَّه تعالى، علمت أن اللَّه تبارك
وتعالى إنما قصد بالرجعة في العدة، قصد المعتدات، وكان المفَسَّر من القرآن يدل على معنى الجمل، ويفترق بافتراق حال المطلقات.
الأم (أيضاً) : طلاق التي لم يدخل بها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، وقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية.
فالقرآن يد، على أنَّ الرجعة لمن طلق واحدة أو ائنتين، إنما هي على المعتدة؛ لأنَّ اللَّه - عز وجل - إنما جعل الرجعة في العدة، وكان الزوج لا يملك الرجعة إذا انقضت

(1/349)


العدة، لأنَّه يحلُّ للمرأة في تلك الحال أن تنكح زوجاً غير المطلق، فمن طلق
امرأته ولم يدخل بها تطليقة أو تطليفتين فلا رجعة له عليها، ولا عدة، ولها أن
تنكح من شاءت ممن يحلَّ لها نكاحه، وسواء البكر في هذا أو الثيب.
الأم (أيضاً) : العدد (عدة المدخول بها التي تحيض) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: قال الله تبارك وتعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والأقراء عندنا - والله أعلم - الأطْهَار.
فإن قال قائل: ما دلَّ على أنَّها الأطهَار، وقد قال غيركم الحيض؟
قيل له: دلالتان: أولهما: الكتاب الذي دلَّت عليه السنة.
واآخر: اللسان.
فإن قال: وما الكتاب؟
قيل: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه طلق امرأته وهي حائض، في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر - رضي الله عنه - رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُرهُ فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر،

(1/350)


ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله - عزَّ وجلَّ أن تطلق لها النساء" الحديث.
وفي رواية: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك"، وتلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عددتهن) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أنا شككت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله أن العدة: الطهر دون الحيض، وقرأ: "فطلقوهن لقبل عدتهن"
أن تطلق طاهراً، لأنها حينئذ تستقبل عدتها.
ولو طُلقت حائضاً لم تكن مستقبلة عدتها إلا بعد الحيض.
فإن قال: فما اللسان؟
قيل: القُرْءُ: اسم وضع لمعنى، فلما كان الحيض دماً
يرخيه الرحم فيخرج، والطهر دم يحبس فلا يخرج، كان معروفاً من لسان
العرب أن القُرْءَ: الحبس؛ لقول العرب: هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه.
وتقول العرب: هو يقري الطعام في شدقه، يعني: يحبس الطعام في شدقه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله - عزَّ وجلَّ في الآية التي ذكر فيها المطلقات ذوات الأقراء: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية.

(1/351)


فكان بيناً في الآية بالتنزيل أنَّه:
1 - لا يحلُّ للمطلقة أن تكتم ما في رحمها من المحيض، وذلك أن يحدث
للزوج عند خوفه انقضاء عدتها رأي في ارتجاعها، أو يكون طلاقه إياها أدباً لها، لا إرادة أن تبينَ منه - فتُعلِمه ذلك، لئلا تنقضي عدتها، فلا يكون له سبيل إلى رجعتها.
2 - وكان ذلك يحتمل: الحمل مع الحيض، لأن الحمل مما خلق اللَّه في
أرحامهن.
وإاذا سأل الرجل امرأته المطلقة أحامل هي أو هل حاضت؟
فبيّن عندي ألا يحلّ لها أن تكتمه واحداً منهما، ولا أحداً رأت أنَّه يُعلمه إياها؛ وإن لم يسألها ولا أحداً يعلمه إياه، فأحبُّ إليَّ لو أخبرته به.
ولو كتمته بعد المسألة - الحمل أو الأقراء - حتى خلت عدتها كانت
عندي آثمة بالكتمان، إذ سئلت وكتمت. ..
أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أنَّه قال لعطاء: ما قوله: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية، قال: الولد لا تكتمه ليرغب
فيها، وما أدري لعل الحيضة معه.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أنَّ مجاهداً قال في قول اللَّه - عز وجل -: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية، المرأة المطلقة لا يحلُّ لها أن تقول: أنا حبلى وليست بحبلى، ولا لست بحبلى وهي حبلى، ولا أنا حائض وليست بحائض، ولا لست بحائض وهي حائض.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا - إن شاء اللَّه تعالى - كما قال مجاهد لمعانٍ:

(1/352)


منها: ألَّا في الكذب. والآخر: ألَّا تكتمه الحَبَل والحَيضَ، لعله يرغب
فيراجع، ولا تدعِيهما لعله يراجع وليست له حاجة بالرجعة؛ لولا ما ذكرت
من الحبل والحيض فتغره، والغرور لا يجوز.
الأم (أيضاً) : أحكام الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه - عز وجل -: (إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) الآية.
فقال: إصلاح الطلاق: الرجعة - واللَّه أعلم - فمن أراد الرجعة فهي له.
لأن اللَّه تبارك وتعالى جعلها له.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأيما زوج حر، طلق امرأته بعد ما يصيبها، واحدة
أو اثنتين، فهو أحقُّ برجعتها ما لم تنقض عدتها، بدلالة كتاب اللَّه - عز وجل -، ثم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ن، فإن (رُكَانة) طلق (امرأته ألبتة) ولم يُرِد إلا واحدة، فردها
إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث.
وذلك عندنا في العدة - واللَّه تعالى أعلم -.
الأم (أيضاً) : الاستبراء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: لم زعمت أن الاستبراء: طهر
ثم حيضة، وزعمت في العدة أن الأقراء: الأطهار؟

(1/353)


قلنا له: بتفريق الكتاب ثم السنة بينهما، فلما قال اللَّه - عز وجل -: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، ودلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الأقراء:
الأطهار، لقوله في ابن عمر رضي اللَّه عنهما: "يطلقها طاهراً من غير جماع.
تلك العدة الي أمر الله - عزَّ وجلَّ أن تطلق لها النساء.
فأمَرناها أن تأتي بثلاثة أطهار، فكان الحيض فيها فأصلاً بينهما حتى
يُسمى كل طهر منها غير الطهر الآخر، لأنه لو لم يكن بينهما حيض كان طهراً واحداً.
وكان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإماء: "يسئبرئن بحيضة" يقصد: قصد الحيض بالبراءة، فأمرناها أن تأتي بحيض كامل، كما أمرناها إذا قصد: قصد الأطهار، أن تأتي بطهر كامل.
الأم (أيضاً) : كيف تثبت الرجعة؟)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لما جعل اللَّه - عز وجل - الزوج أحق برجعة امرأته في العدة، كان بيناً أن ليس لها منعه الرجعة، ولا لها عوض في الرجعة بحال، لأنها له عليها لا لها عليه، ولا أمر لها فيما له دونها، فلما قال اللَّه - عز وجل -: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية.
كان بيناً أن الرد هو بالكلام دون الفعل من جماع وغيره، لأن
ذلك رد بلا كلام، فلا تثبت رجعة لرجل على امرأته حتى يتكلم بالرجعة. ..
مثل: قد راجعتها، أو قد رددتها إليَّ، ونحو ذلك مما يدل على الرجعة -.
الأم (أيضاً) نكاح المطلقة ثلاثاً:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، أي: إصلاح ما أفسدوا بالطلاق بالرجعة، فالرجعة

(1/354)


ثابنة لكل زوج غير مغلوب على عقله، إذا أقام الرجعة. وإقامتها: أن يتراجعا في العدة التي جعل اللَّه عز ذكره عليها فيها الرجعة.
الأم (أيضاً) : الطلاق الذي تُمْلَكُ فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) الآية كلّها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فكان بيناً في كتاب اللَّه تعالى أن كل طلاق
حُسِب على مطلًقة فيه عدد طلاق - إلا الثلاث - فصاحبه يملك فيه الرجعة.
وكان ذلك بيناً في حديث ركانة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا الطلاق الذي يؤخذ عليه مال - الخلع -، لأن اللَّه تعالى أذن به، وسماه فدية.
الأم (أيضاً) : (طلاق المُولى عليه والعبد)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في مناقشة بعض أهل الحجاز إنَّه: ليس للعبد
طلاق، والطلاق بيد السيد وقال - اللَّه - عز وجل - - في المطلقات: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) الآية، فكان العبد ممن عليه حرام، وله حلال، فحرامه: بالطلاق، ولم يكن السيد ممن حلت له امرأته فيكون له تحريمها.
الأم (أيضاً) : باب (ما يفطر الصائم والسحوو والخلاف فيه) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا حجة لنا على من قال في المطلقة
لزوجها عليها الرجعة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وقد قال اللَّه تبارك

(1/355)


وتعالى: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) والقرء عنده الحيضة فما بال الغسل!
وإن وجب بالحيض فهو غير الحيض.
الأم (أيضاً) : كتاب (النفقات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: هذه جملة ما ذكر اللَّه - عز وجل - من الفرائض بين
الزوجين، وقد كتبنا ما حضرنا مما فرض الله - عزَّ وجلَّ للمرأة على الزوج، وللزوج على المرأة، مما سَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفرض الله - عزَّ وجلَّ أن يؤديَ كل ما عليه بالمعروف.
وجماع المعروف: إعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، وأداؤه إليه بطيب
النفس، لا بضرورئه إلى طلبه، ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته، وأيهما ترك فظلم؛ لأن مَطْلَ الغني ظُلْم، ومَطلُه: تأخيره الحق.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
الآية، - واللَّه أعلم - أي: فمالهن مثل ما عليهن من أن يُؤدى إليهن بالمعروف.
الأم (أيضاً) : جماع عشْرَة النساء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال جل وعلا: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) الآية.
فجعل اللَّه للزوج على المرأة، والمرأة على الزوج

(1/356)


حقوتاً بينها في كتابه، وعلى لسان نبيه مُفسَّرة ومجملة، ففهمها العرب الذين
خوطبوا بلسانهم على ما يعرفون من معاني كلامهم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال: أقل ما يجب في أمره بالعشرة بالمعروف:
أن يؤدِّي الزوج إلى زوجثه ما فرض اللَّه لها عليه، من نفقة وكسوة وترك ميل ظاهر، فإنه يقول - عز وجل -: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) .
وجماع المعروف: إتيانُ ذلك بما يحسن لك ثوابه، وكفُّ المكروه.
اختلاف الحديث: باب (طلاق الحائض) :
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل
حُسِبَت تطليقةُ ابن عمر رضي اللَّه عنهما على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
قال: "نعم" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر - رضي الله عنه -، أن يأمر ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أن يراجع
امرأته دليل بين على أنه لا يقال له راجع، إلا ما قد وقع عليه طلاقه، لقول الله

(1/357)


في المطلقات: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) الآية، وأن معروفاً في اللسان، بأنه إنما يقال للرجل: راجع امرأتك إذا افترق هو وامرأته. . . ثم قال: والقرآن يدل على أنها تحسب - أي: تطليقة ابن عمر لزوجته وهي حائض - قال اللَّه تعالى:
(الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
لم يخصص طلاقاً دون طلاق، وما وافق ظاهر كتاب اللَّه من الحديث أولى أن يثبت.
مسند الشَّافِعِي: ومن كتاب (العدد إلا ما كان منه معاداً) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن
عائشة رضي اللَّه عنها أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة.
وقد جادلها في ذلك ناس، وقالوا: إن اللَّه يقول: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) الآية، فقالت
عائشة رضي اللَّه عنها: صدقتم وهل تدرون ما الأقْرَاءُ؟
الأقراء: الأطهار الحديث.
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول:
ما أدركت أحداً من فقهائنا إلا هو يقول هذا (يريد الذي قالت عائشة رضي
الله عنها) الحديث.

(1/358)


مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على فقه الشَّافِعِي، وتقدمه فيه، وحُسن استنباطه) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) الآية.
فلما كانت الصلاة مما يقوم به الإمام على المأموم، لم يجز أن تكون المرأة التي
عليها القيِّم قيِّمةَ على قيِّمِها.
ولما كانت الإمامة درجة فضل، لم يجز أن يكون لها درجة الفضل على من
جعل اللَّه له عليها درجة.
ولما كان من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم الإسلام أن تكون
متأخرة خلف الرجال، لم يجز أن تكون متقدمة بين أيديهم.
فإن قال قائل: فالعبد مفضول؟
قيل: وكذلك الحرُّ يكون مفضولاً، ثم
يتقدم من هو أفضل منه فيجوز.
وقد يكون العبد خيراً من الحر، وقد تأتي عليه الحال يعتق فيصير حراً.
وهو في كل حال من الرجال، والمرأة لا تصير بكل حال من أن تكون امرأة
عليها قيم من الرجال في عامة أمرها.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
الأم: جماع عشرة النساء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.

(1/359)


جماع المعروف: إتيان ذلك بما يحَسنُ لك ثوابه، وكفُّ المكروه.
الأم (أيضاً) : ما لا يحل أن يؤخذ من المرأة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إذا أخذ الزوج المهر من المرأة وهي طيبة النفس به.
فقد أذِن به في قول اللَّه تبارك وتعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
فإن أخذ منها شيئاً على طلاقها، فأقرَّ أنَّه أخذ بالإضرار بها، مضى عليه
الطلاق وزد ما أخذ منها، وكان له عليها الرجعة إلَّا أن يكون طلقها ثلاثاً.
الأم (أيضاً) : الوجه الذي يحل به للرجل أن يأخذ من امرأته:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) إلى
قولهْ (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى:. فنهى اللَّه تعالى الزوج - كما نهاه في الأي
قبل هذه الآية - أن يأخذ مما آتى المرأة شيئاً، إلاّ أن يخافا ألَّا يقيما حدود اللَّه، فإن خافا (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
وأباح لهما إذا انتقلت عن حد اللاتي حرّم أموالهن على أزواجهن لخوف
ألَّأ يقيما حدود اللَّه، أن يأخذ منها ما افتدت به، لم يحدد في ذلك ألَّا يأخذ إلا ما أعطاها ولا غيره، وذلك أنَّه يصير حينئذ كالبيع، والبيع إنما في ما تراضى به

(1/360)


المتبايعان لا حد في ذلك، بل في كتاب الله - عزَّ وجلَّ دلالة على إباحة ما كثر منه وقلَّ، لقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
قال الإمام الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقول الله تبارك وتعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية.
1 - يحتمل أن يكون الابتداء بما يخرجهما إلى خوف ألا يقيما حدود اللَّه
من المرأة، بالامتناع من تأدية حق الزوج والكراهية له، أو عارض منها في حيِّ الخروج من غير بأس منه.
2 - ويحتمل أن يكون من الزوج، فلما وجدنا حكم الله بتحريم أن يأخذ
الزوج من المرأة شيئاً، إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، استدللنا أن الحال التي أباح بها للزوج الأخذ من المرأة الحال المخالفة، الحال التي حرّم بها الأخذ، فكانت تلك الحال هي: أن تكون المرأة المبتدئة المانعة لأكثر ما يجب عليها من حق الزوج، ولم يكن له الأخذ أيضاً منها حتى يجمع أن تطلب الفدية منه، لقوله - عز وجل -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، وافتداؤها منه: شيء تعطيه من نفسها، لأن اللَّه - عز وجل - يقول: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) الآية.
فكانت هذه الحال التي تخالف هذه الحال، وهي التي لم تبذل فيها المرأة
المهر، والحال التي يتداعيان فيها الأساءة لا تقر المرأة أنها منها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقول اللَّه تبارك وتعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، كما وصفت من أن يكون لهما فعل، تبدأ به المرأة
يخاف عليهما فيه ألا يقيما حدود اللَّه، لا أن خوفاً منهما بلا سبب فعل.

(1/361)


أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس
رضي اللَّه عنهما في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد، فقال:
يتزوجها إن شاء، لأن اللَّه - عز وجل - يقول: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) إلى قوله: (أَنْ يَتَرَاجَعَاَ) .
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال: كل شيء
أجازه المال فليس بطلاق.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
جُهمان، عن أم بكرة الأسلمية، أنها اختلعت من زوجها عبد اللَّه بن أسيد.
ثم أتيا عثمان - رضي الله عنه - في ذلك فقال: هي تطليقة، إلا أن تكون سمَّيت شيئاً فهو ما سمَّيت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا أعرف جُمهان ولا أم بكرة بشيء يثبت به
خبرهما ولا يردُّه، وبقول عثمان - رضي الله عنه - نأخذ وهي تطليقة، وذلك أني رجَّعت الطلاق من قبل الزوج، ومن ذهب مذهب ابن عباس رضي الله عنهما كان شبيهاً أن يقول: قول اللَّه تبارك وتعالى:
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
يدلُّ على أن الفدية هي فسخ ما كان عليها، وفسخ ما كان له عليها لا
يكون إلا بفسخ العقد، وكل أمر نسب فيه الفرقة إلى انفساخ العقد لم يكن
طلاقاً، إنما الطلاق ما أحدث، والعقدة قائمة بعينها.

(1/362)


الأم (أيضاً) : الفرقه بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأن اللَّه تبارك وتعالى إذا قال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
فإنما أمر بالإمساك من له أن يمسك، وبالتسريح من له أن يسرِّح.
قال: فما التسريح هاهنا؟
قلت: ترك الحبس بالرجعة في العدة تسريح بمتقدم الطلاق.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: يقول الله عزَّ وجلَّ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، والفدية ممن ملك عليه أمره لا تكون إلا بإزالة الملك عنه، وغير
جائز أن يأذن الله تعالى لها بالفدية، وله أن يأخذها، ثم يملك عليها أمرها بغير
رضاً منها.
ألا ترى أن كل من أخذ شيئاً على شيء يخرجه من يديه، لم يكن له
سبيل على ما أخرج من يديه لما أخذ عليه من العوض.
والخلع: اسم مفارق للطلاق، وليس المختلع بمبتدئ طلاقاً إلا بحُعلِ.
والمطلقون غيره لم يستجعلوا.
وقلت له: الذي ذهب إليه من قول الله تبارك
وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) الآية، إنَّما هو على من عليه العدة.
الأم (أيضاً) : ما كحلاً به الفديه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) إلى (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.

(1/363)


قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة
بنت عبد الرحمن، أن أم حبيبة بنت سهل أخبرتها أنها كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى صلاة الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه؛ قالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول اللَّه، لا
أنا ولا ثابت - لزوجها - فلما جاء ثابت قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هده حبيبة قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر"، فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذ منها" فأخذ منها وجلست في أهلها الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقيل - واللَّه أعلم - في قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، أن تكون المرأة تكره الرجل، حتى تخاف ألا تقيم حدود اللَّه بأداء ما يجب عليها له، أو كثره إليه، ويكون الزوج غير مانع لها ما يجب عليه، أو أكثره، فإذا كان هذا حلت الفدية للزوج، وإذا لم يُقِم أحدهما حدود اللَّه، فليسا معاً مقيمَينِ حدود الله.
وقيل: وهكذا قول اللَّه - عز وجل -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، إذا حل ذلك للزوج، فليس بحرام على المرأة، والمرأة في كل حال لا يحرم عليها ما أعطت من مالها، وإذا حل له لم يحرم عليها فلا جناح عليهما معاً، وهذا كلام صحيح جائز إذا اجتمعا معاً، في أن لا جناح عليهما، وقد يكون الجناح على أحدهما دون الآخر.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا وقت في الفدية كانت أكثر مما أعطاها أو
أقل، لأن اللَّه - عز وجل يقول: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.

(1/364)


وقال: وهكذا قول اللَّه - عز وجل -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)
الآية. . . وقيل: أن تمتنع المرأة من أداء الحق، فتخاف على الزوج: ألَّا يؤدي الحق، إذا منعته حقاً فتحلُّ الفدية.
وجماع ذلك: أن تكون المرأة: المانعة لبعض ما يجب عليها له، المفتدية:
تحرجاً من ألَّا تؤدِّي حقه، أو كراهية له، فإذا كان هكذا، حلت الفدية للزوج.
الأم (أيضاً) : عدة المطلقة يملك زوجها رجعتها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قال بعض أهل العلم بالتفسير، إن قول اللَّه
- عز وجل -: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) الآية.
أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم
ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل
إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها، ارتجعها. ثم طلقها ثم قال
واللَّه لا آويك إليَّ، ولا تحلين لي أبداً، فأنزل اللَّه - عز وجل: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية، فاستقبل الناس الطلاق جديداً من كان منهم طلق، ومن لم يطلق. الحديث.

(1/365)


الأم (أيضاً) : الطلاق الذي تُملَك فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال - عز وجل -: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، فكان بيناً في كتاب الله تعالى إذ أحل له أخذ المال، أنه إذا ملك مالاً عوضاً من شيء لم يجز أن يكون له على ما ملك به المال سبيل، والمال هو: عوض من بضع المرأة. . .، واسم الفدية: أن تفدي نفسها بأن تقطع ملكه الذي له به الرجعة عليها، ولو ملك الرجعة لم تكن مالكة لنفسها، ولا واقعاً عليها اسم فدية.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)
الآية، وما كان معقولاً عن اللَّه - عز وجل - في كل هذا أنه: الطلاق الذي من قبل الزوج.
الأم (أَيضاً) المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإذا لم تكن سنة، وكان القرآن محتملاً.
فوجدنا قول أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع أهل العلم يدلُّ على بعض المعاني دون بعض، قلنا: هم أعلم بكتاب اللَّه - عز وجل -، وقولهم غير مخالف - إن شاء اللَّه تعالى -
كتاب اللَّه، وما لم يكن فيه سنة ولا قول أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا إجماع يدلُّ منه على ما وصفت من بعض المعاني دون بعض، فهو على ظهوره وعمومه، لا يُخَصُّ منه شيء دون شيء.
وما اختلف فيه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذنا منه بأشبهه بظاهر التنزيل، وقولك فيما فيه سنة هو خلاف القرآن جهل بيِّن عند أهل العلم، وأنت تخالف قولك فيه.

(1/366)


قال: وأين قلنا فيما بيَّنا وفيما سنبين - إن شاء اللَّه تعالى كفاية - قلت:
قال الله - عز وجل -: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية، وقال:
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) إلى قوله: (إِصْلَاحًا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فظاهر هاتين الآيتين، يدل على أن كل مطلق فله
الرجعة على امرأته ما لم تنقض العدة، لأن الآيتين في كل مطلق عامة لا
خاصُّة على بعض المطلقين دون بعض، وكذلك قلنا: كل طلاق ابتدأه الزوج، فهو يملك فيه الرجعة في العدة.
الأم (أيضاً) : باب حكاية من رد خبر الخاصة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال الله - عز وجل -: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية.
أرأيت إذا فعلت امرأتان فعلاً واحدا، وكان زوج إحداهما يخاف به نشوزها، وزوج الأخرى لا يخاف به نشوزها؟
قال: يسع الذي يخاف به النشوز: العظة، والهجرة والضرب، ولا يسع
الآخر، وهكذا: أيسع الذي يخاف به أن لا تقيم زوجته حدود اللَّه الأخذ
منها، ولا يسع الآخر، وإن استوى فعلاهما؟
قال: نعم.
الأم (أيضاً) : ما يقع بالخلع من الطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا جاز ما أخذ - الزوج - من المال على
الخلع، والطلاق فيه واقع، فلا يملك الزوج فيه الرجعة، لأن اللَّه - عز وجل - يقول:

(1/367)


(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية، ولا تكون مفتدية وله عليها
الرجعة، ولا يملك المال، وهو كلك الرجعة، لأن من ملك شيئاً بعوض أعطاه، لم يجز أن يكون كللك ما خرج منه، وأخذ المال عليه.
الأم (أيضاً) : إباحة الطلاق:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله عزَّ وجلَّ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية.
فالطلاق مباح لكل زوج لزمه الفرض، ومن كانت زوجته لا تحرم من
محسنة ولا مسيئة في حال، إلا أنه يُنهى عنه لغير قُبِل العدة، وإمساك كل زوج محسنة أو مسيئة بكل حال مباح، إذا أمسكها بمعروف.
وجماع المعروف: إعفافها بتأدية الحق.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
الأم: الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال - المحاور - فلم قلتَ: إنها تكون
للأزواج الرجعة في العدة قبل التطليقة الثالثة؟
فقلتُ له: لما بين الله - عزَّ وجلَّ في كتابه:

(1/368)


(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) إلى قوله: (أَنْ يَتَرَاجَعَا) الآية.
الأم (أيضاً) : ما يحرم الجمع بينه من النساء في قول الله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) :
قال الشَّافِعِي رحمه لذ: قد يُذكر الشيء في الكتاب فيحرمه، ويحرم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - غيره كما ذكر المرأة المطلقة ثلاثاً، فقال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
فبينَ على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يصيبها، وإلا لم تحل له.
الأم (أيضاً) : الخلاف فيما يؤتي بالزنا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن اللَّه تبارك وتعالى قال في المطلقة ثلاثاً:
(فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
وجاءت السنة بأن يصيبها الزوج الذي نكح، فكانت حلالاً له قبل
الثلاث، ومحرمة عليه بعد الثلاث حتى تنكح، ثم وجدناها تنكح زوجاً.
ولا تحل له حتى يصيبها الزوج، ووجدنا المعنى الذي يحلها عليه الإصابة -
والإصابة: النكاح -.
الأم (أيضا) : طلاق التي لم يدخل بها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال تبارك وتعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.

(1/369)


قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والقرآن يدل - والله أعلم - على أن من
طلق زوجة له، دخل بها أو لم يدخل بها ثلاثاً، لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره.
أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن
ثوبان، عن محمد بن إياس بن البُكَير قال: طلق رجل ثلاثاً قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي، فسأل أبا هريرة، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقالا: لا نرى أن تنكحها حتى تتزوج زوجاً غيرك فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة، فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدلُّ ما كان لك من فضل. الحديث.
الأم (أيضاً) : نكاح المطلقة ثلاثاً:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أيُّ امرأة حل ابتداء نكاحها، فنكاحها حلال
متى شاء - من كانت تحل له - وشاءت، إلا امرأتان:
الأولى: الملاعنة، فإن الزوج إذا التعن، لم تحل له أبداً بحال، والحجة في
الملاعنة مكتوبة في كتاب اللعان.
الثانية: المرأة يطلقها زوجها الحرُّ ثلاثاً، فلا تحلُّ له حتى يجامعها زوج غيره
لقول الله - عزَّ وجلَّ في المطلقة الثالثة: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فاحتملت الآية: حتى يجامعها زوج غيره، ودلت
على ذلك السنة، فكان أولى المعاني بكتاب الله، ما دلَّت عليه سُنَّة رسول الله) .

(1/370)


أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه
عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقالت: إني كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن ابن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإذا تزوجت المطلقة ثلاثاً زوجاً صحيح النكاح.
فأصابها ثم طلقها، فانقضت عدتها، حل لزوجها الأول ابتداء نكاحها، لقول
الله - عز وجل -: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية. وقول رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لامرأة رفاعة: " لا ترجعي إلى رفاعة حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك الحديث، يعني: يجامعك.
وفي قول اللَّه تعالى: (أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية -
واللَّه تعالى أعلم بما أراد - أما الآية فتحتمل إن أقاما الرجعة، لأنها من حدود اللَّه تعالى. ..
ثم قال رحمه الله: وأحبُّ لهما أن ينويا إقامة حدود اللَّه تعالى فيما بينهما.
وغيره من حدود اللَّه تبارك اسمه.
الأم (أيضاً) : ما يهدم الزوج من الطلاق وما لا يهدم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) الآية. .

(1/371)


وقال - سبحانه -: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: دلَّ حكم اللَّه - عز وجل - على الفرق بين المطلقة واحدة واثنتين، والمطلقة ثلاثاً وذلك أنه: أبان أن المرأة في لمطلقها رجعئها من واحدة واثنتين، فإذا طلقت ثلاثاً حرمت عليه حتى ئنكح زوجاً غيره.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا طُلّقت المرأة ثلاثاً فنكحت زوجاً، فادُّعت أله
أصابها، وأنكر الزوج، أحلها ذلك الزوج لمطلقها ثلاثاً.
وهكذا لو لم يعلم الزوج الذي يطلقها ثلاثاً أنها نكحت نكاحاً صحيحاً.
وأصيبت، حلَّت له إذا جاءت عليها مدة يمكن فيها انقضاء عدتها منه، ومن
الزوج الذي ذكرت أنَّه أصابها.
ولو كذَّبها - الزوج الأول - في هذا كله ثم صدقها، كان له نكاحها.
والورع ألَّا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كاذبة، حتى يجد ما يدلُّ على صدقها.
الأم (أيضاً) : طلاق المولى عليه والعبد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال بعض من مضى: ليس للعبد طلاق
والطلاق بيد السيد، فإن قال قائل: فهل من حجة على من قال: لا يجوز
طلاق العبد؟
قيل: ما وصفنا من أن اللَّه تعالى قال في المطلقات ثلاثاً: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.

(1/372)


الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال - المجادل - إن اللَّه - عز وجل - يقول في التي طلقها زوجها ثالثة من الطلاق: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية، فإن نكحت، - والنكاح: العقدة - حلَّت لزوجها الذي طلقها!
قال: ليس ذلك له، لأنّ السنة تدل على ألا تحل حتى يجامعها الزوج الذي
ينكحها.
قلنا: فقال لك: فإن النكاح يكون وهي لا تحل، وظاهر القرآن يحلها، فإن
كانت السنة تدل على أن جماع الزوج يحلها لزوجها الذي فارقها، فالمعنى: إنمّا هو في أن يجامعها غير - زوجها الأول - الذي فارقها.
الرسالة: باب (الفرائض التى أنزل الله نصاً) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد كانت لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا سنناً ليست نصاً في القرآن، أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللَّه معنى ما أراد بها، وتكلم المسلمون في
أشياء من فروعها، لم يَسُن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها سنة مخصوصة.
فمنها قول اللَّه - عز وجل: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) الآيتان.
1 - فاحتمل قول اللَّه - عز وجل -: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية، أن يتزوجها زوج غيره، وكان هذا المعنى الذي يسبق إلى من خوطب به؛ أنها إذا عُقِدَت عليها عقدة النكاح فقد نكحت.

(1/373)


2 - واحتمل: حتى يصيبها زوج غيره؛ لأن اسم النكاح يقع بالإصابة.
ويقع بالعقد.
فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة طلقها زوجها ثلاثاً ونكحها بعده رجل:
" لا تحلين حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"
يعني: يصيبك زوج غيره، والإصابة: النكاح.
فإن قال قائل: فاذكر الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرت.
قيل: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي اللَّه
عنها: "أن امرأة رفاعة ... " الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فبيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن إحلال اللَّه إياها للزوج المطلقة ثلاثاً، بعد زوج بالنكاح: إذا كان مع النكاح إصابة من الزوج - الثاني - (المحلل) .
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الخلع والطلاق والرجعة:
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا أبو الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله - في المرأة يطلقها الحر ثلاثاً - قال: فلا تحل له
حتى يجامعها زوج غيره، لقوله - عز وجل - في المطلقة ثلاثاً: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) الآية.
قال: فاحتملت الآية حتى يجامعها زوج غيره.
ودلت على ذلك السنة فكان أولى المعاني - بكتاب اللَّه - عز وجل ما دلت
عليه سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: في قول اللَّه - عز وجل -: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) الآية، - واللَّه أعلم بما أراد - فأما الآية فتحتمل: إن أقاما الرجعة لأنَّها من حدود اللَّه.

(1/374)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
الأم: جماع وجه الطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد أمر اللَّه تعالى بالإمساك بالمعروف
والتسريح بالإحسان ونهى عن الضرر، وطلاق الحائض ضرر عليها، لأنها لا
زوجة، ولا في أيام تعتد فيها من زوج ما كانت في الحيضة، وهي إذا طلقت
وهي تحيض بعد جماع لم تدر ولا زوجها عدتها: الحمل أو الحيض؟
الأم (أيضاً) : الفرقة بين الأزواج بالطلاق والفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى قوله: (لِتَعْتَدُوا) الآية. قال: فما معنى قوله: (فَبَلَغنَ أجَلَهُن)
قلت: يعني - واللَّه أعلم - قاربن بلوغ أجلهن، قال: وما الدليل على ذلك؟
قلت: الآية دليل عليه لقول اللَّه - عز وجل -: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) الآية.
فلا يُؤمر بالإمساك والسراح إلا مَنْ هذا إليه، ثم شرط عليهم في الإمساك
أن يكون بمعروف وهذه الآية ك الآية قبلها في قوله: (فَبَلَغنَ أجَلَهُنَّ) الآية.
قال: وتقول هذا العرب؟
قلت: نعم تقول للرجل إذا قارب البلد يريده، أو الأمر يريده، قد بلغته، وتقول إذا بلغه.

(1/375)


وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال - عز وجل -: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) الآية.
فلا يؤمر بالإمساك إلا من يجوز له الإمساك في العدة، فيمن ليس لهن أن
يفعلن في أنفسهن ما شئن في العدة حتى تنقضي العدة، وهو كلام عربي هذا من أبينه وأقلِّه خفاء.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما في الزكاة والسيرة والبيومع، والعتق والنكاح، والطلاق:
أخبرنا عبد الرحمن قال: أخبرني أبي قال: سمعت يونس يقول:
قال لي الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله - عز وجل -: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) الآية.
معنى هذه الآية - إذا أشرفن على الأجل، وليس الخروج منه، فإنه لا
يملك رجعتها وقد خرجت من العدة.
وقوله: (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يقول: إن أمسكَ بمعروف فَلْيُرْجعْها، وإلا فَلْيَدَعْها.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى قوله: (أزوَاجَهُنَّ)
الأم: ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حفظ بعض أهل العلم بأن هذه الآية
نزلت في معقل بن يسار، وذلك أنه زوّج أخته رجلاً، فطلقها، وانقضت عدتها،

(1/376)


ثم طلب نكاحها وطلبته، فقال: زوجتك دون غيرك أختي، ثم طلقتها، لا
أنكحك أبداً، فنزلت الآية: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) إلى: (أزوَاجَهُنَّ)
قال: وفي هذه الآية دلالة على أن النكاح يتم برضا الولي مع الزوج والزوجة، وهذا موضوع في ذكر الأولياء، والسُنة تدل على ما يدل عليه القرآن من أن على ولي الحرة أن يُنكِحها.
قال الشَّافِعِي: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن الفضل، عن نافع بن جبير.
عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صمانها" الحديث.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كانت - المرأة - أحق بنفسها، وكان
النكاح يتم به، لم يكن له منعها النكاح، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" يدل: على أن السلطان ينكح المرأة لا ولي لها.
والمرأة لها ولي يمتنع من إنكاحها، إذا أخرج الولي نفسه من الولاية بمعصيته
بالعضل، وهذان الحديثان مثبتان في كتاب الأولياء.

(1/377)


الأم (أيضاً) (لا نكاح إلا بولي)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: معنى إذا طلقتم: يعني الأزواج.
(النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) يعني: فانقضى أجلهن، يعني: عدتهن.
(فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) يعني: أولياءهن.
(أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) يعني: إن طلقوهن ولم يبتُّوا طلاقهن، وما
أشبه معنى ما فالوا من هذا بما قالوا، ولا أعلم الآية تحتمل غيره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وإن ذكَرَ - الولي -
شيئاً نظر فيه السلطان. فإن رآها تدعو إلى كفاءة، لم بكن له منعها، وإن دعاها الولي إلى خير منه، وإن دعت إلى غير كفاءة لم يكن له تزويجها، والولي لا يرضى به، وإنَّما العضل: أن تدعو إلى مثلها أو فوقها فيمننع الولي.
الأم (أيضاً) : باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وفي هذه الآية
دلالة على: أن النكاح يتم برضا الولي، والمُنكَحة، والناكح، وعلى أن على الولي ألا يعضل، فإذا كان عليه ألا بعضل، فعلى السلطان التزويج إذا عضل، لأن من منع حقاً، فأمر السلطان جائز عليه أن يأخذه منه، وإعطاؤه عليه، والسنة تدل على ما دل عليه القرآن، وما وصفنا من الأولياء والسلطان.
مختصر المزني: مختصر من الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى في امطلقات:
(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) .
وقال تعالى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآية.

(1/378)


فدلَّ سياق الكلام على افتراق البلوغين:
فأحدهما: مقاربة بلوغ الأجل، فله إمساكها، أو تركها فتُسرح بالطلاق
والمتقدم، والعرب تقول: إذا قاربت البلد تريده، قد بلغت، كما تقول: إذا بلغته.
والآخر: والبلوغ الآخر: انفضاء الأجل.
مختصرالمزني (أيضاً) : باب (ما على الأولياء وإنكاح الأب البكر بغير إذنها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فدلَّ كتاب الله - عزَّ وجلَّ، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على: أن حقاً على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح، ودعون إلى رضا، قال اللَّه تعالى:
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
قال: وهذه أبين آية في كتاب اللَّه تعالى دلالة على: أن ليس للمرأة أن
تثزوج بغير ولي.
ثم ذكر ما ذكِرَ في الأم من سبب النزول والحديثين.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما في النكاح والطلاق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) الآية.
معنى هذه - الآية -: أنه

(1/379)


خاطب الأولياء، وأن هذا انقضاء الأجل، لا الأشراف على انقضائه، فقال
للولي: لا يعضلها عن النكاح إن أرادته كنعها منه.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)
الأم: ما يحرم من النساء بالقرابة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال عز ذكره: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فأخبر اللَّه - عز وجل - أن كمال الرضاع حولان، وجعل على الرجل يُرضَع له ابنه أجر المرُضِع، والأجر على الرضاع لا يكون إلا على ماله مدة معلومة.
والرضاع اسم جامع يقع على المصَّة وأكثر منها، إلى كمال رضاع الحولين.
ويقع على كل رضاع وإن كان بعد الحولين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلما كان هكذا، وجب على أهل العلم طلب
الدلالة، هل يحرم الرضاع بأقل ما يقع عليه اسم الرضاع، أو معنى من الرضاع دون غيره؟
أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حرّم، عن
عمرة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنَّها قالت: كان فيما أنزل اللَّه تعالى

(1/380)


في القرآن: "عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسِخنَ بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن" الحديث.
أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعبد، عن عمرة، عن عائشة رضي اللَّه عنها
ألها قالت: "نزل القرآن بعشر رضعات معلومات يحرمن، ثم صُيِّرن إلى خمسٍ
يحرمن، فكان لا بدخل على عائشة إلا من استكمل خمس رضعات" الحديث.
الأم (أيضاً) : باب (رضاعة الكبير:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والدلالة على الفرق بين - رضاعة - الصغير
والكبير موجودة في كتاب الله، قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فجعل اللَّه - عز وجل - تمام الرضاع حولين كاملين، وقال: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَ) الآية، يعني - والله أعلم -: قبل الحولين.
فدلَّ على أن إرخاصه في فصال الحولين، على أن ذلك إنَّما يكون
باجتماعهما على فصاله قبل الحولين، وذلك لا يكون - والله أعلم - إلا بالنظر للمولود من والديه، أن يكون يربان أن فصاله قبل الحولين خير له من إتمام الرضاع له، لِعلَّةِ تكون به، أو بمرضعته، وأنه لا يقبل رضاع غيرها، أو ما أشبه ذلك.

(1/381)


الأم (أيضاً) : الحجة على من خالفنا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وخالفنا - من خالفنا - في النفقة فقال: إذا
مات الأب، أنفق على الصغير كل ذي رحم، يحرم عليه نكاحه من رجل أو
امرأة.
قلت له: فما حجتك في هذا؟
قال قول اللَّه تبارك وتعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ)
إلى قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قلت له: كان على الوارث مثل ذلك عندك
على جميع ما فرض الله تبارك وتعالى على الأب، والوارث يقوم في ذلك مقام
الأب؟ قال: نعم. فقلت: أوَجدتَ الأب ينفق ويسترضع المولود، وأمه وارث لا شيء عليها من ذلك؟ قال: نعم. قلت: أفيكون وارث غير أمه يقوم مقام أبيه، فينفق على أمه إذا أرضعته وعلى الصبي؟
قال: لا، ولكن الأم تنفق عليه مع الوارث.
قلنا: فأول ما تأولت تركت، قال: فإني أقول على الوارث مثل ذلك بعد
موت الأب، هي في الآية أن ذلك بعد موت الأب. قال: لا يكون له وارث
وأبوه حي.
قلنا: بلى، أمه، وقد يكون زمناً مولوداً، فيرثه ولده لو مات، ويكون
على أبيه عندك نفقته، فقد خرجت مما تأولت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فإنا قد روينا من حديثكم، أن
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجبر عصبة غلام على رضاعه، الرجال دون النساء.
قلنا: أفتأخذ بهذا؟ قال: نعم.
قلت: أفيختص العصبة وهم - الأعمام، وبنو الأعمام.
والقرابة من قبل الأب؛ قال: لا، إلا أن يكونوا ذوي رحم محرم.
قلنا: فالحجة

(1/382)


عليك في هذا كالحجة عليك فيما احتججت به من القرآن، وقد خالفت هذا، قد يكون له بنو عم فيكونون له عصبة وورثة، ولا تجعل عليهم النفقة! وهم العصبة الورثة، وإن لم تجد له ذا رحم تركته ضائعاً؟!
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال لي قائل: قد خالفتم هذا أيضاً.
قلنا: أما الأثر عن عمر - رضي الله عنه - فنحن أعلم به منك، ليس تعرفه، ولو كان ثابتاً لم يخالفه ابن عباس رضي اللَّه عنهما فكان يقول: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)
الآية، على الوارث أن: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) الآية.
وابن عباس رضي الله عنهما أعلم بمعنى كتاب اللَّه - عز وجل - منَّا، والآية محتملة على ما قال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما. ..
وقد فرض الله - عزَّ وجلَّ نفقة المطلقات ذوات الأحمال، وجاءت السنة من ذلك بنفقة وغرامات تلزم الناس، ليس فيها أن يلزم الوارث نفقة الصبي وكل امرئ مالك لماله، وإنما لزمه فيه ما لزمه في كتاب، أو سنة، أو أثر، أو أمر مُجمَع عليه.
فأما أن تلزمه في ماله ما ليس في واحد من هذا، فلا يجوز لنا، فإن كان التأويل كما وصفنا، فنحن لم نخالف منه حرفاً، وإن كان كما وصفت فقد خالفته خلافاً بيناً.
الأم (أيضاً) : باب (الاختلاف في العيب) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: حدَّد اللَّه تعالى الرضاع بالسنين، فقال - عز وجل -: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) الآية.
مختصر المزني: مختصر ما يحرم من الرضاع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكذلك أبان - اللَّه تعالى - أن المراد بتحريم
الرضاع: بعض المرضعين دون بعض، واحتج فيما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسهلة بنت

(1/383)


سُهيل لما قالت له: كنا نرى سالماً ولداً، وكان يدخل عليّ وأنا فُضُل، وليس لنا إلا بيت واحد، فما تأمرني؟
فقال: عليه الصلاة والسلام فيما بلغنا:
أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها"، ففعلت، فكانت تراه ابناً من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة رضي اللَّه عنها فيمن أحبَّت أن يدخل عليها من
الرجال، وأبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس، وقلن: ما نرى الذي أمر به - صلى الله عليه وسلم - إلا رخصة لسالم وحده.
وروى الشَّافِعِي رحمه الله: أن أم سلمة قالت في الحديث: هو لسالم خاصة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإذا كان خاصّا، فالخاص مُخرج من العام.
والدليل على ذلك قول اللَّه جل ثناؤه: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) الآية، فجعل الحولين غاية، وما جُعل له غاية، فالحكم بعد مضي
الغاية خلاف الحكم قبل الغاية.
الرسالة: باب (الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل، فاذكر من وجوه القياس ما
يدل على اختلافه في البيان والأسباب، والحجة فيه، سوى هذا الأول الذي
تدرك العامة علمه؟

(1/384)


قيل له: إن شاء اللَّه، قال الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
الآية، وقال سبحانه: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هند بنت عتبة، أن تأخذ من مال زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها - وهم ولده - بالمعروف، بغير أمره.
قال: فدلّ كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن على الوالد رضاع ولده ونفقتهم صغاراً، فكان الولد من الوالد، فجُبر على صلاحه في الحال التي لا يغني الولد فيها نفسه، فقلت: إذا بلغ الأب ألَّا يغني نفسه بكسب ولا مال، فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته، قياساً على الولد، وذلك أن الولد من الوالد، فلا يُضيِّع شيئاً هو منه، كما لم يكن للوالد أن يضيع شيئاً من ولده، إذ كان الولد منه، وكذلك الوَالِدُونَ وإن بَعُدُوا، والولد وإن سَفَلوا، في هذا المعنى - والله أعلم -.
فقلت: ينفق على كل محتاج منهم غير محترف، وله النففة على الغني
المحترف.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في العدة وقي الرضاع وفي النفقات:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول الله عزَّ وجلَّ:
(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) الآية.
من ألا تضارً والدة بولدها، لا أن عليها الرضاع.

(1/385)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
الأم: المدعي والمدعى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه - عز وجل - العدة على الزوجة في الوفاة فقال: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
الأم (أيضاً) : ما يُحَمث من انكاح العبيد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال - عز وجل - في المعتدات: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) الآية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها" الحديث، مع ما سوى ذلك. ودلَّ الكتاب والسنة على أن المماليك لمن ملكهم، وأنههم لا يملكون من أنفسهم شيئاً.
ولم أعلم دليلاً على إيجاب إنكاح صالحي العبيد والإماء كما وجدت الدلالة
على إنكاح الحر إلا مطلقاً، فأحبّ إليَّ أن يُنكح من بلغ من العبيد والإماء، ثم صالحوهم خاصة، ولا يتبين لي أن يُجبَر أحد عليه، لأن الآية محتملة أن يكون أريد به الدلالة، لا الإيجاب.

(1/386)


الأم (أيضاً) : الفرقة بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقلت: في قول الله - عزَّ وجلَّ في المتوفى عنها زوجها:
(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
هذا إذا قضين أجلهن والكلام فيهما واحد. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت له (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) : يحتمل قاربن البلوغ
وبلغن: فرغن مما عليهن - من العدة - فكان سياق الكلام في الآية دليل على هذا.
الرسالة: في العدد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
فقال بعض أهل العلم: قد أوجب اللَّه على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر
وعشراً، وذكر أن أجل الحامل أن تضع، فإذا جمعت أن تكون حاملاً متوفى عنها، أتت بالعدتين معاً، كما أجدها في كل فرضين جعلا عليها، أتت بهما معاً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسبيعة بنت الحارث، ووضعت بعد وفاة زوجها بأيام: "قد حللت فتزوجي" الحديث.
دلَّ هذا على أن العدة في الوفاة، والعدة في الطلاق بالأقراء والشهور، إنما أريد به من لا حمل به من النساء، وأن الحمل إذا كان فالعدة سواه ساقطة.

(1/387)


الرسالة (أيضاً) : فيما تُمسك عنه المعتدة من الوفاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: - قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) إلى قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآية.
فذكر اللَّه - عز وجل - أن على المتوفى عنهن عدة، وأنهن إذا بلغنها فلهن أن يفعلن في أنفسهن بالمعروف، ولم يذكر. شيئاً تجتَنبه في العدة.
فكان ظاهر الآية أن تمسك المعتدة في العدة عن الأزواج ففط، مع إقامتها في
بيتها بالكتاب، وكانت تحتمل أن تمسك عن الأزواج، وأن يكون عليها في الإمساك عن الأزواج إمساك عن غيره، مما كان مباحاً لها قبل العدة من طيب وزينة.
فلما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المعتدة من الوفاة الإمساك عن الطيب وغيره.
كان عليها الإمساك عن الطيب وغيره بفرض السنة، والأمساك عن الأزواج، والسكنى في بيت زوجها بالكتاب ثم السنة.
واحتملت السنة في هذا الموضع ما احتملت في غيره، من أن تكون السنة
بينت عن اللَّه كيف إمساكها؛ كما بينت الصلاة والزكاة والحج، واحتملت أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنَ فيما ليس فيه نص حكم لله.
الرسالة (أيضاً) : باب (الاختلاف) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) الآية.
فقال بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذكر اللَّه المطلقات، أن عدة الحوامل أن يضعن حملهن، وذكر في المتوفى عنها أربعة أشهر وعشراً.

(1/388)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
فعلى الحامل المنوفى عنها أن تعتد أربعة أشهر وعشراً، وأن تضع حملها.
حتى تأتي بالعدتين معاً، إذ لم يكن وضع الحمل انقضاء العدة نصاً إلا في
الطلاق، كاله يذهب إلى أن وضع الحمل براءة، وأن الأربعة أشهر وعشراً
تعبد، وأن المتوفى عنها تكون غير مدخول بها، فتأتي بأربعة أشهر، وأنه
وجب عليها شيء من وجهين، فلا يسقط أحدهما، كما لو وجب عليها حقان لرجلين، لم يسقط أحدهما حق الآخر.
وكما إذا نكحت في عدتها، وأصيبت، اعتدت من الأول، واعتدت من الآخر.
قال: - أي الشَّافِعِي رحمه اللَّه - وقال غيره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
إذا وضعت ذا بطنها فقد حلَّت، ولو كان زوجها على السرير.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فكانت الآية محتملة المعنيين معاً، فكان أشبههما
بالمعقول الظاهر أن يكون الحمل انقضاء العدة.
وقال: فدلَّت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن وضع الحمل آخر العدة في الموت، مثلُ معناه الطلاق.
أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه: أن سبيعة
الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فمر بها أبو السنابل بن بَعْكَك، فقال: قد تصنعت للأزواج! إنها أربعة أشهر وعشراً!
فذكرت ذلك سبيعة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟

(1/389)


فقال: "كذب أبو السنابل"، أو: " لَيسَ كما قال أبو السنابل".
"قد حللت فتزوجي" الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا)
الأم: باب (التعريض بالخطبة) :
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي - رحمه الله - هال: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وبلوغ الكتاب أجله - والله تعالى أعلم - انقضاء
العدة، قال: فبين في كتاب اللَّه تعالى، أنَّ الله فرَّق في الحكم بين خلقه، بَين
أسباب الأمور، وعقد الأمور، وبين إذ فرّق الله - تعالى ذكره - بينهما أن ليس لأحد الجمع بينهما، وألا يفسد أمر بفساد السبب إذا كان في عقد الأمر صحيحاً، ولا بالنية في الأمر، ولا تفسد الأمور إلا بفساد إن كان في عقدها، لا بغيره، ألا ترى أن الله حرّم أن يعقد النكاح حتى تنقضي العدة، ولم يحرم

(1/390)


التعريض بالخطبة في العدّة، ولا أن يذكرها وينوي نكاحها بالخطبة لها والذكر
لها، والنية في نكاحها سبب النكاح. ..
وبذلك قلنا: لا نجعل التعريض أبداً يقوم مقام التصريح في شيء من
الحكم؛ إلا أن يريد المعرِّض التصريح، وجعلناه فيما يشبه الطلاق من النية
وغيره فقلنا: لا يكون طلاقاً إلا بإرادته، وقلنا: لا نحدُّ أحداً في تعريض إلا
بإرادة التصريح بالقذف.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قول الله تبارك وتعالى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
الآية، يعني - والله تعالى أعلم -: جماعاً.
(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا الآية: قولاً حسناً لا فحش فيه.
الأم (أيضاً) : اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قال الله تبارك وتعالى في المعتدة: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) إلى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا)
الآية، فأحل - الله - التعريض بالخطبة، وفي إحلاله إياها تحريم التصريح، وقد قال الله تبارك وتعالى في الآية: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) والسر: الجماع، واجتماعهما على العدة، بتصريح العقدة، بعد انقضاء العدة، وهو تصريح باسم نُهِيَ عنه، وهذا قول الأكثر من أهل مكة وغيرهم من أهل البلدان في التعريض.
وأهل المدينة فيه مختلفون، فمنهم من قال بقولنا، ومنهم من حد في التعريض.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: السر: الجماع.
قال امرؤ القيس:

(1/391)


ألا زَعَمت بَسبَاسَةُ اليومَ أنني ... كَبرتُ وأن لا يحسِن السّر أمثاِلي
كذبتِ لَقد أُصبي على المرءِ عِرْسَهُ ... وأمنَعُ عِرْسِي أن يُزَنَّ بها الخَالِي
وقال جرير يرثي امرأته:
كَانَت إدِا هَجَرَ الخَلِيلُ فِرَاشَها ... خُزِنَ الحديثُ وعَفَّتِ الأسرارُ
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإذا علم أن حديثها مخزون، فخزن الحديث: ألا
يباح به سرًّا ولا علانية، فإذا وصفها بهذا، فلا معنى للعفاف غير الأسرار.
والأسرار: الجماع.
الأم (أيضاً) : باب (التعريض في خطبة النكاح) :
أخِبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي وص الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم.
عن أبيه أنَّه كان يقول في قول اللَّه - عز وجل -: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)

(1/392)


أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها:
إئك على لكريمة، وإني فيك لراغب، فإنّ اللَّه لسائق إليك خيراً ورزقاً، ونحو هذا من القول.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: كتاب اللَّه يدل على أنَّ التعريض في العدّة جائز، لما
وقع عليه اسم التعريض، إلا ما نهى الله - عز وجل - عنه من السر، وقد ذكر القاسم بعضه، والتعريض كثير واسع جائز كله، وهو خلاف التصريح؛ وهو ما يعرض به الرجل للمرأة، مما يدلّها على أنَّه أراد به خطبتها بغير تصريح، والسر الذي نهى الله عنه - واللَّه أعلم - يجمع بين أمرين، أنَّه ئصريح، والتصريح خلاف التعريض، وتصريح بحماع وهذا كأقبح التصريح.
فإن قال قائل: ما دل على أن السر الجماع؟
قيل: فالقرآن كالدليل عليه إذ أباح التعريض، والتعريض عند
أهل العلم جائز سراً وعلانية، فإذا كان هذا فلا يجوز أن يتوهم أن السرَّ سر
التعريض، ولا بدّ من معنى غيره، وذلك من معنى غيره، وذلك المعنى:
الجماع. . . ثم ذكر بيتي امرؤ القيس وبيت جرير.
وقد سبق ذكرهم في الفقرة السابقة مع التعليق من الشَّافِعِي رحمه الله بعد
الأبيات الذكورة.
الأم (أيضاً) : الفرقة بين الأزواج بالطلاق أو الفسخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى ذكره في التوفى - عنها زوجها -، في
قوله: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) الآية.
حتى تنقضي عدّتها فيحلّ نكاحها. ..
ثم ذكر حديث ركانة، وعدة آثار في ذلك.

(1/393)


الأم (أيضاً) : ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) الآية، فلا يأمر بألَّا يمنع من النكاح من قد منعها منه، إنما يأمر بألَّا يمتنع مما أباح لها من هو سبب من منعها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد حفظ بعض أهل العلم أنَّ هذه الآية نزلت
في معقل بن يسار. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي هذه الآية دلالة على أن النكاح يتم برضا
الولي مع المزوج والمزوَّجَة، وهذا موضوع في ذكر الأولياء، والسنة تدل على ما يدل عليه القرآن، من أن على ولي الحرة أن يُنكحها.
مختصر المزني: باب (حد القذف) :
قال الشَّافِعِي رحمه اللُّه: ولا حد في التعريض، لأن اللَّه تعالى أباح التعريض
فيما حَرُم عقده فقال: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ)
الآية، وقال تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)
الآية، فجعل التعريض مخالفاً للتصريح، فلا يحذ إلا بقذف صريح.

(1/394)


قال الله عزَّ وجلَّ: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
الأم: باب (صلاة المسافر) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، رخصة لا أن حتماً عليهم أن يطلقوهن في هذه الحال.
الأم (أيضاً) : كتاب (الصدَاق) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: واستدللنا بقول الله عزَّ وجلَّ: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية، أن عقد النكاح يصح بغير فريضة صداق، وذلك أن الطلاق لا يقع إلا على من عقد نكاحه، وإذا جاز أن يعقد النكاح بغير مهر فيثبت فهذا دليل على الخلاف بين النكاح والبيوع، والبيوع لا تنعقد إلا بثمن

(1/395)


معلوم، والنكاح ينعقد بغير مهر، استدللنا على أن العقد بصح بالكلام به، وأن الصداق لا يفسد عقده أبداً.
الأم (أيضاً) : كتاب (الشغار) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويقال له - أي: للمحاور -: إنما أجزنا النكاح بغير
مهر لقول اللَّه - عز وجل -: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، فلما أثبت الله - عزَّ وجلَّ الطلاق، دلَّ ذلك على أن النكاح ثابت؛ لأن الطلاق لا يقع إلا من نكاح ثابت، فأجزنا النكاح بلا مهر، ولما أجازه
سبحانه وتعالى بلا مهر، كان عقد النكاح على شيئين، أحدهما: نكاح، والآخر: ما يملك بالنكاح من المهر، فلما جاز النكاح بلا مِلك مهر فخالف البيوع، وكان فيه مهر مثل المرأة إذا دخل بها.
الأم (أيضاً) : المهر الفاسد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال فائل: من أين أجزت هذا في النكاح.
ورددته في البيوع، وأنت تحكم في عامة النكاح أحكام البيوع؟!
قيل: قال اللَّه - عز وجل -: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) إلى: (وَمَتِّعُوهُنَّ) الآية.
وقال تبارك وتعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، فأعلم الله تعالى في
المفروض لها أنَّ الطلاق يقع عليها، كما أعلم في التي لم يُفرض لها، أن الطلاق يقع عليها، والطلاق لا يقع إلا على زوجة، والزوجة لا تكون إلا ونكاحها

(1/396)


ثابت، قال: ولم أعلم مخالفاً مضى، ولا أدركته في أن النكاح يثبت وإن لم يسم مهراً، وأن لها إن طُلّقت وقد نكحت ولم يسمً مهراً (المتعة) ، وإن أصيبت فلها مهر مثلها، فلما كان هذا كما وصفت، لم يجز أبداً أن "يفسد النكاح من جهة المهر بحالٍ أبداً.
الأم (أيضاً) : اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله عزَّ وجلَّ: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، فكان هذا عامًّا للأزواج والنساء، لا يخرج منه زوج مسلم، حر ولا عبد، ولا ذمي حر ولا عبد، فكذلك اللعان لا يخرج منه زوج ولا زوجة.
الأم (أيضاً) : باب (المتعة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي تطلق وقد فرض لها الصداق ولم تُمسَّ، فحَسبُها ما فُرضِ لها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن القاسم بن محمد مثله.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب أنه كان يقول: لكل
مطلقة متعة، فقلت للشافعى: فإئا نقول خلاف قول ابن شهاب، لقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

(1/397)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: فبقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما قلتم، وأنتم
تخالفونه؟ قال: فقلت للشافعي وأين؛ قال زعمتم أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: لكلّ مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم تمس فحسبها نصف الصداق.
وهذا يوافق القرآن فيه، وقوله فيما سواها من المطلقات أن لها متعة: يوافق القرآن لقول اللَّه جل ثناؤه: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ) الآية.
وقال الله جل ذكره: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فكذلك المختلعات ومن سمينا منهن مطلقات، لهن المتعة في كتاب اللَّه.
ثم قول ابن عمر، رضي اللَّه عنهما - واللَّه أعلم -.
مختصر المزني: الصداق: مختصر من الجامع من كتاب (الصداق)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ذكر اللَّه الصداق والأجر في كتابه: وهو المهر، قال
الله تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية، فدلُّ أن عقدة النكاح بالكلام، وأن تركَ الصداق لا يفسدها، فلو عقد بمجهول، أو بحرام، ثبت النكاح، ولها مهر مثلها.
الرسالة: صفة نهي الله ونهي رسوله - صلى الله عليه وسلم -:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو سمى صَدَاقاً كان أحبُّ إليَّ، ولا يفسد
النكاح بترك تسمية الصداق، لأن اللَّه أثبت النكاح في كتابه بغير مهر، وهذا مكتوب في غير هذا الموضع.
وسواء في هذا، المرأة الشريفة والدنية؛ لأن كل واحد منهما، فيما يَحِل به
ويحرم، ويجب لها وعليها، من الحلال والحرام والحدود سواء.

(1/398)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
الأم: بلوغ الرشد وهو الحجر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله - عز وجل -: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) .
فدلت هذه الآية على أن على الرجل أن يسلم إلى المرأة نصف مهرها، كلما كان عليه أن يسلم إلى الأجنبيين من الرجال
ما وجب لهم، ودلَّت السنة على أن المرأة مسلطة على أن تعفو من مالها، وندب اللَّه - عز وجل - إلى العفو، وذكر أنَّه أقرب للتقوى، وسوى بين المرأة والرجل فيما يجوز من عفو كل واحد منهما ما وجب له، يجوز عفوه إذا دفع المهر كله، وكان له أن يرجع بنصفه، فعفاه جاز، لماذا لم يدفعه، فكان لها أن تأخذ نصفه، فعفته جاز، لم يفرق بينهما في ذلك.

(1/399)


الأم (أيضاً) : باب (الخلاف في الحجر
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، لا يرجع إلا بنصف ما أعطاها دنانير كانت أو غبرها؛ لأنَّه لا يوجب عليها أن تجهز إلا أن تشاء، وهو معنى قول الله تبارك وتعالى: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب من قال: (لا يورث أحد حتى يموت) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقلت له (أي: للمحاور) : عبتم على من قال: قول عمر وعثمان رضي اللَّه عنهما في امرأة المفقود، وقبلتم عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: إذا أرخيت الستور وجب المهر والعدة، ورددتم على من تأوَّلَ الآيتين: وهما قول الله - عز وجل -:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، وقوله: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) الآية، وقد روي هذا عن ابن عباس وشريح.
وذهبنا إلى: أن الإرخاء والأغلاق لا يصنع شيئاً إنَّما يصنعه المسيس.
الأم (أيضاً) : كتاب (الصْدَاق) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: - بعد أن ساق الآيات في الصداق - فأمر الله
الأزواج: بأن يؤتوا النساء أجورهن، وصدقاتهن، والأجر: هو الصداق.
والصداق: هو الأجر والمهر، وهي كلمة عربية تسمى بعدة أسماء:

(1/400)


- فيحتمل هذا أن يكون مأموراً بصداق من فَرَضَه دون من لم يَفرضه، دخل أو لم يدخل؛ لأنَّه حق ألزمه المرء نفسه، فلا يكون له حبس شيء منه إلا بالمعنى الذي جعله الله تعالى له، وهو أن يطلق قبل الدخول، قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية.
ويحتمل أن يكون يجب بالعفدة، وإن لم يُسم مهراً، ولم يدخل.
- ويحتمل أن يكون المهر لا يلزم أبداً، إلا بأن يُلزمه المرء نفسه، ويدخل
بالمرأة، وإن لم يُسم لها مهراً.
فلما احتمل المعاني الثلاث كان أولاه أن بقال به، ما كانت عليه الدلالة
من كتاب، أو سنة، أو إجماع، واستدللنا بقول اللَّه - عز وجل -:
(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الآية.
ومن السنة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
"أدُّو العلائق" قيل: وما العلائق يا رسول؟
قال: "ما نراضى به الأهلون" الحديث، ولا يقع اسم عَلَق إلا على شيء مما
يتمول وإن قل، ولا بقع اسم مال ولا علق إلا على ماله قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها وإن قلَّت. ..
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: فجعل اللَّه تعالى الفرض في ذلك للأزواج، فدلَّ
على أنَّه برضا الزوجة؛ لأن الفرض على الزوج للمرأة، ولا يلزم الزوج والمرأة إلا باجتماعهما، ولم يُحدَّد فيه شيء، فدل كتاب اللَّه - عز وجل - على أن الصداق ما تراضى به المتناكحان، كما يكون البيع ما تراضى به المتبايعان.

(1/401)


وكذلك دلّت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يجز في كل صداق مسمى إلا أن يكون ثمناً من الأثمان.
الأم (أيضاً) : التفويض:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لو عفون عنه - أي: المهر - وقد فُرض، جاز
عفوهن لقول الله - عزَّ وجلَّ: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) الآية، والصغيرة لم تعف عن مهر، ولو عفت لم يجز عفوها، وإنَّما عفا عنها أبوها الذي لا عفو له في مالها، فألزمنا الزوج نصف مهر مثلها بالطلاق، وفرقنا بينهما لافتراق حالهما في مالهما.
الأم (أيضاً) : ما جاء في عفو المهر:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية.
فجعل الله تعالى للمرأة فيما أوجب لها من نصف المهر أن تعفو، وجعل للذي يلي عقدة النكاح أن يعفو، وذلك أن يتمم لها الصداق فيدفعه إن لم يكن دفعه كاملاً، ولا يرجع بنصفه إن كان دفعه، وبيِّن - عندي - في الآية، أن الذي بيده عقدة النكاح: الزوج، وذلك أنه إنَّما يعفوه من له ما يعفوه، فلما ذكر اللَّه - عز وجل - عفوها مما ملكت من نصف
المهر أشبه أن يكون ذكر عفوه لما له من جنس نصف المهر - واللَّه تعالى أعلم -.
وحض تعالى على العفو والفضل فقال - عز وجل -:
(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الآية.

(1/402)


وبلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما لأنَّه قال:
(الذي بيده عقدة النكاح: الز وج) .
وأخبرنا ابن أبي فديك، أخبرنا سعيد بن سالم، عن عبد اللَّه بن جعفر بن
المِسْوَر، عن واصل بن أبي سعيد، عن محمد بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه لأنه
تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى طلقها، فأرسل إليها بالصداق تاما، فقيل له: في ذلك، فقال: أنا أولى بالعفو. الحديث.
أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: الذي بيده عقدة
النكاح: الز وج الحديث.
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج لأنَّه بلغه عن ابن المسيب لأنَّه قال: هو
الزوج. الحديث.
الأم (أيضاً) : الخلاف في اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قول الله - عزَّ وجلَّ:
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
فزعمنا نحن وأنتم: أنها على الأزواج عامة، كانوا مماليك، أو أحراراً، عندهم مملوكة، أو حرة، أو ذمية.
الأم (أيضاً) : باب إلا عدة على التي لم يدخل بها زوجها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ليث
ابن أبي سليم، عن طاووس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الرجل

(1/403)


يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها، ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن اللَّه - عز وجل - يقول: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية، وبهذا أقول، وهو ظاهر كتاب الله عز ذكره.
الأم (أيضاً) : الطلاق الذي تُملَك فيه الرجعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومثل الرجل يُغرُّ بالمرأة، فيكون له الخيار، فيختار
فراقها فذلك فسخ بلا طلاق، ولو ذهب ذاهب إلى أن يكون طلاقاً لزمه أن
يجعل للمرأة نصف المهر، الذي فرض لها إذا لم يمسها؛ لأن الله تبارك وتعالى
يقول: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
الأم (أيضاً) : كتاب (اللعان)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) إلى قوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)
الآية. فأبان - اللَّه - في هذه الآية وغيرها أن الحقوق لأهلها.
الأم (أيضاً) : المدّعى والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي اللَّه
عنهما أنَّه قال: لكل مطلقة متعة، إلا التي فُرضِ لها صداق ولم يدخل بها.
فحسبها نصف المهر.

(1/404)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأحسب ابن عمر رضي الله عنهما استدل بالآية
التي قال: تتبع للتي لم يدخل بها، ولم يفرض لها؛ لأن اللَّه يقول بعدها: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ)
الآية، فرأيُ القرآن كالدلالة على أنها مخرَّجَة من جميع المطلقات.
الأم (أيضاً) : باب في (إرخاء الستور) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب.
أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في المرأة يتزوجها الرجل، أنَّها إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق.
وقال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، أن زيد بن ثابت قال: إذا دخل
بأمرأته فأرخيت الستور فقد وجب الصداق.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ورُوي عن ابن عباس، وشريح: أن لا صداق إلا
بالمسيس، واحتجا أو أحدهما بقول اللَّه تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، بهذا.
قال بهذا ناس من أهل الفقه، فقالوا: لا يُلتفت إلى الإغلاق وإنَّما يجب
المهر كاملاً بالمسيس، والقول في المسيس: قول الزوج.
وقال غيرهم: يجب المهر بإغلاق الباب وإرخاء الستور، ورُوي ذلك عن
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأن عمر - رضي الله عنه - قال: وما ذنبهن؟ إن جاء العجز من قبلكم.
فخالفتم ما قال ابن عباس وشريح، وما ذهبا إليه من تأويل الآيتين، وهما: قول اللَّه تبارك وتعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، وقوله:

(1/405)


(ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) الآية.
وخالفتم ما رويتم عن عمر، وزيد، وذلك أن نصف المهر
يجب بالعقد، ونصفه الثاني بالدخول.
الأم (أيضاً) : باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فالنكاح يثبت بأربعة أشياء، الولي، ورضا
المنكوحة، ورضا الناكح، وشاهدي عدل، إلا ما وصفنا من البكر يزوجها الأب، والأمة يزوجها السيد، بغير رضاهما، فإنهما مخالفان ما سواهما.
وقد تأول فيها بعض أهل العلم قول اللَّه - عز وجل -: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية.
وقال: الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته، وقد خالفه
غيره فيما تأول، وقال: هو الزوج يعفو فيدع ماله من أخذ نصف المهر، وفي الآية كالدلالة على أن الذي بيده عقدة النكاح هو: الزوج - والله سبحانه أعلم -.
مختصرالمزني: لا عدة على التي لم يدخل بها زوجها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية، قال: والمسيس: الإصابة، وقال ابن عباس وشريح وغيرهما:
لا عدة عليها إلا بالإصابة بعينها؛ لأن الله تعالى قال هكذا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذا ظاهر القرآن.

(1/406)


أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشافعى - في النكاح والصداق وغير ذلك:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله - عز وجل -: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) الآية، يعني: النساء.
وفي قوله تعالى: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الآية، يعني:
الزوج، وذلك أنَّه إنَّما يعفو من له ما يعفوه، ورواه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وجبير بن مطعم، وابن سيرين، وشريح، وابن المسيب، وسعيد ابن جبير، ومجاهد - رحمهم اللَّه تعالى -.
وقال البيهقي رحمه اللَّه: وقد حمل - الشَّافِعِي - المسيس المذكور في قوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) الآية.
على الوطء، ورواه عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وشريح - رحمه اللَّه تعالى -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
الأم: باب (ألا تقضى الصلاة حائض) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية، فلما لم يرخص رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في أن تؤخر الصلاة في الخوف، وأرخص أن يصليها المصلي كما أمكنه،

(1/407)


راجلاً، أو راكباً، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكان من عقل الصلاة من البالغين عاصياً بتركها.
إذا جاء وقتها وذكرها، وكان غير ناسٍ لها، وكانت الحائض بالغة عاقلة ذاكرة للصلاة مطيقة لها، فكان حكم اللَّه - عز وجل -: لا يقربها زوجها حائضاً، ودل حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنَّه إذا حَرُم على زوجها أن يقربها للحيض، حَرُم عليها أن
تصلي، كان في هذا دلائل على أن: فرض الصلاة في أيام الحيض زائل عنها، فإذا زال عنها وهي ذاكرة عافلة مطيقة، لم يكن عليها قضاء الصلاة، وكيف تقضي ما ليس بفرض عليها، بزوال فرضه عنها، وهذا مما لا أعلم فيه مخالفاً.
الأم (أيضاً) : باب (صلاة المريض) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية.
فقيل - واللَّه وأعلم -: قانتين: مطيعين.
وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة قائماً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا خوطب بالفرائض من أطاقها، فإذا كان المرء
مطيقاً للقيام في الصلاة لم يجزه إلا هو، إلا عندما ذكرت من الخوف، وإذا لم يطق القيام: صلى قاعداً، وركع وسجد إذا أطاق الركوع والسجود - وإلا أومأ بالركوع والسجود إيماء -.
مختصر المزني: باب (الإسفار والتغليس با لفجر) :
حدثنا الربيع قال:

(1/408)


أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن - محمد بن عجلان، عن عاصم بن
عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
أسفروا بالصبح فإن ذلك أعظم لأجوركم" أو قال: "للأجر" الحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري، عن عروة، عن عائشة
رضي اللَّه عنها قالت: "كن نساء من المؤمنات يصلين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى أهلهن ما يعرفهن أحد من الغلس" الحديث.
قال: وروى زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوافق هذا، وروى مثله أنس بن مالك، وسهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلنا إذا انقطع الشك في الفجر الآخر وبان
معترضاً، فالتغليس بالصبح أحبُّ إلينا.
وقال بعض الناس: الإسفار بالفجر أحبُّ إلينا.
قال: وروي حديثان مختلفان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذنا بأحدهما، وذكر حديث رافع بن خديج وقال: أخذنا به؛ لأنَّه كان أرفق بالناس، قال: وقال لي أرأيت إن كانا مختلفين فلِمَ صرت إلى التغليس؟
قلت: لأنّ التغليس أولاهما بمعنى كتاب اللَّه، وأثبتهما عند أهل الحديث، وأشبههما لمجمل سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأعرفهما عند أهل العلم قال: فاذكر ذلك، قلت: قال اللَّه تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية، فذهبنا إلى أنها الصبح، وكان أقل ما في

(1/409)


الصبح إن لم نكن هي أن تكون مما أمرنا بالمحافظة عليه، فلما دلَّت السنة، ولم
يختلف أحد أن الفجر إذا بأن معترضاً فقد جاز أن يصلي الصبح، علمنا أن
مؤدي الصلاة في أول وقتها أولى بالمحافظة عليها من مؤخًرها، وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أول الوقت رضوان الله"
وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل؟
فقال: "الصلاة في أول وقتها"، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يؤثر على رضوان الله، ولا على أفضل الأعمال شيئاً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولم يختلف أهل العلم في امرئ أراد التقرب إلى الله
بشىء، يتعجله مبادرة ما لا يخلو منه الآدميون - من النسيان والشغل - ومقدم الصلاة أشد فيها تمكناً من مؤخرها، وكانت الصلاة المقدمة من أعلى أعمال بني آدم، وأمرنا بالتغليس بها لما وصفناه.
قال: فأين أنَّ حديثك الذي ذهبت إليه أثبتهما؟
قلت: حديث عائشة، وزيد بن ثابت، وثالث معهما - رضي اللَّه عنهم -
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتغليس أثبت من حديث رافع بن خديج وحده في أمره بالإسفار.
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بأن يُصلى صلاة في وقت ويصليها في غيره.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأثبت الحجج وأولاها ما ذكرنا من أمر الله
بالمحافظة على الصلوات. ..
الرسالة: وجه أخر مما يعد مختلفاً وليس عندنا بمختلف:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن تقدم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر.
وعمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك وغيرهم - رضوان اللَّه عليهم - مثبت.

(1/410)


فقال - أي: المحاور - فإن أبا بكر، وعمر، وعثمان، دخلوا في الصلاة
مُغلسين، وخرجوا منها مسفرين، بإطالة القراءة؟
فقلت له: قد أطالوا القراءة وأوجزوها، والوقت في الدخول لا في الخروج
من الصلاة، وكلّهم دخل مُغلِّساً، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُغلِّساً.
فخالفت الذي هو أولى بك أن تصير إليه، مما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وخالفتهم، فقلت: يدخل الداخل فيها مسفراً، ويخرج مسفراً، ويوجز القراءة، فخالفتهم في الدخول وما احتججت به من طول القراءة، وفي الأحاديث عن بعضهم أنَّه خرج منها مُغلساً، قال - الشَّافِعِي -: فقال (أي: المحاور) : أفتعد خبر رافع يخالف خبر عائشة؟ فقلت له: لا.
فقال: فبأي وجه يوافقه؟
فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حض الناس على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيها.
احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر، فقال:
أسفروا بالفجر" يعني: حتى يتبين الفجر الآخر معترضاً.
قال: أفيحتمل معنى غير ذلك؟.
قلت: نعم، يحتمل ما قلت، وما بين ما قلنا وقلتَ، وكل معنى يقع عليه
اسم الإسفار.
قال: فما جعل مَغناكم أولى من معنانا؟.
فقلتُ: بما وصفت من التأويل، وبأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هما فجران، فأما الذي كأنه ذنب السرحان فلا يحل شيئاً ولا يحرمه، وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة وُيحرّم الطعام" الحديث، يعني: على من أراد الصيام.

(1/411)


السنن المأثورة: باب ما جاء في (الجمع بين الصلاتين في المطر:
قال: حدثنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن
أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين لأنَّه قال: أمرتني عائشة أم المؤمنين أن أكتب لها مصحفاً قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية.
قال: فلما بلغتها آذنتها؛ فأملت علي: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله فأنتين) الآية، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: سمعتها من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الحديث.
أحكام القرآن: فصل فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني
والطهارات والصلوات:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله تعالى: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الآية، فذهبنا
إلى أنها الصبح، وكان أقل ما في الصبح، إن لم تكن هي: أن تكَون مما أمرنا
بالمحافظة عليه.
وذكر - في رواية المزني، وحرملة رحمهما اللَّه - حديث أبي بونس مولى
عائشة رضي اللَّه عنها أنها أملت عليه: (حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى، وصلاة العصر) ثم قالت: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فحديث عائشة رضي اللَّه عنها يدلُّ على أن الصلاة
الوسطى، ليست صلاة العصر.

(1/412)


واختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرُوي عن علي، وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهم: أنَّها الصبح وإلى هذا نذهب.
ورُوي عن زيد بن ثابت الأنصاري "الظهر" وعن غيره: "العصر"
ورُوي فيه حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال البيهقي رحمه الله: وقرأت في كتاب السنن - رواية حرملة - عن
الشَّافِعِي رحمه اللَّه، قال الله تبارك وتعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من خوطب بالقنوت مطلقاً، ذهب إلى أنَّه:
قيام في الصلاة، وذلك أن القنوت: قيام لمعنى طاعة الله - عزَّ وجلَّ، وإذا كان هكذا: فهو موضع كف عن قراءة، وإذا كان هكذا: أشبه أن يكون قياماً في صلاة - لدعاء لاقراءةِ.
فهذا أظهر معانيه، وعليه دلالة الستة، وهو أولى المعاني أن يقال به عندي
- والله أعلم -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد يحتمل القنوت: القيام كلّه في الصلاة، وروي
عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما: "قيل: أي الصلاة؛ قال: طول القنوت الحديث.
وقال طاووس: القنوت طاعة اللَّه - عز وجل -.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وما وصفت من المعنى الأول أولى المعاني به -
واللَّه أعلم -.
قال: فلما كان القنوت بعض القيام دون بعض، لم يجز - والله أعلم - أن
يكون إلا ما دلّت عليه السنة، من القنوت للدعاء، دون القراءة.
قال: واحتمل قول اللَّه - عز وجل -: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) الآية، قانتين في الصلاة كلها، وفي بعضها دون بعض.

(1/413)


فلما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، ثم ترك القنوت في بعضها، وحفظ عنه القنوت في الصبح خاصة، ودل هذا على أنَّه إن كان اللَّه أراد القنوت: القنوت في الصلاة، فإنَّما أراد به خاصاً.
واحتمل أن يكون في الصلوات في النازلة، واحتمل طول القنوت: طول
القيام، واحتمل القنوت: طاعة اللَّه، واحتمل السكات.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا أرخص في ثرك القنوت في الصبح بحال: لأنَّه
إن كان اختياراً - مندوباً - من الله ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لم أرخص في ترك الاختيار، وإن كان فرضاً: كان مما لا يتبين تركه.
ولو تركه تارك كان عليه أن يسجد للسهو، كما يكون ذلك عليه لو ترك الجلوس - الأوسط - في شيء.
قال الشيخ - أي البيهقي رحمه اللَّه - في قوله: (احتمل السكات) : أراد:
السكوت عن كلام الآدميين، وقد روينا عن زيد بن أرقم: "أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة"، فنزلت هذه الآية، قال:
فنهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت.
وروينا عن أبي رجاء العطاردي أنَّه قال: صلى بنا ابن عباس صلاة الصبح
- وهو أمير على البصرة - فقنت، ورفع يديه حتى لو أن رجلاً بين يديه لرأى بياض إبطَيه، فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: هذه الصلاة التي ذكرها اللَّه - عز وجل - في كتابه: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) الآية.
أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا إسماعيل الصفار، أخبرنا الحسن بن
الفضل بن السمح، حدثنا سهل بن تمام، أخبرنا أبو الأشهب، ومسلم بن زيد، عن أبي رجاء، فذكره، وقال: "قبل الركوع.

(1/414)


قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
الأم: باب (الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين والصلوات) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرني ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب.
عن المقبري، عن عبد الرحمن - بن أبي سعيد، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:
حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب يهُويِ من الليل حتى
كفينا، وذلك قول اللَّه - عز وجل -: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأمره، فأقام الظهر فصلاها، فأحسن صلاتها، كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أيضاً.
قال: وذلك قبل أن ينزل الله تعالى في صلاة الخوف: (فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وبهذا كله نأخذ، وفيه دلالة على أن كل من جمع
بين صلاتين، في وقت الأولى منهما، أقام لكل واحدة منهما، وأذَّن للأولى، وفي الآخرة يقيم بلا أذان، وكذلك كل صلاة صلاها في غير وقتها كما وصفت.

(1/415)


الأم (أيضاً) : باب (الحالين اللذين يجوز فيهما استقبال غير القبلة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الحالان اللذان يجوز فيهما استقبال غير
القبلة، قال اللَّه - عز وجل -: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) إلى قوله: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) الآية.
قال: فأمرهم اللَّه خائفين محروسين بالصلاة، فدل ذلك على أنه أمرهم بالصلاة للجهة التي وجههم لها من القبلة.
وقال الله - عزَّ وجلَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) إلى: (رُكبَانًا)
الآيتان، فدل إرخاصه في أن يصلوا رجالاً وركباناً، على أن الحال التي أذن لهم فيها بأن يصلوا رجالاً وركباناً من الخوف؛ غير الحال الأولى التي أمرهم فيها أن يحرس بعضهم بعضاً، فعلمنا أنَّ الخوفين مختلفان. ..
ودلَّت على ذلك السنَّة: أخبرنا مالك، عن نافع، أن عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة ثم قصّ
الحديث، وقال ابن عمر رضي اللَّه عنهما في الحديث: فإن كان خوف أشد من ذلك، صلوا رجالاً وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها.
قال مالك: قال عن نافع: ما أرى عبد اللَّه ذكر ذلك إلا عن رسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم - الحديث.
وأخبرنا عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.

(1/416)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يجوز في صلاة مكتوبة، استقبال غير القبلة إلا
عند إطلال العدو على المسلمين، وذلك عند المسايفة وما أشبهها، ودنو
الزحف من الزحف، فيجوز أن يصفوا الصلاة في ذلك الوقت رجالاً أو ركباناً، فإن قدروا على استقبال القبلة، وإلا صلّوا مستقبلي - القبلة - حيث يقدرون.
وإن لم يقدروا على ركوع ولا سجود أومؤوا إيماء. . . ولا يجوز لهم في واحد من الحالين، أن يصفوا على غير وضوء ولا تيمم، ولا ينقصون من عدد الصلاة شيئاً. . . وسواء أيُّ عدو أطل عليهم كفار، أم لصوص، أم أهل بغي، أم سباع، أم فحول إبل، لأن كل ذلك يخاف إتلافه.
الأم (أيضاً) : باب (ما ينوب الإمام في صلاة الخوف) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأذن اللَّه تبارك وتعالى في صلاة الخوف بوجهين
أحدهما:
أحدهما: الخوف الأدنى وهو قول اللَّه - عز وجل -: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) .
والثاني: الخوف الذي أشذ منه وهو قول اللَّه تبارك وتعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية، فلما فرّق بينهما، ودلت السنة على افتراقهما، لم يجز إلا التفريق بينهما - واللَّه تعالى أعلم -، لأن اللَّه فرّق بينهما لا فتراق الحالين فيهما.

(1/417)


الأم (أيضاً) : الوجه الثاني من صلاة الخوف:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآيتان، فكان بيناً في كتاب الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية، أنَّ الحال التي أذن لهم فيها أن يصلوا رجالاً أو ركباناً، غير الحال التي أمر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بطائفة.
ثم بطائفة، فكان بيّنا لأنَّه: لا يؤذن لهم بأن يصلّوا رجالاً أو ركباناً إلا في خوف أشد من الخوف الذي أمرهم فيه بأن يصلِّي بطائفة ثم بطائفة.
مختصر المزني: باب (استقبال القبلة ولا فرض إلا الخمس) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يجوز لأحد صلاة فريضة، ولا نافلة، ولا
سجود قرآن، ولا جنازة، إلا متوجهاً إلى البيت الحرام، ما كان يقدر على رؤيته، إلا في حالتين:
إحداهما: النافلة في السفر راكباً، وطويل السفر وقصيره سواء، ورُوي عن
ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته في السفر، أينما توجهت به، وأنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر على البعير، وأنّ علياً - رضي الله عنه -كان يوتر على
الراحلة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض، ولا
فرض إلا الخمس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي حين قال: هل عليَّ غيرها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إلا أن تطوع".
الحالة الثانية: شدة الخوف لقول اللَّه - عز وجل -: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) الآية.

(1/418)


قال ابن عمر رضي الله عنهما: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، فلا
يُصلَّى في غير هاتين الحالتين إلا إلى البيت إن كان معايناً فبالصواب، وإن كان مغيباً فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة القبلة.
الرسالة: وجه آخر من الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعد ذكر حديث أبي سعيد الخدري في حبسهم عن
الصلاة يوم الخندق، الحديث.
فلما حكى أبو سعيد أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الخندق، كانت قبل أن يُنزل
في صلاة الخوف: (فَرِجَالاً أو رُكبَانًا) الآية، استدللنا على أنه لم يصل صلاة
الخوف إلا بعدها، إذ حضرها أبو سعيد، وحكى تأخير الصلوات حتى خرج
من وقت عامتها، وحكى أنَّ ذلك قبل نزول صلاة الخوف.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلا تؤخر صلاة الخوف بحال أبداً عن الوقت إن
كانت في حضر، أو عن وقت الجمع في السفر، بخوف ولا غيره، ولكن تصلى كما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
الأم: باب (الوصية للزوجة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) الآية، وكان فرض الزوجة، أن

(1/419)


يوصي لها الزوج بمتاع إلى الحول، ولم أحفظ عن أحد خلافاً أن المتاع: النفقة، والسكنى، والكسوة إلى الحول، وثبت لها السكنى فقال: (غَير إِخرَاجٍ) ، ثم قال: (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ)
الآية، فدل القرآن على أنهن إن خرجن فلا جناح على الأزواج؛ لأنَّهن تركن ما فرض لهن، ودلَّ الكتاب العزيز إذا كان السكنى لها فرضاً فتركت حقها فيه، ولم يجعل الله تعالى على الزوج حرجاً، أن من ترك حقه غير ممنوع له، لم يخرج من الحق عليه.
ثم حفظت عمن أرضى من أهل العلم، أن نفقة المتوفى عنها زوجها
وكسوتها حولاً منسوخ بآية المواريث.
الأم (أيضاً) : عدة الوفاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) الآية، قال: حفظتُ عن غير واحد من أهل العلم بالقرآن، أن هذه الآية نزلت قبل نزول آية المواريث، وأنها منسوخة، وحفظت أنَّ بعضهم يزيد على بعض - فيما يذكر - مما أحكي من معاني قولهم، وإن كنت قد أوضحت بعضه بكثر مما أوضحوه به، وكان بعضهم يذهب إلى أنَّها نزلت مع الوصية للوالدين والأقربين، وأن وصية المرأة محدودة بمتاع سنة، وذلك نفقتها وكسوتها وسكنها، وأن قد حظر على أهل زوجها إخراجها، ولم يحظر عليها أن تخرج، ولم يحرج زوجها ولا وارثه بخروجها، إذا كان غير إخراج منهم لها ولا هي، لأنها إنما هي تاركة لحق لها.
وكان مذهبهم أن الوصية لها بالمتاع إلى الحول، والسكنى منسوخة، بأن اللَّه ورثها الرُّبع، إن لم يكن لزوجها ولد، والسمن إن كان له ولد.

(1/420)


الرسالة: الناسخ والمنسوخ الذصي تدل عليه السنة والإجماع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) الآية.
فأنزل اللَّه ميراث الوالدين، ومن وَرِثَ بعدهما
ومعهما من الأقربين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها.
فكانت الآيتان محتملتين لأَنْ:
1 - تثبتا الوصية للوالدين والأقربين، والوصية للزوج، والميراث مع
الوصايا، فيأخذون بالميراث والوصايا.
2 - ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.
فلما احتملت الآيتان ما وصفنا، كان على أهل العلم طلب الدلالة من
كتاب اللَّه، فما لم يجدوه نصاً في كتاب اللَّه، طلبوه في سنة رسول اللَّه، فإن
وجدوه فما قبلوا عن رسول اللَّه فعن اللَّه قبلوه، بما افترض من طاعته.
ووجدنا أهل الفُتيا، ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي، من قريش
وغيرهم، لا يختلفون في أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يُقتل مؤمن بكافر" الحديث.
ويَأثِرونه عمُّن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد
عن واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين.

(1/421)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
الأم: المدَّعي والمدَّعي عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - قلتُ مناقشاً لبعض من خالفنا - لِمَ تزعم
ب الآية أن المطلقات سواء في المتعة؛ وقال اللَّه - عز وجل -: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)
لم يخمن مطلقة دون مطلقة.
قال استدللنا بقول اللَّه - عز وجل -: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) الآية، أنها غير
واجبة، وذلك أن كل واجب، فهو على المتقين وغيرهم، ولا يُخص به المتقون.
الأم (أيضاً) : تفسير قوله - عز وجل -: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا الثقة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن
عمر رضي اللَّه عنهما أنَّه كاتب عبداً له خمسة وثلاثين ألفاً، ووضع عنه خمسة آلاف أحسبه قال: من آخر نجومه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذا - واللَّه تعالى أعلم - عندي مثل قول اللَّه - عز وجل -:
(وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فيجبر سيْد المكاتب على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئاً، وإذا وضع عنه شيئاً ما كان، لم يجبر على كثر منه.

(1/422)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولما مضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة من هجرته، أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد، لم تكن قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضاً، فقال تبارك وتعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الآية.
أحكام القرآن: فصل في (فرض أصل الجهاد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ففرض الله - عز وجل - عليهم الجهاد، بعد إذ كان إباحة لا فرضاً، فقال تبارك وتعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
الأم: كتاب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فعرَّف - الله تعالى - جميع خلقه في كتابه أن لا
علم لهم إلا ما عفمهم. . . فقال - عز وجل -: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) .

(1/423)


ثم مَن عليهمْ بما آتاهم من العلم، وأمرهم بالاقتصار عليه، وألا
يتولوا غيره إلا بما علمهم.
الرسالة: القياس:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قلتُ: نعم ما وصفت لك مما كُلفتُ في القبلة، وفي
نفسي، وفي غيري، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) الآية، فآتاهم من علمه ما شاء، وكما شاء، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب.
أحكام القرآن ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير (في آيات متفرقة سوى ما مضى) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: واستنبطت البارحة آيتين، فما أشتهي باستنباطهما
الدنيا وما فيها، الأولى: قول الله تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) . الآية.
وفي كتاب الله هذا كثير.
والثانية: قول الله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الآية.
فَتَعَطلُ الشفعاء إلا بإذن الله.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما جاء في خروجه إلى اليمن ومقامه بها، ثم في حمله
من اليمن إلى هارون، وما جرى بينه وبين محمد بن الحسن من المناظرة.
رحمهما الله) :
قال البيهقي رحمه الله: وقرأت في كتاب (زكريا بن يحيى الساجي) فيما
حدثهم عن محمد بن إسماعيل، عن مصعب بن عمير الزبيري، في قصة قدوم

(1/424)


الشَّافِعِي المدينة، واختلافه إلى الإمام مالك رحمه الله، ثم رجوعه إلى مكة.
وخروجه إلى اليمن، وسِعَاية من سعى به حتى حُمِل، ولم يُترَك أن يأخذ من
شعره وأظفاره، فلما وافى الرَّقة، لقي محمد بن الحسن فاتصل به، وكان معه
ستون ديناراً، فأعطى ورَّاقاً فكتب له كتبه، فجلس محمد بن الحسن يوماً في
مسجد الرقة، وجعل يزري بأهل الحجاز، فيقول: إيش يحسنون؛ وهل فيهم أحد يحسن مسألة؛ والشَّافِعِي في ناحية - فبلغه، فجاء وسلم عليه، وإن شاربه ليدخل في فمه - وذلك بحضرة الفضل بن الربيع. ..
فقال الشَّافِعِي رحمه الله: أما صاحبكم - يعني أبا حنيفة رحمه اللَّه - فأعلم
الناس بما لم يكن ولا يكون أبداً، وأجهلهم بالسنن.
فناظره في مسائل، فقال له: قد كثرت - والفضل يكتب ما جرى بينهما
- وكان فيما جرى بينهما يومئذ أن قال له الشَّافِعِي رحمه اللَّه: ما تقول في صلاة الخوف، كيف يصليها الرجل؟
فقال محمد بن الحسن رحمه الله: منسوخة؛ قال اللَّه - عز وجل -: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) الآية.
فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من بين
أظهرهم، لم تجب عليهم صلاة الخوف!
فقال له الشَّافِعِي: قال اللَّه تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من بين أظهرهم لم تجب عليهم!
زاد فيه غيره، قال محمد بن الحسن رحمه اللَّه: كلا بل تجب عليهم.

(1/425)


فقال الشَّافِعِي رحمه اللَّه: كلا بل تجب عليهم، ثم قال الشَّافِعِي: لا يُمكِّن
أحداً من الخلق يُكلم أحداً - وإن كان نبياً مرسلا - حتى يذهب لسان الآخر، ولكن بحسبك أن يستبين عند ذوي الأقدار أنَّه قد قام بالحجة.
ألا ترى أن صاحب إبراهيم حيث قال له: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) .
قال إبراهيم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) ، قال اللَّه: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه اللَّه: وكذلك بهت الذي ظلم؟
ودخل الفضل بن الربيع إلى الرشيد رحمهما الله فقال: يا أمير المؤمنين، ألا
أبشرك؟ ألا أقول لك شيئاً تقرُّ به عينك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: رجل من آل شافع يُحسنُ كذا، وكان من مجلس قوم كذا، قرأ عليه ما جرى بينهم، فَسُرَّ بذلك هارون، فقال: اخرج إليه أعلمه أني قد رضيت عنه، وأعلمه بالرّضا قبل الصّلة، ثم صِلْهُ، قال: ثم خرج - الفضل - فأخبره، قال: فخرَّ الشَّافِعِي لله تعالى
ساجداً، ثم قال: وقد وصَلَك أمير المؤمنين بمالٍ، وقد وصلتك بمثل ذلك.
قال: فدعا الشَّافِعِي رحمه الله بالحجام، فأخذ شعر رأسه، فأعطاه خمسين ديناراً.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
الأم: باب (ما يحلُّ للناس أن يعطوا من أموالهم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الآية، يعني - واللَّه أعلم -: تأخذونه لأنفسكم ئمن لكم عليه

(1/426)


حق، فلا تنفقوا ما لا تأخذون لأنفسكم، يعني: لا تعطوا مما خبث عليكم -
واللَّه أعلم - وعندكم طيب.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فحرام على من عليه صدقة أن يعطي صدقة من شرها.
قال الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جرير بن عبد اللَّه البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم المصدّق فلا يفارقكم إلا عن رضا" الحديث، يعني - والله أعلم -: أن يوفوه طائعين، ولا يلووه، لا أن يعطوه من أموالهم ما ليس عليهم، فبهذا نأمرهم، ونأمر المُصدّق.
مختصر المزني: باب (صدقة الوَرِق) :
قال المزني (مُلخِصاً كلام الشَّافِعِي رحمه الله) : وحرام أن يؤدي الرجل
الزكاة من شر ماله: لقول اللَّه - عز وجل -: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) الآية، يعني - واللَّه أعلم - لا تعطوا في الزكاة ما
خبث أن تأخذوه لأنفسكم، وتئركوا الطيب عندكم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)
مختصر المزني: باب (عطيلا الرجل لولده) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حمد اللَّه جل ثناؤه على إعطاء المال، والطعام، في وجوه الخير، وأمر بهما. . فقال:
(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) الآية.

(1/427)


قال الله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في التفسير (في آيات متفرقة سوى ما مضى) :
قال البيهقي رحمه اللَّه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله - عز وجل - (عَلَيكُم أَنفُسَكم) الآية.
قال: هذا مثل قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) الآية.
ومثل قوله - عز وجل -: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الآية.
ومثل هذا في القرآن على ألفاظ.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)

(1/428)


أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: قال الله تبارك وتعالى: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقال اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذكر اللَّه البيع في غير موضع من كتابه، بما يدل
على إباحته، فاحتمل إحلال اللَّه - عز وجل البيع، معنيين:
أحدهما: أن يكون أحلّ كلّ بيع تبايعه المتبايعان، جائزي الأمر فيما
تبايعاه عن تراض منهما، وهذا أظهر معانيه.
والثاني: أن يكون اللَّه - عز وجل أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المبيَِّن عن اللَّه - عز وجل معنى ما أراد، فيكون هذا من الجمل التي أحكم اللَّه فرضها بكتابه، وبيَّن كيف هي على لسان نبيه، أو من العام الذي أراد به الخاص، فبيَّن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما أريد بإحلاله منه وما حرّم، أو يكون داخلاً فيهما، أو من العام
الذي أباحه إلاّ ما حرُم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - منه، وما في معناه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضا المتبايعين.
الجائزي الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرّم بإذنه، داخل في المعنى المنهي عنه، وما فارق
ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب اللَّه.
الأم (أيضاً) : باب في: (بيع العروض) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
وقال: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .

(1/429)


فكلُّ بيع كان عن تراضٍ من المتبايعين جائز من الزيادة.
في جميع البيوع، إلا بيعاً حرُّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الذهب والوَرقِ يداً بيد، والمأكول، والمشروب في معنى المأكول، فكل ما أكل الآدميون وشربوا، فلا يجوز أن يباع منه شيء من صنفه إلا مثلاً بمثل، إن كان وزناً فوزن، وإن كان كيلاً
فكيل، يداً بيد، وسواء في ذلك الذهب والوَرقِ وجميع المأكول، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع بينهما.
الأم (أيضاً) : باب (الشهادة في البيوع) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن الذي يشبه - والله أعلم وإياه أسال التوفيق
- أن يكون دلالة، لا حتماً، يخرج من ترْكِ الإشْهَاد، فإن قال: ما دلَّ على ما وصفت؟
قيل: قال اللَّه - عز وجل: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فذكر أن
البيع حلال، ولم يذكر معه بينة.
الأم (أيضاً) : (الغصب) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فلم أعلم أحداً من المسلمين، خالف
في لأنَّه لا يكون على أحد أن يملك شيئاً إلَّا أن يشاء أن يملكه إلا الميراث، فإن اللَّه - عز وجل - نقل مِلْكَ الأحياء، إذا ماتوا إلى أمن، ورُّثهم إياه، شاؤوا أو أبوا، ألا ترى أن الرجل لو أوصيَ له، أو وُهبَ له، أو تصدق عليه، أو ملك شيئاً، لم يكن عليه أن يملكه إلا أن يشاء، ولم أعلم أحداً من المسلمين اختلفوا، في ألَّا

(1/430)


يخرج ملك المالك المسلم من يديه إلا بإخراجه إياه هو نفسه، ببيع، أو هبة، أو غير ذلك، أو عتق، أو دين لزمه، فيباع في ماله، وكل هذا فعله لا فعل غيره.
الأم (أيضاً) : كراء الأرض البيضاء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو تكارى الأرض بالثمرة دون الأرض والشجر.
فإن كانت الثمرة قد حل بيعها، جاز الكراء بها، وإن كانت لم يحل بيعها، ل
يحل الكراء بها، قال اللَّه تبارك وتعالى: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية.
وقال - عز وجل -: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فكانت الآيتان مطلقتين على إحلال البيع كله، إلا أن تكون دلالة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو
في إجماع المسلمين، الذين لا يمكن أن يجهلوا معنى ما أراد اللَّه، تخص تحريم بيع دون بيع، فنصير إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه؛ لأنه المبين عن الله - عز وجل - معنى ما أراد الله خاصَاً وعاماً، ووجدنا الدلالة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم شيئين:
أحدهما: التفاضل في النفد.
والآخر: النسيئة كلها.
الرسالة: ما أبان الله لخدقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله - ومنهم من قال -: لم يُسن سُنةُّ قط إلَّا ولها أصل
في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها، على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سنَّ من البيوع وغيرها من الشرائع؛ لأن الله قال:

(1/431)


(لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) الآية.
وقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فما أحل وحَرم فإنَّما بَين فيه عن الله، كما بيَّن الصلاة.
ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة اللَّه، فأثبتت سنته بفرض الله.
ومنهم من قال: ألقي في رُوعه كل ما سَن، وسنته الحكمة: الذي ألقي
في رُوعه عن اللَّه، فكان ما ألقي في رُوعه سُنته.
الرسالة (أيضاً) : ابتداء الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: هل تنسخ السنة بالقرآن؟
قيل: لو نسخت السنة بالقرآن، كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة، تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس، بأن الشيء يُنسخ بمثله.
فإن قال قائل: ما الدليل على ما تقول؟
قلت: فما وصفت من موضعه
من الإبانة عن اللَّه معنى ما أراد بفرائضه، خاصاً وعاماً، مما وصفت في كتابي
هذا.
وأنه لا يقول أبداً بشيء إلا بحكم اللَّه، ولو نسخ اللَّه مما قال حكماً لَسَن
رسول اللَّه فيما نسخه سُنة، ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نسَخ - اللَّه - سنته بالقرآن، ولا يؤثر عن رسول اللَّه السنة الناسخة، جاز أن يقال فيما حَرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيوع كلها؛ قد يحتمل أن يكون حرَّمها قبل أن ينزل
عليه: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.

(1/432)


الرسالة (أيضاً) : الفرض المنصوص الذي دلَّت السنة على أئه إنَّما أراد به
الخاصن:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع تراضى بها المتبايعان فحُرِّمت، مثل الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثلِ، ومثل الذهب بالوَرِق، وأحدهما نقد، والآخر نسيئة، وما كان في معنى هذا، مما ليس في التبايع به مخاطرةْ، ولا أمر يجهله البائع ولا المشتري.
فدلَّت السنة على أنَّ اللَّه جل ثناؤه أراد بإحلال البيع ما لم يُحَرِّم منه، دونَ
ما حَرم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ثم كانت لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في البيوع سوى هذا سنناً، منها: العبد يباع وقد دلس البائعُ المشتري بعيب، فللمشتري رده، وله الخراج بضمانه.
ومنها: أن من باع عبداً وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترط البتاع.
ومنها: من باع نخلاً قد أُبِّرت، فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع، لزم
الناسَ الأخذ بها، بما ألزمهم اللَّه من الانتهاء إلى أمره.
الرسالة (أيضاً) : باب (العلل في الأحاديث) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذكرتُ له قول اللَّه تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، وقوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) الآية، ثم حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيوعاً، منها:

(1/433)


الدنانير بالدراهم إلى أجل وغيرها، فحرَّمها المسلمون بتحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فليس هذا ولا غيره خلافاً لكتاب اللَّه.
قال: فَحُذَ لي معنى هذا بأجمع منه وأخصر.
فقلت له: لا كان في كتاب اللَّه دلالة على أن اللَّه قد وضع رسوله موضع
الإبانة عنه، وفرض على خلقه اتباع أمره فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية، فإنَّما يعني: أحل اللَّه البيع إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتابه أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وأن يقال في البيوع التي حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إنما حرمها قبل التنزيل فلما أنزلت: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية.
كانت حلالاً.
والربا: أن يكون للرجل على الرجل الدَّين فَيَحِل فيقول: أتقضي أم تربي؟
فيؤخرُ عنه ويزيده في ماله، وأشباهٌ لهذا كثيرة.
فمن قال هذا، كان مُعطلاً لعامة سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا القول جهل ممن قاله. قال: أجل.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي رحمه الله بتفسير
القرآن ومعانيه، وسبب نزوله) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ قال: حدثنا أبو العباس بن يعقوب قال: أنبأنا
الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)
الآية، فإنما يعني: أحل اللَّه البيع إذا كان على غير ما نهى الله عنه في كتاَبه، أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

(1/434)


قال الله - عزَّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ)
الأم: الحكم بين أهل الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى في المشركين بعد إسلامهم: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وقال: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) الآية.
فلم يأمرهم برد ما بقي من الربا، وأمرهم بأن لا يأخذوا ما لم يقبضوا منه.
ورجعوا إلى رؤوس أموالهم، وأنفذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكاح المشرك بما كان قبل حكمه وإسلامهم وكان مقتضياً، ورد ما جاوز أربعاً من النساء؛ لأنَّهن بواق، فتجاوز عما مضى كله في حكم اللَّه - عز وجل -، وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الأم (أيضاً) : الحربي يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله عزَّ وجلَّ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (تُظْلَمُونَ) الآيتان.
فعفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما قبضوا من الربا، فلم يأمرهم برده، وأبطل ما أدرك حكم الإسلام من الربا، ما لم يَقبِضوه، فأمرهم بتركه، وردهم إلى رؤوس أموالهم التي كانت حلالاً لهم، فجمع حكم اللَّه، ثم حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الربا.
أن عفا عما فات، وأبطل ما أدرك الإسلام، فكذلك حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في

(1/435)


النكاح، كانت العقدة فيه ثابتة فعفاها، وكثر من أربعة نسوة مدركات في
الإسلام، فلم يعفهن.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا الثقة (وأحسبه ابن علية) ، عن معمر، عن
ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن" الحديث.
الأم (أيضاً) : في قطع الشجر وحرق المنازل:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أربى أهل الجاهلية في الجاهلية، ثم سألوا رسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم - فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
وقال في سياق الآية: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ) الآيتان، فلم يبطل
عنهم رؤوس أموالهم إذا لم يتقابضوا، وقد كانوا مُقرِّين بها، ومستيقنين في
الفضل فيها، فأهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ما أصابوا، من دم أو مال؛ لأنَّه كان على وجه الغصب، لا على وجه الإقرار به.
الأم (أيضاً) : الصداق:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن كان الصداق محرّماً، مثل: الخمر وما أشبهه، فلم تقبضه فلها مهر مثلها، وإن قبضته بعد ما أسلم أحد الزوجين فلها مهر مثلها، وليس لمسلم أن يعطي خمراً، ولا لمسلم أن يأخذه، وإن قبضته وهما مشركان فقد

(1/436)


مضى، وليس لها غيره؛ لأن الله - عزَّ وجلَّ يقول: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) الآية، فأبطل ما أدرك الإسلام، ولم يأمرهم برد ما كان قبله من الربا، فإن كان أرطال خمر، فأخذت نصفه في الشرك وبقي نصفه، أخذت منه نصف صداق مثلها.
الأم (أيضاً) : البَحيرة والوصيلة والسائبة والحام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: أفتوجدني في كتاب الله - عزَّ وجلَّ في غير هذا بياناً؛ لأن الشرط إذا بطل في شيء، أخرجه إنسان من ماله بغير عتق بني آدم، ورجع إلى أصل مُلكه؟
قيل: نعم. قال الله عز ذكره: (اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)
وقال عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) الآيتان، وفي الإجماع: أن من باع بيعاً فاسداً فالبائع على أصل
ملكه، لا يخرج من ملكه إلَّا والبيع فيه صحيح، والمرأة تنكح نكاحاً فاسداً، هي على ما كانت عليه، لا زوج لها.
الأم (أيضاً) : ما قتل أهل دار الحرب من المسلمين فأصابوا من أموالهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تبارك وتعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)
الآية، ولم يأمرهم برد ما مضى منه، وقتل وحشي - رضي الله عنه - حمزة - رضي الله عنه -، فأسلم فلم يُقَدْ منه، ولم يتبع له بعقل، ولم يؤمر له بكفارة، لطرح الإسلام ما فات في الشرك. ..
ودلت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنَّه يُطرح عنهم ما بينهم وبين اللَّه - عز ذكره - والعباد.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان يجبُّ ما كان قبله" الحديث.

(1/437)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
الأم: التفليس:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"مَطلُ الغي ظُفمً" الحديث.
فلم يجعل على ذي دين سبيلاً في العسرة حتى تكون الميسرة، ولم يجعل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - مَطْله ظلماً إلا بالغنى، فإذا كان معسراً فهو ليس ممن عليه سبيل إلا أن يوسر، وإذا لم يكن عليه سبيل فلا سبيل على إجارته؛ لأن إجارته عمل بدنه.
وإذا لم يكن على بدنه سبيل، وإنما السبيل على ماله، لم يكن إلى استعماله سبيل، وكذلك لا يحبس؛ لأنَّه لا سبيل عليه في حاله هذه.
الأم (أيضاً) : باب (ما جاء في حبس المفلس) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يؤخذ الحر في دين عليه إذا لم يوجد له
شيء، ولا يحبس إذا عرف أن لا شيء له؛ لأن الله - عزَّ وجلَّ يقول:
(وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية.

(1/438)


مختصر المزني: باب (جواز حبس من عليه الدين) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا ثبت عليه الدين، ييع ما ظهر له، ودُفِع، ولم
يحبس، وإن لم يظهر، حُبس، وبيع ما قُدر عليه من ماله، فإن ذكر عُسره، قُبلتْ منه البيّنة، لقول اللَّه - عز وجل: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) الآية، وأحلّفه مع ذلك بالله، وأخليه، ومنعت غرماءه من لزومه، حتى تقوم بيّنة أن قد أفاد مالاً.
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)
الأم: باب (بيع الآجال) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلا يجوز البيع إلى العطاء، ولا إلى الحصاد.
ولا إلى الجداد؛ لأن ذلك يتقدم ويتأخر، وإنَّما قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.

(1/439)


الأم (أيضاً) : باب (الشهادة في البيوم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال - عز وجل - في آية الدين: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) الآية، والدين تبايع، وقد أمر فيه بالإشهاد، فبين المعنى الذي أمر له به، فدلَّ ما بين اللَّه - عز وجل - في الدين، على أن اللَّه - عز وجل - إنَّما أمر به على النظر والاحتياط، لا على الحتم، قلتُ: قال اللَّه تعالى:
(إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (السلف والمراد به السْلم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى قوله:
(وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية، فلما أمر اللَّه - عز وجل - بالكتاب ثم رخص في الإشهاد إن كانوا على سفر، ولم يجدوا كاتباً احتمل أن يكون فرضاً، واحتمل أن يكون دلالة، فلما قال اللَّه جل ثناؤه: (فَرِهَانٌ مقبُوضَة) الآية.
والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية، دلَّ كتاب اللَّه - عز وجل - على أن أمره بالكتاب، ثم الشهود، ثم الرهن إرشاداً؛ لا فرضاً عليهم؛ لأن قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، إباحة لأنْ يأمن بعضهم بعضاً، فيدع الكتاب والشهود والرهن.

(1/440)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأحِبُّ الكتاب والشهود؛ لأنَّه إرشاد من الله.
ونظر للبائع والمشتري،. . . إلى أن قال: ومن تركه - الكتاب والشهود - فقد ترك حزماً وأمراً لم أحبّ تركه، من غير أن أزعم أنَّه محرم عليه بما وصفت من الآية بعدها.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وقول اللَّه تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية، يحتمل كل دين، ويحتمل السلف خاصة، وقد ذهب فيه ابن
عباس رضي اللَّه عنهما إلى أنَّه في السلف.
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن قتادة، عن أبي حسان
الأعرج، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أشهد أن السلف المضمون إلى
أجل مسمى، قد أحلّه اللَّه تعالى في كتابه، وأذن فيه، ثم قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: وإن كان كما قال ابن عباس في السلف، قلنا به في
كل دين قياساً عليه؛ لأنَّه في معناه، والسلف جائز في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والآثار، وما لا يختلف فيه أهل العلم علمته.
الأم (أيضاً) : باب (الشهادة في الدين) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله - عزَّ وجلَّ: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُهُ) الآية والتي بعدها، وقال في سياقها: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) .

(1/441)


وذكر اللَّه شهود الدَّين فذكر فيهم النساء، وكان الدَّين أخذ مال من الشهود عليه، والأمر على ما فرق اللَّه بينه من الأحكام في الشهادات، أن ينظر كل ما شهد به على أحد، فكان لا يؤخذ منه بالشهادة نفسها مال، وكان إنَّما يلزم بها حق غير مال، أو شهد به
رجل، وكان لا يستحق به مالاً لنفسه، إنما يستحق به غير مال، مثل: الوصية والوكالة والقصاص والحد وما أشبهه، فلا يجوز فيه إلا شهادة الرجال، لا يجوز فيه امرأة، وينظر كل ما شهد به مما أخذ به المشهود له من المشهود عليه مالاً فتجوز فيه شهادة النساء مع الرجال؛ لأنه معنى الموضع الذي أجازهن اللَّه فيه، فيجوز قياساً لا يختلف هذا القول، فلا يجوز غيره - واللَّه تعالى أعلم -.
ومن خالف هذا الأصل ترك عندي ما ينبغي أن يلزمه من معنى القرآن، ولا أعلم لأحد خالفه حجة فيه بقياس، ولا خبر لازم، وفي قول الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) الآية، دلالة على أن لا تجوز شهادة النساء حيث نجيزهن إلا مع رجل، ولا يجوز منهن إلا امرأتان فصاعداً؛ لأن اللَّه - عز وجل - لم يسم منهن أقل من اثنتين، ولم يأمر بهن اللَّه إلا مع رجل.
الأم (أيضاً) : باب (ما على من دُعيَ يشهد بشهادة قبل أن يسألَها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) إلى قوله: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية.

(1/442)


قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه - عز وجل -: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) الآية، دلالة على: أن عليه فيما علمه الله من الكتاب حقاً في منفعة المسلمين، ويحتمل ذلك الحق أن يكون كلما دُعي لحق كتبه لا بد، ويحتمل أن يكون عليه وعلى من هو في مثل حاله، أن يقوم منهم من يكفي حتى لا تكون الحقوق معطلة، لا يوجد لها في الابتداء من يقوم بكفايتها، والشهادة عليها
فيكون فرضاً لازماً على الكفاية، فإذا قام بها من يكفي، أخرج من يتخلف من المأثم، والفضل للكافي على المتخلف، فإذا لم يقم به كان حرج جميع من دُعي إليه، فتخلف بلا عذر.
فلما احتمل هذين المعنيين معاً، وكان في سياق الآية: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية، كان فيها كالدليل على: أنَّه نهى الشهداء المدعوون كلفم أن
يابوا، قال: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، فأشبه أن يكون يُحرج من ترك ذلك ضراراً، وفرض القيام بها في الابتداء على الكفاية، وهذا يشبه والله تعالى أعلم ما وصفت من الجهاد، والجنائز، ورد السلام، وقد حفظت عن بعض أهل العلم قريباً من هذا المعنى، ولم أحفظ خلافه عن أحد أذكره منهم.
الأم (أيضاً) : باب (الحجر على البالغين) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الحجر على البالغين في آيتين من كتاب الله
. وهما: قول الله تبارك وتعالى: (فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.

(1/443)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإنَّما خاطب اللَّه - عز وجل - بفرائضه البالغين من الرجال والنساء، وجعل الإقرار له، فكان موجوداً في كتاب اللَّه - عز وجل -، أن أمر اللَّه تعالى الذي عليه الحق، أن يمل هو، وأن إملاءه: إقراره.
وهذا يدل على جواز الإقرار على من أقر به، ولا يأمر - والله أعلم -
أحداً أن يمل ليقر إلا البالغ، وذلك أن إقرار غير البالغ، وصمته، وإنكاره سواء عند أهل العلم، فيما حفظت عنهم، ولا أعلمهم اختلفوا فيه.
ثم قال في المرء الذي عليه الحق أن يملَّ: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
وأثبت الولاية على السفيه، والضعيف، والذي لا يستطيع أن يمل هو، وأمر
وليه بالإملاء عليه، لأنَّه أقامه فيما لا غناء عنه من ماله مقامه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قد قيل: والذي لا يستطيع أن يمل يحتمل أن يكون
المغلوب على عقله، وهو أشبه معانيه - والله أعلم -.
والآية الأخرى: قول الله تبارك وتعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهكذا قلنا: نحن وهم في كل أمر يكمل بأمرين، أو
أمور، فإذا نقص واحد لم يقبل، فزعمنا أن شرط الله تعالى:
(مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية: عدلان، حران، مسلمان، فلو كان الرجلان حرين، مسلمين غير عدلين، أو عدلين غير حرين، أو عدلين حرين غير مسلمين، لم تجز شهادتهما حتى يستكملا الثلاث.

(1/444)


الأم (أيضاً) : تفريع ما يمنع من أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: فكيف لا تجيز شهادة - أهل الذمة
- بعضهم على بعض، وفي ذلك إبطال الحكم عنهم؟
قيل: قال اللَّه - عز وجل -: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)
وقال: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، فلم يكونوا من رجالنا، ولا ممن نرضى من الشهداء، فلما وصف الشهود منا، دلَّ على أنَّه لا يجوز أن نقضي بشهادة شهود من غيرنا، لم يجز أن نقبل شهادة غير مسلم، أما إبطال حقوقهم فلم نبطلها، إلا إذا لم يأتنا ما يجوز فيه.
الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذي جاء عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمين مع الشاهد، ليس يخالف حكم الكتاب.
قال: ومن أين؟
قلنا: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)
الآية، فكان هذا محتملاً أن يكون: دلالة من اللَّه - عز وجل - على ما تتم به شهادة.
الأم (أيضاً) : شهادة النساء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لا تجوز شهادة النساء إلا في موضعين:

(1/445)


الموضع الأول: في مال يجب للرجل على الرجل، فلا يجوز من
شهادتهن شيء، وإن كثرن، إلا ومعهن رجل شاهد، ولا يجوز منهن أقل من
اثنتين مع الرجل فصاعداً، ولا نجيز اثنتين ويحلف معهما؛ لأن شرط الله - عز وجل - الذي أجازهما فيه مع شاهد، يشهد بمثل شهادتهما لغيره، قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية.
أما الموضع الثاني: حيث لا يرى الرجل من عورات النساء، فإنهن يجزن
فيه منفردات، ولا يجوز منهن أقلّ من أربع إذا انفردن، قياساً على حكم الله
تبارك وتعالى فيهن؛ لأنه جعل اثنتين تقومان مع الرجل مقام الرجل، وجعل
الشهادة شاهدين أو شاهداً وامرأتين.
فإن انفردن فمقام شاهدين أربع، وهكذا كان عطاء يقول: أخبرنا مسلم.
عن ابن جريج، عن عطاء.
الأم (أيضاً) : الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية.
وليس الفاسق واحداً من هذين، فمن قضى بشهادته، فقد خالف حكم اللَّه - عز وجل -، وعليه ردّ قضائه، وردّ شهادة العبد، إنَّما هو تأويل ليس ببئني، واتباع بعض أهل العلم.

(1/446)


الأم (أيضاً) : باب (في الدَّين) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)
الآية، وقال: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي نَجيح، عن
مجاهد أنه قال: عدلان، حران، مسلمان. ثم لم أعلم من أهل العلم مخالفاً في أن هذا معنى الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يقبل القاضي شهادة شاهد حتى يعرف
عدله، طعن فيه الخصم، أو لم يطعن، ولا تجوز شهادة الصبيان، بعضهم على بعض في الجراح ولا غيرها، قبل أن يتفرقوا، ولا بعد أن يتفرقوا؛ لأنَّهم ليسوا من شرط الله الذي شرطه في قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، وهذا قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وخالفه ابن الزبير رضي الله عنهما وقال: نجيز شهادتهم إذا لم يتفرقوا.
وقول ابن عباس رضي اللَّه عنهما أشبه بالقرآن، والقياس.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية، وقال (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) الآية، فكان على الحكام، ألَّا يقبلوا إلا

(1/447)


عدلاً في الظاهر، وكانت صفات العدل عندهم معروفة وقد وصفتها في غير هذا الموضع.
وقد يكون في الظاهر عدلاً، وسريرته غير عدل، ولكن الله لم يكلفهم ما لم
يجعل لهم السبيل إلى علمه، ولم يجعل لهم - إذ كان يمكن - إلاّ أن يردوا مَنْ ظَهَرَ منه خلاف العدل عندهم.
وقد يمكن أن يكون الذي ظهر منه خلاف العدل خيراً عند اللَّه - عز وجل -، من الذي ظهر منه العدل، ولكن كُلفوا أن يجتهدوا على ما يعلمون من الظاهر الذي لم يؤتوا أكثر منه.
الأم (أيضاً) : الطعام والشراب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: فهل للحَجْر في القرآن أصل يدلّ
عليه؟
قيل: نعم، - إن شاء اللَّه - قال الله - عزَّ وجلَّ -: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (السلف والمراد به: السلم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقول الله جلَ ذكره: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) الآية، يحتمل: ما وصفتُ من أن لا يأبى كل شاهد ابتدئ فيُدعى ليشهد.
ويحتمل: أن يكون فرضاً على من حضر الحق، أن يشهد منهم من فيه كفاية
للشهادة، فإذا شهدوا، أخرجوا غيرهم من المأثم، وإن ترك من حضر الشهادة خفت حرجهم، بل لا أشكَ فيه، وهذا أشبه معانيه به - واللَّه تعالى أعلم -.

(1/448)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأمّا من سبقت شهادته، بأن أشهِد أو علم حقاً
لمسلم، أو معاهد، فلا يسعه التخلف عن تأدية الشهادة متى طلبت منه في موضع مقطع الحق.
مختصر المزئي: كتاب (الوكالة) :
قال الشَّافِعِي رعه الله: وقال تعالى (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية، ووليه عند
الشَّافِعِي: هو القيم بماله.
مختصر المزني (أيضاً) : باب (الدعوى والبينات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال - سبحانه - في الدين: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية، فكان حكمه في الدين يقبل بشاهدين، أو شاهد وامرأتين، ولا يقال لشيء من هذا مختلف، على أن بعضه ناسخ لبعض، ولكن يقال: مختلف على أن كل واحد منه غير صاحبه.
مختصر المزني (أيضاً) : باب الخلاف في هذه الأحاديث:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) الآية، فقلت له: لست أعلم في هذه الآية
تحريم أنَّ يجوز أقل من شاهدين بحال.

(1/449)


أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشافعى - في القضايا والشهادات:
قال البيهقي رحمه الله: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس
الأصم، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ) الآية، يحتمل: أن يكون حتماً على من دُعي لكتابِ، فإن
تركه تارك: كان عاصياً.
ويحتمل: أن يكون على من حضر من الكُتَّاب، ألَّا يُعطلوا كتاب حق بين
رجلين، فإذا قام به واحد، أجزأ عنهم.
آداب الشَّافِعِي: ما ذكر من مناظرة الشَّافِعِي لمحمد بن الحسن وغيره:
أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد قال: أخبرني أبي، حدثنا محمد بن
عبد الله بن عبد الحكم قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: حضرت مجلساً فيه جماعة: فيهم رجل يقال له: سفبان
ابن سَخبَان فقلت ليحيى بن البناء، وكان حاضراً، كيف فِقهُ هذا؟
فقال لي: هو حسن الإشارة بالأصابع، ثم قال لي: تحبُّ أن تسمعه؟
قلت: نعم.
فقال: يا أبا فلان، رأيت شيئاً: أعجَبَ من إخواننا - من أهل المدينة - في
قضاياهم باليمين مع الشاهد؛ إنّ اللَّه - عز وجل - أمر بشاهدين، فنص على القضية، ثم قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) ثم أكد

(1/450)


ذلك فقال: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) الآية، فبين الله - عز وجل -: أنَّه لا تتم الشهادة إلا برجلين، وامرأتين فقالوا: يُقضى برجل واحد ويمين صاحب الحق؟!
فقال: نعم، إنهم يقولون: من هذا ما هو خلاف القرآن.
فقال له يحيى: احتجوا فقالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمعنى كتاب اللَّه، وقد رووا عنه أنه قضى باليمين مع الشاهد، ورووا ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. ..
فقال ابن سخبان: لا يُقبل هذا من الرواة، وهو خلاف القرآن.
آداب الشَّافِعِي (أيضاً) : قول الشَّافِعِي في أصول العلم:
أخبرنا أبو محمد، حدثنا أبي، حدثنا يونس قال:
سمعت الشَّافِعِي رحمه الله: يعتب على من يقول: لا يقاس المطلق - من
الكتاب - على المنصوص وقال: يلزم من قال هذا: أن يجيز شهادة العبيد
والسفهاء؛ لأن اللَّه - عز وجل - قال: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الآية، فَقَيَّد.
وقال في موضع آخر: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) الآية، فأطْلَق.
ولكن المطلق يقاس على المنصوص، مثل هذا، ولا يجوز إلا العَدلُ.
آداب الشَّافِعِي (أيضاً) : باب (في الأحكام) :
أخبرنا أبو محمد قال: أخبرني أبي قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى قال:

(1/451)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله - عز وجل -: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) الآية، إنما معناه: أن يُقِر بالحق، ليس معناه: أن يُمِل، وقوله: (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الآية، هاهنا
ثبتت الولاية، ثم نسخ هذا كلّه، وأخِبرَ: أنه اختيار وليس بفرض، بقوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا) الآية.
فائدتان:
الأولى: ومن طريف ما يحكى عن أمّ الشَّافِعِي رحمهما اللَّه من الحذق.
أنها شهدت عند قاضي مكة هي وأخرى، مع رجل، فأراد القاضي أن يفرق
بين المرأتين، فقالت له أم الشَّافِعِي رحمهما اللَّه: ليس لك ذلك، لأن اللَّه - عز وجل - يقول: (ان تَضِل إِخدَنهُمَا فَتُذَئحِرَ إِخدَنهُمَا اكاخرَى) الآية. فرجع القاضي إليها في ذلك - وقد علق ابن حجر على ذلك بقوله: هذا فرع غريب واستنباط قوي.
الثانية: وقال الأزهري رحمه اللَّه: وقوله - عز وجل -: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، فيه قولان:
1 - قال بعضهم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، لا يُضارر، أي: لا يكتب إلا الحق، ولا يشهد الشاهد إلا بالحق.

(1/452)


2 - وقال قوم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) الآية، أي: لا يُضَارَر ولا يُدعى وهو مشغول، لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يُدعى الشاهد ومجيئه للشهادة يَضُر به.
والأول: أبين، لقوله تعالى: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) الآية.
ومن كذب بالشهادة، وحرَّف الكتاب، فهو أولى بالفسوق ممن دعا كاتباً ليكتب وهو مشغول، أو شاهداً ليشهد وهو مشغول.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
الأم: باب (الشهادة في البيوع) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - بعد آية الدين في السياق - قال الله تعالى:
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، فلما أمر إذا لم يجدوا كاتباً بالرهن، ثم أباح
ترك الرهن، وقال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ) الآية، دلَّ على أن الأمر
الأول دلالة على الحظ، لا فرض منه، يعصي من تركه - والله أعلم -.

(1/453)


وقد حُفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه بايع أعرابياً في فرس، فجحد الأعرابي بأمر بعض المنافقين، ولم يكن بينهما بينة، فلو كان هذا حتماً لم يبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا بينة، وقد حفظت عن عدة لقيتهم مثل معنى قولي، من أنَّه لا يعصي من ترك الإشهاد، وأن البيع لازم، إذا تصادقا، لا ينقضه أن لا تكون بيّنة كما يُنقض
النكاح، لاختلاف حكمها.
الأم (أيضاً) : باب (السلف) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله جلَ ثناؤه: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية.
والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) الآية.
دلَّ كتاب الله - عزَّ وجلَّ على أن أمره بالكتاب.
ثم الشهود، ثم الرهن ارشاداً لا فرضاً عليهم؛ لأن قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية، إباحة لأن يأمن بعضهم بعضاً فيدع
الكتاب والشهود والرهن.
الأم (أيضاً) : كتاب (الرهن الكبير - إباحة الرهن:
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: قال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)
الآية، وقال عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌة) الآية.

(1/454)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: فكان بيناً في الآية، الأمر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر اللَّه تبارك اسمه الرهن إذا كانوا مسافرين، ولم يجدوا كاتباً، فكان معقولاً - والله أعلم فيها - أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطاً لمالك الحق بالوثيقة، والمملوك عليه بألَّا ينسى ويذكر، لا أنَّه فرض عليهم أن يكتبوا، ولا أن يأخذوا رهناً، لقول الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية.
فكان معقولاً أن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة، والله أعلم في
الحضر وغير الإعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحالِّ، والدين في الحضر والسفر.
وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافاً، وقد رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه في الحضر عند أبي الشحم اليهودي.
وقيل: في سلف، والسلف حالٌّ.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأذن اللَّه جل ثناؤه بالرهن في الدين، والدين حق
لازم، فكل حق مما يملك، أو لزم بوجه من الوجوه جاز الرهن فيه.
الأم (أيضاً) : الرهن الصغير:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أصل أجازة الرهن في كتابه - عز وجل -: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية، فالسنة تدلُّ على إجازة الرهن، ولا أعلم مخالفاً في إجازته.
أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن
شهاب، عن سعيد بن المسيب رحمه اللَّه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا يَغلَقُ الرهنُ، الرهنَ من صاحبه الذي رهنه، له غنمُه وعليه غرمُه" الحديث.

(1/455)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: فالحديث جملة على الرهن، ولم يخص رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا رهناً دون رهن.
واسم الرهن يقع على: ما ظهر هلاكه ومخفي.
ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - واللَّه تعالى أعلم -:
"لا يغلق الرهن بشيء"، أي: إن ذهب لم يذهب بشيء، وإن أراد صاحبه افتكاكه، ولا يغلق في يدي الذي هو في يديه. ..
والرهن للراهن أبداً، حتى يخرجه من ملكه بوجه يصحُّ إخراجه له، والدليل
على هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن من صاحبه الذي رهنه"، ثم بيّنه وأكدّه فقال:
"له غنمه وعليه غرمه"، وغنمه: سلامته وزيادته، وغرمه: عطبه ونقْصه.
الأم (أيضاً) : رهن المشاع:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لا بأس بأن يرهن الرجل نصف أرضه، ونصف
داره، وسهماً من أسهم من ذلك مشاعاً غير مقسوم، إذا كان الكلّ معلوماً، وكان ما رهن منه معلوماً، ولا فرق بين ذلك وبين البيوع.
وقال بعض الناس: لا يجوز الرهن إلا مقبوضاً مقسوماً، لا يخالطه غيره، واحتجّ بقول اللَّه تبارك وتعالى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فالقبض: اسم جامع، وهو يقع كعان مختلفة، كيفما
كان الشيء معلوماً، أو كان الكلّ معلوماً، والشيء من الكل جزء معلوم من
أجزاء، وسُلِّم حتى لا يكون دونه حائل فهو قبض، فقبض الذهب والفضة
والثياب في مجلس الرجل، والأرض أن يؤتى في مكانها فتسلم، لا تحويها يد ولا يحيط بها جدار، والقبض في كثير من الدور والأرضيين إسلامها بأعْلاَقها،

(1/456)


والعبيد تسليمهم بحضرة القابض، والمشاع من كل أرض وغيرها أن لا يكون
دونه حائل، فهذا كله قبض مختلف يجمعه اسم القبض، وإن تفرق الفعل فيه، غير أنه يجمعه أن يكون مجموع العين، والكل جزء من الكل معروف، ولا حائل دونه، فإذا كان هكذا فهو مقبوض، والذي يكون في البيع قبضاً، يكون في الرهن قبضاً، لا يختلف ذلك.
الأم (أيضاً) : الوديعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا استودع الرجلُ الرجلَ الوديعة، فاختلفا، فقال
المستودع: دفعتها إليك، وقال المستودع: لم تدفعها، فالقول قول المستودع، ولو كانت المسألة بحالها غير أن المستودعَ قال: أمرتني أن أدفعها إلى فلان فدفعتها.
وقال المستودِع: لم آمرك، فالقول قول المستودِع، وعلى المستودع البينة، وإنَّما فرقنا بينهما أنَّ المدفوع إليه غير المستودع، وقد قال الله - عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) الآية.
فالأول: إنَّما ادعى دفعها إلى من اتممنه، والثاني: إنَّما ادعى دفعها إلى غير
المستودِع بأمره، فلما أنكر أنه أمره، أغرم له؛ لأنٌ المدفوع إليه غير الدافع.
الأم (أيضاً) : باب (ما يجب على المرء من القيام بشهادته) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال - عز وجل -: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الآية.
وقال: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) .

(1/457)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذي أحفظ عن كل من سمعت منه، من أهل
العلم في هذه الآيات، أنَّه في الشاهد، وقد لزمته الشهادة، وأن فرضاً عليه أن يقوم بها على والديه، وولده، والقريب، والبعيد، وللبغيض والقريب والبعيد، ولا يكتم عن أحد، ولا يحابي بها، ولا يمنعها أحداً.
ثم تتفرع الشهادات، فيجتمعون ويختلفون، فيما يلزم منها وما لا يلزم، ولهذا كتاب غير هذا.
مختصر المزني: باب (الرهن) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أذن اللَّه جل ثناؤه بالرهن في الدين، والدين حق.
فكذلك كل حق لزم في حين الرهن وما تقدم الرهن، وقال اللَّه تبارك وتعالى: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) الآية، ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضاً من جائز الأمر، حين رهن، وحين أقبض، وما جاز بيعه، جاز رهنه وقبضه من مشاع وغيره. ..
ولا يجوز - قبض الرهن - إلا معه أو بعده، فأما قبله فلا رهن.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
وقال الله عزَّ وجلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)

(1/458)


أحكام القرآن: فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في آيات
متفرقة:
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن
أيوب الفارسي المفسر، أخبرنا أبو بكر محمد بن صالح بن الحسن البستاني
(بشيراز) ، أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي رحمه الله، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن
ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة، قال عكرمة لابن عباس رضي اللَّه عنهما: إن ابن عمر رضي اللَّه عنهما تلا هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ) الآية، فبكى، ثم قال: والله لئن أخذنا اللَّه بها لنهلِكن.
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يرحم اللَّه أبا عبد الرحمن، وقد وجد
المسلمون منها - حين نزلت - ما وجدوا، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) الآية.
من القول والعمل، وكان حديث النفس مما لا يملكه أحد، ولا يقدر عليه أحد.
أحكام القرآن: فصل فيما لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فرض اللَّه - عز وجل - قتال غير أهل الكتاب حتى يسلموا، وأهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وقال: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
فبذا فُرِض على المسلمين ما أطاقوه، فإذا عجزوا عنه، فإنما كُلفوا منه
ما أطاقوه، فلا بأس: أن يكفوا عن قتال الفريقين من المشركين، أو يهادنوهم.

(1/459)


مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي، بأصول الكلام.
وصحة اعتقاده فيه) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ) الآية، فذلك ما فرض الله على القلب من الإيمان.
وهو عمله، وهو رأس الإيمان.

(1/460)