تفسير الإمام
الشافعي سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)
الأم: باب (الإشارة إلى المطر)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا من لا أتهم قال:
حدثنا سليمان بن
عبد اللَّه، عن عروة بن الزبير قال: "إذا رأى أحدكم البرق أو
الوَدقَ فلا يشير إليه وليصف ولينعت" الحديث.
قال الشَّافِعِي: ولم تزل العرب تكره الإشارة إليه في الرعد.
أخبرنا الربيع قال:
(1/199)
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا الثقة أن
مجاهداً كان يقول: الرعد ملك
والبرق أجنحة الملك يَسُقْنَ السحاب.
قال الشَّافِعِي: ما أشبه ما قال مجاهد بظاهر القرآن!.
أخبرنا الثقة عن مجاهد أنه قال: ما سمعت بأحد ذهب البرق ببصره.
كأنه ذهب إلى قوله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ) الآية.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في الطهارات والصلوات)
وبهذا الإسناد:
قال الشَّافِعِي: أخبرنا الثقة: أن مجاهداً كان يقول: (الرعد)
: ملك.
والبرق: أجنحة الملك يَسُقْنَ السحاب) ثم ساق خبر الشَّافِعِي
عن مجاهد بنصه
كما في الأم.
قال الله تعالى (. . . وَقُودُهَا اَلناسُ وَالْحِجَارَةُ. .
.) الآية.
(1/200)
الرسالة: باب (بيان ما نزل من الكتاب عام
الظاهر يراد به كله الخاص)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فدل كتاب الله على أنه إنما
وَقُودها بعض الناس
لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) .
أحكام القرآن: فصل (في معرفة العموم والخصوص)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله - عز وجل -: (وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الآية، فدل كتاب الله - عز وجل - على
أن وقودها بعض الناس لقوله - عز وجل -: (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) الآية.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ) البقرة: 43، الآية
الأم: باب (الحكم في تارك الصلاة)
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من ترك الصلاة المكتوبة ممن
دخل في
الإسلام، قيل له: لم لا تصلي؟
فإن ذكر نسياناً قلنا: فَصِل إذا ذكرت، وإن
(1/201)
ذكر مرضاً قلنا: فصل كيف أطقت قائماً أو
قاعداً أو مضطجعاً أو مومياً. فإن قال: أنا أطيق الصلاة
وأحسنها، ولكن لا أصلي، وإن كانت على فرضاً!
قيل له: الصلاة عليك شيء لا يعمله عنك غيرك، ولا تكون إلا
بعملك، فإن صليت وإلا استتبناك، فإن تبت وإلا قتلناك؛ فإن
الصلاة أعظم من الزكاة.
والحجة فيها ما وصفتُ من أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال:
"لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لقاتلتهم عليه، لا تفرقوا بين ما جمع الله" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: يذهب - أي: قول أبي بكر - رضي الله
عنه - لا تفرقوا بين ما جمع الله - فيما أرى واللَّه أعلم
(القول للشافعي) إلى قول الله تبارك وتعالى: (وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية.
وأخبرنا أبو بكر - رضي الله عنه - أنه إنما يقاتلهم على
الصلاة والزكاة، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قاتلوا مَن مَنَع الزكاة؛ إذ كانت فريضة من فرائض اللَّه جل
ثناؤه، ونصب دونها أهلها، فلم يقدر على أخذها منهم طائعين، ولم
يكونوا مقهورين عليها، فتؤخذ منهم كما تقام عليهم الحدود
كارهين.
الأم (أيضاً) : باب (زكاة مال اليتيم الثاني)
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: (الزكاة في مال اليتيم كما
في مال البالغ لأن
الله - عز وجل - يقول: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
(1/202)
فلم يخص مالاً دون مال، وقال بعض الناس:
إذا كانت لليتيم ذهب أو
وَرِقٌ فلا زكاة فيها، واحتج أن اللَّه يقول: (وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
الآية، وذهب إلى أن فرض الزكاة إنما هو على من وجبت عليه
الصلاة، وقال: كيف يكون على يتيم صغير فرض الزكاة والصلاة عنه
ساقطة، وكذلك أكثر الفرائض؛ ألا ترى أنه يزني ويشرب الخمر فلا
يُحد، ويكفر فلا يُقتل.
واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع القلم
عن ثلاثة. ." ثم ذكر "والصبي حتى يبلغ" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لبعض من يقول هذا القول: إن كان ما
احتججت
به على ما احتججت فأنت تارك مواضع الحجة.
الأم (أيضاً) : باب (جماع فرض الزكاة)
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: فرض اللَّه - عز وجل - الزكاة في غير
موضع من كتابه قد كتبناه للشافعي في آخر الزكاة فقال في غير
آية من كتابه:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، يعني
أعطوا الزكاة.
وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
(1/203)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ففرض اللَّه -
عز وجل - على من له مال تجب فيه الزكاة أن يؤدي الزكاة إلى من
جعلت له، وفرض على من ولي الأمر أن يؤديها، الى الوالي إذا لم
يؤدها. وعلى الوالي إذا أداها أن لا يأخذها منه؛ لأنه سماها
زكاة واحدة لا زكاتين. وفَرضُ الزكاة مما أحكم اللَّه - عز وجل
-، وفرضه في كتابه، ثم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
الأم (أيضاً) : باب (هل تجب العمرة وجوب الحج)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قد يحتمِل قول اللَّه - عز
وجل -:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، أن يكون
فَرَضَهما معاً، وفرضه إذا كان في موضع واحد يثبت ثبوته في
مواضع كثيرة كقوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، ثم قال:
(إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا (103) الآية.
فذكرها (أي: فرضه الزكاة) مرة مع الصلاة، وأفرد الصلاة مرة
أخرى بدونها، فلم يمنع ذلك الزكاة أن تثبت.
الأم (أيضاً) : باب (كراء الأرض البيضاء)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه - عز وجل -:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
. . . الآية، فلو أن امراً أحضر مساكين وأخبرهم أن لهم في ماله
دراهم أخرجها بأعيانها من زكاة ماله، فلم يقيضوها، ولم يَحُلْ
بينهم وبينها، لم تخرج من أن تكون مضمونة عليه حتى يؤديها، ولو
تلفت في يده تلفت من ماله. وكذلك لو تطهر للصلاة وقام يريدها
ولا يصليها، لم يخرج من فرضها حتى يصليها.
(1/204)
وجاء في الأم (أيضاً) : باب (ما جاء في أمر
النكاح)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويحتمل أن يكون الأمر
بالنكاح في قوله
تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) إلى قوله:
(يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية، والأمر في الكتاب
والسنة وكلام الناس يحتمل معاني - منها -: أن
يكون الأمر بالنكاح حتماً كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، فدلّ على أنها حتم.
الرسالة: باب (البيان الثالث)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية، بعد أن
ذكر الآية الكريمة: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) الآية.
ثم بين على لسان رسوله عدد ما فرض اللَّه من الصلوات
ومواقيتها وسننها، وعدد الزكاة ومواقيتها،. . . وحيث يزول هذا
ويثبت، وتختلف سننه وتاتفق، ولهذا أشباه كثيرة في القرآن
والسنة.
الرسالة (أيضاً) : باب (جمل الفرائض)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: بعد أن ذكر الآية (43 / من
سورة البقرة)
أحكم اللَّه فرضه في كتابه في الصلاة والزكاة والحج، وبين كيف
فرض على
لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم.
(1/205)
فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
عدد الصلوات المفروضات خمس، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء
في الحضر أربع أربع، وعدد المغرب ثلاث، وعدد الصبح ركعتان.
وسنَّ فيها كلها قراءة، وسن أن الجهر منها بالقراءة في المغرب
والعشاء
والصبح، وأن المخافتة بالقراءة في الظهر والعصر.
وسنَّ أن الفرض في الدخول في كل صلاة بتكبير، والخروج منها
بتسليم.
وأنه يؤتى فيها بتكبير ثم قراءة ثم ركوع ثم سجدتين بعد الركوع،
وما سوى
هذا من حدودها.
وسن في صلاة السفر قَصراً كلما كان أربعاً من الصلوات - إن شاء
المسافر - وإثبات المغرب والصبح على حالهما في الحضر.
وأنها كلها إلى القبلة مساقرأ كان أو مقيماً، إلا في حالي من
الخوف واحد؟
وسن أن النوافل في مثل حالها: لا تحِل إلا بطَهور، ولا تجوز
إلا بقراءة.
وما تجوز به المكتوبات من السجود والركوع واستقبال القبلة في
الحضر وفي
الأرض وفي السفر، وأن للراكب أن يصلي في النافلة حيث توجهت به
دابته، ودلل - الشَّافِعِي - على ذلك بحديث:
أخبرنا ابن أبي فُدَيك، عن ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد
اللَّه بن
سراقة، عن جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه -: "أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني أنمار كان
يصلي على راحلته متوجهاً قِبَل المشرق.
(1/206)
وسنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
صلاة الأعياد والاستسقاء سنة الصلوات في عدد الركوع والسجود،
وسن في صلاة الكسوف فزاد فيها ركعة (أي: ركوعاً) على ركوع
الصلوات فجعل في كل ركعة ركعتين (أي: ركوعين)
ودلل على ذلك أيضاً بثلاثة أحاديث، عن أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها اثنان، وواحد عن ابن عباس، ثم قال (أي: الشَّافِعِي)
واجتمع في حديثهما معاً (أي: عائشة وابن عباس رضي اللَّه
عنهما) على أن صلى صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركعتين (أي:
ركوعين) .
وقد استدل الشَّافِعِي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الآية (43
من سورة
البقرة) معدّداً ما يجب في مال الرجل أوجبه اللَّه فقال: (فدلّ
الكتاب والسنة
وما لم يختلف المسلمون فيه: أن هذا كله في مال الرجل بحق وجب
عليه للهِ، أو أوجبه اللَّه عليه للآدميين بوجوهٍ لزمته، وأنه
لا يُكلف أحد غُرْمَهُ عنه) .
(1/207)
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) .
الأم: كتاب الذكاة باب (فيه مسائل مما سبق) تتعلق بالذبح
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكل ما كان مأكولاً من طائر
أو دابة فأن
يذبحَ أحبُّ إلِي وذلك سنته ودلالة الكتاب فيه، والبقر داخلة
في ذلك لقوله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)
الآية، وحكايته فقال:
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) ، الآية.
إلا الإبل فقط فإنها تنحر، لأن رسول اللَّه - صلى الله عليه
وسلم - نحر بُدنه، فموضع النحر في الاختيار - في السُّنة - في
اللَّبَّة، وموضع الذبح
في الاختيار - في السُّنة - أسفل من اللحيين، والذكاة في جميع
ما ينحر ويذبح ما بين اللَّبَّة والحلق، فأين ذبح من ذلك أجزأه
فيه ما يجزيه إذا وضع الذبح في موضعه، وإن نحر ما يُذبح أو ذبح
ما يُنحر، كرهتُه له، ولم أحرمه عليه، وذلك أن النحر والذبح
ذكاة كله، غير أني أحبّ أن يضع كل شيء من ذلك موضعه لا يعدوه
إلى غيره.
قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: (الذكاة في اللَّبَّة والحلق
لمن قدر) .
(1/208)
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب، وزاد عمر:
(ولا تعجلوا الأنفس
أن تزهق) .
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ) الآية
الأم: كتاب الزكاة باب (فيه مسائل مما سبق) تتعلق بالذبح
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكل ما كان مأكولاً من طائر
أو دابة فإن
يذبح أحبّ إلي وذلك سنته ودلالة الكتاب فيه، والبقرة داخلة في
ذلك لقوله
تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)
الآية، وحكايته فقال:
(فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) الآية، إلا الإبل
فقط، فإنها تنحر. . ثم كمل ما نقلناه في الآية السابقة.
(1/209)
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
الأم: باب (الحكم بين أهل الجزية)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولو أوصى أحد من أهل الكتاب
- بأن
يكتب بثلثه الإنجيل والتوراة لِدَرس، لم تجز الوصية لأن اللَّه
- عز وجل - قد ذكر تبديلهم منها فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
الآية، وقال:
(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ
بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (حد الذمتين إذا زنوا)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقلت له (أي: للمحاور)
أخبرنا إبراهيم بن
سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن
ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن
شيء؛ وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -
أحدثُ الأخبار، تقرؤونه عضاً لم يُشَب؟! ألم يخبركم الله - عز
وجل - في كتابه أنهم حرفوا كتاب الله تبارك اسمه، وبدلوا
وكتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: (هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
.. الآية.
ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم
(1/210)
عن مسألتهم؛ والله ما رأبنا أحداً منهم
بسالكم عما أنزل الله إليكم
الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقلت له: أمرنا الله - عز
وجل - بالحكم بينهم بكتاب الله المنزل على نبيه - صلى الله
عليه وسلم -، وأخبر أنهم قد بدلوا كتابه الذي أنزل، وكتبوا
الكتاب بأيديهم فقالوا:
(هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (الحكم بين أهل الكتاب)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يستن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - - علمناه - ولا أحد من أصحابه، ولم يجمع
المسلمون على إجازة شهادتهم بينهم. . .، فقد أخبرنا اللَّه
تبارك وتعالى أنهم بدلوا كتاب اللَّه وكتبوا الكتب بأيديهم
وقالوا: (هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) الآية.
مختصر المزني: باب (الحكم في المهادنين والمعاهدين)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولو قال اكتبوا بثلثي (أي:
بثلث مالي)
التوراة والإنجيل فسخته لتبديلهم، قال اللَّه - عز وجل:
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ)
الآية.
(1/211)
الرسالة: باب (المقدمة)
قال الربيع بن سليمان:
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إدريس:. . . بعثه والناس صنفان:
أحدهما: أهل الكتاب، بدلّوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا
كذباً
صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم.
فذكر تبارك وتعالى لنبيه من كفرهم فقال: (وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78) . الآية.
ثم قال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا
كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
.
ثانيهما: وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به اللَّه،
ونصبوا بأيديهم
حجارة وخُشُباً، وصوراً استحسنوها، ونبذوا أسماء افتعلوها،
ودعوها آلهة
عبدوها، فإذا استحسنوا غير ما عبدوا منها ألفوه ونصبوا بأيديهم
غيره فعبدوه: فأولئك العرب.
وسلكت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من
حوت ودابة ونجم ونار وغيره.
(1/212)
أحكام القرآن: فصل (فيمن لا يجب عليه
الجهاد)
ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ، إلَى أَنْ قَالَ: أَنَا إبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ:
وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ،
تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟ ، أَلَمْ يُخْبِرْكُمْ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ
(عَزَّ وَجَلَّ) وَبَدَّلُوا، وَكَتَبُوا كِتَابًا
بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالُوا: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} ؟.
أَلَا يَنْهَاكُمْ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَكُمْ عَنْ
مَسْأَلَتِهِمْ؟ ، وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ
قَطُّ يَسْأَلُكُمْ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ.
قال الله عز وجل (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
الأم: (الحكم في تارك الصلاة)
الأم: (أيضاً) باب (زكاة مال اليتيم)
الأم: (أيضاً) باب (جماع فرض الزكاة)
(1/213)
الأم (أيضاً) : باب (هل تجب العمرة وجوب
الحج)
الأم (أيضاً) : باب (كراء الأرض البيضاء)
الأم (أيضاً) : باب (ما جاء في أمر النكاح)
الرسالة: باب (البيان الثالث)
الرسالة (أيضاً) : باب (جمل الفرائض)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي
بأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه على اللسان:
القول والتعبير عن
القلب بما عقد وأقرُّ به، فقال في ذلك: (قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ) الآية.
وقال: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) الآية، فذلك ما فرض
اللَّه على اللسان من
القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
(1/214)
قال الله عزَّ وجلَّ: (مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106) .
الرسالة: باب (ابتداء الناسخ والمنسوخ)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن اللَّه خلق الخلق لما سبق في
علمه مما أراد بخلقهم
وبهم، (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
الآية.
وأنزل عليهم الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وفرض فيه
فرائض)
أثبتها، وأخرى نسخها رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة
عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمة. وأثابهم على الانتهاء
إلى ما أثبت عليهم: جنته، والنجاة من عذابه. فعمتهم رحمته فيما
أثبت ونسخ. فله الحمد على نعمه.
وأبان اللَّه لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن
السنة لا
ناسخة للكتاب، وإنما هي تبع للكتاب، بمثل ما نزل نصاً، ومفسرة
معنى ما
أنزل اللَّه منه جُملاً.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي كتاب الله دلالة عليه، قال -
عز وجل -: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ
بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) الآية.
فأخبر اللَّه أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن
مثله.
وقال - عز وجل -: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ
مُفْتَرٍ) الآية، وهكذا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لا ينسخها إلا سنة
(1/215)
لرسول الله ولو أحدث الله لرسوله في أمر
سنَّ فيه: غير ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسن فيما
أحدث الله إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما
يخالفها. وهذا مذكور في سنته صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: فقد وجدنا الدلالة على أن القرآن ينسخ القرآن
لأنه لا مثل للقرآن فأوجدنا ذلك في السنة؟.
قال الشَّافِعِي: فيما وصفت من فرض الله على الناس
اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: دليل على أن سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنما قبلت عن الله فمن اتبعها فبكتاب
الله تبعها ولا نجد خبرا ألزمه الله خلقه نصا بينا: إلا كتابه
ثم سنة نبيه. فإذا كانت السنة كما وصفت لا شبه لها من قول خلق
من خلق الله-: لم يجز أن ينسخها إلا مثلها ولا مثل لها غير سنة
رسول لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له بل فرض على خلقه
اتباعه فألزمهم أمره فالخلق كلهم له تبع ولا يكون للتابع أن
يخالف ما فرض عليه اتباعه ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم
يكن له خلافها ولم يقم مقام أن ينسخ شيئا منها.
فإن قال: أفيحتمل أن تكون له سنة مأثورة قد نسخت ولا تؤثر
السنة التي نسختها؟.
فلا يحتمل هذا وكيف يحتمل أن يؤثر ما وضع فرضه ويترك ما يلزم
فرضه؟! ولو جاز هذا خرج عامة السنن من أيدي الناس بأن يقولوا:
لعلها منسوخة!! وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض.
كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة. وكل منسوخ في
كتاب وسنة هكذا.
فإن قال قائل هل تنسخ السنة بالقرآن
(1/216)
قال الشَّافِعِي: لو نسخت السنة بالقرآن
كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة تبين أن سنته
الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتى تقوم الحجة على الناس بأن
الشيء ينسخ بمثله.
فإن قال: ما الدليل على ما تقول؟
قال الشَّافِعِي: فما وصفت من موضعه من الإبانة عن الله معنى
ما أراد
بفرائضه، خاصاً وعاماً، مما وصفتُ في كتابي هذا، وأنه لا يقول
أبداً لشيء إلا بحكم الله.
ولو نسخ الله مما قال حكماً لسنَّ رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فيما نسخه سنة.
ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم
نسخ سنته بالقرآن ولا يؤثر
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السنة الناسخة: جاز أن
يقال: فيما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
البيوع كلها: قد يحتمل أن يكون حَرمها قبل أن يُنزل عليه
(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) الآية،
وفيمن رَجَمَ من الزناة: قد يحتمل أن يكون
الرجم منسوخاً؛ لقول الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية،
وفي المسح على الخفين: نسخت آية الوضوء المسح.
وجاز أن يقال: لا يدرأ عن سارق سرق من غير حرز، وسرقته أقل من
ربع
دينار؛ لقول اللَّه تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) الآية.
لأن اسم السرقة يلزم من سرق قليلاً وكثيراً، ومن حرز ومن غير
حرز، ولجاز ردُّ كل حديث عن رسول اللَّه بأن يقال: لم يقله،
إذا لم يجده مثل التنزيل، وجاز رد السنن بهذين الوجهين، فتُركت
كل سنة معها كتاب جملة تحتمل سنته أن توافقه، وهي لا تكون
أبداً إلا موافقة له، إذا احتمل اللفظ فيما روي عنه خلاف اللفظ
في التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه كثر مما في
اللفظ في التنزيل، وإن كان محتمِلاً أن يخالفه من وجه.
(1/217)
وكتاب اللَّه وسنة رسوله - صلى الله عليه
وسلم - تدل على خلاف هذا القول، وموافقة لما قلنا.
وكتاب اللَّه البيان الذي يُشفى به من العَمَى، وفيه الدلالة
على موضع
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من كتاب اللَّه ودينه،
واتباعه له، وقيامه بتبيينه عن اللَّه.
اختلاف الحديث: (المقدمة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا ينسخ كتاب اللَّه إلا
لقول اللَّه:
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) الآية.
وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)
الآية.
فأبان أن نسخ القرآن لا يكون إلا بقرأن مثله، وأبان جل ثناؤه
أنه فرض
على رسوله اتباع أمره، فقال: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ) الآية.
وشهد له باتباعه، فقال جل ثناؤه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) الآية.
فأعلم اللَّه خلقه أنه يهديهم إلى صراطه، قال فتُقام سنة رسول
اللَّه مع
كتاب اللَّه جل ثناؤه، مقام البيان عن اللَّه عدد فرضه كبيان
ما أراد بما أنزل عاماً.
العامَ أراد به أو الخاص، وما أنزل فرضاً وأدباً وإباحة
وإرشاداً إلا أن شيئاً من
سنة رسول الله يخالف كتاب اللَّه في حال، لأن اللَّه جل ثناؤه
قد أعلم خلقه أن رسوله يهدي إلى صراط مستقيم صراط اللَّه، ولا
أن شيئاً من سنن رسول اللَّه ناسخ لكتاب اللَّه، لأنه قد أعلم
خلقه أنه إنما ينسخ القرآن بقرآن مثله، والسنة تبع للقرآن.
(1/218)
وقد اختصرت من إبانة السنة عن كتاب اللَّه
بعض ما حضرني مما يدل
على ما في مثل معناه إن شاء اللَّه، قال اللَّه جل ثناؤه:
(إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا (103) .
فدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عدد
الصلاة، ومواقيتها والعمل بها وفيها، ودل على أنها على العامة
الأحرار
والمماليك من الرجال والنساء إلا الحُيض، فأبان منها المعاني
التي وصفت.
وأنها مرفوعة عن الحُيض. . . الخ.
أحكام القرآن: (فصل في النسخ)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا
الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن اللَّه خلق الخلق لما سبق في
علمه مما أراد بخلقهم
وبهم. . . وساق النص الوارد سابقاً في كتاب الرسالة.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ) .
سبق تفسيرها في الآية / 43، وانظر الإشارة إلى مواضع كلام
الإمام
الشَّافِعِي عنها في الآية / 83 من سورة البقرة.
(1/219)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشافعى - من التفسير
والمعاني في
الطهارات والصلوات)
قرأت - للإمام البيهقي - في كتاب: (المختصر الكبير) فيما رواه
أبو
إبراهيم المزني، عن الشَّافِعِي رحمه الله ألْه قال: أنزل
اللَّه - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فرض
القبلة
بمكة، فكان يصلي في ناحية يستقبل منها البيت الحرام وبيت
المقدس، فلما
هاجر إلى المدينة، استقبل بيت المقدس، مولياً عن البيت الحرام
ستة عشر شهراً - وهو يحب: لو قضى اللَّه إليه باستقبال البيت
الحرام، لأن فيه مقام أبيه إبراهيم وإسماعيل؛ وهو المثابة
للناس والأمن، وإليه الحج، وهو المأمور به: أن يُطهر للطائفين
والعاكفين والركع السجود.
مع كراهية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وافق
اليهود، فقال لجبريل - عليه السلام -:
"لودِدت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها"؛ فأنزل اللَّه
- عز وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) الآية.
يعني - والله أعلم -: فثم الوجه الذي وجهكم اللَّه إليه، فقال
جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا محمد أنا عبد مأمور
مثلك، لا أملك شيئاً، فسل الله) فسأل النبي - صلى الله عليه
وسلم - ربه أن
يوجهه إلى البيت الحرام، وصَعِد جبريل إلى السماء، فجعل النبي
- صلى الله عليه وسلم - يديم طرفه إلى السماء: رجاء أن يأتيه
جبريل - صلى الله عليه وسلم - بما سأل.
(1/220)
فأنزل اللَّه - عز وجل - (قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ) إلى قوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) .
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)
الأم: باب (دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله - عز وجل -: (وَإِذْ
جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا)
إلى قوله: (وَالركعِ السُّجُودِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: المثابة في كلام العرب: الموضع
يثوب الناس إليه.
ويثوبون: يعودون إليه بعد الذهاب منه، وقد يقال ثاب إليه:
اجتمع إليه.
فالمثابة: تجمع الاجتماع.
ويثوبون: يجتمعون إليه راجعين بعد ذهابهم منه ومبتدئين.
قال ورقة بن نوفل يذكر البيت:
(1/221)
مثاباً لأفناء القبائل كلها ... تخبُّ إليه
اليعملات (1) الذوامل
وقال خداش بن زهير النصري:
فما برحت بكر تثوب وتدعى ... ويلحق منهم أولون وآخِر
أحكام القرآن: (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الحج)
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا
الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم ساق ما ورد في الأم حرفياً.
قال الله عزَّ وجلَّ: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
الرسالة: باب (بيان فَرَض الله في كتابه اتباع سنة نبيه - صلى
الله عليه وسلم)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وضع اللَّه رسوله من دينه
وفرضه وكتابه
الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علماً لدينه، بما افترض من
طاعته، وحرّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قَرَنَ من
الإيمان برسوله مع الإيمان به.
__________
(1) اليعملات: جمع يعمله: وهي الناقة السريعة اللينة.
(1/222)
فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه
تبع له: (الإيمان بالله ثم برسوله) .
فلو آمن عبد به، ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال
الإيمان أبداً.
حتى يؤمن برسوله معه.
وهكذا سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل من امتحنه
للإيمان.
أخبرنا مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن
الحكم
قال: أتيت رسول اللَّه بجارية، فقلت: يا رسول اللَّه، عليُّ
رقبة، أفأعتقها؟
فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله؟ "
فقالت: في السماء، "ومن أنا؟ "
قالت: أنت رسول اللَّه، قال: "فاعتِقها" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ففرض اللَّه على الناس اتباع
وحيه
وسنن رسوله، فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) .
أحكام القرآن: فصل (فرض الله - عزَّ وجلَّ في كتابه واتباع سنة
نبيه - صلى الله عليه وسلم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض اللَّه تعالى على الناس
اتباع وحيه وسنن
رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال في كتابه: (رَبَّنَا
وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) .
(1/223)
وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ
قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) .
وقال - عز وجل -: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ
مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فذكر اللَّه تعالى الكتاب
وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن
يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا يشبه ما قال - واللَّه أعلم - بأن القرآن ذكر واتبعته
الحكمة، وذكرَ
الله - عز وجل - منته على خلقه بئعليمهم الكتاب والحكمة. فلم
يجز - واللَّه أعلم - أن تعدّ الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب اللَّه، وأن
الله قد افترض طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحتّم
على الناس اتباع أمره.
فلا يجوز أن يقال لقول: فرض إلا لكتاب الله، ثم سنة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - مبينة عن الله ما أراد دليلاً على خاصه
وعامِّه، ثم قرن الحكمة بكتابه، فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا
لأحد من خلقه غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ
وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ
الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(132)
الأم: المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن اننقل عن الشرك إلى
الإيمان، ثم انتقل
عن الإيمان إلى الشرك - مِن بالغي الرجال والنساء - استتيب،
فإن تاب قُبلَ
منه، وإن لم يتب قُتِلَ، قال اللَّه - عز وجل -: (وَلَا
يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ
دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) إلى قوله: (هُم فِيهَا
خَالِدُون) الآية.
(1/224)
قال الشَّافِعِي: أخبرنا الثقة من أصحابنا،
عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن
أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه
-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى
بعد إحصان، أو قتل نفس بغبر نفس" الحديث.
ومعنى حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفر بعد
إيمان " ومعنى من بدَّل: قُتِل، معنى يدل على أن من بدل دينه
دين الحق - وهو الإسلام -، لا من بدَّل غير الإسلام، وذلك أن
من خرج من غير دين الإسلام إلى غيره من الأديان، فإنما خرج
من باطل إلى باطل، ولا يقتل على الخروج من الباطل، إنما يقتل
على الخروج من الحق، لأنه لم يكن على الدين الذي أوجب الله -
عزَّ وجلَّ عليه الجنة وعلى خلافه النار.
إنما كان على دين له النار إن أقام عليه، قال اللَّه جل ثناؤه:
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) الآية.
وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (85) .
وقال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) إلى
قوله: (مسْلِمُون) الآية.
قال الله عزَّ وجلَّ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي
بأصول الكلام.
وصحة اعتقاده فيهما) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض اللَّه على اللسان
القول والتعبير عن
القلب بما عقد، وأقرَّ به، فقال في ذلك: (قُولُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ) الآية، وقال:
(1/225)
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) الآية، فذلك
ما فرض الله على اللسان من
القول، والتعبير عن القلب، وهو عمله، والفرض عليه من الإيمان.
قال الله عزَّ وجلَّ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ
مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
الرسالة: باب (فرض الصلاة للذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول
عنه
بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ووجه اللَّه رسوله للقبلة في
الصلاة إلى بيت
المقدس، فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استفبال
غيرها، ثم نسخ
الله قِبلَة بيت المقدس، ووجهه إلى البيت فلا يحل لأحد استقبال
بيت المقدس
أبداً لمكتوبة، ولا في أن يستقبل غير البيت الحرام.
وقال الشَّافِعِي أيضاً: وكل كان حقاً في وقته، فكان التوجه
إلى بيت المقدس
- أيام وجه اللَّه إليه نبيه - حقاً، ثم نسخه، فصار الحق في
التوجه إلى البيت
الحرام أبداً، لا في استقبال غيره في مكتوبة إلا في بعض الخوف
- أي: بعض
أوجه صلاة الخوف - أو نافلة في سفر، استدلالاً بالكتاب والسنة.
وهكذا كل ما نسخ اللَّه - ومعنى (نَسَخَ) : ترك فرضه - كان
حقاً في
وقته، وتركه حقاً إذا نسخه اللَّه، فيكون من أدرك فرضه مطيعاً
به وبتركه، ومن لم يُدركِ فرضه مطيعاً باتباع الفرض الناسخ له.
(1/226)
قال اللَّه لنبيه: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية.
فإن قال قائل: فأين الدلالة على أنهم حولوا إلى قبلةِ بعد
قبلةِ؟
ففي قول اللَّه: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ
لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه
بن دينار، عن ابن
عمر، قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح اذ جاءهم آتٍ
فقال: إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن، قد أمِرَ أن يستقبل
القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى
الكعبة" الحديث.
وأخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان
يقول:
صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر شهراً نحو بيت
المقدس، ثم حولت القبلة قبل بدر بشهرين.
اختلاف الحديث: المقدمة (من أمثلة الكلام على النسخ / نسخ
الكتاب بالكتاب)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والناسخ من القرآن؛ الأمر ينزله
الله من بعد
الأمر يخالفه، كما حول القبلة، قال - عز وجل -:
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) الآية،
(1/227)
وقال: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ
النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا
عَلَيْهَ)
الآية، وأشياء له كثيرة في غير موضع.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) البقرة: 49 ا-.15، الآية.
عدة أقوال - منها -:
وقيل: في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم عليها، إلى غيرها، وهذا
أشبه.
ما قيل فيها - واللَّه أعلم - لقول اللَّه: (سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَ) إلى قوله: (مُسْتَقِيمٍ) الآية.
فأعلمَ اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا حجة عليهم
في التحويل، يعني لا يتكلم في ذلك أحد بشيء يريد الحجة، إلا
الذين ظلموا منهم.
لا أن لهم حجة (أي: الذين ظلموا) ، لأن عليهم (أي: الرسول ومن
معه) أن ينصرفوا عن قبلتهم، إلى القبلة التي أمِرُوا بها.
(1/228)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في
الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رهه الله تعالى: وفي قوله تعالى: (وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) هِ الآية، لقوله: إلا
لنعلم أن قد عَلِمَهم من
يتبع الرسول، وعِلْمُ الله كان - قبل اتباعهم وبعده - سواء.
وقد قال المسلمون: فكيف بما مضى من صلاتنا، ومن مضى منا؟
فأعلمهم الله: أن صلاتهم إيمان فقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُم) الآية.
مناقب الشافعى: باب (ما يؤثر عنه في الإيمان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وسمَّى - الله - الطهور
والصلوات إيماناً في
كتابه، وذلك حين صرف الله تعالى وجه نبيه - صلى الله عليه وسلم
- من الصلاة إلى بيت المقدس، وأمره بالصلاة إلى الكعبة.
(1/229)
وكان المسلمون قد صلّوا إلى بيت المقدس ستة
عشر شهراً فقالوا: يا رسول
الله، أرأيت صلاتنا التى كنا نصليها إلى بيت المقدس، ما حالها
وحالنا؟
فأنزل اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(143) الآية.
فسمَّى الصلاة إيماناً، فمن لقي ربه حافظاً لصلواته، حافظاً
لجوارحه، مؤدياً بكل جارحة من جوارحه ما أمر اللَّه به وفرض
عليها لقي اللَّه مستكمل الإيمان من أهل الجنة، ومن كان لشيء
منها تاركاً متعمداً مما أمر اللَّه به لقي اللَّه ناقص
الإيمان.
وفيما حُكِي عن المزني، عن الشَّافِعِي رحمهما اللَّه أنه قال:
قوله - عز وجل -: (إِلاً لِنَعلَمَ مَن يَتبعُ اَلرسُولَ)
الآية، وعِلمُ اللَّه، كان قبل اتباعهم وبعده، سواء.
قال الله عزَّ وجلَّ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الأم: من كتاب جماع العلم (التكليف بالاجتهاد في التأخِّي لما
أمر بطلبه)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وشطره: قصده، وذلك تلقاؤه،
قال: أجل.
(1/230)
قلت (أي: الشَّافِعِي) وقال سبحانه:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا
فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية.
وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) الآية.
وخلق الجبال والأرض، وجعل المسجد الحرام حيث وَضَعَه من أرضه،
فكلّف خلقه التوجه إليه:
1 - فمنهم من يرى البيت فلا يسعه إلا الصواب بالقصد إليه.
2 - ومنهم من يغيب عنه، وتنأى داره عن موضعه، فيتوجه إليه
بالاستدلال
بالنجوم، والشمس والقمر، والرياح، والجبال، والمهاب، كل هذا قد
يستعمل في بعض الحالات ويدل فيها ويستغني بعضها عن بعض.
قال: هذا كما وصفتَ، ولكن على إحاطة أنت من أن تكون إذا توجهت
أصبت؟ قلت: أما على إحاطةٍ من أني إذا توجهت أصبت ما أكلف، وإن
لم
أكلف أكثر من هذا فنعم.
قال: أفعلى إحاطةٍ أنت من صواب البيت بتوجهك؟ قلتُ: أفهذا شيء
كلفت الإحاطة في أصله البيت؛ وإنَّما كُلفت الاجتهاد.
قال: فما كُلفت؟ ، قلتُ: التوجه شطر المسجد الحرام، فقد جئت
بالتكليف، وليس يعلم الإحاطة بصواب موضع البيت آدمي إلا بعيان،
فأمّا ما غاب عنه من عينه فلا يحيط به آدمي.
قال: فنقول: أصبت؛، قلتُ: نعم، على
معنى ما قلتَ أصبتُ ما أمِزتُ به. فقال: ما يصح في هذا الجواب
أبداً غير ما أجبتَ به، وإن من قال: كلفت الإحاطة بأن أصيب،
لزعم أنه لا يصلي إلا أن
(1/231)
يحيط بأن يصيب أبداً. وإن القرآن ليدل كما
وصفت على أنه إنما أمر بالتوجه إلى المسجد الحرام.
والتوجه: هو التأخِّي والاجتهاد، لا الإحاطة.
الأم (أيضاً) : من فصل (الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر)
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فأين هذا؟
قيل: مثل الكعبة
من رآها صلى إليها، ومن غاب عنها توجه إليها بالدلائل عليها،
لأنها
الأصل، فإن صلّى غائباً عنها برأي نفسه بغير اجتهاد بالدلائل
عليها كان
مخطئاً، وكانت عليه الإعادة. وكذلك الاجتهاد فمن اجتهد على
الكتاب والسنة فذلك. ومن اجتهد على غير الكتاب والسنة كان
مخطئاً. ..
ولا يجوز أن يعمل ذلك برأي نفسه على غير أصل، كما إذا كان
الكتاب
والسنة موجودين، فآمره يترك الدلائل وآمره يجتهد برأيه!
وهذا خلاف كتاب اللَّه - عز وجل لقوله تعالى: وَحَيثُ مَا
كُنتُز فَوُّلواً وُجُوهَكُثم شَظرَهُ و) الآية.
الرسالة: باب (فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب ثم السنة على من
تَزول عنه
بالعذر وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ووجه اللَّه رسوله للقبلة في
الصلاة إلى بيت
المقدس، فكانت القبلة التي لا يحل - قبل نسخها - استقبال
غيرها.
(1/232)
اختلاف الحديث: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والناسخ من القرآن الأمر ينزله
اللَّه من بعد الأمر
يخالفه، كما حَول القبلة، فقال - عز وجل -:
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) .
أحكام القرآن: من فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من
التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ) الآية، يقال: يجدون - فيما نزل عليهم - أن النبي
الأمِّي من ولد إسماعيل بن إبراهبم علبهم السلام. يخرج من
الحرم، وتعود
قبلته وصلاته مخرجه. (يعني الحرم) .
الزاهر باب (القبلة) :
ذكر الشَّافِعِي - رحمه الله -: قول اللَّه - عز وجل -:
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
وقوله: (فَوَل وَجهَكَ) ، أي: أقبل بوجهك، فوجِّه وجهك.
وكذلك قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)
الآية، أي: مستقبلها.
(1/233)
وقال أبو العباس (أحمد بن يحيى) : التولية
هاهنا: إقبال، وقد تكون (التولية)
إدباراً كقولك: وَلِّ عني وجهك، أي: أدبر عني بوجهك، وقد ولى:
إذا أدبر.
وأما قوله تعالى: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية،
فشطره: تلقاؤه وجهته
ونحوه.
وأصل الشطر: النحو، وقول الناس: فلان شاطِر معناه: قد أخذ في
نحو
غير الاستواء. ويقال: هؤلاء قوم يشاطروننا، أي: دُورُهم تقابل
دورنا، كما تقول: هم يناحوننا، أي: نحن ننحُو نحوهم، وينحون
نحونا.
وشطر كل شيء: نصفه.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(149)
الأم: كتاب جماع العلم: باب (حكاية من رد خبر الخاصة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فرض الله على الناس التوجه
في القبلة إلى
المسجد الحرام، فقال سبحانه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلى قوله: (فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .
ثم قال: أفرأيت إذا سافرنا واختلفنا في القبلة، فكان الأغلب
على أنها في
جهة، والأغلب على غيري في جهة، ما الفرض علينا؟.
فإن قلتَ: الكعبةُ فهي وإن كانت ظاهرة في موضعها فهي مغيبة عمن
نأوا
عنها، فعليهم أن يطلبوا التوجه لها غاية جَهدهم على ما أمكنهم،
وغلب
بالدلالات في قلوبهم. فإذا فعلوا وسعهم الاختلاف، وكان كل
مؤدياً للفرض عليه، لأن الفرض عليه الاجتهاد في طلب الحق
المغيب عنه.
(1/234)
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإن قال قائل: أرأيت ما لم
يمض فيه كتاب.
ولا سنة، ولا يوجد الناس اجتمعوا عليه، فأمرت بأن يؤخذ به
قياساً على كتاب الله أو سنة، أيقال لهذا: قُبِلَ عن اللَّه؟
قيل: نعم، قبلت جملته عن اللَّه.
فإن قيل: ما جملته؟ قيل: الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة.
فإن قيل: أفيوجد في الكتاب دليل على ما وصفت؟
قيل: نعم، نسخ الله قبلة بيت المقدس وفرض على
الناس التوجه إلى البيت، فكان على من رأى البيت أن يتوجه إليه
بالعيان.
وفرض اللَّه على من غاب عنه البيت، أن يولي وجهه شطر المسجد
الحرام.
لأن البيت في المسجد الحرام، فكان المحيط بأنه أصاب البيت
بالمعاينة، والمتوجه قَصد البيت ممن غاب عنه قابلين عن اللَّه
معاً التوجه إليه.
وأحدهما على الإحاطة، والآخر متوجِّة بدلالة، فهو على إحاطة من
صواب جملة ما كُلف، وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من
صواب البيت، ولم يكلف الإحاطة.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)
الأم: باب (استقبال القبلة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فنصب الله - عزَّ وجلَّ لهم
البيت والمسجد. فكانوا إذا رأوه فعليهم استقبال البيت، لأن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى مُسْتَقْبِلَه، والناس
معه
(1/235)
حوله من كل جهة، ودلهم بالعلامات التي
خَلَقَ لهم، والعقول التي ركب فيهم على قصد البيت الحرام، وقصد
المسجد الحرام، وهو: قصد البيت الحرام.
فالفرض على كل مصل فريضةً، أو نافلةً، أو على جنازة، أو ساجد
لشكر، أو سجود قرآن، أن يتحرى استقبال البيت إلا في حالين:
أرخص اللَّه تعالى فيهما سأذكرهما إن شاء الله تعالى.
الأم (أيضاً) : باب (كيف استقبال البيت) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واستقبال البيت وجهان:
أولاً: فكل من كان يقدر على رؤية البيت ممن بمكة في مسجدها، أو
منزل
منها، أو سهل، أو جبل، فلا تجزيه صلاته حتى يصيب استقبال
البيت؛ لأنه
يدرك صواب استقباله بمعاينته.
ثانياً: وإن كان أعمى وسعه أن يستقبل به غيره البيت، ولم يكن
له أن
يصلي وهو لا يرى البيت بغير أن يستقبله به غيره، فإن كان في
حال لا يجد
أحداً يستقبله به، صلى وأعاد الصلاة؛ لأنه على غير علم، من أنه
أصاب
استقبال القبلة، إذا غاب عنه بالدلائل التي جعلها الله، من
النجوم، والشمس، والقمر، والرياح وغيرها، مما يستدل به أهل
الخبرة على التوجه إلى البيت.
(1/236)
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قيل فبم يتوجه إلى البيت؟
قيل: قال اللَّه تعالى:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا
فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)
وقال: (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) .
وكانت العلامات جبالاً يعرفون مواضعها من الأرض، وشمساً،
وقمراً، ونجماً مما يعرفون من الفَلَكِ، ورياحاً يعرفون مهابها
على الهواء، تدل على قصد البيت الحرام، فجعل عليهم طلب الدلائل
على شطر المسجد الحرام فقال: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) الآية.
وكان معقولاً عن اللَّه - عز وجل - أن يأمرهم بتولية وجوههم
شطره، بطلب الدلائل عليه، لا بما استحسنوا، ولا بما سنح في
قلوبهم، ولا خطر على أوهامهم بلا دلالة جعلها اللَّه لهم، لأنه
قضى ألَّا يتركهم سدى، وكان معقولاً عنه لأنَّه إذا أمرهم أن
يتوجهوا شطره، وغيب عنهم عينه، أن لم يجعل لهم أن يتوجهوا حيث
شاؤوا لا قاصدين له بطلب الدلالة عليه.
الرسالة: باب (كيف البيان؟) :
وقال سبحانه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ) الآية.
(1/237)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فدلهم جل
ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد
الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرض عليهم منه، بالعقول التي
ركب فيهم، المميزة بين الأشياء وأضادها، والعلامات التي نصب
لهم دون عين المسجد
الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ففرض عليهم الاجتهاد
بالتوجه شطر
المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصفت، فكانوا ما كانوا
مجتهدين غير مزايلين أمره جل ثناؤه، ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم
عين المسجد الحرام أن يصلوا حيث شاؤوا.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في
الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
قيل في ذلك - واللَّه أعلم -: لا تستقبلوا المسجد الحرام من
المدينة إلا
وأنتم مستدبرون بيت المقدس، وإن جئتم من جهة نجد اليمن - فكنتم
تستقبلون البيت الحرام، وبيت المقدس - استقبلتم المسجد الحرام،
لا أنَّ إرادتكم (قصدكم وجهتكم) بيت المقدس، وإن استقبلتموه
باستقبال المسجد الحرام، ولا أنتم كذلك تستقبلون ما دونه
ووراءه، لا إرادة أن يكون قبلة، ولكن جهة قبلة.
(1/238)
وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية، في استقبال قبلة غيركم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلما حول اللَّه رسوله - صلى الله
عليه وسلم - إلى المسجد الحرام صلى رسول اللَّه - صلى الله
عليه وسلم - أكثر صلاته مما يلي الباب من جهة وجه الكعبة، وقد
صلّى من ورائها والناس معه مصطفين بالكعبة مستقبليها كلها،
مستدبرين ما ورائها من المسجد الحرام.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقوله - عز وجل -: (فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الآية، فشطره وتلقاؤه وجهته: واحد في كلام العرب.
واستدل عليه ببعض ما في كتاب الرسالة.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا
الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: قال الله تبارك وتعالى:
(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ)
الآية.
ففرض عليهم حيث ما كانوا: أن يولوا وجوههم شطره.
وشطره: جهته في كلام العرب. إذا قلت: أقصد شطر كذا، معروف أنك
تقول: أقصد قصد عين كذا، يعني: قصد نفس كذا: وكذلك (تلقاؤه
وجهته)
أي: استقبل تلقاءه وجهته، وكلها بمعنى واحد، وإن كانت بألفاظ
مختلفة.
(1/239)
قال خُفَاف بن ندْبَة:
ألا من مبلغ عَمْراً رسولاً ... وما تغني الرسالة ُ شطرَ عمرو
وقال ساعدة بن جُؤَية:
أقول لأم زنباع أقيمي ... صدورَ العيسِ شطرَ بني تميم
وقال لقيط الأيادي:
وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظُلَم تغشاكم قطعاً
وقال الشاعر:
إن العسيرَ بها داة مُخامِرُها ... فشطرها بصرُ العينينِ
مَحْسُورُ
قال الشَّافِعِي رحمه الله: يريد تلقاءها بصرُ العينين ونحوها:
تلقاء جهتها.
وهذا كله - مع غيره من أشعارهم - يبين أن شطر الشيء: قَصْد عين
الشيء، إذا كان معايناً: فبالصواب (أي: التصويب إليه) ، وإن
كان مغيَّباً
فبالاجتهاد والتوجُّه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) الآية.
في استقبال قبلة غيركم، وقيل في تحويلكم عن قبلتكم التي كنتم
عليها إلى غيرها
- وهذا أشبه ما قيل فيها والله أعلم -.
(1/240)
قال الله عزَّ وجلَّ: (كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
الرسالة: بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال جل ثناؤه: (كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) .
فذكر اللَّه الكتاب (وهو القرآن) وذكر الحكمة.
فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول
اللَّه.
وهذا يشبه ما قال - واللَّه أعلم -؛ لأن القرآن ذكر
وأتبِعَتْهُ الحكمة، وذكر اللَّه مَنَّهُ على خلقه بتعليمهم
الكتاب والحكمة، فلم يجز - واللَّه أعلم - أن يقال الحكمة
هاهنا إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وذلك أنها مقرونة مع كتاب اللَّه، وأن اللَّه افترض طاعة
رسوله، وحتَّم
على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فرضٌ إلا لكتاب
اللَّه ثم سنة رسوله. لما وصفنا من أن اللَّه جعل الإيمان
برسوله مقروناً بالإيمان به.
وسنة رسول اللَّه مبينة عن اللَّه معنى ما أراد دليلاً على
خاصّه وعامّه.
ثم قَرَنَ الحكمة بها بكتابه فاتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحدٍ
من خلقه غيرِ رسوله.
(1/241)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ (155)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في
آيات متفرقة) :
أخبرنا أبو عبد الرحمن (محمد بن الحسين السُّلمي) ، قال: سمعت
محمد بن
عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت جعفر بن أحمد الخلاطي، يقول:
سمعت الربيع ابن سليمان يقول: سئل الشَّافِعِي عن قول الله
عزَّ وجلَّ:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: الخوف: خوف العدو.
والجوع: جوع شهر رمضان.
ونقص من الأموال: الزكوات.
والأنفس: الأمراض.
والثمرات: الصدقات.
وبشر الصابرين: على أدائها.
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ)
الأم: باب (تقديم الوضوء ومتابعته) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قول اللَّه - عز وجل -:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية.
فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفا وقال: "نبدأ بما
بدأ الله
(1/242)
به" الحديث، ولم أعلم خلافاً أنه لو بدأ
بالمروة ألغى طوافاً حتى يكون
بدؤه بالصفا، وكما قلنا في الجمار (أي: رمي الحجار) إن بدأ
بالآخرة (أي: رمي جمرة العقبة) قبل الأولى (أي: الجمرة الصغرى)
، أعاد حتى تكون بعدها، وإن بدأ الطواف بالصفا والمروة قبل
الطواف بالبيت أعاد.
مختصر المزني: باب (سنة الوضوء) :
بعد أن ذكر حكم من صلى بوضوء على غير ولاء (أي: قدم عضواً على
عضو) ، رجع فبنى على الولاء من وضوئه، وأعاد الصلاة، واحتج
بقول الله عزَّ وجلَّ:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية،
فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفا وقال: نبدأ بما
بدأ الله به" الحديث.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعانى في
الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وتوضأ رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كما أمر اللَّه، وبدأ بما بدأ اللَّه به، فأشبه -
واللَّه أعلم - أن يكون على المتوضئ في الوضوء شيئان:
1 - أن يبدأ بما بدأ اللَّه ثم رسوله - صلى الله عليه وسلم -
به منه.
2 - ويأتي على إكمال ما أمِر به.
(1/243)
وشبهه بقول اللَّه - عز وجل -: (إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فبدأ
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالصفا وقال: "نبدأ بما
بدأ الله به" الحديث.
آداب الشَّافِعِي ومناقبه: ما روى الإمام أحمد بن حنبل عن
الإمام الشَّافِعِي من
الآثار والمسائل:
أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو محمد، أخبرني عبد الله بن أحمد
بن حنبل.
قال سمعت أبي بقول:
أدخل الشَّافِعِي عليهم (يعني: أصحاب أبي حنيفة) : إذا بدأ
المتوضئ بعضو
دون عضو فقال: قال الله - عز وجل -: (إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، فقالوا (يعني:
أصحاب أبي حنفية) : إذا بدأ بالمروة قبل الصفا يعيد ذلك الشوط.
مناقب الشَّافِعِي: ما يستدل به على فقه الشَّافِعِي، وتقدمه
فيه، وحسن
استنباطه:
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ قال: أخبرني الحسين بن محمد
الدارمي قال:
أخبرنا عبد الرحمن يعني: بن محمد قال: أخبرني عبد اللَّه بن
أحمد بن حنبل في
كتابه، قال سمعت أبي يقول:. . . ثم ساق الحديث بتمامه.
قلت: أخذ الشَّافِعِي بمسألة ترتيب أعمال الوضوء، من ترتيب
أعمال
الوضوء الوارد في الآية، وقياسه على بداية السعي بين الصفا
والمروة من سياق النظم (القرآني) كذلك، ومن السنة بقول النبي -
صلى الله عليه وسلم - وفعله، وذلك عندما دنا من الصفا في
حَجِّه قرأ آية: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ
اللَّهِ) الآية، وقال: "ابدؤوا بما بدأ الله بذكره".
(1/244)
ثم بدأ سعيه بالصفا فرقِيَ عليه. وهو مذهب
الجمهور
(الشَّافِعِي، ومالك، وأحمد، وأصحاب أبي حنيفة، وعطاء في رواية
عنه) .
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ
الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(164)
الأم: كتاب (صلاة الكسوف) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فذكر اللَّه - عز وجل -
الآيات، ولم يذكر معها سجوداً إلا مع الشمس والقمر، وأمر
بألَّا يُسجد لهما، وأمر بأن يُسجد له، فاحتمل أمره أن يَسجد
له عند ذكر الشمس والقمر، بأن يأمر بالصلاة عند حادث في الشمس
والقمر، واحتُمل أن يكون إنما نهى عن السجود لهما، كما نهى عن
عبادة ما سواه، فدلّت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
على أن يُصلَّى لله عند كسوف الشمس والقمر، فأشبه ذلك معنيين:
أحدهما: أن يُصلَّى عند كسوفهما لا يختلفان في ذلك.
وثانيهما: ألَّا يؤمر عند كل آية كانت في غيرهما بالصلاة، كما
أمر بها
عندهما، لأن اللَّه تبارك وتعالى لم يذكر في شيء من الآيات
صلاة، والصلاة في كل حال طاعة لله تبارك وتعالى، وغبطة لمن
صلاها.
(1/245)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فيصفى عند كسوف
الشمس والقمر صلاة جماعة.
ولا يُفعل ذلك في شيء من الآيات غيرها.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في الطهارات والصلوات) :
وقد نقل فيه ما ورد في الأم حرفياً.
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في دلائل
التوحيد) :
أورد البيهقي في مناقبه قصة الحوار بين الشَّافِعِي - رحمه
اللَّه - وبشر
المريسي، فقال له بشر: أخبرني ما الدليل على أن اللَّه تعالى
واحد؟
فقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يا بشر، ما تدرك من لسان
الخواص فأكلمك
على لسانهم؛ إلا أنه لابد لي من أن أجيبك على مقدارك من حيث
أنت.
الدليل عليه به، ومنه وإليه:
واختلاف الأصوات من المصوِّت إذا وكان المحرك واحداً: دليل على
أنه واحد.
- وعدم الضد في الكلام على الدوام: دليل على أن اللَّه واحد.
- وأربع نيران مختلفات في جسد واحد، متفقات الدوام على تركيبه
في
استقامة الشكل: دليل على أنه واحد.
(1/246)
- وأربع طبائع مختلفات في الخافقين أضداد
غير أشكال، مُؤَلِّفات على إصلاح الأحوال: دليل على أنه واحد.
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) .
كل ذلك: دليل على أن اللَّه واحد لا شريك له.
أعلام النبلاء:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعد مناظرة لتلميذه المزني رحمه
اللَّه تعالى: ارجع إلى
الله، وإلى قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ) الآية.
فاستدِلَّ بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف عِلْمَ ما لم يبلغه
عقلك.
قال - المزني -: فتبت.
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا
عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(173)
الأم: فصل (ما يحل بالضرورة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه تعالى:
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ) الآية.
(1/247)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فيحلّ ما
حرّم من مينة ودم ولحم خنزير.
وكلّ ما حرم مما يغير العقل من الخمر للمضطر.
والمضطر: الرجل يكون بالموضع، لا طعام فيه معه، ولا شيء يسد
فورة
جوعه من لبن وما أشبهه، ويبلغه الجوع ما يخاف منه الموت أو
المرض، وإن لم يخف الموت، أو يضعفْه ويضره، أو يعتل أو يكون
ماشياً فيضعفُ عن بلوغ
حيث يريد، أو راكباً فيضعف عن ركوب دابته، أو ما في هذا المعنى
من الضرر البين، فأيُّ هذا ناله فله أن يأكل من المحرّم.
وكذلك يشرب من المحرّم غير المسكر، مثل الماء تقع فيه الميتة
وما أشبهه.
وأحبَ إليَّ أن يأكل آكله إن أكل، وشاربه إن شرب، أو جمعهما،
فعلى ما
يقطع عنه الخوف ويبلغ به بعض القوة، ولا يبين أن يحرم عليه أن
يشبع ويروى، وإن أجزأه دونه؛ لأن التحريم قد زال عنه بالضرورة.
وإذا بلغ الشِّبع والري فليس له مجاوزته، لأن مجاوزته حينئذ
إلى الضرر
أقرب منه إلى النفع.
ومن بلغ إلى الشبع فقد خرج في بلوغه من حد الضرورة، وكذلك
الري.
ولا بأس أن يتزود معه من الميتة ما اضطر إليه، فإذا وجد الغنى
عنه
طرحه.
ولو تزود معه ميتة فلقي مضطراً أراد شراءها منه، لم يحلّ له
ثمنها، إنما حل
له منها منع الضرر البين على بدنه لا ثمنها.
الأم (أيضاً) : فصل (السفر الذي تقصر في مثله الصلاة بلا خوف)
:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وسواء في القصر المريض
والصحيح، والعبد
والحر، والأنثى والذكر إذا سافروا معاً في غير معصية اللَّه
تعالى، فأما من سافر
(1/248)
باغياً على مسلم، أو معاهد، أو يقطع
طريقاً، أو يفسد في الأرض، أو العبد يخرج آبقاً من سيده، أو
الرجل هارباً ليمنع حقاً لزمه، أو ما في مثل هذا المعنى أو
غيره من المعصية فليس له أن يقصر، فإن قصر أعاد كل صلاة صلاها؛
لأن القصر رخصة، وإنما جعلت الرخصة لمن لم يكن عاصياً، ألا ترى
إلى قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) الآية، وهكذا لا يمسح على الخفين، ولا
يجمع الصلاة مسافر في معصية، وهكذا لا يصلِّي إلى غير القبلة
نافلة، ولا يخفف عمن كان سفره في معصية اللَّه تعالى.
مختصر المزني: باب (صلاة المسافر والجمع في السفر)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وليس لأحد سافر في معصية أن
يقصر، ولا
يمسح مسح المسافر فإن فعل أعاد، ولا تخفيف على من سفره في
معصية.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه - الشافعى - من التفسير
والمعاني في الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والقصر لمن خرج في غير
معصية: في السنة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأما من خرج باغياً على
مسلم. . . ثم ساق ما
ورد في الأم الفقرة السابقة وزاد البيهقي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأكره ترك القصر، وأنهى عنه،
إذا كان رغبة
عن السنة فيه.
يعني لمن خرج في غير معصية.
(1/249)
أحكام القرآن: فصل (ما يؤثر عنه في الصيد
والذبائح وفي الطعام والشراب) :
وقال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) الآية.
قال في ذكر ما حُرِّم: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) .
فيحل ما حُرِّم من الميتة ولحم الخنزير، وكل ما حُرِّم - مما
لا يغير العقل:
من الخمر - للمضطر.
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
اختلاف الحديث: باب (عطية الرجل لولده) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد حمد اللَّه - جل ثناؤه
-، على إعطاء المال
والطعام في وجوه الخير وأمر بهما، فقال - عز وجل -: (وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ) الآية.
وقال - عز وجل -: (مِسْكِينًا وَيَتِيمًا) .
(1/250)
الآية، وقال عزَّ وجلَّ: (وَلَا
يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا
يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) الآية، وقال عزَّ
وجلَّ: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)
الآية، وقال عزَّ وجلَّ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية.
فإذا جاز ذلك للأجنبيين وذوي القربى، فلا أقرب من الولد، وذلك
أن
الرجل إذا أعطى ماله ذا قرابته غير ولده، أو أجنبياً فقد منعه
ولده وقطع ملكه عن نفسه، فإذا كان محموداً على هذا كان محموداً
أن يعطيه بعض ولده دون بعض، ومَنع بعضهم ما أخرج من ماله أقل
من منعهم كلهم.
ويستحب له أن يسوِّي بينهم، لئلا يقصّر واحدٌ منهم في برِّه،
فإن القرابة
تتفُسُ بعضها بعضاً ما لم تنفس البعادة.
قال الربيع: يربد البعداء.
وقد فضَّل أبو بكر - رضي الله عنه - عائشة بنِحل، وفضَّل
الخليفة عمر - رضي الله عنه - عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه،
وفضل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - ولد أم كلثوم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لو اتصل حديث طاووس، أنه لا
يحل لواهب
أن يرجع فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده لزعمت أن من وهب
هبة -
لمن يستثيبه مثله أو لا يستثيبه - وقُبِضَت الهبة لم يكن
للواهب أن يرجع في
هبته؛ وإن لم يثبه الموهوب له - واللَّه أعلم -.
(1/251)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عنه -
الشَّافِعِي - من التفسير والمعاني في
الطهارات والصلوات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقال: إن اليهود قالت: البر
في استقبال
المغرب، وقالت النصارى: البر في استقبال المشرق بكل حال، فأنزل
الله)
فيهم: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الآية.
يعني - واللَّه أعلم - وأنتم مشركون، لأن البر لا يكتب لمشرك.
فلما حوَّل اللَّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد
الحرام، صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر
صلاته مما يلي الباب من وجه الكعبة، وقد صلى من ورائها والناس
معه.
مطيفين بالكعبة، مستقبليها كلها، مستدبرين ما وراءها من المسجد
الحرام.
قال الله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى)
الأم: باب (جماع ايجاب القصاص في العمد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فالقصاص إنما يكون ممن فعل
ما فيه
القصاص، لا ممن لم يفعله، فاخكَم اللَّه - عز ذكره - فَرض
القصاص في كتابه، وأبانت السنة لمن هو؟ وعلى من هو؟.
أخبرنا الربيع قال:
(1/252)
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن
ابن أبي ليلى، عن الحكم أو عن
عيسى بن أبي ليلى، عن أبي ليلى قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ("من اعتبط مومناً بقتل فهو قَوَدُ يده، إلا أن
يرضى ولي المقتول، فمن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا
يقبل منه صرف ولا عدل.
الأم (أيضاً) : باب (الحكم في قتل العمد)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقال: من العلم العام الذي
لا اختلاف
فيه بين أحد لقيته، فحدثنيه، وبلغني عنه - من علماء العرب -
أنها كانت قبل نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- تباين في الفضل، ويكون بينها ما يكون بين الجيران، من قتل
العمد والخطأ، فكان بعضها يعرف لبعض الفضل في الديات، حتى تكون
دية الرجل الشريف أضعاف دية الرجل دونه، فأخذ بذلك بعض من بين
أظْهُرهَا - من غيرها - بأقصد مما كانت تأخذ به، فكانت دية
النضيري ضعف دية القُرَظي.
(1/253)
وكان الشريف من العرب إذا قتل، يجاوز قاتله
إلى من لم يقتله من أشراف
القبيلة التي قتله أحدها، وربما لم يرضوا إلا بعددٍ يقتلونهم،
فقتل بعض غِني
شأسَ بن زهير فجمع عليهم أبوه زهير بن جَذِيمة، فقالوا له - أو
بعض من
نُدب عنهم -: سل في قتل شأس. فقال: إحدى ثلاث لا يغنيني غيرها،
قالوا: وما هي؟ قال: تحيون لي شأساً! أو تملؤون ردائي من نجوم
السماء!
أو تدفعون إلي غنياً بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت منه
عوضاً!.
وقَتَل كليب واثل: فاقتتلوا دهراً طويلاً، واعتزلهم بعضهم،
فأصابوا ابناً
له يقال له: بُجَيْر، فأتاهم فقال: قد عرفتم عزلتي، فبجير
بكليب - وهو أعز العرب -، وكفوا عن الحرب فقالوا: بحير بشسع
(نعل) كليب، فقاتلهم وكان معتزلاً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال إنه نزل في ذلك وغيره
مما كانوا يحكمون
به في الجاهلية - هذا الحكم الذي أحكيه كله بعد هذا - وحَكَمَ
اللَّه تبارك
وتعالى بالعدل، فسوّى في الحكم بين عباده، الشريف منهم
والوضيع: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) .
(1/254)
فقال: إن الإسلام نزل وبعض العرب يطلب
بعضاً بدماء وجراح، فنزل
فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) إلى قوله تعالى:
(ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية، والآية
التي بعدها.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بُكَير بن
معروف، عن
مقاتل بن حيان، قال معاذ: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن
نفَر، حفظ معاذ منهم؛ مجاهداً، والحسن، والضحاك بن مزاحم، قال:
في قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)
الآية.
قال: "كان كتب على أهل التوراة أنه من قتل نفساً بغير نفس حق
له أن يقاد بها، ولا يعفى عنه، ولا تقبل منه الدية، وفرض على
أهل الإنجيل أنه يعفى عنه، ولا يقتل.
ورخص لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إن شاء قتل، وإن شاء
أخد الدية، وإن شاء عفا، فذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية " الحديث.
يقول: الدية تخفيف من الله إذ جعل الدية، ولا يَقتُل.
ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ) الآية.
يقول: من قَتَلَ بعد أخذه الدية فله عذاب أليم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان بن عيينة: قال
حدثنا عمرو بن
دينار: قال سمعت مجاهداً يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما
يقول: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال
الله - عز وجل - لهذه الأمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ
فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ) .
(1/255)
قال: العفو أن تقبل الدية في العمد
(فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ
ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية.
مما كتب على من كان قبلكم (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ
فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما قاله ابن عباس في هذا
كما قال - واللَّه
سبحانه أعلم -.
وكذلك ما قال مقاتل؛ لأن اللَّه - عز وجل - إذ ذكَرَ القصاصَ،
ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) الآية، لم يجز
- واللَّه أعلم - أن يقال: إن عُفِيَ بأن صُولِح على أخذ
الدية؛ لأن العفو ترك حق بلا عوض، فلم يجز إلا أن يكون إن
عُفِيَ عن القتل، فإذا عفا لم يكن إليه سبيل.
وصار للعافي - عن - القتل مال في مال القاتل، وهو دية قتيله
فيتبعه
بمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان، فلو كان إذا عفا عن القاتل
لم يكن له
شيء، لم يكن للعافي يتبعه، ولا على القاتل شيء يؤديه بإحسان.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد جاءت السنة مع بيان
القرآن في مثل
معنى القرآن.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب،
عن سعيد
ابن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي شريح الكعبي، أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله
(1/256)
حرّم مكة ولم يُحرمها الناس، فلا يحل لمن
كان يومن بالله واليوم الآخر أن
يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجراً، فإن ارتخصَ أحدٌ فقال:
أحِلَّت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله أحلها لي،
ولم يحلها لله للناس، وإنَّما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي
حرام كحرمتها بالأمس، ثم إنكم يا خزاعة قد قتلتم هدا القتيل من
هذيل، وأنا والله عاقلُه: فمن قتَلَ بعدَه قتيلاً فأهلُه بين
خِيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخدوا العقل" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله تبارك وتعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، إنها في
الحيين اللذين وصف مقاتل بن حيان
وغيره، ممن حكيت قوله في غير هذا الموضع. ثم أدبها أن يُقتل
الحر بالحر إذا
قتلَه، والأنثى بالأنثى إذا قتلتها، ولا يُقتل غيرُ قاتلها
إبطالاً؛ لأن يجاوز القاتل إلى غيره، إذا كان المقتول أفضل من
القاتل، - كما وصفت - ليس أنه لا يُقتل ذكر بالأنثى، إذا كانا
حُرين مسلمين، ولا أنه لا يقتل حر بعبد من هذه الجهة، إنما
يترك قتْله من جهة غيرها، دهاذا كانت هكذا أشبه أن تكون لا تدل
على ألا يكون يُقتل اثنان بواحد، إذا كانا قاتِلَين.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهي عامة في أن الله - عزّ
ذكره - أوجب
القصاص بها إذا تكافأ دمان، وإنما يتكافآن بالحرية والإسلام،
وعلى كل ما
وصفت من عموم الآية وخصوص بما دلالة من كتاب أو سنة أو إجماع.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى،: فأيما رجل قتل قتيلاً
فَوَلي المقتول بالخيار.
إن شاء قتل القاتل، وإن شاء أخذ منه الدية، وإن شاء عفا عنه
بلا دية.
(1/257)
الأم (أيضاً) : الثلاتة يقتلون الرجل
يصيبونه بجرح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: أرأيت قول
اللَّه - عز وجل -: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) الآية، هل فيه دلالة على ألا
يقتل حُرَّان بُحر، ولا رجل بأمرأة.
قيل له: لم نعلم نحالفاً في أن الرجل يقتل بالمرأة، فإذا لم
يختلف أحد في هذا
ففيه دلالة على أن الآية خاصة، فإن قال قائل: فيم نزلت؟
قيل: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان
قال: قال مقاتل: أخذت هذا التفسير من نفر، حفظ منهم: مجاهد،
والضحاك، والحسن - رحمهم اللَّه - قالوا:
قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ اَلْقِصَاصُ فِى اَلْقَتلَى)
الآية، قال: كان بدء ذلك في حيين من العرب، - الأوس والخزرج
كما روي سابقاً - اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحد الحيين
فضل على الآخر، فاقسموا بالله ليقتلن بالأنثى الذكر، وبالعبد
منهم بالحر، فلما نزلت هذه الآية، رضوا وسلموا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما أشبه ما قالوا من هذا
بما قالوا: لأن اللَّه
ألزم كل مذنب ذنبه، ولم يجعل جرم أحد على غيره، فقال - صلى
الله عليه وسلم -: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) إذا كان - واللَّه
أعلم - قاتلاً له، (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) إذا كان قاتلاً
له، (وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى)
إذا كانت قاتلة لها، لا أن يُقتل بأحد ممن لم يقتله لفضل
المقتول على القاتل، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله " الحديث
(1/258)
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وما
وصفت من أني لم أعلم مخالفاً في أن يقتل
الرجل بالمرأة، دليل على أن لو كانت هذه الآية غير خاصة، كما
قال من وصفت قوله من أهل التفسير، لمِ يُقتل ذكر بأنثى، ولم
يجعل عوام من حفظت عنه من أهل العلم، لا نعلم لهم مخالفا، لهذا
هذا معناها: ولم يقتل الذكر بالأنثى!.
الأم (أيضاً) : من لا قصاص بينه لاختلاف الدينين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ
فِي الْقَتْلَى) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فكان ظاهر الآية - واللَّه
أعلم - أن القصاص
إنما كتب على البالغين المكتوب عليهم القصاص؛ لأنهم المخاطبون
بالفرائض
إذا قتلوا المؤمنين بابتداء الآية.
وقوله - عز وجل - (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)
الآية، لأنه جعل الأخوُّة بين المؤمنين، فقال - عز وجل -
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الآية.
وقطع ذلك بين المؤمنين والكافرين.
ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مثل ظاهر
الآية.
الأم (أيضاً) : باب (قتل الغيلة وغيرها وعفو الأولياء) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: كل من قُتِل في حرابة، أو
صحراء، أو مِصْر.
أو مكابرة أو قُتِل على مال أو غيره، أو قتل نائرة فالقصاص،
والعفو إلى
الأولياء، وليس إلى السلطان من ذلك شيء، إلا الأدب إذا عفا
الولي.
(1/259)
الأم (أيضاً) : باب (الرجل يمسك الرجل
للرجل حتى يقتله) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: حد اللَّه الناس على الفعل
نفسه وجعل فيه
القود، فقال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية، وقال:
(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَانًا)
الآية، فكان معروفاً عند من خوطب بهذه الآية أن السلطان لولي
المقتول على
القاتل نفسه، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"من اعتبط مسلماً بقتل فهو قَوَدُ يده" الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لم أجد أحداً من خلق اللَّه
تعالى - يُقتدَى به
- حدُّ أحداً قط على غير فعل نفسه أو قوله.
فلو أن رجلاً حبس رجلاً لرجل فقتله - الثاني - قُتل به القاتل
وعوقب
الحابس، ولا يجوز في حكم اللَّه تعالى إذا قَتلتُ القاتلَ
بالقتلِ أن أقتلَ الحابسَ
بالحبس، والحبس غير القتل، ومن قَتَلَ هذا فقد أحال حكم اللَّه
- عز وجل -، لأن اللَّه إذ قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ
فِي الْقَتْلَى) الآية، فالقصاص أن يُفعل بالمرِء مثلُ ما فعل.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وروي عن علي أنه قال: "يقتل
القاتل.
ويحبس الممسك حتى يموت" الحديث.
(1/260)
الأم (أيضاً) : في المرتد:
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)
الآية، فبين في حكم الله عزَّ وجلَّ: (أن جعل العفو أو القتل
إلى ولي الدم، دون السلطان إلا في الهارب، فإنه قد حكم في
الهاربين أن يقتلوا، أو يصلبوا فجعل ذلك عليهم حكماً مطلقاً لم
يذكر فيه أولياء الدم.
الأم (أيضاً) : كتاب اللعان:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهكذا كل ما أوجبه اللَّه
تعالى لأحد، وجب
على الإمام أخذه له، إن طلبه أخذه له بكل حال، فإن قال قائل
فما الحجة في ذلك؟
قيل: قول اللَّه تبارك وتعالى اسمه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا
فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ) الآية، فبين أن السلطان للولي، ثم
بين فقال في القصاص (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)
الآية، فجعل العفو إلى
الولي.
الأم (أيضاً) : ولاة القصاص:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا سقط القصاص صارت لهم
الدية، وإذا
كان للدم وليَّان فحكم لهما بالقصاص، أو لم يحكم حتى قال
أحدهما: قد
عفوت القتلَ لله، أو قد عفوت عنه، أو قد تركت الاقتصاص منه، أو
قال
القائل: اعفُ عني، فقال: قد عفوت عنك، فقد بطل القصاص عنه، وهو
على
(1/261)
حق من الدية، وإن أحب أن يأخذه به أخذه،
لأن عفوه عن القصاص غير عفوه عن المال، إنما هو عفو أحد
الأمرين دون الآخر.
قال تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)
الآية، يعني: من عفي له عن القصاص.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: لو قال قد عفوت عنك القصاص
والدية، لم
يكن له قصاص، ولم يكن له نصيب من الدية، ولو قال: عفوت ما لزمك
لي، لم يكن هذا عفواً للدية وكان عفواً للقصاص، وإنَّما كان
عفواً للقصاص دون المال، ولم يكن عفواً للمال دون القصاص، ولا
لهما؛ لأن اللَّه - عز وجل - حكم بالقصاص.
ثم قال: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ) الآية، فأعلم -
سبحانه - أن العفو مطلقاً، إنما هو ترك القصاص لأنه أعظم
الأمرين.
وحكم بأن يتبع بالمعروف ويؤدي إليه المعفو له بإحسان.
الأم (أيضاً) : باب (القصاص بين المماليك) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تعالى: (كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) إلى قوله:
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
الآية، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: كان في أهل
الإنجيل إذا قتلوا: العقلُ، لم يكن فيهم قصاص، وكان في أهل
التوراة: القصاص، ولم يكن فيهم دية، فحكم اللَّه - عز وجل - في
هذه الأمة بأن في العمد: الدية إن شاء الولي، أو القصاص إن
شاء، فأنزل اللَّه - عز وجل -:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ) الآية.
(1/262)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وذلك
والله أعلم بيَّن في التنزيل مستغنىً به
عن التأويل، وقد ذكِرَ عن ابن عباس بعضه، ولم أحفظ عنه بعضه
فقال: - واللَّه أعلم - في كتاب اللَّه - عز وجل - أن أنزل
فيما فيه القصاص، وكان بيّناً: أن ذلك إلى ولي الدم، لأن العفو
إنما هو لمن له القود، وكان بيّنا أن قول الله - عز وجل -:
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ) الآية، أن يعفو ولي الدم القصاص، ويأخذ
المال، لأنه لو كان ولي الدم - إذا عفا: القصاص - لم ببق له
غيره، لم يكن له إذا ذهب حقه، ولم تكن دية يأخذها شيء يتبعه
بمعروف، ولا يؤدى إليه
بإحسان، وقال اللَّه - عز وجل -: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) الآية، مبيناً أنه تخفيف القتل بأخذ
المال.
الأم (أيضاً) : باب (الديات) :
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد قال بعض أهل العلم: أي
ولاة الدم
قام به قَتَل، وإن عفا الآخرون فأنزله منزلة الحد.
وقال غيره من أهل العلم: يقتل البالغون ولا ينتظرون الصغار.
وقال غيره: يقتل الولد ولا ينتظرون الزوجة.
قيل: ذهبنا إليه أنه السنة التي لا ينبغي أن تخالف، أو في مثل
معنى
السنة والقياس على الإجماع.
فإن قال: فأين السنة فيه؟
قيل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من قُتِل له قتيل فأهله بين خيرَتين إن أحبوا أخذوا القصاص،
وإن أحبوا
فالدية" الحديث.
فلما كان من حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لولاة
الدم أن يقتلوا،
(1/263)
ولهم أن يأخذوا المال، وكان إجماع المسلمين
أن الدية موروثة، لم يحل لوارث أن يمنع الميراث من وَرث معه،
حتى يكون الوارث يمنع نفسه من الميراث، وهذا معنى القرآن في
قول الله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)
الآية.
وهذا مكتوب في كتاب الديات، ووجدنا ما خالفه
من الأقاويل، لا حجة فيه لما وصفت من السنة بخلافهم، ووجدت مع
ذلك
قولهم متناقضاً.
مختصر المزني: باب (الخيار في القصاص) :
بعد أن ذكَرَ حديث الشَّافِعِي عن أبي شريح الكعبي الذي ذكِرَ
سابقاً في
الأم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولم يختلفوا في أن العقل
يورث كالمال، وإذا كان هكذا فكل وارث ولي، زوجة، أو ابنة، لا
يخرج أحد منهم من ولاية الدم، ولا يقتل إلا باجتماعهم، وحبس
القاتل حتى يحضر الغائب، ويبلغ الطفل، وإن كان فيهم معتوه فحتى
يفيق أو يموت، فيقوم وارثه مقامه، وأيهم عفا عن القصاص كان على
حقه من الدية، وإن عفا على غير مال كان الباقون على حقوقهم من
الدية، فإن عفوا جميعاً، وعفا المفلس يجنى عليه أو على عبده
القصاص، جاز
ذلك لهم، ولم يكن لأهل الدين والوصايا منعهم، لأن المال لا
يملك بالعمد إلا بمشيئة المجني عليه إن كان حياً، وبمشيئة
الورثة إن كان ميتاً.
وذكر المزني كذلك حديث مقاتل بن حيان الذي سبق ذكره.
(1/264)
مختصر المزني (أيضاً) : ومن كتاب جراح
العمد:
وقد ذكر الشَّافِعِي - رحمه اللَّه تعالى - في تفسير هذه
الآية، قول مقاتل
الوارد في تفسير الآية السابقة.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الجراح وغيره:
انظر ما كتبه الشَّافِعِي في الأم فيما سبق، فقد نقل الإمام
البيهقي كثيراً منه
كما هو بحرفيته، بالصفحات المشار إليها في أسفل الهامش، فلا
حاجة للتكرار.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
الأم: الحكم في قتل العمد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله: (وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (179) الآية.
يقول لكم في القصاص حياة، ينتهي بعضكم
عن بعض أن يصيب مخافة أن يقتل.
أخبرنا سفيان بن عيينة قال: حدثنا عمرو ابن دينار قال: سمعت
مجاهداً يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان في بني إسرائيل القصاص،
ولم تكن فيهم الدية، فقال اللَّه - عز وجل - لهذه الأمة:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ
بِالْحُرِّ) .
(1/265)
وجاء في الأم (أيضاً) : باب (القصاص بين
المماليك) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه - عز وجل -:
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) الآية، يعني: أن يمتنع بها
من القتل، فلم يكن المال إذا كان الولي في حال يسقط عنه القود
إذا أراد.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وروى سفيان بن عيينة، عن
عمرو بن دينار.
عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في تفسير هذه الآية: شبيهاً بما
وصفت في أحد المعنيين، ودلّت سنة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - على مثل معناه.
مختصر المزني: ومن كتاب جراح العمد - (من مسند الشَّافِعِي) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله - عز وجل -:
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الآية.
يقول: لكم في القصاص حياة ينتهي بها بعضكم عن بعض مخافة أن
يقتل. . ..
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الجراح وغيره:
انظر ما كتبه الشَّافِعِي في الأم فيما سبق بتفسير هذه الآية،
والتي سبقتها.
فقد نقله الإمام البيهقي بحرفيته فلا حاجة للتكرار.
(1/266)
قال الله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا
سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) .
الأم: باب (ما نسخ من الوصايا) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ) إلى قوله:
(الْمُتَّقِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكان فرضاً في كتاب اللَّه
تعالى على من ترك
خيراً - والخير: المال - أن يوصي لوالديه وأقربيه، ثم زعم بعض
أهل العلم
بالقرآن أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخة،
واختلفوا في الأقربين غير الوارثين، فكثر من لقيت من أهل العلم
ممن حفظت عنه قال: الوصايا منسوخة، لأنه إنما أمر بها إذا كانت
إنما يورث بها، فلما قسُّم اللَّه - تعالى ذكره - المواريث
كانت تطوعاً.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا إن شاء اللَّه تعالى
كله كما قالوا.
فإن قال قائل: ما دلَّ على ما وصفتَ؟
قيل له: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ
وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ) الآية.
أخبرنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن مجاهد أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال: " لا وصية لوارث ".
(1/267)
وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآي
المواريث، وأن لا
وصية لوارث مما لا أعرف فيه عن أحد ممن لقيت خلافاً.
الأم (أيضاً) : باب (الوصية للوارث) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -:
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ) إلى قوله:
(الْمُتَّقِينَ) الآية، وقال في آي المواريث: (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ
لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ
فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
وذكر من ورُّث - جل ثناؤه - في آي من كتابه.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: واحتمل إجماع أمر اللَّه
تعالى بالوصية
للوالدين والأقربين معنيين:
أحدهما: أن يكون للوالدين والأقربين الأمران معاً، فيكون على
الموصي
أن يوصي لهم، فيأخذون بالوصية، ويكون لهم الميراث فيأخذون به.
ثانيهما: واحتمل أن يكون الأمر بالوصية نزل ناسخاً لأن تكون
الوصية
لهم ثابتة، فوجدنا الدلالة على أن الوصية للوالدين، والأقربين
الوارثين منسوخة بآي المواريث، من وجهين:
الأول: أخبار ليست بمتصلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من
جهة الحجازيين منها: أن سفيان بن عيينة أخبرنا، عن سليمان
الأحول عن مجاهد؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا وصية لوارث" الحديث.
وغيره يثبته بهذا الوجه، ووجدنا غيره قد يصل فيه
(1/268)
حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بمثل هذا المعنى، ثم لم نعلم أهل العلم في البلدان اختلفوا في
أن الوصية للوالدين منسوخة بآي المواريث.
الثاني: واحتمل إذا كانت منسوخة أن تكون الوصية للوالدين
ساقطة، حتى
لو أوصى لهما لم تجز الوصية، وبهذا نقول، وما رُوي عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - وما نعلم أهل العلم اختلفوا فيه يدل على
هذا، وإن كان يحتمل أن يكون وجوبها منسوخاً، وإذا
أوصى لهم جاز، وإذا أوصى للوالدين فأجاز الورثة فليس بالوصية
أخذوا، وإنما أخذوا بإعطاء الورثة لهم ما لهم، لأنا قد أبطلنا
حكم الوصية لهم فكان نص المنسوخ في وصية الوالدين، وسُمِّي
معهم الأقربين جملة، فلما كان الوالدان وارثين، فسنا عليهم كل
وارث، وكذلك الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان
الأقربون
ورثة، وغير ورثة، أبطلنا الوصية للورثة من الأقربين بالنص
والقياس والخبر: " لا وصية لوارث " وأجزنا الوصية للأقربين،
ولغير الورثة من كان.
فالأصل في الوصايا لمن أوصى في كتاب اللَّه - عز وجل -.
وما روي عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وما لم أعلم
من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه، في أن يُنظر إلى الوصايا:
1 - فإذا كانت لمن يرث الميت أبطلتها.
2 - وإن كانت لمن لا يرثه أجزتها على الوجه الذي تجوز به،
وموجود
عندي - واللَّه أعلم - فيما وصفت من الكتاب، وما روي عن النبي
- صلى الله عليه وسلم -.
وحيث إن ما لم نعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه، أنه إنما
يمنع الورثة
الوصايا لئلا يأخذوا مال الميت من وجهتين، وذلك أن ما ترك
المُتَوَفى يؤخذ
بميراث أو وصية، فلما كان حكمهما مختلفين، لم يجز أن يجمع
لواحد الحكمان المختلفان في حكم واحد، وحال واحدة، كما لا يجوز
أن يُعطى بالشيء وضد الشيء، ولم يحتمل معنى غيره بحال.
(1/269)
الأم (أيضاً) : باب (الوصية للوارث) أيضاً
قال الشَّافِعِي - رحمه الله - تعالى: ولقد ذكر الله تبارك
وتعالى الوصية فقال:
(إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
وأن الأغلب من الأقربين، لأنهم يبتلون أولاد الموصي بالقرابة
ثم الأغلب أن يزيدوا، وأن يبتلوهم بصلة أبيهم لهم بالوصية.
وينبغي لمن منع أحداً مخافة أن يرد على وارث، أو ينفعه، أن
يمنع ذوي القرابة، وألا يعتق العبيد الذين قد عرفوا بالعطف على
الورثة، ولكن لا يمنع أحد وصية غير الوارث بالخبر عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، وما لا يختلف فيه من أحفظ عنه ممن
لقيت.
الأم (أيضاً) : باب (المدَّعي والمدَّعَى عليه) :
قال الشَّافِعِي - رحمه الله - تعالى: فإذا كان الناس أجمعوا
على خبر الواحد
بتصديق المخبر عنه، ولا يحتجون عليه بمثل ما تحئجون به،
ويتبعون فيه أمر
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء خبر آخر أقوى منه،
فكيف جاز لك أن تخالفه؛ وكيف جاز لك أن تثبت ما اختلفوا فيه،
مما وصفنا بالخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة، وتعيب
علينا أن ثبتنا ما هو أقوى منه؟ وقلت لبعض من يقول هذا القول:
قد قال اللَّه (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) الآية.
فإن قال لك قائل: تجوز الوصية لوارث؛ قال
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: فالحديث لا تجوز
الوصية لوارث أثبت أم حديث
اليمين مع الشاهد؛ قال: بل حديث اليمين مع الشاهد، ولكن الناس
لا يختلفون في أن الوصية لوارث منسوخة.
قلنا: أليس بخبر؟ قال: بلى. قلت: فإذا كان
(1/270)
الناس يجتمعون على قبول الخبر ثم جاء خبر
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى منه، لم جاز - أي لم يجز
- لأحد خلافه، قلنا: أرأيت إن قال لك قائل: لا تجوز الوصية إلا
لذي قرابة، فقد قاله طاووس، قال: العتق وصية، قد أجازها النبي
- صلى الله عليه وسلم - في حديث
عمران للمماليك، ولا قرابة لهم، قلنا: أفتحتج بحديث عمران مرة،
وتتركه أخرى؟! وقلت له: نصير بك إلى ما ليس فيه سنة لرسول الله
- صلى الله عليه وسلم - حتى نوجدك (أي: نجدك) تخرج من جميع ما
احتججت به، وتخالف فيه ظاهر الكتاب عندك.
الأم (أيضاً) : كتاب (القرعة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: بعد أن ذكر حديثي عمران بن
حصين - رضي الله عنه - وابن المسيب رحمه اللَّه ثم ساق حديث
نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، بعد ذلك.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وبهذا كله نأخذ، وحديث
القرعة عن عمران
ابن حصين، وابن المسيب، موافق قول ابن عمر رضي اللَّه عنه في
العتق، لا
يختلفان في شيء حُكِيَ فيهما، ولا في واحد منهما.
(1/271)
وهذا يدل على خلاف ما قال بعض أهل العلم:
إن قول الله تبارك وتعالى:
(الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) الآية.
منسوخة بالمواريث، والآخر: إن الوصايا إذا
جُوِّزَ بها الثلث رُدت إلى الثلث، وهذه الحجة في ألا
يُجَاوَزَ بالوصايا الثلث.
وذلك أنه لو شاء رجل أن يقول: إنما أشار رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - على سعد، ولم يعلمه
أنه لا يجوز له أن يوصي بكثر من الثلث، وفي هذا حجة لنا على من
زعم أن من لم يدع وارثاً يعرف، أوصى بماله كله، فحديث عمران بن
حصين يدل على خمسة معانٍ، وحديث نافع يدل على ثلاثة معانِ كلها
في حديث عمران.
الأم (أيضاً) : المكاتب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه - عز وجل -:
(إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)
الآية، فعقلنا أنه ترك مالاً؛ لأن المال: المتروك.
وبقوله: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال:
فلما قال اللَّه - عز وجل -: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا) الآية.
كان أظهر معانيها بدلالة ما استدللنا به من الكتاب: قوة على
اكتساب المال وأمانة؛ لأنه قد يكون قوياً فيكسب، فلا يؤدي
إذا لم يكن ذا أمانة، وأميناً فلا يكون قوياً على الكسب فلا
يؤدى.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يجوز عندي - واللَّه
تعالى أعلم - في
قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية، إلا هذا.
الرسالة: الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع:
قال الله تبارك وتعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (180) الآية.
(1/272)
وقال اللَّه: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ
مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأنزل اللَّه ميراث
الوالدين، ومن ورث
بعدهما، ومعهما من الأقربين، وميراث الزوج من زوجته، والزوجة
من زوجها.
فكانت الآيتان محتملتين لأن تثبتا الوصية للوالدين والأقربين،
والوصية
للزوج، والميراث مع الوصايا، فيأخذون بالمير اث والوصايا،
ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.
فلما احتملت الآيتان ما وصفنا، كان على أهل العلم طلب الدلالة
من
كتاب الله، فما لم يجدوه نصاً في كتاب الله، طلبوه في سنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله قبلوه، بما افترض من
طاعته.
ووجدنا أهل الفتيا، ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي (من
قريش وغيرهم) لا يختلفون في أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال عام الفتح: " لا وصية لوارث، ولا يقتل مومن بكافر "
الحديث.
ويأثِرونه عمن حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي.
فكان هذا نقل عامة عن عامة، وكان أقوى في بعض الأمر من نقل
واحد
عن واحد.
وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجمعين.
(1/273)
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وروى بعض
الشاميين حديثاً ليس مما يثبته أهل
الحديث فيه: إن بعض رجاله مجهولون، فرويناه عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - منقطعاً.
وإنما قبلناه بمن وصفت من نقل أهل المغازي، وإجماع العامة
عليه، وإن كنا
قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديث أهل المغازي عامًّا،
وإجماع الناس.
أخبرنا سفيان - يعني ابن عيينة -، عن سليمان الأحول، عن مجاهد
أن
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا وصية لوارث"
الحديث.
فاستدللنا بما وصفتُ، من نقل عامة أهل المغازي عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن " لا وصية لوارث" الحديث.
على أن المواريث ناسخة للوصية (للوالدين والزوجة) مع الخبر
المنقطع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع العامة على
القول به.
وكذلك قال أكثر العامة: إن الوصية للأقربين منسوخة زائل فرضها،
إذا
كانوا وارثين بالميراث، وإن كانوا غير وارثين فليس بفرض أن
يُوصي لهم.
إلا أن طاووساً وقليلاً معه قالوا: نسخت الوصية للوالدين،
وثبتت للقرابة
غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم يجز.
فلما احتملت الآية ما ذهب إليه طاووس من أن الوصية للقرابة
ثابتة، إذ
لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلا أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: " لا وصيهْ لوارث "
وجب عندنا على أهل العلم، طلب الدلالة على خلاف ما قال طاووس
أو
موافقته.
فوجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حكم في ستة مملوكين،
كانوا لرجل لا مال له غيرهم، فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي
- صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرقَّ
أربعة.
(1/274)
أخبرنا بذلك عبد الوهاب (بن عبد المجيد
الثقفي) ، عن أيوب
(السختياني) ، عن أبي فلابة (عبد اللَّه بن زيد الجرمي البصرى)
، عن أبي المهلب (الجَرْمي البصري - عم أبي قلابة) ، عن عمران
بن حصين - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: فكانت دلالة السنة في حديث عمران
بن حصين بينة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنزل في
عتقهم في المرض وصية، والذي أعتقهم رجل من العرب.
والعربي إنما يملك من لا قرابة بينه وبين العجم، فأجاز النبي -
صلى الله عليه وسلم - لهم الوصية.
فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد
المعتقين.
لأنهم ليسوا بقرابة للمعتق.
ودلُّ ذلك على: أن لا وصية لميت إلا في ثلث ماله، ودل ذلك على
أن يُرَدُّ
ما جاوز الثلث في الوصية، وعلى إبطال الاستسعاء، وإثبات
القَسمِ والقُرعَة.
وبطلت وصية الوالدين، لأنهما وارثان وثبت ميراثهما، ومن أوصى
له
الميت من قرابة وغيرهم، جازت الوصية، إذا لم يكن وارثاً.
وأحَبّ إليَّ لو أوصَى لقرابته.
جماع العلم: باب (حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقلت له أيضاً: يلزمك هذا في ناسخ
القرآن
ومنسوخه؟
(1/275)
قال: فاذكر منه شيئاً. قلت: قال تعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ) الآية، وقال في الفرائض:
(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا
تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) الآية.
فزعمنا بالخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن آية
الفرائض نسخت الوصية للوالدين
والأقربين، فلو كنا مما لا يقبل الخبر، فقال قائل: الوصية نسخت
الفرائض.
هل نجد الحجة عليه إلا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -؟!
قال: هذا شبيه بالكتاب والحكمة، والحجة لك ثابتة، بأن علينا
قبول الخبر
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد صرتُ إلى: قَبول الخبرِ لَزم للمسلمين، لما ذكرتَ وما في
مثل معانيه من كتاب اللَّه.
وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال عما كنت أرى إلى غيره،
إذا بانت
الحجة فيه، بل أتديَّن بأنَّ عليَّ الرجوعَ عما كنت أرى إلى ما
رأيتُ الحقُّ.
أحكام القرآن: ما نسخ من الوصايا:
لقد لخص الإمام البيهقي تفسير الشَّافِعِي لهذه الآية بما يلي:
أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى، أخبرنا أبو العباس الأصم،
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فكان فرضاً في كتاب اللَّه - عز
وجل -، على من ترك خيراً
(والخير: المال) أن يوصي لوالديه وأقربين.
(1/276)
وزعم بعض أهل العلم بالقرآن: أن الوصية
للوالدين والأقربين الوارثين
منسوخة، واختلفوا في الأقربين غير الوارثين، فأكثر من لقيت من
أهل العلم، وممن حفظت عنه قال: الوصايا منسوخة؛ لأنه إنما أمر
بها إذا كانت إنما يُوَرثُ بها، فلما قسم اللَّه المواريث كانت
تطوعاً.
وهذا - إن شاء اللَّه - كلّه كما قالوا.
واحتج الشَّافِعِي رحمه اللَّه في عدم جواز الوصية للوارث بآية
الميراث.
وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: " لا وصية
لوارث".
واحتج في جواز الوصية لغير ذي الرحم، بحديث عمران بن حصين:
"أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له، ليس له مال غيرهم، فجزأهم
النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين،
وأرَقَّ أربعة" الحديث.
ثم قال الشَّافِعِي: والمعتق: عربي، وإنَّما كانت العرب: تملك
من لا قرابة
بينها وبينه، فلو لم تجز الوصية إلا لذي قرابة، لم تجز
للمملوكين، وقد أجازها لهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم
-.
أحكام القرآن (أيضاً) : ما يؤثر عنه - الشافعى - في القرعة
والعتق، والولاء، والكتابة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل -: (كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا) الآية، فعقلنا أنه إن ترك مالاً، لأن المال: المتروك،
ولقوله: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)
الآية.
فلما قال اللَّه - عز وجل: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)
الآية.
كان أظهر معانيها بدلالة ما استدللنا به من الكتاب قوة على
(1/277)
اكتساب المال، وأمانة، لأنه قد يكون قوياً
فيكسب، فلا يؤدي إذا لم يكن ذا أمانة، وأميناً فلا يكون قوياً
على الكسب، فلا يؤدي، ولا يجوز عندي - واللَّه أعلم - في قوله
تعالى: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية، إلا هذا.
وليس الظاهر أن القول: إن علمت في عبدك مالاً لمعنيين:
أحدهما: أن المال لا يكون فيه، إنما يكون عنده، لا فيه. ولكن
يكون فيه
الاكتساب: الذي يفيده المال.
والثاني: أن المال الذي في يده لسيده فكيف يكاتبه بماله؟! إنما
يكاتبه بما
يفيد العبد بعد الكتابة؛ لأنه حينئذ يُمنع ما أفاد العبد لأداء
الكتابة.
ولعل من ذهب إلى أن الخير: المال، أراد أنه أفاد بكسبه مالاً
للسيد.
فيستدل على أنه يفيد مالاً يعتق به، كما أفاد أولاً.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا جمع القوة على الاكتساب
والأمانة، فأحب
إليَّ لسيده أن يُكاتبه. ولا يبين لي أن يجبر عليه، لأن الآية
محتملة أن يكون
إرشاداً أو إباحةَ لا حتماً.
وقد ذهب هذا المذهب عدد ممن لقيت من أهل العلم.
وبسط الكلام فيه واحتج في جملة ما ذكر: بأنه لو كان واجباً؛
لكان محدوداً
بأقل ما يقع عليه اسم الكتابة، أو لغاية معلومة.
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
الرسالة: بيان ما أنزل الله من الكتاب عائم الطاهر وهو يجمع
العام والخُصُوص:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) .
(1/278)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهكذا
التنزيل في الصوم والصلاة على
البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ ومن بلغ ممن كلب على عقله،
ودون الحُيَّضِ في أيام حيضهن.
الرسالة (أيضاً) : باب (البيان الأول) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فافترض - الله - عليهم
الصوم، ثم بين أنه
شهر، والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين، وتسعاً
وعشرين.
فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين، وكان في الآيتين
قبله: في ابن
جماعة: (زيادة تبيُّن جماع العدد) .
ثم قال رحمه الله: وأشبه الأمور بزيادة تبين جملة العدد، في
السبع.
والثلاث، وفي الثلاثين، والعشر، أن تكون زيادة في التبيين،
لأنهم لم يزالوا
يعرفون هذين العددين وجماعَهُ، كما لم يزالوا يعرفون شهر
رمضان.
(1/279)
مسند الشَّافِعِي: في أحكام متفرقة في
الصوم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن
دينار، عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: "الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال،
ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُم عليكم فكملوا العدة ثلاثين "
الحديث.
أحكام القرآن: فصل في معرفة العموم والخصوص:
قال الشَّافِعِي: بين الله في كتابه في هذه الآية وغيرها
العموم والخصوص. ..
ثم قال رحمه الله: وهكذا التنزيل في الصوم الخ.
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) .
الأم: باب (الصيام) :
أخبرنا الربيع قال:
(1/280)
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى:
أخبرنا مالك، عن نافع، أن ابن عمر سئل
عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها؛ فقال: تفطر وتطعم مكان
كل يوم
مسكيناً (مداً من حنطة) .
قال مالك وأهل العلم: يرون عليها من ذلك القضاء.
قال مالك: عليها القضاء؛ لأن اللَّه - عز وجل - يقول:
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كان له - أي الإمام
مالك رحمه الله - أن
يخالف ابن عمر رضي اللَّه عنهما لقول أبي، القاسم - صلى الله
عليه وسلم -، ويتأول في خلاف ابن عمر القرآن، ولا يقلده،
فنقول: هذا أعلم بالقرآن منا، ومذهب ابن عمر رضي الله عنهما
يتوجه، لأن الحامل ليست بمريضة، المريض يخاف على نفسه، والحامل
خافت على غيرها لا على نفسها، فكيف ينبغي أن يجعل قول ابن عمر
رضي اللَّه عنهما في موضع حجة، ثم القياس على قوله حجة على
النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخطئ
القياس؟
فنقول: حين قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما: لا يصلي أحد عن أحد.
ولا يحج أحد عن أحد قياساً على قول ابن عمر، وترك قول النبي -
صلى الله عليه وسلم - له، وكيف جاز أن يَتْرُكَ قول ابن عمر
لقول رجل من التابعين؟.
الأم: الصيام في كفارات الإيمان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: كل من وجب عليه صوم ليس
كشروط في
كتاب اللَّه - عز وجل - أن يكون متتابعاً، أجزأه أن يكون
متفرقاً قياساً على قول الله - عز وجل - في قضاء رمضان وحده:
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
(1/281)
والعدة: أن يأتي بعدد الصوم، لا وَلاَء.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا كان الصوم متتابعاً
فأفطر فيه الصائم
والصائمة من عذر وغير عذر، استأنفا الصيام إلا الحائض فإنها لا
تستأنف.
مختصر المزني: كتاب الصيام: باب (النيه في الصوم) :
ورُوي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قوله - عز وجل -:
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)
الآية، قال - المزني - المرأة الهِم (الهِمةُ) .
والثيخ الكبير الهِم، يفطران ويطعمان لكل يوم مسكيناً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وغيره من المفسرين: يقرؤنها
(يُطَوَّقُونَهُ) .
وكذلك نقرؤها، ونزعم أنها نزلت حين نزل فرض الصوم، ثم نسِخَ
ذلك.
وقال - أي الشَّافِعِي - رحمه الله: وآخر الآية يدل على هذا
المعنى؛ لأن
الله - عز وجل - قال: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا)
فزاد على مسكين (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ، ثم قال: (وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) الآية.
(1/282)
وقال - أي الشَّافِعِي -: فلا يؤمر بالصيام
من لا يطيقه، ثم بين فقال:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الآية.
وإلى هذا نذهب، وهو أشبه بظاهر القرآن.
قال المزني رحمه اللَّه: هذا بَين في التنزيل، مستغنى فيه عن
التأويل.
اختلاف الحديث: باب (المختلفات التي لا يثبت بعضها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفرض الله تعالى الصوم فقال:
(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) إلى قوله:
(مِسْكِينٍ) الآية، قيل: يطيقونه، كانوا
يطيقونه ثم عجزوا عنه، فعليهم في كل يوم طعام مسكين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قيل: أفروي عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أنه أمر أحداً أن يصوم عن أحد؟
قيل: نعم، روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
فإن قيل: فلم لا تأخذ به؟
قيل: حدث الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن
ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
نذر نذراً، ولم يسمعه مع حفظ الزهري، وطول مجالسة عبيد الله
لابن عباس، فلما جاء غيره عن ابن عباس بغير ما في حديث عبيد
الله، أشبه ألا يكون محفوظاً.
فإن قيل: أتعرف الذي جاء بهذا الحديث يغلط عن ابن عباس؟
قيل: نعم، روى أصحاب ابن عباس، عن
ابن عباس أنه قال لابن الزبير: إن الزبير حل من متعته الحج،
فرُوي هذا عن
ابن عباس أنها متعة النساء! وهذا غلط فاحش.
(1/283)
أحكام القرآن: باب (ما يؤثر عن الشَّافِعِي
في الصيام) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فمن أفطر أياماً من رمضان -
من عذر -.
قضاهن متفرقات، أو متجمعات، وذلك: أن اللَّه - عز وجل - قال:
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية، ولم يذكرهن متتابعات.
وبهذا الإسناد قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى: (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)
فقيل: يطيقونه: كانوا يطيقونه ثم عجزوا، فعليهم في كل يوم طعام
مسكين.
وقال الشَّافِعِي في القديم - - رواية الزعفراني عنه -: سمعت
من أصحابنا
من نقلوا إذا سئل عن تأويل قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) الآية، فكانه
يتأوَّل إذا لم يطق الصوم: الفدية.
وورد عن الشَّافِعِي في كتاب الصوم الصغير قال: والحال التي
يترك بها
الكبير الصوم، أن يجهده الجهد غير المحتمل، وكذلك المريض
والحامل - إن زاد مرض المريض زيادة بيّنة أفطر، وإن كانت زيادة
محتملة لم يفطر -.
والحامل - إذا خافت على ولدها - أفطرت، وكذلك المرضع إذا أضر
بلبنها الأضرار البين،. ..
وبسط الكلام في شرحه.
(1/284)
قال الله عزَّ وجلَّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
الأم: باب (أحكام من أفطر في رمضان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: من أفطر أياماً من رمضان، من
عذر (مرض.
أو سفر) قضاهن في أي وقت ما شاء، في ذي الحجة أو غيرها، وبينه
وبين أن يأتي عليه رمضان آخر، متفرقات أو متجمعات؛ وذلك أن
الله - عز وجل - يقول:
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الآية، ولم يذكرهن متتابعات
وقد بلغنا عن بعض
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أحصيت العدة
فصمهن كيف شئت" الحديث.
فإن مرض أو سافر المفطر من رمضان، فلم يصح، ولم يقدر حتى يأتي
عليه رمضان آخر، قضاهنّ ولا كفّارة، وإن فزط وهو يمكنه أن يصوم
حتى
يأتي رمضان آخر، صام رمضان الذي جاء عليه، وقضاهن وكفَّر عن كل
يوم بمد حنطة.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والحامل والمرضع إذا أطاقتا
الصوم، ولم
تخافا على ولديهما، لم تفطرا، فإن خافتا على ولديهما أفطرتا،
وتصدقتا عن كل يوم بمد حنطة، وصامتا إذا أمنتا على ولديهما.
(1/285)
وإن كانتا لا تقدران على الصوم، فهذا مثل
المرض، أفطرتا وقضتا بلا
كفارة، إنما تكفِّران بالأثر وبانهما لم تفطرا لأنفسهما، إنما
أفطرتا لغيرهما، فذلك فرق بينهما وبين المريض لا يُكَفر،
والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم، ويقدر على الكفارة، يتصدق
عن كل يوم بمد حنطة، خبراً عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه
وسلم -، وقياساً على من لم يطق الحج أن يحج عنه غيره، وليس عمل
غيره عنه
عمله نفسه، كما ليس الكفارة كعمله.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والحال التي يترك بها الكبير
الصوم، أن يكون
يجهده الجهد غير المحتمل، وكذلك المريض والحامل.
وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر، وإن كانت زيادة محتملة لم
يفطر.
والحامل إذا خافت على ولدها أفطرت، وكذلك المرضع إذا أضرَّ
بلبنها الإضرار البين، فأما ما كان من ذلك محتملاً فلا يفطر
صاحبه، والصوم قد يزيد عامة العلل ولكن زيادة محتملة، ويسّقص
بعض اللبن ولكنه نقصان محتمل، فإذا تفاحش أفطرتا.
فكأنه (أي: الشَّافِعِي) يتاول إذا لم يطق الصوم: الفدية -
واللَّه أعلم -.
الأم (أيضاً) : باب (بيع الآجال) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال اللَّه - عز وجل -:
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية، فقد وقت بالأهلة، كما
وقت بالعدة، وليس العطاء من مواقيته تبارك
وتعالى، وقد يتأخر الزمان ويتقدم، وليس تستأخر الأهلة أبداً
أكثر من يوم.
(1/286)
الأم (أيضاً) : باب (في الآجال: في السلف
والبيوع) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال جل ثناؤه: (شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية، فأعلمَ
اللَّه تعالى بالأهلة - جُمَل المواقيت، وبالأهلة مواقيت
الأيام من الأهلة، ولم يجعل علماً لأهل الإسلام إلا بها، فمن
أعلم بغيرها فبغير ما أعلم - الله أعلم -.
الأم (أيضاً) : كتاب (صلاة العيدين) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى في
سياق شهر
رمضان: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه" الحديث.
يعني: الهلال، فإن غُم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين.
الأم (أيضاً) : التكبير ليلة الفطر) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى في
شهر رمضان:
(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ) الآية، قال: فسمعت من
أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: لتكملوا العدة: عدة صوم شهر
رمضان،
(1/287)
وتكبروا الله: عند إكماله على ما هداكم
وإكماله: مغيب الشمس من آخر يوم من أيام شهر رمضان.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وما أشبه ما قال بما قال - والله
أعلم -.
مختصر المزني: باب (صلاة العيدين) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأحِبُّ إظهار التكبير جماعة
وفرادى في ليلة
الفطر، وليلة النحر، مقيمين وسفراً، في منازلهم ومساجدهم
وأسواقهم، ويغدون إذا صلّوا الصبح - ليأخذوا مجالسهم -
وينتظرون الصلاة، ويكبرون بعد الغدو حتى يخرج الإمام إلى
الصلاة.
وقال - أي الشَّافِعِي - في غير هذا الباب: حتى يفئتح الإمام
الصلاة
قال المزني رحمه الله: هذا أقيس، لأن من لم يكن في صلاة، ولم
يحرم إمامه.
ولم يخطب، فجائز أن يتكلم، واحتج بقول اللَّه تعالى في شهر
رمضان: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ) الآية.
وعن ابن المسيب، وعروة، وأبي سلمة، وأبي بكر، يكبرون ليلة
الفطر في
المسجد، يجهرون بالتكبير، وشُبه ليلة النحر بها، إلا من كان
حاجاً فذِكرُه التلبية.
مختصر المزني: باب (النذور) :
قال المزني رحمه اللَّه: فرض الله صوم شهر رمضان بعينه، فلم
يسقط
بعجزه عنه بمرضه، قال الله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية، وأجمعوا أنه لو أغمي عليه الشهر كله فلم يعقل فيه، أنَّ
عليه قضاءه.
(1/288)
الرسالة: باب (الفرائض التي أنزل الله
نصاً) :
قال الله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا)
الآيات.
ثم بين أيُّ شهر هو فقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ (186) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فما علمت أحداً من أهل العلم
بالحديث قبلنا.
تكلَّف أن يرويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الشهر
المفروض صومه شهر رمضان الذي بين شعبان وشوال، لمعرفتهم بشهر
رمضان من الشهور، واكتفاء منهم بأن الله فرضه.
وقد تكلفوا حفظ صومه في السفر وفطره، وتكلفوا كيف قضاؤه؛ وما
أشبه ذلك مما ليس فيه نص كتاب.
(1/289)
ولا علمت أحداً من غير أهل العلم، احتاج في
المسألة عن شهر رمضان
أيُّ شهر هو؛ ولا هل هو واجب أم لا؟.
اختلاف الحديث: باب الفطر والصوم في السفر (الجزء الثاني) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وظاهر الآية في الصوم أن
الفطر في المرض
والسفر عَزْم، لقول اللَّه: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية.
كيف لم تذهب إلى أن الفطر عزم؛ وأنه لا يجزئ شهر رمضان؛ ومن
صام
مريضاً أو مسافراً مع الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
" ليس من البر الصيام في السفر"؟
ومع أن الآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك
الصوم، وأن عمر أمر رجلاً صام في السفر أن يقضي الصيام، قال:
فحكيت له ما قلتُ: في قول اللَّه تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
إنها آية واحدة، وأنّ ليس من أهل العلم بالقرآن أحد يخالف في
أنَّ الآية
الواحدة كلام واحد، وأن الكلام الواحد لا ينزل إلا مجتمعاً.
وإن نزلت الآيتان في السورة مفترقتين؛ لأن معنى الآية: معنى
قطع
الكلام. قال: أجل. قلت: فإذا صام رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان، وفَرْضُ
(1/290)
شهر رمضان إنما أنزل في الآية، أليس قد
علمنا أن الآية بفطر المريض والمسافر رخصة؟ قال: بلى. فقلت له:
ولم يبق شيء يَعرُض في نفسك إلا الأحاديث؟
قال: نعم. ولكن الآخر من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -
أليس الفطر؟ قال، فقلت له: الحديث يبين أن رسول - صلى الله
عليه وسلم - لم يفطر لمعنى نسخ الصوم، ولا اختيار الفطر على
الصوم، ألا ترى أنَّه يأمر الناس بالفطر ويقول: "تقووا لعدوكم"
ويصوم ثم
يخبر بأنهم، أو أن بعضهم أبى أن يفطر إذ صام، فأفطر ليفطر من
تخلف عن
الفطر لصومه بفطره، كما صنع عام الحديبية فإنه أمر الناس أن
ينحروا ويحلقوا فأبوا، فانطلق فنحر وحلق، ففعلوا.
قال: فما قوله: "ليس من البر الصيام في السفر"؟
قلت: قد أتى به جابر
مفسراً، فذكر أن رجلاً أجهده الصوم فلما علم النبي - صلى الله
عليه وسلم -، قال: "ليس من البر الصيام في السفر"
فاحتمل: - ليس من البر أن يبلغ هذا رجل بنفسه في فريضة صوم ولا
نافلة، وقد أرخص اللَّه له وهو صحيح أن يفطر، فليس من البر أن
يبلغ هذا بنفسه.
- ويحتمل ليس من البر الفروض الذي من خالفه أثِمَ. ..
ثم يقول: (أي: الشَّافِعِي) وفي صوم النبي - صلى الله عليه
وسلم - دلالة على ما وصفت.
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عن - الشَّافِعِي - من التفسير
والمعاني في
الطهارات والصلوات) :
قال البيهقي رحمه اللَّه تعالى: وقرأت في رواية حرملة:
(1/291)
عن الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يستحب
للمسافر أن يقبل صدقة اللَّه ويقصر.
فإن أتم الصلاة عن غير رغبة عن قبول رخصة اللَّه - عز وجل -
فلا إعادة عليه، كما يكون - إذا صام في السفر - لا إعادة عليه
وقد قال اللَّه - عز وجل -: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الآية.
أحكام القرآن: فيما يؤثر عن الشَّافِعِي في الصيام:
قال البيهقي رحمه الله تعالى: قرأت في رواية المزني رحمه
اللَّه:
عن الشَّافِعِي - يرحمه الله - أنه قال: قال اللَّه جل ثناؤه:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ) الآية.
ثم أبان أن هذه الأيام شهر رمضان بقوله تعالى: (شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إلى قوله:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) الآية.
وكان بيناً في كتاب اللَّه - عز وجل - أنَّه لا يجب صوم إلا
صوم شهر رمضان، وكان عِلْمُ (شهر رمضان) - عند من خوطب باللسان
- أنه الذي بين شعبان وشوال.
وذكره في رواية حرملة عنه كعناه قال: فلما أعلم اللَّه الناس
أنه فرض الصوم عليهم: (شهر رمضان) ، وكانت الأعاجم تعد الشهور
بالأيام لا بالأهلة، وتذهب إلى أنَّ الحساب - إذا عدت الشهور
بالأهِلة - يختلف. فأبان الله تعالى أنَّ الأهلة هي: الواقيت
للناس والحج، وذكر الشهور فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ
عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ)
الآية.
فدلّ على أن الشهور للأهلة، إذ جعلها المواقيت، لا ما ذهبت
إليه الأعاجم من العدد بغير الأهلة.
(1/292)
ثم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ذلك، على ما أنزل اللَّه - عز وجل -، وبين أن الشهر تسع وعشرون
يعني: أن الشهر قد يكون تسعاً وعشرين. وذلك أنهم قد يكونون
يعلمون: أن الشهر يكون ثلاثين فأعلمهم أنَّه قد يكون تسعاً
وعشرين، وأعلمهم أنَّ ذلك للأهلة.
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا العباس، أخبرنا الربيع
قال:
قال الشَّافِعِي - رحمه الله تعالى -: قال اللَّه تعالى في فرض
الصوم:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية،
إلى قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) الآيات.
فبيّنَ في الآية أنَّه فرض الصيام عليهم بعدة، وجعل لهم أن
يفطروا فيها
(مرضى ومسافرين) ، ويحصوا حتى يكملوا العدة، وأخبر أنَّه أراد
بهم اليسر، وكان قول اللَّه - عز وجل -: (وَمَنْ كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
الآية، يحتمل معنيين:
أحدهما: ألا يجعل عليهم صوم شهر رمضان (مرضى ولا مسافرين) .
ويجعل عليهم عدداً - إذا مضى السفر والمرض - من أيام أخر.
الثاني: ويحتمل أن يكون إنمّا أمرهم بالفطر في هاتين الحالتين،
على
الرخصة إنّ شاؤوا، لئلا يحرجوا إن فعلوا.
وكان فرض الصوم، والأمر بالفطر في المرض والسفر في آية واحدة.
ولم أعلم مخالفاً أنَّ كل آية إنما نزلت متتابعة، لا مفرقة.
وقد تنزُّل الآيتان في
السورة مفرقتين، فأمّا آيةٌ فلا، لأن معنى الآية: أنهّا كلام
واحد غير منقطع.
يُستأنف بعده غيره.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: في موضع آخر من هذه المسألة؛ لأن
معنى
الآية: معنى: قطع الكلام.
(1/293)
فإذا صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في شهر رمضان، وفَرضُ شهر رمضان إنما أنزل في الآية، علمنا أن
الآية بفطر المريض والمسافر رخصة.
قال الله عزَّ وجلَّ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
الأم: باب (ما يفطر الصائم والسحور والخلاف فيه) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الوقت الذي يَحْرُمُ فيه
الطعام على الصائم.
حين يتبين الفجر الآخر معترضاً في الأفق.
وكذلك بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تغيب
الشمس، وكذلك قال اللَّه - عز وجل -:
(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) الآية.
فإن كل فيما بين هذين الوقتين أو شرب، عامداً للأكل والشرب،
ذاكراً
للصوم فعليه القضاء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك، عن زيد بن
أسلم، عن أخيه
خالد بن أسلم، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أفطر في
رمضان، في يوم ذي غيم، ورأى أنه قد أمسى، وغابت الشمس، فجاءه
رجل فقال: يا أمير المؤمنين قد
(1/294)
طلعت الشمس فقال عمر: (الخطب يسير) ، كأنه
يريد بذلك - واللَّه أعلم - قضاء يوم مكانه.
الأم (أيضاً) : باب (الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - في بيان أنَّه لا يجوز
للمسلم أن يجتهد إلا
وفق الكتاب والسنة، وعليه ألا يعمل برأي نفسه، ولجاز أن يصوم
رمضان برأي نفسه أن الهلال قد طلع، وهذا خلاف كتاب اللَّه - عز
وجل - لقوله - عز وجل -: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)
الآية.
ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
صوموا لرؤيته ... " الحديث.
أحكام القرآن: (ما يؤثر عن الشَّافِعِي رحمه الله - في الصيام)
:
قال اللَّه تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) الآية.
قال البيهقي رحمه الله: وقرأت في كتاب حرملة فيما رُويَ عن:
الشَّافِعِي رحمه الله تعالى أنَّه قال: جماع العكوف: ما لزمه
المرء، فحبس عليه
نفسه: من شيء، بِرَّاً كان أو مأثماً، فهو عاكف.
واحتج بقوله - عز وجل -: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) الآية، وبقوله تعالى حكاية عمن رضي
قوله - وهو إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -:
(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
(52) .. الآية.
(1/295)
قيل: فهل للاعتكاف المتبرر أصل في كتاب
اللَّه - عز وجل -؟
قال: نعم، قال اللَّه - عز وجل -: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) الآية، والعكوف في
المساجد: صبر الأنفس فيها، وحبسها على عبادة اللَّه وطاعته.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
الأم: باب (كتاب السبق والنضال)
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: جماع
ما يحل أن بأخذه
الرجل من الرجل المسلم ثلاثة وجوه:
أحدها: ما وجب على الناس في أموالهم مما ليس لهم دفعه من
جناياتهم، وجنايات من يعقلون عنه، وما وجب عليهم بالزكاة،
والنذور.
والكفارات، وما أشبه ذلك.
ثانيها: وما أوجبوا على أنفسهم مما أخذوا به العوض من البيوع.
والإجارات، والهبات للثواب وما في معناه.
(1/296)
ثالِثها: وما أعطوا متطوعين من أموالهم
التماس واحد من وجهين:
أحدهما: طلب ئواب اللَّه تعالى.
والآخر: طلب الاستحماد ممن أعطوه إياه.
وكلاهما معروف حسن، ونحن نرجو عليه الثواب إن شاء اللَّه
تعالى.
ثم ما أعطى الناس من أموالهم من غير هذه الوجوه، وما في معناها
واحد
من وجهين (أيضاً) :
أحدهما: حق.
والآخر: باطل.
فما أعطوا من الباطل غير جائز لهم، ولا لمن أعطوه، وذلك قول
الله - عزَّ وجلَّ -:
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)
الآية.
فالحق من هذا الوجه الذي هو خارج من هذه الوجوه التي وصفت، يدل
على الحق في نفسه، وعلى الباطل فيما خالفه.
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ
هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
الأم: باب (بيع الآجال) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد رُويَ إجازة البيع إلى
العطاء عن غير
واحد، ورُويَ عن غيرهم خلافه، وإنما اخترنا ألا يُباع إليه؛
لأن العطاء قد يتأخر ويتقدم، وإنما الآجال معلومة، بايام
موقوتة، أو أهِلةٍ، وأصلها في القرآن، قال اللَّه - عز وجل -:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
(1/297)
وقال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا خير
في شراء التمر إلا بنقد، أو الى
أجل معلوم، والأجل معلوم: يوم بعينه، من شهر بعينه، أو هلال
شهر بعينه، فلا يجوز البيع إلى العطاء، ولا إلى الحصاد، ولا
إلى الجداد؛ لأن ذلك يتقدم ويتأخر، وإنما قال اللَّه تعالى:
(إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية،
وقال الله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ
هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ، فلا توقيت إلا
بالأهلة، أو سِني الأهلة.
الأم: باب (في الآجال: في السلف والبيوع) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولا يصلح بيع إلى العطاء،
ولا حصاد، ولا
جداد، ولا عيد النصارى، وهذا غير معلوم؛ لأن الله تعالى حئم أن
تكون
المواقيت بالأهلة، فيما وقت لأهل الإسلام فقال تبارك وتعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فأعلم الله تعالى بالأهلة
جُمَل المواقيت.
وبالأهلة مواتيت الأيام من الأهلة، ولم يجعل علماً لأهل
الإسلام إلا بها.
فمن أعلم بغيرها فبغير ما أعلم - والله أعلم -.
الأم: باب (الاختلاف في العيب) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا باع الرجلُ الرجلَ
بيعاً إلى العطاء.
فالبيع فاسد، من قِبَل أن اللَّه - عز وجل - أذن بالدين إلى
أجل مسمى، والمسمى: المُوَقت
(1/298)
بالأهلة التي سَمَّى اللَّه - عز وجل -
فإئه يقول: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية.
والأهلة معروفة المواقيت، وما كان في معناها من الأيام
المعلومات، والسنين.
أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبد
الكريم، عن
عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " لا تبايعوا إلى
العطاء، ولا إلى الأندر، ولا إلى العصير" الحديث.
مختصر المزني: باب (السلَم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعال: ولا يجوز في السلف حتى يدفع
الثمن قبل أن
يفارقه، ويكون ما سلف فيه موصوفاً، وإن كان ما سلف فيه بصفة
معلومة عند أهل العلم بها، وأجل معلوم جاز، قال الله تبارك
وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية، ثم ذكر ما ورد في
الأم بالفقرة السابقة.
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
(1/299)
وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وقرأ الرييع إلى قوله
تعالى: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) .
الأم: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأباح اللَّه لهم القتال
بمعنى: أبانه في كتابه
فقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)
الآيتان، وقرأ الربيع إلى قوله
تعالى: (كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: يقال نزل هذا في أهل مكة،
وهم كانوا أشد
العدو على المسلمين، وفرض عليهم في قتالهم ما ذكر الله - عز
وجل -.
ثم يقال: نسخ هذا كله، بالنهي عن القتال حتى يُقاتلوا، أو
النهي عن
القتال في الشهر الحرام بقول اللَّه - عز وجل -:
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية.
ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها.
(1/300)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)
الأم: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم يقال نسخ هذا كله، والنهي عن
القتال حتى
يُقاتلوا، والنهي عن القتال في الشهر الحرام بقول اللَّه - عز
وجل -: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية،
ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد، وهي موضوعة في موضعها.
أحكام القرآن: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ونزول هذه الآية:
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، بعد فرض
الجهاد، وهي موضوعة في موضعها، وكان الشَّافِعِي
رحمه اللَّه: أراد بقول اللَّه - عز وجل -: (وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية، على أنها أعم في النسخ
مما ذكره الجمهور من آية: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً) الآية - والله أعلم -.
(1/301)
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (الشَّهْرُ
الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
الأم: باب (الإحصار با لعدو) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل -
(الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
الآية، وقد أوردها في الدلالة من القرآن على أن القصاص غير
واجب في الرد على من استدل بهذه الآية على أن قول اللَّه
(قِصَاصٌ) ، إنَّما يكون بواجب.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقلت له: إن القصاص وإن كان
يجب لمن له
القصاص، فليس القصاص واجباً عليه أن يقتص.
قال: وما دلَّ على ذلك؟
قلت: قال اللَّه تعالى: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ)
الآية، أفواجب على من جُرح أن يقتص ممن جرحه؛ أو مباح له أن
يقتص
وخَيْر له أن يعفو؛ قال: له أن يعفو، ومباح له أن يقتص.
وقلت له: قال اللَّه - عز وجل -: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
الآية.
فلو أن معتدياً مشركاً اعتدى علينا، كان لنا أن نعتدي
عليه بمثل ما اعتدى علينا، ولم يكن واجباً علينا أن نفعل.
قال: ذلك على ما وصفت.
فقلت: فهذا يدلك على ما وصفت، وما قال
مجاهد: من أن اللَّه - عز وجل - أقَصَّهُ منهم - في عمرة
القضية بعد سنة من صلح الحديبية
(1/302)
- فدخل عليهم في مثل الشهر الذي ردوه فيه،
وليست فيه دلالة على أن
دخوله كان واجباً عليه من جهة قضاء النسك - واللَّه أعلم -.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ)
الأم باب (الإحصار بالعدو) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)
الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلم أسمع ممن حفظت عنه من أهل
العلم بالتفسير
مخالفاً في أن هذه الآية نزلت بالحديبية، حين أحصر النبي - صلى
الله عليه وسلم -، فحال المشركون بينه وبين البيت، وأن النبي -
صلى الله عليه وسلم - نحر بالحديبية، وحلق ورجع حلالاً، ولم
يصل
إلى الببت، ولا أصحابه، إلا عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
وحده، وسنذكر قصته.
وظاهر الآية أن أمر اللَّه - عز وجل إياهم ألا يحلقوا حتى يبلغ
الهدي محله.
وأمره من كان به أذى من رأسه بفدية سمّاها، وقال اللَّه - عز
وجل:
(فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وما بعدها يشبه - واللَّه أعلم - ألا يكون على المحصر بعدو
قضاء؛ لأنّ
الله تعالى لم يذكر عليه قضاء، وذكر فرائض في الإحرام بعد ذكر
أمره.
(1/303)
الأم (أيضاً) : باب (هل تجب العمرة وجوب
الحج؟) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية.
فاختلف الناس في العمرة، فقال بعض المشرقيين: تطوع.
وقاله سعيد ابن سالم، واحتج بأن سفيان الثوري، أخبره عن معاوية
بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: "الحج جهاد والعمرة تطوع" الحديث.
فقلتُ له: أثبت مثل هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛
فقال: هو منقطع، وهو وإن لم تثبُت به الحجة، فإن حجتنا في أنها
تطوع أن الله - عزَّ وجلَّ يقول: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) الآية.
ولم يذكر في الموضع الذي بين إيجاب الحج، إيجاب العمرة، وأنَّا
لم نعلم
أحداً من المسلمين أمِرَ بقضاء العمرة عن ميّت، فقلت له: قد
يحتمل قول الله
: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، أن
يكون فرضهما معاً، وفرضه إذا كان
في موضع واحد يثبت بثبوته في مواضع كثيرة، لقوله تعالى:
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) الآية.
ثم قال: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) . الآية.
فذكرها مرة مع الصلاة، وأفرد الصلاة مرة أخرى دونها، فلم يمنع
ذلك
الزكاة أن تثبت.
وليس لك حجة في قولك: لا نعلم أحداً أمَرَ بقضاء العمرة
عن ميت إلا عليك مثلها لمن أوجب العمرة، بأن يقول: ولا نعلم من
السلف
(1/304)
أحداً ثبت عنه أنه قال: لا تقضى عمرة عن
ميت، ولا هي تطوع كما قلت، فإن كان لا نعلم لك حجة، كان قول من
أوجَب العمرة: لا نعلم أحداً من السلف ثبت عنه أنه قال: هي
تطوع، وألا تقضى عن ميت حجة عليك، قال ومن ذهب هذا المذهب أشبه
أن يتأول الآية: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
الآية، إذا دخلتم فيهما.
وقال بعض أصحابنا: العمرة سنة لا نعلم أحداً أرخص في تركها.
قال: وهذا القول يحتمل إيجابها إن كان يريد أن تحتمل إيجابها،
وأنّ ابن
عباس رضي الله عنهما ذهب إلى إيجابها، ولم يخالفه غيره من
الأئمة، ويحتمل
تأكيدها لا إيجابها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والذي هو أشبه بظاهر القرآن،
وأولى بأهل
العلم عندي - وأسال الله التوفيق - أن تكون العمرة واجبة، فإن
اللَّه - عز وجل - قرنها مع الحج فقال: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله اعتمر قبل أن يحج،
وأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سنّ إحرامها
والخروج منها بطواف وحِلاَق وميقات، وفي الحج زيادة عمل على
العمرة.
فظاهر القرآن أولى إذا لم يكن دلالة على أنَّه باطن دون ظاهر،
ومع ذلك قول ابن عباس وغيره.
(1/305)
أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن
طاووس، عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنَّه قال: "والذي نفسي بيده إنها لفرينتها في كتاب
الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية "
الحديث.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال:
" ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقاله غيره من مكيينا، وهو
قول الأكثر منهم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، وسن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - في قِرَان العمرة مع الحج هدياً، ولو كان أصل
العمرة تطوعاً، أشبه ألا يكون لأحد أن يقرن العمرة مع الحج؛
لأن أحداً لا يدخل في نافلة فرضاً حتى يخرج من أحدهما قبل
الدخول في الآخر، وقد يدخل في أربع ركعات وكثر نافلة قبل أن
يفصل بينهما بسلام، وليس ذلك في مكتوبة ونافلة من الصلاة،
فأشبه ألا يلزمه بالتمتع أو بالقران هدي، إذا كان أصل العمرة
تطوعاً بكل حال؛ لأن حكم ما لا يكون إلا تطوعاً بحال، غير حكم
ما يكون فرضاً في الحال.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" الحديث.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسائله عن الطيب
والثياب: "افعل في عمرتك ما كنت فاعلاً في حَجتك" الحديث.
(1/306)
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عبد
الله بن أبي بكر، أن في
الكتاب الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم:
" أنَّ العمرة هي الحج الأصغر" الحديث.
قال ابن جريج: ولم يحدثني عبد اللَّه بن أبي بكر عن كتاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، لعمرو بن حزم شيئاً إلا قلت له:
أي شكٍّ أنتم من أنَّه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
فقال: لا.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويجزيه أن يقرن الحج مع
العمرة، وتجزيه من
العمرة الواجبة عليه، ويهريق دماً قياساً على قول اللَّه - عز
وجل -:
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
فالقارن أخفُّ حالاً من المتمتع.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وتجزئ العمرة قبل الحج،
والحج قبل العمرة من
الواجبة عليه.
كما يسقط ميقات الحج إذا قذم العمرة قبله لدخول أحدهما في
الآخر.
ولا ميقات للعمرة دون الحل، وأحبُّ أن يعتمر من الجِغرَانة؛
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر منها، فإن أخطاه ذلك
اعتمر من التنعيم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة
أن
تعتمر منها وهي أقرب الحل إلى البيت.
فإن أخطاه ذلك اعتمر من الحديبية؛ لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - صلى بها، وأراد المدخل لعمرته منها.
(1/307)
أخبرنا ابن عيينة، أنَّه سمع عمرو بن دينار
يقول: سمعت عمرو بن أوس
الثقفي يقول: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اللَّه عنهما،
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يردف عائشة فيعمرها
من الننعيم" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعائشة كانت قارنة، فقضت الحج
والعمرة
الواجبتين عليها، وأحبَّت أنَّ تنصرف بعمرة غير مقرونة بحج،
فسألت ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بإعمارها، فكانت
لها نافلة خيراً، وقد كانت دخلت مكة بإحرام فلم يكن لها رجوع
إلى الميقات.
الأم (أيضاً) : باب (هل لمن أصاب الصيد أن يفديه بغير النعم؟)
:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فقال عطاء رحمه اللَّه: كل
شيء في القرآن (أو
... ، أو. . .) يختار منه صاحبه ما شاء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ويقول عطاء في هذا أقول: قال
اللَّه جل ثناؤه: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ) الآية.
ورُوِي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: لكعب
بن عجرة، أي ذلك فعلت أجزأك، وقال اللَّه - عز وجل -: (فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (في الحج) :
قال الربيع:
(1/308)
وسألت الشَّافِعِي عن العمرة في أشهر الحج
فقال: حسنة أستحسنها، وهي
أحب إليَّ منها بعد الحج، لقول اللَّه - عز وجل ث (فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية.
ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت العمرة في
الحج" الحديث، ولأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم -
أمر أصحابه: "من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة" الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن صدقة بن يسار، عن
ابن عمر
رضي اللَّه عنهما أنه قال: "والله لأن أعتمر قبل أن أحج وأهدي
أحبّ الي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة" الحديث.
الأم (أيضاً) : الإحصار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: الإحصار الذي ذكره اللَّه
تبارك وتعالى، فقال:
(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)
الآية، نزلت يوم الحديبية، وأحصِر
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدوّ، ونَحَرَ عليه الصلاة
والسلام في الحلِّ.
الأم (أيضاً) : باب (دخول مكه لغير إرادة حج ولا عمرة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى: (فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
فأذن - اللَّه - للمحرمين بحج أو عمرة، أن يُحلوا لخوف الحرب،
فكان من
لم يحرم أولى إن خاف الحرب ألا يحرم، من محرم يخرج من إحرامه،
ودخلها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح غير محرم للحرب.
(1/309)
الأم (أيضاً) : باب (ما تجزئ عنه البدنة من
العدد في الضحايا) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أقول بحديث مالك، عن ابن الزبير
رضي اللَّه
عنهما، عن جابر - رضي الله عنه -، أنهم نحروا مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن
سبعة، وكانوا محصرين قال اللَّه تبارك وتعالى: (فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، فلما
قال سبحانه: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
شاة، فاجزأت البدنة عن سبعة محصورين ومتمتعين، وعن سبعة وجبت
عليهم من قِرَان أو جزاء صيد، أو غير ذلك.
الأم (أيضاً) : الخلاف في حجِّ المرأة والعبد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في العبد يهلُّ بالحج من غير
إذن سيده.
فأحبّ إليَّ أن يدعه سيده، وله منعه، وإذا منعه فالعبد كالمحصر
لا يجوز فيه إلا قولان - واللَّه أعلم -:
أحدهما: أن ليس عليه إلا دم، ولا يجزيه غيره، فيحل إذا كان
عبداً غير
واجدٍ للدم، ومتى عتق ووجد ذبح، ومن قال هذا في العبد قاله في
الحرِّ يحصر بالعدو، وهو لا يجد شيئاً، يحلق ويحل ومتى أيسر
أدى الدم.
الثاني: أن تُقَوَّم الشاة دراهم، والدراهم طعاماً، فإن وُجد
الطعام تصدق
به، وإلا صام عن كل مدٍّ يوماً، والعبد بكل حال ليس بواجد
فيصوم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن ذهب هذا المذهب قاسه على ما
يلزمه من
هدي المتعة، فإن الله - عز وجل - يقول: (فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) .
(1/310)
فلو لم يجد هدياً، ولم يصم، لم يمنعه
ذلك من أن في من عمرته وحجه، ويكون عليه بعده الهَدي أو
الطعام.
الأم (أيضاً) : باب (الإحصار بالمرض) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
ثم ذكر ما ورد في فقرة باب الإحصار للعدو، وبعدها قال: فرأيت
أن
الآية بأمر اللَّه تعالى بإتمام الحج والعمرة لله عامة، على كل
حاج ومعتمر إلا من استثنى اللَّه، ثم سنّ فيه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - من الحصر بالعدو، وكان المريض عندي ممن عليه
عموم الآية، وقول ابن عباس، وابن عمر، وعائشة رضي اللَّه عنهم.
يوافق معنى ما قلت - وإن لم يلفظوا به - إلا كما حُدِّث عنهم.
الأم (أيضاً) : الضحايا الثاني:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قال الله تعالى في المتمتع:
(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية، وقال ابن عباس رضي
اللَّه عنهما: ما استيسر من الهدي:
شاة، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مه أصحابه الذين
تمتعوا بالعمرة إلى الحج أن يذبحوا
شاة، شاة وكان ذلك أقل ما يجزيهم، لأنه إذا أجزأه أدنى الدم،
فأعلاه
خير منه.
(1/311)
الأم (أيضاً) : باب (في الحج) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر،
لأنَّه كان
يقول: (مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) : بعير أو بقرة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ونحن وأنت نقول: (مَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) شاة.
ونرويه عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وإذا جاز لنا أن نترك
على ابن عمر
لابن عباس كان الترك عليه للنبي - صلى الله عليه وسلم -
واجباً.
الأم (أيضاً) : باب (ميقات العمرة مع الحج) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: وكيف قلت هذا
في المكيّ.
وأنت لا تجعل عليه دم المتعة؟
قيل: لأن الله - عزَّ وجلَّ قال: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ
أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآية.
الأم (أيضا) : باب (الإحصار للعدو) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فإن قال قائل: فإن اللَّه -
عز وجل - يقول: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الآية،
قلت: اللَّه أعلم بمحله، هذا يشبه أن يكون إذا أحصر، نحره حيث
أحصر كما وصفت، ومحله في غير الإحصار الحرم، وهو كلام عربي
واسع.
(1/312)
الأم (أيضاً) : الخلاف في النذر في غير
طاعة الله عزَّ وجلَّ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تبارك وتعالى: (فَمَنْ
كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) الآية،
فبيّن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، عن اللَّه - عز وجل بأن الصوم ثلاث،
والإطعام ستة مساكين فَرَقاً من طعام.
والنسك شاة، فكانت الكفارات تعبداً، وخالف الله - عز وجل -
بينها كما شاء، لا معقب لحكمه.
مختصر المزنى: باب (بيان التمتع بالعمرة. ..) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الآية.
فإذا أهَلُّ بالحج في شوال، أو ذي القعدة، أو ذي الحجة، صار
متمتعاً، فإن له أن يصوم حين يدخل في الحج، وهو قول عمرو بن
دينار. قال: وعليه ألا يخرج من الحج حتى يصوم - إذا لم يجد
هدياً - الأيام الثلاثة. . . ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله.
الرسالة: باب (البيان الأول) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى في
التمتع:
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
(1/313)
فكان بيِّناً عند من خوطب بهذه الآية، أن
صوم الثلاثة في الحج، والسبع
في المرجع - فيصبح المجموع - عشرة أيام كاملة.
قال اللَّه تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) فاحتملت أن
تكون زيادة في التبيين.
واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا جمعت إلى سبع، كانت عشرة
كاملة.
وقال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
الآية، ثم بين الله على لسان
رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيف عمل الحج والعمرة. . .؟.
وقال سبحانه وتعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) الآية، فدل
الكتاب والسنة وما لم يختلف المسلمون فيه أن هذا كله. في مال
الرجل، بحق وجب عليه للهِ، أو أوجبه الله للآدمين، بوجوه لزمه،
وأنه لا يكلف أحد غرمه عنه.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: في قوله تعالى: (ذَلِكَ
لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
الآية.
(1/314)
فحاضره: من قرب منه، وهو: كل من كان أهله
من دون أقرب المواقيت.
دون ليلتين.
أخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فيما بلغه عن وكيع، عن شعبة، عن
عمرو بن مُرَّة.
عن عبد بن سلمة، عن علي - رضي الله عنه - في هذه الآية:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآية، قال: "أن
يحرم الرجل من دويرة أهله" الحديث.
وأخبرنا أبو سعيد، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: ولا يجب دم المتعة على المتمتع، حتى
يُهِل بالحج؛ لأن
الله جل ثناؤه يقول: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى
الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) الآية.
وكان بيناً - في كتاب اللَّه - عز وجل - أن التمتع هو: التمتع
بالإهلال من العمرة إلى أن يدخل في الإحرام بالحج، وأله إذا
دخل في الإحرام بالحج، فقد أكمل التمتع.
ومضى التمتع، وإذا مضى بكماله فقد وجب عليه دمه، وهو قول عمرو
بن دينار.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ونحن نقول: (فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) : شاة.
وُيروى عن ابن عباس فمن لم يجد: فصيام ثلاثة أيام، فيما بين أن
يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإذا لم يصم: صام بعد منى (بمكة أو في
سفره) ، وسبعة أيام بعد ذلك.
وقال في موضع آخر: وسبعة في المرجع، وقال في موضع آخر: إذا رجع
إلى
أهله.
(1/315)
قال الله عزَّ وجلَّ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
(197)
الأم: باب (الوقت الذي يجوز فيه الحج والعمرة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله عزَّ وجلَّ:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ) ، إلى قوله: (فِي الْحَجِّ) الآية.
أخبرنا مسلم بن خالد، وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي
الزبير.
لأنه سمع جابر بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - يسأل عن الرجل
يهل بالحجِّ قبل أشهر الحج؟
فقال: لا. لحديث.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج قال: قلت
لنافع:
أسمعت عبد اللَّه بن عمر يسمى شهور الحج؟
فقال: نعم، كان يسمى شوالاً، وذا القعدة، وذا الحجة، قلت
لنافع: فإن أهَل إنسان بالحجّ قبلهن؟
قال: لم أسمع منه في ذلك شيئاً. الحديث.
(1/316)
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج
قال: قال
طاووس، هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج أنَّه قال لعطاء: أرأيت لو
أن رجلاً جاء مهلاً بالحجّ في شهر رمضان، كيف كنت قائلاً له:
قال أقول له: اجعلها عمرة.
أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرنا عمر بن عطاء، عن
عكرمة أنَّه قال: لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر
الحج، من أجل قول اللَّه - عز وجل -: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ) الآية، ولا ينبغي لأحد أن يلي بالحج ثم يقيم.
الأم (أيضاً) : باب (فوت الحج بلا حَصر عدو ولا مرض ولا غلبة
على عقل) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وفي حديث يحيى عن سليمان
دلالة عن عمر
- رضي الله عنه - أنَّه يعمل عمل معتمر لا أنَّ إحرامه عمرة،
وإن كان الذي يفوته الحج قارناً حج قارناً، وقرن وأهدى هدياً
لفوت الحج، وهدياً للقِرَان، ولو أراد المحرم بالحجّ
إذا فاته الحج أن يقيم إلى قابل محرماً بالحج، لم يكن ذلك له،
وإذا لم يكن ذلك له فهذا دلالة على ما قلنا من أنَّه: لا يكون
لأحد أن يكون مهلا بالحج في غير أشهر الحجّ، لأن أشهر افي
معلومات لقول اللَّه - عز وجل -: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ)
الآية. فأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون حظر الحج في غيرها.
الأم (أيضاً) : فيمن تجب عليه الصلاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن غلب على عقله بعارض مرض
(أي
مرض كان) ارتفع عنه الفرض في قول الله - عز وجل -:
(وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) الآية، وإن كان معقولاً
ألَّا يخاطب بالأمر والنهي إلا من عقلهما.
(1/317)
مختصر المزني: باب (بيان وقت الحج والعمرة)
:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه - عز وجل:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، وأشهر الحجّ: شوال،
وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة (وهو يوم عرفة) ، فمن لم يدركه
إلى الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج.
وقال عكرمة رحمه اللَّه: فلا يجوز لأحد أن يحبئ قبل أشهر
الحجّ، فإن فعل
فإنهّا تكون عمرة، كرجل دخل في صلاة قبل وقتها فتكون نافلة، من
أجل قول اللَّه - عز وجل: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
الآية.
مختصر المزني (أيضاً) : كتاب العدد (عدةُ المدخول بها ... ) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: والأقْرَاءُ والأطهار -
واللَّه أعلم - ولا
يمكن أن يطلقها طاهراً إلا وقد مضى بعض الطهر، وقال اللَّه
تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآية، وكان شوال،
وذو القعدة كاملين، وبعض ذي الحجة، كذلك الأَقْرَاءُ: طُهرَان
كاملان وبعض طهر.
(1/318)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا
الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: في قوله تعالى: (الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
الآية، قال: وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. ولا
يفرض الحجّ إلا في شوال كله، وذي القَعدة كله، وتسع من ذي
الحجة، ولا يفرض إذا خلت عشر ذي الحجة، فهو - أي: شهر ذي الحجة
- من شهور الحجّ، والحجّ بعضه دون بعض.
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ
عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
الأم: باب (صلاة المسافر) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وكما كان قول الله تعالى:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ) الآية.
يريد - واللَّه أعلم - أن تتجروا في الحج، لا أن حتماً عليهم
أن يتجروا.
(1/319)
أحكام القرآن: فصل (فيما يؤثر عن - الشافعى
- من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات والعبادات) :
نفس القول الوارد في الأم سابقاً مع تغير آخر لفظة إلى: (أن
يتجروا) .
قال الله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (199)
الرسالة: باب (بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله
الخاص) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى:
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ الآية.
فالعلم يحيط - إن شاء الله - أن الناس كلهم لم يحضروا
عرفة في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم - المخاطب بهذا ومن معه، ولكن
صحيحاً من كلام العرب أن يقال: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ)
يعني: بعضَ الناس.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه في الحج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو عبد اللَّه
الحافظ، قال: وقال الحسين
ابن محمد الماسرجسي، فيما أخبرني عنه أبو محمد بن سفيان،
أخبرنا يونس بن
عبد الأعلى قال:
(1/320)
قال الشَّافِعِي يرحمه الله تعالى: في قوله
تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) الآية،
قال: كانت قريش وقبائل لا يقفون بعرفات، وكانوا يقولون: نحن
الحُمسُ، لم نسَبَّ قط، ولا دُخِلَ علينا في الجاهلية، وليس
نفارق الحرم، وكان سائر الناس يقفون بعرفات. فأمرهم اللَّه -
عز وجل -: أن يقفوا بعرفة مع الناس.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
الأم: القول في الطواف:
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد (مولى السائب) ، عن
أبيه
عن ابن السائب: لأنَّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود: (رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ) الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وهذا من أحَبِّ ما يقال في
الطّواف إليَّ.
وأحِبُّ أن يُقال في كلّه.
(1/321)
الأم: التلبية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأحِبُّ أن يكون أكثر كلامه
في الطّواف:
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ
حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) الآية.
قال الله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
الأم باب (الاستسلاف للحج) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى:
أخبرنا مسلم، وسعيد، عن ابن جريج، عن
عطاء، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رجلاً سأله فقال: أو
آجر نفسي من هؤلاء القوم، فأنسِك معهم المناسك ألِيَ أجرٌ؟
فقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: نعم (أُولَئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
الآية.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ
اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (203)
الأم: باب (بيع الآجال) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقد رُوِيَ إجازة البيع إلى
العطاء عن غير
واحد، وروي عن غيرهم خلافه، وإنما اخترنا ألا يباع إليه، لأنّ
العطاء قد
(1/322)
يتأخر ويتقدم، وإنما الآجال معلومة، بايام
موقوتة، أو أهِلَّة، وأصلها في القرآن قال تعالى: (وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) الآية، فقد وقت بالأهلة
كما وقت بالعدة، وليس العطاء من مواقيته تبارك وتعالى، وقد
يتأخر الزمان ويتقدم، وليس تتأخر الأهلة أبداً أكثر من يوم.
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
الأم: المشي إلى الجمعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وقال عز ذكره: (وَإِذَا
تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا) الآية.
السعي: هو العمل، لا السعي على الأقدام.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال زهير:
سعى بعهدهم قوم لكي يدركوهمُ ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم
يألوا
وزاد بعض أصحابنا في هذا البيت:
وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهمُ قَبلُ
وهل يحمل الخطي إلا وشيجه ... وتُغرس إلَّا في منابتَها النخلُ
(1/323)
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أخبرنا
إبراهيم بن محمد، قال: حدثني عبد الله
ابن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك، عن جده جابر بن عتيك صاحب
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال: "إذا خرجت إلى الجمعة فامش على هينتك" الحديث.
قال الله عزَّ وجلَّ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)
الأم: كتاب الجزية) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: خلق اللَّه الخلق لعبادته،
فأبان جل وعلا أن
خيرته من خلقه: أنبياؤه، فقال تبارك وتعالى: (كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية، فجعل - سبحانه - النبيين
صلى اللَّه عليهم وسلم من أصفيائه - دون عباده - بالأمانة على
وحيه، والقيام بحجته فيهم.
الرساله: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله ئعاك: فإئه تبارك وتعالى يقول:
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الآية.
فكان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع
خلقه.
بفتح رحمته، وختم نبوته، وأعم ما أرسل به مُرسَل قبله، المرفوع
ذكرُهُ مع ذكره
(1/324)
في الأولى، والشافعُ المشفع في الأخرى،
أفضل خلقه نفساً، وأجمعهم لكل خُلُق رضيه في دين ودنيا، وخيرهم
نسباً وداراً: محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ولما مضت لرسول الله - صلى
الله عليه وسلم - مدة من هجرته، أنعم اللَّه تعالى فيها على
جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون اللَّه قوة بالعدد، لم تكن
قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد، بعد إذ كان إباحة لا
فرضاً، فقال
تبارك وتعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) الآية.
الأم (أيضاً) : من لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: فلما فرض اللَّه تعالى
الجهاد، دلَّ في كتابه.
وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أنه لم يفرض الخروج
إلى الجهاد على مملوك، أو أنثى بالغ، ولا حر لم يبلغ.
لقوله اللَّه تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) الآية.
وكل هذا يدل على أنه أراد به الذكور دون الإناث. . .
(1/325)
ودلت السنة، ثم ما لم أعلم فيه مخالفاً من
أهل العلم على ما وصفت.
وذكَرَ حديث ابن عمر في ذلك.
الأم (أيضاً) : كيف تفضل فرض الجهاد":
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: قال اللَّه تبارك وتعالى:
(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) الآية، مع ما أوجب - اللَّه -
من القتال في غير آية من كتابه، وقد
وصفنا أن ذلك على الأحرار المسلمين البالغين دون غير ذوي
العذر، بدلائل
الكتاب والسنة، فإذا كان فرض الجهاد - على من فُرِض عليه -
محتملاً لأن يكون كفرض الصلاة وغيرها عامًّا، ومحتملاً لأن
يكون على غير العموم، فدل كتاب الله - عز وجل -، وسنة نبيه -
صلى الله عليه وسلم - على أن فرض الجهاد، إنما هو على أن يقوم
به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المَخُوف على المسلمين من يمنعه.
الآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يُسلم أهل
الأوثان، أو يعطي أهل الكتاب الجزية.
(1/326)
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ)
الأم: كتاب سير الأوزاعي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: - روى - الكلبي من حديث رفعه
إلى
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه بعث عبد اللَّه بن جحش
- في سرية - إلى بطن نخلة، فأصاب هنالك عمرو بن الحضرمي، وأصاب
أسيراً أو اثنين، وأصاب ما كان معهم من أدم وزيت وتجارة (من
تجارة أهل الطائف) ، فقدم بذلك على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -.
ولم يقسم ذلك عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - حتى قدم
المدينة، وأنزل اللَّه - عز وجل - في ذلك:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ
قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)
حتى فرغ من الآية - فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
المغنم وخَمَّسهُ.
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وأما ما احتُج به من وقعة
عبد اللَّه بن
جحش، وابن الحضرمي، فذلك قبل بدر، وقبل نزول الآية، وكانت
وقعتهم في آخر يوم من الشهر الحرام، فوقفوا فيما صنعوا، حتى
نزلت: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ
قُلْ قِتَالٌ فِيهِ) الآية.
وليس مما خالفه فيه الأوزاعي بسبيل.
(1/327)
الأم (أيضاً) : المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن انتقل عن الشرك إلى
الإيمان، ثم انتقل
عن الإيمان إلى الشرك (من بالغي الرجال والنساء) استتيب، فإن
تاب قُبِل منه، وإن لم يتب قُتِل قال اللَّه - عز وجل -:
(وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ
دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) إلى قوله: (هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب المرتد الكبير:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تبارك اسمه: (وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) الآية.
أخبرنا الثقة، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة
بن
سهل، عن عثمان بن عفان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
له قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان،
وزناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلم يجز في قول النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"
إحداهن الكفر بعد الإيمان، إلا أن تكون كلمة الكفر تحل
الدم، كما يُحله الزنا بعد الإحصان، أو تكون كلمة الكفر تحل
الدم إلا أن يتوب صاحبه، فدلَّ كتاب اللَّه - عز وجل -، ثم سنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن معنى قول الرسول - صلى الله
عليه وسلم -:
كفر بعد إيمان" إذا لم يتب من الكفر، وقد وضعتُ هذه الدلائل
مواضعها.
(1/328)
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)
الأم: نكاح نساء أهل الكتاب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: أحل اللَّه تبارك وتعالى
حرائر المؤمنات.
واستثنى في إماء المؤمنات أن يحلُلْن، بأن يجمع ناكحهن ألَّا
يجد طولاً لحرة، وأن يخاف العنت في ترك نكاحهن، فزعمنا أنَّه
لا يحلُّ أمة مسلمة حتى يجمع ناكحها الشرطين اللذين أباح
اللَّه نكاحها بهما، وذلك أن أصل ما نذهب إليه إذا كان الشيء
مباحاً بشرط: أن يباح به، فلا يباح إذا لم يكن الشرط، كما قلنا
في الميتة نباح للمضطر ولا تباح لغيره. ..
وقال اللَّه تبارك وتعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية.
فأطلق التحريم تحريماً بأمر وقع عليه اسم الشرك.
الأم (أيضاً) : نكاح نساء أهل الكتاب وتحريم إمائهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل: (وَلَا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)
إلى قوله: (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) الآية، وقد قيل في هذه
الآية: إنهها نزلت في جماعة مشركي العرب الذين هم أهل الأوثان،
فحرم نكاح نسائهم، كما حرم أن ننكح رجالهم المؤمنات، قال: فإن
كان هذا هكذا، فهذه الآية ثابتة ليس فيها منسوخ.
(1/329)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قبل هذه
الآية في جميع المشركين، ثم نزلت
الرخصة بعدها في إحلال نكاح حرائر أهل الكتاب خاصة، كما جاءت
في
إحلال ذبائح أهل الكتاب.
الأم (أيضاً) : ما جاء في نكاح المحدودين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: ومن قال هذا حكم بينهما،
فالحجة عليه بما
وصفنا من كتاب اللَّه - عز وجل - الذي اجتمع على ثبوت معناه
أكثر أهل العلم، فاجتماعهم أولى أن يكون ناسخاً وذلك قول
اللَّه - عز وجل -: (فَلَا تَرْجِعُوهُن إِلَى الْكفارِ) ،
الآية، وقوله - عز وجل -:
(وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواأ)
الآية، فقد قيل: إن هاتين الأبتين في مشركات أهل الأوثان.
وقد قيل: في المشركات عامة ثم رُخص منهن في حرائر أهل الكتاب.
الأم (أيضاً) : ما جاء في نكاح إماء المسلمين وحرائر أهل
الكتاب وإمائهم:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَلَا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ)
الآية.
فنهى اللَّه - عز وجل في هذه الآية - وآية الممتحنة - عن نكاح
نساء المشركين، كما نهى عن إنكاح رجالهم.
(1/330)
وقال: وهاتان الآيتان تحتملان معنيين:
الأول: أن يكون أرِيد بهما مشركو أهل الأوثان خاصة، فيكون
الحكم
فيهما بحاله لم ينسخ، ولا شيء منه؛ لأنّ الحكم في أهل الأوثان:
ألَّا ينكح مُسْلم منهم امرأة، كما لا ينكح رجل منهم مسلمة.
وقد قيل هذا فيها، وفيما هو مثله عندنا - واللَّه أعلم به -.
الثاني: وتحتملان أن تكونا - الآيتان - في جميع المشركين،
وئكون الرخصة
نزلت بعدها في حرائر أهل الكتاب خاصة، كما جاءت في ذبائح أهل
الكتاب من بين المشركين خاصة.
الأم (أيضاً) : المدعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل - (وَلَا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، فحرَّم:
المشركات جملة. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأحلُّ اللَّه صنفاً واحداً من
المشركات بشرطين:
أحدهما: أن تكون المنكوحة من أهل الكتاب.
والثاني: أن تكون حُرَّة.
لأنَّه لم يختلف المسلمون في أنَّ قول اللَّه - عز وجل فَي:
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . الآية.
هن: الحرائر.
أحكام القرآن: ما يؤثر في النكاح والصداق وغير ذلك:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن كانت الآية: (وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) الآية، نزلت في تحريم نساء
المسلمين على المشركين - من مشركي أهل
(1/331)
الأوثان -، فالمسلمات محرَّمات على المشركين منهم بالقرآن بكل
حال، وعلى مشركي أهل الكتاب، لقطع الولاية بين المسلمين
والمشركين، وما لم يختلف الناس فيه علمتُه. |