تفسير الإمام الشافعي

سورة التوبة
قال الله عزَّ وجلَّ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
وقال عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)
الأم: تبديل أهل الجزية دينهم
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن كان له مال - أي: الكتابي - بالحجاز، قيل:
وكل به ولم يترك يقيم إلا ثلاثاً، وإن كان له - مال - بغير الحجاز، لم يترك يقيم في بلاد الإسلام إلا بقدر ما يجمع ماله، فإن أبطأ، فأكثر ما يؤجل إلى الخروج من بلاد الإسلام أربعة أشهر؛ لأنه أكثر مدة جعلها اللَّه لغير الذميين من المشركين، وأكثر مدة جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم، قال اللَّه تبارك وتعالى: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قرأ الربيع إلى: (غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)
فأجلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أجلهم اللَّه من أربعة أشهر.
الأم (أيضاً) جماع الوفاء بالنذر والعهد ونقضه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوماً من المشركين، فأنزل اللَّه - عز وجل - عليه: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية.

(2/895)


الأم (أيضاً) : مهادنه من يقوى على قتاله
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لما قوي أهل الاسلام أنزل اللَّه - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مرجعه من تبوك: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الآية - وما بعد -، فأرسل بهذه الآيات مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقرأها على الناس في الموسم، وكان فرضاً
أن لا يعطى لأحد مدة بعد هذه الآيات إلا أربعة أشهر؛ لأنها الغاية التي
فرضها الله) .
قال: وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لصفوان بن أمية بعد فتح مكة بسنين أربعة أشهر، لم أعلمه زاد أحداً - بعد أن قوي المسلمون - على أربعة أشهر.
الأم (أيضاً) : باب (دية أهل الذمة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: المستأمن يقئله المسلم لا تفتله به - الخطاب:
للمحاور - وله عهد هو به حرام الدم والمال، فلو لم يُلزمك حجة إلا هذا
لزمتك.
قال: ويقال لهذا معاهد؟
قلنا: نعم؛ لعهد الأمان، وهذا مُؤمَّن، قال
فيُدل على هذا بكتاب أو سنة؟
قلنا: نعم، قال - عز وجل -: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)
الآية، إلى قوله: (غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) الآية، فجعل لهم عهداً إلى مدة، ولم
يكونوا أمناء بجزية، كانوا أمناء بعهد، ووصفهم باسم العهد، وبعث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - علياً - رضي الله عنه - بأن من كان عنده من النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد، فعهده إلى مدته، قال: ما كنا
نذهب إلا أن العهد عهد الأبد، قلنا: فقد أوجدناك العهد إلى مدة في كتاب اللَّه - عز وجل - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

(2/896)


الأم (أيضاً) : المهادنة على النظر للمسلمين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأحبّ للإمام إذا نزك بالمسلمين نازلة - وأرجو أن لا
ينزلها الله - عزَّ وجلَّ بهم إن شاء الله تعالى - مهادنة، يكون النظر لهم فيها، ولا يهادن إلا إلى مدة، ولا يجاوز بالمدة مدة أهل الحديبية، فإن كانت بالمسلمين قوة، قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة، فان لم يقو الإمام فلا بأس أن يجدد مدة مثلها، أو دونها، ولا يجاوزها من
قِبَل أن القوة للمسلمين، والضعف لعدوهم، قد يحدث في أقل منها، وإن هادنهم إلى أكثر منها فمنتقضه؛ لأن أصل الفرض قتال - المشركين حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية -
أهل الجزية -، فإن الله - عزَّ وجلَّ أذن بالهدنة فقال: (إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآية.
وقال تبارك وتعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ) ، فلما لم يبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمدة أكثر من مدة الحديبية، لم يجز أن يهادن إلا على النظر للمسلمين، ولا تُجاوَز.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)
الأم: مهادنة من يقوى على قتاله:
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: وإذا سأل قوم من المشركين مهادنة، فللإمام
مهادنتهم على النظر للمسلمين، رجاء أن يسلموا، أو يعطوا الجزية بلا مؤونة،

(2/897)


وليس له مهادنتهم إذا لم يكن في ذلك نظر، وليس له مهادنتهم على النظر على غير الجزية أكثر من أربعة أشهر، لقوله - عز وجل -:
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
إلى قوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) الآية، وما بعدها.
الأم (أيضاً) : ما أحدث أهل الذمة الموادَعون مما لا يكون نقضاً:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأمر الله تعالى في الذين لم يخونوا: أن يتموا إليهم
عهدهم إلى مدتهم بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) الآية.
الأم (أيضاً) : المهادنة على النظر للمسلمين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تبارك وتعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ)
فلما لم يبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمدة أكثر من مدة الحديبية، لم يجز أن يهادن إلا على النظر للمسلمين، ولا تُجَاوَز.

(2/898)


قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الأم: الحكم في السا حر والساحرة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: حقن اللَّه الدماء، ومنع الأموال إلا بحقها - بالإيمان
بالله ورسوله، أو عهد من المؤمنين بالله ورسوله لأهل الكتاب، وأباح دماء
البالغين من الرجال بالامتناع من الإيمان إذا لم يكن لهم عهد، قال اللَّه تبارك
وتعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذي أراد الله - عزَّ وجلَّ أن يُقتلوا حتى يتوبوا، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة: أهل الأوثان من العرب وغيرهم الذين لا كتاب لهم.
الأم (أيضاً) : الأصل فيمن تؤخذ الجزية منه ومن لا تؤخذ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال - الله تعالى - في قوم كان بينه - صلى الله عليه وسلم - وبينهم شيء: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ)

(2/899)


مع نظائر لها في القرآن - وجاءت السنة بما جاء به القرآن -.
أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله فقد عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بحقها، وحسابهم على الله " الحديث.
أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، أن عمر - رضي الله عنه - قال - أي: لأبي بكر - رضي الله عنه - أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بحقها، وحسابهم على الله".
قال أبو بكر - رضي الله عنه -: هذا من حقها، لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه. الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: يعني: من منع الصدقة ولم يرتد.
الأم (أيضاً) : كتاب (الحكم في قتال المشركين ومسألة مال الحربي) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: الحكم في قتال المشركين حكمان، فمن غزا
منهم أهل الأوثان، ومن عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب من كانوا، فليس له أن يأخذ منهم الجزية، ويقاتلهم إذا قوى عليهم حتى يقتلهم، أو يسلموا

(2/900)


وذلك لقول اللَّه - عز وجل -: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الآيتين، ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى بقولوا لا إله إلا الله، فإذا مالوها عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بحقها، وحسابهم على الله" الحديث.
الأم (أيضاً) : الخلاف فيمن تؤخذ منه الجزية ومن لا تؤخذ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال - أي: المحاور - ففي المشركين الذين ئؤخذ
منهم الجزية حكم واحد أو حكمان؟
قيل: بل حكمان. قال: وهل يشبه هذا شيء؟
قلنا: نعم، حكم اللَّه جل ثناؤه فيمن قُتِل من أهل الكتاب وغيرهم. قال:
فإنا نزعم أن غير المجوس ممن لا تحل ذبيحته ولا نساؤه، قياساً على المجوس.
قلنا: فأين ذهبت عن قول اللَّه - عز وجل -: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)
إلى: (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) الآية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله." الحديث.
فإن زعمت أنها والحديث منسوخان بقوله - عز وجل -:
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) .
وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"سُنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب" الحديث؛ قلنا: فإذا
زعمت ذلك، دخل عليك أن تكون العرب ممن يعطون الجزية، وإن لم يكونوا أهل كتاب.
قال: فإن قلت لا يصلح أن تعطِي العرب الجزية. قلنا: أوَ ليسوا

(2/901)


داخلين في اسم ألشرك؛ قال: بلى، ولكن لم أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ منهم جزية.
قلنا: أفعلمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من غير كتابي أو مجوسي؟ قال: لا. قلنا:
فكيف جعلت غير الكتابيين من المشركين قياساً على المجوس.
الأم (أيضاً) : باب (المرتد الكبير) :
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي قال: قال اللَّه تبارك وتعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) الآية.
أخبرنا الثقة، عن حماد بن زيد، عن يحمى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى
ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن ظفر به من رجال المشركين أنه قتل بعضهم، ومَنَّ على بعضهم، وفادى ببعض، وأخذ الفدية من بعض، فلم يختلف المسلمون أنه: لا يحلُّ أن يفادى بمرتد بعد إيمانه، ولا يُمَنُّ عليه، ولا تأخذ منه فدية، ولا يترك بحال، حتى يسلم أو يقتل - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأباح - اللَّه تعالى - دماء أهل الكفر من خلقه
فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) الآية، وحرَّم دماءهم إن أظهروا

(2/902)


الإسلام. . . فجعل حينئذ دماء المشركين مباحة، وقتالهم حتماً وفرضاً عليهم إن لم يظهروا الإيمان.
مختصر المزني: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد اختصرت من تمثيل ما يدل الكتاب على أنه
نزل من الأحكام عاماً، أريد به العام. في كتاب غير هذا، وهو الظاهر من علم القرآن، وكتبت معه غيره مما أنزل عام يُراد به الخاص، وكتبت في هذا الكتاب مما نزل عام الظاهر ما دل الكتاب على أن اللَّه أراد به الخاص؛ لإبانة الحجة على من تأول ما رأيناه، مخالفاً فيه طريق من رضينا مذهبه من أهل العلم بالكتاب والسنة، من ذلك قال اللَّه جل ثناؤه: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)
فهذا من العام الذي دل الله على أنه إنما أراد به الخاص. . .، لأن كل أهل
الشرك صنفان: صنف أهل الكتاب، وصنف غير أهل الكتاب، ولهذا نظائر في القرآن، وفي السنة مثل هذا.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
الأم: المهادنة على النظر للمسلمين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن جاء من المشركين يريد الإسلام، فحق على
الإمام أن يؤمِّنه حتى يتلو عليه كتاب اللَّه - عز وجل -، ويدعوه إلى الإسلام بالمعنى الذي

(2/903)


يرجو أن يدخل اللَّه - عز وجل - به عليه الإسلام، لقول اللَّه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن قلت ينبذ إليه، أبلغه مأمنه. وإبلاغه مأمنه: أن
يمنعه من المسلمين والمعاهدين، ما كان في بلاد الإسلام، أو حيث يتصل ببلاد الإسلام، وسواء قرب ذلك أم بعد.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم أبلغه مأمنه: يعني - واللَّه تعالى أعلم - منك.
أو ممن يقتله، على دينك، - أو - ممن يطيعك، لا أمانة من غيرك، من عدوك وعدوه، الذي لا يأمنه، ولا يطيعك.
الأم (أيضاً) : الصلح على الاختلاف في بلاد المسلمين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأما الرسل، ومن ارتاد الإسلام فلا يمنعون
الحجاز؛ لأن اللَّه - عز وجل - يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) الآية.
وإن أراد أحد من الرسل الإمامَ وهو بالحرم.
فعلى الإمام أن يخرج إليه، ولا يدخله الحرم إلا أن يكون يغني الإمام فيه
الرسالة والجواب فيكتفى بهما، فلا يترك يدخل الحرم بحال.
الأم (أيضاً) في المرتد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإنما أمر اللَّه - عز وجل - نبيه عليه الصلاة والسلام فقال:
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)

(2/904)


ولم أعلم أمر بذلك في أحد من أهل الإسلام. فإن قال قائل: فلم لا تجعل
ذلك في أهل الإسلام الممتنعين كما تجعله في المشركين الممتنعين؟
قيل: لما وصفنا من سقوط ما أصاب المشرك في شركه، وامتناعه من دم أو مال عنه، وثبوت ما أصاب المسلم في امتناعه مع إسلامه، فإن الحدود إنَّما هي على المؤمنين لا على المشركين.
الأم (أيضاً) : باب (ديه أهل الذمة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) الآية، فجعل له العهد إلى سماع
كلام اللَّه، وبلوغ مأمنه، والعهد الذي وصفتَ على الأبد، إنما هو إلى مدة، إلى العاهد نفسه ما استقام بها كانت له، فإذا نزع عنها كان مُحَارباً حلال الدم والمال.
مختصر المزني: باب (الجزية على أهل الكتاب والضيافة وما لهم وما عليهم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وليس للإمام أن يصالح أحداً منهم على أن يسكن
الحجاز بحال، ولا يبين أن يُحرِّم أن يمرَّ ذِمِّي بالحجاز ماراً لا يقيم بها كثر من
ثلاث ليالٍ وذلك مقام المسافر؛ لاحتمال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجلائهم عنها، أن لا يسكنوها، ولا بأس أن يدخلها الرسل لقول الله تعالى. (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ) الآية، ولولا أن عمر - رضي الله عنه - أجل من قدم المدينة منهم

(2/905)


تاجراً ثلاثة أيام، لا يقيم فيها بعد ثلاث؛ لرأيت أن لا يُصالحوا، على أن لا
يدخلوها بحال، ولا يُتركوا يدخلونها إلا بصلح، كما كان عمر - رضي الله عنه - يأخذ من أموالهم إذا دخلوا المدينة ولا يترك أهل الحرب يدخلون بلاد الإسلام تجاراً، فإن دخلوا بغير أمان، ولا رسالة غُنموا.
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: ويؤخذ منهم، ما أخذ عمر من المسلمين ربع
العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر اتباعاً له على ما أخذ. ..
ولولا أن عمر - رضي الله عنه - أخذه منهم ما أخذناه، ولم يبلغنا أنه أخذ من أحد في سَنَةِ إلا مرة.
مناقب الشافعى: باب (ما يؤثر عن الشَّافِعِي في أسماء الله وصفات ذاته، وأن
القرآن كلام الله، وكلامه من صفات ذاته) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: أخبرني عبد الله بن محمد الفقيه، قال:
أخبرنا أبو جعفر الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو يحيى الساجي (إجازة) قال:
سمعت أبا سعيد المصري يقول:
سمعت محمد بن إدريس الشَّافِعِي يقول: القرآن كلام الله تعالى - عز وجل - غير مخلوق.
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت عبد الله بن محمد بن علي بن
زياد يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: سمعت الرببع يقول: لما
كلَّم الشَّافِعِي رحمه اللَّه حفص الفرد.
فقال حفص: القرآن مخلوق.
قال الشَّافِعِي: كفرت بالله العظيم.

(2/906)


أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو عبد اللَّه (محمد إبراهيم المؤذن) .
عن عبد الواحد بن محمد الأرغياني، عن أبي محمد الزبيري قال: قال رجل
للشافعي: أخبرني عن القرآن خالق هو؟
قال الشَّافِعِي: اللهم لا قال فمخلوق؟ قال الشَّافِعِي: اللهم لا قال: فغير
مخلوق؟ قال الشَّافِعِي: اللهم نعم.
قال: فما الدليل على أنه غير مخلوق؛ فرفع الشَّافِعِي رأسه وقال: ئقِرُّ بأن القرآن كلام اللَّه؟ قال: نعم.
قال الشَّافِعِي سبقت في هذه الكلمة، قال اللَّه تعالى ذكره: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) الآية.
وقال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله - فتقر بأن الله كان وكان كلامه؛ أو كان اللَّه ولم يكن كلامه؟ فقال الرجل: بل كان اللَّه، وكان كلامه.
قال: فتبسم الشَّافِعِي وقال: يا كوفيون، إنكم لتأتوني بعظيم من القول، إذا كنتم تقرون بأن الله كان قبل القَبل وكان كلامه، فمن أين لكم الكلام: إن الكلام اللَّه، أو سوى الله، أو غير اللَّه، أو دون اللَّه؟
قال: فسكت الرجل وخرج.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
الأم: جماع الوفاء بالنذر والعهد ونقضه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأنزل اللَّه تعالى: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ) الآية.
(مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا) الآية.

(2/907)


فإن قال قائل: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أهل
الحديبية، ومن صالح من المشركين؟
قيل: كان صلحه لهم طاعة لله، إما عن أمر
الله - عز وجل - بما صنع نصا، وإما أن يكون اللَّه تبارك وتعالى جعل له أن يعقد لمن رأى كا رأى، ثم أنزل قضاءه عليه، فصاروا إلى قضاء اللَّه جل ثناؤه، ونسخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله بفعله، بأمر اللَّه، وكل كان طاعة لله في وقته.
فإن قال قائل، وهل لأحد أن يعقد عقداً منسوخاً ثم يفسخه؟
قيل له: ليس له أن يبتدئ عقداً منسوخاً، وإن كان ابتدأه فعليه أن ينقضه، كما ليس له أن يصلي إلى بيت المقدس، ثم يصلي إلى الكعبة؛ لأن قبلة بيت المقدس قد نسخت، ومن صلى إلى بيت المقدس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نسخها فهو مطيع لله - عز وجل -، كالطاعة له حين
صلى إلى الكعبة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
الأم: باب (ممر الجنب والمأثمرك على الأرض ومشيهما عليهما) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عثمان بن أبي سليمان.
أن مشركي قريش حين أتوا المدينة في فداء أسراهم، كانوا يبيتون في المسجد.
منهم جببر بن مطعم، قال جُبير: فكنت أسمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - " الحديث.

(2/908)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا بأس أن يبيت المشرك في كل مسجد إلا المسجد
الحرام، فإن اللَّه - عز وجل - يقول: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) الآية، فلا ينبغي لمشرك أن يدخل الحرم بحال، وإذا بات المشرك في المساجد غير المسجد الحرام، فكذلك المسلم، فإن ابن عمر يروي أنه كان يبيت في المسجد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعزب، ومساكين الصفة.
الأم (أيضاً) : مسأله: إعطاء الجزية على سكنى بلدٍ ودخوله:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)
الآية، قال: فسمعت بعض أهل العلم يقول: المسجد الحرام: الحَرَمُ.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وبلغتي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بنبغي لمسلم أن يؤدي الخراج، ولا لمشرك أن يدخل الحرم" الحديث، قال: وسمعت عدداً من أهل العلم بالمغازي، يروون أنه كان في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -
"لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم بعد عامهم هذا".
فإن سأل أحد ممن تؤخذ منه الجزية أن يعطيها، ويجري
عليه الحكم، على أن يترك يدخل الحرم بحال، فليس للإمام أن يقبل منه على
ذلك شيئاً، ولا أن يدع مشركاً يطأ الحرم بحال من الحالات، طبيباً كان، أو
صانعاً بنياناً، أو غيره، لتحريم اللَّه - عز وجل - دخول المشركين المسجد الحرام، وبعده تحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإن سأل من تؤخذ منه الجزية أن يعطيها، ويجري عليه الحكم، على أن يسكن الحجاز، لم يكن ذلك له، والحجاز (مكة، والمدينة، واليمامة ومخالفيها كلها) ؛ لأن تركهم بسكنى الحجاز منسوخ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -

(2/909)


استثنى على أهل خيبر حين عاملهم فقال:
"أقرُّكم ما أقرَّكم الله) " الحديث.
ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإجلائهم من الحجاز.
ولا يجوز صلح ذمي على أن يسكن الحجاز بحال.
الأم (أيضاً) : أين يكون اللعان؟ :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن كان إلزوج مسلماً، والزوجة مشركة، التَعَن
الزوج في المسجد، والزوجة في الكنيسة وحيث تعَظّم، وإن شاءت الزوجة
المشركة أن تحضر الزوج في المساجد كلها حضرته، إلا أنها لا تدخل المسجد
الحرام لقول اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
الأم: الحكم في الساحر والساحرة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذي أراد الله - عزَّ وجلَّ أن يقتلوا حتى يتوبوا، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة - أهل الأوثان من العرب وغيرهم الذين لا كتاب لهم،

(2/910)


فإن قال قائل: ما دلَّ على ذلك؟
قيل له: قال الله - عزَّ وجلَّ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فمن لم يزل على الشرك مقيماً، لم يحول عنه إلى
الإسلام، فالقتل على الرجال دون النساء منهم.
الأم (أيضاً) : الأصل فيمن تؤخذ الجزية منه، ومن لا تؤخذ
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - على رسوله فرض قتال المشركين - من أهل الكتاب - فقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) الآية.
ففرق اللَّه - عز وجل - كما شاء - لا معقب لحكمه -
بين قتال أهل الأوثان، ففرض أن يُقاتلوا حتى يُسلموا وقتال أهل الكتاب، ففرض أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية، أو أن يسلموا، وفرق اللَّه بين قتالهم.
أخبرنا الثقة يحيى بن حسان، عن محمد بن أبان، عن علقمة بن مرثد، عن
سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث سرية أو جيشاً أمَّرَ عليهم - أميراً -، قال:
"إذا لقيت عدواً من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ثلاث خلال - شك علقمة - ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم.
وكفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أجابوك

(2/911)


فاقبل منهم، وأخبرهم أنهم إن فعلوا، أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما عليهم، وإن اختاروا المقام في دارهم - فأعلمهم - أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله - عز وجل - كما يجري على المسلمين، وليس لهم في الفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن لم يجيبوك إلى الإسلام، فادعهم إلى إعطاء الجرية، فإن فعلوا فاقبل منهم ودعهم، فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وليست واحدة من الآيتين ناسخة للأخرى، ولا
واحد من الحديثين ناسخاً للآخر ولا مخالفاً له، ولكن أحد الحديثين والآيتين من الكلام الذي مخرجه عام يراد به الخاص، ومن الجمل الذي يدل عليه المفسر.
الأم (أيضاً) : من ترفع عنه الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) .
فكان بيناً في الآية - واللَّه تعالى أعلم - أن الذين فرض الله - عز وجل -
قتالهم حتى يعطوا الجزية، الذين قامت عليهم الحجة بالبلوغ، فتركوا دين اللَّه - عز وجل - وأقاموا على ما وجدوا عليه آباءهم من أهل الكتاب، وكان بيناً أن الذين أمر الله بقتالهم عليها الذين فيهم القتال، وهم الرجال البالغون.

(2/912)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل معنى كتاب الله - عز وجل -
فأخذ الجزية من المُحتَلِمِين دون من دونهم، ودون النساء.
الأم (أيضاً) : كتاب (الحكم في قتال المشركين ومسألة مال الحربى) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن كان من أهل الكتاب من المشركين المحاربين
قوتلوا حتى يُسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا أعطَوها لم
يكن للمسلمين قتلهم ولا إكراههم على غير دينهم، لقول اللَّه - عز وجل -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.
وإذا قوتل أهل الأوثان، وأهل الكتاب، قتلوا وسبيت ذراريهم، ومن لم يبلغ الحلم والمحيض منهم، ونسائهم البوالغ وغير البوالغ، ثم كانوا جميعاً فيئاً، يرفع منهم الخمس، ويقسم الأربعة الأخماس على من أوجف عليهم بالخيل والركاب.
الأم (أيضاً) : في الأمان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعلى الوالي إذا مات قبل أن يبين، أو قال وهو
حيّ: لم أؤمنهم أن يردهم إلى مأمنهم، وينبذ إليهم قال الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)
الآية، فحقن اللَّه دماء من لم يدن دين أهل الكتاب من المشركين بالإيمان لا غيره، وحقن دماء من دان دين أهل الكتاب بالإيمان، أو إعطاء الجزية عن يد وهم

(2/913)


صاغرون، والصغار: أن يجري عليهم الحكم - أي: حكم الإسلام - لا أعرف منهم خارجاً من هذا من الرجال.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار حتى
يسلموا أو يؤدوا الجزية.
الأم (أيضاً) : ما قتل أهل دار الحرب من المسلمين فأصابوا من أموالهم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال - عز وجل -: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله." الحديث.
يعني: بما أحدثوا بعد الإسلام؛ لأنهم يلزمهم لو كفروا بعد الإسلام القتل والحدود، ولا يلزمهم ما مضى قبله.
الأم (أيضاً) : الصَّغَار مع الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله - عز وجل -:
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية.
فلم يأذن اللَّه - عز وجل - في أن تؤخذ الجزية ممن أمر بأخذها منه
حتى يعطيها عن يدٍ صاغراً.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وسمعت عدداً من أهل العلم يقولون: الصَّغار: أن
يجري عليهم حكم الإسلام.

(2/914)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: وما أشبه ما قالوا بما قالوا لامتناعهم من الإسلام.
فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغِروا بما يجري عليهم منه.
الأم (أيضاً) : كم الجزية ":
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: قال الله تبارك وتعالى:
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) الآية.
وكان معقولاً أن الجرية شيء يؤخذ في أوقات، وكانت الجزية محتملة للقليل والكثير.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله - عزَّ وجلَّ معنى ما أراد، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزية أهل اليمين ديناراً في كل سنة، أو قيمته من
المعافري، وهي: الثياب.
وكذلك رُوي أنه أخذ من أهل أيلة، ومن نصارى مكة ديناراً عن كل
إنسان، وأخذ الجزية من أهل نجران فيها كسوة، ولا أدري ما غاية ما أخذ
منهم.
وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين ومن أهل الذمة من أهل
نجران، يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد كثر من دينار، وأخذها من
(أُكَيْدِر) ، ومن مجوس البحرين لا أدري كم غاية ما أخذ، ولم أعلم أحداً قط
حكى أنه: أخذ من أحد أقل من دينار.
أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر
ابن عبد العزيز، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن أنه على كل إنسان منكم ديناراً كل سنة أو قيمته من المعافري" الحديث.
يعني أهل الذمة منهم.

(2/915)


الأم (أيضاً) : الصلح على أموال أهل الذمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) فكان معقولاً في الآية، أن تكون الجزية غير جائزة - واللَّه تعالى أعلم - إلا معلوماً، ثم دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مثل معنى ما وصفت من أنها معلوم، فأما ما لم يعلم أقله ولا أكثره، ولا كيف أخد من أخَدهُ، من الولاة له، ولا من أخذت منه من أهل الجزية، فليس في معنى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا
نُوقف على حَدِّه.
الأم (أيضاً) : الحكم بين أهل الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -:
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية.
فكان الضغَار - واللَّه أعلم - أن يجري عليهم حكم
الإسلام، وأذن اللَّه بأخذ الجزية منهم، على أن قد علم شركهم به، واستحلالهم لمحارمه، فلا يكشفوا عن شيء مما استحلوا بينهم، ما لم يكن ضرراً على مسلم أو معاهد أو مستامن غيرهم. . ولا يجوز أن تكون دار الإسلام دار مقام لمن يمتنع من الحكم في حال، لما وصفت
من قول اللَّه - عز وجل -: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية.
الأم (أيضاً) : الخلاف فيمن تؤخذ منه الجزية ومن لا تؤخذ:
سبق ذكر هذه الفقرة في تفسير قول الله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فليرجع إليها هناك.

(2/916)


الأم (أيضاً) : الصلح على الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن قالوا نعطيكموها - أي: الجزية - ولا يجري علينا حكمكم، لم يلزمنا أن نقبلها منهم؛ لأن الله - عزَّ وجلَّ - قال:
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية.
فلم أسمع مخالفاً في أن الصَّغار، أن يعلو حكم الإسلام
على حكم الشرك، ويجري عليهم، ولنا أن نأخذ منهم متطوعين وعلى النظر
للإسلام وأهله، وإن لم يجرِ عليهم الحكم، كما يكون لنا ترك قتالهم.
ولو عرضوا علينا أن يعطونا الجزية، ويجري عليهم الحكم، فاختلفنا نحن وهم في الجزية، فقلنا: لا نقبل إلا كذا، وقالوا: لا نعطيكم إلا كذا، رأيت - والله تعالى أعلم - أن يلزمنا أن نقبل منهم ديناراً ديناراً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذه من نصراني بمكة مقهور، ومن
ذمة اليمن وهم مقهورون، ولم يلزمنا أن نأخذ منهم أقل منه - والله تعالى أعلم -؛ لأنا لم نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحداً من الأئمة أخذ منهم أقل منه.
الأم (أيضاً) : باب (دية أهل الذمة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية، فوجدت الكفار في حكم الله، ثم حكم رسوله في موضع
العبودية للمسلمين:
1 - صنفاً: متى قُدِرَ عليهم تعبدوا، وتؤخذ منهم أموالهم - بأمر الله
صدقة يطهرهم الله بها ويزكيهم -، لا يقبل منهم غير ذلك.

(2/917)


2 - صنفاً: يُصنع ذلك بهم إلا أن يعطوا الجزية: (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)
فإعطاء الجزية - يؤخذ من الكفار صَغاراً - إذا لزمهم، فهو صنف من
العبودية، فلا يجوز أن يكون من كان خَوَلاً للمسلمين في حال أو كان خولاً
لهم بكل حال، إلا أن يؤدي جزية فيكون كالعبد المُخارج في بعض حالاته كفؤاً للمسلمين.
الأم (أيضاً) باب (ما ملكه الناس من الصيد)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فحلال اللَّه تعالى لجميع خلقه، وحرامه عليهم
واحد، وكذلك هو في الخمر والخنزير وثمنهما محرمان على النصراني، كهو على المسلم.
فإن قال قائل: فلم لا تقول: إن ثمن الخمر والخنزير حلال لأهل الكتاب، وأنت لا تمنعهم من اتخاذه والتبايع به؟
قيل: قد أعلمنا اللَّه - عز وجل - أنهم لا يؤمنون به ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فكيف يجوز لأحد عَقَلَ عن اللَّه - عز وجل - أن يزعم: أنها لهم حلال، وقد أخبرنا اللَّه تعالى أنهم: لا يحرمون ما حرم اللَّه ورسوله؛ فإن قال قائل: فأنت تقرُّهم عليها؟
قلت: نعم، وعلى الشرك بالله؛ لأن اللَّه - عز وجل - أذن
لنا أن نقرهم على الشرك به، واستحلالهم شربها (أي: الخمر) وتركهم دين
الحق بأن نأخذ منهم الجزية، قوة لأهل دينه، وحجة الله تعالى عليهم قائمة،

(2/918)


لا مخرج لهم منها، ولا عذر لهم فيها حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ويحرِّموا ما حرّم الله ورسوله.
مختصر المزني: الوقف من كتاب (الإيلاء من الإملاء على مسائل ابن
القاسم، والإملاء على مسائل مالك) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء إذا حاكم
إلينا، وحُكمُ الله تعالى على العباد واحد.
قال المزني رحمه الله: هذا أشبه القولين به؛ لأن تأويل اللَّه - عز وجل - عنده: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية، أن تجري عليهم أحكام الإسلام.
مختصر المزني (أيضاً) : باب (ما جاء في حد الذميين) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا خيار له - أي: للحاكم إذا تحاكموا إلينا - إذا
جاؤوه في حدِّ اللَّه فعليه أن يقيمه لما وصفت من قول اللَّه - عز وجل -: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) .
قال المزني رحمه الله: هذا أولى قوليه به، كما سبق في الفقرة الماضية.
الرسالة: الحجة في تثبيت خبر الواحد
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: فَقَبِلَ عمر - رضي الله عنه - خبر عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في المجوس، فأخذ منهم - أي: الجزية - وهو يتلو القرآن (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) ويقرأ القرآن بقتال

(2/919)


الكافرين حتى يسلموا، وهو لا يعرف فيهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، وهم عنده من الكافرين غير أهل الكتاب، فقبل خبر عبد الرحمن في المجوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاتَّبعه.
اختلاف الحديث: باب (الخلاف فيمن تؤخذ منه الجزية، وفيمن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فاقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من المجوس، ورأيت المسلمين لم يختلفوا في أن تؤخذ منهم الجزية، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
ورُوي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأهل الكتاب تؤكل ذبائحهم، وتنكح نساؤهم، وفي هذا دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت له: إن المجوس ليسوا بأهل كتاب مشهور عند
العامة، باقٍ في أيديهم، فهل من حجة في أن ليسوا بأهل كتاب كالعرب؛ قال: لا، إلا ما وصفت من أن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم.
قلت: فكيف أنكرت أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - دلَّ على أن قول اللَّه: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) الآية، من دان دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان، وأن يكون إحلال نساء أهل الكتاب، إحلال لنساء بني إسرائيل من دون أهل الكتب سواهم، فيكونون مستوين في الجزية، مختلفين في النساء والذبائح، كما أمر اللَّه بقتال المشركين: (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) الآية.
وأمر بقتال أهل الكتاب: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) الآية.
فسوَّى بينهم في الشرك، وخالف بينهم في القتال على الشرك.
فقال: - أو قال بعض من حضره - ما في هذا ما أنكره عالم.

(2/920)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

قال الله عزَّ وجلَّ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
الرسالة: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعثه - أي: للنبي - صلى الله عليه وسلم -
والناس صنفان:
أحدهما: أهل كتاب، بذلوا من أحكامه، وكفروا بالله، فافتعلوا كلذباً
صاغوه بالسنتهم، فخلطوه بحقِّ الله الذي أنزل إليهم، فذكر تبارك وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من كفرهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
إلى قوله: (عَمَّا يُشْرِكُونَ) الآيتان.

(2/921)


قال الله عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
الأم: كتاب الجزية:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقضى أن أظهر دينه على الأديان فقال - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) .
وقد وصفنا بيان كيف يظهره على الدين كله في غير هذا الموضع.
الأم (أيضاً) : (إظهار دين النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأديان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) .
أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا
قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله" الحديث.

(2/922)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: لما أتي كسرى بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مزَّقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يمزق ملكه" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ووضعه في مسك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"يثبت ملكه" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ووعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فتح فارس والشام.
فأغزى أبو بكر - رضي الله عنه - الشام على ثقة من فتحها؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففتح بعضها.
وتم فتحها في زمان عمر - رضي الله عنه - وفتح العراق وفارس.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقد أظهر الله - عزَّ وجلَّ دينه الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الأديان؛ بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره بأن جماع الشرك دينان:
1 - دين أهل الكتاب
2 - ودين الأميين.
فقهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً، وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه - صلى الله عليه وسلم - وهذا ظهور الدِّين كله.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد يقال ليُظهِرن الله - عزَّ وجلَّ دينه على الأديان حتى لا يدان للهِ - عز وجل - إلا به، وذلك متى شاء الله تبارك وتعالى.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)

(2/923)


وقال تعالى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
الأم: كتاب (الزكاة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله - عزَّ وجلَّ -: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) الآيتان.
وقال عز ذكره: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأبان الله - عزَّ وجلَّ - في هاتين الآيتين فرض الزكاة؛ لأنه إنما عاقب على منع ما أوجب، وأبان أن في الذهب والفضة الزكاة.

(2/924)


وقال الشَّافِعِي رحمه الله: قول الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يعني: - واللَّه تعالى أعلم - في سبيله الذي فرض من الزكاة وغيرها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأما دفن المال فضرب من إحرازه، وإذا حل
إحرازه بشيء حل بالدفن وغيره، وقد جاءت السنة بما يدل على ذلك، ثم لا أعلم فيه مخالفاً، ثم الآثار.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن
عمر رضي الله عنهما قال: "كل مال يُودَّى زكاته فليس بكنز، وإن كان
مدفوناً، وكل مال لا يُودَّى زكاته فهو كنز، وإن لم يكن مدفوفاً" الحديث.
الأم (أيضاً) : باب (غلول الصدقة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) إلى قوله: (فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وسبيل الله - واللَّه أعلم -: ما فرض من الصدقة.
أخبرنا الربيع قال:

(2/925)


أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة قال: جامع بن أبي راشد.
وعبد الملك بن أعين، سمعا أبا وائل، يخبر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"ما من رجل لا يؤدَِّي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة شجاع أقرع، يفرُّ منه، وهو يتبعه حتى يطوِّقه في عنقه" الحديث.
ثم قرأ علينا: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والبيع إلى الصدر جائز، والصدر: يوم النفر من
(منى) .
فإن قال وهو ببلد بغير مكة، إلى مخرج الحاج، أو إلى أن يرجع الحاج.
فالبيع فاسد؛ لأن هذا غير معلوم، فلا يجوز أن يكون الأجل إلى فعل يحدثه
الآدميون؛ لأنهم قد يعجلون السير ويؤخرونه، للعلة التي تحدث، ولا إلى ثمرة الشجرة وحدادها؛ لأنه يختلف في الشهور التي جعلها اللَّه علماً فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) الآية.
فإنما يكون الجداد بعد الخريف، وقد أدركت الخريف يقع مختلفاً في شهورنا التي وقت الله لنا، يقع في عام شهراً ثم يعود في شهر بعده، فلا يكون الوقت فيما يخالف شهورنا التي وقت لنا ربنا - عز وجل -.

(2/926)


ولا بما يحدثه الآدميون، ولا يكون إلى ما لا عمل للعباد في تقديمه ولا تأخيره، مما جعل اللَّه - عز وجل - وقتاً
الرسالة: باب (العلم)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقلت له - أي: للمحاور -: فرض اللَّه الجهاد في
كتابه، وعلى لسان نبيه - في عدد من الآيات منها: قال اللَّه تعالى:
(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ثم ذكر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله " الحديث.
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في الصيام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكانت الأعاجم، تعد الشهور بالأيام، لا بالأهِلَّة
وتذهب إلى أن الحساب - إذا عدت الشهور بالأهِلَّة - يختلف، فأبان اللَّه تعالى: أن الأهلة هي: المواقيت للناس والحج، وذكر الشهور، فقال: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ) الآية.
فدل على أن الشهور بالأهلة، إذ جعلها المواقيت لا ما ذهبت إليه الأعاجم من العدد بغير الأهلة.

(2/927)


ثم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، على ما أنزل الله - عزَّ وجلَّ، وبين أن الشهر: تسع وعشرون، يعني: أن الشهر قد يكون تسعاً وعشرين، وذلك أنه قد يكونون يعلمون: أن الشهر يكون ثلاثين، فأعلمهم أنه قد يكون تسعاً وعشرين وأعلمهم، أن ذلك للأهلة.
أحكام القرآن (أيضاً) : ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في آيات متفرقة سوى ما مضى:
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الزمان قد استدار كهيئتة - يوم خلق الله السماوات والأرض - السنة: اثنا عشر شهراً، منها أربع حرم: ثلاث متواليات
(ذو القعدة، ذو الحجة، ومحرم) ، ورجب: شهر مضر، الذي بين جمادى وشعبان.
أحكام القرآن (أيضاً) : فصل (فيمن لا يجب عليه الجهاد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فرض اللَّه الجهاد في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أكَّد النفير من الجهاد، فقال:
(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) الآية.
ثم ذكر حديث أبي هريرة: "لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله.." الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
أحكام القرآن: ما يؤثر عنه - الشَّافِعِي - في آيات متفرقة، سوى ما مضى:
أخبرنا أبو سفيان بن أبي عمرو قال: حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع

(2/928)


أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أكره أن يقال للمُحرّم: صفر؛ ولكن يقال له
المحرم.
وإنما كرهت أن يقال للمحرم: صفر؛ من قِبَل أن أهل الجاهلية كانوا
يعدون، فيقولون صَفَران، للمحرم وصفر، وينسؤون، فيحجون عاماً في الشهر وعاماً في غيره، ويقولون إن أخطانا موضع المحرم في عام، أصبناه في غيره، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلا شهر يُنسأ - أي بعد بيان اللَّه ورسوله -
وسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المُحَرَّم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولما مضت لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مدة من هجرته، أنعم الله تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون الله قوة بالعدد لم تكن قبلها، ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضاً - ثم ذكر عدة آيات منها -:
وقال عزَّ وجلَّ: (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) إلى: (قَدِيرٌ) الآيتان.

(2/929)


الأم (أيضاً) : الإقرار بالشيء غير الموصوف:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا قال الرجل: لفلان على مال، أو عندي، أو في
يدي، أو قد استهلكت مالاً عظيماً، أو قال عظيماً جداً، أو عظيماً عظيماً، فكل هذا سواء، ويسأل ما أراد، فإن قال: أردت ديناراً، أو درهماً، أو أقل من درهم مما يقع عليه اسم مال، عَرَضٍ أو غيره، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك إن قال مالاً صغيراً، أو صغيراً جداً، أو صغيراً صغيراً، من قبل أن جميع ما في الدنيا من متاعها يقع عليه قليل، قال الله تبارك وتعالى:
(فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) الآية.
الأم (أيضاً) : كيف تفضل فرض الجهاد؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأبان اللَّه - عز وجل - في قوله في النفير حين أمرنا بالنفير:
(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأبان - اللَّه تعالى -، أن لو تخلَّفوا معاً أثموا معاً
بالتخلف، بقوله - عز وجل -: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) الآية.
يعني - والله تعالى أعلم -: إلا إن تركتم النفير كلكم عذبتُكم، قال: ففرض الجهاد على ما وصفتُ يخرج المتخلفين من المأثم القائم بالكفاية فيه، ويأثمون معاً إذا تخلفوا معاً.

(2/930)


الرسالة: باب (العلم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه جل ثناؤه:
(مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ)
إلى: (قَدِيرٌ) الآيتان.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فاحتملت الآيات: أن يكون الجهاد كله، والنفير
خاصة منه، على كل مطيق له، لا يسع أحداً منهم التخلف عنه، كما كانت الصلوات والحج والزكاة، فلم يخرج أحد وجب عليه فرض منها، من أن يؤدي غيره الفرض عن نفسه، لأن عمل أحد في هذا لا يكتب لغيره.
واحتملت: أن يكون معنى فرضها غير معنى فرض الصلوات، وذلك أن
يكون قُصِدَ بالفرض فيها فصد الكفاية، فيكون من قام بالكفاية في جهاد مَن جُوهِد من المشركين مُدركِاً تأدية الفرض، ونافلة الفضل، ومُخرجِاً من تخلَّف من الإثم.
قال الشَّافِعِي رحمه للُه: وهكذا كل ما كان الفرض فيه مقصوداً به قصد الكفاية فيما ينوب، فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفاية، خرج من ئخلف عنه من المأثم.
ولو ضيَّعُوه معاً خِفْتُ أن لا يخرج واحد منهم مطيق فيه من المأثم، بل لا
أشك - إن شاء الله - لقوله: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) الآية.
قال: فما معناها؟
قلت: الدلالة عليها: أن تخلفهم عن النفير كافة لا يسعهم.
ونفير بعضهم - إذا كانت في نفيره كفاية - يخرج من تخلف من المأثم
- إن شاء اللَّه -؛ لأنه إذا نفر بعضهم وفع عليهم اسم (النفير) .

(2/931)


قال الله عزَّ وجلَّ: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
وقال عزَّ وجلَّ: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) الآية.
ثم ذكر قوماً تخلَّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن كان
يظهر الإسلام، فقال: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ)
فأبان في هذه الآية أن عليهم الجهاد فيما قرب وبعد، بعد إبانته ذلك في غير مكان.
الأم (أيضاً) : من لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلما فرض الله تعالى الجهاد دلَّ في كتابه، وعلى
لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يفرض الخروج إلى الجهاد على مملوك أو أنثى بالغ، ولا حر

(2/932)


لم يبلغ، لقول اللَّه - عز وجل -: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا) الآية، وقرأ الربيع الآية، فكان الله - عزَّ وجلَّ حكم أن لا مال للمملوك، ولم يكن مجاهد إلا ويكون عليه للجهاد مؤنة من المال، ولم يكن للمملوك مال.
الأم (أيضاً) : كيف تفضل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وأبان اللَّه - عز وجل في قوله في النفير حين أمرنا بالنفير:
(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) الآية، وقال عزَّ وجلَّ: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولم يغزُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزاة علمتها إلا تخلف عنه فيها بشر، فغزا بدراً وتخلف عنه رجال معروفون، وكذلك تخلف عنه عام الفتح وغيره من غزواته - صلى الله عليه وسلم -، وقال في غزوة تبوك، وفي تجهزه للجمع للروم:
"ليخرج من كل رجلين رجل، فيخلف الباقي الغازي، في أهله وماله" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيوشاً وسرايا، تخلف عنها بنفسه مع حرصه - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد على ما ذكرت.

(2/933)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
إلى قوله: (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)
الأم: من ليس للإمام أن يغزو به بحال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم غزا - أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- غزوة تبوك، فشهدها معه قوم، منهم نفروا به ليلة العقبة ليقتلوه؛ فوقاه اللَّه - عز وجل - شرهم، وتخلف آخرون منهم فيمن بحضرته ثم أنزل الله - عزَّ وجلَّ في غزاة تبوك أو منصرفه عنها - ولم يكن في تبوك قتال - من أخبارهم، فقال: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأظهر اللَّه - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أسرارهم، وخبر السمَّاعين لهم، وابتغاءهم أن يفتنوا من معه بالكذب، والإرجاف، والتخذيل
لهم، فأخبره أنه - سبحانه وتعالى - كره انبعاثهم فثبطهم إذا كانوا على هذه

(2/934)


النية، كان فيها ما دل على أن الله - عزَّ وجلَّ أمر أن يمنع من عُرفِ بما عرفوا به من أن يغزو مع المسلمين؛ لأنه ضرر عليهم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
الأم: كتاب (قَسْم الصدقات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الآية.
فأحكم اللَّه فرض الصدقات في كتابه، ثم أكدها فقال:
(فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وليس لأحد أن يفسئمها على غير ما قسمها الله - عز وجل - عليه، ذلك ما كانت الأصناف موجودة؛ لأنه إنما يُعطَى من وُجد.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا أخذت الصدقة من قوم قسمت على من
معهم في دارهم، من أهل هذه السُّهمان، ولم تخرج من جيرانهم إلى أحد حتى
لا يبقى منهم أحد يستحقها.

(2/935)


الأم (أيضاً) باب (جماع قسم المال من الوالي وربِّ المال)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وجميع ما أخذ من مسلم، من صدقة فطر، وخمس
ركاز، وزكاة معدن، وصدقة ماشية، وزكاة مال، وعشر زرع، وأي أصناف الصدقات أخذ من مسلم، فقَسمُه واحد على الآية التي في برآءة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية.
لا يختلف، وسواء قليله وكثيره على ما وصفتُ.
الأم (أيضاً) : قَسم الصدقات الثاني:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: واسم ما أخذ من الزكاة صدقة، وقد سماها اللَّه
تعالى في القسم صدقة، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية.
نقول: إذا جاء المصدق، يعني: الذي يأخذ الماشية، وتقول: إذا جاء الساعي، وإذا جاء العامل.
قال الشَّافِعِي رحمه الة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"ليس فيما دون خمس ذودٍ صدقةْ، ولا فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، ولا فيما دون خمس أواق من الوَرِق صدق" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والأغلب على أفواه العامة، أن في التمر العشر.
وفي الماشية الصدقة، وفي الورِق الزكاة وقد سمى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هذا كله صدقة.
والعرب تقول له: صدقة وزكاة ومعناهما عندهم معنى واحد.

(2/936)


فما أخذ من مسلم من صدقة ماله. . . - مهما كان نوعه ومسماه - مما
وجب عليه في ماله، في كتاب، أو سنة، أو أمر أجمع عليه عوام المسلمين فمعناه واحد أنه زكاة، والزكاة صدقة، وقسمه واحد لا يختلف كما قَسَمَه الله.
الصدقات: ما فرض اللَّه - عز وجل - على المسلمين فهي طهور.
الأم (أيضاً) : باب (الولاء والحِلف)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)
فلم يختلف المسلمون أنها لا تكون إلا لمن سمى اللَّه، وأن في قول الله
تبارك وتعالى معنيين:
أحدهما: أنها لمن سُمِّيت له.
والآخر: أنها لا تكون لغيرهم بحال.
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إنما الولاء لمن أعتق" الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
الأم: المرتد عن الإسلام
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي قول الله آمنوا، ثم كفروا، ثم أظهروا الرجوع
عنه، قال الله تبارك اسمه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ)

(2/937)


فحقن بما أظهروا من الحَلِفِ - ما قالوا كلمة
الكفر - دماءهم بما أظهروا.
الأم (أيضاً) : باب (ما يحرم به الدم من الإسلام) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه جل ثناؤه: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ)
فأخبر بكفرهم، وجحدهم
الكفر، وكذب سرائرهم لمجحدهم، وذكر كفرهم في غير آية، وسماهم بالنفاق إذ أظهروا الإيمان، وكانوا على غيره.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم أظهره - أي: الإيمان - قوم من المناففين، فأخبر
الله نبيه عنهم أن ما يخفون خلاف ما يعلنون، فقال: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) الآية، مع ما ذكر اللَّه سبحانه به المنافقين، فلم يجعل لنبيه قتلهم إذا أظهروا الإيمان، ولم يمنعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناكحة المسلمين ولا موارثتهم.
الأم (أيضاً) : باب (الديات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: روى عطاء، ومكحول، وعمرو بن شعيب، وعدد
من الحجازين، أن عمر - رضي الله عنه - فرض الدية اثني عشر ألف درهم، ولم أعلم بالحجاز

(2/938)


أحداً خالف فيه عن الحجازين، ولا عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وممن قال الدية اثنا عشر ألف درهم ابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين
ولا أعلم بالحجاز أحداً خالف في ذلك قديماً ولا حديثاً، ولقد روى عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى بالدية اثني عشر ألف درهم، وزعم عكرمة أنه نزل فيه: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فزعم محمد بن الحسن عن عمر حديثين مختلفين، قال في أحدهما: فرض الدية عشرة آلاف درهم، وقال في الآخر: اثني عشر ألف درهم. ..
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
الأم: المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين دلالة على أمور منها:
1 - لا يقتل من أظهر التوبة، من كفر بعد إيمان.
2 - ومنها أنه حقن دماءهم وقد رجعوا إلى غير يهودية، ولا نصرانية، ولا
مجوسية، ولا دين يُظهرون، إنَّما أظهروا الإسلام، وأسرُّوا الكفر.

(2/939)


3 - فأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر على أحكام المسلمين:
أ - فناكحوا المسلمين ووارثوهم.
ب - وأسهم لمن شهد الحرب منهم.
ج - وتركوا في مساجد المسلمين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا رَجعَ عن الإيمان أبداً أشد ولا أبين كفراً ممن
أخبر الله - عزَّ وجلَّ عن كفره بعد إيمانه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال جل ثناؤه: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
إلى: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم ذكر الله تعالى قوماً تخلَّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن كان يظهر الإسلام. . . قال الله عزَّ وجلَّ:
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ) الآية.

(2/940)


قرأ الربيع الآية، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) .
وقال: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
مع ما ذكر به فرض الجهاد، وأوجب على المتخلف عنه.
الأم (أيضاً) : من ليس للإمام أن يغزو به بحال.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فاظهر الله - عزَّ وجلَّ لرسوله أسرارهم وخبر السمَّاعين لهم، وابتغاءهم أن يفتنوا من معه بالكذب والإرجاف والتنزيل لهم فأخبره أنه كره انبعاثهم - أي: المنافقين - فثبطهم إذ كانوا على هذه النية، كان فيها ما دل على أن الله - عز وجل - أمر أن يمنع من عُرف بما عُرفوا به من أن يغزو مع المسلمين؛ لأنه ضرر عليهم، ثم زاد في تكيد بيان ذلك بقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ) قرأ الربيع إلى: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) الآيات - وبسط الكلام في الموضوع -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
الأم: المرتد عن الإسلام:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: فإن اللَّه - عز وجل - قال:
(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) إلى قوله: (فَاسِقُونَ) الآية، فإن صلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

(2/941)


مخالفة صلاة المسلمين سواه، لأنا نرجو أن لا يصلي على أحد إلا صلى الله
عليه ورحمه.
فإن قال قائل: ما دل على الفرق بين صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ نهي عنهم.
وصلاة المسلمين غيره، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى عن الصلاة عليهم بنهي الله له.
ولم ينه اللَّه - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عنها، ولا عن مواريثهم.
فإن قال قائل: فإن ترك قتلهم جعل لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فذلك يدخل عليه فيما سواه من الأحكام، فيقال: فيمن ترك عليه الصلاة والسلام قتله، أو قَتْلُه جُعل هذا له خاصة، وليس هذا لأحد، إلا بأن تأتي دلالة على أن أمراً جُعِلَ خاصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا ما صُنع عام على الناس الاقتداء به في مثله، إلا ما بين هو - صلى الله عليه وسلم - أنه خاص، أو كانت عليه دلالة خبر.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد عاشروا - أي: المنافقين - أبا بكر وعمر
وعثمان رضي اللَّه عنهم أئمة الهدى، وهم يعرفون بعضهم، فلم يقتلوا منهم
أحداً ولم يمنعوه حكم الإسلام في الظاهر، إذ كانوا يظهرون الإسلام وكان عمر - رضي الله عنه - يمر بحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - إذا مات ميت، فإن أشار عليه أن اجلس، جلس واستدل على أنه منافق، ولم يمنع من الصلاة عليه مسلماً، وإنَّما يجلس عمر - رضي الله عنه - عن الصلاة عليه، أن الجلوس عن الصلاة عليه مباح له في غير المنافق، إذا كان لهم من يصلي عليهم سواه.

(2/942)


الأم (أيضاً) : تكلف الحجة على قالل القول الأول، وعلى من قال أقبل إظهار التوبة إذا كان رجع إلى دين يظهره ولا أقبل ذلك إذا رجع إلى دين لا يظهره:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومنهم - أي: من المنافقين - من عَرَّف - اللَّه - عز وجل - النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه.
أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه، قال: "شهدت من نفاق عبد الله بن أبي، ثلاثة مجالس" الحديث.
فإن قال قائل: فقد قال الله - عزَّ وجلَّ لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله: (وَهُمْ كَافِرُونَ) الآيتان.
قيل فهذا يبين ما قلنا، وخلاف ما قال من خالفنا، فأما أمره أن لا
يصلي عليهم، فإن صلاته بأبي هو وأمي - مخالفة صلاة غيره، وأرجو أن
يكون قضى إذ أمَرَهُ بترك الصلاة على المنافقين أن لا يصلي على أحد إلا غفر
له، وقضى أن لا يغفر للمقيم على شرك، فنهاه عن الصلاة على من لا يُغفَر له.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)

(2/943)


إلى: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
الأم: من له عذر بالضعف والمرض والزمانه في ترك الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله - عزَّ وجلَّ في الجهاد:
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) الآية.
وقال: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقيل: الأعرج المقعد، والأغلب أنه الأعرج في
الرِّجْل الواحدة، وقيل نزلت في أن لا حرج أن لا يجاهدوا.
وهو أشبه ما قالوا، وغير محتمل غيره، وهم داخلون في حد الضعفاء.
وغيره خارجين من فرض الحج ولا الصلاة، ولا الصوم، ولا الحدود، ولا
يحتمل - واللَّه تعالى أعلم - أن يكون أريد بهذه الآية، إلا وضع الحرج في الجهاد دون غيره من الفرائض.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: الغزو غزوان:

(2/944)


1 - غزو يبعد عن المغازي: وهو ما بلغ مسيرة ليلتين فاصدتين، حيث
تقصر الصلاة، وتقدم مواقيت الحج من مكة.
2 - وغزو يقرب: وهو ما كان دون ليلتين مما لا تقصر فيه الصلاة، وما هو
أقرب من - أقرب - المواقيت إلى مكة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا كان الغزو البعيد، لم يلزم القوي السالم البدن كله، إذا لم يجد مركباً وسلاحاً ونففة، ويدع لمن تلزمه نفقته، قُوته، إذن فَدْر ما يرى أنه يلبث - في غزوة -، وإن وجد بعض هذا دون بعض فهو ممن لا يجد ما ينفق.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: نزل: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا) الآية.
مختصر المزني: باب (من له عذر بالضعف والضرر والزَّمَانة والعذر بترك
الجهاد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: بعد أن ذكر ما ورد في الأم الفقرة السابقة.
قال: ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدِّين، وبإذن أبويه؛ لشفقتهما ورقتهما
عليه، إذا كانا مسلمين، وإن كانا على غير دينه، فإنما يجاهد أهل دينهما، فلا طاعة لهما عليه، قد جاهد ابن عتبة بن ربيعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولست أشك في كراهية أبيه لجهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاهد عبد الله بن عبد اللَّه بن أبي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبوه متخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ب (أحد) يخذِّل من أطاعه.
قال الشَّافِعِي رحمه لله: ومن غزا ممن له عذر، أو حدث له بعد الخروج عذر، كان عليه الرجوع ما لم يلتق الزحفان، أو يكون في موضع يُخاف إن رجع أن يتلف.

(2/945)


قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ)
الأم: من قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت إلا بإذني:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإذا حلف أن لا يكلم رجلاً فأرسل إليه رسولاً، أو
كتب إليه كتاباً فالورع أن يحنث، ولا يبين لي أن يحنث؛ لأن الرسول والكتاب غير الكلام، وإن كان يكون كلاماً في حال، ومن حنَّثهُ ذهب إلى أن اللَّه - عز وجل - قال:
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) .
وقال: إن اللَّه - عز وجل - يقول في المنافقين:
(قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) الآية.
وإنما نبأهم بأخبارهم بالوحي الذي ينزل به جبريل عليه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي اللَّه.
ومن قال: لا يحنث، قال: إن كلام الآدميين لا يشبه كلام اللَّه تعالى، كلام
الآدميين بالمواجهة؛ ألا ترى لو هجر رجل رجلاً كانت الهجرة محرمة عليه فوق ثلاث، فكتب إليه، أو أرسل إليه - وهو يقدر على كلامه - لم يخرجه هذا من هجرته التي يأثم بها.

(2/946)


قال الله عزَّ وجلَّ: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ)
الأم 4 كتاب (إبطال الاستحسان)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى في المناففين: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) الآية.
فأمر بقبول ما أظهروا، ولم يجعل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن
يحكم عليهم خلاف حكم الإيمان، وكذلك حَكمَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - على من بعدهم بحكم الإيمان، وهم يُعرفون، أو بعضهم بأعيانهم، منهم من تقوم عليه البينة بقول الكفر، ومنهم من عليه الدلالة في أفعاله، فإذا أظهروا التوبة منه، والقول بالإيمان، حقنت دماؤهم وجمعهم ذكر الإسلام.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) الآية، مع ما ذكر به المناففين، فلم يجعل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - قتلهم، إذا أظهروا الإيمان، ولم يمنعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناكحة المسلمين ولا موارثتهم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)
أحكام القرآن: الإذن بالهجرة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وذكر اللَّه - عز وجل - أهل الهجرة، فقال: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) الآية.

(2/947)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم أذن اللَّه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة منها، فهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ولم يحرم في هذا، على من بقي بمكة، المقام بها - وهي دار
شرك - وإن قلُّوا، بأن يفتنوا، ولم يأذن لهم بالجهاد.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)
الأم: كتاب: (الزكاة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
وإنما أمَره أن يأخذ منهم ما أوجب عليهم، وذكر
الله تبارك وتعالى الزكاة في غير موضع من كتابه سوى ما وصفت منها، فأبان الله - عز وجل - فرض الزكاة في كتابه، ثم أبان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - في أي المال الزكاة، فأبان في المال الذي فيه الزكاة أن منه ما تسقط عنه الزكاة، ومنه ما تثبت عليه، وأن
من الأموال ما لا زكاة فيه.
الأم (أيضاً) باب (الزكاة في أموال اليتامى) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي تول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) إن كل مالك تام الملك من حر له مال فيه زكاة، سواء في أن
عليه فرض الزكاة، بالغاً كان أو صحيحاً أو معتوهاً أو صبياً؛ لأن كلاً مالك ما

(2/948)


يملك صاحبه، وكذلك يجب في ملكه ما يجب في ملك صاحبه، وكان مستغنياً بما وصفت، من أن على الصبي والمعتوه الزكاة.
الأم (أيضاً) : كتاب (ما يقول المصدق إذا أخذ الصدقة لمن يأخذها منه)
أخبرنا الربيع رحمه اللَّه قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) الآية.
والصلاة عليهم الدعاء لهم عند أخذ الصدقة منهم.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فحق على الوالي إذا أخذ صدقة امرئ، أن يدعو
له، وأحبّ إليّ أن يقول: (آجرك اللَّه فيما أعطيت، وجعلها لك طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت) ، وما دعا له به أجزأه إن شاء اللَّه.
الأم (أيضاً) : باب (جماع فرض الزكاة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
ففرض اللَّه - عز وجل - على من له مال تجب فيه الزكاة، أن
يؤدي الزكاة إلى من جعلت له، وفرض على مَن وَلِيَ الأمر أن يؤديها إلى
الوالي إذا لم يؤدها، وعلى الوالي إذا أداها أن لا يأخذها منه؛ لأنه سماها زكاة
واحدة، لا زكاتين، وفرض الزكاة مما أحكم اللَّه - عز وجل -، وفرضه في كتابه، ثم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وبين في أي المال الزكاة، وفي أي المال تسقط، وكم من الوقت

(2/949)


الذي إذا بلغه حلت فيه الزكاة، لماذا لم يبلغه لم تكن فيه زكاة، ومواقيت الزكاة، وما قدرها، فمنها خمس، ومنها عشر، ومنها نصف العشر، ومنها ربع العشر، ومنها بعدد يختلف.
الأم (أيضاً) : قسم الصدقات الثاني:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله - عزَّ وجلَّ لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
ففي هذه الآية دلالة على ما وصفت، من أن ليس لأهل الأموال منع ما جعل الله - عزَّ وجلَّ عليهم، ولا لمن وليهم ترك ذلك لهم، ولا عليهم.
أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، قال: لم يبلغنا أن أبا بكر وعمر
رضي اللَّه عنهما أخذا الصدقة مُثناة، ولكن كانا يبعثان عليها في الخصب
والجدب، والسِّمن والعجف، ولا يُضمنانها أهلها، ولا يؤخرانها عن كل عام؛ لأن أخذها في كل عام سُنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولم نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرها عامًّا لا يأخذها فيه.
وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:
"لو مئعوئي عَناقا مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لقاتلتهم عليها، لا تفرقوا بين ما جمع الله" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: هذا إنما هو فيما أخذ من المسلمين خاصة؛ لأن
الزكاة والطهور إنما هو للمسلمين، والدعاء بالأجر والبركة، وإذا أخذ - أي:

(2/950)


الوالي - صدقة مسلم دعا له بالأجر والبركة كما قال اللَّه تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)
أي ادع لهم، فما أخذ من مسلم فهو زكاة، والزكاة الصدقة، والصدقة
زكاة وطهور، أمرهما ومعناهما واحد.
الأم (أيضاً) : باب (صدقة الثمر) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قول اللَّه - عز وجل -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)
يدل على أنه إذا كان في المال صدقة، والشرط من الصدقة، فإنما يؤخذ منه لا من غيره، فبهذا أقول، وبهذا اخترت القول الأول من أن البيع لازم فيما لا صدقة فيه، وغير لازم فيما فيه الصدقة.
الأم (أيضاً) : كراء الأرض البيضاء
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن الله جل ذكره خاطب المؤمنين بأن قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)
وخاطبهم بأن قال: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)
فلما كان الزرع مالاً من مال المسلم، والحصاد حصاد مسلم، تجب فيه الزكاة، وجب عليه ما كان لا يملك رقبة الأرض.
الأم (أيضاً) : قَسم الفيء:
أخبرنا الربيع قال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أصل قَسم ما يقوم به الولاة من جُمَلِ المال ثلاثة
وجوه:
أحدها: ما جعله اللَّه تبارك وتعالى طهوراً لأهل دينه، قال اللَّه - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -

(2/951)


(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
فكل ما أوجب اللَّه - عز وجل - على مسلم في ماله بلا جناية جناها هو، ولا غيره ممن يعقل عنه، ولا شيء لزمه من كفارة.
ولا شيء ألزمه نفسه لأحدٍ، ولا نفقة لزمته لوالد أو ولد أو مملوك أو زوجة، أو ما كان في معنى هذا فهو صدقة، طهور له، وذلك مثل صدقة الأموال كلها عينيها، وحوليِّها، وماشيتها، وما وجب في مال مسلم من زكاة، أو وجه من وجوه الصدقة في كتاب، أو سنة، أو أثر أجمع عليه المسلمون وقَسم هذا كله واحد لا يختلف في كتاب اللَّه عز ذكره.
الأم (أيضاً) : سن تفريق القسم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفلت - أي: للمحاور - وقد قال اللَّه تعالى:
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"فيما سُقيَ بالسماء العشر" الحديث.
فلم يُخَصَّ مالٌ دون مالٍ: في كتاب الله - عزَّ وجلَّ، ولا
في هذا الحديث.
الأم (أيضاً) : كتاب (قتال أهل البغي، وأهل الردة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قاتل أهل الامتناع بالصدقة، وقتلوا، ثم
قهروا، فلم يَقُدْ منهم أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلا هذين متأول.

(2/952)


1 - أما أهل الامتناع فقالوا: قد فرض الله علينا: أن نؤديها إلى رسوله
كأنهم ذهبوا إلى قول اللَّه - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)
وقالوا: لا نعلمه يجب علينا أن نؤديها إلى غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2 - وأما أهل البغي فشهدوا على من بغوا عليه بالضلال، ورأوا أن جهاده
حق، فلم يكن على واحد من الفريقين - أهل الامتناع وأهل البغي - عند
تقضى الحرب قصاص عندنا - واللَّه تعالى أعلم -.
الأم (أيضاً) : (ما جاء في أمر النكاح) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويحتمل أن يكون الأمر بالنكاح حتماً، وفي كل
الحتم من اللَّه الرشد، فيجتمع الحتم والرشد.
وقال بعض أهل العلم: الأمر كله على الإباحة والدلالة على الرشد، حتى
توجد الدلالة من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع على أنه - إنما - أريد بالأمر الحتم، فيكون فرضاً لا يحل تركه، كقول الله عزَّ وجلَّ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)
وأشباه هذا في كتاب اللَّه كثير.
الأم (أيضاً) : باب (الزكاة) :
قال الربيع رحمه اللَّه:

(2/953)


آخر قول الشَّافِعِي رحمه الله: إذا كان في يديه ألف، وعليه ألف، فعليه
الزكاة.
قال الربيع: من قِبَل أن الذي في يديه إن تلف كان منه، وإن شاء وهبها.
وإن شاء تصدق بها، فلما كانت في جميع أحكامها مالاً من ماله، وقد قال الله - عز وجل - (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية، كانت فيها الزكاة.
الأم (أيضاً) : باب (ما جاء في الصدقات) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك بن أنس، عن عمرو بن يحيى المازني.
عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة" الحديث، فأخذنا نحن وأنتم بهذا، وخالفنا فيه بعض الناس فقال: قال اللَّه تبارك وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) الآية.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"فيما سقت السماء العشر" الحديث.
لم يخصص اللَّه - عز وجل - مالاً دون مال، ولم يخصص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مالاً دون مال، فهذا الحديث يوافق كتاب الله، والقياس عليه.
وقال - أي صاحب هذا الرأي -: لا يكون مال فيه صدقة، وآخر لا
صدقة فيه، وكل ما أخرجت الأرض من شيء وإن حزمة - من - بقل ففيه
العشر، فكانت حجتنا عليه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن اللَّه معنى ما أراد، إذ

(2/954)


أبان ما يؤخذ منه من الأموال دون ما لم يرد، و - أن - الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"فيما سقت السماء" جملة، والمفسر يدل على الجملة.
الرسالة: في الزكاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
فكان مخرج الآية عامًّا على الأموال.
وكان يحتمل أن ثكون على بعض الأموال دون بعض، فدلت السنة على
أن الزكاة في بعض الأموال دون بعض.
فلما كان المال أصنافاً: منه الماشية، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإبل والغنم، وأمر - فيما بلغنا - بالأخذ من البقر خاصة، دون الماشية سواها، ثم أخذ منها بعدد مختلف، كما قضى اللَّه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكان للناس ماشية من خيل وحُمُر
وبغال وغيرها، فلما لم يأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها شيئاً، وسن أن ليس في الخيل صدقة، استدللنا على أن الصدقة فيما أخذ منه، وأمر بالأخذ منه دون غيره.
وكان للناس زرع وغراس، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النخل والعنب الزكاة بخرصٍ، غيرُ مختلف ما أخذ منهما، وأخذ منهما معاً العُشر إذا سقيا بسماء أو عين، ونصف العشر إذا سقيا بغرْبٍ وقد أخذ بعض أهل العلم من الزيتون قياساً على النخل والعنب، ولم يزل للناس غِراس غير النخل والعنب والزيتون

(2/955)


كثير، من الجوز واللوز والتين وغيره، فلما لم يأخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه ثميئاً، ولم يأمر بالأخذ منه، استدللنا على أن فرض الله الصدقة فيما كان من غراس في بعض الغراس دون بعض.
وزرع الناس الحنطة والشعير والذرة، وأصنافاً سواها، فحفظنا
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأخذ من الحنطة والشعير والذرة وأخذ من قَبلَنا من الدُّخن، والسُّلت، والعَلَس، والأرز وكل ما ئبَّته الناس وجعلوه قوتاً، خبزاً، وعصيدة، وسويقاً، وأذماً مثل: الحِفص والقطاني فهي تصلح خبزاً، وسويقاً، وأدْماً، اتباعاً لمن مضى، وقياساً على ما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ منه الصدقة.
وكان في معنى ما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بأن الناس نبَّتوه ليقتاتوه.
وكان للناس نبات غيره، فلم يأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
علمناه، ولم يكن في معنى ما أخذ منه، وذلك مثل: الثُّفَّاء، والأسبيوش.
والكسبرة، وحب العصفر وما أشبهه، فلم تكن فيه زكاة، فدل ذلك على
أن الزكاة في بعض الزرع دون بعض.
وفرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوَرِقِ صدقة.
وأخذ المسلمون في الذهب بعده صدقة، إما بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغنا، وإما قياساً على أن الذهب والورق نقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه أثماناً على ما تبايعوا به أو أجازوه على ما تبايعوا به في البلدان قبل الإسلام وبعده، وللناس تِبرٌ غيره.
من نحاس وحديد ورصاص، فلما لم بأخذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد بعده زكاة،

(2/956)


تركناه، اتباعاً بتركه، وأنه لا يجوز أن يقاس بالذهب والوَرِقِ، اللذين هما الثمَن عامًّا في البلدان على غيرهما، لأنه في غير معناهما، لا زكاة فيه، ويصلح أن يُشترَى بالذهب والوَرِقِ غيرهما من التبر إلى أجل معلوم وبوزن معلوم، وكان الياقوت والزبرجد أكثر ثمناً من الذهب والوَرِقِ، فلما لم يأخذ منهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمر
بالأخذ، ولا من بعده علمناه، وكانا مالَ الخاصة، وما لا يُقوم به على أحد في شيء استهلكه الناس؛ لأنه غير نقد، لم يؤخذ منهما.
ثم كان ما نقلت العامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زكاة الماشية والنقد: أنه أخذها في كل سنة مرة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
الأم: باب (الفضل في الصدقلأ) :
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي قال: أخبرنا سفيان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن يسار.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"والدي نفسي ييده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا، ولا يصعد إلى السماء إلا طيب، إلا كان كأنما يضعها في يد الرحمن، فيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ

(2/957)


حنى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة، وإنها لمثل الجبل العظيم، ثم قرأ:
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) الآية " الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
الأم: باب (في الاستنجاء) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ويقال: إن قوماً من الأنصار استنجوا بالماء فنزل
فيهم: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) الآية.
وإذا اقتصر المستنجي على الماء دون الحجارة أجزأه؛ لأنه أنقى من الحجارة، وإذا استنجى بالماء فلا عدد في الاستنجاء؛ إلا أن يبلغ من ذلك ما يرى أنه أنقى كل ما هنالك، ولا أحسب ذلك يكون إلا في أكثر من ثلاث مرات، وثلاث فأكثر.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولما مضت لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مدة هجرته، أنعم اللَّه تعالى فيها على جماعة باتباعه، حدثت لهم بها مع عون اللَّه قوة بالعدد لم تكن قبلها،

(2/958)


ففرض اللَّه تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضاً، فقال تبارك وتعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) .
أحكام القرآن: فصل (فيمن لا يجب عليه الجهاد) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس، أخبرنا الربيع.
أخبرنا الشَّافِعِي قال: فرض اللَّه تعالى الجهاد في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ثم أكَّد النفير من الجهاد، فقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم ذكر الله تعالى: قوماً تخلَّفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن كان يظهر الإسلام فقال: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ) .

(2/959)


فأبان في هذه الآية، أن عليهم الجهاد فيما قَرُبَ وبَعُدَ، بعد إبانته ذلك
في غير مكان، في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ)
قرأ الربيع إلى: (أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الآيتان.
الرسالة: باب (ما نزل من الكتاب عاماً يراد به العام ويدخله الخصوص) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) الآية.
وهذا في معنى الآية قبلها، وإنما أريد به من أطاق الجهاد من الرجال، وليس
لأحد منهم أن يرغب بنفسه عن نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، أطاق الجهاد أو لم يطقه، ففي هذه الآية الخصوص والعموم.
مختصر المزني: باب (عطية الرجل لولده) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد حمد اللَّه جل ثناؤه على إعطاء المال والطعام في
وجوه الخير وأمر بهما، ومنها: (وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) الآية.

(2/960)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
الأم: من لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قال اللَّه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ)
فدل على أنه أراد بذلك الذكور دون الإناث؛ لأن الإناث: المؤمنات، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)
وكل هذا يدل على أنه أراد به الذكور دون الإناث.
الرسالة: باب (العلم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .
وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغزا معه من أصحابه
جماعةَ وخلَّف أخرى، حتى تخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، وأخبرنا
الله أن المسلمين لم يكونوا لينفروا كافة: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)
فأخبر أن النفير على بعضهم دون بعض، وأن التَّفَقُّه إنما هو على بعض
دون بعض.

(2/961)


وكذلك ما عدا الفرض في عُظم الفرائض التي لا يسع جهلها - واللَّه
أعلم - وهكذا كل ما كان الفرض فيه مقصوداً به قصد الكفاية فيما ينوب، فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفاية خرج من تخلف عنه مِنَ المأثم.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
الأم: تفريع فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) الآية.
ففرض الله جهاد المشركين، ثم أبان مَن الذين نبدأ بجهادهم
من المشركين، فأعلمهم أنهم الذين يلون المسلمين، وكان معقولاً في فرض اللَّه جهادهم أن أولاهم بأن يُجاهَد، أقربهم بالمسلمين داراً؛ لأنهم إذا قووا على جهادهم وجهاد غيرهم، كانوا على جهاد من قرب منهم أقوى، وكان من قرب أولى أن يُجاهد من قربه من عورات المسلمين، وأن نكاية من قَرُب أكثر من نكاية من بَعُد.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فيجب على الخليفة إذا استوت حال العدو، أو
كانت بالمسلمين عليهم قوة، أن يبدأ بأقرب العدو من ديار المسلمين؛ لأنهم
الذين يلونهم، ولا يتناول من خلفهم من طريق المسلمين على عدو دونه، حتى

(2/962)


يحكم أمر العدو دونه، بأن يسلموا، أو يعطوا الجزية - إن كانوا أهل كتاب -.
وأحِبُّ له: إن لم يرد تناول عدو وراءهم، ولم يُطِل على المسلمين عدو، أن يبدأ بأقربهم من المسلمين؛ لأنهم أولى باسم الذين يلون المسلمين، وإن كان كل يلي طائفة من المسلمين فلا أحبُّ أن يبدأ بقتال طائفة ئلي قوماً من المسلمين دون آخرين، وإن كانت أقرب منهم من الأخرى إلى قوم غيرهم، فإن اختلف حال العدو، فكان بعضهم أنكى من بعض أو أخوف من بعض، فليبدأ الإمام بالعدو الأخوف، أو الأنكى، ولا بأس أن يفعل - ذلك -، وإن كانت داره أبعد - إن شاء اللَّه تعالى - حتى ما يخاف ممن بدأ به، مما لا يخاف من غيره مثله، وتكون هذه بمنزلة ضرورة؛ لأنه يجوز في الضرورة ما لا يجوز في غيرها، وقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحارث بن أبي ضرار أنه يجمع له، فأغار النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وقربه عدو
أقرب منه، وبلغه أن خالد بن أبي سفيان بن نُبيح يجمع له، فأرسل ابن أنيس
فقتله، وقربه عدو أقرب.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وهذه منزلة لا يتباين فيها حال العدو كما
وصفت، والواجب أن يكون أول ما يُبْدَأ به سد أطراف المسلمين بالرجال، وإن قدر على الحصون والخنادق وكل أمر، دفع العدو قبل انتياب العدو في
ديارهم؛ حتى لا يبقى للمسلمين طرف إلا وفيه من يقوم بحرب من يليه من
المشركين، وإن قدر على أن يكون فيه أكثر فَعَل، ويكون القائم بولايتهم أهل الأمانة والعقل والنصيحة للمسلمين، والعلم بالحرب والنجدة، والأناة والرفق، والإقدام في موضعه، وقلة البطش والعجلة.

(2/963)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله جل ذكره: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
وقال: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو كان هذا الإيمان كله واحداً لا نقصان فيه ولا
زيادة، لم يكن لأحدٍ فيه فضل، واستوى الناس، وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله في الجنة، وبالنقصان من الإيمان دخل المُفرِّطُون النار.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن الله جل وعز، سَابَق بين عباده كما سُوبِق بين
الخيل يوم الزهان، ثم انهم على درجاتهم من سبق عليه، فجعل كل امرئ على درجة سَبقِه، لا يُنقصه فيها حقه، ولا يُقَدَّم مسبوق على سابق، ولا مفضول على فاضل، وبذلك فُضل أول هذه الأمة على آخرها، ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه، للحق أخر هذه الأمة بأولها.

(2/964)


قال أحمد بن حنبل رحمه الله: قد رأيت هذا الجواب عن الإيمان
(لابن عبيد) أبسط من هذا، فإن صحت الحكايتان فيحتمل أن يكون
(أبو عبيد) أخذه عن الشَّافِعِي، ثم زاد في البيان، ويحتمل أن يوافق قولٌ قولاً - والله أعلم -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
الرسالة: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فكان خيرتهُ - صلى الله عليه وسلم - المصطفى لوحيه، المنتخبُ لرسالته، المفضُّلُ على جميع خلقه، بفتح رحمته، وختم نبوته، وأعمُّ ما أرسل به مرسل قبله، المرفوعُ ذِكرُهُ مع ذِكر في الأولى، والشافع المشفع في الآخرة، أفضلُ خلقه نفْساً، وأجمعُهم لكل خُلُق رضيه في دين ودنيا، وخيرُهم نسباً وداراً، محمد عبده ورسوله، وعرَّفنا وخَلْقَه نِعَمَهُ الخاصةَ، العامةَ النفع في الدين والدنيا.
فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .
الرسالة (أيضاً) : باب (البيان الخامس) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعرفنا نِعَمَهُ - أي: على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما خَصنا به من مكانه، فقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) .

(2/965)