تفسير الإمام
الشافعي سورة الحج
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي
جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)
مناقب الشافعى: باب (ما جاء في حسن مناظرة الشَّافِعِي وغلبته
بالعلم والبيان كل من ناظره) :
أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ قال: سمعت أبا الفضل (الحسن بن
يعقوب)
يقول: سمعت أبا أحمد (محمد بن رَوح) بقول: سمعت أبا إسماعيل
الترمذي
يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: كنا بمكة، والشَّافِعِي
بها، وأحمد بن
حنبل رحمهما اللَّه.
قال: وكان أحمد يجالس الشافعى، وكنت لا أجالسه، فقال لي أحمد،
يا أبا
يعقوب مُرَّ جالِسْ هذا الرجل.
فقلت: ما أصنع به؟
سِنُّه قريب من سننا، أترك ابن عيينة، والمقبُري وهؤلاء
المشايخ؟!
فقال أحمد ويحك، إن هذا يفوت، وذاك لا يفوت.
قال: فجالسته فتناظرنا في كراء بيوت مكة، وكان الشَّافِعِي
يساهل فيه.
وكنت لا أساهل فيه، فذكر حديثاً، وأخذت أنا في الباب أسرد عليه
وهو
ساكت، فلما أن فرغت، وكان معي رجل من أهل (مرو) فالتفت إليه
فقلت -
(3/1078)
بالفارسية -: (مردك لا كما لا نيست) (1)
فعلم أني راطنت صاحبي: بشيء هجنْتُه فيه، فقال: تناظر؛ فقلت
للمناظرة جئتُ.
قال اللَّه - عز وجل -: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ) الآية.
نسب الديار إلى مالكيها، أو إلى غير مالكيها؟
قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم فتح مكة: "من
أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"
فنسب الديار إلى أربابها أم إلى غير أربابها؟
قال: واشترى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (دار السجن) من
مالك غير مالك؟
قال: قلت من مالك.
قال: فلما عرفت أني قد أفحمت قُمتُ.
قال: وقال غير أبي إسماعيل في هذه الحكاية: فقال له
الشَّافِعِي: لو قلت
قولك احتجت أن أُسِلسَل.
قال البيهقي رحمه اللَّه: وقد ذكرنا حكاية مناظرتهما في كتاب
(المعرفة) أتم
من هذا، وفيها من الزيادة: احتجاج الشَّافِعِي بقول النبي -
صلى الله عليه وسلم -: "وهل ترك لنا عقيل من دار؛" الحديث.
ثم معارضة إسحاق إياه بقول التابعين.
قال الشَّافِعِي رحمه للُه: من هذا؟
قيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: فقال له
الشَّافِعِي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟
قال إسحاق: هكذا يزعمون.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك،
فكنت
آمر بعرك أذنيه.
__________
(1) مرد: هو الرجل الصغير والحقير، و (ما لان) أو (كما لان) :
قرية بمرو ينسب إلى أهلها الغفلة، انظر آداب الشَّافِعِي
ومناقبه / للرازي، ص / 180) الهامش) رقم / 2، والمقصود: أنه
نسب الشَّافِعِي إلى الصغار والغفلة واللَّه أعلم.
(3/1079)
أنا أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، وأنت تقول: عطاء، وطاووس، وإبراهيم، والحسن هؤلاء لا
يرون ذلك، وهل لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة؟!
وفيها من الزيادة: قال له إسحاق: اقرأ: (سَوَاءً الْعَاكِفُ
فِيهِ وَالْبَادِ) الآية.
فقال الشَّافِعِي رحمه الله: اقرأ أول الآية: (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ
فِيهِ وَالْبَادِ) هذا في المسجد خاصة.
وقرأت في كتاب أبي الحسن العاصمي، فيما بلغه عن (داود
الأصبهاني)
أنه قال: لم يفهم (إسحاق) في ذلك الوقت (إيش) يحتج به
الشَّافِعِي، وأراد
الشَّافِعِي رحمه اللَّه: أن الدور لو كانت مباحة للناس - كان
جواب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يقول: أي موضع أدركنا
في دار كان نزلنا، فإن ذلك مباح لنا، بل أشار إلى دورهم التي
كانت لآبائهم، باعها عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه - قبل أن
يسلم، فلم يطالب بشيء منها، ولم يؤاخذ به أحداً، وقال: لم يترك
لنا عقيل مسكناً.
فدل ذلك على أن كل من ملك فيها شيئاً فهو مالك، له منعه عن
غيره.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ
كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
الأم: كتاب (الحج) ، باب (فرض الحج على من وجب عليه الحج) :
أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي بمصر سنة سبع ومائتين قال:
(3/1080)
أخبرنا محمد بن إدريس الشَّافِعِي - رحمه
الله - قال: أصل إثبات فرض الحج خاصة في كتاب اللَّه تعالى، ثم
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر اللَّه - عز
وجل - الحج في غير موضع من كتابه.
فحكى أنه قال لإبراهيم عليه السلام: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ
يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الآية.
ثم ذكر الآيات المتعلق بفرضية الحج -.
الأم (أيضاً) : باب (دخول مكة لغير إرادة حج ولا عمرة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل - لإبراهيم
خليله:
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فسمعت بعض من أرضى من أهل العلم
يذكر: أن
الله تبارك وتعالى لما أمر بهذا إبراهيم عليه السلام، وقف على
المقام فصاح
صيحة: (عباد اللَّه أجيبوا داعي الله) فاستجاب له حتى من في
أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فمن حج البيت بعد دعوته فهو ممن
أجاب دعوته، ووافاه من وافاه يقولون: (لبيك داعي ربنا، لبيك) .
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ
الْفَقِيرَ (28)
الأم: باب (الاختلاف في العيب)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والأهلة معروفة المواقيت، وما كان
في معناها من
الأيام المعلومات، فإنه سبحانه وتعالى يقول: (فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ) الآية. . .
(3/1081)
الأم (أيضاً) : الضحايا الثاني:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والضحية نسك من النسك مأذون في
كله.
وإطعامه، وادخاره، فهذا كله جائز في جميع الضحية، جلدها،
ولحمها، وكره بيع شيء منه، والمبادلة به بيع.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: ومن أين كرهت أن
تباع، وأنت لا
تكره أن تؤكل وتدخر؟
قيل له: لما كان نسكاً فكان اللَّه حكم في البدن التي - هي
نسُك، فقال - عز وجل -: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الآية.
وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل الضحايا
والإطعام، كان ما أذن اللَّه فيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم
- مأذوناً فيه، فكان أصل
ما أخرج لله - عز وجل - معقولاً أن لا يعود إلى مالكه فيه شيء،
إلا ما أذن الله فيه أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
مختصر المزني: باب (لحوم الضحايا) :
حدثنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا مالك، عن أبي
الزبير، عن جابر بن
عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-:
"نهى عن كل لحوم الضحابا بعد ثلاث".
ثم قال بعد ذلك:
"كلوا وتزودوا وادخروا" الحديث.
حدثنا الربيع قال:
(3/1082)
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا
مالك، عن عبد اللَّه بن أبي بكر.
عن عبد اللَّه بن واقد بن عبد اللَّه، أنه قال: "نهى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث" الحديث.
قال عبد اللَّه بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعَفرَةَ
فقالت: صدق، سمعت، عائشة رضي اللَّه عنها تقول: دفَّ ناسٌ من
أهل
البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقي" الحديث.
قالت: فلما كان بعد ذلك قلنا لرسول اللَّه - صلى الله عليه
وسلم -:
لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم يجعلون منها الودك.
ويتخذون منها الأسقية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"وما ذاك"؟ أو كما قال، قالوا يا رسول اللَّه نهيت عن أكل لحوم
الضحايا بعد ثلاث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت حضرة الأضحى، فكلوا
وتصدقوا
وادخروا" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فيشبه أن يكون إنما نهى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث إذا
كانت الدَّافة على معنى الاختيار، لا على معنى الفرض، وإنما
قلت: يشبه الاختيار لقول اللَّه - عز وجل -: (فَإِذَا وَجَبَتْ
جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) الآية.
وهذه الآية في البدن التي يتطوع بها أصحابها، لا التي وجبت
عليهم قبل أن يتطوعوا بها، وإنما أكل النبي - صلى الله عليه
وسلم - من هديه أنه كان تطوعاً، فأما ما وجب من الهدي كله فليس
لصاحبه أن يأكل منه
شيئاً، كما لا يكون له أن يأكل من زكاته ولا من كفارته شيئاً،
وكذلك إن
وجب عليه أن يخرج من ماله شيئاً فأكل بعضه، فلم يخرج ما وجب
عليه
بكماله.
(3/1083)
وأحبُّ لمن أهدى نافلة أن يطعم البائس
الفقير، لقول اللَّه - عز وجل -:
(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) الآية.
الرسالة: باب (العلل في الأحاديث) :
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك
لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخاً في كل حال، فيُمسك الإنسان من
ضحيته ما شاء، ويتصدق بما شاء - ثم ذكر ما ورد سابقاً في الأم
- وقد علق محقق كتاب الرسالة قائلاً:
وهكذا تردد الشَّافِعِي في قوله في هذا كما ترى، فمرة يذهب إلى
النسخ.
ومرة يذهب إلى أن النهي اختيار لا فرض، ومرة يذهب إلى أن النهي
لمعنى فإذا وُجدَ ثبت النهي.
والذي أراه راجحاً عندي - للعلامة: أحمد محمد شاكر -: أن النهي
عن
الادخار بعد ثلاث إنما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم -
على سبيل تصرف الإمام والحاكم، فيما ينظر فيه لمصلحة الناس،
وليس على سبيل التشريع في الأمر العام، بل يؤخذ منه أن للحاكم
أن يأمر وينهى في مثل هذا، ويكون أمره واجب الطاعة، لا يسع
أحداً مخالفته.
وآية ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخبروه عما
نابهم من المشقة في هذا سألهم:
وما ذاك؟ فلما أخبروه عن نهيه، أبان لهم عن علته وسببه، فلو
كان هذا النهي تشريعاً عامًّا لذكر لهم أنه كان ثم نسخ، أما
وقد أبان لهم عن العلة في النهي فإنه قصد إلى تعليمهم، أن مثل
هذا يدور مع المصلحة التي يراها الإمام، وأن طاعته
(3/1084)
فيه واجبة، ومن هذا نعلم أن الأمر فيه على
الفرض لا على الاختيار، وإنما هو فرض محدد بوقت أو بمعنىً خاص،
لا يُتجاوز به ما يراه الإمام من المصلحة. ..
ويختتم كلامه فائلاً: وهذا معنى دقيق بديع، يحتاج إلى تأمُّلٍ،
وبُعدِ نظر.
وسَعَة اطلاع على الكتاب والسنة ومعانيهما، وتطبيقه في كثير من
المسائل
عسير، إلا على من هدى الله.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ (29)
الأم: باب (الطواف بعد عرفة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى:
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الآية.
فاحتملت الآية:
1 - أن ئكون على طواف الوداع؛ لأنه ذكر الطواف بعد قضاء التفث.
2 - واحتملت أن تكون على الطواف بعد (منى) ، وذلك أنه بعد حلاق
الشعر ولبس الثياب والتطيب، وذلك فضاء النفث.
وذلك أشبه معنييها بها، لأن الطواف بعد (منى) واجب على الحاج.
والتنزيل كالدليل على إيجابه - والله أعلم -، وليس هكذا طواف
الوداع.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن كانت نزلت في الطواف بعد (منى)
دلَّ ذلك
على إباحة الطيب.
(3/1085)
الأم (أيضاً) : باب (لا يقال شوط ولا دور)
أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن مجاهد رحمه الله، أنه كان يكره
أن يقول
شوط، دور للطواف، ولكن يقول، طواف، طوافين.
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: وأكره من ذلك ما كره مجاهد؛
لأن الله - عزَّ وجلَّ قال: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) الآية.
فسمى طوافاً؛ لأن الله تعالى سمى جماعه طوافاً.
الأم (أيضاً) : باب (ما جاء في موضع الطواف) :
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: وإكمال الطواف بالبيت من وراء
الحِجر، ووراء شاذروان الكعبة، فإن طاف طائف بالبيت، وجعل
طريقه من بطن الحِجر - أي: حجر إسماعيل - أعاد الطواف، وكذلك
لو طاف على شاذروان الكعبة أعاد الطواف.
فإن قال قائل: فإن الله - عزَّ وجلَّ - يقول:
(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والمسجد كله موضع للطواف.
مختصر المزني: ومن كتاب المناسك:
قال الشَّافِعِي رحمه لله: أخبرنا ابن عيينة، حدثنا هشام، عن
طاووس فيما
أحسب أنه قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحِجر من
البيت وقال الله (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
الآية.
وقد طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحِجر.
(3/1086)
قال الله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ
(32)
الأم: باب (ما تجزي عنه البدنة من العدد في الضحايا)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا كانت الضحايا إنما هو دم
يُتقرب به إلى الله
تعالى، فخير الدماء أحبّ إليَّ، وقد زعم بعض المفسرين: أن قول
اللَّه - عز وجل -: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) الآية، استسمان
الهدي واستحسانه.
وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الرقاب أفضل؟
قال: "أغلاها ثمناً وأنفسُها عند أهلها" الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والعقل مضطر إلى أن يعلم أن كل ما
تقُرِّبَ به إلى
الله - عز وجل - إذا كان نفيساً، كلما عظمت رزيَّتُه على
المتقرب به إلى اللَّه تبارك وتعالى، كان أعظم لأجره.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ (33)
الأم: باب (الإحصار بالعدو) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أما السنة فتدل على أن محله - أي:
دم الإحصار
- في هذا الوضع نحره؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نحر في الحل، فإن قال - المحاور -:
(3/1087)
فقد قال الله - عزَّ وجلَّ في البدن:
(ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الآية.
فهو محلها.
فإن قال: فهل خالفك أحد في هدي المحصر؟
قيل: نعم، عطاء بن أبي رباح كان يزعم أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - نحر في الحرم. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: فإن الله - عزَّ
وجلَّ يقول:
(حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الآية.
قلت: على أن ينحرها عند البيت العتيق، الله أعلم بمحله، هاهنا
يشبه أن يكون إذا أحصر نحره حيث أحصر، كما وصفتُ.
ومحله في غير الإحصار الحرم - والمنحر -، وهو كلام عربي واسع.
الأم (أيضاً) : باب (في قتل الدواب التي لا جزاء فيها في الحج)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر
رضي اللَّه
عنهما قال: لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت فإن آخر
النسك
الطواف بالبيت، قال مالك رحمه اللَّه: وذلك فيما نرى - والله
أعلم - لقول اللَّه جل ثناءه: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الآية.
فمحل الشعائر وانقضاؤها إلى البيت العتيق.
مختصر المزني: باب (الهدي) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وليس له أن ينحر دون الحرم، وهو
محلها لقول اللَّه
جل وعز: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الآية،
إلا أن يحصر، فينحر حيث
أحصر، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية.
(3/1088)
مناقب الشافعى: باب (ما يستدل به على معرفة
الشَّافِعِي رحمه الله بتفسير
القرآن ومعانيه، وسبب نزوله)
أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو قال: حدثنا أبو العباس قال:
أنبأنا الربيع قال: حدثئا الشَّافِعِي رحمه الله في قوله - عز
وجل -: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الآية.
قال: فزعم أهل العلم بالتفسير: أن محلها الحرم؛ كأنهم ذهبوا
إلى أن الأرض
حِل وحَرَمٌ، فموضع البيت في الحرم.
وأن قول اللَّه: (إِلَى الْبَيْتِ) إلى موضع البيت الذي تبين
من البلدان، لا إلى البيت نفسه، ولا إلى موضعه من المسجد؛ لأن
الدم لا يصلح هناك. وعقلوا عن اللَّه أنه إنما أراد حاضري
البيت العتيق من الهدي، فإن أجمع أن يذبح في الحرم فيأكله
حاضره - أي: حاضري الحرم - من أهل الحاجة غير متغير، فقد جاء
بالذى عليه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ)
الأم: المكاتب
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والخير كلمة يُعرف ما أريد منها
بالمخاطبة بها.
وقال اللَّه - عز وجل -: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ
مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) الآية، فعقلنا
أن الخير: المنفعة بالأجر، لا أن لهم في البُدن مالاً.
(3/1089)
الأم (أيضاً) : باب (ذبائح أهل الكتاب)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد أحل اللَّه - عز وجل - لحوم
البُدن مطلقة، فقال: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا
مِنْهَا) الآية.
ووجدنا بعض المسلمين يذهب إلى: أن لا يؤكل من البَدَنة التي هي
نذر، ولا جزاء صيد، ولا فدية، فلما احتملت هذه الآية، ذهبنا
إليه وتركنا الجملة؛ لأنها خلاف للقرآن، ولكنها محتملة، ومعقول
أن من وجب عليه شيء في ماله، لم يكن له أن يأخذ منه شيئاً؛
لأنا إذا جعلنا له أن
يأخذ منه شيئاً فلم نجعل عليه الكل، إنما جعلنا عليه البعض
الذي أعطى، فهكذا ذبائح أهل الكتاب بالدلالة على شبيه ما قلنا.
الأم (أيضاً) : ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والأمر في الكتاب، والسنة، وكلام
الناس يحتمل
معاني:
أحدها: أن يكون اللَّه - عز وجل - حرّم شيئاً ثم أباحه، فكان
أمره إحلال ما حرم، منها قوله: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا) الآية.
ليس حتماً أن لا يأكل من بَدَنتِه إذا نحرها، فإنما هي دلالة
لا حتم، وأشباه لهذا كثير في كتاب اللَّه - عز وجل - وسنة نبيه
- صلى الله عليه وسلم -.
وزاد في كتاب المناقب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وعلى أهل العلم عند تلاوة الكتاب،
ومعرفة
السنة، طلب الدلائل؛ ليفرفوا بين الحتم، والمباح، والإرشاد
الذي ليس بحتم في الأمر والنهي معاً.
(3/1090)
مختصر المزني: باب (الهدي) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وما كان منها تطوعاً أكل منها،
لقول الله جل وعز:
(فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا) الآية.
وأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من لحم هديه وأطعم.
وكان هديه تطوعاً، وما عُطِب منها نحرها وخلَّى بينها وبين
المساكين، ولا بدل عليه فيها، وما كان واجباً من جزاء الصيد أو
غيره، فلا يأكل منها شيئاً، فإن أكل فعليه بقدر ما أكل لمساكين
الحرم، وما عُطِب منها فعليه مكانه.
مختصر المزني (أيضاً) : باب (لحوم الضحايا) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقوله: (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ) الآية.
القانع: هو السائل. والْمُعْتَر: الزائر، والمار بلا وقت.
فإذا أطعم من هؤلاء واحداً أو أكثر فهو المطعمين، فأحبّ إلي ما
أكثر، أن
يطعم ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويدخر ثلثاً ويهبط به حيث شاء،
والضحايا من هذا السبيل - والله أعلم -.
وأحب إن كانت في الناس مخمصة أن لا يدخر أحد من أضحيته، ولا من
هديه أكثر من ثلاث؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في
الدافة، فإن ترك رجل أن يطعم من هدي تطوع أو أضحية فقد أساء،
وليس عليه أن يعود للضحية، وعليه أن يُطعِم إذا جاءه قانع، أو
مُعْتَرٌّ، أو بائسٌ فقير شيئاً؛ ليكون عوضاً مما منع، وإن كان
في غير أيام الأضحى.
(3/1091)
قال الله - عزَّ وجلَّ -: (أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ
عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ)
الأم: مبتدأ الإذن بالقتال:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأذن لهم بأحد الجهادين (بالهجرة)
، قبل أن يؤذن
لهم بأن يبتدئوا مشركا بقتال، ثم أذن لهم بأن يبتدئوا المشركين
بقتال، قال اللَّه تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
بِغَيْرِ حَقٍّ) الآيتان.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)
الأم: باب (حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ) الآية،
(3/1092)
وقد أحاط العلم أن كل الناس في زمان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يدعون من دونه شيئاً؛
لأن فيهم المؤمن، ومَخرَج الكلام عاماً، فإنما أريد من كان
هكذا.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
الأم: باب (التكبير للركوع وغيره) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو ترك التكبير، سوى تكبيرة
الافتتاح، وقوله
سمع اللَّه لمن حمده، لم يُعِد صلاته، وكذلك من ترك الذكر في
الركوع والسجود، وإنما قلت ما وصفت بدلالة الكتاب، ثم السنة.
قال اللَّه - عز وجل -: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) الآية.
ولم بذكر في الركوع والسجود عملاً غيرهما، فكانا الفرض.
فمن جاء بما يقع عليه اسم ركوع أو سجود فقد جاء بالفرض عليه،
والذكر
فيهما سنة اختيار، وهكذا قلنا في المضمضة والاستنشاق مع غسل
الوجه. . ثم ذكر حديث الذي لا يحسن الصلاة وكيفية ئعليم النبي
- صلى الله عليه وسلم - له الصلاة ولم يذكر فبه وجوب التسبيح
بالركوع والسجود -.
مناقب الشافعى: باب (ما يؤثر عنه - الشافعى - في الإيمان) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفرض الله تعالى على الوجه: السجود
للهِ بالليل
والنهار، ومواقيت الصلاة، فقال في ذلك: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
(3/1093)
ترتيب مسند الشَّافِعِي: في سجود التلاوة
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن نافع، "أن ابن عمر
- رضي الله عنهما - سجد في سورة الحج سجدتين" الحديث.
أخبرنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن الزهري، عن عبد اللَّه
بن ثعلبة بن
صعير، "أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى بهم بالجابية
فقرأ سورة الحج، فسجد فيها سجدتين" الحديث.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ
جِهَادِهِ)
الأم: أصل فرض الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولما مضت لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - مدة من هجرته، أنعم الله تعالى فيها على جماعة
باتباعه، حدثت لهم بها مع عون اللَّه قوة بالعدد، لم تكن
قبلها؛ ففرض الله تعالى عليهم الجهاد بعد إذ كان إباحة لا
فرضاً، وقال - عز وجل -:
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) الآية.
(3/1094)
الأم (أيضاً) : باب (ميراث الجد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقلنا إذا ورث الجد مع الإخوة
قاسمهم ما كانت
المقاسمة خيراً له من الثلث، فإذا كان الثلث خيراً له منها
أُعطِيَه، وهذا قول
زيد بن ثابت، وعنه قبلنا أكثر الفرائض، وقد رُوي هذا القولُ عن
عمر وعثمان رضي اللَّه عنهما أنهما قالا فيه مثل قول زيد بن
ثابت - رضي الله عنه -.
وقد روي هذا أيضاً عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه
وسلم -، وهو قول الأكثر من فقهاء - أهل - البلدان، وقد خالفنا
بعض الناس في ذلك فقال: الجد: أب، وقد اختلف فيه أصحاب النبي -
صلى الله عليه وسلم -.
فقال أبو بكر، وعائشة، وابن عباس، وعبد اللَّه بن عتبة.
وعبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهم، إنه أب إذا كان مع
الإخوة طرحوا، وكان المال للجد دونهم.
وقد زعمنا نحن وأنت: أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
إذا اختلفوا لم نصر إلى قول واحد منهم دون قول الآخر، إلا
بالثبت مع الحجة البينة عليه وموافقته للسنة، وهكذا نقول، وإلى
الحجة ذهبنا في قول زيد بن ثابت، ومن قال قوله.
قالوا: فإنا نزعم أن الحجة في قول من قال: الجد أب، لخصالِ
منها:
أن اللَّه - عز وجل - قال: (يَا بَنِي آدَمَ) الآية.
وقال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) الآية.
فأقام الجد في النسب أباً، وأن المسلمين لم يختلفوا في أن لم
يُنقِصوه من السدس، وهذا حكمهم للأب، وأن المسلمين حجبوا
بالجد، الأخ لأم، وهكذا حكمهم في الأب - وأفاض في النقاش حول
هذا الموضوع -.
(3/1095)
|