تفسير الإمام الشافعي

سورة النور
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الله عزَّ وجلَّ: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
الأم: باب (من عاد لقتل الصيد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وجعل الحد على الزاني، فلما أوجب اللَّه عليهم
الحدود، دلَّ هذا على أن النقمة كضاعفة العذاب في الآخرة إلا أن يتوبوا.
وجعل الحد على الزاني فلما أوجب الله عليهم الحدود، دل هذا على أن النقمة في الآخرة لا تسقِط حكم غيرها في الدنيا، قال الله ثبارك وتعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ) الآية.
فلم يختلف الناس في أنهما كلما زنيا بعد الحد جُلِدَا، فكان الحق عليهم في الزنا الآخر مثله في الزنا الأول.
الأم (أيضاً) : الأمان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قلت له - أي: للمحاور - ومن قال بباطن دون
ظاهر، بلا دلالة له في القرآن، والسنة، أو الإجماع، مخالف للآية. قال: نعم.
فقلت له: فأنت إذاً تخالف آيات من كتاب اللَّه - عز وجل -.
قال: وأين؟
قلت: قال الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.

(3/1102)


الأم (أيضاً) : في المرتد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا كانت في الهاربين امرأة، فحكمها حكم
الرجال؛ لأني وجدت أحكام اللَّه - عز وجل - على الرجال والنساء في الحدود واحدة.
قال اللَّه تبارك وتعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)
الآية.
الأم (أيضاً) : ما يحرم من النساء بالقرابة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
فرجم النبي - صلى الله عليه وسلم - الزانيين الثيبين ولم يجلدهما، فاستدللنا
بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المراد، وبالمائة من الزناة بعض الزناة.
الأم (أيضاً) : عدة الأمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ذكر الله - عزَّ وجلَّ العدد من الطلاق بثلاثة قروء، وثلاثة أشهر، ومن الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وذكر الله الطلاق للرجال باثنتين وثلاثة.
فاحتمل أن يكون ذلك كله على الأحرار والحرائر، والعبيد والإماء، واحتمل أن يكون ذلك على بعضهم دون بعض وكان اللَّه - عز وجل - قد فرق في حد الزاني بين المماليك والأحرار، فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)

(3/1103)


وقال في الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) الآية.
الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدَّعى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل -: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، وقال بعض الخوارج بمثل معنى قولك (الخطاب: للمحاور) في اليمين مع الشاهد: يجلد كل من لزمه اسم الزنا، مملوكاً كان أو حراً محصناً أو غير محصن، وزعمت أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جلد الزاني ورجمه، فلم رغبت عن هذا؟
قال الشَّافِعِي رحمه الله: جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أنه رجم ماعزاً ولم يجلده، ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمعنى ما أراد اللَّه عز ذكره.
الأم (أيضاً) : باب الإشهاد عند الدفع إلى اليتامى:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: الفاحشة تحتمل الزنا وغيره، فما
دل على أنها في هذا الموضع الزنا دون غيره؟
قيل: كتاب اللَّه، ثم سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ما لا أعلم عالماً خالف فيه في قول اللَّه - عز وجل -، في اللاتي يأتين الفاحشة من

(3/1104)


نسائكم، يُمْسَكْن حتى يجعل اللَّه لهن سبيلاً، ثم نزلت: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" الحديث.
ودل اللَّه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الحد إنما هو على الزناة دون غيرهم، لم أعلم في ذلك مخالفاً من أهل العلم.
الأم (أيضاً) : باب (حكاية قول من ردَّ خبر الخاصة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قلت: فما تقول في الزاني الثيب، أترجمه؟
قال: نعم.
قلت: كيف ترجمه وممن نص بعض الناس علماء أن لا رجم على زان.
لقول اللَّه تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)
فكيف ترجمه ولم ترده إلى الأصل، من أن دمه محرم
حتى يجتمعوا على تحليله؟!
ومن قال هذا القول يحتج بأنه زان يدخل في معنى الآية، وأن يجلد مائة.
الأم (أيضاً) : باب (الرجل يمسك الرجل للرجل حتى يقتله) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، ولم أجد أحداً من خلق اللَّه تعالى يُقتدى به، حد أحداً قط على غير فعل نفسه أو قوله.

(3/1105)


الأم (أيضاً) : باب (الصوم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله عز ذكره: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
فلو صرنا إلى ظاهر القرآن ضربنا كل من لزمه
اسم زنا مائة جلدة، ورجم - النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرين الثيبين ولم يجلدهما، استدللنا على أن اللَّه - عز وجل - إنما أراد بالجلد بعض الزناة دون بعض.
الأم (أيضاً) : اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: اللعان لا يكون إلا بمحضر طائفة من المؤمنين؛ لأنه
لا يحضر أمراً يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستره ولا يحضره إلا وغيره حاضر له، وكذلك جميع حدود الزنا يشهدها طائفة من المؤمنين أقلهم أربعة؛ لأنه لا يجوز في شهادة الزنا أقل منهم وهذا يشبه قول اللَّه - عز وجل - في الزانيين: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية.
الأم (أيضاً) : الخلاف في اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى في الزانيين:
(وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية.
أفتراه عَنَى بعذابهما الحد أو الحبس؟
قال: بل الحد، وليس السجن بحد، والعذاب في الزنا بالحدود.

(3/1106)


مختصر المزني: مقدمة (اختلاف الحديث)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، فكان مخرج هذا عامًّا، فدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن الله جل ثناؤه أراد بهذا رجم الحرين الثيبين ولم يجلدهما، فدلت السنة على أن الجلد على بعض الزناة دون بعض فقد يكون زانياً ثيباً فلا يجلد مائة، فوجب على كل
عالم أن لا يشك أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامث هذا المقام مع كتاب اللَّه، في أن الله أحكم فرضه بكتابه وبين كيف ما فرض على لسان نبيه، فأبان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما أراد به العام والخاص، كانت كذلك سنته في كل موضع، لا تختلف.
وأنّ قول من قال: تعرض السنة على القرآن، فإن وافقت ظاهره، وإلا
استعملنا ظاهر القرآن، ونركنا الحديث، جهل لما وصفت.
فأبان اللَّه لنا أن سنن رسوله فرض علينا بأن ننتهي إليها لا أن لنا معها
من الأمر شيئاً إلا التسليم لها، واتباعها، ولا أنها تعرض على قياس ولا على
شيء غيرها، وأن كل ما سواها من قول الآدميين ئبع لها.
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: فذكرت ما قلت من هذا لعدد من أهل العلم
بالقرآن، والسنن والآثار، واختلاف الناس، والقياس، والمعقول، فكلهم قال: مذهبنا، ومذهب جميع من رضينا ممن لقينا، وحُكِيَ لنا عنه من أهل العلم.
مختصر المزني (أيضاً) : باب العقويات في المعاصي:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: كانت العقوبات في المعاصي قبل أن ينزل الحد ثم
نزلت الحدود، ونسخت العقوبات فيما فيه الحدود.

(3/1107)


حدثنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن
النعمان بن مُرَّة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال:
"ما تقولون في الشارب والسارق والزاني؟
وذلك قبل أن تنزل الحدود، فقالوا الله ورسوله أعلم، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: هن فواحش، وفيهن عقوبات، وأسوأُ السرقة الذي يسرق صلاته"
ثم ساق الحديث.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومثل معنى هذا في كتاب اللَّه، قال الله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) .
فكان هذا أول العقوبة للزانيين في الدنيا، ثم نسخ هذا عن
الزناة كلهم، الحر والعبد والبكر والثيب، فحدَّ الله البكرين الحرين المسلمين
فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
حدثنا الربيع:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن
عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعت عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "الرجم في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت عليه البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف" الحديث.

(3/1108)


أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سعيد بن المسيب رحمه اللَّه
يقول: قال عمر - رضي الله عنه -:
"إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا أجد
حدين في كتاب اللَّه، فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة"
فإنا قد قرأناها الحديث.
الرسالة: باب (ما نزل عاماً دلَّت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
وقال في الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) الآية.
فدل القرآن على أنه إنما أريد بجلد المائة، الأحرار دون الإماء، فلما رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثيب من الزناة ولم يجلده، دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المراد بجلد المائة من الزناة:
الحُرُّان المِكْرَان دون غيرهما ممن لزمه اسم زنا.
الرسالة: ابتداء الناسخ والمنسوخ:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو جاز أن يقال: قد سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نسخ سنته بالقرآن، ولا يؤثر عن رسول الله السنة الناسخة، جاز أن يقال: فيمن رجم من الزناة، قد يحتمل أن يكون الرجم منسوخاً، لقول اللَّه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية -
وذكر نماذج أخرى - ثم قال:

(3/1109)


ولجاز ردُّ كل حديث عن رسول اللَّه بأن يقال: لم يقله، إذا لم يجده مثل التنزيل، وجاز رد السنة بهذين الوجهين، فتركت كل سنة معها كتاب جملة تحتمل سنته أن توافقه، وهي لا تكون أبداً إلا موافقة له، إذا احتمل اللفظ فيما روي عنه خلاف اللفظ في التنزيل بوجه، أو احتمل أن يكون في اللفظ عنه أكثر مما في اللفظ في التنزيل، وإن كان محتملاً أن يخالفه من وجه، وكتاب اللَّه وسنة رسوله تدل على خلاف هذا القول، وموافقة ما قلنا.
الرسالة: باب (العلل في الأحاديث) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقلت له (أي: للمحاور) لو جاز أن تترك سنة مما
ذهب إليه من جهل مكان السنن من الكتاب، ترك ما وصفنا من المسح على
الخفين، وإباحة كل ما لزمه اسم بيع، وإحلال أن يُجمع بين المرأة وعمتها
وخالتها، وإباحة كل ذي ناب من السباع، وغير ذلك.
ولجاز أن يقال: إنما سنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجم على الثيب حتى نزلت عليه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، فيجلد البكر والثيب، ولا نرجمه.
فمن قال هذا كان مُعَطِّلاً لعامة سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول جهل ممن قاله.
الرسالة (أيضاً) : وجه آخر (من الناسخ والمنسوخ) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: - بعد أن ذكر الآيتين / 15 و 16 من سورة النساء، فكان حدُّ الزانيين بهذه الآية الحبس والأذى، حتى أنزل اللَّه على رسوله حد الزنا، فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، وقال في

(3/1110)


الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) الآية.
فنُسِخَ الحبس عن الزناة، وثبت عليهم الحدود.
ودل قول اللَّه في الإماء: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)
على فَرْق اللَّه بين حد المماليك والأحرار في الزنا، وعلى أن
النصف لا يكون إلا من جلد، لأن الجلد بعدد، ولا يكون من رجم، لأن الرجم إتيان على النفس بلا عدد؛ لأنه قد يؤتى عليها برجمة واحدة، وبألف وأكثر، فلا نصف لما لا يعلم بعدد، ولا نصف للنفس، فيؤتى بالرجم على نصف النفس.
واحتمل قول اللَّه في سورة النور: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية، أن يكون على جميع الزناة الأحرار، وعلى بعضهم دون
بعض فاستدللنا بسنة رسول الله - بأبي هو وأمي - على من أريد بالمائة جلدة
- ثم ذكر حديث عبادة بن الصامت -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فدل قول رسول اللَّه: "قد جعل اللَّه لهن سبيلاً"
الحديث، أن هذا أول ما حد به الزناة، لأن اللَّه يقول: (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) الآية.
ثم رجم رسول الله ماعزاً ولم يجلده، وامرأة الأسلمي ولم يجلدها، فدلت سنة رسول الله على أن الجلد منسوخ عن الزانيين الثيبين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولم يكن بين الأحرار في الزنا فرق إلا بالإحصان
بالنكاح، وخلاف الإحصان به، وإذ كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" الحديث، ففي هذا دلالة على أنه أول ما نسخ الحبس عن الزانيين، وحُدَّا بعد الحبس، وأن كل حد حده الزانيين فلا يكون

(3/1111)


إلا بعد هذا، إذ كان هذا أول حد الزانيين - ثم ذكر الحديث الذي أمَرَ به أنيساً أن يرجم امرأة الأعرابي إذا اعترفت، وحديث رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهودية -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فثبت جلد مائة والنفي على البكرين الزانيين.
والرجم على الثيبين الزانيين، وإن كانا ممن أريدا بالجلد فقد نسخ عنهما الجلد مع الرجم، وإن لم يكونا أريد بالجلد وأريد به البكران فهما مخالفان للثيبين.
ورجم الثيبين بعد آية الجلد، بما روى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله.
وهذا أشبه معانيه وأولاها به عندنا - والله أعلم -.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
الأم: نكاح المحدودين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: اخئُلف في تفسير هذه الآية، فقيل: نزلت في بغايا
كانت لهن رايات، وكن غير محصنات، فأراد بعض المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية بتحريم أن ينكحن إلا من أعلن بمثل ما أعلَن به، أو مشركاً.
وقيل: كن زواني مشركات، فنزلت لا ينكحهن إلا زان مثلهن مشرك، أو
مشرك وإن لم يكن زانياً: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الآية.

(3/1112)


وقيل غير هذا.
وقيل: هي عامة، ولكنها نسخت.
أخبرنا سفيان، عن يحمص بن سعيد، عن ابن المسيب في قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية.
قال: هي منسوخة، نسختها: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الآية.
فهي من أيامى المسلمين.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فوجدنا الدلالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زانية وزان من المسلمين، لم نعلمها حَرَّم على واحد منهما أن ينكح غير زانية ولا زان، ولا حرم واحداً منهما على زوجه، فقد أتاه ماعز بن مالك، وأقرَّ عنده بالزنا مراراً، لم يأمره في واحدة منها أن يجتنب زوجة له إن كانت، ولا زوجته أن تجتنبه، ولو كان الزنا يحرمه على زوجته أشبه أن يقول له: إن كانت لك زوجة حرمت عليك، أو لم تكن لم يكن لك أن تنكح، ولم نعلمه أمره بذلك، ولا أن لا ينكح.
ولا غيره أن لا ينكحه إلا زانية، وقد ذكر له رجل امرأة زنت وزوجها حاضر، فلم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، علمنا زوجها باجتنابها، وأمر أنيساً أن يغدو عليها فإن
اعترفت رجمها، وقد جلد ابن الأعرابي في الزنا مائة جلدة، وغرَّبه عامًّا، ولم ينهه كما علمنا أن ينكح،، ولا أحداً أن ينكحه إلا زانية.
وقد رفع الرجل الذي قذف امرأته إليه أمْر امرأته، وقذفها برجل، وانتفى
من حملها فلم يأمره باجتنابها حتى لاعَنَ بينهما - وساق أدلة أخرى على هذا
الموضوع -.

(3/1113)


الأم (أيضاً) : ما جاء في نكاح المحدودين:
بعد أن ساق ما ورد مما ذكر بالفقرة السابقة من الأقوال -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ورُوي من وجه آخر غير هذا، عن عكرمة أنه قال:
لا يزني الزاني إلا بزانية، أو مشركة.
والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك.
قال أبو عبد الله الشَّافِعِي رحمه الله: يذهب - أي: عكرمة رحمه اللَّه - إلى
قوله: ينكح، أي: يصيب.
فلو كان كما قال مجاهد نزلت في بغايا من بغايا الجاهلية، فَحُرِّمنَ على
الناس إلا من كان منهم زانياً أو مشركاً، فإن كن على الشرك فهن محرمات على زناة المسلمين، وغير زناتهم، وإن كن أسلمن، فهن بالإسلام محرمات على جميع المشركين لقول اللَّه تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم في تحريم
الوثنيات - عفائف كن أو زواني - كن -، على من آمن زانياً كان أو عفيفاً، ولا في أن المسلمة الزانية محرمة على المشرك بكل حال.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وليس فيما رُوي عن عكرمة رحمه اللَّه:
"لا يزني الزاني إلا بزانية أو مشركة"
تبيين شيء إذا زنى فطاوعته مسلماً كان أو مشركاً.
أو مسلمة كانت أو مشركة فهما زانيان والزنا محرم على المؤمنين، فليس في هذا أمر يخالف ما ذهبنا إليه فنحتج عليه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومن قال هذا حُكْمٌ بينهما، فالحجة عليه بما وصفنا
من كتاب اللَّه - عز وجل - الذي اجتمع على ثبوت معناه أكثر أهل العلم، فاجتماعهم أولى أن يكون ناسخاً.

(3/1114)


الأم (أيضاً) : باب ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي هذه الاية دلالة على أن قول اللَّه عز اسمه:
(الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) الآية، كما قال ابن المسيب إن شاء اللَّه تعالى منسوخة، نسختها: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الآية، فهن من أيامى المسلمين.
وقال اللَّه - عز وجل -: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) الآية.
يشبه عندي - واللَّه تعالى أعلم - أن يكون إذا لم تقطع العصمة بالزنا، فالموارثة باحكام الإسلام ثابتة عليها وإن زنت، ويدل إذا لم تقطع العصمة بينها وبين زوجها بالزنا، لا بأس أن ينكح امرأة وإن زنت، إن ذلك لو كان يحرم نكاحها قُطعت العصمة بين المرأة تزني عند زوجها وبينه، وأمر اللَّه - عز وجل - في اللاتي يأتين الفاحشة من النساء بأن يحبسن في البيوت - حتى يتوفاهن الموت، أو يجعل اللَّه لهن سبيلاً، منسوخ بقول اللَّه - عز وجل -: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) الآية في كتاب اللَّه، ثم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

(3/1115)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)
الأم: اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
وقال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) الآية، إلى: (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) .
فلما حكم اللَّه في الزوج القاذف بأن يلتعن دلَّ ذلك على أن اللَّه إنما أراد بقوله - تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ)
القَذفَةَ غير الأزواج، وكان القاذف الحر الذمي، والعبد المسلم، والذمي، إذا قذفوا الحرة المسلمة جُلِدوا الحد معاً، فجَلْدُ الحر حد الحر، والعبد حد العبد، وأنه لم يبرأ قاذف بالغ يجري عليه الحكم من لم يحده حده، إن لم يخرج منه بما أخرجه الله تعالى به من الشهود على المقذوفة؛ لأن الآية عامة على المقذوفة.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى في الذين يرمون المحصنات: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)
فكانت الآية عامة على رامي المحصنة، فكان سواء قال الرامي لها: رأيتها تزني، أو رماها ولم يقل: رأيتها تزني، فإنه يلزمه اسم الرامي.

(3/1116)


الأم (أيضاً) : كتاب اللعان:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله نال: قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ثم لم أعلم مخالفاً في أن ذلك: إذا طلبت ذلك
المقذوفة الحرة، ولم يأت القاذف بأربعة شهداء يخرجونه من الحد، وهكذا كل ما أوجبه اللَّه تعالى لأحد وجب على الإمام أخذه له، إن طلبه أخذه له بكل حال.
الأم (أيضاً) : خلاف بعض الناس في المرتد والمرتدة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
فقال المسلمون في اللاتي يرمين المحصنات: يجلدن ثمانين جلدة، ولم يفرفوا بينها وبين الرجل، يُرمى إذ رمت، فكيف فرقت بينها وبين الرجل في الحد.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: عفا اللَّه عنه، فقلنا له: النص عليك، والقياس
عليك، وأنت تدعى القياس حيث تخالفه، فقال أما إن (أبا يوسف) قد فال
قولكم، فزعم: أن المرتدة تقتل، فقلت: أرجو أن يكون ذلك خيراً له.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ما يزيد قوله قولنا قوة، ولا خلافه وَهناً.

(3/1117)


الأم (أيضاً) : باب (الدعوى في الشراء والهبه والصدقه)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
فكان بيناً أن المأمور بجلده ثمانين، هو من قَصَدَ قَصدَ محصنة بقذف، لا من وقع قذفه على محصنة بحال، ألا ترى أنه لو كان يحد من كان لم يقصد قصد القذف، إذا وقع القذف بمثل ما تقع به الإيمان.
الأم (أيضاً) : الشهادات:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله تعالى قال: وقال اللَّه - عز وجل -: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
أخبرنا مالك، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن سعداً قال: يا رسول
الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟
فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " نعم" الحديث.
الأم (أيضاً) : باب (اليمين مع الشاهد) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
قيل له - أي: للمحاور -:

(3/1118)


هذا كما قال اللَّه - عز وجل -؛ لأن اللَّه حكم في الزنا بأربعة، فإذا قذف رجل رجلاً بالزنا، لم يخرجه من الحدِّ إلا أن يقيم عليه بينة بأنه زان، ولا يكون عليه بينة تقطع أقل من أربعة، وما لم يتمُّوا أربعة فهو قاذف يحد، وإنما أريد بالأربعة أن يثبت عليه الزنا، فيخرج من ذلك القاذف، ويحد المشهود عليه (المقذوف)
وحكمهم معاً حكم شهود الزنا؛ لأنهن شهادات على الزنا لا على القذف.
فإذا قام على رجل شاهدان بأنه قذف رجلاً حُدَّ؛ لأنه لم يذكر عدد شهود
القذف فكان قياساً على الطلاق وغيره مما وصفت، ولا يخرج من أن يحد له إلا بأربعة شهداء يثبنون الزنا على المقذوف فيحد، ويكون هذا صادقاً في الظاهر، واللَّه تعالى الموفق.
الأم (أيضاً) : باب (شهادة القاذف) :
قال الشافعي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) الآيتان.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأمر اللَّه - عز وجل - أن يضرب القاذف ثمانين، ولا تقبل له شهادة أبداً، وسماه فاسقاً إلا أن يتوب.
فقلنا: يلزم أن يضرب ثمانين، وأن لا تقبل له شهادة، وأن يكون عندنا في
حال من سُمي بالفسق إلا أن يتوب، فإذا تاب قبلت شهادته، وخرج من أن
يكون في حال من سُمِّي بالفسق.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وتوبته إكذابه نفسه، فإن قال قائل: فكيف تكون
التوبة الإكذاب؟!
قيل له: إنما كان في حدِّ المذنبين بأن نطق بالقذف وترك الذنب

(3/1119)


هو أن يقول: القذف باطل، وتكون التوبة بذلك، وكذلك يكون الذنب في الردة بالقول بها، والتوبة: الرجوع عنها بالقول فيها، بالإيمان الذي ترك.
الأم (أيضاً) : باب (الرجل يمسك الرجل حتى يقتله) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
ولم أجد أحداً من خلق الله تعالى يقتدى به، حدَّ أحداً قط على غير
فعل نفسه، أو قوله.
الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله - عزَّ وجلَّ في قَدفةِ المحصنات: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) الآيتان.
وقلنا: إذا تاب القاذف قبلت شهادته، وذلك بين في كتاب الله - عز وجل -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة قال: سمعت الزهري يقول:
زعم أهل العراق: أن شهادة القاذف لا تجوز؛ لأشهد.
أخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لأبي بكرة - رضي الله عنه -: تب تقبل شهادتك، أو إن تبت قبلت
شهادتك.
قال: وسمعت سفيان يحدث به هكذا مراراً، ثم سمعته يقول: شككت فيه.
قال سفيان رحمه الله: أشهد لأخبرني ثم سمى رجلاً، فذهب علي حفظ اسمه
فسألت، فقال لي: عمر بن قيس هو سعيد بن المسيب، وكان سفيان لا يشك أنه ابن المسيب رحمه الله.

(3/1120)


قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: وأما في ظاهر القرآن فإن الله - عزَّ وجلَّ يقول: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) الآية.
قلت: أفبالقذف قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) الآية.
أم بالجلد؟
قال: بالجلد عندي.
قلت: وكيف كان ذلك عندك والجلد إنما وجب بالقذف؟ ..
وقلت له: إذ قال اللَّه - عز وجل -: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) الآية.
فكيف جاز لك أو لأحد أن تكلف من العلم شيئاً أن يقول: لا أقبل شهادة القاذف وإن تاب؟!
الأم (أيضاً) : باب (الخلاف في إجازة شهادة القاذف) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فخالفنا بعض الناس في القاذف، فقال: إذا ضرب
الحد ثم تاب لم تجز شهادته أبداً، وإن لم يضرب الحد، أو ضربه ولم يوفه جازت شهادته، فذكرت له ما ذكرت من معنى القرآن والآثار، فقال: فإنا ذهبنا إلى قول الله - عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا)
فقلنا: نطرح عنهم اسم الفسق ولا نقبل لهم شهادة.
فقلت: لقائل هذا أو تجد الأحكام عندك فيما يستثنى على ما وصفت فيكون مذهباً ذهبتم في اللفظ، أم الأحكام عندك في الاستثناء على غير ما وصفت؟!
فقال: أوضِح هذا لي.
قلت: أرأيت رجلاً لو قال: والله لا أكلمك أبداً.
ولا أدخل لك بيتاً، ولا آكل لك طعاماً، ولا أخرج معك سفراً، وإنك لغير حميد عندي، ولا أكسوك ثوباً - إن شاء الله تعالى - أيكون الاستثناء واقعاً على ما بعد قوله: (أَبَداً) ، أو على ما بعد غير حميد عندي، أو على الكلام كله؟

(3/1121)


قال: بل على الكلام كله.
قلت: فكيف لم توقع الاسثئناء في الآية على الكلام كله.
وأوقعتها في هذا الذي هو أكثر في اليمين على الكلام كله!.
الرسالة: باب (الفرائض التي أنزل الله نصًّا) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فالمحصنات هاهنا: البوالغ، الحرائر، وهذا يدل
على أن الإحصان اسم جامع لمعاني مختلفة.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
الأم: الكلام الذي ينعقد به النكاح وما لا ينعقد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) الآية.
وفي هذا - وغيرها من الآيات التي أوردها الشَّافِعِي في أول الباب - دلالة على

(3/1122)


أن لا يجوز نكاح إلا باسم النكاح أو التزويج، ولا يقع بكلام غيرهما وإن
كانت معه نية التزويج.
الأم (أيضاً) : الخلاف في طلاق المختلعة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فخالفنا بعض الناس في المختلعة فقال: إذا طُلقَت
في العدة لحقها الطلاق، قال - أي: المخالف - وأين الحجة من القرآن؟
قلت: قال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) إلى آخر الآيتين.
الأم (أيضاً) : اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) الآية.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)
إلى: (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الآيات.
فلما حكم الله في الزوج القاذف بأن يلتعن، دل ذلك على أن اللَّه إنما أراد بقوله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) الآية، القَدفةَ غير الأزواج. ..
ثم قال: كانت الآية في اللعان كذلك - واللَّه تعالى أعلم - عامة على
الأزواج القَذفةِ، فكان كل زوج قاذف يلاعن، أو يحد، إن كانت المقذوفة ممن لها حد أو لم تكن، لأن على من قذفها إذا لم يكن لها حدٌّ تعزيراً، وعليها حدٌّ إذا لم تلتعن بكل حال؛ لأنه لا افتراق، بين عموم الآيتين معاً.

(3/1123)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: لاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين بما حكم الله - عز وجل - في القرآن، وقد حكى من حضر اللعان في اللعان ما احتيج إليه مما ليس في القرآن منه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإذا لاعن الحاكم بين الزوجين، وقال للزوج: قل:
(أشهدُ بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا) ، ثم ردها عليه حتى يأتي
بها أربع مرات، فإذا فرغ من الرابعة وقفه وذكره، وقال: (اتق الله تعالى أن تبوء بلعنة الله فإن قولك: إن لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا موجبة توجب عليك اللعنة إن كنت كاذباً، فإن وقف كان لها عليه الحد إن قامت به، وإن حلف لها فقد أكمل ما عليه من اللعان) .
وينبغي أن يقول للزوجة فتقول: (أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به
من الزنا حتى تقولها أربعاً، فإذا أكملت أربعاً وقفها وذكرها، وقال:
(اتقي الله واحذري أن تبوئي بغضب الله، فإن قولك: (عليَّ غضب الله إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا) ، يوجب عليك غضب الله إن كنت كاذبة، فإن مضت فقد فرغت مما عليها، وسقط الحد عنها، وهذا الحكم عليهما، واللَّه ولي أمرهما فيما غاب عما قالا، فإن لاعَنَها بإنكار ولد أو حَبَل قال: أشهدُ بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وإن ولدها هذا، أو حَبَلَها هذا - إن كان حبلاً لمِن زنا، ما هو مني، ثم يقولها في كل شهادة، وفي قوله؛ وعليَّ لعنةُ الله حتى تدخل مع حَلِفِه على صدقه على الزنا؛ لأنه قد رماها بشيئين بزنا وحمل أو ولد ينفيه، فلما ذكر الله - عزَّ وجلَّ الشهادات أربعاً ثم فصل بينهن باللعنة في الرجل.

(3/1124)


والغضب في المرأة، دل ذلك على حال افتراق الشهادات في اللعنة والغضب، واللعنة والغضب بعد الشهادة موجبتان على من أوجب عليه، لأنه متجرئ
على النفي، وعلى الشهادة بالله تعالى باطلاً، ثم يزيد فيجترئ على أن يلتعن، وعلى أن يدعو بلعنة اللَّه، فينبغي للوالي إذا عرف من ذلك ما جهلا، أن
يفقههما، نظراً لهما، استدلالاً بالكتاب والسنة.
أخبرنا ابن عيينة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لاعن بين المتلاعنين أمر رجلاً أن يضع يده على فيه في الخامسة، وقال: إنها موجبة" الحديث. -
ثم ذكر حديث ملاعنة عويمر العجلاني وزوجته عند النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)
إلى: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) الآية، فكان الزوج رامياً قال: رأيتُ أو علمتُ بغير
رؤية، فلما قُبِلَ منه ما لم يقل فيه، من القذف، رأيت يلاعن به، بأنه داخل في جملة القَذفةِ غير خارج منهم إذا كان إنما قبل في هذا قوله، وهو غير شاهد لنفسه قبل قوله، إن هذا الحمل ليس مني، وإن لم يذكر استبراء قبل القذف لا اختلاف بين ذلك.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد يكون استبرأها، وقد علقت من الوطء قبل
الاستبراء، ألا ترى أنه لو قال وقالت: قد استبرأني تسعة أشهر حضت فيها

(3/1125)


تسع حيض، ثم جاءت بعد بولد لزمه، وإن الولد يلزمه بالفراش، وإن الاستبراء لا معنى له ما كان الفراش قائماً، فلما أمكن أن يكون الاستبراء قد كان، وحَمْلٌ قد تقدمه، فأمكن أن يكون قد أصابها، والحمل من غيره، وأمكن أن يكون كاذباً في جميع دعواه للزنا، ونفي الولد، وقد أخرجه اللَّه من الحد باللعان.
ونفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه الولد، استدللنا على أن هذا كله إنما هو بقوله، ولما كنا إذا كذب نفسه حددناه وألحقنا به الولد، استدللنا على أن نفي الولد بقوله، ولو كان نفي الولد لا يكون إلا بالاستبراء، فمضى الحكم بنفيه لم يكن له أن يُلْحِقه
نفسه، لأنه لم يكن بقوله فقط دون الاستبراء، والاستبراء غير قوله، فلما قال اللَّه تبارك وتعالى بعد ما وصف من لعان الزوج: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) الآية.
استدللنا على أن اللَّه - عز وجل - أوجب عليها العذاب.
والعذاب: الحد، لا تحتمل الآية معنى غيره - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضاً) : الخلاف في اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -:
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) الآية.
فلم يجز أن يلاعن من لا شهادة له؛ لأن شرط الله - عز وجل -
في الشهود العدول، وكذلك لم يجز المسلمون في الشهادة إلا العدول.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قول الله تبارك وتعالى - من بعد ذكره التعان
الزوج -: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) الآية.
فكان بيناً غير مشكل - واللَّه أعلم - في الآية أنها تدرأ عن نفسها بما لزمها إن لم تلتعن بالالتعان.

(3/1126)


الأم (أيضاً) : الخلاف في هذا الباب - أي: في أحكام الطلاق والإيلاء والظهار واللعان والإرث -:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد حكم اللَّه بين الزوجين أحكاماً - منها -: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أفرأيت المطلق ثلاثاً إن آلى منها في العدة أيلزمه
الإيلاء؟
قال: لا.
قلت: فإن تظاهر أيلزمه الظهار؟
قال لا.
قلت: فإن قذف أيلزمه اللعان؟ أو مات أترثه؟ أو ماتت أيرثها؟
قال: لا.
قلت: فهذه الأحكام التي حكم الله - عزَّ وجلَّ بها بين الزوجين تدل، على أن الزوجة المطلقة ثلاثاً ليست بزوجة وإن كانت تعتد؟!.
الأم (أيضاً) : الظهار:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا تظاهر من أمته - أم ولد كانت أو غير أم
ولد - لم يلزمه الظهار. . وكذلك قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ)
وليست من الأزواج، فلو رماها - أي: وهو مظاهر منها - لم يلتعن.
لأنا عقلنا عن الله - عز وجل - أنها ليست من نسائنا، وإنَّما نساؤنا أزواجنا، ولو جاز أن يُلزم - أي: القاضي - واحداً من هذه الأحكام لزمها كلها؛ لأن ذكر اللَّه - عز وجل - لها واحد.

(3/1127)


الأم (أيضاً) : كتاب اللعان:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا قذف الرجل زوجته؛ فلم تطلب الحد حتى
فارقها، أو لم يفارقها، ولم تعفِه، ثم طلبته التعن، أو حُدَّ إذا أبى أن يلتعن.
وكذلك لو ماتت كان لوليها أن يقوم به فيلتعن الزوج أو يحد، وقال اللَّه تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)
إلى قوله: (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فكان بيناً في كتاب الله - عزَّ وجلَّ أن اللَّه أخرج الزوج من قذف المرأة بشهادته: (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)) الآية.
كما أخرج قاذف المحصنة غير الزوجة بأربعة شهود يشهدون عليها بما قذفها به من الزنا، وكانت في ذلك دلالة: أن ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطلب المرأة المقذوفة حدها، وكما ليس على قاذف الأجنبية حدٌّ حتى تطلب حدها.
الأم (أيضاً) : ما يكون قذفاً وما لا يكون:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا لعان حتى يقذف الرجل امرأته بالزنا صريحاً.
لقول اللَّه - عز وجل -: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) الآية.
قال: فإذا فعل فعليه اللعان إن

(3/1128)


طلبته، وله نفي ولده وحمله، إذا قال هو من الزنا الذى رميتها به، ولو ولدت ولداً فقال: ليس بابني، أو رأى حَمْلاً فقال: ليس مني، ثم طلبت الحد فلا حدَّ ولا لعان حتى يَقِفَهُ في الولد، فيقول: لم قلت هذه؟
فإن قال: لم أقذفها، ولكنها لم تلده أو ولدته من زوج غيري قبلي.
وقد عرف نكاحها، فلا يلحقه نسبه إلا أن ئاتي بأربع نسوة يشهدن أنها ولدته وهي زوجته في وقت يعلم أنها كانت فيه
زوجته، يمكن أن تلد منه عند نكاحها في أقل ما يكون من الحمل أو أكثره، فإن لم يكن لها أربع نسوة يشهدن، فسألت يمينه ما ولدته وهي زوجته، أو ما ولدته في الوقت الذي إذا ولدته فيه لحقه نسبه، أحلفناه، فإن حلف برئ، وإن نكل أحلفناها، فإن حلفت لزمه، وإن لم تحلف لم يلزمه.
الأم (أيضاً) : المدَّعي والمدَّعَى عليه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: نال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) إلى قوله: (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الآيات.
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: فبين - واللَّه أعلم - في كتاب اللَّه - عز وجل - أن كل زوج - قد - يلاعن زوجته؛ لأن اللَّه - عز وجل - ذكر الزوجين مطلقين، لم يخص أحداً من الأزواج دون غيره، ولم تدل سنة، ولا أثر، ولا إجماع من أهل العلم على أن ما أريد بهذه الآية بعض الأزواج دون بعض.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: إن التعن الزوج، ولم تلتعن المرأة حُدَّت إذا أبت أن
تلتعن، لقول اللَّه - عز وجل -: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ) الآية، فقد أخبر - واللَّه أعلم - أن العذاب كان عليها إلا أن تدرأه باللعان، وهذا ظاهر حكم اللَّه جل وعز.

(3/1129)


قال الشَّافِعِي رحمه اثه: وقال اللَّه - عز وجل -: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) .
وإذا رمى المختلعة في العدة أيلاعنها؟
قال - أي: المحاور -: لا.
قلت - أي: الشَّافِعِي رحمه اللَّه -: أفبالقرآن تبين أنها
ليست بزوجة؟
قال نعم.
الأم (أيضاً) : باب (ما يجب فيه اليمين) :
قال الشَّافِعِي رحمه اثه: وقال اللَّه تعالى في الزوج: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) إلى قوله: (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الآيات.
فحكم اللَّه - عز وجل - على القاذف غير الزوج بالحد ولم يجعل له
مخرجاً منه إلا بأن يأتي بأربعة شهداء، وأخرج الزوج من الحد بأن يحلف أربعة
أيمان ويلتعن بخامسة، ويسقط عنه الحد، ويلزمها - أي: الحد - إن لم تخرج أربعة أيمان والتعانها، وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينفي الولد والتعانه، وسن بينهما الفرقة، ودرأ اللَّه تعالى عنها الحد بالإيمان مع التعانه.
الأم (أيضاً) : باب (إبطال الاستحسان) :
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: وقال الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ)
وقال - عز وجل -: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) الآية.
فحكم بالأيمان بينهما؛ إذا كان الزوج يعلم من المرأة ما لا يعلمه الأجنبيون، ودرأ عنه وعنها بها، على أن أحدهما كاذب، وحكم في الرجل يقذف غير زوجته أن يحدَّ.

(3/1130)


إن لم يأت بأربعة شهداء على ما قال، ولاعَنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين العجلاني وامرأته بنفي زوجها - لولدها -، وقذفها بشَريكِ بن السحمَاء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"انظروها فإن جاءت به - يعنى: الولد - أسحم أدعج عظيم الإليتين فلا
أراه إلا صدق"
وتلك صفة شريك الذي قذفها به زوجها، وزعم أن حملها منه.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة، فلا أراه إلا - قد - كذب عليها"
وكانت تلك الصفة، صفة زوجها، فجاءت به يشبه شريك بن السحماء.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إن أمره لَبيِّنٌ لولا ما حكم الله." الحديث.
أي: لكان لي فيه قضاء غيره، - والله أعلم -: لبيان الدلالة بصدق زوجها.
الأم (أيضاً) : باب (اليمين مع الشاهد) :
قال الشافعي - رحمه الله -: وقول الله - عزَّ وجلَّ في المتلاعنين:
(فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) .. الآيتان.
فاستدللنا بكتاب الله - عزَّ وجلَّ على تأكيد اليمين على الحالف
في الوقت الذي تعظم فيه اليمين بعد الصلاة، وعلى الحالف في اللعان بتكرير
اليمين، وقوله: (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) الآية.
الأم (أيضاً) : ما يكون بعد التعان الزوح: (من الفرقة، ونفي الولد، وحدِّ المرأة) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ومتى التعن الزوج، فعليها أن تلتعن فإن أبت
حُدَّت، وإن كانت حين التعن الزوج حائضاً، فسأل الزوج أن تؤخر حتى تدخل

(3/1131)


المسجد، لم يكن ذلك عليها، وأحلفت بباب المسجد، فإن كانت مريضة لا تقدر على الخروج، أحلفت في بيتها.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن امننعت من اليمين وهي مريضة فكانت ثيباً
رجمت، وكذلك إن كان في يوم بارد أو ساعة صائفة؛ لأن القتل يأتي عليها.
وإن كانت بكراً لم تحد حتى تصح، وينقص البرد والحر ثم تحد، وإنما قلت
تحد إذا التعن الزوج لقول اللَّه تعالى: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) الآية.
والعذاب: الحد، فكان عليها أن تحد إذا التعن الزوج، ولم تدرأ عن نفسها بالالتعان، ولو غابت أو عَتِهَت أو غُلبت على عقلها، فإذا حضرت وثاب إليها عقلها التعنت، فإن لم تفعل حدَّت، وإن لم يثب إليها عقلها فلا حد ولا التعان؛ لأنها ليست ممن عليها الحدود.
الأم (أيضاً) : باب (رد اليمين) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: - في الرد على من حبس المرأة ولم يقم الحد عليها
إذا أبت أن تلتعن -: فكيف زعمتم أنكم إن لاعنتم بين زوجين فالتعن الزوج، وأبت المرأة تلتعن حبستموها، ولم تحدوها، والقرآن يدل على إيجاب الحد عليها.
لأن اللَّه - عز وجل - يقول: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) الآية.
فبين - واللَّه أعلم - أن العذاب لازم لها، إذا التعن الزوج، إلا أن تشهد.
ونحن نقول ئحذ إن لم تلتعن، وخالفتم أصل مذهبكم فيه.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ووجدنا حكم القرآن كما وصفت من أن يقام الحد
على المرأة إذا نكلت، وحلف الزوج، لا إذا نكلت فقط اتباعاً وقياساً، بل

(3/1132)


وجدتها لا يختلف الناس في أن لا حدَّ عليها إلا ببينة تقوم، أو اعتراف، وأن لو عُرضَت عليها اليمين فلم تلتعن، لم تحد بترك اليمين، وإذا حلف الزوج قبلها، ثم لم تحلف، فاجتمعت يمين الزوج المدافع عن نفسه الحد والولد الذي هو خصم يلزمه دون الأجنبي، ونكولها عما ألزمها التعانه وهو يمينه حدَّت، بالدلالة لقول الله - عزَّ وجلَّ: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) الآية.
مختصر المزني: مختصر من الجامع من كتابي لعان جديد وقديم:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولو قال لها: يا زانية بنت الزانية، وأمها حرة
مسلمة، فطلبت حد أمها يكن لها، وحُد لأمها إذا طلبته أو وكيلها، والتعن
لامرأته، فإن لم يفعل يحبس حتى يبرأ جلده - أي: من الحد الأول - فإذا برأ
حُدَّ إلا أن يلتعن، ومتى أبى اللعان فحددته إلا سوطاً، ثم قال: أنا ألتعن قبلتُ رجوعه، ولا شيء له فيما مضى من الضرب، كما يفذف الأجنبية ويقول: لا آتي شهود فيضرب بعض الحد، ثم يقول: أنا آتى بهم فيكون ذلك له، وكذلك المرأة إذا لم تلتعن، فضربت بعض الحد، ثم تقول: أنا ألتعن قبلنا، وقال قائل: كيف لاعنت بينه وبين منكوحة نكاحاً فاسداً بولد، واللَّه يقول: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) الآية.
فقلت له: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"الولد للفراش وللعاهر الحجر" الحديث.
فلم يختلف المسلمون أن مالك الإصابة بالنكاح الصحيح، أو ملك اليمين قال: نعم.
هذا للفراش. قلت: والزنا، لا يلحق به النسب ولا يكون به مهر، ولا يدرأ فيه حد؟
قال: نعم.

(3/1133)


مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على حفظ الشَّافِعِي لكتاب الله ومعرفته
بالقراءات) :
وأخبرنا محمد بن عبد اللَّه قال: أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن الدارمي
قال: حدثنا عبد الرحمن (يعني: ابن محمد الحنظلي) قال: حدثنا الربيع بن
سليمان قال: قُرِئ على الشَّافِعِي؛ (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ) الآية، فقال: ليس هكذا
اقرأ إقراءً: (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ) و (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ) الآيتان.
الزاهر باب (اللعان) :
قال الأزهري رحمه الله: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ) الآية.
معناها: والذين يرمون بالزنا.
وقوله: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) الآية.
وتقرأ: (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) بالنصب.
فمن رفع: (أَرْبَعُ) فقوله: (وَالذِين) ابتداء، و (أَرْبَعُ) خبر الابتداء
الذي قبله، وهو قوله: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) ويكونان معاً يسدان مسد خبر
الابتداء الأول، وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) .
ومن نصب: (أَرْبَعَ) فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات
بالله، وإن شئت قلت: إنه على معنى: فالذي يدرأ عنهم العذاب أن يشهد
أحدهم أربع شهادات بالله، ومعنى الشهادات: الأيمان.
وإنما قيل لهذا الحكم: (لعان) لما عقب الأيمان من اللعنة والغضب، إن كانا كاذبين.
وأصل اللعن: الطرد والإبعاد..

(3/1134)


قال الله عزَّ وجلَّ: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
الأم: الشهادة في الزنا:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى في القَذفَةِ: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) .
فلا يجوز في الزنا الشهود أقل من أربعة، بحكم الله - عزَّ وجلَّ، ثم بحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا لم يكملوا أربعة فهم قَذفَة، وكذلك حكم عليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجلدهم جلد القذفة، ولم أعلم بين أحد لقيته ببلدنا اختلافاً فيما وصفت، من أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة، وأنهم إذا لم يكملوا أربعة حُدُّوا حدَّ القذف، وليس هكذا شيء من الشهادات غير شهود الزنا.
الأم (أيضاً) : الشهادات:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: قال إلله تبارك وتعالى: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) .
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فالكتاب والسنة يدلان على أنه لا يجوز في الزنا
أقل من أربعة، والكتاب يدل على أنه لا تجوز شهادة غير عدل، والإجماع يدل على أنه لا يجوز إلا شهادة عدل، حر، بالغ، عاقل لما يشهد عليه.

(3/1135)


الأم (أيضاً) : باب (الإشهاد عند الدفع إلى اليتامى) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: ما دل على أن لا يقطع الحكم في
الزنا بأقل من أربعة شهداء؟
قيل له: الآيتان من كتاب الله - عزَّ وجلَّ يدلان على ذلك.
قال الله - عزَّ وجلَّ في القذفة: (لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) الآية.
يقول: لولا جاؤوا على من قذفوا بالزنا بأربعة شهداء بما قالوا، وقول الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) الآية.
ودل على ذلك مع الاكتفاء بالتنزيل، السنة، ثم الأثر، ثم الإجماع.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)
مناقب الشَّافِعِي: باب (ما يستدل به على معرفة الشَّافِعِي بأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفرض الله على العينين أن لا ينظر بهما إلى ما
حرم الله، وأن يغضيهما عما نهاه، فقال تبارك وتعالى في ذلك:

(3/1136)


(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) الآيتين.
أن ينظر أحدهم إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه من أن يُنظر إليه.
وقال كل شيء من حفظ الفرج في كتاب اللَّه، فهو من الزنا إلا هذه الآية، فإنها من النظر.
فذلك ما فرض الله على العينين من غض البصر، وهو عملهما، وهو من الإيمان.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
الأم: نكاح المحدودين:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن ابن
المسيب في قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: هي منسوخة، نسختها: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ)
الآية، فهي من أيامى المسلمين.
الأم (أيضاً) : ما يجب من إنكاح العبيد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال الله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) الآية.
فدلت أحكام اللَّه تعالى، ثم رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ملك للأولياء، آباء كانوا أو غيرهم على أياماهم، وأياماهم: الثيبات.

(3/1137)


الأم (أيضاً) : ما جاء في أمر النكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه تبارك وتعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والأمر في الكتاب والسنة، وكلام الناس، يحتمل
معاني:
أحدها: أن يكون اللَّه - عز وجل - حرم شيئاً ثم أباحه، فكان أمره إحلال ما حرم كقول اللَّه - عز وجل -: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) الآية.
ثانيها: ويحتمل أن يكون دلهم على ما فيه رشدهم بالنكاح، لقوله - عز وجل -: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية.
يدل على ما فيه سبب الغنى والعفاف. ..
قال الشَّافِعِي رحمه الله تعالى: بلغنا أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: ما رأيت مثل من ترك النكاح بعد هذه الآية: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية.
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أن ابن
عمر رضي اللَّه عنهما أراد أن لا ينكح، فقالت له حفصة (أم المؤمنين رضي اللَّه عنها) تزوج فإن ولد لك ولد فعاش من بعدك، دَعوا لك.

(3/1138)


قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)
الأم: المكاتب:
أخبرنا الربيع بن سليمان قال:
أخبرنا الشَّافِعِي رحمه الله قال: قال الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) الآية.
أخبرنا عبد الله بن الحارث بن عبد الملك عن ابن جريج، أنه قال لعطاء ما
الخير؛ المال أو الصلاح أو كل ذلك؛ قال: ما نراه إلا المال.
فإن لم يكن عنده مال وكان رجل صدق؛ قال: ما أحسب خيراً إلا ذلك المال)
قال مجاهد: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) : المال، كائنة أخلاقهم وأديانهم ما كانت.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: والخير كلمة يعرف ما أريد منها بالمخاطبة بها -
وضرب أمثلة على ذلك -.

(3/1139)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: فلما قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية.
كان أظهر معانيها بدلالة ما استدللنا به من الكتاب:
1 - قوة على اكتساب المال.
2 - وأمانة؛ لأنه قد يكون قوياً فيكسب، فلا يؤدي إذا لم يكن ذا أمانة.
وأميناً فلا يكون قوياً على الكسب فلا يؤدي.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ولا يجوز عندي - واللَّه تعالى أعلم - في قوله:
(إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) إلا هذا.
ثم قال: والعبد والأمة البالغان في هذا سواء كانا ذوي صنعة أو غير - ذي
صنعة، إذا كان فيهما قوة على الاكتساب والأمانة - وبسط الكلام في ذلك -.
الأم (أيضاً) : ما يجب على الرجل يكاتب عبده قوياً أميناً:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وفي قول اللَّه - عز وجل -: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية.
دلالة على أنه إنما أذن أن يكاتب من يعقل.
لا من لا يعقل، فأبطلت أن تبتغي الكتاب من صبي ولا معتوه ولا غير بالغ
بحال، وإنَّما أبطلنا كتابة غير البالغين والمغلوبين على عقولهم، كاتبوا عن أنفسهم.
أو كاتب عنهم غيرهم، بهذه الآية.
الأم (أيضاً) : ما يعتق به المكاتب:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: فإن اللَّه - عز وجل - يقول: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) الآية.
قيل: هذا مما أحكم اللَّه - عز وجل - جملته، إباحة الكتابة
بالتنزيل فيه، وأبان أن إعتاق العبد إنما يكون بإعتاق سيده إياه.

(3/1140)


الأم (أيضاً) : تفسير قوله - عز وجل -: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإذا أدَّى المكاتب الكتابة كلها، فعلى السيد أن يردَّ
عليه منها شيئاً، فإن مات فعلى ورثته، ولو أراد أن يعطيه ورقاً من ذهب أو
ورقاً من شيء كاتبه عليه، لم يجبر العبد على قبوله، إلا أن يشاء ويعطيه مما أخذ منه؛ لأن قوله: (مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) الآية، يشبه - واللَّه تعالى أعلم - آتاكم منه، فإذا أعطاه شيئاً غيره، فلم يعطه من الذي أمر أن يعطيه، ألا ترى أني لا أجبر أحداً له حق في شيء أن يعطاه من غيره؟
الأم (أيضاً) : كتاب (الصداق) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية.
فأمر الله الأزواج بأن يؤتوا النساء أجورهن وصدقاتهن.
والأجر: هو الصداق، والصداق: هو الأجر والمهر.
الأم (أيضاً) : باب (الاستمناء) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: في قول الله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية.
معناها - والله أعلم -: ليصبروا حتى يغنيهم اللَّه تعالى.

(3/1141)


الأم (أيضاً) : ما جاء في عدد ما يحل من الحرائر والإماء، وما تحل به الفروج:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وإن لم تختلف الناس في تحريم ما ملكت من
البهائم، فلذلك خفت أن يكون الاستمناء حراماً من قِبَلِ أنه ليس من الوجهين اللذين أبيحا للفرج.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن ذهب ذاهب إلى أن يحله لقول اللَّه تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية.
فيشبه أن يكونوا إنما أمروا بالاستعفاف عن أن يتناول المرء بالفرج ما لم يبح له به، فيصبر إلى أن يغنيه الله من فضله، فيجد السبيل إلى ما أحل - واللَّه أعلم -.
الأم (أيضاً) : باب (ما يستحب من تحصين الإماء عن الزنا) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل -:
(وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) الآية.
فزعم بعض أهل العلم بالتفسير أنها نزلت في رجل قد
سماه، له إماء يكرههن على الزنا ليأتينه بالأولاد فيتخولهن، وقد قيل نزلت قبل حد الزنا - واللَّه أعلم -.
فإن كانت نزلت قبل حد الزنا، ثم جاء حد الزنا، فما قبل الحدود منسوخ
بالحدود، وهذا موضوع في كتاب الحدود، وإن كانت نزلت بعد حد الزنا فقد قيل: إن قول الله - عز وجل - (فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآية، نزلت في الإماء المكرهات، أنه مغفور لهن بما أكرهن عليه.
وقيل غفور، أي: هو أغفر وأرحم من أن يؤاخذهن بما أكرهن عليه، وفي هذا كالدلالة على إبطال الحد

(3/1142)


عنهن إذا أكرهن على الزنا، وقد أبطل اللَّه تعالى عمن أكرهِ على الكفر، الكفرَ.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما وضع اللَّه عن أمته:
"وما استكرهوا عليه".
آداب الشافعى: ما في الزكاة والسير والبيوع والعتق والنكاح والطلاق) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)
الآية، تخيير أيضاً: مجتمع عليه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
مناقب الشافعى: باب (ما جاء في خروجه إلى اليمن ومقامه فيها، ثم في حمله
من اليمن إلى هارون الرشيد) :
جاء في موعظة الشَّافِعِي رحمه الله لهارون الرشيد ما يلي:
". . . أما لو اعتبرت بما سلف، واستقبلت الحسن المُؤتنَف، فنظرت
ليومك، وقدمت لغدك، وقصرت أملك، وصورت بين عينيك اقتراب أجلك.
واستقصرت مدة الدنيا، ولم تغتر بالمهلة لما امتدت إليك يد الندامة، ولا
ابتدرتك الحسرات غداً في القيامة، ولكن ضرب عليك الهوى رُواق الحيرة

(3/1143)


فتركك، وإذا بدت لك يد موعظة لم تكد تراها: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) .
قال: فبكى هارون الرشيد حتى بل منديلاً كان بين يديه، وعلا شهيقه
وانتحابه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
الرسالة: باب (ما أمر الله من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: - بعد أن سرد الآيات (48 - 52) قال: فأعلم الله
الناس في هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله ليحكم بينهم، دعاء إلى حكم الله - عز وجل - لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول الله، فإنما سلموا لحكمه بفرض اللَّه.
وأنه أعلمهم أن حُكمَه حُكُمُه على معنى افتراضه حكمه، وما سبق في
علمه جل ثناؤه من إسعاده بعصمته وتوفيقه، وما شهد له به من هدايته واتباعه أمره.

(3/1144)


فأحكم - سبحانه وتعالى - فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله، وإعلامهم أنها
طاعته، فجمع لهم أن أعلمهم أن الفرض عليهم اتباع أمره، وأمر رسوله، وأن طاعة رسوله طاعته، ثم أعلمهم أنه فرض على رسوله اتباع أمره جل ثناؤه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)
قرأ الربيع الآية (إلى نهايتها)
الأم: مبتدأ التنزيل والفرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم على الناس:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ففرض اللَّه تعالى عليه - أي: على رسوله - صلى الله عليه وسلم - إبلاغهم وعبادته ولم يفرض عليه قتالهم، وأبان ذلك في غير آية من كتابه، ولم يأمره بعزلتهم - منها - وقوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) الآية.
قرأ الربيع الآية إلى نهايتها.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
مختصر المزني: المقدمة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)
فكان ظاهر مخرج الآية بالزكاة عاماً يراد به الخاص، بدلالة سنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

(3/1145)


على أن من أموالهم ما ليس فيه زكاة، وأن منها مما فيه الزكاة، ما لا يجب فيه الزكاة، حتى يبلغ وزناً، أو كيلاً، أو عدداً، فإذا بلغه كانت فيه الزكاة، ثم دل على أن من الزكاة شيئاً يؤخذ بعدد، وشيئاً يؤخذ بكيل، وشيئاً يؤخذ بوزن.
وأن منها ما زكاته خُمْس، وعُشر، ورُبع عُشر، شيء بعدد.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
الأم: فيمن تجب عليه الصلاة:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: ذكر الله تبارك وتعالى الاستئذان فقال في سياق
الآية: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) الآية،. ..
وفرض الله - عز وجل - الجهاد، فأبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به على من استكمل خمس عشرة سنة، بأن أجاز
ابن عمر رضي اللَّه عنهما عام الخندق ابن خمس عشرة سنة، ورده عام أحد ابن أربع عشرة سنة، فإذا بلغ الغلام الحلم، والجارية المحيض - غير مغلوبين على عقولهما - وجبت عليهما الصلاة والفرائض كلها، وإن كانا ابني أقل من خمس عشرة سنة، وجبت عليهما الصلاة، وأمر كل واحد منهما بالصلاة إذا عقلها، فإذا لم يعقلا لم يكونا كمن تركها بعد البلوغ، وأؤدبهما على تركها أدباً خفيفاً.

(3/1146)


الأم (أيضاً) : كتاب (الحج) ، باب (فرض الحج على من وجب عليه الحج)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه جل ذكره: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية.
يعني: الذين أمرهم بالاستئذان من البالغين، فأخبر أنهم إنما يثبت عليهم الفرض في ايذانهم في الاستئذان إذا بلغوا.
الأم (أيضاً) : من لا يجب عليه الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل - إذ أمر بالاستئذان -: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية، فأعلم أن فرض الاستئذان إنما هو على البالغين. . .، ودلت السنة، ثم ما لم أعلم فيه مخالفاً من أهل العلم على مثل ما وصفت.
الأم (أيضاً) : سير الواقدي:
أخبرنا الربيع قال:
أخبرنا الشَّافِعِي - رحمه الله - قال: أصل فرض الجهاد والحدود على البالغين
من الرجال، والفرائض على البوالغ من النساء المسلمين، في الكتاب والسنة من موضعين، فأما الكتاب فقول اللَّه تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الآية.
فأخبر أن عليهم إذا بلغوا الاستئذان فرضاً، كما كان على من قبلهم من البالغين. -
ثم ذكر الموضع الثاني، الآية / 6 من سورة النساء -.

(3/1147)


الأم (أيضاً) (من لا يقع طلاقه من الأزواج)
قال الشافعي رحمه الله: يقع طلاق من لزمه فرض الصلاة والحدود، وذلك
كل بالغ من الرجال غير مغلوب على عقله؛ لأنه إنما خوطب بالفرائض من
بلغ؛ لقول اللَّه تعالى: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) الآية.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
الأم: ما جاء في أمرالنكاح:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقد ذكر اللَّه القواعد من النساء، فلم ينههن عن
القعود، ولم يندبهن إلى نكاح، فقال: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب (صلاة المسافر) :
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: فكان بيناً في كتاب الله تعالى أن قصر الصلاة في الضرب في الأرض والخوف، تخفيف من اللَّه - عز وجل - عن خلقه، لا أن فرضاً عليهم أن يقصروا، وكما كان قوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) الآية.
وزاد في أحكام القرآن قوله: فلو لبسن ثيابهن ولم يضعنها، ما أثِمْنَ.

(3/1148)


مختصر المزنى: الترغيب (في النكاح وغيره من الجامع) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: اوقد ذكر الله تعالى: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الآية.
ولم يندبهن إلى النكاح، فدل أن المندوب إليه من يحتاج إليه.
الزاهر باب (في النكاح) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله،: وذكر اللَّه: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الآية، وهن
اللواتي لا يرجون نكاحاً، والواحدة (قاعد) - بغير هاء - وهي التي قعدت عن الزواج، أي: لا تريده، ولا ترجوه.
وقيل: القواعد: اللائي قعدن عن الحيض.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)
الأم: باب (صلاة المسافر) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وكما كان قوله تعالى: (وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الآية.
لا أن حتماً عليهم أن يأكلوا من بيوتهم، ولا بيوت غيرهم - أي: رخصة لهم بالأكل مما ذكر في الآية -.

(3/1149)


الأم (أيضاً) : من له عذر بالضعف والمرض والزمانه في ترك الجهاد:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: قال اللَّه - عز وجل - في الجهاد: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقيل الأعرج: المقعد، والأغلب: أنه الأعرج في
الرجل الواحدة، وقيل: نزلت في أن لا حرج أن لا يجاهدوا.
وهو أشبه ما قالوا.
وغير محتمل غيره، وهم داخلون في حد الضعفاء، وغير خارجين من فرض
الحج ولا الصلاة ولا الصوم ولا الحدود، ولا يحتمل - والله تعالى أعلم - أن يكون أريد بهذه الآية، إلا وضع الحرج في الجهاد دون غيره من الفرائض.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)
الرسالة: بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -:
قال الشَّافِعِي - رحمه الله -: وقال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)
فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله ثم رسوله.

(3/1150)


فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً، حتى
يؤمن برسوله معه وهكذا سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل من امتحنه للإيمان.
أخبرنا مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم
قال: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجارية، فقلت: يا رسول الله، عليَّ رقبة، أفأعتقها؟
فقال لها رسول الله: أين الله؟
فقالت في السماء.
فقال: ومن أنا؟
قالت: أنت رسول الله.
قال: فأعتقها" الحديث.
وقال الشَّافِعِي رحمه الله: وهو (معاوية بن الحكم) وكذلك رواه غير مالك.
وأظن مالك لم يحفظ اسمه.
* * *
قال الله عزَّ وجلَّ: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)
الأم: ما جاء في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال الله تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: افترض الله - عزَّ وجلَّ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها - إن شاء الله - قربة إليه وكرامة، وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته وتبييناً لفضيلته مع ما لا يحصى من كرامته له، وهي موضوعة في مواضعها.

(3/1151)


الأم (أيضاً) : باب (نكاح الولاة والنكاح بالشهادة)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: لا على أن لأحدٍ من الآدميين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرده عنه إذا عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأمر به والنهي عنه، ألا ترى إلى قول الله - عزَّ وجلَّ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الآية.
الأم (أيضاً) : باب في (الأقضية)
قال الشَّافِعِي رحمه - الله: وقال اللَّه تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
فعلم أن الحق كتاب - الله، ثم سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -
فليس لمفتٍ ولا لحاكم أن يفتي ولا يحكم حتى يكون عالماً بهما، ولا أن يخالفهما، ولا واحداً منهما بحال، فإذا
خالفهما فهو عاص لله - عز وجل -، وحكمه مردود، فإذا لم يوجدا منصوصين فالاجتهاد.
الأم (أيضاً) : باب (حكاية الطائفة التي ردت الأخبار كلها)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الآية.

(3/1152)


قال الشَّافِعِي رحمه الله: ما من شيء أولى بنا أن نقوله في الحكمة: من أنها
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، ولو كان بعض ما قال أصحابنا: أن اللَّه أمر بالتسليم لحكم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وحكمته: إنما هو مما أنزله، لكان من لم يُسلم له - بأن ينسب إلى
- أنه كفر بآيات اللَّه أولى منه بأن ينسب إلى ترك التسليم لحكم رسول اللَّه
- صلى الله عليه وسلم -.
الأم (أيضاً) : سهم الفارس والراجل وتفضيل الخيل:
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال اللَّه - عز وجل -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الآية.
وبين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرنا سفيان
ابن عيينة عن سالم أبي النضر، قال: أخبرني عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن أبيه، عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"ما أعرفن ما جاء أحدكم الأمر من أمري مما أمرت به أو
نهيت عنه. فيقول: لا ندري ما هذا، ما وجدنا في كتاب الله - عزَّ وجلَّ أخذنا به" الحديث.
الرسالة: باب (ما أمر الله من طاعة وسوله - صلى الله عليه وسلم)
قال الشَّافِعِي رحمه الله: وقال تبارك وتعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) .

(3/1153)


فأعلمَ اللَّه الناس في هذه الآية، أن دعاءهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بينهم:
دعاء إلى حكم اللَّه؛ لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنما سلموا لحكمه بفرض اللَّه.
قال الشَّافِعِي رحمة الله: فجمع لهم أن أعلمهم أن الفرض عليهم اتباع
أمره وأمر رسوله، وأن طاعة رسوله طاعته، ثم أعلمهم أنه فرض على رسوله
اتباع أمره جل ثناؤه.

(3/1154)