تفسير البغوي
إحياء التراث أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم: «ما أوحى الله إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ
مِنَ التَّاجِرِينَ وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» .
«1250» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مُقْبِلًا وَعَلَيْهِ إِهَابُ كَبْشٍ
قَدْ تَنَطَّقَ بِهِ [1] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى هذا الذي
نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بين أبويه يغذوانه
[2] بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ
عَلَيْهِ حُلَّةً شَرَاهَا أَوْ شُرِيَتْ لَهُ بِمِائَتَيْ
دِرْهَمٍ، فَدَعَاهُ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا
تَرَوْنَهُ» . والله أعلم.
تفسير سورة النحل
مكية [3] إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
إلى آخر السورة
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ
مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا
أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
أَتى أَيْ: جَاءَ وَدَنَا وَقَرُبَ، أَمْرُ اللَّهِ، قَالَ
ابْنُ عَرَفَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَتَاكَ الْأَمْرُ وَهُوَ
مُتَوَقَّعٌ [4] بَعْدُ، أَيْ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا
[5] فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، وُقُوعًا، أَمْرُ اللَّهِ قَالَ
الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: المراد منه القيامة. وقال ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ [الْقَمَرِ: 1] قَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ
قَرُبَتْ فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
حَتَّى تَنْظُرُوا مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا لَمْ يَنْزِلْ
شَيْءٌ قالوا: مَا نَرَى شَيْئًا [مِمَّا تُخَوِّفُنَا به] [6]
فَنَزَلَ قَوْلُهُ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ
[الْأَنْبِيَاءِ: 1] ، فَأَشْفَقُوا فَلَمَّا امْتَدَّتِ
الْأَيَّامُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شيئا [من ذلك]
[7] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ
فَوَثَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ورفع الناس
رؤوسهم [إلى السماء] [8] وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ
حَقِيقَةً فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا.
__________
1250- ضعيف. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» 1/ 108 من طريق يزيد
بن الأصم عن عمر به، وإسناده ضعيف، فيه إرسال بين يزيد وبين
عمر، وفي بعض رجال الإسناد كلام، والأشبه كونه من كلام عمر.
(1) في المخطوط «تطبق عليه» .
(2) في المطبوع «يغذيانه» .
(3) زيد في المطبوع وط «مئتان وثمان وعشرون آية» .
(4) في المخطوط «يتوقع» .
(5) في المطبوع «وعده» .
(6) زيادة عن المخطوط. [.....]
(7) العبارة في المصبوع «مما تخوفنا به» .
(8) زيادة عن المخطوط.
(3/70)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ
مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا
جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ
أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا
بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ الشَّيْءِ
قَبْلَ حِينِهِ.
«1251» وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا
وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ- وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ- وَإِنْ
كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَمَّا مَرَّ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِ السَّمَوَاتِ
مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ قَامَتِ السَّاعَةُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا عُقُوبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ وَالْعَذَابُ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ أَنَّ
النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَعْجَلَ
الْعَذَابَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقُتِلَ النَّضْرُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. سُبْحانَهُ
وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، مَعْنَاهُ تَعَاظَمَ
بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ المشركون.
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ، قَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الياء
وكسر الزاي، والْمَلائِكَةَ نَصْبٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ
بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا وفتح الزاي والملائكة رَفْعٌ،
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ بِالْوَحْيِ سماه روحا
لأنه يحي بِهِ الْقُلُوبَ وَالْحَقَّ. قَالَ عَطَاءٌ: بالنبوة.
وقال قتادة: بالرحمة. وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: بِالرُّوحِ
يَعْنِي مَعَ الروح وهو جبرائيل. مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا، أَعْلِمُوا، أَنَّهُ
لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ مُرُوهُمْ بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
مُنْذِرِينَ مُخَوِّفِينَ بِالْقُرْآنِ إِنْ لَمْ يَقُولُوا.
وقوله فَاتَّقُونِ أي: فخافون.
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 8]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ
خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها
دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ
أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ
بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (3) ، أَيِ: ارْتَفَعَ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ، جَدِلٌ
بِالْبَاطِلِ، مُبِينٌ، نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ
الْجُمَحِيِّ وَكَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، جاء بعظم رميم فقال
[يا محمد] [1] : أتقول إن الله تعالى يحي هَذَا بَعْدَ مَا
قَدْ رَمَّ؟ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا
وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يَس: 78] نَزَلَتْ فِيهِ أَيْضًا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَفِيهَا بَيَانُ
الْقُدْرَةِ وَكَشْفُ قَبِيحِ مَا فَعَلُوهُ، مِنْ جَحْدِ [2]
نِعَمِ اللَّهِ مَعَ ظُهُورِهَا عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، يَعْنِي الْإِبِلَ
وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ يَعْنِي: مِنْ
أَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا مَلَابِسَ
وَلُحُفًا تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا، وَمَنافِعُ، بالنسل والدر
والركوب والحمل
__________
1251- المرفوع منه، أخرجه أحمد 4/ 309 والطبراني 22/ 126 من
حديث وهب السّوائي وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 311: رجاله
رجال الصحيح. غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة.
- وورد من حديث بريدة، أخرجه أحمد 5/ 348 وقال الهيثمي 10/
310: رجاله رجال الصحيح.
- فالمرفوع منه حسن.
- تنبيه: لفظ «لما نزلت هذه الآية» لم أقف له على أصل، ولم
يذكره غير المصنف.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «جحود» .
(3/71)
وَغَيْرِهَا، وَمِنْها تَأْكُلُونَ،
يَعْنِي لُحُومَهَا.
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ، زِينَةٌ، حِينَ تُرِيحُونَ، أَيْ:
حِينَ تَرُدُّونَهَا بِالْعَشِيِّ مِنْ مَرَاعِيهَا إِلَى
مَبَارِكِهَا الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا، وَحِينَ تَسْرَحُونَ،
أَيْ: تُخْرِجُونَهَا بِالْغَدَاةِ مِنْ مَرَاحِهَا إِلَى
مَسَارِحِهَا، وَقَدَّمَ الرَّوَاحَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ
تُؤْخَذُ مِنْهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ، وَمَالِكُهَا يَكُونُ
أَعْجَبَ بِهَا إِذَا رَاحَتْ.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ، أَحْمَالَكُمْ، إِلى بَلَدٍ، آخَرَ
غَيْرِ بَلَدِكُمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الْبَلَدُ مَكَّةُ، لَمْ
تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، أَيْ:
بِالْمَشَقَّةِ وَالْجُهْدِ. وَالشِّقُّ: النِّصْفُ أَيْضًا
أَيْ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِنُقْصَانِ قُوَّةِ
النَّفْسِ وَذَهَابِ نِصْفِهَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
بِشِقِّ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ رَطْلٍ
وَرِطْلٍ.
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، بخلقه حيث جعل لكم هذه
المنافع.
وَالْخَيْلَ، يَعْنِي: وَخَلَقَ الْخَيْلَ وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ
لَا وَاحِدَ لَهُ من لفظه كالإبل والنساء والسماء.
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، يَعْنِي:
وَجَعَلَهَا زِينَةً لَكُمْ مَعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي فِيهَا.
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ حَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ،
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَلًّا هَذِهِ الْآيَةَ،
فَقَالَ: هَذِهِ لِلرُّكُوبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَكَمُ
وَمَالُكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى
إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَشُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ [وَأَحْمَدُ] [1] وَإِسْحَاقُ، وَمَنْ
أَبَاحَهَا قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانَ
التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ تَعْرِيفُ
اللَّهِ عِبَادَهُ نِعَمَهُ [2] وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى كَمَالِ
قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا:
«1252» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3]
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا محمد بن
إسماعيل ثنا سليمان بن حرب ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ
عَمْرِو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ
لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» .
«1253» أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ
بْنُ يوسف السهمي أنا أبو
__________
1252- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- محمد بن علي هو ابن الحسين، ومشهور ب- الباقر- رضي الله عنه.
- وهو في «شرح السنة» 2804 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4219 عن سليمان
بن حرب بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 5520 و5524 ومسلم 1941 وأبو داود 3788
والنسائي 7/ 201 وأحمد 3/ 361 والدارمي 3/ 87 وابن الجارود 885
وابن حبان 5273 والطحاوي 4/ 204 والبيهقي 9/ 326- 327 من طرق
عن حماد بن زيد به.
1253- صحيح. الحسن بن الفرج، قد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه
رجال البخاري ومسلم غير عمرو بن خالد وهو الرّقي، فإنه من رجال
البخاري، عبيد الله هو ابن عمرو الجزري الرّقي، عبد الكريم هو
ابن مالك الجزري.
- وهو في «شرح السنة» 2805 بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي 7/ 201 من طريق عبيد الله بن عمرو بهذا
الإسناد، ولم يذكر عجز الحديث.
- وأخرجه ابن ماجه 3197 وعبد الرزاق 8733 والطحاوي 4/ 211
والدارقطني 4/ 288 والبيهقي 9/ 327 من طرق عن عطاء به، فهو
صحيح.
- وأخرجه أبو داود 3789 وأحمد 3/ 356 والدار ققطني 4/ 289 وابن
حبان 5273 والبيهقي 9/ 327 من طرق عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
عَنْ أبي الزبير عن جابر بنحوه، وصححه الحاكم 4/ 235 ووافقه
الذهبي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «نعمته» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(3/72)
وَعَلَى اللَّهِ
قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (12)
أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [عَدِيٍّ
الحافظ ثنا الحسن بن الفرج ثنا عمرو بن خالد ثنا عُبِيْدُ
اللَّهِ عَنْ] [1] عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ
الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَى عَنْ لُحُومِ الْبِغَالِ
وَالْحَمِيرِ.
«1254» رُوِيَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ
الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، قِيلَ: يَعْنِي مَا أَعَدَّ
اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَفِي النَّارِ
لِأَهْلِهَا مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ ولا سمعته أُذُنٌ وَلَا
خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي:
السُّوسَ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودَ فِي الْفَوَاكِهِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 9 الى 12]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ
شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ
يَعْنِي: بَيَانُ طَرِيقِ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ.
وَقِيلَ: بَيَانُ الْحَقِّ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ،
وَالْقَصْدُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَمِنْها جائِرٌ
يَعْنِي: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ
مُعْوَجٌّ، فَالْقَصْدُ مِنَ السَّبِيلِ دِينُ الْإِسْلَامِ،
وَالْجَائِرُ منها دين الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ
وَسَائِرُ مِلَلِ [2] الْكُفْرِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: قَصْدُ السَّبِيلِ بَيَانُ الشَّرَائِعِ
وَالْفَرَائِضِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
قَصْدُ السَّبِيلِ: السُّنَّةُ. وَمِنْهَا جَائِرٌ:
الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الْأَنْعَامِ: 153] . وَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ
شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] .
قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ
مِنْهُ شَرابٌ، تَشْرَبُونَهُ، وَمِنْهُ شَجَرٌ، أَيْ: مِنْ
ذَلِكَ الماء شراب أَشْجَارِكُمْ وَحَيَاةُ نَبَاتِكُمْ، فِيهِ
يَعْنِي: فِي الشَّجَرِ، تُسِيمُونَ، تَرْعَوْنَ
مَوَاشِيَكُمْ.
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ أَيْ: يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ
يَعْنِي بِالْمَاءِ الذي أنزل [إليكم] [3] ، قَرَأَ أَبُو
بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ «نُنْبِتُ» بِالنُّونِ. الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وَسَخَّرَ لَكُمُ، ذَلَّلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ، مذللات،
__________
1254- شاذ. أخرجه أبو داود 3790 والنسائي 7/ 202 وابن ماجه
3198 وأحمد 4/ 89 والدارقطني 4/ 286 والطحاوي في «المشكل» 3066
والطبراني 3826 من طرق عن بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن
صالح بن يحيى بن المقدام عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خالد
بن الوليد به.
وضعف إسناده المصنف، وفيه صالح بن يحيى قال البخاري: فيه نظر.
- وقال أبو داود: هو حديث منسوخ وقال البيهقي: إسناده مضطرب.
- والحديث معارض بما قبله، فهو شاذ. وانظر ما قاله القرطبي
3854 و3856 بترقيمي.
(1) سقط من المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «مثل» .
(3) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3/73)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ
فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
بِأَمْرِهِ أَيْ: بِإِذْنِهِ، وَقَرَأَ
حَفْصٌ عن عاصم والنّجوم مسخّرت بِالرَّفْعِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 13 الى 17]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ
الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها
وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ
يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)
وَما ذَرَأَ، خَلَقَ، لَكُمْ، لِأَجْلِكُمْ أَيْ: وَسَخَّرَ
مَا خَلَقَ لِأَجْلِكُمْ، فِي الْأَرْضِ، مِنَ الدَّوَابِّ
وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهَا، مُخْتَلِفاً، نُصِبَ
عَلَى الْحَالِ، أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ، يَعْتَبِرُونَ.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً
طَرِيًّا يَعْنِي: السَّمَكَ، وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يَعْنِي: اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ،
وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ، جواري فيه. قَالَ
قَتَادَةُ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً وَهُوَ أَنَّكَ تَرَى
سَفِينَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا تُقْبِلُ وَالْأُخْرَى تُدَبِرُ
تَجْرِيَانِ بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ. قال الْحَسَنُ: مَوَاخِرَ
أَيْ: مَمْلُوءَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ:
شَوَاقُّ [1] تَشُقُّ الْمَاءَ بجؤجئها [2] . قَالَ مُجَاهِدٌ:
تَمْخُرُ السُّفُنَ الرِّيَاحُ.
وَأَصْلُ الْمَخْرِ: الرَّفْعُ وَالشَّقُّ.
«1255» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْبَوْلَ
فليتمخر [3] الرِّيحَ» أَيْ: لِيَنْظُرْ مِنْ أَيْنَ
مَجْرَاهَا وَهُبُوبُهَا [فَلْيَسْتَدْبِرْهَا] [4] حَتَّى لَا
يُرَدَّ عَلَيْهِ الْبَوْلُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
صَوَائِخُ، وَالْمَخْرُ صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ عِنْدَ
شِدَّتِهَا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي:
التِّجَارَةَ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذَا رَأَيْتُمْ
صُنْعَ اللَّهِ فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ.
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَيْ:
لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ أَيْ تَتَحَرَّكَ وَتَمِيلَ،
وَالْمَيْدُ: هُوَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّكَفُّؤُ وَمِنْهُ
قِيلَ لِلدَّوَّارِ الَّذِي يَعْتَرِي رَاكِبَ الْبَحْرِ:
مَيَدٌ، قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ
جَعَلَتْ تَمُورُ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ هَذِهِ
غَيْرُ مُقِرَّةٍ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِهَا فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ
أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ فَلَمْ تدر الملائكة مم خلق
الْجِبَالُ، وَأَنْهاراً وَسُبُلًا أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا
أَنْهَارًا وَطُرُقًا مُخْتَلِفَةً، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ،
إِلَى مَا تُرِيدُونَ فَلَا تضلون [عنه] [5] .
__________
1255- لا أصل له في المرفوع بهذا اللفظ، وإنما أخرجه أبو عبيد
في «غريب الحديث» 1/ 312 عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن
عيينة قال: يقال: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح.
- وورد بنحوه في أثناء حديث وفيه « ... واستمخروا الريح..»
ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» 1/ 36- 37 (75) وقال: سألت أبي
عن حديث رواه أحمد بن ثابت فرخويه عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
عَنْ مَعْمَرٍ عن سماك بن الفضل عن أبي رشدين الجندي عن سراقة
بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم ... فذكره
قال أبي: ما يروونه موقوف وأسنده عبد الرزاق بأخرة.
- ونقل ابن حجر في «التلخيص» 1/ 107 قول ابن أبي حاتم وأن
الأصح وقفه.
- وفي الباب أحاديث انظرها في «تلخيص الحبير» 1/ 107.
(1) زيد في المطبوع «مواخر» .
(2) أي بصدرها، وفي المخطوط وط «بجناحيها» .
(3) في المطبوع وط «فليستمخر» .
(4) سقط من المطبوع.
(5) زيادة عن المخطوط.
(3/74)
وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ
غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ
(22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وَعَلاماتٍ، يَعْنِي: مَعَالِمَ الطُّرُقِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ ابْتَدَأَ،
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ
وَالْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بالعلامات النجوم [1] والجبال
[فالجبال] [2] عَلَامَاتِ النَّهَارِ وَالنُّجُومُ عَلَامَاتُ
اللَّيْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْكُلِّ النُّجُومَ
مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ
بِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: أراد بالنجوم الثُّرَيَّا وَبَنَاتِ
نَعْشٍ وَالْفَرْقَدَيْنِ وَالْجَدْيَ يهتدون بِهَا إِلَى
الطُّرُقِ وَالْقِبْلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
إِنَّمَا خَلْقَ اللَّهُ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ
لِتَكُونَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَمَعَالِمَ لِلطُّرُقِ
وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ
تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ، يَعْنِي: اللَّهَ تَعَالَى، كَمَنْ لَا
يَخْلُقُ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 18 الى 23]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ
اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
(20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (22)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ
اللَّهَ لَغَفُورٌ لِتَقْصِيرِكُمْ فِي شُكْرِ نِعَمِهِ [3] ،
رَحِيمٌ بِكُمْ حَيْثُ وَسَّعَ عَلَيْكُمُ النِّعَمَ وَلَمْ
يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) .
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْنِي:
الْأَصْنَامَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَدْعُونَ
بِالْيَاءِ. لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ.
أَمُوتُ أَيِ الْأَصْنَامُ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ،
يَعْنِي: الْأَصْنَامَ أَيَّانَ مَتَى يُبْعَثُونَ،
وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ تُبْعَثُ
وَتُجْعَلُ فِيهَا الْحَيَاةُ [4] فتتبرأ من عابديها. وقيل:
وما يَدْرِي الْكُفَّارُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ مَتَى
يُبْعَثُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، جَاحِدَةٌ
وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ، مستعظمون [5] .
لَا جَرَمَ، حَقًّا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
«1256» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بن
محمد بن محمش البسطامي أنا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ
__________
1256- حديث صحيح. علي بن الحسن ثقة وقد توبع ومن دونه، ومن
فوقه رجال مسلم. شعبة بن الحجاج، فضيل بن عمرو، إبراهيم بن
يزيد، عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
- وهو في «شرح السنة» 3481 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 91 والترمذي 1999 وأبو عوانة 1/ 31 وابن خزيمة
في «التوحيد» ص 384 وابن مندة في «الإيمان» 540 و541 من طرق عن
أبان بن تغلب به.
(1) في المطبوع «الجبال» .
(2) في المطبوع «تكون» .
(3) في المخطوط «نعمته» .
(4) في المخطوط «الروح» .
(5) في المطبوع وط «متعظمون» .
(3/75)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ
بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ
الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ
وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
إبراهيم بن سحتويه [1] أنا أَبُو الْفَضْلِ
سُفْيَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجوهري ثنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ
بْنِ أَبِي عيسى الهلالي ثنا يحيى بن حماد ثنا شُعْبَةُ عَنْ
أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ [2] عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيِّ [3]
عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يدخل الجنة مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ
فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» ، فَقَالَ
رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ
يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونعله حَسَنًا؟ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ
الْحَقِّ وغمط [4] الناس» .
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 27]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ
كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ
وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ
فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ
الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، يَعْنِي: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ [بِالْآخِرَةِ] [5] وَهُمْ مشركو مكة الذين
اقتسموا أعقابها [6] إِذَا سَأَلَ [7] الْحَاجُّ: مَاذَا
أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ،
أَحَادِيثُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمْ.
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ، ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ، كامِلَةً،
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكَمَالَ لِأَنَّ الْبَلَايَا الَّتِي
تَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا وما يفعلون فيها مِنَ
الْحَسَنَاتِ لَا تُكَفِّرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ
بِغَيْرِ عِلْمٍ، بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
الْإِيمَانِ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ، ما يحملون.
«1257» أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنِ الْفَضْلِ
الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْجَوْهَرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي الكشمهيني ثنا علي بن
حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا العلاء بن
__________
- وأخرجه أحمد 1/ 451 من طريق حجاج عن فضيل بن عمرو الفقيمي
به.
- وأخرجه مسلم 91 ح 148 وأبو داود 4091 والترمذي 1998 وابن
ماجه 4173 وابن أبي شيبة 9/ 89 وأحمد 1/ 412 و416 وأبو عوانة
1/ 17 وابن مندة 542 وابن حبان 224 والطبراني 10000 و10001 من
طرق عن الأعمش عن إبراهيم به دون ذكر عجزه.
1257- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- عبد الرحمن هو والد العلاء.
- وهو في «شرح السنة» 109 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2674 من طريق علي بن حجر بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 4609 والترمذي 2674 وأحمد 2/ 397 وابن خزيمة
2674 وابن حبان 112 والدارمي 1/ 130 و131 من طرق عن إسماعيل بن
جعفر به.
- وأخرجه ابن ماجه 206 من طريق عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي
حَازِمٍ عن العلاء به. [.....]
(1) تصحف في المطبوع «سحتوتة» .
(2) في المطبوع «ثعلبة» .
(3) تصحف في المطبوع «العقيمي» .
(4) في المخطوط «غمص» .
(5) زيد في المطبوع وط.
(6) في المطبوع «عقابها» .
(7) زيد في المطبوع «منهم» .
(3/76)
الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ
الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي
اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ
مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ
ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى
ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ
تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئا» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ،
وهو نمروذ بْنُ كَنْعَانَ، بَنَى الصَّرْحَ بِبَابِلَ
لِيَصْعَدَ [إِلَى] [1] السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَوَهْبٌ: كَانَ طُولُ الصَّرْحِ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةَ
آلَافِ ذِرَاعٍ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُهُ فرسخين فهبت ريح
وألقت [2] فِي الْبَحْرِ وَخَرَّ عَلَيْهِمُ الْبَاقِي وَهُمْ
تَحْتَهُ، وَلَمَّا سَقَطَ الصَّرْحُ تَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ
النَّاسِ مِنَ الْفَزَعِ يَوْمَئِذٍ فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ
وَسَبْعِينَ لِسَانًا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَابِلَ.
وَكَانَ لِسَانُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ
مِنَ الْقَواعِدِ أَيْ:
قَصَدَ تَخْرِيبَ بُنْيَانِهِمْ مِنْ أُصُولِهَا، فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ يَعْنِي: أَعْلَى الْبُيُوتِ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ،
مِنْ مَأْمَنِهِمْ.
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ، يُهِينُهُمْ
بِالْعَذَابِ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ، تُخَالِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِمْ مَا
لَهُمْ لَا يَحْضُرُونَكُمْ فَيَدْفَعُونَ عَنْكُمُ
الْعَذَابَ، وَكَسَرَ نَافِعٌ النُّونَ مِنْ تُشَاقُّونَ عَلَى
الْإِضَافَةِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا. قالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّ الْخِزْيَ،
الْهَوَانَ، الْيَوْمَ وَالسُّوءَ، أَيِ: الْعَذَابَ، عَلَى
الْكافِرِينَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 28 الى 32]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ
فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ
خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ
فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (32)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، يَقْبِضُ
أَرْوَاحَهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ.
قَرَأَ حَمْزَةُ «يَتَوَفَّاهُمْ» بِالْيَاءِ وَكَذَا مَا
بَعْدَهُ، ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، بالكفر، نَصْبٌ عَلَى
الْحَالِ أَيْ: فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ
أَيِ: اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا وَقَالُوا: مَا كُنَّا
نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، شِرْكٍ فَقَالَ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ،
بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَالَ
عِكْرِمَةُ: عَنَى بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ من الكفار ببدر.
فَادْخُلُوا أي: يقال [3] لَهُمُ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، عَنِ
الْإِيمَانِ، وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَذَلِكَ أَنَّ
أَحْيَاءَ الْعَرَبِ كَانُوا يَبْعَثُونَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ
مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِذَا جَاءَ سَأَلَ [4] الَّذِينَ قَعَدُوا عَلَى
الطُّرُقِ عَنْهُ فَيَقُولُونَ سَاحِرٌ كَاهِنٌ شَاعِرٌ
كَذَّابٌ مَجْنُونٌ، وَلَوْ لَمْ تَلْقَهُ خَيْرٌ [لَكَ] [5] ،
فَيَقُولُ السائل: إنا شر وفد إِنْ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي
دُونَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَلْقَاهُ فَيَدْخُلُ مكة فيرى
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «رأسه» .
(3) في المطبوع «قال» .
(4) في المطبوع «يسأل» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(3/77)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ
مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ
الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ
عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ
عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ
فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا
كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا
أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُونَهُ بِصِدْقِهِ وَأَنَّهُ
نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ.
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا
أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً يَعْنِي: أَنْزَلَ خَيْرًا،
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ،
كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ إِلَى
الْعَشْرِ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: هِيَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
هِيَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ.
وَلَدارُ الْآخِرَةِ، أَيْ وَلَدَارُ الْحَالِ الْآخِرَةِ،
خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ، قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ
الدُّنْيَا لِأَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى يَتَزَوَّدُونَ فِيهَا
لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ
الْجَنَّةُ، ثُمَّ فَسَّرَهَا. فَقَالَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ
فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
.
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ،
مُؤْمِنِينَ طَاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
زَاكِيَةً أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ وَفَاتَهُمْ تَقَعُ طَيِّبَةً
سَهْلَةً. يَقُولُونَ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ، سَلامٌ
عَلَيْكُمْ، وقيل: معناه يُبَلِّغُونَهُمْ سَلَامَ اللَّهِ،
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 35]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا
عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا
مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا
مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (35)
قوله: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
، لقبض أرواحهم، وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
، يَعْنِي: يَوْمَ القيامة، وقيل: العذاب. ذلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
، أَيْ: كفروا [كما كفر الذين من قبلهم] [1] ، ما ظَلَمَهُمُ
اللَّهُ
بتعذيبه إياهم، لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا، عُقُوبَاتُ كُفْرِهِمْ
وَأَعْمَالِهِمِ الْخَبِيثَةِ، وَحاقَ بِهِمْ، نَزَلَ بِهِمْ،
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا
مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا
مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، يعني في الْبَحِيرَةَ
وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِ، فَلَوْلَا أن الله
رضيها لنا لغير ذلك وهدانا إلى غير هذا [2] ، كَذلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَيْ: لَيْسَ إِلَيْهِمُ الْهِدَايَةُ
وإنما إليهم التبليغ.
[سورة النحل (16) : الآيات 36 الى 41]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى
اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ
(37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ
اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ
إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
__________
(1) سقط من المخطوط.
(2) في المطبوع وط «غيرها» . [.....]
(3/78)
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولًا أَيْ: كَمَا بَعَثْنَا فِيكُمْ، أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، وهو مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ
اللَّهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، أَيْ: هَدَاهُ
اللَّهُ إِلَى دِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ أَيْ: وَجَبَتْ [عليه الضلالة] [1] بِالْقَضَاءِ
السَّابِقِ حَتَّى مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ،
أَيْ: مَآلُ أَمْرِهِمْ وَهُوَ خَرَابُ مَنَازِلِهِمْ
بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ.
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ «يَهْدِي»
بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ: لَا يَهْدِي
اللَّهُ مَنْ أَضَلَّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَهْتَدِي [2]
مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ
الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ يَعْنِي مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ
فَلَا هَادِيَ لَهُ كَمَا قَالَ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا
هادِيَ لَهُ [الْأَعْرَافِ:
186] ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَيْ: مَانِعِينَ مِنَ
الْعَذَابِ.
قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا
يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، وَهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: بَلى وَعْداً
عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ أَيْ: لِيُظْهِرَ
لَهُمُ الْحَقَّ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ، فِيهِ وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (40) ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا
أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَثَ الْمَوْتَى فَلَا تَعَبَ عَلَيْنَا
فِي إِحْيَائِهِمْ وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْدُثُ إِنَّمَا
نَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ.
«1258» أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا
أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ
الزِّيَادِيُّ أَنَا أَبُو [بَكْرٍ] [3] مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ
السُّلَمِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ
اللَّهُ: كَذَّبَنِي عَبْدِي [4] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،
وَشَتَمَنِي عبدي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا
تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ لَنْ يُعِيدَنَا كَمَا
بَدَأَنَا، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ اتَّخَذَ
اللَّهُ ولدا، وأنا الصمد لم ألذ ولم أولذ وَلَمْ يَكُنْ لِي
كُفُوًا أَحَدٌ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، عُذِّبُوا وَأُوذُوا فِي اللَّهِ.
نَزَلَتْ فِي بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ وعابس
وجبير وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ [5] أَخَذَهُمُ
الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ فَعَذَّبُوهُمْ [6] . وَقَالَ
قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ظَلَمَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وأخرجوهم من ديارهم حتى
__________
1258- تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية: 116.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «يهدي» .
(3) سقط من المطبوع.
(4) في المطبوع «ابن آدم» .
(5) في المطبوع «سهل» .
(6) في المخطوط «يعذبونهم» .
(3/79)
الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ
يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ
(46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
لحق منهم طائفة بالحبشة ثم بوأ الله لهم
الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ
هِجْرَةٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْصَارًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَهُوَ أَنَّهُ
أَنْزَلَهُمُ الْمَدِينَةَ.
رُوِيَ أَنَّ [1] عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا أَعْطَى
الرَّجُلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءً يَقُولُ: خُذْ بَارَكَ
اللَّهُ لَكَ فِيهِ هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ تَلَا
هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنُحْسِنَنَّ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا التَّوْفِيقُ
وَالْهِدَايَةُ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ. وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، يَنْصَرِفُ
إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ المؤمنين كانوا يعلمونه.
[سورة النحل (16) : الآيات 42 الى 47]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ
فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ
(46)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ (47)
الَّذِينَ صَبَرُوا، فِي اللَّهِ [2] عَلَى ما نالهم، وَعَلى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي
إِلَيْهِمْ، نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حَيْثُ أَنْكَرُوا
نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَالُوا اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ
بَشَرًا فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا، فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ، يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، إِنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَالِبِ
لِلْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ قِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ
إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا، وإلا بِمَعْنَى غَيْرُ.
مَجَازُهُ [3] : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ غَيْرَ رِجَالٍ يُوحَى إِلَيْهِمْ
وَلَمْ نَبْعَثْ مَلَائِكَةً.
وَقِيلَ: تَأْوِيلُهُ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، أَرَادَ بِالذِّكْرِ
الْوَحْيَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لِلْوَحْيِ وَبَيَانُ الْكِتَابِ
يُطْلَبُ مِنَ السُّنَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا، عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، من قبل
يعني نمروذ بْنَ كَنْعَانَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، أَنْ
يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ، بِالْعَذَابِ [4] فِي تَقَلُّبِهِمْ،
تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي
اخْتِلَافِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي إِقْبَالِهِمْ وإدبارهم، فَما
هُمْ بِمُعْجِزِينَ [بفائتين] [5] اللَّهَ.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، والتخوف: التنقيص [6] ،
أَيْ: يُنْقِصُ مِنْ أَطْرَافِهِمْ وَنَوَاحِيهِمُ شيئا بعد
شيء
__________
(1) في المطبوع «عن» .
(2) في المخطوط «الدنيا» .
(3) في المطبوع «مجاز» .
(4) في المخطوط «بالعقاب» .
(5) في المطبوع «السابقين» وفي ط «سابقين» .
(6) في المطبوع «النقص» .
(3/80)
أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ
عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ
دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ
لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
حَتَّى يَهْلَكَ جَمِيعُهُمْ، يُقَالُ:
تَخَوَّفَهُ الدَّهْرُ وَتَخَوَّنَهُ [1] إِذَا نَقَصَهُ
وَأَخَذَ ماله وحشمه، ويقال: هذه لُغَةُ بَنِي هَزِيلٍ.
وَقَالَ الضَّحَاكُ والكلبي: هو مِنَ الْخَوْفِ، أَيْ
يُعَذِّبُ طَائِفَةً فَيَتَخَوَّفُ [2] الْآخَرُونَ أَنْ
يُصِيبَهُمْ مِثْلُ ما أصابهم. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ، حِينَ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ
يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً
لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ
وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ،
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ
وَكَذَلِكَ في سورة العنكبوت [19 و67] وَالْآخَرُونَ
بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ
إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ جِسْمٍ قائم له ظل،
يَتَفَيَّؤُا، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ
وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. ظِلالُهُ، أَيْ: تَمِيلُ وَتَدُورُ
مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ فَهِيَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ
عَلَى حَالٍ ثُمَّ تَتَقَلَّصُ ثُمَّ تَعُودُ فِي آخِرِ
النَّهَارِ إِلَى حَالٍ أخرى سُجَّداً لِلَّهِ لِلَّهِ،
فَمَيَلَانُهَا وَدَوَرَانُهَا سُجُودُهَا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. وَيُقَالُ لِلظِّلِّ بِالْعَشِيِّ: فَيْءٌ لِأَنَّهُ
فَاءَ أَيْ [3] رَجَعَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ [4]
، فَالْفَيْءُ الرجوع، والسجود الميل. يقال: سَجَدَتِ
النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَنِ
الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ، قَالَ قَتَادَةُ
وَالضَّحَاكُ: أما اليمين فأول النهار والشمائل [5] آخِرُ
النَّهَارِ، تَسْجُدُ الظِّلَالُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الظِّلُّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَنْ
يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَقُدَّامَكَ وَخَلْفَكَ،
وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَتْ فَإِذَا طَلَعَتْ كَانَ مِنْ
قُدَّامِكَ وَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ
بَعْدَهُ كَانَ خَلْفَكَ فَإِذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ
الشَّمْسُ كَانَ عَنْ يَسَارِكَ، فَهَذَا تَفَيُّؤُهُ
وَتَقَلُّبُهُ وَهُوَ سُجُودُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا
زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الظِّلَالِ سُجُودُ الْأَشْخَاصِ
فَإِنْ قِيلَ لِمَ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ؟
قِيلَ: مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي اجْتِمَاعِ الْعَلَامَتَيْنِ
الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ
اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7]
، وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
[الْبَقَرَةِ: 257] ، وَقِيلَ: الْيَمِينُ يَرْجِعُ إِلَى
قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ وَلَفْظُ مَا واحد والشمائل جمع
يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى. وَهُمْ داخِرُونَ، صَاغِرُونَ.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ،
إِنَّمَا أخبر بما لِغَلَبَةِ مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ
يَعْقِلُ فِي الْعَدَدِ، وَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ كَتَغْلِيبِ
الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، مِنْ دابَّةٍ، أَرَادَ مِنْ
كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ.
وَيُقَالُ: السُّجُودُ الطَّاعَةُ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا
مُطِيعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ
[فُصِّلَتْ: 11] ، وَقِيلَ: سُجُودُ الْأَشْيَاءِ تَذَلُّلُهَا
وَتَسَخُّرُهَا لِمَا أُرِيدَتْ لَهُ وَسُخِّرَتْ له. وقيل:
__________
(1) في المخطوط «وتخوفه» . [.....]
(2) في المطبوع «ليتخوف» .
(3) في المخطوط «إذا» .
(4) في المخطوط بتقديم «المشرق» وتأخير «المغرب» .
(5) في المطبوع «والشمال» .
(3/81)
وَقَالَ اللَّهُ لَا
تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ
فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ
عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ
نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا
كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ
سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
سُجُودُ الْجَمَادَاتِ وَمَا لَا يَعْقِلُ
ظُهُورُ أَثَرِ الصُّنْعِ فِيهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَدْعُو
الْغَافِلِينَ إِلَى السُّجُودِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ
وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ
آياتِنا فِي الْآفاقِ [فُصِّلَتْ: 53] . وَالْمَلائِكَةُ،
خَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ
جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تَشْرِيفًا
وَرَفْعًا لِشَأْنِهِمْ.
وَقِيلَ: لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِالدَّبِيبِ
إِذْ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ بِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، وَتَسْجُدُ
الْمَلَائِكَةُ. وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ
الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18 و61] . وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ.
«1259» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ [مُحَمَّدِ بْنِ] [1]
سَمْعَانَ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إبراهيم الشعراني
ثنا محمد بن يحيى الذهلي ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى
الْعَبْسِيُّ ثنا إِسْرَائِيلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا
تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا موضع أربع أصابع إلا
وفيه مَلَكٌ يُمَجِّدُ اللَّهَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا
أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا
تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ،
وَلَصَعِدْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ» ، قَالَ أَبُو
ذَرٍّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعَضَّدُ رَوَاهُ أَبُو
عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ
الزُّبَيْرِيِّ عَنْ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ:
«إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جبهته ساجدا لله» .
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 57]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما
هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ
فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ
تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا
فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا
بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا
رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ
تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ
وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ
اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
(51) .
وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ،
الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ واصِباً، دَائِمًا ثَابِتًا،
مَعْنَاهُ: لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ لَهُ وَيُطَاعُ إِلَّا
انْقَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ بِزَوَالٍ أَوْ هَلَاكٍ غَيْرَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَدُومُ لَهُ وَلَا
تَنْقَطِعُ.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ، أَيْ: تَخَافُونَ، استفهام على
طريق الإنكار.
__________
1259- حديث صحيح. في إسناده لين لأجل إبراهيم بن مهاجر، وباقي
رجال الإسناد ثقات، ولم ينفرد بهذا المتن فله شواهد.
- إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، مجاهد بن جبر، مورّق بن
مشمرج.
- وهو في «شرح السنة» 4067 بهذا الإسناد.
- وأخرجه ابن ماجه 4190 والبيهقي 7/ 52 من طريقين عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى به.
- وأخرجه الترمذي 2312 وأحمد 5/ 173 من طريقين عن إسرائيل به.
- وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
- قلت: للحديث شواهد وطرق، وتقدم، وهو حديث صحيح.
(1) زيادة عن «شرح السنة» .
(3/82)
وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا
بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ
الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، أَيْ: وَمَا يَكُنْ بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ،
القحط والمرض، فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ، تَضِجُّونَ
وَتَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ
بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) .
لِيَكْفُرُوا، ليجحدوا، بِما آتَيْناهُمْ، وَهَذِهِ اللَّامُ
تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: حَاصِلُ أَمْرِهِمْ هُوَ
كُفْرُهُمْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ
النَّعْمَاءِ وَكَشْفِ الضَّرَّاءِ [1] وَالْبَلَاءِ،
فَتَمَتَّعُوا، أَيْ: عِيشُوا فِي الدُّنْيَا الْمُدَّةَ
الَّتِي ضَرَبْتُهَا لَكُمْ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ
أَمْرِكُمْ هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ.
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ، لَهُ حَقًّا أَيِ:
الْأَصْنَامِ، نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ، مِنَ
الْأَمْوَالِ وَهُوَ مَا جَعَلُوا لِلْأَوْثَانِ مِنْ
حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا، ثُمَّ رَجَعَ مِنَ
الْخَبَرِ إِلَى الخطاب فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ، يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ، فِي الدُّنْيَا.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، وَهُمْ خُزَاعَةُ
وَكِنَانَةُ، قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ
تَعَالَى. سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ:
وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ البنين الذين يشتهونهم فيكون مَا
فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَيَجُوزُ أن يكون على الابتداء فيكون
ما في محل الرفع.
[سورة النحل (16) : الآيات 58 الى 60]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ
سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ
يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(60)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا، مُتَغَيِّرًا مِنَ الْغَمِّ والكراهية، وَهُوَ
كَظِيمٌ [2] ممتلىء حُزْنًا وَغَيْظًا فَهُوَ يَكْظِمُهُ،
أَيْ: يمسكه ولا يظهره.
يَتَوارى، أَيْ: يَخْتَفِي، مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا
بُشِّرَ بِهِ، مِنَ الْحُزْنِ وَالْعَارِ ثُمَّ يَتَفَكَّرُ
أَيُمْسِكُهُ، ذَكَرَ الْكِنَايَةَ رَدًّا عَلَى مَا عَلى
هُونٍ أَيْ: هَوَانٌ، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ، أَيْ:
يخفيه [فيه] [3] فَيَئِدُهُ، وَذَلِكَ أَنْ مُضَرَ وَخُزَاعَةَ
وَتَمِيمًا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً خوفا من
الفقر عليهن [4] وَطَمَعِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ فِيهِنَّ،
وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ
وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ
صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَتَرَكَهَا تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ
وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَقْتُلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً
قَالَ لِأُمِّهَا زَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى
أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ
فَإِذَا بَلَغَ بِهَا الْبِئْرَ قَالَ لَهَا انْظُرِي إِلَى
هَذِهِ الْبِئْرِ فَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا فِي الْبِئْرِ
ثُمَّ يُهِيلُ عَلَى رَأْسِهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ
الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَكَانَ
صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَى وَالِدِ الْبِنْتِ إِبِلًا يُحْيِيهَا
بِذَلِكَ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَفْتَخِرُ بِهِ:
وَعَمِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فأحيا الوئيد فلم
يوأد
أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ، بِئْسَ مَا يَقْضُونَ لِلَّهِ
الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، نَظِيرُهُ: أَلَكُمُ
الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى
__________
(1) في المخطوط «الضر» .
(2) زيد في المطبوع «وهو» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «عليهم» .
(3/83)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ
اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى
لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ
(62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ
فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ
وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (64)
(21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22)
[النَّجْمِ: 22] ، وَقِيلَ: بِئْسَ حُكْمُهُمْ وَأْدُ
الْبَنَاتِ.
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، يَعْنِي:
لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ
وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ مَثَلُ السَّوْءِ، صِفَةُ
السُّوءِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْوَلَدِ وَكَرَاهِيَةِ
الْإِنَاثِ وَقَتْلِهِنَّ خَوْفَ الْفَقْرِ، وَلِلَّهِ
الْمَثَلُ الْأَعْلى
، الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَأَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: جَمِيعُ صِفَاتِ الْجَلَالِ
وَالْكَمَالِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْبَقَاءِ
وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ
السَّوْءِ النَّارُ والمثل الْأَعْلَى شَهَادَةُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ
عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً
وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا
يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ
مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (64)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ،
فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ
وَعِصْيَانِهِمْ، مَا تَرَكَ عَلَيْها، أَيْ:
عَلَى الْأَرْضِ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، مِنْ
دَابَّةٍ، قَالَ قَتَادَةُ فِي الْآيَةِ: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ فِي [1] زَمَنِ نُوحٍ فَأَهْلَكَ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ
إِلَّا مَنْ كَانَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
رُوِيَ أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ
الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا
قُلْتَ إِنَّ الْحُبَارَى تَمُوتُ فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ
الظَّالِمِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
إِنَّ الْجُعَلَ لَتُعَذَّبُ فِي جُحْرِهَا بِذَنْبِ ابْنِ
آدَمَ. وقيل: إن مَعْنَى الْآيَةِ لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
آبَاءَ الظَّالِمِينَ بِظُلْمِهِمُ انْقَطَعَ النَّسْلُ وَلَمْ
تُوجَدِ الْأَبْنَاءُ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ.
وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ، يُمْهِلُهُمْ بِحِلْمِهِ
إِلَى أَجَلٍ، مُسَمًّى، إِلَى مُنْتَهَى آجَالِهِمْ
وَانْقِطَاعِ أَعْمَارِهِمْ. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا
يَكْرَهُونَ، لِأَنْفُسِهِمْ يَعْنِي الْبَنَاتِ، وَتَصِفُ،
أَيْ: تَقُولُ، أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنى، يَعْنِي الْبَنِينَ مَحَلُّ أَنَّ نَصْبٌ بَدَلٌ
عَنِ الكذب، قال يمان: يعني بالحسنى: الجنة في المعاد يقولون
نحن في الجنة إن كان محمد صادقا بالوعد فِي الْبَعْثِ. لَا
جَرَمَ، حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، أَنَّ لَهُمُ
النَّارَ، فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ، قَرَأَ
نَافِعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ:
مُسْرِفُونَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ
وَكَسْرِهَا أَيْ: مُضَيِّعُونَ أَمْرَ اللَّهِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ:
مَنْسِيُّونَ فِي النَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُبْعَدُونَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
مَتْرُوكُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: مُعَجَّلُونَ إِلَى النَّارِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: مُقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ.
«1260» وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» أَيْ: مُتَقَدِّمُكُمْ.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كَمَا
أَرْسَلْنَا إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ،
__________
1260- صحيح. أخرجه البخاري 1589 ومسلم 2289 وأحمد 4/ 313 وأبو
يعلى 1525 من حديث جندب بن سفيان.
(1) في المطبوع «من» .
(3/84)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ
مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا
خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا
وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (67)
الْخَبِيثَةَ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ،
نَاصِرُهُمْ، الْيَوْمَ، وَقَرِينُهُمْ سَمَّاهُ وَلِيًّا
لَهُمْ لِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، فِي
الْآخِرَةِ.
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، مِنَ الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ،
وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، أَيْ: مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا بَيَانًا وَهُدًى
وَرَحْمَةً فَالْهُدَى وَالرَّحْمَةُ عَطْفٌ على قوله:
لِتُبَيِّنَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 67]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً
وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ (67)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً، يَعْنِي: الْمَطَرَ،
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ، بِالنَّبَاتِ، بَعْدَ مَوْتِها،
يُبُوسَتِهَا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ،
سَمْعَ الْقُلُوبِ لَا سَمْعَ الْآذَانِ.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، لَعِظَةً،
نُسْقِيكُمْ، بِفَتْحِ النُّونِ هَاهُنَا وفي المؤمنين [21] ،
[1] نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. مِمَّا فِي
بُطُونِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى
النَّعَمِ، وَالنَّعَمُ وَالْأَنْعَامُ وَاحِدٌ، وَلَفْظُ
النَّعَمِ مُذَكَّرٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ:
النَّعَمُ يذكر ويؤنث فمن أنث فالمعنى الْجَمْعِ وَمَنْ
ذَكَّرَ فَلِحُكْمِ اللَّفْظِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: رَدَّهُ
إِلَى مَا يَعْنِي فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ
الْمُؤَرِّجُ [2] :
الْكِنَايَةُ مَرْدُودَةٌ إِلَى الْبَعْضِ وَالْجُزْءِ
كَأَنَّهُ قَالَ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللَّبَنَ
إِذْ ليس كلها [3] لَبَنٌ وَاللَّبَنُ فِيهِ مُضْمَرٌ، مِنْ
بَيْنِ فَرْثٍ، وَهُوَ مَا فِي الْكَرِشِ مِنَ الثِّقْلِ
فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ لَا يُسَمَّى فَرْثًا، وَدَمٍ لَبَناً
خالِصاً، مِنَ الدَّمِ وَالْفَرْثِ لَيْسَ عَلَيْهِ لَوْنُ
دَمٍ وَلَا رَائِحَةُ فَرْثٍ، سائِغاً لِلشَّارِبِينَ،
هَنِيئًا يَجْرِي عَلَى السُّهُولَةِ فِي الْحَلْقِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ لَمْ يُغَصَّ أَحَدٌ بِاللَّبَنِ قَطُّ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: إِذَا أَكَلَتِ الدَّابَّةُ الْعَلَفَ وَاسْتَقَرَّ
في كرشها وطحنته كان أسفله الفرث وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنَ
وَأَعْلَاهُ الدَّمَ، وَالْكَبِدُ متسلطة [4] عَلَيْهَا
تُقَسِّمُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْرِي الدَّمُ
فِي الْعُرُوقِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَيَبْقَى الْفَرْثُ
كَمَا هُوَ.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ، يَعْنِي: وَلَكُمْ
أَيْضًا عِبْرَةٌ فِيمَا نُسْقِيكُمْ وَنَرْزُقُكُمْ مِنْ
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
وَالْكِنَايَةُ فِي مِنْهُ عَائِدَةٌ إِلَى (مَا) مَحْذُوفَةٌ
أَيْ: مَا تَتَّخِذُونَ [5] مِنْهُ، سَكَراً وَرِزْقاً
حَسَناً، قَالَ قَوْمٌ: السَّكَرُ الخمر، والرزق الْحَسَنُ
الْخَلُّ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ وَالرُّبُ، قَالُوا:
وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
السَّكَرُ ما شربت، والرزق الْحَسَنُ مَا أَكَلْتَ. وَرَوَى
الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّكَرَ هُوَ
الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: السَّكَرُ
النَّبِيذُ [الْمُسْكِرُ] [6] وَهُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ
وَالزَّبِيبِ إِذَا اشْتَدَّ والمطبوخ من العصير،
__________
(1) زيد في المطبوع «قرأ» .
(2) تصحف في المخطوط «المؤرخ» . [.....]
(3) في المطبوع «لكلها» .
(4) في المطبوع «مسلطة» .
(5) في المخطوط «يتخذونه» .
(6) زيد في المطبوع وط.
(3/85)
وَأَوْحَى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ
يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ
عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا
بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ
فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَاكِ وَالنَّخَعِيِّ،
وَمَنْ يُبِيحُ شُرْبَ النَّبِيذِ وَمَنْ حَرَّمَهُ [1]
يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ لَا
الْإِحْلَالُ وَأَوْلَى الْأَقَاوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ:
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً مَنْسُوخٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: السَّكَرُ مَا حَرَّمَ مِنْ ثَمَرِهَا والرزق
الْحَسَنُ مَا أَحَلَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ
الطُّعْمُ، يُقَالُ هَذَا سَكَرٌ لَكَ أَيْ: طُعْمٌ، إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 71]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
(68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ
يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ
عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا
بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ
فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ، أَيْ: أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ
فِي أَنْفُسِهَا [2] فَفَهِمَتْهُ وَالنَّحْلُ زَنَابِيرُ
الْعَسَلِ وَاحِدَتُهَا نَحْلَةٌ. أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ،
يَبْنُونَ وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ أَهْلَهَا يَبْنُونَ
لَهَا الْأَمَاكِنَ فَهِيَ تَأْوِي إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ: هِيَ الْكُرُومُ.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، لَيْسَ مَعْنَى الْكُلِّ
الْعُمُومَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] . فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ
ذُلُلًا. قِيلَ: هِيَ نَعْتُ الطُّرُقِ [3] ، يَقُولُ: هِيَ
مُذَلَّلَةٌ لِلنَّحْلِ سَهْلَةُ الْمَسَالِكِ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الذُّلُلُ نَعْتُ النِّحَلِ، أَيْ:
مُطِيعَةٌ مُنْقَادَةٌ بِالتَّسْخِيرِ. يُقَالُ: إِنَّ
أَرْبَابَهَا يَنْقُلُونَهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ
وَلَهَا يَعْسُوبٌ إِذَا وَقَفَ وَقَفَتْ وَإِذَا سَارَ
سَارَتْ، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ، يَعْنِي: الْعَسَلَ
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ وَأَصْفَرُ. فِيهِ
شِفاءٌ لِلنَّاسِ، أَيْ: فِي الْعَسَلِ [4] . وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: أَيْ فِي القرآن والأول أولى.
«1261» أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ثَنَا
عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُثَنَّى أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ أَخِي اسْتَطْلَقَ
بَطْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
__________
1261- إسناده صحيح. مسلم هو صاحب الصحيح، قد توبع ومن دونه،
ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، شعبة بن الحجاج قتادة بن دعامة،
أبو المتوكّل هو علي بن دؤاد.
- أخرجه المصنف من طريق مسلم، وهو في «صحيحه» 2217 من طريق
محمد بن المثنى بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 5716 والترمذي 2083 وأحمد 3/ 19 و92 وأبو
يعلى 1261 والمصنف في «شرح السنة» 3125 من طريق محمد بن جعفر
بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 3/ 92 من طريق شعبة به.
- وأخرجه البخاري 5684 ومسلم بإثر 2217 من طريقين عن سعيد عن
قتادة به.
- وأخرجه أحمد 3/ 19 من طريق قتادة عن أبي الصديق عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
(1) فِي المطبوع «حرم» .
(2) في المخطوط «نفسها» .
(3) أي السبل، وفي المخطوط «للطريق» .
(4) في المطبوع «العمل» .
(3/86)
«اسْقِهِ عَسَلًا» ، فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَ
فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا
اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ
فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ، قَالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ
يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ
أخيك» ، اسقه عسلا، فسقاه فبرأ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْعَسَلُ شِفَاءٌ
مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ
الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ، فَيَعْتَبِرُونَ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ، صِبْيَانًا أَوْ
شُبَّانًا أَوْ كُهُولًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ، أردئه، [و] [1] قال مقاتل: يعني الهرم.
وقال قَتَادَةُ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً. رُوِيَ
عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ
[سَنَةً] [2] ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً.
لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً، لِكَيْلَا
يَعْقِلَ بَعْدَ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا، إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
«1262» أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3]
الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ [بْنُ عَبْدِ اللَّهِ] [4]
النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا موسى بن إسماعيل ثنا هارون بن موسى
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرُ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ
وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ
وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، بسط
على [5] واحد وضيّق على آخر وَقَلَّلَ وَكَثَّرَ. فَمَا
الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ، مِنَ الْعَبِيدِ، فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ، أَيْ:
حَتَّى يَسْتَوُوا هُمْ وَعَبِيدُهُمْ فِي ذَلِكَ، يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا هم ومماليكهم
فيما [رزقتهم] [6] سَوَاءً وَقَدْ جَعَلُوا عَبِيدِي
شُرَكَائِي فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي يُلْزِمُ بِهِ الْحُجَّةَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ
اللَّهُ عَزَّ
__________
1262- إسناده على شرط البخاري ومسلم، وله طرق ستأتي.
- شعيب هو ابن الحبحاب.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4707 عن موسى
بن إسماعيل بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2706 من طريق هارون الأعور به.
- وأخرجه البخاري 2823 و6367 ومسلم 2706 ح 50 و51 وأبو داود
1540 وأحمد 3/ 113 و117 وابن حبان 1009 من طرق عَنْ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسٍ.
- وأخرجه البخاري 6369 والنسائي 8/ 258 و265 و274 وأحمد 3/ 123
و159 و220 و240 من طرق عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عن أنس
به.
- وأخرجه النسائي 8/ 260 وأحمد 3/ 208 و214 و231 وابن أبي شيبة
10/ 190 وأبو يعلى 3018 من طرق عن قتادة عن أنس به.
- وأخرجه البخاري 6371 من طريق عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
صُهَيْبٍ عَنْ أنس به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) في المطبوع «عن» .
(6) في المطبوع «رزقهم الله» .
(3/87)
وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ
اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا
تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ
رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ
سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا
يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ
غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ
إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
وَجَلَّ فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَشْرِكُهُ
مَمْلُوكُهُ فِي زَوْجَتِهِ وَفِرَاشِهِ وَمَالِهِ
أَفَتَعْدِلُونَ بِاللَّهِ خَلْقَهُ وَعِبَادَهُ،
أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، بِالْإِشْرَاكِ بِهِ،
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ
فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، وَالْآخَرُونَ
بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ.
[سورة النحل (16) : الآيات 72 الى 73]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ
اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً، يَعْنِي: النِّسَاءَ خَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَتَهُ
حَوَّاءَ، وَقِيلَ:
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً، قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيُّ: الْحَفَدَةُ أَخْتَانُ الرَّجُلِ
عَلَى بَنَاتِهِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُمُ
الْأَصْهَارُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ
وَبَنَاتٍ تُزَوِّجُونَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِمُ
الْأَخْتَانُ وَالْأَصْهَارُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ
وَالضَّحَاكُ: هُمُ الْخَدَمُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ
الْأَعْوَانُ مَنْ أَعَانَكَ فَقَدْ حَفَدَكَ. وَقَالَ
عَطَاءٌ: هُمْ وَلَدُ وَلَدِ الرَّجُلِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ
وَيَخْدُمُونَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مهنة تمتهنونهم ويخدمونكم
من أولادكم. وقال الكلبي ومقاتل: البنين الصغار والحفدة
كِبَارُ الْأَوْلَادِ [1] الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلَى
عَمَلِهِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ وَلَدُ الْوَلَدِ. وَرَوَى
الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: أَنَّهُمْ [بَنُو] [2] امْرَأَةِ
الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنْهُ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ،
مِنَ النعم الحلال، أَفَبِالْباطِلِ، يعني الأصنام،
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ، يَعْنِي
التَّوْحِيدَ وَالْإِسْلَامَ، وَقِيلَ: الْبَاطِلُ
الشَّيْطَانُ أَمَرَهُمْ بتحريم البحيرة والسائبة، وبنعمة
اللَّهِ أَيْ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ يَكْفُرُونَ،
يَجْحَدُونَ تَحْلِيلَهُ.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ
رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ، يَعْنِي الْمَطَرَ، وَالْأَرْضِ،
يَعْنِي النَّبَاتَ، شَيْئاً، قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ
مِنَ الرِّزْقِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ
أَمْرِ الرِّزْقِ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ شَيْئًا بِوُقُوعِ الرِّزْقِ
عَلَيْهِ أَيْ لَا يَرْزُقُ شَيْئًا، وَلا يَسْتَطِيعُونَ،
وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ، يَذْكُرُ [3] عَجْزَ
الْأَصْنَامِ عَنْ إِيصَالِ نفع أو دفع ضر.
[سورة النحل (16) : الآيات 74 الى 77]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ
رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ
سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ
وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ
بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ
كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ، يَعْنِي الْأَشْبَاهَ
فَتُشَبِّهُونَهُ بِخَلْقِهِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ شركاء [4]
فَإِنَّهُ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ،
__________
(1) في المخطوط «الكبار» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) في المطبوع «بذكر» .
(4) في المطبوع وط «شريكا» .
(3/88)
وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ
شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ
الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ
وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ، خَطَأَ مَا تَضْرِبُونَ مِنَ الأمثال، ثم ضرب
[الله] [1] مثلا للمؤمن والكافر، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ، هَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ رزقه الله ما لا فَلَمْ
يُقَدِّمْ فِيهِ خَيْرًا، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، هَذَا مثل
المؤمن أعطاه الله ما لا فَعَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ
وَأَنْفَقَهُ فِي رِضَاءِ اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا
فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.
هَلْ يَسْتَوُونَ، ولم يقل هل يَسْتَوِيَانِ لِمَكَانِ مَنْ
وَهُوَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
وَالْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ [الأعراف:
193] بالجمع لأجل (من) مَعْنَاهُ هَلْ يَسْتَوِي هَذَا
الْفَقِيرُ الْبَخِيلُ وَالْغَنِيُّ السَّخِيُّ كَذَلِكَ لَا
يَسْتَوِي الْكَافِرُ الْعَاصِي [2] وَالْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ.
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
عَبْداً مَمْلُوكاً، أَيْ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. وَمَنْ
رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، يَقُولُ ليس الأمر كما يقولون،
مَا لِلْأَوْثَانِ عِنْدَهُمْ مِنْ يَدٍ وَلَا مَعْرُوفٍ
فَتُحْمَدُ عَلَيْهِ إِنَّمَا الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ لأنه المنعم [المتفضل] [3] والخالق الرازق،
(ولكن أكثر [الناس] ) : الْكُفَّارِ (لَا يَعْلَمُونَ) ثُمَّ
ضَرَبَ [الله] [4] مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ فَقَالَ:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا
يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، كَلٌّ.
ثِقَلٌ وَوَبَالٌ عَلَى مَوْلَاهُ ابْنِ عَمِّهِ وَأَهْلِ
وِلَايَتِهِ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ، يُرْسِلْهُ، لَا يَأْتِ
بِخَيْرٍ، لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ وَلَا
يُفْهَمُ عَنْهُ، هَذَا مَثَلُ الْأَصْنَامِ لَا تَسْمَعُ
وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَعْقِلُ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ
عَابِدِهِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَحْمِلَهُ وَيَضَعَهُ
وَيَخْدِمَهُ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ، يعني الله فإنه قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ يَأْمُرُ
بِالتَّوْحِيدِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، قَالَ
الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَدُلُّكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقِيلَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ.
وَقِيلَ: كِلَا الْمِثْلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ،
يَرْوِيهِ عطيه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَبْكَمُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَمَنْ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ حَمْزَةُ [5] وَعُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
نَزَلَتْ فِي هَاشِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
رَبِيعَةَ الْقُرَشِيِّ، وَكَانَ قَلِيلَ الْخَيْرِ يُعَادِي
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَمَوْلَاهُ
كَانَ عُثْمَانُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَوْلَاهُ يَكْرَهُ
الْإِسْلَامَ [6] .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ، فِي قُرْبِ كَوْنِهَا، إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ،
إِذَا قَالَ لَهُ:
كُنْ فَيَكُونُ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ،
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، نَزَلَتْ فِي
الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ الْقِيَامَةَ استهزاء.
[سورة النحل (16) : الآيات 78 الى 80]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا
تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ
إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها
أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «العامي» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيد في المطبوع وط «عثمان بن عفان» .
(6) الصواب عموم الآية في كل من يتصف بذلك.
(3/89)
وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا
وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا
هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا
الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ
الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ، قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ
[1] بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، لَا
تَعْلَمُونَ شَيْئاً، تَمَّ الْكَلَامُ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا، وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهُمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ
مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ الْعِلْمَ
بَعْدَ الْخُرُوجِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، نعمه [2] .
أَلَمْ يَرَوْا، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ
بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لقوله: وَيَعْبُدُونَ
[النحل: 73] .
إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ، مُذَلَّلَاتٍ، فِي جَوِّ
السَّماءِ وهو الهويّ [3] بين السماء والأرض، روى كَعْبِ
الْأَحْبَارِ أَنَّ الطَّيْرَ تَرْتَفِعُ [4] اثني عشر ميلا
ولا ترتفع [5] فَوْقَ هَذَا وَفَوْقَ الْجَوِّ السُّكَاكُ
[وَفَوْقَ السُّكَاكِ] [6] السَّمَاءُ مَا يُمْسِكُهُنَّ فِي
الْهَوَاءِ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الَّتِي هِيَ مِنَ
الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، سَكَناً أَيْ: مَسْكَنًا
تَسْكُنُونَهُ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ
بُيُوتاً، يَعْنِي الْخِيَامَ وَالْقِبَابَ وَالْأَخْبِيَةَ
وَالْفَسَاطِيطَ مِنَ الْأَنْطَاعِ وَالْأُدُمَ،
تَسْتَخِفُّونَها أَيْ: يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا، يَوْمَ
ظَعْنِكُمْ، رِحْلَتِكُمْ فِي سَفَرِكُمْ، قَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ سَاكِنَةَ الْعَيْنِ،
وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ أَجْزَلُ اللُّغَتَيْنِ،
وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ، فِي بَلَدِكُمْ لَا تَثْقُلُ
عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها
وَأَشْعارِها، يَعْنِي أَصْوَافَ الضَّأْنِ وَأَوْبَارَ
الْإِبِلِ وَأَشْعَارَ الْمَعِزِ، وَالْكِنَايَاتُ [7]
رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَنْعَامِ، أَثاثاً، قال ابن عباس: ما لا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: مَتَاعًا. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: الأثاث
المال جميعه مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ
وَالْمَتَاعِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنَ
الْفَرْشِ وَالْأَكْسِيَةِ، وَمَتاعاً، بَلَاغًا يَنْتَفِعُونَ
بِهَا، إِلى حِينٍ يَعْنِي [8] الْمَوْتَ. وَقِيلَ: إِلَى
حِينِ تَبْلَى.
[سورة النحل (16) : الآيات 81 الى 86]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ
تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ
(82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها
وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا
هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا
رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ
دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ
لَكاذِبُونَ (86)
__________
(1) زيد في المطبوع والمخطوط «وبيوت» .
(2) زيد في المطبوع وحده «كون السمع والأبصار والأفئدة قبل
الخروج إذ يسمع الطفل ويبصر ولا يعلم، وهذه الجوارح من غير هذه
الصفات كالمعدوم كما قال فيمن لا يسمع الحق ولا يبصر العبر ولا
يعقل الثواب صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ لا
يشكرون نعمة» .
- وليست في المخطوطتين وط والظاهر أنهما مقحمة من أحد النساخ
أو أحد من علّق على الكتاب، ومما يدل على عدم ثبوتها ما جاء
عقب الآية التي من سورة البقرة «لا يشكرون نعمه» وقد رجعت إلى
سورة البقرة عند تلك الآية، فرأيت المصنف قد فسرها هنا بغير
هذا التفسير، والله أعلم. [.....]
(3) كذا في المطبوع والمخطوط، وفي- ط- «الهواء» .
(4) في المطبوع «ترفع» .
(5) في المطبوع «ترفع» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المخطوط «الكناية» .
(8) زيد في المطبوع «إِلَى حِينٍ» .
(3/90)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ
ظِلالًا تَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهِيَ
ظِلَالُ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبالِ أَكْناناً، يَعْنِي: الْأَسْرَابَ وَالْغِيرَانَ
وَاحِدُهَا كُنٌّ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ قُمُصًا مِنَ
الْكَتَّانِ وَالْقَزِّ وَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ، تَقِيكُمُ،
تَمَنَعُكُمْ، الْحَرَّ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أراد الحر
والبرد واكتفى [1] بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ
الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ،
يَعْنِي: الدُّرُوعَ، وَالْبَأْسُ:
الْحَرْبُ، يَعْنِي: تَقِيكُمْ فِي بَأْسِكُمُ السِّلَاحَ أَنْ
يُصِيبَكُمْ، كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، تُخْلِصُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، قَالَ
عَطَاءٌ الخراساني: إنما نزل [2] الْقُرْآنُ عَلَى قَدْرِ
مَعْرِفَتِهِمْ، فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ
أَكْنَانًا وَمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ السُّهُولِ أَكْثَرُ
وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ جِبَالٍ كَمَا
قَالَ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها [النحل:
80] لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ وَبَرٍ وَشَعْرٍ، وَكَمَا
قَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ
بَرَدٍ [النُّورِ: 43] وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ
أَكْثَرُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الثَّلْجَ.
وَقَالَ: تَقِيكُمُ الْحَرَّ
وَمَا تَقِي مِنَ الْبَرْدِ أَكْثَرُ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا
أَصْحَابَ حَرٍّ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، فإن أعرضوا فلا يلحق فِي ذَلِكَ عَتَبٌ
وَلَا سِمَةُ تَقْصِيرٍ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ، قَالَ
السُّدِّيُّ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ يُنْكِرُونَها، يُكَذِّبُونَ بِهِ. وَقَالَ
قَوْمٌ: هِيَ الْإِسْلَامُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي مَا عَدَّ لَهُمْ مِنَ
النِّعَمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنَ
اللَّهِ، ثُمَّ [إِذَا] [3] قِيلَ لَهُمْ تَصَدَّقُوا
وَامْتَثِلُوا أَمْرَ [4] اللَّهِ فِيهَا يُنْكِرُونَهَا
فَيَقُولُونَ وَرِثْنَاهَا [5] مِنْ آبَائِنَا. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ هَذِهِ
النِّعَمَ قَالُوا: نَعَمْ هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ اللَّهِ
وَلَكِنَّهَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا. وَقَالَ عَوْفُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلَا فُلَانٌ لكان
كذا وكذا وَلَوْلَا فُلَانٌ لَمَا كَانَ كَذَا، وَأَكْثَرُهُمُ
الْكافِرُونَ، الجاحدون.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً، يَعْنِي رَسُولًا [6] ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا [أي] [7] ، فِي الِاعْتِذَارِ.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ أَصْلًا، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ،
يُسْتَرْضَوْنَ، يَعْنِي: لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا
رَبَّهُمْ لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ
وَلَا يُرْجَعُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ، وَحَقِيقَةُ
الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْتَابِ أنه التعرض
__________
(1) في المطبوع «اكتفاء» .
(2) في المطبوع «أنزل» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «لأمر» .
(5) تصحف في المطبوع «روثتها» .
(6) في المخطوط «رسولها» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(3/91)
وَأَلْقَوْا إِلَى
اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا
يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ
شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
لِطَلَبِ الرِّضَا وَهَذَا الْبَابُ
مُنْسَدٌّ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفَّارِ.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، كَفَرُوا، الْعَذابَ،
يَعْنِي جَهَنَّمَ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، شُرَكاءَهُمْ، أَوْثَانَهُمْ، قالُوا رَبَّنا
هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ،
أَرْبَابًا وَنَعْبُدُهُمْ، فَأَلْقَوْا، يَعْنِي
الْأَوْثَانَ، إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ، أَيْ: قَالُوا لَهُمْ،
إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ، فِي تَسْمِيَتِنَا آلِهَةً ما دعوناكم
إلى عبادتنا.
[سورة النحل (16) : الآيات 87 الى 90]
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ
الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي
كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا
بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ
الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (90)
وَأَلْقَوْا، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ
السَّلَمَ، اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ،
وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ شَيْئًا، وَضَلَّ،
وَزَالَ، عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ أَنَّهَا
تَشْفَعُ لَهُمْ.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، مَنَعُوا
النَّاسَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ
الْعَذابِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَقَارِبُ لَهَا أَنْيَابٌ
أَمْثَالُ النَّخْلِ الطِّوَالِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: حَيَّاتٌ أَمْثَالُ الْبُخْتِ وَعَقَارِبُ أَمْثَالُ
الْبِغَالِ تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ يَجِدُ
صَاحِبُهَا حرها [1] أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي خَمْسَةَ أَنْهَارٍ مِنْ صُفْرٍ
مُذَابٍ كَالنَّارِ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ،
يُعَذَّبُونَ بِهَا ثَلَاثَةٌ عَلَى مِقْدَارِ اللَّيْلِ
وَاثْنَانِ عَلَى مِقْدَارِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ
يَخْرُجُونَ مِنْ حَرِّ النَّارِ إِلَى بَرْدِ الزَّمْهَرِيرِ
فَيُبَادِرُونَ [2] مِنْ شِدَّةِ الزَّمْهَرِيرِ إِلَى
النَّارِ مُسْتَغِيثِينَ بِهَا. وَقِيلَ: يُضَاعَفُ لَهُمُ
الْعَذَابُ. بِما كانُوا يُفْسِدُونَ، فِي الدُّنْيَا
بِالْكُفْرِ وَصَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ، يعني نبيها لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ
تُبْعَثُ إِلَى الْأُمَمِ مِنْهَا. وَجِئْنا بِكَ، يَا
مُحَمَّدُ، شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ، الَّذِينَ بُعِثْتَ
إِلَيْهِمْ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً،
بَيَانًا، لِكُلِّ شَيْءٍ، يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحُدُودِ
وَالْأَحْكَامِ، وَهُدىً، مِنَ الضَّلَالَةِ، وَرَحْمَةً
وَبُشْرى، بِشَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، بِالْإِنْصَافِ،
وَالْإِحْسانِ، إِلَى النَّاسِ، وَعَنِ ابْنِ عباس: العدل:
التوحيد والإحسان: أداء الفرائض. وعنه أيضا: الْإِحْسَانُ:
الْإِخْلَاصُ فِي التَّوْحِيدِ.
«1263» وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ
كَأَنَّكَ تَرَاهُ» .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ العدل التوحيد، والإحسان: الْعَفْوُ عَنِ
النَّاسِ، وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، صِلَةُ الرَّحِمِ،
وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ، مَا قَبُحَ مِنَ الْقَوْلِ
وَالْفِعْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزِّنَا،
وَالْمُنْكَرِ، ما لا
__________
1263- هو بعض حديث سؤالات جبريل عليه السّلام، وقد تقدم.
[.....]
(1) في المطبوع «حمتها» .
(2) في المخطوط «فينادون» .
(3/92)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا
تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا
يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ
عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ،
وَالْبَغْيِ، الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ. وَقَالَ ابْنُ عيينة:
العدل استواء السريرة [1] والعلانية، والإحسان أَنْ تَكُونَ
سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ علانيته، والفحشاء وَالْمُنْكَرُ
أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ،
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، لعلكم تَتَّعِظُونَ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ [2] : أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ
هَذِهِ الْآيَةُ.
«1264» وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ: إِنَّ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْوَلِيدِ:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أعد فعاد عَلَيْهِ، فَقَالَ:
إِنَّ لَهُ وَاللَّهِ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ
لَطَلَاوَةً وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ وَإِنَّ أَسْفَلَهُ
لَمُغْدِقٌ، وما هو بقول البشر.
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 93]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا
الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ
عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
(91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ
عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا
عاهَدْتُمْ، وَالْعَهْدُ هَاهُنَا هُوَ الْيَمِينُ، قَالَ
الشَّعْبِيُّ: الْعَهْدُ يَمِينٌ وكفارته كفارة اليمين، وَلا
تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، تَشْدِيدِهَا
فَتَحْنَثُوا فِيهَا، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ
كَفِيلًا، شَهِيدًا بِالْوَفَاءِ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا، قِيلَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ
بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ:
نَزَلَتْ فِي حِلْفِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِنَقْضِ الْعَهْدِ. فَقَالَ: وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ، أَيْ: مِنْ
بَعْدِ غَزْلِهِ وَإِحْكَامِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ
وَمُقَاتِلٌ: هِيَ امْرَأَةٌ خَرْقَاءُ حَمْقَاءُ مِنْ
قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهَا:
رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ كَعْبِ [3] بْنِ
زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَتُلَقَّبُ بِجِعْرِ وَكَانَتْ
بِهَا وَسُوسَةٌ، وَكَانَتِ اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا بِقَدْرِ
ذِرَاعٍ وَصِنَّارَةً مِثْلَ الْأُصْبُعِ، وَفَلْكَةً
عَظِيمَةً عَلَى قَدْرِهَا وَكَانَتْ تَغْزِلُ الْغَزْلَ مِنَ
الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ، وَتَأْمُرُ جَوَارِيَهَا
بِذَلِكَ فَكُنَّ يَغْزِلْنَ مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى نِصْفِ
النَّهَارِ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ أَمَرَتْهُنَّ
بِنَقْضِ جَمِيعِ مَا غَزَلْنَ فَهَذَا كَانَ دَأْبَهَا [4] ،
وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَكُفَّ عَنِ الْعَمَلِ وَلَا حِينَ
عَمِلَتْ كَفَّتْ عَنِ النَّقْضِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ إِذَا
نَقَضْتُمُ الْعَهْدَ لَا كَفَفْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ، وَلَا
حِينَ عَاهَدْتُمْ وَفَيْتُمْ به، أَنْكاثاً، يعني أنقاضا
واحدها [5] نَكْثٌ وَهُوَ مَا نُقِضَ بَعْدَ الْفَتْلِ غَزْلًا
كَانَ أَوْ حَبْلًا. تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا
بَيْنَكُمْ، أَيْ: دخلا وخيانة وخديعة، والدخل مَا يَدْخُلُ
فِي الشَّيْءِ لِلْفَسَادِ، وقيل: الدخل والدغل أَنْ يُظْهِرَ
الْوَفَاءَ وَيُبْطِنَ النَّقْضَ. أَنْ تَكُونَ أَيْ: لِأَنْ
تَكُونَ، أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى، أَيْ: أَكْثَرُ وَأَعْلَى، مِنْ
أُمَّةٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا
يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا أَكْثَرَ
مِنْهُمْ وَأَعَزَّ نَقَضُوا حِلْفَ هَؤُلَاءِ وَحَالَفُوا
الْأَكْثَرَ، فَمَعْنَاهُ طَلَبْتُمُ الْعِزَّ بِنَقْضِ
الْعَهْدِ بِأَنْ كَانَتْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ أُمَّةٍ
فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذلك.
__________
1264- لم أجد من أسنده عن أيوب، وهو مرسل، ولم يذكره غير
المصنف عند هذه الآية، وكلام الوليد هذا مشهور في كتب السيرة
بدون ذكر هذه الآية، وسيأتي.
(1) في المطبوع «السر» والمثبت عن المخطوط والطبري 21867.
(2) زيادة عن المخطوط تصحف في المخطوط «عباس» .
(3) في المطبوع «كليب» .
(4) في المطبوع «رأيها» .
(5) في المطبوع «واحدتهما» .
(3/93)
وَلَا تَتَّخِذُوا
أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ
ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا
تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ
اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ،
ليختبركم [1] اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْوَفَاءِ
بِالْعَهْدِ، وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، فِي الدُّنْيَا.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، عَلَى
مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْإِسْلَامُ، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ
يَشاءُ، بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ عَدْلًا مِنْهُ، وَيَهْدِي
مَنْ يَشاءُ، بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ فَضْلًا منه،
وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَوْمَ
الْقِيَامَةِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ
قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا
تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ
اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا
كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا
يَعْمَلُونَ (97)
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا، خَدِيعَةً وَفَسَادًا،
بَيْنَكُمْ، فَتَغُرُّونَ بِهَا النَّاسَ فَيَسْكُنُونَ إِلَى
أَيْمَانِكُمْ وَيَأْمَنُونَ ثُمَّ تَنْقُضُونَهَا، فَتَزِلَّ
قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها، فتهلكوا بعد ما كُنْتُمْ آمِنِينَ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مُبْتَلًى بَعْدَ عَافِيَةٍ أَوْ
سَاقِطٍ فِي وَرْطَةٍ بَعْدَ سَلَامَةٍ زَلَّتْ قَدَمُهُ،
وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ،
قِيلَ: مَعْنَاهُ سَهَّلْتُمْ طَرِيقَ نَقْضِ الْعَهْدِ عَلَى
النَّاسِ بِنَقْضِكُمُ الْعَهْدَ، وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا، يَعْنِي
لَا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمْ تَطْلُبُونَ بِنَقْضِهَا عَرَضًا
قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَوْفَوْا بِهَا. إِنَّما
عِنْدَ اللَّهِ هُوَ، مِنَ الثواب لكم على الوفاء بالعهد،
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فضل ما بيني
الْعِوَضَيْنِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ. فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ، أَيِ [2] الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَفْنَى، وَما
عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ بِالنُّونِ وَالْبَاقُونَ
بِالْيَاءِ، الَّذِينَ صَبَرُوا، عَلَى الْوَفَاءِ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا
يَعْمَلُونَ.
«1265» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ
الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر الجوهري ثنا
أحمد بن علي الكشمهيني ثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا
عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى المطلب [عن الْمُطَّلِبِ]
[3] عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ دنياه
أضر بآخرته، ومن
__________
1265- إسناده ضعيف لانقطاعه بين أبي موسى والمطلب. وفي الإسناد
عمرو بن أبي عمرو، وفيه كلام، المطلب هو ابن عبد الله بن
المطلب.
- وهو في «شرح السنة» 3933 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الحاكم 4/ 319 من طريق إسماعيل بن جعفر به.
- وأخرجه أحمد 4/ 412 والحاكم 4/ 308 وابن حبان 709 والقضاعي
418 والبيهقي 3/ 370 من طريقين عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي
عَمْرٍو به.
- وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: فيه انقطاع، وذكره
المنذري في «الترغيب» 4744 وقال: المطلب لم يسمع من أبي موسى.
(1) في المطبوع «يختبركم» .
(2) زيد في المخطوط «من» .
(3) زيادة عن المخطوط وكتب التخريج.
(3/94)
فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا
آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ،
فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً،
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هِيَ الرزق الحلال.
وقال الْحَسَنُ: هِيَ الْقَنَاعَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ
حَيَّانَ: يَعْنِي الْعَيْشَ فِي الطَّاعَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَرَوَاهُ
عَوْفٌ عَنِ الْحُسْنِ.
وَقَالَ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي
الْجَنَّةِ. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا
كانُوا يَعْمَلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ
وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا
إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ،
أي: إذا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَةِ: 6] ،
وَالِاسْتِعَاذَةُ سُنَّةٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ،
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ
الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَعْدَهَا وَلَفْظُهُ
أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
«1266» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ ثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ سَمِعْتُ عَاصِمًا عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، قَالَ: فَكَبَّرَ، فَقَالَ:
«اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ كَثِيرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم من همزه ولمزه ونفخه
ونفثه» . [قال عمرو:
__________
1266- حديث صحيح. إسناده لين لأجل عاصم وهو ابن عمير العنزي،
وثقه ابن حبان وحده، وقال الحافظ: مقبول. لكن للحديث شواهد.
- شعبة بن الحجاج ابن جبير هو نافع.
- وهو في «شرح السنة» 576 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 764 وابن ماجه 807 وأحمد 4/ 85 والطيالسي
947 وأبو يعلى 7398 وابن الجارود في «المنتقى» 180 وابن خزيمة
468 وابن حبان 1779 من طرق عن شعبة به، وصححه الحاكم 1/ 235،
ووافقه الذهبي.
- وأخرجه أحمد 4/ 80 و81 والطبراني 1569 من طريق رجل من عنزة
عن نافع بن جبير به.
- وأخرجه أحمد 4/ 83 وابن خزيمة 469 من طريق عمرو بن مرة عن
عباد بن عاصم عن نافع بن جبير به.
- وللحديث شواهد منها:
- حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو داود 775 والترمذي 242
والنسائي 2/ 132 وهو حسن.
- وحديث ابن مسعود عند ابن ماجة 808 وأحمد 1/ 404 وابن خزيمة
472 وأبو يعلى 4994 و5077 وصححه الحاكم 1/ 207 ووافقه الذهبي!.
- وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف عطاء بن السائب اختلط بأخرة،
وسمع منه محمد بن فضيل بعد الاختلاط.
- لكن يصلح شاهدا لما تقدم.
- وحديث ابن عمر عند مسلم 601 وعبد الرزاق 2559.
(3/95)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ
عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
(105)
وَنَفْخُهُ] [1] الْكِبْرُ وَنَفْثُهُ
الشِّعْرُ وَهَمْزُهُ الْمَوْتَةُ، وَالْمَوْتَةُ الْجُنُونُ،
وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ هِيَ الِاعْتِصَامُ بِهِ.
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ، حُجَّةٌ وَوِلَايَةٌ، عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، قَالَ
سُفْيَانُ: لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ
عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ.
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ،
يُطِيعُونَهُ وَيَدْخُلُونَ فِي وِلَايَتِهِ، وَالَّذِينَ هُمْ
بِهِ مُشْرِكُونَ، أَيْ: بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ. وَقِيلَ:
الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَمَجَازُهُ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْلِهِ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ.
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ، يَعْنِي وَإِذَا
نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا
آخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ، أَعْلَمُ بِمَا
هُوَ أَصْلَحُ لِخَلِقِهِ فِيمَا يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ مِنْ
أَحْكَامِهِ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، مُفْتَرٍ،
مُخْتَلِقٌ [2] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا:
إِنَّ مُحَمَّدًا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمُ
الْيَوْمَ بِأَمْرٍ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ غَدًا مَا هُوَ
إِلَّا مُفْتَرٍ يَتَقَوَّلُهُ مِنْ تلقاء نفسه، قال اللَّهِ:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ،
وَبَيَانَ النَّاسِخِ [3] مِنَ المنسوخ.
قُلْ نَزَّلَهُ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، رُوحُ الْقُدُسِ، جبريل
[عليه السلام] [4] ، مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، بِالصِّدْقِ،
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ: لِيُثَبِّتَ [5] قُلُوبَ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَهُدىً
وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 105]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا
لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ
(105)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ
بَشَرٌ، آدَمِيٌّ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَشَرِ.
«1267» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ قَيْنًا [6] بِمَكَّةَ
اسْمُهُ بَلْعَامُ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا أَعْجَمِيَّ
اللِّسَانِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ
وَيَخْرُجُ، فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ
بَلْعَامُ.
«1268» وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم يقرىء غُلَامًا لِبَنِي الْمُغِيرَةِ يُقَالُ
لَهُ يَعِيشُ وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَقَالَتْ قريش:
إنما يعلمه [يسار، و] [7] يَعِيشُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّمَا
يَتَعَلَّمُ مِنْ عَايَشَ مَمْلُوكٍ كَانَ لِحُوَيْطِبِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ، وكان أعجمي اللِّسَانِ.
«1269» وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي كَثِيرًا مَا
يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى غُلَامٍ رومي
__________
1267- ضعيف. أخرجه الطبري 21933 من حديث ابن عباس، وضعفه
السيوطي في «الدر» 4/ 247 وفي «أسباب النزول» 666 أيضا.
[.....]
1268- مرسل. أخرجه الطبري 21934 عن عكرمة مرسلا.
1269- مرسل. أخرجه الطبري 2136 عن ابن إسحاق مرسلا.
(1) سقط من المخطوط.
(2) في المخطوط «تختلق» .
(3) في المطبوع «و» بدل «من» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع وط «يثبت» .
(6) في المطبوع «فينا» .
(7) سقط من المطبوع.
(3/96)
نَصْرَانِيٍّ عَبْدٍ لِبَعْضِ بَنِي
الْحَضْرَمِيِّ، يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، وَكَانَ يَقْرَأُ
الْكُتُبَ.
«1270» «1271» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ
الْحَضْرَمِيُّ كَانَ لَنَا عَبْدَانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ
التَّمْرِ [1] يُقَالُ لأحدهما [يسار، و] يكنى أَبَا
فَكِيهَةَ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ جَبْرٌ، وَكَانَا يَصْنَعَانِ
السُّيُوفَ بِمَكَّةَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهما يقرآن التوراة، فَيَقِفُ
وَيَسْتَمِعُ. قَالَ الضَّحَاكُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آذَاهُ الْكَفَّارُ يَقْعُدُ
إِلَيْهِمَا ويستروح [2] بكلامها، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ:
إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مُحَمَّدٌ مِنْهُمَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ:
لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ، أَيْ يَمِيلُونَ
وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ، أَعْجَمِيٌّ، الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي
لَا يُفْصِحُ وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ بِالْبَادِيَةِ،
وَالْعَجَمِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ
فَصِيحًا، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ، وَالْعَرَبِيُّ
مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصِيحًا،
وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، فَصِيحٌ وَأَرَادَ
بِاللِّسَانِ الْقُرْآنَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اللُّغَةُ
لِسَانٌ، وَرُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانُوا يُشِيرُونَ
إِلَيْهِ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا
يَهْدِيهِمُ اللَّهُ، لَا يُرْشِدُهُمُ اللَّهُ، وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ
الْكُفَّارَ هُمُ الْمُفْتَرُونَ. فَقَالَ: إِنَّما يَفْتَرِي
الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ
وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ
(105) ، لَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ
هُمُ الْكاذِبُونَ، قِيلَ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب أخبار عن
فعلهم وهم الْكَاذِبُونَ نَعْتٌ لَازِمٌ لَهُمْ كَقَوْلِ
الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ كَذَبْتَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ أَيْ كَذَبْتَ
فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْ عَادَتِكَ الْكَذِبُ.
«1272» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثعلبي أنا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ
الجوزي أنا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عمر بن حفص
ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الفرج الأزرق [ثنا أبو زياد
يزيد بن عبد الله] [3] ثنا
__________
1270- مرسل. أخرجه الطبري 21938 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُسْلِمٍ الحضرمي.
1271- عزاه المصنف للضحاك، وإسناده إليه أول الكتاب، وهو مرسل.
- وأخرج ابن أبي حاتم كما في «الدر» 4/ 247 عن السدي نحوه.
- الخلاصة: هذه روايات عامتها مراسيل، لكن لعل هذه الروايات
تتأيد بمجموعها، ويعلم أن لهذا الخبر أصلا، والله أعلم.
1272- باطل. إسناده ساقط، فيه يَعْلَى بْنُ الْأَشْدَقِ عَنْ
عَبْدِ الله بن جراد.
- قال الذهبي في «الميزان» 4/ 456: قال ابن عدي: روى يعلى عن
عمه عبد الله بن جراد، وزعم أن لعمه صحبة.
- فذكر أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمه غير معروفين، قال
البخاري، لا يكتب حديثه.
- وقال ابن حبان: وضعوا أحاديث له فحدث بها ولم يدر، وقال أبو
زرعة: لا يصدق.
- وقال الذهبي في ترجمة ابن جراد 2/ 400: مجهول، لا يصح خبره،
لأنه من رواية يعلى بن الأشدق الكذاب.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 85 عن أبي حفص عمر بن أحمد
الجوزي بهذا الإسناد.
- وأخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» 131 من طريق سعد بن عبد
الحميد به.
- وقد تفرد يعلى بهذا الحديث، وهو ساقط، والمتن منكر جدا، فهو
باطل بهذا اللفظ.
- وأخرج مالك في «الموطأ» 2/ 990 عن صفوان بن سليم أنه قَالَ:
قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن
جبانا؟ فقال:
نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: نعم فقيل له: أيكون
المؤمن كذابا؟ فقال: لا.
- قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسندا من وجه ثابت، وهو حديث حسن
مرسل.
(1) في «تفسير الطبري» «عير اليمن» وفي «تفسير الشوكاني» «عين
التمر» .
(2) في المطبوع «ويستريح» . [.....]
(3) سقط من المطبوع.
(3/97)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ
اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جعفر
ثنا يَعْلَى بْنُ الْأَشْدَقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَرَادٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ
يَزْنِي؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قَالَ قُلْتُ:
الْمُؤْمِنُ يَسْرِقُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قُلْتُ:
الْمُؤْمِنُ يَكْذِبُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ اللَّهُ إِنَّما
يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ
اللَّهِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ
شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا
الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي
الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
عَمَّارٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ وَأَبَاهُ
يَاسِرًا وَأُمَّهُ سُمَيَّةَ وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا
وَخَبَّابًا وَسَالِمًا فَعَذَّبُوهُمْ، فَأَمَّا سُمَيَّةُ
فَإِنَّهَا رُبِطَتْ بَيْنَ بعيرين وو جيء قُبُلُهَا
بِحَرْبَةٍ فَقُتِلَتْ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ وَهُمَا
أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ قُتِلَا في الإسلام [رضي الله عنهما] [1]
، وَأَمَّا عَمَّارٌ فَإِنَّهُ أَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا
بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا.
«1273» قَالَ قَتَادَةُ: أَخْذَ بَنُو الْمُغِيرَةِ عَمَّارًا
وَغَطَّوْهُ فِي بِئْرِ مَيْمُونٍ، وَقَالُوا لَهُ: اكْفُرْ
بِمُحَمَّدٍ فَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَلْبُهُ كَارِهٌ،
فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَنَّ عَمَّارًا كَفَرَ فَقَالَ: «كَلَّا إِنَّ عمارا ملىء
إِيمَانًا مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَاخْتَلَطَ
الْإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ» فَأَتَى عَمَّارٌ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي،
فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا وَرَاءَكَ» ؟ قَالَ:
شَرٌّ يا رسول الله [إني] [2] نلت منك وذكرت آلهتهم بخير،
قَالَ: «كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ» قَالَ: مُطْمَئِنًّا
بِالْإِيمَانِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: إِنْ عَادُوا لَكَ
فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
آمَنُوا فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ هَاجِرُوا فَإِنَّا
لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا فَخَرَجُوا
يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْشٌ فِي
الطريق [ففتنوهم] [3] [فَكَفَرُوا] [4] كَارِهِينَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي جَبْرٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ
الْحَضْرَمِيِّ أَكْرَهَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْكُفْرِ فَكَفَرَ
مُكْرَهًا، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، ثم أسلم
[جَبْرٍ] [5] وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَهَاجَرَ جَبْرٌ مَعَ
سَيِّدِهِ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً
__________
1273- أخرجه الطبري 1945 عن قتادة مرسلا ولم يذكر اللفظ
المرفوع.
- وأخرجه الحاكم 2/ 357 وعبد الرزاق في «التفسير» 1509 والطبري
21946 من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه.
- وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! مع أن مداره على
محمد بن عمار بن ياسر، وهو مقبول، ولم يرو له الشيخان، لكن أصل
الخبر محفوظ.
- فقد أخرجه الطبري 21947 عن أبي مالك مرسلا.
- وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبري 21944 وإسناده ضعيف
لضعف عطية العوفي وأخرجه أيضا أبو نعيم في «الحلية» 1/ 140 عن
مجاهد مرسلا.
- وللحديث شواهد وطرق يصح بها، راجع «الكشاف» 595 بتخريجي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) سقط من المطبوع.
(4) تصحف في المطبوع «فكروا» .
(5) في المطبوع «مولى عامر بن الحضرمي» .
(3/98)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ
جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ
نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ
كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ (112)
أَيْ: فَتَحَ صَدْرَهُ لِلْكُفْرِ [1]
بِالْقَبُولِ وَاخْتَارَهُ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى
كَلِمَةِ الْكُفْرِ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ،
وَإِذَا قَالَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَا يَكُونُ
كُفْرًا وإن أبى أن يقوله [2] حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ أَفْضَلَ.
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ
فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى [3] أَنَّهُ لَا يقع.
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا، آثروا، الْحَياةَ الدُّنْيا
عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ، لَا يُرْشِدُهُمْ.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ
وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ،
(108) عَمَّا يُرَادُ بهم.
لا جَرَمَ، [أي حقا] [4] أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ
الْخاسِرُونَ، أي المغبونون.
[سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 112]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا
فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها
رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ
فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ (112)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا
فُتِنُوا، عُذِّبُوا وَمُنِعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ فَتَنَهُمُ
الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا عَلَى الْإِيمَانِ
وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها،
مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالْغَفْلَةِ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ، نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخِي
أبي جهل من الرضاعة، وأبي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَسَلَمَةَ
بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن أبي [5] أُسَيْدٍ
الثَّقَفِيِّ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَوْهُمْ بَعْضَ
مَا أَرَادُوا لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ
هَاجَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاهَدُوا.
«1274» وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَكَانَ يَكْتُبُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فاستنزله
الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكَفَّارِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فتح مكة بقتله
فاستجاره عُثْمَانُ وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ مِنَ
الرَّضَاعَةِ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فُتِنُوا بِفَتْحِ الْفَاءِ
وَالتَّاءِ، وَرَدَّهُ إِلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ، تُخَاصِمُ وَتَحْتَجُّ،
عَنْ نَفْسِها، بِمَا أَسْلَفَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ
مُشْتَغِلًا بِهَا لَا تَتَفَرَّغُ إِلَى غَيْرِهَا،
وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِكَعْبِ
الْأَحْبَارِ: خَوِّفْنَا، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ وَافَيْتَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَأَتَتْ
عليك تارات [6] وَأَنْتَ لَا تُهِمُّكَ إِلَّا نَفْسُكَ،
وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً لَا يَبْقَى ملك مقرب ولا نبي
__________
1274- أخرجه الطبري 21955 عن عكرمة والحسن مرسلا، وهو ضعيف
بذكر نزول الآية فيه، وأما استشفاع عثمان له وإعلان إسلامه
فصحيح، وسيأتي.
(1) في المطبوع «بالكفر» .
(2) في المطبوع «يقول» .
(3) تصحف في المطبوع «إلّا» .
(4) زيد في المطبوع.
(5) زيد لفظ «أبي» في المطبوع.
(6) في المطبوع «ساعات» . [.....]
(3/99)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ
ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا
طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
[مُرْسَلٌ] [1] مُنْتَخَبٌ إِلَّا وَقَعَ
جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ
الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا
نَفْسِي، وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذلك الذي أنزله اللَّهُ عَلَيْكُمْ
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها، وَرَوَى
عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ:
مَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، حَتَّى تُخَاصِمَ الرُّوحُ الْجَسَدَ فَتَقُولُ
الرُّوحُ يَا رَبِّ لَمْ يَكُنْ لِي يَدٌ أَبْطِشُ بِهَا وَلَا
رجل أمشي بها ولا أعين أبصر بها، فنجني وعذبه، ويقول الجسد يا
رب [حيث كنت معدوم الروح] [2] لم تبطش يدي ولم تمش رجلي ولم
تبصر عيني، فجاء هذا كشاع النُّورِ، فَبِهِ نَطَقَ لِسَانِي
وَأَبْصَرَتْ عيني وبطشت يدي ومشت رجلي، قال: فيضرب الله لهما
مثلا [فقال وإنما مثلكما مثل] [3] أَعْمَى وَمُقْعَدٌ دَخَلَا
حَائِطًا فِيهِ ثِمَارٌ فَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ الثَّمَرَ،
والمقعد يرى ولا يَنَالُهُ، فَحَمْلَ الْأَعْمَى الْمُقْعَدَ
فَأَصَابَا مِنَ الثَّمَرِ فَعَلَيْهِمَا الْعَذَابُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ
آمِنَةً، يَعْنِي: مَكَّةَ كَانَتْ آمِنَةً لَا يُهَاجُ
أَهْلُهَا وَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا، مُطْمَئِنَّةً، قَارَّةً
بِأَهْلِهَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ
لِلِانْتِجَاعِ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَائِرُ الْعَرَبِ،
يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، يُحْمَلُ
إِلَيْهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ نَظِيرُهُ: يُجْبى
إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْقَصَصِ: 57] .
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، جَمْعُ النِّعْمَةِ، وَقِيلَ:
جَمْعُ نَعْمَاءَ مِثْلِ بَأْسَاءَ وَأَبْؤُسٍ، فَأَذاقَهَا
اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ، ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ
سَبْعَ سِنِينَ وَقَطَعَتِ الْعَرَبُ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى جهدوا وأكلوا الْعِظَامَ الْمُحَرَّقَةَ، وَالْجِيَفَ
وَالْكِلَابَ الْمَيِّتَةَ، وَالْعِهْنَ وَهُوَ الْوَبَرُ
يُعَالَجُ بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى
السَّمَاءِ فَيَرَى شِبْهَ الدُّخَانِ [4] مِنَ الْجُوعِ،
ثُمَّ إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وقالوا: ما هذا؟ هبك عَادَيْتَ
الرِّجَالَ فَمَا بَالُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَأَذِنَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ
بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بَعْدُ مُشْرِكُونَ [5]
، وَذَكَرَ اللِّبَاسَ لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ
الْهُزَالِ وَالشُّحُوبِ وَتَغَيُّرِ ظَاهِرِهِمْ عَمَّا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ كَاللِّبَاسِ لَهُمْ،
وَالْخَوْفِ، يَعْنِي: بُعُوثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ
بِهِمْ. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 113 الى 117]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ
الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ
وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا
تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ
وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ
(116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ
وَهُمْ ظالِمُونَ.
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً
وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (114) .
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ
__________
(1) سقط من المخطوط.
(2) ما بين الحاصرتين في المطبوع وط «خلقتني كالخشب» .
(3) زيد في المطبوع وحده.
(4) في المطبوع «دخان» .
(5) هذا الخبر يأتي في سورة الدخان.
(3/100)
وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا
ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ
يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ
اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمْ [1]
أَوْ لِأَجْلِ وَصْفِكُمُ الكذب أَنَّكُمْ تُحِلُّونَ
وَتُحَرِّمُونَ لِأَجْلِ الْكَذِبِ لَا لِغَيْرِهِ، هَذَا
حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، يَعْنِي الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ،
لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فَتَقُولُونَ إِنَّ
اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ، لَا يَنْجُونَ مِنْ
عَذَابِ الله.
مَتاعٌ قَلِيلٌ، [يَعْنِي: الَّذِي هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ
أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ] [2] فِي الدُّنْيَا. وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ، في الآخرة.
[سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 123]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ
مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا
السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ
حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً
لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ
(121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ
مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي في سورة الأنعام. و [هو] [3] قَوْلُهُ
تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي
ظُفُرٍ [الْأَنْعَامِ: 146] الْآيَةَ وَما ظَلَمْناهُمْ
بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ بِبَغْيِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ
ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا يعني: بالإصلاح
الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْبَةِ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْجَهَالَةِ، لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ الْأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ أَيْ: كَانَ
مُعْلِّمًا لِلْخَيْرِ يَأْتَمُّ [4] به أهل [الخير في]
الدُّنْيَا، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ
الْحَمِيدَةِ مَا يَجْتَمِعُ [5] فِي أُمَّةٍ، قَالَ
مُجَاهِدٌ:
كَانَ مُؤْمِنًا وحده والناس كلهم كفار، وقال قَتَادَةُ:
لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَتَوَلَّوْنَهُ
وَيَرْضَوْنَهُ. قانِتاً لِلَّهِ، مطيعا [لله] [6] . وَقِيلَ:
قَائِمًا بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، حَنِيفاً مُسْتَقِيمًا
عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مُخْلِصًا. وَلَمْ يَكُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ، اخْتَارَهُ، وَهَداهُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ: إِلَى دِينِ الْحَقِّ.
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، يَعْنِي الرِّسَالَةَ
وَالْخُلَّةَ. وَقِيلَ: لِسَانَ الصِّدْقِ وَالثَّنَاءَ
الْحَسَنَ، وَقَالَ مقاتل بن حيان: يعني الصلاة عليه فِي
قَوْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وآل
إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: أَوْلَادًا أَبْرَارًا عَلَى
الْكِبَرِ. وَقِيلَ: الْقَبُولُ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ
الْأُمَمِ. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ،
مَعَ آبَائِهِ الصَّالِحِينَ فِي الْجَنَّةِ. وَفِي الْآيَةِ
تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهُ: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
__________
(1) زيد في المخطوط «الكذب» .
(2) زيد في المطبوع وط.
(3) سقط من المطبوع.
(4) تصحف في المطبوع «يأثم» .
(5) في المطبوع «اجتمع» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(3/101)
إِنَّمَا جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ (128)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ،
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، حَاجًّا
مُسْلِمًا، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ أَهْلُ
الْأُصُولِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مأمور بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَا نُسِخَ
فِي شَرِيعَتِهِ، وَمَا لَمْ يُنْسَخْ صار شرعا [له] [1] .
[سورة النحل (16) : الآيات 124 الى 128]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ
مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ
بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ
مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: خالفوا فِيهِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ لَعْنَةً عَلَى الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ
تَعْظِيمَ السَّبْتِ وَتَحْرِيمَهُ إِلَّا على الذين اختلفوا
فيه، يعني: اليهود، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ سَبَتَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَقَالَ
قَوْمٌ: بَلْ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ
فَاخْتَارُوا تَعْظِيمَ غَيْرِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ،
وَقَدِ فرض [اللَّهُ] [2] عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ.
قال الكلبي: أمرهم موسى بِالْجُمُعَةِ فَقَالَ: تَفَرَّغُوا
لِلَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا فَاعْبُدُوهُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا تَعْمَلُوا فِيهِ لِصَنْعَتِكُمْ [3]
، وَسِتَّةَ أَيَّامٍ لِصِنَاعَتِكُمْ، فَأَبَوْا وَقَالُوا:
لَا نُرِيدُ إِلَّا الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ
مِنَ الْخَلْقِ [يَوْمَ] [4] السَّبْتِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْهِمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ثُمَّ
جَاءَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ،
فَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِيدُهُمْ بَعْدَ
عِيدِنَا يَعْنُونَ الْيَهُودَ، فَاتَّخَذُوا الْأَحَدَ
فَأَعْطَى الله الجمعة لهذه الأمة فقبلوه وبورك لهم فيه [5] .
«1275» أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ
الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ
السُّلَمِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامِ بن منبه قال: ثنا
__________
1275- صحيح. أحمد بن يوسف ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه
رجال البخاري ومسلم، عبد الرزاق هو ابن همام، معمر هو ابن
راشد.
- وهو في «شرح السنة» 1040 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 6624 و7036 ومسلم 855 ح 21 وأحمد 2/ 274 و312
والبيهقي 3/ 171 من طريق عبد الرزاق بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 238 و876 و6887 ومسلم 855 والنسائي 3/ 85
وأحمد 2/ 243 والبيهقي 3/ 170 من طريقين عن أبي الزناد عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ أنه سمع أبا هريرة.
- أخرجه البخاري 896 و3486 وأحمد 2/ 274 و341 والحميدي 955
والبيهقي 3/ 188 من طريق ابن طاووس عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «لصنيعكم» وفي المخطوط «لصانعكم» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع وط «فيها» .
(3/102)
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحْنُ
الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ
أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ
مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ
عَلَيْهِمْ [1] فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ
[فَهُمْ] [2] لَنَا فِيهِ تَبَعٌ فَالْيَهُودُ غَدًا
وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. [قَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ هُمُ] [3] الْيَهُودُ اسْتَحَلَّهُ
بَعْضُهُمْ وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ. وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ.
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ، بِالْقُرْآنِ،
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى
اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وقيل: هو قول اللين
الرقيق من غير تغليظ وَلَا تَعْنِيفٍ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ، وَخَاصِمْهُمْ وَنَاظِرْهُمْ بِالْخُصُومَةِ
الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ وَلَا
تُقَصِّرْ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى
الْحَقِّ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.
«1276» هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي
شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا
رَأَوْا مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلَاهُمْ يَوْمَ
أُحُدٍ مِنْ تَبْقِيرِ الْبُطُونِ وَالْمُثْلَةِ السَّيِّئَةِ
حَتَّى لَمَّ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ
إِلَّا مُثِّلَ بِهِ غَيْرَ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ
فَإِنَّ أَبَاهُ أَبَا عَامِرٍ الرَّاهِبَ كَانَ مَعَ أَبِي
سُفْيَانَ فَتَرَكُوا حَنْظَلَةَ لِذَلِكَ، فَقَالَ
الْمُسْلِمُونَ حِينَ رَأَوْا ذَلِكَ: لَئِنْ أَظْهَرَنَا
اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَنَزِيدَنَّ عَلَى صَنِيعِهِمْ
وَلَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ
مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ جَدَعُوا أنفه وأذنيه [4]
وَقَطَعُوا مَذَاكِيرَهُ وَبَقَرُوا بَطْنَهُ، وَأَخَذَتْ
هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ قِطْعَةً مِنْ كبده فمضغتها ثم
استرطتها [5] لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَلْبَثْ فِي بَطْنِهَا
حَتَّى رَمَتْ بِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «أما إنها لو أكلتها لم
تدخل النار أبدا إن حَمْزَةُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ أَنْ يُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ النَّارَ» ،
فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى حمزد نظر إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى
شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ
مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ مَا علمتك إلا فعالا
لِلْخَيْرَاتِ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، وَلَوْلَا حُزْنٌ مِنْ
بَعْدِكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ
__________
1276- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 573 بدون إسناد.
- وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» 3/ 10 والبيهقي في «الدلائل» 3/
287 والواحدي 570 و572 من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا فيه
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ متهم بسرقة
الحديث كما في «التقريب» . وقيس بن الربيع تغير لما كبر، وأيضا
هذا إسناد منقطع بين الحكم ومقسم كما في «تهذيب التهذيب» 2/
373.
- وأخرجه الحاكم 3/ 197 والبزار 1795 والواحدي 571 بنحوه من
حديث أبي هريرة، وفيه صالح بن بشير المري، وهو ضعيف، ولذا سكت
عليه الحاكم، وقال الذهبي: صالح واه. وكذا أعله الهيثمي في
«المجمع» 10104 بضعف صالح المري.
والحديث بهذا اللفظ ضعيف. وفي بعض ألفاظه نكارة ومن ذلك ذكر
نزول جبريل وذكر نزول الآية و «كفر عن يمينه» و «لو أكلتها ما
دخلت النار» ولبعضه الآخر شواهد فالخبر له أصل بغير هذا
السياق، راجع «الكشاف» 599 و «أحكام القرآن» 1312 و1313
بتخريجي، وقد استوفيت طرقه وشواهده في هذا الأخير، والله
الموفق.
(1) زيد في المطبوع «يعني يوم الجمعة» .
(2) في المطبوع «والناس» .
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) في المطبوع «أذنه» .
(5) في المطبوع «استرطبتها» .
(3/103)
|