تفسير البغوي
إحياء التراث طسم (1)
تفسير سُورَةُ الْقَصَصِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ: لَا نَبْتَغِي
الْجاهِلِينَ [52- 55] وَفِيهَا آيَةٌ نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ.
وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [85] [وهي ثمان وثمانون آية]
[1]
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا
يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
طسم (1) .
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) .
نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ،
وبالصدق، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا، اسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَعَظَّمَ،
فِي الْأَرْضِ، أَرْضِ مِصْرَ، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً،
فِرَقًا وَأَصْنَافًا فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّسْخِيرِ،
يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، أراد الطائفة بَنِي
إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ فَسَّرَ الِاسْتِضْعَافَ فَقَالَ:
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ. سَمَّى
هَذَا اسْتِضْعَافًا لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا أو ضعفوا عَنْ
دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً، قادة في
__________
(1) زيد في المطبوع.
(3/521)
الْخَيْرِ يُقْتَدَى بِهِمْ. وَقَالَ
قَتَادَةُ [ولاة] [1] ملوكا دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: 20] ، وقال مجاهد: دعاء إِلَى
الْخَيْرِ. وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، يَعْنِي أَمْلَاكَ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ يَخْلُفُونَهُمْ فِي مَسَاكِنِهِمْ.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، أوطّن لَهُمْ فِي أَرْضِ
مِصْرَ وَالشَّامِ، وَنَجْعَلَهَا لَهُمْ مَكَانًا
يَسْتَقِرُّونَ فِيهِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ، قرأ الأعمش وحمزة
والكسائي «يرى» بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا، فِرْعَوْنَ وَهامانَ
وَجُنُودَهُما، مَرْفُوعَاتٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَهُمْ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ
وَنَصْبِ الْيَاءِ وَنَصْبِ مَا بَعْدَهُ بِوُقُوعِ [2]
الْفِعْلِ عَلَيْهِ، مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ،
وَالْحَذَرُ هُوَ التَّوَقِّي مِنَ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا أَنَّ هَلَاكَهُمْ عَلَى يَدِ رَجُلٍ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَكَانُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْهُ،
فَأَرَاهُمُ اللَّهُ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ.
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى، وهو وَحْيَ إِلْهَامٍ لَا
وَحْيَ نُبُوَّةٍ، قَالَ قَتَادَةُ: قَذَفْنَا فِي قَلْبِهَا،
وأم موسى يوحانذ بِنْتُ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، أَنْ
أَرْضِعِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ، قِيلَ:
ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ:
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَانَتْ
تُرْضِعُهُ فِي حِجْرِهَا، وَهُوَ لَا يَبْكِي وَلَا
يَتَحَرَّكُ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ، يَعْنِي مِنَ الذَّبْحِ،
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَالْيَمُّ الْبَحْرُ وَأَرَادَ
هَاهُنَا النِّيلَ، وَلا تَخافِي، قِيلَ: لَا تَخَافِي
عَلَيْهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَقِيلَ: مِنَ الضَّيْعَةِ، وَلا
تَحْزَنِي، عَلَى فِرَاقِهِ، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
رَوَى عَطَاءٌ و [3] الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا
كَثُرُوا بِمِصْرَ اسْتَطَالُوا عَلَى النَّاسِ وَعَمِلُوا
بِالْمَعَاصِي وَلَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ
يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الْقِبْطَ فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله عَلَى يَدِ
نَبِيِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أُمَّ
مُوسَى لَمَّا تَقَارَبَتْ وِلَادَتُهَا وَكَانَتْ قَابِلَةٌ
مِنَ الْقَوَابِلِ الَّتِي وَكَّلَهُنَّ فِرْعَوْنُ بِحُبَالَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ مصافية لأم موسى، فلما حزبها الطَّلْقُ
أَرْسَلَتْ إِلَيْهَا فَقَالَتْ قَدْ نَزَلَ بِي مَا نَزَلَ
فَلْيَنْفَعْنِي حبك إيّاي اليوم، قالت: فالجت قُبَالَتَهَا
فَلَمَّا أَنْ وَقَعَ مُوسَى بِالْأَرْضِ هَالَهَا نُورٌ
بَيْنَ عَيْنَيْ مُوسَى. فَارْتَعَشَ كُلُّ مَفْصِلٍ مِنْهَا
وَدَخَلَ حُبُّ مُوسَى قَلْبَهَا. ثُمَّ قالت لها: يا هذه ما
جئت إليك حين دعوتيني إلا ومرادي قَتْلُ مَوْلُودِكِ، وَلَكِنْ
وَجَدْتُ لِابْنِكِ هَذَا حُبًّا مَا وَجَدْتُ حُبَّ شَيْءٍ
مِثْلَ حُبِّهِ، فَاحْفَظِي ابْنَكِ فإني أراه عَدُوُّنَا،
فَلَّمَا خَرَجَتِ الْقَابِلَةُ مِنْ عندها أبصرها بعض العيون
فجاؤوا إِلَى بَابِهَا لِيَدْخُلُوا عَلَى أُمِّ مُوسَى
فَقَالَتْ أُخْتُهُ يَا أُمَّاهُ هَذَا الْحَرَسُ بِالْبَابِ
فَلَفَّتْ مُوسَى في خرقة ووضعته فِي التَّنُّورِ وَهُوَ
مَسْجُورٌ وَطَاشَ عَقْلُهَا، فَلَمْ تَعْقِلْ مَا تَصْنَعُ،
قَالَ: فَدَخَلُوا فَإِذَا التَّنُّورُ مَسْجُورٌ وَرَأَوْا
أُمَّ مُوسَى لَمْ يَتَغَيَّرْ لَهَا لَوْنٌ وَلَمْ يَظْهَرْ
لَهَا لَبَنٌ، فَقَالُوا لَهَا مَا أَدْخَلَ عَلَيْكِ
الْقَابِلَةَ؟ قَالَتْ: هِيَ مُصَافِيَةٌ لِي فَدَخَلَتْ
عَلَيَّ زَائِرَةً فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَرَجَعَ
إِلَيْهَا عَقْلُهَا فَقَالَتْ لِأُخْتِ مُوسَى: فَأَيْنَ
الصَّبِيُّ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي، فَسَمِعَتْ بُكَاءَ
الصَّبِيِّ مِنَ التَّنُّورِ فَانْطَلَقَتْ إِلَيْهِ وَقَدْ
جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النَّارَ عَلَيْهِ
بَرْدًا وَسَلَامًا، فَاحْتَمَلَتْهُ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ
أُمَّ مُوسَى لَمَّا رَأَتْ إِلْحَاحَ فِرْعَوْنَ فِي طَلَبِ
الْوِلْدَانِ خَافَتْ عَلَى ابْنِهَا، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي
نَفْسِهَا أَنْ تتخذ له تابوتا فتجعله فيه ثُمَّ تَقْذِفَ
التَّابُوتَ فِي الْيَمِّ وَهُوَ النِّيلُ، فَانْطَلَقَتْ
إِلَى رَجُلٍ نَجَّارٍ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فَاشْتَرَتْ
مِنْهُ تَابُوتًا صَغِيرًا فَقَالَ لَهَا النَّجَّارُ مَا
تَصْنَعِينَ بِهَذَا التَّابُوتِ، قالت: اين لي أخبئه في
__________
(1) سقط من المطبوع.
(2) في المطبوع «يوقع» .
(3) في المطبوع «عن» بدل «و» وهو خطأ.
(3/522)
التَّابُوتِ، وَكَرِهَتِ الْكَذِبَ، قَالَ
وَلَمْ تَقُلْ أَخْشَى عَلَيْهِ كَيْدَ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا
اشْتَرَتِ التَّابُوتَ وَحَمَلَتْهُ وَانْطَلَقَتْ بِهِ
انْطَلَقَ النَّجَّارُ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيُخْبِرَهُمْ
بِأَمْرِ أُمِّ مُوسَى فَلَمَّا هَمَّ بِالْكَلَامِ أَمْسَكَ
اللَّهُ لِسَانَهُ فَلَمْ يُطِقِ [1] الْكَلَامَ، وَجَعَلَ
يُشِيرُ بِيَدِهِ فَلَمْ يَدْرِ الْأُمَنَاءُ مَا يَقُولُ،
فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ قَالَ كَبِيرُهُمْ:
اضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، فَلَمَّا انْتَهَى
النَّجَّارُ إِلَى مَوْضِعِهِ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
لِسَانَهُ فَتَكَلَّمَ، فَانْطَلَقَ أيضا يريد الأمناء فلما هم
[2] لِيُخْبِرَهُمْ فَأَخَذَ اللَّهُ لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ
فَلَمْ يُطِقِ الْكَلَامَ وَلَمْ يُبْصِرْ شَيْئًا،
فَضَرَبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ فَوَقَعَ فِي وَادٍ يَهْوِي فِيهِ
حَيْرَانَ، فَجَعَلَ الله عليه وإن رَدَّ لِسَانَهُ وَبَصَرَهُ
أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ يَحْفَظُهُ
حَيْثُ مَا كَانَ، فَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُ الصِّدْقَ فَرَدَّ
عَلَيْهِ لِسَانَهَ وَبَصَرَهُ فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا،
فَقَالَ: يَا رَبِّ دُلَّنِي عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ
فَدَلَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَخَرَجَ [3] مِنَ الْوَادِي
فَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا حَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى
بِمُوسَى كَتَمَتْ أَمْرَهَا [عن] [4] جَمِيعَ النَّاسِ فَلَمْ
يَطَّلِعْ عَلَى حَبَلِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ
وَذَلِكَ شَيْءٌ سَتَرَهُ اللَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَمُنَّ
بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ
التي ولد فِيهَا بَعَثَ فِرْعَوْنُ الْقَوَابِلَ وَتَقَدَّمَ
إليهن يفتشن النِّسَاءَ تَفْتِيشًا لَمْ يُفَتَّشْنَ قَبْلَ
ذَلِكَ مَثْلَهُ، وَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى فَلَمْ يَنْتَأْ
بَطْنُهَا وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لونها ولم يظهر لبنها، فكانت
القوابل لا يتعرضن لَهَا فَلَّمَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي
وُلِدَ فِيهَا وَلَدَتْهُ وَلَا رَقِيبَ عَلَيْهَا وَلَا
قَابِلَةَ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ
مَرْيَمُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنْ أَرَضِعَيْهِ
فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ [فَأَلْقِيهِ فِي اليم] [5] الآية،
فمكثت [6] أُمُّهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ تُرْضِعُهُ فِي
حِجْرِهَا لَا يَبْكِي وَلَا يَتَحَرَّكُ، فَلَمَّا خَافَتْ
عَلَيْهِ عَمِلَتْ تَابُوتًا لَهُ مُطْبَقًا ثُمَّ أَلْقَتْهُ
فِي الْبَحْرِ لَيْلًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ لِفِرْعَوْنَ
يَوْمَئِذٍ بِنْتٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا
وَكَانَتْ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهَا
كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُ حَاجَاتٍ تَرْفَعُهَا إِلَى فِرْعَوْنَ
وَكَانَ بِهَا بَرَصٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ جَمَعَ
لَهَا أَطِبَّاءَ مِصْرَ وَالسَّحَرَةَ فَنَظَرُوا فِي
أَمْرِهَا فَقَالُوا [لَهُ] [7] : أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا
تَبْرَأُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ يُوجَدُ فِيهِ شَبَهُ
الْإِنْسَانِ فَيُؤْخَذُ مِنْ رِيقِهِ فَيُلَطَّخُ بِهِ
بِرَصُهَا فَتَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ كَذَا
وَسَاعَةِ كَذَا حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، غَدَا فِرْعَوْنُ إِلَى مَجْلِسٍ كَانَ
عَلَى شَفِيرِ النِّيلِ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ آسِيَةُ بِنْتُ
مُزَاحِمٍ، وَأَقْبَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ فِي جَوَارِيهَا
حَتَّى جَلَسَتْ على شاطىء النِّيلِ مَعَ جَوَارِيهَا
تُلَاعِبُهُنَّ وَتَنْضَحُ الْمَاءَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ، إِذْ
أَقْبَلَ النِّيلُ بِالتَّابُوتِ تَضْرِبُهُ الْأَمْوَاجُ
فَقَالَ فرعون إن هذا الشيء فِي الْبَحْرِ قَدْ تَعَلَّقَ
بِالشَّجَرَةِ ايِتُونِي بِهِ، فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّفُنِ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَعَالَجُوا فَتْحَ الْبَابِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ
وَعَالَجُوا كَسْرَهُ فَلَمْ يقدروا عليه، فدنت منه آسِيَةُ
فَرَأَتْ فِي جَوْفِ التَّابُوتِ نُورًا لَمْ يَرَهُ غَيْرُهَا
فَعَالَجَتْهُ فَفَتَحَتِ الْبَابَ فَإِذَا هِيَ بِصَبِيٍّ
صَغِيرٍ فِي مَهْدِهِ، وَإِذَا نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَدْ
جَعَلَ اللَّهُ رِزْقَهُ فِي إِبْهَامِهِ يَمُصُّهُ لَبَنًا
فَأَلْقَى اللَّهُ لِمُوسَى الْمَحَبَّةَ فِي قَلْبِ آسِيَةَ
وَأَحَبَّهُ فِرْعَوْنُ وَعَطَفَ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَتْ
بِنْتُ فِرْعَوْنَ فَلَمَّا [أخرجوه] [8] مِنَ التَّابُوتِ
عَمَدَتْ بِنْتُ فِرْعَوْنَ إلى مكان يَسِيلُ مِنْ رِيقِهِ
فَلَطَّخَتْ بِهِ بَرَصَهَا فَبَرَأَتْ فَقَبَّلَتْهُ
وَضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرِهَا فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّا نَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ
الْمَوْلُودَ الَّذِي تُحَذِّرُ منه [من] [9] بني
__________
(1) في المطبوع «ينطق» .
(2) في المطبوع «فأتاهم» .
(3) في المطبوع «فخر» .
(4) سقط من المطبوع.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «فكتمته» .
(7) زيادة عن المخطوط. [.....]
(8) في المطبوع «أخرجوا الصبي» .
(9) سقط من المطبوع.
(3/523)
فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
إِسْرَائِيلَ هُوَ هَذَا رُمِيَ بِهِ في
البحر خوفا مِنْكَ فَاقْتُلْهُ، فَهَمَّ فِرْعَوْنُ
بِقَتْلِهِ، فقالت آسِيَةُ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تقتله
عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَانَتْ
لَا تَلِدُ، فَاسْتَوْهَبَتْ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ
فَوَهَبَهُ لَهَا، وَقَالَ فِرْعَوْنُ أَمَّا أَنَا فَلَا
حَاجَةَ لِي فِيهِ.
«1609» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لَوْ قَالَ فِرْعَوْنُ يَوْمَئِذٍ هُوَ قُرَّةُ
عَيْنٍ لِي كَمَا هُوَ لَكِ لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا»
.
فقيل لآسية سميه فقالت قد سَمَّيْتُهُ مُوسَى لِأَنَّا
وَجَدْنَاهُ فِي الْمَاءِ وَالشَّجَرِ فَمُو هُوَ الْمَاءُ
وَسِي هُوَ الشَّجَرُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عزّ وجلّ.
[سورة القصص (28) : الآيات 8 الى 12]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا
خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ
لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ
فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا
أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ
جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى
أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ
(12)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، وَالِالْتِقَاطُ هُوَ وُجُودُ
الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَناً، وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ
وَلَامَ الصَّيْرُورَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا وَلَكِنْ صَارَ عَاقِبَةُ
أَمْرِهِمْ إِلَى ذَلِكَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
«حُزْنًا» بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالزَّايِ، وَهُمَا لُغَتَانِ،
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ،
عَاصِينَ آثِمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ
عَيْنٍ لِي وَلَكَ، قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا وُضِعَ التَّابُوتُ
بَيْنَ يَدَيْ فرعون فتحوه فوجدوا فِيهِ مُوسَى فَلَمَّا
نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ عِبْرَانِيٌّ مِنَ الْأَعْدَاءِ
فَغَاظَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: كَيْفَ أَخْطَأَ هَذَا الْغُلَامَ
الذَّبْحُ؟ وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدِ اسْتَنْكَحَ امْرَأَةً
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهَا آسِيَةُ بِنْتُ
مُزَاحِمٍ وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ النِّسَاءِ وَمِنْ بنات
الأنبياء وكانت امرأة لِلْمَسَاكِينِ تَرْحَمُهُمْ
وَتَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ وَتُعْطِيهِمْ، فقالت لِفِرْعَوْنَ
وَهِيَ قَاعِدَةٌ إِلَى جَنْبِهِ: هَذَا الْوَلِيدُ أَكْبَرُ
مِنِ ابْنِ سنة وإنما أمرت أن تذبح الْوِلْدَانُ لِهَذِهِ
السَّنَةِ فَدَعْهُ يَكُونُ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لَا
تَقْتُلُوهُ، وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّهُ أَتَانَا
مَنْ أَرْضٍ أُخْرَى لَيْسَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَسى
أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ، أَنَّ هَلَاكَهُمْ عَلَى يَدَيْهِ فَاسْتَحْيَاهُ
فِرْعَوْنُ وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ مَحَبَّتَهُ وَقَالَ
لِامْرَأَتِهِ عَسَى أَنْ يَنْفَعَكِ فَأَمَّا أَنَا فَلَا
أُرِيدُ نَفْعَهُ، قَالَ وَهْبٌ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: لَوْ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ فِي
مُوسَى كَمَا قَالَتْ آسِيَةُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا
لَنَفَعَهُ اللَّهُ وَلَكِنَّهُ أَبَى لِلشَّقَاءِ الَّذِي
كتبه الله عليه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً،
أَيْ خَالِيًا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ ذِكْرِ موسى،
وهمه.
هذا قول أكثر المفسرين.
__________
1609- أخرجه الطبري 27188 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف،
وعلته أصبغ بن زيد وهو بعض حديث الفتون أخرجه النسائي في
«التفسير» 346 وأبو يعلى 2618 والطحاوي في «المشكل» 66 من حديث
ابن عباس مطوّلا، وهو حديث ضعيف مداره على أصبغ بن زيد تفرد
به، وهو غير حجة.
وللفظ المصنف شاهد مرسل أخرجه الطبري 27185 عن محمد بن قيس
مرسلا ومع إرساله فيه أبو معشر، واسمه نجيح، وهو ضعيف، والراجح
كونه موقوفا على ابن عباس وأنه أخذه عن أهل الكتاب.
(3/524)
وَقَالَ الْحَسَنُ: فَارِغًا أَيْ نَاسِيًا
لِلْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا حِينَ أَمَرَهَا
أَنْ تُلْقِيَهُ فِي اليم وَلَا تَخَافُ وَلَا تَحْزَنُ،
وَالْعَهْدُ الَّذِي عَهَدَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهَا
وَيَجْعَلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ
فَقَالَ كَرِهْتِ أَنْ يَقْتُلَ فِرْعَوْنُ وَلَدَكِ فَيَكُونَ
لَكِ أَجْرُهُ وَثَوَابُهُ وَتَوَلَّيْتِ أَنْتِ قَتْلَهُ
فَأَلْقَيْتِهِ فِي البحر، وأهلكتيه، وَلَمَّا أَتَاهَا
الْخَبَرُ بِأَنَّ فِرْعَوْنَ أَصَابَهُ فِي النِّيلِ قَالَتْ
إِنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِ عَدُوِّهِ الَّذِي فررت منه، فأنساها
عظم الْبَلَاءِ مَا كَانَ مِنْ عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْهَا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فارغا أي مِنَ الْحُزْنِ
لِعِلْمِهَا بِصِدْقِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرَ
الْقُتَيْبِيُّ هَذَا وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَاللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ
رَبَطْنا عَلى قَلْبِها، وَالْأَوَّلُ أصح قوله عَزَّ وَجَلَّ:
إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ، قِيلَ الْهَاءُ فِي بِهِ
رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى أَيْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أَنَّهُ
ابْنُهَا مِنْ شِدَّةِ وَجْدِهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: كَادَتْ تَقُولُ وَابْنَاهُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا رَأَتِ التَّابُوتَ يَرْفَعُهُ
مَوْجٌ وَيَضَعُهُ آخَرُ خَشِيَتْ عَلَيْهِ الْغَرَقَ
فَكَادَتْ تَصِيحُ مِنْ شَفَقَتِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
كَادَتْ تُظْهِرُ أَنَّهُ ابْنُهَا وَذَلِكَ حِينَ سَمِعَتِ
الناس يقولون لموسى بعد ما شَبَّ مُوسَى بْنُ فِرْعَوْنَ،
فَشَقَّ عليها وكادت تَقُولُ بَلْ هُوَ ابْنِي. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى الْوَحْيِ أَيْ كَادَتْ
تُبْدِي بِالْوَحْيِ الَّذِي أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا أَنْ
يَرُدَّهُ إليها، لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها،
بِالْعِصْمَةِ وَالصَّبْرِ وَالتَّثْبِيتِ، لِتَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، المصدقين بوعد اللَّهِ حِينَ قَالَ لَهَا:
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ.
وَقالَتْ لِأُخْتِهِ، أَيْ لِمَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى قُصِّيهِ،
اتْبَعِي أَثَرَهُ حَتَّى تَعْلَمِي خَبَرَهُ، فَبَصُرَتْ بِهِ
عَنْ جُنُبٍ، أَيْ عَنْ بُعْدٍ، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهَا
كَانَتْ تمشي جانبا وتنظر اختلاسا تري أَنَّهَا لَا
تَنْظُرُهُ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، أَنَّهَا أُخْتُهُ
وَأَنَّهَا تَرْقُبُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ امْرَأَةَ فرعون كان همها في
الدُّنْيَا أَنْ تَجِدَ لَهُ مُرْضِعَةً وكلما أَتَوْا
بِمُرْضِعَةٍ لَمْ يَأْخُذْ ثَدْيَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ:
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ، وَالْمُرَادُ مِنَ
التَّحْرِيمِ الْمَنْعُ وَالْمَرَاضِعُ جَمْعُ الْمُرْضِعِ،
مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَجِيءِ أُمِّ مُوسَى فَلَمَّا
رَأَتْ أُخْتُ مُوسَى الَّتِي أَرْسَلَتْهَا أُمُّهُ فِي
طَلَبِهِ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُمْ هَلْ أَدُلُّكُمْ؟
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى مَكَثَ ثَمَانِ لَيَالٍ لَا
يَقْبَلُ ثَدْيًا وَيَصِيحُ وَهُمْ فِي طَلَبِ مُرْضِعَةٍ
لَهُ، فَقالَتْ، يَعْنِي أُخْتَ مُوسَى، هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى
أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ، أي يضمونه «لَكُمْ» ،
وَيُرْضِعُونَهُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ قَدْ قُتِلَ وَلَدُهَا
فَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهَا أَنْ تَجِدَ صَغِيرًا تُرْضِعُهُ،
وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ، وَالنُّصْحُ ضِدُّ الْغِشِّ وَهُوَ
تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ شَوَائِبِ الْفَسَادِ، قَالُوا:
نَعَمْ فَأْتِيْنَا بِهَا.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا قَالَتْ أُخْتُ
مُوسَى وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ أَخَذُوهَا وَقَالُوا إِنَّكِ
قَدْ عَرَفْتِ هَذَا الْغُلَامَ فَدُلِّينَا عَلَى أَهْلِهِ
فَقَالَتْ مَا أَعْرِفُهُ، وَقُلْتُ هُمْ لِلْمَلِكِ
نَاصِحُونَ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ إِنَّمَا قُلْتُ هَذَا رَغْبَةً فِي
سُرُورِ الْمَلِكِ وَاتِّصَالِنَا بِهِ، وَقِيلَ إِنَّهَا
لَمَّا قَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ قَالُوا
لَهَا مَنْ؟ قَالَتْ: أُمِّي، قَالُوا: أو لأمك ابْنٌ؟
قَالَتْ: نَعَمْ هَارُونُ، وَكَانَ هَارُونُ وُلِدَ فِي سَنَةٍ
لَا يقتل فيها الولدان، قالوا [لها] [1] صَدَقْتِ فَأْتِينَا
بِهَا فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا وَأَخْبَرَتْهَا بِحَالِ
ابْنِهَا وَجَاءَتْ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا وَجَدَ
الصَّبِيُّ رِيحَ أُمِّهُ قَبِلَ ثَدْيَهَا وَجَعَلَ يَمُصُّهُ
حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا.
قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا يُعْطُونَهَا كُلَّ يَوْمٍ
دِينَارًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(3/525)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى
أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ
أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (13)
[سورة القصص (28) : الآيات 13 الى 15]
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا
تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ
يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ
فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ
عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها، بِرَدِّ
مُوسَى إِلَيْهَا، وَلا تَحْزَنَ، أي لئلا تَحْزَنَ،
وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، بِرَدِّهِ
إِلَيْهَا، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَنَّ
اللَّهَ وَعَدَهَا رَدَّهُ إِلَيْهَا.
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَشُدُّ
مَا بَيْنَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى ثَلَاثِينَ سنة.
وقال مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ:
ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَاسْتَوى، أَيْ بَلَغَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَقِيلَ:
اسْتَوَى انْتَهَى شَبَابُهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً،
أَيِ الْفِقْهَ وَالْعَقْلَ وَالْعِلْمَ فِي الدِّينِ،
فَعَلِمَ مُوسَى وَحَكَمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيًّا،
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ، يَعْنِي دَخَلَ
مُوسَى الْمَدِينَةَ، قَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ مَدِينَةُ
مَنْفَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ قَرْيَةَ يقال لها خانين [1] عَلَى
رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْرَ. وَقِيلَ: مَدِينَةُ عَيْنِ
الشَّمْسِ، عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها، وهو وَقْتَ
الْقَائِلَةِ وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِالْقَيْلُولَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: دَخَلَهَا فِيمَا
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ دَخَلَ
الْمَدِينَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ موسى كَانَ يُسَمَّى ابْنُ
فِرْعَوْنَ، فَكَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ فِرْعَوْنَ وَيَلْبَسُ
مِثْلَ مَلَابِسِهِ فَرَكِبَ فِرْعَوْنُ يَوْمًا وَلَيْسَ
عِنْدَهُ مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى قِيلَ لَهُ إِنَّ
فِرْعَوْنَ قَدْ رَكِبَ فَرَكِبَ فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ
المقبل بِأَرْضِ مَنْفَ فَدَخَلَهَا نِصْفَ النَّهَارِ
وَلَيْسَ فِي طَرَفِهَا أَحَدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ
أَهْلِها، قال محمد بن إِسْحَاقَ كَانَ لِمُوسَى شِيعَةٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيَقْتَدُونَ به فلم
عَرَفَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ رَأَى فِرَاقَ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فخالفهم [2] في دينهم حتى كثر [3]
ذَلِكَ مِنْهُ وَخَافُوهُ وَخَافَهُمْ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُ
قَرْيَةً إِلَّا خَائِفًا مُسْتَخْفِيًا فَدَخَلَهَا يَوْمًا
عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا عَلَا مُوسَى فِرْعَوْنَ
بِالْعَصَا فِي صِغَرِهِ فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ قتله فقالت
امْرَأَتُهُ هُوَ صَغِيرٌ فَتَرَكَ قَتْلَهُ وَأَمَرَ
بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مَدِينَتِهِ [فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ
إِلَّا بَعْدَ أَنْ] [4] كبر وبلغ أشده وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ
عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها، يَعْنِي عَنْ ذِكْرِ
مُوسَى أَيْ [5] مِنْ بَعْدِ نِسْيَانِهِمْ خَبَرَهُ
وَأَمْرَهُ لِبُعْدِ عَهْدِهِمْ [بِهِ] [6] ، وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: حِينِ غَفْلَةٍ كَانَ يَوْمَ عِيدٍ
لَهُمْ قَدِ اشْتَغَلُوا بِلَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ، فَوَجَدَ
فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، يَخْتَصِمَانِ ويتنازعان، هذا
مِنْ شِيعَتِهِ، من بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ،
مِنَ الْقِبْطِ، قِيلَ:
الَّذِي كَانَ مِنْ شِيعَتِهِ السَّامِرِيُّ وَالَّذِي مِنْ
عَدُوِّهِ [مِنَ الْقِبْطِ، قِيلَ] [7] : طَبَّاخُ فرعون اسمه
فاتون. وقيل:
__________
(1) في المطبوع «حابين» .
(2) تصحف في المطبوع «فحالفهم» .
(3) تصحف في المطبوع «ذكر» .
(4) ما بين الحاصرتين في المطبوع «فلما» .
(5) تصحف في المطبوع «أمر» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيد في المطبوع.
(3/526)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ
عَدُوِّهِ أَيْ هَذَا مُؤْمِنٌ وَهَذَا كَافِرٌ، وَكَانَ
الْقِبْطِيُّ يُسَخِّرُ الْإِسْرَائِيلِيَّ لِيَحْمِلَ
الْحَطَبَ إِلَى الْمَطْبَخِ، قَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا بَلَغَ مُوسَى أَشُدَّهُ لَمْ
يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمٍ حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ
الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ قد عزوا لمكان [1]
مُوسَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْهُمْ،
فَوَجَدَ مُوسَى رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْآخَرُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ،
فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ
عَدُوِّهِ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى
الْفِرْعَوْنِيِّ، وَالِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ
فَغَضِبَ مُوسَى وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ
وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَةَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَحِفْظَهُ لَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّهُ
مِنْ قِبَلِ الرَّضَاعَةِ مِنْ أُمِّ مُوسَى، فَقَالَ
لِلْفِرْعَوْنِيِّ خَلِّ سَبِيلَهُ، فَقَالَ إِنَّمَا
أَخَذْتُهُ لِيَحْمِلَ الْحَطَبَ إِلَى مَطْبَخِ أَبِيكَ
فَنَازَعَهُ، فَقَالَ الْفِرْعَوْنِيُّ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ
أَحْمِلَهُ عَلَيْكَ، وَكَانَ موسى قد أتي بَسْطَةً فِي
الْخَلْقِ وَشِدَّةً فِي الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ، فَوَكَزَهُ
مُوسى، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «فَلَكَزَهُ مُوسَى» ،
وَمَعْنَاهُمَا واحد وهو الضرب بجميع الْكَفِّ. وَقِيلَ:
الْوَكْزُ الضَّرْبُ فِي الصَّدْرِ وَاللَّكْزُ فِي الظَّهْرِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الدَّفْعُ،
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْوَكْزُ الدَّفْعُ بِأَطْرَافِ
الْأَصَابِعِ.
وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: عَقَدَ مُوسَى ثَلَاثًا
وَثَمَانِينَ وَضَرَبَهُ فِي صَدْرِهِ، فَقَضى عَلَيْهِ، أَيْ
قتله وَفَرَغَ مِنْ أَمْرِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَرَغْتَ مِنْهُ
فَقَدْ قَضَيْتَهُ وَقَضَيْتَ عليه، فندم موسى عليه وَلَمْ
يَكُنْ قَصْدُهُ الْقَتْلَ فَدَفَنَهُ فِي الرَّمْلِ، قالَ
هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ، أي بيّن الضلالة.
[سورة القصص (28) : الآيات 16 الى 18]
قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ
لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ
(17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا
الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ
مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ
مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ، فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، بِالْمَغْفِرَةِ، فَلَنْ
أَكُونَ ظَهِيراً، عَوْنًا، لِلْمُجْرِمِينَ، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ:
لِلْكَافِرِينَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْإِسْرَائِيلِيَّ الَّذِي أَعَانَهُ مُوسَى كَانَ كَافِرًا،
وَهُوَ قَوْلُ مقاتل، وقال قَتَادَةُ: لَنْ أُعِينَ بَعْدَهَا
عَلَى خَطِيئَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَسْتَثْنِ
فَابْتُلِيَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثاني.
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ، أَيْ فِي الْمَدِينَةِ الَّتِي
قَتَلَ فِيهَا الْقِبْطِيَّ خائِفاً، من أهل [2] الْقِبْطِيَّ،
يَتَرَقَّبُ، يَنْتَظِرُ سُوءًا، وَالتَّرَقُّبُ انتظار
المكروه [و] [3] قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَنْتَظِرُ مَتَى
يُؤْخَذُ بِهِ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ، يَسْتَغِيثُهُ وَيَصِيحُ بِهِ مِنْ بُعْدٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُتِيَ فِرْعَوْنُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا مِنَّا رَجُلًا فَخُذْ لَنَا
بِحَقِّنَا، فَقَالَ ابْغُوا لِي قَاتِلَهُ- وَمَنْ يَشْهَدُ
عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقْضِيَ [4] بِغَيْرِ
بَيِّنَةٍ،- فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ لَا يَجِدُونَ
بَيِّنَةً إِذْ مَرَّ مُوسَى مِنَ الْغَدِ فَرَأَى ذَلِكَ
الْإِسْرَائِيلِيَّ يُقَاتِلُ فرعونيا [آخر] [5]
فَاسْتَغَاثَهُ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ فَصَادَفَ مُوسَى،
وَقَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ بِالْأَمْسِ مِنْ قَتْلِ
الْقِبْطِيِّ، قالَ لَهُ مُوسى، لِلْإِسْرَائِيلِيِّ، إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، ظاهر الغواية
__________
(1) في المطبوع «بمكان» .
(2) في المطبوع «قتله» .
(3) زيادة عن المخطوط. [.....]
(4) في المطبوع- ب- «أقضي» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(3/527)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ
أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا
مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا
بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي
الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
(19)
قَاتَلْتَ بِالْأَمْسِ رَجُلًا
فَقَتَلْتُهُ بِسَبَبِكِ، وَتُقَاتِلُ الْيَوْمَ آخَرَ
وَتَسْتَغِيثُنِي عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ مُوسَى
لِلْفِرْعَوْنِيِّ إِنَّكَ لَغَوِيُّ مُبِينٌ بِظُلْمِكَ،
وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ
قَالَ ذلك للإسرائيلي.
[سورة القصص (28) : الآيات 19 الى 22]
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ
لَهُما قالَ يَا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما
قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ
مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ
رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا
تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ
يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22)
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ
لَهُما، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى أَدْرَكَتْهُ الرِّقَّةُ
بِالْإِسْرَائِيلِيِّ فَمَدَّ يَدَهُ لِيَبْطِشَ
بِالْفِرْعَوْنِيِّ فَظَنَّ الْإِسْرَائِيلِيُّ أَنَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ لِمَا رَأَى مِنْ غَضَبِهِ
وَسَمِعَ قَوْلَهُ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، قالَ يَا مُوسى
أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ
إِنْ تُرِيدُ، مَا تُرِيدُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي
الْأَرْضِ، بِالْقَتْلِ ظُلْمًا، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ
مِنَ الْمُصْلِحِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْقِبْطِيُّ مَا قَالَ
الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلِمَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي قَتَلَ
ذَلِكَ الْفِرْعَوْنِيَّ فَانْطَلَقَ إِلَى فِرْعَوْنَ
وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ مُوسَى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ
الذَّبَّاحِينَ لِقَتْلِ مُوسَى أَخَذُوا الطَّرِيقَ
الْأَعْظَمَ.
وَجاءَ رَجُلٌ، من شيعة موسى، مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ، أَيْ
مِنْ آخِرِهَا، قَالَ أكثر أهل التأويل: اسمه حزقيل مؤمن آلِ
فِرْعَوْنَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ شَمْعُونُ، وقيل: سمعان، يَسْعى،
أَيْ يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ فَأَخَذَ طَرِيقًا قَرِيبًا حَتَّى
سَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَأَخْبَرَهُ وَأَنْذَرَهُ حَتَّى أَخَذَ
طَرِيقًا آخَرَ، قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ
بِكَ، يَعْنِي أَشْرَافَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَتَشَاوَرُونَ
فِيكَ، لِيَقْتُلُوكَ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا بِقَتْلِكَ، فَاخْرُجْ، مِنَ الْمَدِينَةِ، إِنِّي
لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فِي الْأَمْرِ لَكَ بِالْخُرُوجِ.
فَخَرَجَ مِنْها، مُوسَى، خائِفاً يَتَرَقَّبُ، أَيْ
يَنْتَظِرُ الطَّلَبَ، قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ، الْكَافِرِينَ، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ
فِرْعَوْنَ بَعْثَ فِي طَلَبِهِ حِينَ أُخْبِرَ بِهَرَبِهِ
فَقَالَ اركبوا بنيات الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ
كَيْفَ الطَّرِيقُ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ، أي قصد نحوها ماضيا
يُقَالُ دَارُهُ تِلْقَاءَ دَارِ فُلَانٍ إذا كانت محاذيتها،
وَأَصْلُهُ مِنَ اللِّقَاءِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أي سلك الطريق التي يلقى مَدْيَنَ فِيهَا،
وَمَدْيَنُ هُوَ مَدْيَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سُمِّيَتِ
الْبَلْدَةُ بِاسْمِهِ، وَكَانَ مُوسَى قَدْ خَرَجَ خَائِفًا
بِلَا ظَهْرٍ وَلَا حِذَاءٍ وَلَا زَادٍ، وَكَانَتْ مَدْيَنُ
عَلَى مَسِيرَةِ [1] ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ مِنْ مِصْرَ، قالَ
عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، أَيْ قَصْدَ
الطَّرِيقِ إِلَى مَدْيَنَ، قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يكن
يعرف الطريق إليها. قيل: فلما دعا جاء مَلِكٌ بِيَدِهِ
عَنَزَةٌ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى مَدْيَنَ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: خَرَجَ مُوسَى مِنْ مِصْرَ وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ والبقل حتى كان
يَرَى خُضْرَتَهُ فِي بَطْنِهِ وَمَا وَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ
حَتَّى وَقْعَ خُفُّ قَدَمَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ
أَوَّلُ ابْتِلَاءٍ مِنَ اللَّهِ عزّ وجلّ لموسى عليه الصلاة
والسلام.
__________
(1) في المطبوع «مسير» .
(3/528)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ
مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
[سورة القصص (28) : الآيات 23 الى 24]
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ
النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ
تَذُودانِ قالَ مَا خَطْبُكُما قالَتا لَا نَسْقِي حَتَّى
يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى
لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي
لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ، وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا
يَسْقُونَ مِنْهَا مَوَاشِيَهُمْ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً،
جَمَاعَةً، مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، مَوَاشِيَهُمْ، وَوَجَدَ
مِنْ دُونِهِمُ، أي الجماعة [وقيل بعيدا عن الجماعة بجانب
عنهم] [1] ، امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ، يَعْنِي تَحْبِسَانِ
وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ
الناس وتخلو لهما البئر، وقال الْحَسَنُ: تَكُفَّانِ الْغَنَمَ
عَنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِأَغْنَامِ النَّاسِ، وَقَالَ
قَتَادَةُ: تَكُفَّانِ النَّاسَ عَنْ أَغْنَامِهِمَا. وَقِيلَ:
تَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنْ أَنْ تَشِذَّ وتذهب. والقول
الأول أصوبهما لِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ، قالَ، يَعْنِي
مُوسَى لِلْمَرْأَتَيْنِ، مَا خَطْبُكُما، ما شأنكما لا تسقيان
أغنامكما مَعَ النَّاسِ، قالَتا لَا نَسْقِي، أَغْنَامَنَا،
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو
عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ «يَصْدُرَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ
الدَّالِ عَلَى اللُّزُومِ، أَيْ حَتَّى يرجع الرعاء من [2]
الْمَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ
الدَّالِ أَيْ حَتَّى يَصْرِفُوا هم مواشيهم عن الماء، والرعاء
جَمْعُ رَاعٍ مِثَلَ تَاجِرٍ وَتُجَّارٍ، وَمَعْنَى الْآيَةِ:
لَا نَسْقِي مَوَاشِيَنَا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ لِأَنَّا
امْرَأَتَانِ لا نطيق أن نستسقي وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ
نُزَاحِمَ الرِّجَالَ، فإذا صدروا [وتولوا] [3] سَقَيْنَا
مَوَاشِيَنَا مَا أَفْضَلَتْ مَوَاشِيهُمْ في الحوض [من الماء]
[4] ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْقِيَ
مَوَاشِيَهُ، فَلِذَلِكَ احْتَجْنَا نَحْنُ إِلَى سَقْيِ
الْغَنَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِ أَبِيهِمَا، فَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْحَسَنُ [هُوَ] [5]
شُعَيْبٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هو
بيرون [6] بْنُ أَخِي شُعَيْبٍ، وَكَانَ شُعَيْبٌ قد مات قبل
ذلك بعد ما كُفَّ بَصَرُهُ، فَدُفِنَ بَيْنَ الْمَقَامِ
وَزَمْزَمَ، وَقِيلَ: رَجُلٌ مِمَّنْ آمَنَ بِشُعَيْبٍ،
قَالُوا فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى قَوْلَهَمَا رَحِمَهُمَا
فَاقْتَلَعَ صَخْرَةً مِنْ رَأْسِ بِئْرٍ أُخْرَى كَانَتْ
بِقُرْبِهِمَا لَا يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا جَمَاعَةٌ مِنَ
النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ مُوسَى زَاحَمَ
الْقَوْمَ وَنَحَّاهُمْ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ فَسَقَى غَنَمَ
الْمَرْأَتَيْنِ.
وَيُرْوَى: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَجَعُوا بِأَغْنَامِهِمْ
غَطَّوْا رَأْسَ الْبِئْرِ بِحَجَرٍ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا
عَشَرَةُ نَفَرٍ فَجَاءَ مُوسَى وَرَفَعَ الْحَجَرَ وَحْدَهُ
وَسَقَى غَنَمَ الْمَرْأَتَيْنِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَزَعَ
ذَنُوبًا وَاحِدًا وَدَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ فَرَوَى مِنْهُ
جَمِيعُ الْغَنَمِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، ظِلِّ شَجَرَةٍ
فَجَلَسَ فِي ظِلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهُوَ جَائِعٌ،
فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ
فَقِيرٌ، من طَعَامٍ فَقِيرٌ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ اللَّامُ
بِمَعْنَى إِلَى يُقَالُ هُوَ فَقِيرٌ لَهُ وَفَقِيرٌ إِلَيْهِ
يَقُولُ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ أَيْ
طَعَامٍ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، كَانَ يَطْلُبُ الطَّعَامَ
لِجُوعِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى فِلْقَةَ
خُبْزٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ. قال محمد [بن علي] [7] الباقر:
لقد قالها
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «عن» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المخطوط «نترون» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(3/529)
فَجَاءَتْهُ
إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا
جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
وَإِنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ
تَمْرَةٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
لَقَدْ قَالَ مُوسَى: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ
مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وَهُوَ أَكْرَمُ خَلْقِهِ عَلَيْهِ،
وَلَقَدِ افْتَقَرَ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
مَا سَأَلَهُ إِلَّا الْخُبْزَ، قَالُوا فَلَمَّا رَجَعَتَا
إِلَى أَبِيهِمَا سَرِيعًا قَبْلَ النَّاسِ وَأَغْنَامُهُمَا
حُفَّلٌ بِطَانٌ قَالَ لهما: ما أعجلكما [أتيتما قبل الرعاة]
[1] قَالَتَا: وَجَدْنَا رَجُلًا صَالِحًا رَحِمَنَا فَسَقَى
لَنَا أَغْنَامَنَا، فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا اذهبي فادعيه لي.
[سورة القصص (28) : الآيات 25 الى 26]
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ
أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا
فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لَا تَخَفْ
نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما
يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى
اسْتِحْياءٍ.
قَالَ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَيْسَتْ بِسَلْفَعٍ [2] مِنَ النِّسَاءِ خَرَّاجَةً
وَلَّاجَةً وَلَكِنْ جَاءَتْ مُسْتَتِرَةً قَدْ وَضَعَتْ كُمَّ
دِرْعِهَا عَلَى وَجْهِهَا اسْتِحْيَاءٍ، قالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنا قَالَ أَبُو
حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ: لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ مُوسَى
أَرَادَ أَنْ لَا يَذْهَبَ وَلَكِنْ كَانَ جَائِعًا فَلَمْ
يَجِدْ بُدًا مِنَ الذَّهَابِ، فَمَشَتِ الْمَرْأَةُ وَمَشَى
مُوسَى خَلْفَهَا، فَكَانَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ ثَوْبَهَا
فَتَصِفُ رِدْفَهَا فَكَرِهُ مُوسَى أَنْ يَرَى ذَلِكَ
مِنْهَا، فَقَالَ لَهَا: امْشِي خَلْفِي وَدُلِّينِي عَلَى
الطَّرِيقِ إِنْ أَخْطَأْتُ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فلما دخل على
شعيب إذ هُوَ بِالْعَشَاءِ مُهَيَّأً فَقَالَ: اجْلِسْ يَا
شَابُّ فَتَعَشَّ، فَقَالَ مُوسَى: أَعُوذُ بِاللَّهِ، فَقَالَ
شُعَيْبٌ: وَلِمَ ذَاكَ أَلَسْتَ بِجَائِعٍ؟ قَالَ: بَلَى
وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عِوَضًا لِمَا سَقَيْتُ
لَهُمَا وَإِنَّا أَهْلِ بَيْتٍ لَا نَطْلُبُ عَلَى عَمَلٍ
مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ
لَهُ شُعَيْبٌ: لَا وَاللَّهِ يَا شَابُّ وَلَكِنَّهَا
عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي نُقْرِي الضَّيْفَ وَنُطْعِمُ
الطَّعَامَ فَجَلَسَ مُوسَى وَأَكَلَ. فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ
عَلَيْهِ الْقَصَصَ، يَعْنِي أَمْرَهُ أَجْمَعَ، مِنْ قَتْلِهِ
الْقِبْطِيَّ وَقَصْدِ فِرْعَوْنَ قَتْلَهُ، قالَ لَا تَخَفْ
نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ
وَقَوْمَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
لفرعون سلطان على أهل مَدْيَنَ.
قالَتْ إِحْداهُما يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، اتَّخِذْهُ
أَجِيرًا لِيَرْعَى أَغْنَامَنَا، إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، يَعْنِي خَيْرَ مَنِ
اسْتَعْمَلْتَ من قوي على العمل وأداء الْأَمَانَةَ، فَقَالَ
لَهَا أَبُوهَا وَمَا عِلْمُكِ بِقُوَّتِهِ وَأَمَانَتِهِ؟
قَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ فَإِنَّهُ رَفَعَ حَجَرًا مِنْ
رَأْسِ الْبِئْرِ لَا يَرْفَعُهُ إِلَّا عَشَرَةٌ. وَقِيلَ
إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَإِنَّهُ
قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي حَتَّى لَا تَصِفَ الريح بدنك.
[سورة القصص (28) : الآيات 27 الى 28]
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ
أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ
عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
(27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ
قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ (28)
قالَ شُعَيْبٌ عِنْدَ ذَلِكَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ، واسمهما صفوراء، وليا فِي قَوْلِ
شُعَيْبٍ الْجُبَّائِيِّ وَقَالَ ابن إسحاق: صفورة وشرقا
وَقَالَ غَيْرُهُمَا الْكُبْرَى صَفْرَاءُ وَالصُّغْرَى
صُفَيْرَاءُ.
وَقِيلَ زَوَّجَهُ الْكُبْرَى وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى
أَنَّهُ زَوَّجَهُ الصُّغْرَى مِنْهُمَا وَاسْمُهَا صَفُّورَةُ
وَهِيَ الَّتِي ذهبت لطلب
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «بسلع» .
(3/530)
مُوسَى، عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ
حِجَجٍ، يَعْنِي أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لِي ثَمَانِ سِنِينَ،
قَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي تَجْعَلُ [1] ثَوَابِي مِنْ
تَزْوِيجِهَا أَنْ تَرْعَى غَنَمِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ، تقول
العرب: أجرك الله يأجرك [2] أَيْ أَثَابَكَ، وَالْحِجَجُ
السُّنُونَ وَاحِدَتُهَا حِجَّةٌ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً
فَمِنْ عِنْدِكَ، أَيْ إِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرَ سِنِينَ
فَذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْكَ وَتَبَرُّعٌ، وليس بِوَاجِبٍ
عَلَيْكَ، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، أن أُلْزِمَكَ
تَمَامَ الْعَشْرِ إِلَّا أَنْ تَتَبَرَّعَ، سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَ عُمَرُ [رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ] [3] : يَعْنِي فِي حُسْنِ الصُّحْبَةِ
وَالْوَفَاءِ بما قلت.
قالَ، مُوسَى ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، يَعْنِي هَذَا
الشَّرْطُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَمَا شَرَطْتَ عَلَيَّ فَلَكَ
وَمَا شَرَطْتَ مِنْ تَزْوِيجِ إِحْدَاهُمَا فَلِي،
وَالْأَمْرُ بَيْنَنَا، تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ:
أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ، يَعْنِي أَيَّ الْأَجَلَيْنِ
وَ «مَا» صِلَةٌ «قضيت» أتممت أو فرغت من الثَّمَانِ أَوِ
الْعَشْرِ، فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ لَا ظُلْمَ عَلَيَّ بِأَنْ
أطالب بأكثر منها [4] ، وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: شَهِيدٌ فِيمَا بَيْنِي
وَبَيْنَكَ.
وَقِيلَ: حَفِيظٌ.
«1610» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ أنا محمد بن عبد الرحيم أنا سعيد بن سليمان
أنا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ
أَهْلِ الْحِيْرَةِ أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ:
لَا أَدْرِي حَتَّى أَقْدُمَ على حبر العرب فأساله، فقدمت على
ابن عباس فسألته، فقال: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا،
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا قَالَ فَعَلَ.
«1611» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: إِذَا سُئِلْتَ
أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْ خيرهما وأبرهما، وإذا
__________
1610- موقوف صحيح. إسناده لا بأس به من أجل مروان بن شجاع، فهو
وإن روى له البخاري، فقد ضعفه غير واحد، لكن له شواهد.
- وهو في «صحيح البخاري» 2684 عن محمد بن عبد الرحيم بهذا
الإسناد.
- وأخرجه الطبري 27405 من طريق حكيم بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جبير به.
وورد مرفوعا عند الطبري 27409 والواحدي في «الوسيط» 3/ 397 من
طريق الحكم بن أبان عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: سألت جبرائيل
أي الأجلين قضى موسى؟ قال: «أتهمها وأكملهما» .
ورواية الواحدي: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأطيبهما» .
- وإسناده غير قوي لأجل الحكم بن أبان.
- وورد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعَّبٍ الْقُرَظِيِّ مرسلا أخرجه
الطبري 27408 والمرسل من قسم الضعيف، وانظر ما بعده.
1611- الراجح وقفه. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 397- 398
والطبراني في «الأوسط» 5426 و «الصغير» 815 والخطيب في
«التاريخ» 2/ 128 من طريق عوبد بن أبي عمران عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ به.
- وإسناده ضعيف جدا، عوبد ويقال: عويد به.
- وأخرجه البزار 2244 «كشف» من طريق إسحاق بن إدريس عن عوبد
به.
- وهذا إسناد ساقط، إسحاق هذا متروك، وشيخه عوبد متروك أيضا
كما تقدم.
- وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 88/ 11252: رواه البزار، وفيه
إسحاق بن إدريس، وهو متروك، ورواه الطبراني في-[.....]
(1) في المطبوع «اجعل» .
(2) في المطبوع «بأجرك» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «منهما» .
(3/531)
سئلت بأي الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ فَقُلِ
الصُّغْرَى مِنْهُمَا، وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ، فَقَالَتْ: يَا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، فَتَزَوَّجَ أَصْغَرَهُمَا وَقَضَى
أَوْفَاهُمَا.
وَقَالَ وَهْبٌ: أَنْكَحَهُ الْكُبْرَى.
«1612» روي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا: «بَكَى
شُعَيْبٌ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حَتَّى عُمِيَ
فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى عُمِيَ
فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى عُمِيَ
فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: مَا
هَذَا الْبُكَاءُ أَشَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ أم خوفا من
النار؟ فقال: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ شَوْقًا إِلَى
لِقَائِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنْ يَكُنْ ذَلِكَ
فَهَنِيئًا لَكَ لِقَائِي يَا شُعَيْبُ، لِذَلِكَ أَخْدَمْتُكَ
مُوسَى كَلِيمَيَ» وَلَمَّا تَعَاقَدَا هَذَا الْعَقْدَ
بَيْنَهُمَا أَمَرَ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ أَنْ تُعْطِيَ مُوسَى
عَصًا يَدْفَعُ بِهَا السِّبَاعَ عَنْ غَنَمِهِ، وَاخْتَلَفُوا
فِي تِلْكَ الْعَصَا.
قَالَ عِكْرِمَةُ: خَرَجَ بِهَا آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ
فَأَخَذَهَا جِبْرِيلُ بَعْدَ مَوْتِ آدَمَ فَكَانَتْ مَعَهُ
حَتَّى لَقِيَ بِهَا مُوسَى لَيْلًا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ حَمَلَهَا
آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ فَتَوَارَثَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَكَانَ
لَا يَأْخُذُهَا غَيْرُ نَبِيٍّ إِلَّا أَكَلَتْهُ فَصَارَتْ
مِنْ آدَمَ إِلَى نُوحٍ ثُمَّ إِلَى إِبْرَاهِيمَ حَتَّى
وَصَلَتْ إِلَى شُعَيْبٍ، وكانت عَصَا الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُ
فَأَعْطَاهَا مُوسَى.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ تِلْكَ الْعَصَا اسْتَوْدَعَهَا
إِيَّاهُ مَلَكٌ [فِي] [1] صُورَةِ رجل [قال] [2] فَأَمَرَ
ابْنَتَهُ أَنْ تَأْتِيَهُ بِعَصَا فَدَخَلَتْ فَأَخَذَتِ
الْعَصَا فَأَتَتْهُ بِهَا فَلَمَّا رَآهَا شُعَيْبٌ قَالَ
لَهَا: ردي هذه العصا [فإنها وديعة عندي] [3] ، وَأْتِيهِ
بِغَيْرِهَا فَأَلْقَتْهَا وَأَرَادَتْ أَنْ تأخذ غيرها فلا
تقع فِي يَدِهَا إِلَّا هِيَ، حَتَّى فعلت ذلك ثلاث مرات
فأعطتها مُوسَى فَأَخْرَجَهَا مُوسَى مَعَهُ، ثُمَّ إِنَّ
الشَّيْخَ نَدِمَ وَقَالَ: كَانَتْ وديعة [عندي أعطيها لغيري]
[4] ، فَذَهَبَ فِي أَثَرِهِ وَطَلَبَ أَنْ يَرُدَّ الْعَصَا
فَأَبَى مُوسَى أَنْ يُعْطِيَهُ. وَقَالَ: هِيَ عَصَايَ
فَرَضِيَا أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا أَوَّلَ رَجُلٍ
يَلْقَاهُمَا فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدمي فحكم أن
تطرح الْعَصَا فَمَنْ حَمَلَهَا فَهِيَ لَهُ فَطَرَحَ مُوسَى
الْعَصَا فَعَالَجَهَا الشَّيْخُ لِيَأْخُذَهَا فَلَمْ
يُطِقْهَا، فَأَخَذَهَا مُوسَى بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا
فَتَرَكَهَا لَهُ الشَّيْخُ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى لَمَّا
أَتَمَّ الْأَجَلَ وَسَلَّمَ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ إِلَيْهِ.
قَالَ مُوسَى لِلْمَرْأَةِ: اطْلُبِي مِنْ أَبِيكِ أَنْ
يَجْعَلَ لَنَا بَعْضَ الغنم فطلب من أبيها [شعيب] [5] فَقَالَ
شُعَيْبٌ لَكُمَا كُلُّ مَا وَلَدَتْ هَذَا الْعَامَ عَلَى
غَيْرِ شيتها [6] .
__________
- «الصغير» و «الأوسط» وإسناده حسن!!.
- كذا قال رحمه الله، ومداره على عوبد، وهو متروك كما تقدم.
- ولصدره شواهد، والوهن في عجزه فقط.
- وانظر «أحكام القرآن» 1716 لابن العربي بتخريجي.
1612- باطل. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 396- 397 من حديث
شداد بن أوس، وإسناده ساقط، فيه علي بن الحسن بن بندار، قال
الذهبي في «الميزان» 3/ 121: اتهمه ابن طاهر. وفيه إسماعيل بن
عياش، وهو ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وشيخه هنا حجازي،
والخبر باطل، والصواب أنه من الإسرائيليات.
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المخطوط «شبهها» .
(3/532)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى
الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ
نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ
النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
وَقِيلَ: أَرَادَ شُعَيْبٌ أَنْ يُجَازِيَ
موسى على حسن رعيته [في غنمه] [1] إِكْرَامًا لَهُ وَصِلَةً
لِابْنَتِهِ، فَقَالَ لَهُ إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنَ
الْجَدَايَا الَّتِي تَضَعُهَا أَغْنَامِي هَذِهِ السَّنَةَ
كُلَّ أَبْلَقَ وَبَلْقَاءَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى
فِي الْمَنَامِ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْمَاءَ الذي في
مستسقى الأغنام فَضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ الْمَاءَ ثُمَّ
سَقَى الْأَغْنَامَ مِنْهُ فَمَا أَخْطَأَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا
إِلَّا وَضَعَتْ حَمْلَهَا مَا بَيْنَ أَبْلَقَ وَبَلْقَاءَ
فَعَلِمَ [شعيب] [2] فقال له: أَنَّ ذَلِكَ رِزْقٌ سَاقَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى وَامْرَأَتِهِ فوفّى له
بشرطه [3] وسلم الأغنام إليه.
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ
جانِبِ الطُّورِ نَارًا قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي
آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ
جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا
أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى
إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ
عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى
مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ
إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً
فاسِقِينَ (32)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ،
يَعْنِي أَتَمَّهُ وَفَرَغَ مِنْهُ، وَسارَ بِأَهْلِهِ، قَالَ
مُجَاهِدٌ: لما قضى الْأَجَلَ مَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ
صهره عشرا أخرى فَأَقَامَ عِنْدَهُ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ
اسْتَأْذَنَهُ فِي الْعَوْدِ إِلَى مِصْرَ فَأَذِنَ لَهُ،
فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ إِلَى جَانِبِ مِصْرَ، آنَسَ، يَعْنِي
أَبْصَرَ، مِنْ جانِبِ الطُّورِ نَارًا، وَكَانَ فِي
الْبَرِّيَّةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ شاتية شَدِيدَةِ
الْبَرْدِ وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ، قالَ لِأَهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها
بِخَبَرٍ، يعني عَنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ
الطَّرِيقَ، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ، يَعْنِي قِطْعَةً
وَشُعْلَةً مِنَ النَّارِ، وَفِيهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ قَرَأَ
عَاصِمٌ «جَذْوَةٍ» بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ
بِضَمِّهَا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا، قَالَ قَتَادَةُ
وَمُقَاتِلٌ: هِيَ الْعُودُ الَّذِي قَدِ احْتَرَقَ بَعْضُهُ
وَجَمْعُهَا جِذَىً، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ،
تَسْتَدْفِئُونَ.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ،
يعني مِنْ جَانِبِ الْوَادِي الَّذِي عَنْ يَمِينِ مُوسَى، فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ، لِمُوسَى جَعَلَهَا اللَّهُ
مُبَارَكَةً لِأَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى هُنَاكَ
وَبَعَثَهُ نَبِيًّا. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ
الْمُقَدَّسَةَ، مِنَ الشَّجَرَةِ، مِنْ نَاحِيَةِ
الشَّجَرَةِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتْ سَمُرَةً خَضْرَاءَ تَبْرُقُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ
عَوْسَجَةً، قَالَ وَهْبٌ: من العليق، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا الْعُنَّابُ، أَنْ يَا
مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ.
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ، تَتَحَرَّكُ،
كَأَنَّها جَانٌّ، وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ
سُرْعَةِ حَرَكَتِهَا، وَلَّى مُدْبِراً، هَارِبًا مِنْهَا،
وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع [إليها] [4] فَنُودِيَ، يَا مُوسى
أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ.
اسْلُكْ، أَدْخِلَ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ
غَيْرِ سُوءٍ، بَرَصٍ فخرجت ولها شعاع كضوء
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «شرطه» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(3/533)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
الشَّمْسِ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ
مِنَ الرَّهْبِ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ بضم
الراء وسكون الهاء وبفتح الرَّاءَ حَفْصٌ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِهِمَا وَكُلُّهَا لُغَاتٌ بِمَعْنَى
الْخَوْفِ، وَمَعْنَى الآية إذا هالك أَمْرُ يَدِكَ وَمَا
تَرَى مِنْ شعاها فَأَدْخِلْهَا فِي جَيْبِكَ تَعُدْ إِلَى
حَالَتِهَا الْأُولَى، وَالْجَنَاحُ الْيَدُ كُلُّهَا.
وَقِيلَ: هُوَ الْعَضُدُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهم:
أمره الله بضم يَدَهُ إِلَى صَدْرِهِ فَيَذْهَبَ عَنْهُ مَا
نَالَهُ مِنَ الْخَوْفِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْحَيَّةِ،
وَقَالَ: مَا مِنْ خَائِفٍ بَعْدَ مُوسَى إِلَّا إِذَا وَضَعَ
يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ زَالَ خوفه. وقال مُجَاهِدٌ: كُلٌّ مَنْ
فَزِعَ فَضَمَّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع [وما يجد من الخوف]
[1] ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ ضَمِّ الْجَنَاحِ السُّكُونُ
أَيْ سَكِّنْ رَوْعَكَ وَاخْفِضْ عليك جأشك لِأَنَّ مِنْ
شَأْنِ الْخَائِفِ أَنْ يَضْطَرِبَ قَلْبُهُ وَيَرْتَعِدَ
بَدَنُهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ
الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الْإِسْرَاءِ: 24] ، يُرِيدُ
الرِّفْقَ [بهما] [2] ، وَقَوْلُهُ:
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(125) [الشُّعَرَاءِ: 215] أَيْ ارْفُقْ بهم وألن جانبك لهم،
وقال الْفَرَّاءُ:
أَرَادَ بِالْجَنَاحِ الْعَصَا، مَعْنَاهُ اضْمُمْ إِلَيْكَ
عَصَاكَ. وَقِيلَ: الرَّهْبُ الْكُمُّ [3] بِلُغَةِ حِمْيَرَ،
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ:
سَمِعْتُ بَعْضَ الْأَعْرَابِ يَقُولُ أَعْطِنِي ما في رهبك أي
[ما] [4] في كمك، معناه واضمم إِلَيْكَ يَدَكَ وَأَخْرِجْهَا
مِنَ الْكُمِّ، لأنه تناول العصا [حين صارت حية] [5] وَيَدُهُ
فِي كُمِّهِ، فَذانِكَ، يَعْنِي الْعَصَا وَالْيَدُ
الْبَيْضَاءُ، بُرْهانانِ، آيَتَانِ، مِنْ رَبِّكَ إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ.
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 35]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي
أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ
إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ (35)
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ
يَقْتُلُونِ (33) .
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً، وَإِنَّمَا
قَالَ ذَلِكَ لِلْعُقْدَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي لِسَانِهِ مِنْ
وَضْعِ الْجَمْرَةِ فِي فِيهِ، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً،
عَوْنًا، يُقَالُ رَدَأْتُهُ أَيْ أَعَنْتُهُ، قَرَأَ نَافِعٌ
«رِدًا» بِفَتْحِ الدَّالِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ طَلَبًا
لِلْخِفَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِ الدَّالِ
مَهْمُوزًا، يُصَدِّقُنِي، قَرَأَ [عَاصِمٌ] [6] وَحَمْزَةُ
بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الْحَالِ، أَيْ رِدْءًا مُصَدِّقًا،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ
وَالتَّصْدِيقِ لِهَارُونَ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، قَالَ
مُقَاتِلٌ: لِكَيْ يُصَدِّقَنِي فِرْعَوْنُ، إِنِّي أَخافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ.
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، أَيْ نُقَوِّيكَ بِأَخِيكَ
وَكَانَ هَارُونُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ، وَنَجْعَلُ لَكُما
سُلْطاناً، حُجَّةً وَبُرْهَانًا، فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما
بِآياتِنا، أَيْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِقَتْلٍ وَلَا
سُوءٍ لِمَكَانِ آيَاتِنَا، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ
وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا
بِآيَاتِنَا بِمَا نُعْطِيكُمَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَلَا
يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا، أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا
الْغالِبُونَ، أَيْ لَكُمَا وَلِأَتْبَاعِكُمَا الْغَلَبَةُ
عَلَى فِرْعَوْنَ وقومه.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) تصحف في المطبوع «الكلم» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «ابن عمر وعامر» .
(3/534)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا
سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا
الْأَوَّلِينَ (36)
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 41]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا
إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ
بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ
الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ
فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ
إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ
فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ
هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ، وَاضِحَاتٍ،
قالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً، مُخْتَلَقٌ وَما
سَمِعْنا بِهذا، الذي تَدْعُونَا إِلَيْهِ، فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ.
وَقالَ مُوسى، قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ [1] [قال موسى] [2]
بِغَيْرِ وَاوٍ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ، بِالْمُحِقِّ
مِنَ الْمُبْطِلِ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ،
يعني الْعُقْبَى الْمَحْمُودَةُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ،
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، يَعْنِي الْكَافِرُونَ.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ،
يعني فَاطْبُخْ لِي الْآجُرَّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أول من اتخذ
الْآجُرِّ وَبَنَى بِهِ، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً، قَصْرًا
عَالِيًا، وَقِيلَ: مَنَارَةً.
قال أهل السير: لَمَّا أَمَرَ فِرْعَوْنُ وَزِيرَهُ هَامَانَ
بِبِنَاءِ الصَّرْحِ جَمَعَ هَامَانُ الْعُمَّالَ
وَالْفَعَلَةَ حَتَّى اجْتَمَعَ خَمْسُونَ أَلْفَ بَنَّاءٍ
سِوَى الْأَتْبَاعِ وَالْأُجَرَاءِ، وَمَنْ يَطْبُخُ الْآجُرَّ
وَالْجِصَّ وَيَنْجُرُ [3] الْخَشَبَ وَيَضْرِبُ
الْمَسَامِيرَ، فَرَفَعُوهُ وَشَيَّدُوهُ حَتَّى ارْتَفَعَ
ارْتِفَاعًا لَمْ يَبْلُغْهُ بُنْيَانُ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ،
أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَفْتِنَهُمْ فِيهِ،
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ ارْتَقَى فِرْعَوْنُ فوقه وأمر
بنشابه [فوضعها في القوس] [4] فَرَمَى بِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ
فَرُدَّتْ إِلَيْهِ وَهِيَ مُلَطَّخَةٌ دَمًا، فَقَالَ قَدْ
قَتَلْتُ إِلَهَ مُوسَى، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَصْعَدُ عَلَى
الْبَرَاذِينِ فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ جُنَحَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ فَضَرَبَهُ بِجَنَاحِهِ فَقَطَعَهُ ثَلَاثَ قِطَعٍ
فَوَقَعَتْ قِطْعَةٌ مِنْهَا عَلَى عَسْكَرِ فِرْعَوْنَ
فَقَتَلَتْ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفِ رَجُلٍ، وَوَقَعَتْ
قِطْعَةٌ فِي الْبَحْرِ وَقِطْعَةٌ فِي الْمَغْرِبِ وَلَمْ
يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَمِلَ فِيهِ بِشَيْءٍ إِلَّا هَلَكَ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى
الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ
مُوسى، أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَقِفُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ، يَعْنِي مُوسَى، مِنَ الْكاذِبِينَ، في زعمه أن
للأرض وللخلق إِلَهًا غَيْرِي، وَأَنَّهُ رَسُولُهُ.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لَا يُرْجَعُونَ (39) ،
قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ:
«يَرْجِعُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ،
وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ.
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ، فَأَلْقَيْنَاهُمْ،
فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً، قَادَةً وَرُؤَسَاءَ، يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لَا يُنْصَرُونَ، لَا
يُمْنَعُونَ من العذاب.
__________
(1) في المطبوع «المكي» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «وينحت» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(3/535)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ (42)
[سورة القصص (28) : الآيات 42 الى 45]
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ
الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ
قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ
تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
(45)
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، خِزْيًا
وَعَذَابًا، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ،
أي: [1] الْمُبْعَدِينَ الْمَلْعُونِينَ، وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: مِنَ الْمُهْلَكِينَ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [قَالَ] [2] :
مَنْ الْمُشَوَّهِينَ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ
الْعُيُونِ، يُقَالُ:
قَبَحَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ إِذَا جَعَلَهُ قَبِيحًا،
وَيُقَالُ: قَبَّحَهُ قُبْحًا وَقُبُوحًا إِذَا أَبْعَدَهُ
مِنْ كُلِّ خير.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ
بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى، يَعْنِي قَوْمَ
نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا قَبْلَ موسى،
بَصائِرَ لِلنَّاسِ، يعني لِيُبْصِرُوا بِذَلِكَ الْكِتَابَ
وَيَهْتَدُوا بِهِ، وَهُدىً، من الضلال لِمَنْ عَمِلَ بِهِ،
وَرَحْمَةً، لِمَنْ آمَنَ بِهِ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ،
بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْبَصَائِرِ.
وَما كُنْتَ، يَا مُحَمَّدُ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ، يَعْنِي
بِجَانِبِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ، قَالَهُ قَتَادَةُ
وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِجَانِبِ الْوَادِي
الْغَرْبِيِّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ
حَيْثُ نَاجَى مُوسَى رَبَّهُ، إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى
الْأَمْرَ، يَعْنِي عَهِدْنَا إِلَيْهِ وَأَحْكَمْنَا
الْأَمْرَ مَعَهُ بِالرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ،
وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [أي] [3] الْحَاضِرِينَ ذَلِكَ
الْمَقَامَ فَتَذْكُرُهُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِكَ.
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً، خلقنا أمما مِنْ بَعْدِ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، أَيْ
طَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمُهْلَةُ فَنَسُوا عَهْدَ اللَّهِ
وميثاقه وَتَرَكُوا أَمْرَهُ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَهِدَ إِلَى مُوسَى
وَقَوْمِهِ عُهُودًا فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِهِ، فلما طال عليهم العمر وخلقت
الْقُرُونَ بَعْدَ الْقُرُونِ نَسُوا تِلْكَ الْعُهُودَ
وَتَرَكُوا الْوَفَاءَ بِهَا، وَما كُنْتَ ثاوِياً، مُقِيمًا،
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، كَمَقَامِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ فِيهِمْ،
تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، تُذَكِّرُهُمْ بِالْوَعْدِ
وَالْوَعِيدِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ لَمْ تَشْهَدْ أَهْلَ
مَدْيَنَ فَتَقْرَأْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ،
وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ رَسُولًا
وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِيهِ هَذِهِ الْأَخْبَارُ،
فَتَتْلُوهَا عليهم ولولا ذلك لما عملتها ولم تخبرهم بها.
[سورة القصص (28) : الآيات 46 الى 49]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ
مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ
تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا
رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا
أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ
قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ
كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(49)
__________
(1) في المطبوع «من» .
2 زيادة عن المخطوط. [.....]
3 زيادة عن المخطوط.
(3/536)
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ،
بِنَاحِيَةِ الْجَبَلِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
مُوسَى، إِذْ نادَيْنا، قِيلَ: إِذْ نَادَيْنَا مُوسَى خُذِ
الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ.
وَقَالَ وَهْبٌ: قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ أَرِنِي مُحَمَّدًا،
قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَصِلَ إِلَى ذَلِكَ وَإِنْ شئت ناديت
أمته وأسمعتك أصواتهم، قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ
آبَائِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جرير: نادى يَا
أُمَّةَ مُحَمَّدٍ قَدْ أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنِي
وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ، قَالَ اللَّهُ: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ
فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ
الْأُمَّهَاتِ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ
إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ
لَكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إِنَّ
رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَعَفْوِي سَبَقَ عِقَابِيَ، قَدْ
أَعْطَيْتُكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَسْأَلُونِي وَقَدْ
أَجَبْتُكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْعُونِي، وَقَدْ غَفَرَتُ
لَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تستغفروني، مَنْ جَاءَنِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدِي وَرَسُولِي دَخَلَ الْجَنَّةَ،
وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ [1]
. قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ ولكن رحمناك رحمة بإرسالك
وبالوحي إِلَيْكَ وَإِطْلَاعِكَ عَلَى الْأَخْبَارِ
الْغَائِبَةِ عَنْكَ، لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ
نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، يَعْنِي أهل مكة، لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ.
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ، عُقُوبَةٌ وَنِقْمَةٌ،
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ والمعصية،
فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا، هَلَّا، أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ أَيْ لَعَاجَلْنَاهُمْ
بِالْعُقُوبَةِ [بكفرهم] [2] ، يَعْنِي لَوْلَا أَنَّهُمْ
يَحْتَجُّونَ بِتَرْكِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ
لَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ بِكُفْرِهِمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمَا بَعَثْنَاكَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا
وَلَكِنْ بَعَثْنَاكَ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا، يَعْنِي مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالُوا، يَعْنِي كفار مكة،
لَوْلا، هَلَّا، أُوتِيَ، مُحَمَّدٌ، مِثْلَ مَا أُوتِيَ
مُوسى، مِنَ الْآيَاتِ كَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَالْعَصَا،
وَقِيلَ: مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى كِتَابًا جُمْلَةً
وَاحِدَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما
أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ، أَيْ فَقَدْ كَفَرُوا بِآيَاتِ
مُوسَى كَمَا كَفَرُوا بِآيَاتِ مُحَمَّدٍ، قالُوا سِحْرانِ
تَظاهَرا، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: «سِحْرَانِ» أَيِ
التَّوْرَاةُ وَالْقُرْآنُ تَظَاهَرَا يَعْنِي كُلُّ سِحْرٍ
يُقَوِّي الْآخَرَ نَسَبَ التَّظَاهُرَ إِلَى السِّحْرَيْنِ
عَلَى الِاتِّسَاعِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ تلك حين بعثوا [3]
إلى رؤوس الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُمْ عَنْ
مُحَمَّدٍ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ نَعْتَهُ فِي كِتَابِهِمِ
التَّوْرَاةِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِقَوْلِ
الْيَهُودِ، فَقَالُوا: «سِحْرَانِ تَظَاهَرَا» ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: «ساحران» يعنون محمدا وموسى عليهما السَّلَامُ،
لِأَنَّ مَعْنَى التَّظَاهُرِ بِالنَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ
أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْكُتُبِ، وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ
كافِرُونَ.
قُلْ، لهم يَا مُحَمَّدُ، فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما، يَعْنِي مِنَ التَّوْرَاةِ
وَالْقُرْآنِ، أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
__________
(1) باطل، ذكره السيوطي في «الدر المنثور» 5/ 246 وعزاه لابن
مردويه عن ابن عباس مرفوعا، وابن مردويه لم يطبع تفسيره بعد،
وهو يروي عن متروكين وكذابين من غير تعمد، والحديث باطل، وظاهر
الآية بيّن بأن النداء كان مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
لِمُوسَى عليه السلام.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المطبوع وحده «فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
الله عليه وسلم» .
(3/537)
فَإِنْ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ
بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
[سورة القصص (28) : الآيات 50 الى 53]
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما
يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ
هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ
الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ
(52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ (53)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، أَيْ: [إن] [1] لَمْ يَأْتُوا
بِمَا طَلَبْتَ، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَيِّنًا، قَالَ الْفَرَّاءُ:
أَنْزَلْنَا آيَاتِ الْقُرْآنِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا
قَالَ قَتَادَةُ: وَصَّلَ لَهُمُ الْقَوْلَ فِي هَذَا
الْقُرْآنِ كَيْفَ صَنَعَ بِمَنْ مَضَى. قَالَ مقاتل: بيّنا
لكفار مكة ما فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ
الْخَالِيَةِ كَيْفَ عُذِّبُوا بِتَكْذِيبِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ
زَيْدٍ وَصَّلْنَا لَهُمْ خَبَرَ الدُّنْيَا بِخَبَرِ
الْآخِرَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ عَايَنُوا الْآخِرَةَ فِي
الدُّنْيَا، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ، مِنْ قَبْلِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ،
وَقِيلَ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ،
نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ هُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الَّذِينَ
قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ وَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«1613» وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ أَرْبَعُونَ
رَجُلًا قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرٍ مِنَ الْحَبَشَةِ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا
رَأَوْا مَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخَصَاصَةِ قَالُوا: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ لَنَا أَمْوَالًا فَإِنْ أَذِنْتَ لَنَا
انْصَرَفْنَا وَجِئْنَا بِأَمْوَالِنَا فَوَاسَيْنَا
الْمُسْلِمِينَ بِهَا فَأَذِنَ لَهُمْ فَانْصَرَفُوا فَأَتَوْا
بِأَمْوَالِهِمْ فَوَاسَوْا بِهَا الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ
فِيهِمْ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إِلَى قَوْلِهِ
تَعَالَى:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص: 54] .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالَ: نَزَلَتْ فِي ثَمَانِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
أَرْبَعُونَ مِنْ نَجْرَانَ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ
[أهل] [2] الْحَبَشَةِ وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الشَّامِ، ثُمَّ
وَصَفَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ:
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، قالُوا آمَنَّا
بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا.
وَذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ،
أَيْ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ مُسْلِمِينَ مُخْلِصِينَ لِلَّهِ
بِالتَّوْحِيدِ مُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ حق.
[سورة القصص (28) : الآيات 54 الى 58]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا
وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ
(55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى
إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا
نَحْنُ الْوارِثِينَ (58)
__________
1613- ذكره المصنف هاهنا عن سعيد بن جبير مرسلا، وسنده إليه في
أول الكتاب.
- وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 252 عن سعيد بن جبير
مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3/538)
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ، لِإِيمَانِهِمْ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ
وَبِالْكِتَابِ الْآخِرِ، بِما صَبَرُوا، عَلَى دِينِهِمْ،
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
أَسْلَمُوا فَأُوذُوا.
«1614» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
السَّرَخْسِيُّ أنا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن حفص [1] الجويني أنا أحمد
بن سعيد الدارمي أنا عثمان أنا شُعْبَةُ عَنْ صَالِحٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا
فَأَحْسَنَ أدبها [2] ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا،
وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَآمَنَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد أحسن
عبادة الله وتصح سيده [3] » .
قوله عزّ وجلّ: «وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَدْفَعُونَ
بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الشِّرْكَ، قَالَ
مُقَاتِلٌ: يَدْفَعُونَ مَا سَمِعُوا مِنَ الْأَذَى
وَالشَّتْمِ مِنَ المشركين بالصفح والعفو والمغفرة، وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، فِي الطَّاعَةِ.
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ، الْقَبِيحَ مِنَ الْقَوْلِ،
أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا
يَسُبُّونَ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ تَبًّا
لَكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ فَيُعْرِضُونَ عَنْهُمْ وَلَا
يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ، لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ دِينُكُمْ، سَلامٌ
عَلَيْكُمْ، لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ سَلَامُ التَّحِيَّةِ
وَلَكِنَّهُ سَلَامُ الْمُتَارَكَةِ، معناه سلمتم منّا لا
نعاوضكم بالشتم والقبح مِنَ الْقَوْلِ، لَا نَبْتَغِي
الْجاهِلِينَ، أَيْ دِينَ الْجَاهِلِينَ، يَعْنِي لَا نُحِبُّ
دِينَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا نُرِيدُ
أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالسَّفَهِ [4] ، وَهَذَا
قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، أَيْ
أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ. وَقِيلَ: أَحْبَبْتَهُ لِقَرَابَتِهِ،
وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ، قال مجاهد ومقاتل: بمن قُدِّرَ لَهُ
الْهُدَى، نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلِ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ أَشْهَدْ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ:
لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ يَقُولُونَ إِنَّمَا
حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ
أَرْضِنا، مكة.
«1615» نزلت في الحارث بْنِ عُثْمَانَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا لنعلم أن
__________
1614- صحيح، أحمد والدارمي ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه
رجال البخاري ومسلم.
- عثمان هو ابن عمر بن فارس، شعبة هو ابن الحجاج، صالح هو ابن
صالح بن حي، الشعبي هو عامر بن شراحيل، أبو بردة، قيل اسمه
عامر، مشهور بكنيته.
- وهو في «شرح السنة» 257 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 97 و3011 و3446 و5083 ومسلم 154 والترمذي
1116 والنسائي 6/ 115 وابن ماجه 1965 وأحمد 4/ 395 و402 و404
و405 والطيالسي 502 والحميدي 768 والدارمي 2/ 155 وابن حبان
227 وابن مندة 395- 400 وأبو عوانة 1/ 103 والبيهقي 7/ 128 من
طرق عن صالح به.
- وأخرجه البخاري 2544 وأبو داود 2053 والترمذي 1116 والنسائي
6/ 115 وأحمد 4/ 405 وأبو عوانة 1/ 103 وابن مندة 400
والطبراني في «الصغير» 1/ 44 من طرق عن الشعبي به.
1615- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 663 هكذا بدون إسناد.-
(1) تصحف في المطبوع «جعفر» .
(2) في المطبوع «تأديبها» .
(3) في المطبوع وحده «لسيده» .
(4) تصحف في المطبوع «والسعة» .
(3/539)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ
مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى
إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ وَلَكِنَّا إِنِ
اتَّبَعْنَاكَ عَلَى دِينِكَ خِفْنَا أَنْ تُخْرِجَنَا
الْعَرَبُ مِنْ أَرْضِنَا مَكَّةَ.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا،
وَالِاخْتِطَافُ الِانْتِزَاعُ بِسُرْعَةٍ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً، وَذَلِكَ
أَنَّ الْعَرَبَ في الجاهلية كانت تعير بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَهْلُ مَكَّةَ
آمِنُونَ حَيْثُ كَانُوا، لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَمِنَ
الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمَنُ فِيهِ الظِّبَاءُ مِنَ
الذِّئَابِ وَالْحَمَامُ مِنَ الْحِدَأَةِ، يُجْبى، قرأ أهل
المدينة [1] : «تُجْبَى» بِالتَّاءِ لِأَجْلِ الثَّمَرَاتِ،
وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِلْحَائِلِ بَيْنَ الِاسْمِ
الْمُؤَنَّثِ وَالْفِعْلِ، أَيْ يُجْلَبُ وَيُجْمَعُ،
إِلَيْهِ، يُقَالُ: جَبَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ
جَمَعْتُهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يُحْمَلُ إِلَى الْحَرَمِ،
ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَنَّ مَا يَقُولُهُ حق.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أَيْ
مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، أَيْ فِي
مَعِيشَتِهَا، أَيْ أَشَرَّتْ وَطَغَتْ، قَالَ عَطَاءٌ:
عَاشُوا فِي الْبَطَرِ فَأَكَلُوا رِزْقَ اللَّهِ وَعَبَدُوا
الْأَصْنَامَ، فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ
يَسْكُنْهَا إلا المسافرون وما رأوا الطَّرِيقِ يَوْمًا أَوْ
سَاعَةً، مَعْنَاهُ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا
سُكُونًا قَلِيلًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يُعَمَّرْ مِنْهَا
إِلَّا أَقَلُّهَا وَأَكْثَرُهَا خراب، وَكُنَّا نَحْنُ
الْوارِثِينَ، كقوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْها [مريم: 40] .
[سورة القصص (28) : الآيات 59 الى 61]
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي
أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا
مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما
أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا
تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ
لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ
هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى، أي القرى الكافر
أَهْلُهَا، حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا، يَعْنِي فِي
أَكْبَرِهَا وَأَعْظَمِهَا رسولا [أي] [2] يُنْذِرُهُمْ
وَخَصَّ الْأَعْظَمَ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ فِيهَا، لِأَنَّ
الرَّسُولَ يُبْعَثُ إِلَى الْأَشْرَافِ وَالْأَشْرَافُ
يَسْكُنُونَ الْمَدَائِنَ، وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي هِيَ أُمُّ
مَا حَوْلَهَا، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا، قَالَ مُقَاتِلٌ:
يُخْبِرُهُمُ الرَّسُولُ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ إِنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا
وَأَهْلُها ظالِمُونَ.
مشركون، يريد أهلكم بِظُلْمِهِمْ.
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَزِينَتُها، تَتَمَتَّعُونَ بِهَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ ثُمَّ
هِيَ إِلَى فَنَاءٍ وَانْقِضَاءٍ، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ
وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَنَّ الْبَاقِيَ خَيْرٌ مِنَ
الْفَانِي، قَرَأَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: «تَعْقِلُونَ»
بِالتَّاءِ وَأَبُو عَمْرٍو بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّاءِ
وَالْيَاءِ.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً، أَيِ الْجَنَّةَ، فَهُوَ
لاقِيهِ، مُصِيبُهُ وَمُدْرِكُهُ وَصَائِرٌ إِلَيْهُ، كَمَنْ
مَتَّعْناهُ
__________
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11385 من طريق عمرو بن شعيب عن
ابن عباس «أن الْحَارِثِ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلِ الذي قال:
إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.
قال النسائي: ولم يسمعه منه أي لم يسمع عمرو من ابن عباس.
- فالإسناد ضعيف، ولا يصح هذا الخبر. [.....]
(1) زيد في المطبوع «يعقوب» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3/540)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
(62)
مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَزُولُ
عَنْ قَرِيبٍ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ، النَّارَ، قَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي
الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ
وَعْلَيٍّ وَأَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي
عَمَّارٍ وَالْوَلِيدِ بن المغيرة.
[سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 69]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا
أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا
إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ
لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ
(66)
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ
يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا
يَشاءُ وَيَخْتارُ مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ
اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ
مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69)
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) ، فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ
شُرَكَائِي.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ
الْعَذَابُ وهم رؤوس الضَّلَالَةِ، رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ
أَغْوَيْنا، أَيْ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْغَيِّ [1] وَهُمُ
الْأَتْبَاعُ، أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا، أَضْلَلْنَاهُمْ
كَمَا ضَلَلْنَا، تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ، مِنْهُمْ، ما كانُوا
إِيَّانا يَعْبُدُونَ، برىء بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَصَارُوا
أَعْدَاءً كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزُّخْرُفِ: 67] .
وَقِيلَ، لِلْكُفَّارِ، ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، أَيِ
الْأَصْنَامَ لِتُخَلِّصَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَدَعَوْهُمْ
فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، لم يُجِيبُوهُمْ، وَرَأَوُا
الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ، وَجَوَابُ لَوْ
مَحْذُوفٌ عَلَى تَقْدِيرِ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ
فِي الدُّنْيَا مَا رَأَوُا الْعَذَابَ.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ، أَيْ يَسْأَلُ اللَّهُ الْكُفَّارَ،
فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ.
فَعَمِيَتْ، خَفِيَتْ وَاشْتَبَهَتْ، عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ،
أَيِ الْأَخْبَارُ وَالْأَعْذَارُ [2] ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الْحُجَجُ، يَوْمَئِذٍ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عُذْرٌ وَلَا
حُجَّةٌ، فَهُمْ لَا يَتَساءَلُونَ: لَا يُجِيبُونَ، وَقَالَ
قَتَادَةُ: لا يحتجون، وقيل: يسكنون لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا.
فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ
يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) ، من السُّعَدَاءِ
النَّاجِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ،
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ حِينَ
قَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ
أَوْ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ، أَخْبَرَ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الرُّسُلَ بِاخْتِيَارِهِمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، قِيلَ:
«مَا» لِلْإِثْبَاتِ، مَعْنَاهُ:
وَيَخْتَارُ اللَّهُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، أَيْ
يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ وَالْخَيْرُ. وَقِيلَ: هُوَ
لِلنَّفْيِ أَيْ لَيْسَ إليهم الاختيار أو ليس لَهُمْ أَنْ
يَخْتَارُوا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ
لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الْأَحْزَابِ: 36] ،
وَالْخِيَرَةُ اسْمٌ من الاختيار تقام [3] مَقَامَ
الْمَصْدَرِ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْمُخْتَارِ أيضا كما
__________
(1) تصحف في المطبوع «الغني» .
(2) في المخطوط «والاعتذار» .
(3) في المطبوع «يقام» .
(3/541)
وَهُوَ اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ
وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
يُقَالُ: مُحَمَّدٌ خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ
خَلْقِهِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ
وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ
(69) ، يظهرون.
[سورة القصص (28) : الآيات 70 الى 75]
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ
(71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ
النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا
تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
(74)
وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا
بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي
الْأُولى وَالْآخِرَةِ، يَحْمَدُهُ أَوْلِيَاؤُهُ فِي
الدُّنْيَا وَيَحْمَدُونَهُ فِي الْآخِرَةِ فِي الْجَنَّةِ،
وَلَهُ الْحُكْمُ، فَصْلُ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حَكَمَ لِأَهْلِ
طَاعَتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَلِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ
بِالشَّقَاءِ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ، أَخْبِرُونِي يَا أَهْلَ مَكَّةَ،
إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً،
دَائِمًا، إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، لَا نَهَارَ مَعَهُ، مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ، بِنَهَارٍ
تَطْلُبُونَ فِيهِ الْمَعِيشَةَ، أَفَلا تَسْمَعُونَ، سَمَاعَ
فَهْمٍ وَقَبُولٍ.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ [أَخْبِرُونِي يَا أَهْلَ مَكَّةَ] [1] إِنْ
جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ، لَا لَيْلَ [2] فِيهِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ،
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَأِ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ فِي اللَّيْلِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ بِالنَّهَارِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، نِعَمَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) ، كَرَّرَ ذِكْرَ النِّدَاءِ
لِلْمُشْرِكِينَ لِزِيَادَةِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ.
وَنَزَعْنا، أَخْرَجْنَا، مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً،
يَعْنِي رَسُولَهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كَمَا قَالَ
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كل أمة بشهيد، فَقُلْنا هاتُوا
بُرْهانَكُمْ، حُجَّتَكُمْ بِأَنَّ مَعِيَ شَرِيكًا.
فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ، التَّوْحِيدَ، لِلَّهِ وَضَلَّ
عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ، في الدنيا.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 77]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا
تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا
تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ
اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ
مُوسى، كَانَ ابْنُ عَمِّهِ لِأَنَّهُ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ
بْنِ قَاهِثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَمُوسَى بن عمران بن قاهث.
__________
(1) زيد في المطبوع.
(2) تصحف في المطبوع «لا دليل» .
(3/542)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ قَارُونُ
عم موسى وكان أَخَا عِمْرَانَ، وَهُمَا ابْنَا يَصْهَرَ،
وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَقْرَأَ لِلتَّوْرَاةِ
مِنْ قَارُونَ، وَلَكِنَّهُ نَافَقَ كَمَا نَافَقَ
السَّامِرِيُّ، فَبَغى عَلَيْهِمْ، قِيلَ كَانَ عَامِلًا
لِفِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ يَبْغِي
عَلَيْهِمْ وَيَظْلِمُهُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغَى
عَلَيْهِمْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
بَغَى عَلَيْهِمْ بِالشِّرْكِ، وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ:
زَادَ فِي طُولِ ثِيَابِهِ شِبْرًا.
«1616» وَرُّوِينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ جرّ ثوبه
خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة [1] » .
وَقِيلَ: بَغَى عَلَيْهِمْ بِالْكِبَرِ وَالْعُلُوِّ،
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ، وهي جَمْعُ
مِفْتَحٍ وَهُوَ الَّذِي يُفْتَحُ بِهِ الْبَابُ، هَذَا قَوْلُ
قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: مَفَاتِحُهُ [2]
خَزَائِنُهُ، كَمَا قَالَ: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ
[الأنعام: 59] أي خزائنه، لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي
الْقُوَّةِ، لتثقلهم أي وَتَمِيلُ بِهِمْ إِذَا حَمَلُوهَا
لِثِقَلِهَا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ
تَقْدِيرُهُ مَا إِنَّ الْعُصْبَةَ لَتَنُوءُ بِهَا، يُقَالُ
نَاءَ فَلَانٌ بِكَذَا إِذَا نَهَضَ بِهِ مُثْقَلًا، واختلفوا
في عدد العصبة، فقال مُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى
خَمْسَةَ عَشَرَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى
الْعَشَرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى
الْأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَقِيلَ:
سَبْعُونَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
كان يحمل مفاتيحه [3] أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَقْوَى مَا يَكُونُ
مِنَ الرِّجَالِ. وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ
خَيْثَمَةَ قَالَ: وَجَدْتُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّ مَفَاتِيحَ
خَزَائِنِ قَارُونَ وَقْرُ سِتِّينَ بَغْلًا مَا يَزِيدُ
مِنْهَا مِفْتَاحٌ عَلَى أُصْبُعٍ لِكُلِّ مِفْتَاحٍ كَنْزٌ،
وَيُقَالُ: كَانَ قَارُونُ أَيْنَمَا ذَهَبَ يَحْمِلُ مَعَهُ
مَفَاتِيحَ كُنُوزِهِ وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ فَلَمَّا
ثَقُلَتْ عَلَيْهِ جَعَلَهَا مِنْ خَشَبٍ فَثَقُلَتْ
فَجَعَلَهَا مِنْ جُلُودِ البقر على طول الإصبع [4] وَكَانَتْ
تُحَمَّلُ مَعَهُ إِذَا رَكِبَ عَلَى أَرْبَعِينَ بَغْلًا،
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ [أي] [5] قَالَ لِقَارُونَ قَوْمُهُ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا تَفْرَحْ، لَا تَبْطَرُ وَلَا
تَأْشَرُ وَلَا تَمْرَحُ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ، الْأَشِرِينَ البطرين اللذين لَا يَشْكُرُونَ
اللَّهَ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ.
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ [أي] [6]
اطْلُبْ فِيمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنَ الأموال والنعمة الجنة
وَهُوَ أَنْ تَقُومَ بِشُكْرِ اللَّهِ فِيمَا أَنْعَمَ
عَلَيْكَ وَتُنْفِقَهُ فِي رضا الله، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيا، قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: لَا تَتْرُكُ
أَنْ تَعْمَلَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ حَتَّى تَنْجُوَ
مِنَ الْعَذَابِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ نَصِيبِ الْإِنْسَانِ مِنَ
الدُّنْيَا أَنْ يَعْمَلَ لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
بِالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا
تَنْسَ صِحَّتَكَ [وَقُوَّتَكَ] [7] وَشَبَابَكَ وَغِنَاكَ
أَنْ تَطْلُبَ بِهَا الآخرة.
__________
1616- تقدم في تفسير سورة النساء عند آية: 30، متفق عليه.
(1) هذا المتن اختلف في ألفاظه في المطبوع والمخطوط، والمثبت
عن المطبوع و «صحيح البخاري» 3665 و5784.
(2) تصحف في المطبوع «مفاتح» .
(3) في المطبوع «مفاتحه» .
(4) تصحف في المطبوع «الأصابع» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط. [.....]
(7) زيادة عن المخطوط.
(3/543)
قَالَ إِنَّمَا
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا
يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
«1617» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
[بْنُ أَحْمَدَ] [1] المليحي أَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ
بْنُ محمد بن شاذان أنا أَبُو يَزِيدَ [2] حَاتِمُ بْنُ
مَحْبُوبٍ الشامي أنا الحسين المروزي أَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُبَارَكِ أنا جعفر بن يرقان عَنْ زِيَادِ بْنِ
الْجَرَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ [3]
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنَمَ خَمْسًا
قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ
سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ
شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ....» .
الْحَدِيثُ [4] مرسل.
قال الحسن: أمر أَنْ يُقَدِّمَ الْفَضْلَ وَيُمْسِكَ مَا
يُغْنِيهِ، قَالَ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ فِي قَوْلِهِ: وَلا
تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا قَالَ قُوتَكَ وَقُوتَ
أَهْلِكَ، وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، أَيْ
أَحْسِنُ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ
بِنِعْمَتِهِ وَقِيلَ: أَحْسِنَ إِلَى النَّاسِ كَمَا أَحْسَنَ
اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلا تَبْغِ، ولا تطلب، الْفَسادَ فِي
الْأَرْضِ، وكل مَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ طَلَبَ الْفَسَادَ
فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.
[سورة القصص (28) : الآيات 78 الى 79]
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ
الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ
يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا
أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
قالَ، يَعْنِي قَارُونَ، إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ
عِنْدِي أَيْ عَلَى فَضْلٍ وخير علمه الله عندي قرآني أَهْلًا
لِذَلِكَ فَفَضَّلَنِي بِهَذَا الْمَالِ عليكم كما فضلني
بغيره، وقيل: هُوَ عِلْمُ الْكِيمْيَاءِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ: كَانَ مُوسَى يَعْلَمُ الْكِيمْيَاءَ فَعَلَّمَ
يُوشَعَ بْنَ نُونٍ ثُلُثَ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَعَلَّمَ كَالِبَ
بْنَ يُوقَنَّا ثُلُثَهُ وَعَلَّمَ قَارُونَ ثُلُثَهُ،
فَخَدَعَهُمَا قَارُونُ حَتَّى أَضَافَ عِلْمَهُمَا إِلَى
عِلْمِهِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبُ أَمْوَالِهِ. وَقِيلَ: عَلى
عِلْمٍ عِنْدِي بِالتَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَاتِ
وَالزِّرَاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ
مِنَ الْقُرُونِ، الْكَافِرَةِ، مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ
قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً، للأموال، وَلا يُسْئَلُ عَنْ
ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ.
__________
1617- حديث حسن، رجاله ثقات إلّا أنه مرسل، والمرسل من قسم
الضعيف، لكن له شاهد يحسن به إن شاء الله، والله أعلم.
- وهو في «شرح السنة» 3916 بهذا الإسناد.
- وهو في «الزهد لابن المبارك» (2) عن جعفر بن البرقان بهذا
الإسناد.
- وأخرجه القضاعي 729 من طريق الحسين بن الحسن عن ابن مبارك
به.
- وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 4/ 148 من طريق وكيع عن جعفر بن
برقان به.
- ويشهد له حديث ابن عباس عند الحاكم 4/ 306 والبيهقي في
«الشعب» 10248 وأعله البيهقي بأنه قد ورد بهذا الإسناد متن آخر
غير هذا.
قلت: رجاله رجال البخاري ومسلم، وصححه الحاكم على شرطهما،
ووافقه الذهبي، وحسنه العراقي في «تخريج الإحياء» 4/ 459.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المخطوط «زيد» .
(3) تصحف في المطبوع «الأزدي» .
(4) زيد في المطبوع وحده «صحح» .
(3/544)
وَقَالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ
آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الصَّابِرُونَ (80)
قَالَ قَتَادَةُ: يَدْخُلُونَ النَّارَ
بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا سُؤَالٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي
لَا يَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ عَنْهُمْ لأنهم يعرفونهم بسيماهم.
وقال الْحَسَنُ: لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ اسْتِعْلَامٍ
وَإِنَّمَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ.
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ: خَرَجَ هُوَ وَقَوْمُهُ فِي ثِيَابٍ حُمْرٍ
وَصُفْرٍ، وقال ابْنُ زَيْدٍ فِي سَبْعِينَ أَلْفًا عليهم
المعصفرات. وقال مُجَاهِدٌ: عَلَى بَرَاذِينَ بِيضٍ عَلَيْهَا
سُرُجُ الْأُرْجُوَانِ. قال مُقَاتِلٌ:
خَرَجَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا سَرْجٌ مِنْ ذَهَبٍ
عَلَيْهِ الْأُرْجُوَانُ وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ فَارِسٍ
عَلَيْهِمْ وَعَلَى دَوَابِّهِمِ الْأُرْجُوَانُ، وَمَعَهُ
ثَلَاثُمِائَةِ جَارِيَةٍ بِيضٍ عَلَيْهِنَّ الْحُلِيُّ
وَالثِّيَابُ الْحُمْرُ وَهُنَّ عَلَى الْبِغَالِ الشُّهُبِ،
قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ
لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ،
من المال.
[سورة القصص (28) : الآيات 80 الى 82]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ
خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ
الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما
كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما
كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ
تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا
وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي الْأَحْبَارَ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أُوتُوا الْعِلْمَ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ
فِي الْآخِرَةِ قَالُوا لِلَّذِينِ تَمَنَّوْا مِثْلَ مَا
أُوتِيَ قَارُونُ فِي الدُّنْيَا.
وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ، يَعْنِي مَا عِنْدَ اللَّهِ
مِنَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ، وَصَدَّقَ
بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَعَمِلَ صالِحاً، مِمَّا أُوتِيَ
قَارُونُ فِي الدُّنْيَا، وَلا يُلَقَّاها إِلَّا
الصَّابِرُونَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُؤْتَاهَا، يَعْنِي
الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا
يُعْطَاهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: لَا يُؤْتَى هَذِهِ
الْكَلِمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ
خَيْرٌ إِلَّا الصَّابِرُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعَنْ
زِينَةِ الدُّنْيَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ
الْأَرْضَ.
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ: كَانَ قَارُونُ
أَعْلَمَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَأَقْرَأَهُمْ لِلتَّوْرَاةِ
وَأَجْمَلَهُمْ وَأَغْنَاهُمْ وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ
فَبَغَى وَطَغَى، وَكَانَ أَوَّلَ طُغْيَانِهِ وَعِصْيَانِهِ
أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنْ يَأْمُرَ قَوْمَهُ أن
يعلقوا فِي أَرْدِيَتِهِمْ خُيُوطًا أَرْبَعَةً فِي كل طرف
خيطا أخضر كلون السماء يذكرونني به إذا نظروا إلى السماء
وَيَعْلَمُونَ أَنِّي مَنْزِّلٌ مِنْهَا كَلَامِي، فَقَالَ
مُوسَى: يَا رَبِّ أَفَلَا تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا
أَرْدِيَتَهُمْ كُلَّهَا خُضْرًا فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
تُحَقِّرُ هَذِهِ الْخُيُوطَ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَا
مُوسَى إِنَّ الصَّغِيرَ مِنْ أَمْرِي لَيْسَ بِصَغِيرٍ
فَإِذَا هُمْ لَمْ يُطِيعُونِي فِي الْأَمْرِ الصَّغِيرِ لَمْ
يُطِيعُونِي فِي الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، فَدَعَاهُمْ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: إن الله يأمركم أن تجعلوا [1]
فِي أَرْدِيَتِكُمْ خُيُوطًا خُضْرًا كَلَوْنِ السَّمَاءِ
لِكَيْ تَذْكُرُوا رَبَّكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَفَعَلَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى وَاسْتَكْبَرَ
قَارُونُ فَلَمْ يُطِعْهُ وَقَالَ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا
الْأَرْبَابُ بِعَبِيدِهِمْ لِكَيْ يَتَمَيَّزُوا عَنْ
غَيْرِهِمْ فَكَانَ هَذَا بَدْءَ عِصْيَانِهِ وَبَغْيِهِ
فَلَمَّا قَطَعَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ
جُعِلَتِ الْحُبُوَرَةُ لِهَارُونَ وَهِيَ رِيَاسَةُ
الْمَذْبَحِ فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَأْتُونَ
بِهَدْيِهِمْ إِلَى هَارُونَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْمَذْبَحِ
فَتَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهُ، فَوَجَدَ
قَارُونُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَأَتَى مُوسَى فَقَالَ:
يَا مُوسَى لَكَ الرِّسَالَةُ وَلِهَارُونَ الْحُبُوَرَةُ
وَلَسْتُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَا أَقْرَأُ
التَّوْرَاةَ لَا صَبْرَ لِي عَلَى هَذَا، فَقَالَ لَهُ
مُوسَى: مَا أَنَا جَعَلْتُهَا فِي هَارُونَ بَلِ اللَّهُ
جَعَلَهَا لَهُ، فَقَالَ قَارُونُ: وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُكَ
حَتَّى تريني بيانه فجمع موسى رؤوس بني
__________
(1) في المطبوع «تعلقوا» .
(3/545)
إِسْرَائِيلَ فَقَالَ هَاتُوا عِصِيَّكُمْ
فَحَزَمَهَا وَأَلْقَاهَا فِي قُبَّتِهِ الَّتِي كَانَ
يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا، فَجَعَلُوا يَحْرُسُونَ عِصِيَّهُمْ
حَتَّى أَصْبَحُوا فَأَصْبَحَتْ عَصَا هَارُونَ قَدِ اهْتَزَّ
لَهَا وَرَقٌ أَخْضَرُ وَكَانَتْ مِنْ شَجَرِ اللَّوْزِ،
فَقَالَ مُوسَى:
يَا قَارُونُ تَرَى هَذَا؟ فَقَالَ قَارُونُ: وَاللَّهِ مَا
هَذَا بِأَعْجَبَ مِمَّا تَصْنَعُ مِنَ السِّحْرِ، وَاعْتَزَلَ
قَارُونُ مُوسَى بِأَتْبَاعِهِ، وَجَعَلَ مُوسَى يُدَارِيهِ
لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ يُؤْذِيهِ فِي كُلِّ
وَقْتٍ وَلَا يَزِيدُ إِلَّا عُتُوًّا وَتَجَبُّرًا
وَمُعَادَاةً لِمُوسَى حَتَّى بَنَى دَارًا وَجَعَلَ بَابَهَا
مِنَ الذَّهَبِ، وَضَرَبَ عَلَى جُدْرَانِهَا صَفَائِحَ
الذَّهَبِ، وَكَانَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
يَغْدُونَ إِلَيْهِ وَيَرُوحُونَ فَيُطْعِمُهُمُ الطَّعَامَ
وَيُحْدِّثُونَهُ وَيُضَاحِكُونَهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَلَمَّا
نَزَلَتِ الزَّكَاةُ عَلَى مُوسَى أَتَاهُ قَارُونُ
فَصَالَحَهُ عَنْ كُلِّ أَلْفِ دِينَارٍ عَلَى دِينَارٍ،
وَعَنْ كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى دِرْهَمٍ، وَعَنْ كُلِّ
أَلْفِ شَاةٍ عَلَى شَاةٍ، وَعَنْ كُلِّ أَلْفِ شَيْءٍ عَلَى
شَيْءٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَحَسَبَهُ فَوَجَدَهُ
كَثِيرًا فَلَمْ تَسْمَحْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ، فَجَمَعَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَقَالَ لَهُمْ:
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ مُوسَى قَدْ أَمَرَكُمْ بِكُلِّ
شَيْءٍ فَأَطَعْتُمُوهُ، وَهُوَ الْآنَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ
أَمْوَالَكُمْ، فَقَالُوا: أَنْتَ كَبِيرُنَا فَمُرْنَا بِمَا
شِئْتَ، فَقَالَ: آمُرُكُمْ أَنْ تَجِيئُوا بِفُلَانَةٍ
الْبَغْيِّ فَنَجْعَلُ لَهَا جُعْلًا حَتَّى تَقْذِفَ مُوسَى
بِنَفْسِهَا، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ خَرَجَ بنو إسرائيل عليه
ورفضوه، فدعاها فَجَعَلَ لَهَا قَارُونُ أَلْفَ دِرْهَمٍ،
وَقِيلَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ طَسْتًا مِنْ ذَهَبٍ،
وَقِيلَ قَالَ لَهَا إِنِّي أُمَوِّلُكِ وَأَخْلِطُكِ
بِنِسَائِي عَلَى أَنْ تَقْذِفِي مُوسَى بِنَفْسِكِ غَدًا
إِذَا حَضَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ
جَمَعَ قَارُونُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ أَتَى مُوسَى
فَقَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَكَ
فَتَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُوسَى
وَهُمْ فِي بَرَاحٍ مِنَ الأرض، فقام [فيهم] [1] فَقَالَ: يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَا يَدَهُ وَمَنِ
افْتَرَى جَلَدْنَاهُ ثَمَانِينَ، وَمَنْ زَنَا وَلَيْسَتْ له
امرأة جلدناه مائة، وَمِنْ زَنَا وَلَهُ امْرَأَةٌ رَجَمْنَاهُ
حَتَّى يَمُوتَ، فَقَالَ لَهُ قَارُونُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟
قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا، قَالَ: فَإِنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ فَجَرْتَ بِفُلَانَةٍ فقال
ادْعُوهَا فَإِنْ قَالَتْ فَهُوَ كَمَا قالت، فلما جَاءَتْ
قَالَ لَهَا مُوسَى يَا فُلَانَةُ أَنَا فَعَلْتُ بِكِ مَا
يقول هؤلاء؟ وعظم عليها القسم وَسَأَلَهَا بِالَّذِي فَلَقَ
الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
إِلَّا صَدَقَتْ فتداركها الله تعالى بالتوفيق وقالت فِي
نَفْسِهَا أُحْدِثُ الْيَوْمَ تَوْبَةً أَفْضَلُ مِنْ أَنْ
أُؤْذِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَتْ لَا كَذَبُوا وَلَكِنْ جَعَلَ لِي قَارُونُ جُعْلًا
عَلَى أَنْ أَقْذِفَكَ بِنَفْسِي، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا
يَبْكِي وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ رَسُولَكَ فَاغْضَبْ
لِي، فَأَوْحَى اللَّهُ تعالى: إِنِّي أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ
تُطِيعَكَ، فَمُرْهَا بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ مُوسَى: يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَى قَارُونَ كَمَا
بَعَثَنِي إِلَى فِرْعَوْنَ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَلْيَثْبُتْ
مَكَانَهُ وَمَنْ كَانَ مَعِيَ فَلْيَعْتَزِلْ، فَاعْتَزَلُوا
وَلَمْ يَبْقَ مَعَ قَارُونَ إِلَّا رَجُلَانِ، ثُمَّ قَالَ
مُوسَى: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتِ الْأَرْضُ
بِأَقْدَامِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ [قارون] [2] عَلَى
سَرِيرِهِ وَفَرْشِهِ فَأَخَذَتْهُ حَتَّى غَيَّبَتْ سَرِيرَهُ
ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى
الرُّكَبِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ
إِلَى الْأَوْسَاطِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ
فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى الْأَعْنَاقِ، وَقَارُونُ وَأَصْحَابُهُ
فِي كُلِّ ذَلِكَ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى مُوسَى وَيُنَاشِدُهُ
قَارُونُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ
نَاشَدَهُ سَبْعِينَ مَرَّةً وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
كُلِّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ لِشِدَّةِ غَضَبِهِ،
ثُمَّ قَالَ: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ فانطبقت عليهم الأرض فأوحى
اللَّهُ إِلَى مُوسَى مَا أَغْلَظَ قَلْبَكَ اسْتَغَاثَ بِكَ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَمْ تُغِثْهُ، أَمَّا وَعِزَّتِي
وَجَلَالِي لَوِ اسْتَغَاثَ بِي مَرَّةً لَأَغَثْتُهُ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: لَا أَجْعَلُ الْأَرْضَ بَعْدَكَ
طَوْعًا لِأَحَدٍ. قَالَ قَتَادَةُ: خُسِفَ بِهِ فَهُوَ
يَتَجَلْجَلُ في
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3/546)
تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا
فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(83)
الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ قَامَةَ رَجُلٍ لَا
يَبْلُغُ قَعْرَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ:
وَأَصْبَحَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا
بَيْنَهُمْ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا دَعَا عَلَى قَارُونَ
لِيَسْتَبِدَّ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ وَأَمْوَالِهِ فَدَعَا
اللَّهَ مُوسَى حَتَّى خَسَفَ بِدَارِهِ وَكُنُوزِهِ
وَأَمْوَالِهِ الْأَرْضَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، فَما كانَ لَهُ مِنْ
فِئَةٍ، جَمَاعَةٌ، يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ،
يَمْنَعُونَهُ مِنَ اللَّهِ، وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ،
الْمُمْتَنِعِينَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ.
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ، صَارَ
أُولَئِكَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنَ
الْمَالِ وَالزِّينَةِ يَتَنَدَّمُونَ عَلَى ذَلِكَ
التَّمَنِّي، وَالْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنِ الصَّيْرُورَةِ
بِأَضْحَى وَأَمْسَى وَأَصْبَحَ تَقُولُ أَصْبَحَ فُلَانٌ
عَالَمًا وَأَضْحَى مُعْدِمًا وَأَمْسَى حَزِينًا، يَقُولُونَ
وَيْكَأَنَّ اللَّهَ، اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ
اللَّفْظَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَلَمْ تَعْلَمْ، وَقَالَ
قَتَادَةُ: أَلَمْ تَرَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ كَلِمَةُ
تَقْرِيرٍ كَقَوْلِ الرَّجُلِ أَمَا تَرَى إِلَى صُنْعِ
اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ
سَمِعِ أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ لِزَوْجِهَا: أَيْنَ ابْنُكَ؟
فَقَالَ: وَيْكَأَنَّهُ وَرَاءَ الْبَيْتِ، يَعْنِي أَمَا
تَرَيْنَهُ وَرَاءَ الْبَيْتِ. وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ
كَلِمَةُ ابْتِدَاءٍ تَقْدِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ. وَقِيلَ: هُوَ تَنْبِيهٌ بِمَنْزِلَةِ أَلَا
وَقَالَ قُطْرُبٌ وَيْكَ بِمَعْنَى وَيْلَكَ حذفت اللام منه
كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَلَقَدْ شَفَى وَأَبْرَأَ سَقَمَهَا ... قَوْلُ الْفَوَارِسِ
وَيْكَ عنتر أقدم
أي ويلك، وإن منصوب بإضمار، واعلم أَنَّ اللَّهَ، وَقَالَ
الْخَلِيلُ: وَيْ مَفْصُولَةٌ مِنْ كَأَنَّ وَمَعْنَاهَا
التَّعَجُّبُ كما يقول وَيْ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْقَوْمَ تَنَدَّمُوا فَقَالُوا: وَيْ مُتَنَدِّمِينَ
عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ وَكَأَنَّ مَعْنَاهُ أَظُنُّ ذَلِكَ
وَأُقَدِّرُهُ، كَمَا تَقُولُ: كَأَنَّ الْفَرَجَ [1] قَدْ
أَتَاكَ أَيْ أَظُنُّ ذَلِكَ وَأُقَدِّرُهُ، يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ، أَيْ
يُوَسِّعُ وَيُضَيِّقُ، لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا
لَخَسَفَ بِنا، قَرَأَ حَفْصٌ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْخَاءِ
وَالسِّينِ وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِ
السِّينِ، وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ.
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 86]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ
مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ
عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (84)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى
مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى
إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ، قَالَ
الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ،
وَقَالَ عَطَاءٌ: استطالة عَلَى النَّاسِ وَتَهَاوُنًا بِهِمْ.
وَقَالَ الحسن: لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانهم [2] .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
أَهْلِ التَّوَاضُعِ من الولاة [3] وأهل المقدرة [4] وَلا
فَساداً قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى عِبَادَةِ
غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَخْذُ أَمْوَالِ
النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ:
الْعَمَلُ بِالْمَعَاصِي، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ
الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللَّهِ
بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ.
__________
(1) في المطبوع «كان الفرح» .
(2) في المطبوع «سلطانها» .
(3) تصحف في المطبوع «الولادة» .
(4) في المطبوع «القدرة» .
(3/547)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ
عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ
إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ، أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ عَلَى
قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَوْجَبَ
عَلَيْكَ الْعَمَلَ بِالْقُرْآنِ، لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ،
إِلَى مَكَّةَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ،
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَعَادُ الرَّجُلِ بَلَدُهُ لِأَنَّهُ
يَنْصَرِفُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى بَلَدِهِ، وَذَلِكَ.
«1618» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْغَارِ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ
سَارَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ مَخَافَةَ الطَّلَبِ فَلَمَّا
أَمِنَ وَرَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ نَزَلَ الْجُحْفَةَ بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَعَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَكَّةَ
اشْتَاقَ إِلَيْهَا، فأتاه جبريل وَقَالَ:
أَتَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ،
قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، وَهَذِهِ
الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْجُحْفَةِ لَيْسَتْ بِمَكِّيَّةٍ وَلَا
مَدَنِيَّةٍ. وَرَوَى سَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ
إِلَى الْمَوْتِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ: إِلَى
الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: إِلَى الْجَنَّةِ. قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى، أَيْ يَعْلَمُ مَنْ جَاءَ
بِالْهُدَى وَهَذَا جَوَابٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ لَمَّا قَالُوا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَفِي
ضَلَالٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَهُمْ رَبِّي
أَعْلَمُ مَنْ جاء بالهدى أي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى
يَعْنِي نَفْسَهُ، وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، يعني
المشركين ومعناه [الله] [1] أعلم بالفريقين.
قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ
الْكِتابُ، أَيْ يُوحَى إِلَيْكَ الْقُرْآنُ، إِلَّا رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ
الْمُنْقَطِعِ مَعْنَاهُ لَكِنْ رَبَّكَ رَحِمَكَ فَأَعْطَاكَ
الْقُرْآنَ، فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ، أَيْ
مُعِينًا لهم على دينهم. وقال مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ حِينَ
دُعِيَ إِلَى دِينِ آبَائِهِ فَذَكَرَ اللَّهُ نِعَمَهُ
وَنَهَاهُ عَنْ مُظَاهَرَتِهِمْ عَلَى مَا هم عليه.
[سورة القصص (28) : الآيات 87 الى 88]
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ
إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ
لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ
لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ،
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ، إِلَى
مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: الْخِطَابُ فِي الظَّاهِرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به أهل دينه لَا
تُظَاهِرُوا الْكُفَّارَ وَلَا تُوَافِقُوهُمْ.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ
كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، أَيْ إِلَّا هُوَ،
وَقِيلَ: إِلَّا ملكه، وقال أَبُو الْعَالِيَةِ: إِلَّا مَا
أُرِيدَ به وجهه [والصحيح عند السلف الصالح أنه محمول على
ظاهره، ولا يفسر ولا يتأول كسائر الصفات] [2] ، لَهُ
الْحُكْمُ، أَيْ فَصَلُ الْقَضَاءِ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ،
تُرَدُّونَ فِي الْآخِرَةِ فيجزيكم بأعمالكم [3] .
__________
1618- خبر واه. ذكره الواحدي في «الوسيط» 3/ 411 نقلا عن
المفسرين بدون إسناد.
وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 5/ 265 عن الضحاك مرسلا
ومختصرا، ومراسيل الضحاك واهية.
- وأخرجه ابن مردويه كما في «الدر» 5/ 265 عن عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، وهذا معضل، والخبر واه. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
2 زيد عي المخطوط «ب» .
3 زيد عي المخطوط «ب» .
(3/548)
|