تفسير البغوي
إحياء التراث الم (1)
تفسير سورة لقمان
مكية وهي أربع وثلاثون آية
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً
وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6)
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً
وَرَحْمَةً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَرَحْمَةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى
الِابْتِدَاءِ أَيْ هُوَ هُدَىً وَرَحْمَةٌ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ لِلْمُحْسِنِينَ.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ
رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ، الْآيَةَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ كَانَ يَتَّجِرُ فَيَأْتِي
الْحِيْرَةَ وَيَشْتَرِي أَخْبَارَ العجم فيحدث بِهَا
قُرَيْشًا وَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُحَدِّثُكُمْ
بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ
رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ وَأَخْبَارِ الْأَكَاسِرَةِ،
فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ وَيَتْرُكُونَ اسْتِمَاعَ
الْقُرْآنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ
مُجَاهِدٌ يَعْنِي شِرَاءَ الْقِيَانِ والمغنين، وَوَجْهُ
الْكَلَامِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَنْ يَشْتَرِي ذَاتَ
لَهْوِ أَوْ ذَا لَهْوِ الْحَدِيثِ.
«1650» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثعلبي أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الفضل
بن محمد بن
__________
1650- صدره يشبه الحسن بطرقه وشواهده، وأما ذكر الآية مع ما
بعده فهو واه جدا، والأشبه في ذكر الآية كونه من كلام أحد
الرواة.
- إسناده ضعيف جدا، فهو مسلسل بالضعفاء مطرّح فمن فوقه، بل علي
بن يزيد متروك الحديث.
- وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 678 من طريق محمد بن الفضل
به.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 441 من وجه آخر عن مطّرح بن
يزيد بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 1282 و3195 وابن ماجه 2168 وأحمد 5/ 252
والطبري 28035 و28036 و28037 والطبراني 7855 والبيهقي 6/ 14
وابن الجوزي في «العلل» 1307 من طرق عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ زَحْرٍ به، وليس فيه عجز الحديث «وَمَا مِنْ رَجُلٍ
يَرْفَعُ صَوْتَهُ ... » .
- وقال الترمذي: غريب، إنما يروي من حديث القاسم، والقاسم ثقة،
وعلي بن يزيد يضعف سمعت محمدا يقول:
القاسم ثقة، وعلي يضعف.
- ونقل البيهقي عن الترمذي نحو هذا، وأعله ابن كثير في
«تفسيره» 3/ 451.
(3/584)
إسحاق المزكي [1] ثنا جَدِّي مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خزيمة أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا
مُشْمَعِلُّ بْنُ مِلْحَانِ الطَّائِيُّ عَنْ مُطَّرِحِ بْنِ
يَزِيدَ عَنْ عُبَيْدِ [2] اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ [3] أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا يَحِلُّ تَعْلِيمُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا بَيْعُهُنَّ
وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ» ، وَفِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ
هَذِهِ الْآيَةَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، «وَمَا مِنْ
رَجُلٍ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ إِلَّا بَعَثَ اللَّهُ
عَلَيْهِ شَيْطَانَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَى هَذَا الْمَنْكِبِ
وَالْآخَرُ عَلَى هَذَا الْمَنْكِبِ فَلَا يَزَالَانِ
يَضْرِبَانِهِ بِأَرْجُلِهِمَا حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي
يَسْكُتُ» .
__________
- فالإسناد ضعيف جدا.
- وأخرجه ابن عدي في «الكامل» 6/ 314 من طريق مسلمة بن علي عن
يَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ عَنِ الْقَاسِمِ به، وليس فيه ذكر
الآية وأعله ابن عدي بمسلمة بن علي، وهو متروك.
- وصدر الحديث ورد من وجه آخر عن علي بن يزيد بهذا الإسناد
مطوّلا عند أحمد 5/ 257 وابن الجوزي في «العلل» 1308 وليس فيه
ذكره الآية.
وإسناده ساقط، لأجل علي بن يزيد.
- وكذا أخرجه ابن ماجه 2168 من طريق أبي جعفر الرازي عن عاصم
عن أبي المهلب عن عبيد الله الإفريقي عن أبي أمامة، وهذا إسناد
ظلمات.
- أبو جعفر الرازي، ضعفه غير واحد، وأبو المهلب، هو مطرّح بن
يزيد، ضعيف متروك، وشيخه عبيد الله الإفريقي هو ابن زحر نفسه
ضعفه الجمهور، الإسناد منقطع، فإنه لم يدرك أبا أمامة، وكأنه
إسناد مصنوع مركب.
- ولصدره شواهد منها:
- حديث عائشة أخرجه ابن الجوزي 1309 من طريق ليث بن أبي سليم
عن عبد الرحمن بن سابط عن عائشة مرفوعا.
- وهذا إسناد ضعيف قال ابن الجوزي: ليث متروك.
وابن سابط كثير الإرسال والرواية عمن لم يلقه، ولم يصرح بسماعه
من عائشة.
- وقد أعله البيهقي في «السنن» 6/ 64 بقوله: وروي عن ليث عن
ابن سابط عن عائشة، وليس بمحفوظ.
- وحديث عمر أخرجه ابن عدي في «الكامل» 2627 وأعلّه بيزيد بن
عبد الملك النوفلي، وفيه عبد العزيز الأويسي ضعفه غير واحد.
- وحديث علي أخرجه ابن عدي 2/ 191- 192 وأعلّه بالحارث بن
نبهان ونقل عن البخاري قوله: منكر الحديث.
وقال النسائي: متروك.
- وفي الإسناد أيضا الحارث الأعور، وهو ضعيف فالإسناد ضعيف
جدا.
- الخلاصة صدره يقرب من الحسن بمجموع طرقه وشواهده، وأما
باقيه، فهو واه جدا.
- قال العلامة ابن القيم في «إغاثة اللهفان» 1/ 258: هذا
الحديث، وإن كان مداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف، لكن للحديث
شواهد، ومتابعات.
- قلت: ومع ذلك شواهده واهية، ومتابعاته لا يحتج بها، فالخبر
يشبه الحسن.
وأدرجه الألباني في «الصحيحة» 2922، وفي ذلك نظر، وتقدم ما فيه
كفاية.
- تنبيه: وذكر الآية في هذا الحديث مدرج من كلام الصحابي، وليس
له أصل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا لم يقع ذكر
الآية الكريمة عند أحمد وغيره.
(1) في المطبوع «المزني» .
(2) في المطبوع «عبد» .
(3) زيد في المطبوع «عن» .
(3/585)
وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
«1651» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
[بْنُ عَبْدِ الله] [1] بن أحمد بن الْقَفَّالُ أَنَا أَبُو
مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَرْوَنْجِرْدِيُّ أَنَا
أَبُو أَحْمَدَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ
الصَّيْرَفِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غالب تمتام [2] أنا خالد
بن يزيد [3] أنا حماد بن يَزِيدَ عَنْ هِشَامٍ هُوَ ابْنُ
حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيْرِيْنَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ
الزَّمَّارَةِ» .
قَالَ مَكْحُولٌ: مَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً ضَرَّابَةً
لِيُمْسِكَهَا لِغِنَائِهَا وَضَرْبِهَا مُقِيمًا عَلَيْهِ
حَتَّى يَمُوتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الْآيَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا:
لَهْوُ الْحَدِيثِ هُوَ الْغِنَاءُ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ،
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أَيْ
يَسْتَبْدِلُ وَيَخْتَارُ الْغِنَاءَ وَالْمَزَامِيرَ
وَالْمَعَازِفَ عَلَى الْقُرْآنِ، قال أبو الصهباء [4]
الْبَكْرِيُّ سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ
فَقَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ
النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَأْخُذُونَ
بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ يَخْرِقُونَ الدُّفُوفَ. وَقِيلَ:
الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ
الطَّبْلُ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: هُوَ الشِّرْكُ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: هُوَ كُلُّ لَهْوٍ وَلَعِبٍ، لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يعني يَفْعَلُهُ عَنْ جَهْلٍ
قَالَ قَتَادَةُ: بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الضَّلَالَةِ أَنْ
يَخْتَارَ حَدِيثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيَتَّخِذَها هُزُواً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ: وَيَتَّخِذَها بِنَصْبِ الذَّالِ
عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: لِيُضِلَّ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالرَّفْعِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: يَشْتَرِي، أُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 7 الى 12]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ
لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ
كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا
فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ
فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ
الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ
وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ
لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) .
__________
1651- إسناده حسن لأجل خالد بن يزيد، وقد توبع، ولصدره شواهد
في الصحيح.
- وهو في «شرح السنة» 2031 بهذا الإسناد.
- أخرجه البيهقي 6/ 126 من طريق عبد الوارث عن هشام بن حسان
به، ورجاله ثقات.
- وأخرجه ابن عدي في «الكامل» 3/ 261 من طريق سليمان بن أبي
سليمان عن محمد بن سيرين به، وإسناده ساقط، فلا فائدة من هذه
المتابعة، وأعله ابن عدي بسليمان ونقل عن النسائي قوله: متروك
الحديث.
- ولصدره شاهد من حديث أبي مسعود الأنصاري، أخرجه البخاري 2237
ومسلم 1567.
- وله شاهد آخر من حديث جابر، أخرجه مسلم 1569 وأبو داود 3479.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «تمام» . [.....]
(3) تصحف في المطبوع «مرثد» .
(4) تصحف في المطبوع «الصباء» .
(3/586)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ
كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنا
فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، حَسَنٍ.
هَذَا، يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْتُ مِمَّا تُعَايِنُونَ، خَلْقُ
اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ،
مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، بَلِ الظَّالِمُونَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ،
يَعْنِي الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ به والإصابة في
الأمور، وقال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ لُقْمَانُ بْنُ
نَاعُورَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَارِخَ وَهُوَ آزَرُ. وَقَالَ
وَهْبٌ: إنه كَانَ ابْنَ أُخْتِ أَيُّوبَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ
ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَةِ أَيُّوبَ.
قَالَ الْوَاقِدَيُّ: كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلَمْ
يَكُنْ نَبِيًّا إِلَّا عِكْرِمَةَ فَإِنَّهُ قَالَ كَانَ
لُقْمَانُ نَبِيًّا وَتَفَرَّدَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: خُيِّرَ لُقْمَانُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ
وَالْحِكْمَةِ فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ.
«1652» وَرُوِيَ: أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا نِصْفَ النَّهَارِ
فَنُودِيَ يَا لُقْمَانُ هَلْ لَكَ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ فَأَجَابَ الصَّوْتَ فقال: إن خيرني ربي [بين
العافية والبلاء] [1] قَبِلْتُ الْعَافِيَةَ وَلَمْ أَقْبَلِ
الْبَلَاءَ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَيَّ فَسَمْعًا وَطَاعَةً فإني
أعلم إن فعل ذلك بي أَعَانَنِي وَعَصَمَنِي، فَقَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ بِصَوْتٍ لَا يَرَاهُمْ: لِمَ يَا لُقْمَانُ؟
قَالَ: لِأَنَّ الْحَاكِمَ بِأَشَدِّ الْمَنَازِلِ وأكدرها
يغشاه الظُّلْمُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يعن [فيخذل أو يعان]
[2] فبالأحرى أَنْ يَنْجُوَ وَإِنْ أَخْطَأَ أَخْطَأَ طَرِيقَ
الْجَنَّةِ، وَمَنْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا ذَلِيلًا خَيْرٌ
مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرِيفًا، وَمَنْ يَخْتَرِ الدُّنْيَا عَلَى
الْآخِرَةِ تَفْتِنُهُ الدُّنْيَا وَلَا يُصِيبُ الْآخِرَةَ،
فَعَجِبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ حُسْنِ مَنْطِقِهِ، فَنَامَ
نَوْمَةً فَأُعْطِيَ الْحِكْمَةَ فَانْتَبَهَ وَهُوَ
يَتَكَلَّمُ بِهَا، ثُمَّ نُودِيَ دَاوُدُ بَعْدَهُ
فَقَبِلَهَا ولم يشترط ما اشترطه لُقْمَانُ، فَهَوَى فِي
الْخَطِيئَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ كُلُّ ذَلِكَ يَعْفُو [اللَّهُ]
[3] عَنْهُ، وَكَانَ لُقْمَانُ يُؤَازِرُهُ بِحِكْمَتِهِ.
وَعَنْ خَالِدٍ الرَّبَعِيِّ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا
حَبَشِيًّا نَجَّارًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ:
كَانَ خَيَّاطًا.
وَقِيلَ: كَانَ رَاعِيَ غَنَمٍ.
فَرُوِيَ أَنَّهُ لَقِيَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ
بِالْحِكْمَةِ فَقَالَ: أَلَسْتَ فُلَانًا الرَّاعِيَ [قال:
نعم قال] [4] : فَبِمَ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ؟ قَالَ: بِصِدْقِ
الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَرْكِ مَا لَا
يَعْنِينِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ
عَظِيمَ الشَّفَتَيْنِ مشقق الْقَدَمَيْنِ. قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ.
__________
1652- واه بمرة، أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» كما
في «الدر» 5/ 311 عن أبي مسلم الخولاني قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: ... فذكره.
وهذا مرسل، ولم أقف على إسناده إلى أبي مسلم، وتفرد الحكيم به
دليل وهنه لأنه يروي عن متروكين، والمتن شبه موضوع، والأشبه
أنه من كلام أبي مسلم، وأنه مما تلقاه عن أهل الكتاب.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن «الدر المنثور» 5/ 311.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(3/587)
وَإِذْ قَالَ
لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
[سورة لقمان (31) : الآيات 13 الى 15]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ
لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى
أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ
سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ، وَاسْمُهُ أَنْعَمُ وَيُقَالُ
مِشْكَمٌ، وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وقرأ ابْنُ كَثِيرٍ: «يَا
بُنَيْ لَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ» بِإِسْكَانِ الْيَاءِ،
وَفَتَحَهَا حَفْصٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، «يَا بُنَيَّ
إِنَّهَا» بِفَتْحِ الْيَاءِ حَفْصٌ، وَالْبَاقُونَ
بِالْكَسْرِ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان: 17]
بِفَتْحِ الْيَاءِ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٍ،
وَبِإِسْكَانِهَا الْقَوَّاسُ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْناً عَلى وَهْنٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِدَّةً بَعْدَ
شِدَّةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ. وقال
مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةً عَلَى مَشَقَّةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْمَرْأَةُ إِذَا حَمَلَتْ تَوَالَى عَلَيْهَا الضَّعْفُ
وَالْمَشَقَّةُ. وَيُقَالُ: الْحَمْلُ ضَعْفٌ، وَالطَّلْقُ
ضَعْفٌ وَالْوَضْعُ ضَعْفٌ. وَفِصالُهُ، أَيْ فِطَامُهُ، فِي
عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ،
الْمَرْجِعُ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ
اللَّهَ، وَمَنْ دَعَا لِلْوَالِدَيْنِ فِي أَدْبَارِ
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ شَكَرَ الْوَالِدَيْنِ.
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا
مَعْرُوفاً، أَيْ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ
وَالْعِشْرَةُ الْجَمِيلَةُ، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ
إِلَيَّ، أَيْ دِينَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَى طَاعَتِي وَهُوَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ.
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ
وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ أَتَاهُ عُثْمَانُ وَطَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ صَدَّقْتَ
هَذَا الرَّجُلَ وَآمَنْتَ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ صَادِقٌ
فَآمِنُوا بِهِ ثُمَّ حَمَلَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْلَمُوا فَهَؤُلَاءِ
لَهُمْ سَابِقَةُ الْإِسْلَامِ أَسْلَمُوا بِإِرْشَادِ أَبِي
بَكْرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ
أَنابَ إِلَيَّ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،
وَقِيلَ:
نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ
وَأُمِّهِ، وَقَدْ مَضَتِ الْقِصَّةُ وَقِيلَ: الْآيَةُ
عَامَّةٌ فِي حَقِّ كافة الناس.
[سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 18]
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي
الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
(16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ إِنَّ
ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ
لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18)
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّها رَاجِعَةٌ إِلَى
الْخَطِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ لُقْمَانَ قَالَ
لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنْ عَمِلْتُ الْخَطِيئَةَ حَيْثُ لَا
يَرَانِي أَحَدٌ كَيْفَ يَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَقَالَ: يَا
بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، قَالَ قَتَادَةُ تَكُنْ فِي جَبَلٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هي [1] صَخْرَةٍ تَحْتَ الْأَرْضِينَ
السَّبْعِ وَهِيَ التي يكتب فِيهَا أَعْمَالُ الْفُجَّارِ
وَخُضْرَةُ السَّمَاءِ منها.
__________
(1) في المطبوع «في» .
(3/588)
وَاقْصِدْ فِي
مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ
لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قَالَ السُّدِّيُّ: خَلَقَ اللَّهُ
الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ وَهُوَ النُّونُ [1] الَّذِي ذَكَرَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي القرآن ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1]
وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ وَالْمَاءُ عَلَى ظَهْرِ صَفَاةٍ
وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ
وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا لُقْمَانُ لَيْسَتْ فِي
السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَالصَّخْرَةُ عَلَى
الرِّيحِ. أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ
بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ، بِاسْتِخْرَاجِهَا،
خَبِيرٌ، عَالَمٌ بِمَكَانِهَا، قَالَ الحسن: معنى الآية هي
الْإِحَاطَةُ بِالْأَشْيَاءِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا وَفِي
بَعْضِ الْكُتُبِ إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ آخِرُ كَلِمَةٍ
تَكَلَّمَ بِهَا لُقْمَانُ فَانْشَقَّتْ مَرَارَتُهُ مِنْ
هَيْبَتِهَا فَمَاتَ رحمه الله.
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى مَا أَصابَكَ، يَعْنِي مِنَ
الْأَذَى، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، يُرِيدُ
الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَالصَّبْرَ عَلَى الْأَذَى فِيهِمَا مِنَ الْأُمُورِ
الْوَاجِبَةِ الَّتِي أمر الله بها وهي [2] مِنَ الْأُمُورِ
الَّتِي يُعْزَمُ عَلَيْهَا لِوُجُوبِهَا.
وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ
وَابْنُ عَامِرٍ وعاصم وهو أبو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: «وَلَا
تُصَعِّرْ» بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ «تُصَاعِرْ» بِالْأَلْفِ يُقَالُ صَعَّرَ وَجْهَهُ
وَصَاعَرَ إِذَا مَالَ وَأَعْرَضَ تَكَبُّرًا وَرَجُلٌ
أَصَعَرُ أَيْ مَائِلُ الْعُنُقِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَقُولُ لَا تَتَكَبَّرْ فَتُحَقِّرَ النَّاسَ وَتُعْرِضَ
عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِحْنَةً
فَتَلْقَاهُ فَيُعْرِضُ عَنْكَ بِوَجْهِهِ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ:
هُوَ الَّذِي إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ لَوَى عُنُقَهُ
تَكْبُّرًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وقتادة: لا تحتقرن
الفقراء ليكن الفقر وَالْغَنِيُّ عِنْدَكَ سَوَاءً، وَلا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، خيلاء تكبرا، إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
، فِي مَشْيِهِ فَخُورٍ، عَلَى الناس.
[سورة لقمان (31) : الآيات 19 الى 20]
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ
أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا
أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ، أَيْ لِيَكُنْ مَشْيُكَ قَصْدًا لَا
تَخَيُّلًا وَلَا إِسْرَاعًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ
بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، كَقَوْلِهِ: يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْناً [الْفُرْقَانِ: 63] ، وَاغْضُضْ مِنْ
صَوْتِكَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اخْفِضْ صَوْتَكَ، إِنَّ
أَنْكَرَ الْأَصْواتِ، أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ، لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ، أَوَّلُهُ زَفِيرٌ وَآخِرُهُ شَهِيقٌ، وهما صوتا
أَهْلِ النَّارِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، قَالَ: صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ
تَسْبِيحٌ لِلَّهِ إِلَّا الْحِمَارَ. وَقَالَ جَعْفَرُ
الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ
الْحَمِيرِ قَالَ: هِيَ الْعَطْسَةُ الْقَبِيحَةُ
الْمُنْكَرَةُ. قَالَ وَهْبٌ: تَكَلَّمَ لُقْمَانُ بِاثْنَى
عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْحِكْمَةِ أَدْخَلَهَا النَّاسُ
فِي كَلَامِهِمْ وَقَضَايَاهُمْ و [من] [3] حكمه:
__________
(1) هذه آثار مصدرها كتب الأقدمين.
(2) في المطبوع «أو» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(3/589)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ
يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
قَالَ خَالِدٌ الرَّبَعِيُّ [1] : كَانَ
لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَدَفَعَ مَوْلَاهُ إِلَيْهِ
شَاةً وَقَالَ: اذْبَحْهَا وَائْتِنِي بِأَطْيَبِ مُضْغَتَيْنِ
مِنْهَا، فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، ثُمَّ دَفَعَ
إِلَيْهِ شَاةً أُخْرَى، وَقَالَ: اذْبَحْهَا وَائْتِنِي
بِأَخْبَثِ مُضْغَتَيْنِ مِنْهَا فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ
وَالْقَلْبِ، فَسَأَلَهُ مولاه [عن ذلك] [2] ، فَقَالَ: لَيْسَ
شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا طَابَا وَلَا أَخْبَثَ
مِنْهُمَا إذا خبثا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ، أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، نِعَمَهُ قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ «نِعَمَهُ» بِفَتْحِ
الْعَيْنِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ مُنَوَّنَةً على الواحد ومعناه الْجَمْعُ أَيْضًا
كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها
[إِبْرَاهِيمَ: 34] ، ظاهِرَةً وَباطِنَةً، قَالَ عِكْرِمَةُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الْإِسْلَامُ
وَالْقُرْآنُ وَالْبَاطِنَةُ مَا سَتَرَ عَلَيْكَ مِنَ
الذُّنُوبِ وَلَمْ يُعَجِّلْ عَلَيْكَ بِالنِّقْمَةِ. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: الظَّاهِرَةُ حُسْنُ الصُّورَةِ وَتَسْوِيَةُ
الْأَعْضَاءِ وَالْبَاطِنَةُ الْمَعْرِفَةُ. وَقَالَ
مُقَاتِلٌ:
الظَّاهِرَةُ تَسْوِيَةُ الْخَلْقِ وَالرِّزْقُ
وَالْإِسْلَامُ، وَالْبَاطِنَةُ [مَا سَتَرَ مِنَ الذنوب] [3]
، وقال الربيع: الظاهرة الجوارح والباطنة القلب، وَقِيلَ
الظَّاهِرَةُ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْبَاطِنَةُ
الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ تَمَامُ
الرِّزْقِ وَالْبَاطِنَةُ حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
الظَّاهِرَةُ تَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ وَالْبَاطِنَةُ
الشَّفَاعَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الظَّاهِرَةُ ظُهُورُ
الْإِسْلَامِ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَالْبَاطِنَةُ
الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ
الْإِمْدَادُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْبَاطِنَةُ إِلْقَاءُ
الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ: الظَّاهِرَةُ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ
وَالْبَاطِنَةُ مَحَبَّتُهُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ
فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ
الْحَارِثِ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ،
وَأَشْبَاهِهِمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّهِ وَفِي صِفَاتِهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 21 الى 27]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ
الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ
يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ
إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا، قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى
عَذابِ السَّعِيرِ، وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ وَمَجَازُهُ
يَدْعُوهُمْ فَيَتَّبِعُونَهُ، يَعْنِي يَتَّبِعُونَ
الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى
عَذَابِ السعير.
قوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، أي لله
يعني يُخْلِصْ دِينَهُ لِلَّهِ وَيُفَوِّضْ أَمْرَهُ إِلَى
اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، فِي عَمَلِهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، أَيْ اعْتَصَمَ بِالْعَهْدِ
الْأَوْثَقِ الَّذِي لَا يَخَافُ انْقِطَاعَهُ، وَإِلَى
اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ.
__________
(1) تصحف في المطبوع «الربيعي» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) العبارة في المطبوع «الإيمان» والمثبت عن المخطوط، ويدل
عليه عبارة «الوسيط» 3/ 445. [.....]
(3/590)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ (28)
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ
إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) .
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، أَيْ: نُمْهِلُهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا
بِنَعِيمِ الدُّنْيَا قَلِيلًا إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ،
ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ، ثُمَّ نُلْجِئُهُمْ وَنَرُدُّهُمْ فِي
الْآخِرَةِ، إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) .
لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) . قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
الْآيَةَ.
«1653» قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ إِلَى
قَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
[الْإِسْرَاءِ: 85] فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ
أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَقَالُوا:
يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أَفَعَنَيْتَنَا
أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ، قَالُوا: أَلَسْتَ تتلو فِيمَا جَاءَكَ
أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ؟
فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ وَقَدْ آتَاكُمُ اللَّهُ مَا
إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ» ، قَالُوا: يا محمد كيف
تزعمه هَذَا، وَأَنْتَ تَقُولُ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: 269] فَكَيْفَ
يَجْتَمِعُ [1] هَذَا، عِلْمٌ قَلِيلٌ وَخَيْرٌ كَثِيرٌ؟
فَأَنْزَلَ [اللَّهُ] هذه الآية. وقال قَتَادَةُ: إِنَّ
الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ وَمَا يَأْتِي بِهِ
مُحَمَّدٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ فَيَنْقَطِعَ، فَنَزَلَتْ.
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أَيْ
بُرِيَتْ أَقْلَامًا، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ، قَرَأَ أَبُو
عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ:
«وَالْبَحْرَ» بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى «مَا» ،
وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ يَمُدُّهُ
أَيْ يَزِيدُهُ، وَيَنْصَبُّ فِيهِ مِنْ بَعْدِهِ من خَلْفِهِ،
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، وَفِي
الْآيَةِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ أَنَّ مَا فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يُكْتَبُ بِهَا كَلَامُ اللَّهِ
مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
مَدَنِيَّةٌ وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مَكِّيَّةٌ. وَقَالُوا:
إِنَّمَا أَمَرَ الْيَهُودُ وَفْدَ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْأَلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَيَقُولُوا لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بَعْدُ بِمَكَّةَ وَاللَّهُ
أعلم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 28 الى 32]
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي
اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ
آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
(31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ
خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، أي
[إلّا] [2] كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا لَا
يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
__________
1653- أخرجه الطبري 28148 بنحوه بسند فيه مجهول عن ابن عباس
2849 بنحوه عن عكرمة مرسلا و28150 عن عطاء بن يسار مرسلا أيضا،
فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.
(1) في المخطوط «تجمع» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3/591)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ
عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ
شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ
الْغَرُورُ (33)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) .
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي
ذَكَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ
مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ
اللَّهِ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ،
لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، عَجَائِبِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ، عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، شَكُورٍ،
لِنِعَمِهِ.
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، قَالَ مُقَاتِلٌ:
كَالْجِبَالِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: [والسدي] [1] : كالسحاب.
والظلل [2] جمع ظلة شَبَّهَ بِهَا الْمَوْجَ فِي كَثْرَتِهَا
وَارْتِفَاعِهَا وَجَعَلَ الْمَوْجَ وَهُوَ وَاحِدٌ كالظل
وَهِيَ جَمْعٌ، لِأَنَّ الْمَوْجَ يَأْتِي مِنْهُ شَيْءٌ
بَعْدَ شَيْءٍ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ،
أَيْ عَدْلٌ مُوفٍ فِي الْبَرِّ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ
عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ مِنَ التَّوْحِيدِ لَهُ يَعْنِي ثبت
على إيمانه. قيل نَزَلَتْ فِي عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهِلٍ
هَرَبَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى البحر فجاءتهم رِيحٌ عَاصِفٌ،
فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ أنجانا اللَّهُ مِنْ هَذَا
لَأَرْجِعَنَّ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَأَضَعَنَّ يَدِيَ فِي يَدِهِ فَسَكَنَتِ
الرِّيحُ [3] فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ إِلَى مَكَّةَ فَأَسْلَمَ
وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ [4] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فِي الْقَوْلِ
مُضْمِرٌ للكفر.
وقال الكلبي [فمنهم] [5] مُقْتَصِدٌ فِي الْقَوْلِ أَيْ مِنَ
الْكُفَّارِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ أَشَدَّ قَوْلًا
وَأَغْلَى فِي الِافْتِرَاءِ مِنْ بَعْضٍ، وَما يَجْحَدُ
بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ، وَالْخَتْرُ
أَسْوَأُ الغدر.
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً
لَا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ
عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا
تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما
تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ (34)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً
لَا يَجْزِي، لَا يَقْضِي وَلَا يُغْنِي، والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ
وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «الظل» .
(3) في المخطوط «الرياح» .
(4) أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 447 من طريق حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مَلِيكَةَ قَالَ: لما
كان يوم الفتح هرب عكرمة بن أبي جهل فركب البحر.... فذكره.
- وليس فيه قوله «فسكنت الريح» وهذا مرسل.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 446 من طريق أسباط بن نصر
قال: زعم السدي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أبيه قال:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أمّن رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الناس إلّا أربعة نفر، وقال:
اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة، عكرمة بن أبي
جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد اللَّهِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي اليسر فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح
عاصف فقال أهل السفينة: اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا
هاهنا فقال عكرمة:....
- وليس فيه قوله «فسكنت الريح» ، والحديث معروف في كتب السير
دون قوله «نزلت في عكرمة» فهذا ضعيف.
(5) زيادة عن المخطوط.
(3/592)
|