تفسير البغوي
طيبة الم (1) اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ -مَدَنِيَّةٌ بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
(2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {الم اللَّهُ} قَالَ الْكَلْبِيُّ
وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَاتُ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا
قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ
أَشْرَافِهِمْ، وَفِي الْأَرْبَعَةِ عَشَرَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ
يَؤُولُ إِلَيْهِمْ أَمْرُهُمُ: الْعَاقِبُ: أَمِيرُ الْقَوْمِ
وَصَاحِبُ مَشُورَتِهِمُ، الَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ
رَأْيِهِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَالسَّيِّدُ:
ثِمَالُهُمْ وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ
وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ أُسْقُفُّهُمْ
وَحَبْرُهُمْ.
دَخَلُوا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ
الْحِبَرَاتِ جُبَبٌ وَأَرْدِيَةٌ فِي [جِمَالِ] (1) رِجَالِ
بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، يَقُولُ مَنْ رَآهُمْ: مَا رَأَيْنَا
وَفْدًا مِثْلَهُمْ، وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَقَامُوا
لِلصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُمْ" فَصَلَّوْا إِلَى
الْمَشْرِقِ، [فَسَلَّمَ] (2) السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ فَقَالَ
لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"أَسْلِمَا" قَالَا أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ قَالَ "كَذَبْتُمَا
يَمْنَعُكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ ادِّعَاؤُكُمَا لِلَّهِ
وَلَدًا وَعِبَادَتُكُمَا الصَّلِيبَ وَأَكْلُكُمَا
الْخِنْزِيرَ" قَالَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عِيسَى وَلَدًا لِلَّهِ
فَمَنْ يَكُنْ أَبُوهُ؟ وَخَاصَمُوهُ جَمِيعًا فِي عِيسَى،
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
"أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا
وَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ"؟ قَالُوا بَلَى قَالَ: "أَلَسْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
يَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ" قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَهَلْ
يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟ " قَالُوا: لَا قَالَ:
"أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ
شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؟ " قَالُوا: بَلَى،
قَالَ: "فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى عَنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا
مَا عُلِّمَ؟ " قَالُوا: لَا قَالَ: "فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ
عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ [وَرَبُّنَا لَيْسَ بِذِي
صُورَةٍ وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ] (3) وَرَبُّنَا لَا يَأْكُلُ
وَلَا يَشْرَبُ" قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "أَلَسْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كَمَا تَحْمِلُ
الْمَرْأَةُ ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ
وَلَدَهَا، ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يُغَذَّى الصَّبِيُّ ثُمَّ
كَانَ يَطْعَمُ وَيَشْرَبُ وَيُحْدِثُ؟ "، قَالُوا: بَلَى
قَالَ: "فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ؟ "
فَسَكَتُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى صَدْرَ سُورَةِ آلِ
عِمْرَانَ إِلَى بِضْعٍ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنْهَا (4) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب" فكلم.
(3) ساقط من "ب".
(4) أخرجه ابن إسحاق في السيرة: 2 / 45 - 46 من سيرة ابن هشام،
والطبري في التفسير: 6 / 151 - 153 وعزاه السيوطي أيضا لابن
المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير انظر الدر المنثور 2 / 141 -
142.
(2/5)
مِنْ قَبْلُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ
فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {الم اللَّهُ}
مَفْتُوحُ الْمِيمِ، مَوْصُولٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا
فَتْحُ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ حُرِّكَ إِلَى
أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ وَقَرَأَ أَبُو يُوسُفَ وَيَعْقُوبُ بْنُ
خَلِيفَةَ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ {الم اللَّهُ}
مَقْطُوعًا سَكَّنَ الْمِيمَ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ ثُمَّ
قَطَعَ الْهَمْزَةَ لِلِابْتِدَاءِ وَأَجْرَاهُ عَلَى لُغَةِ
مَنْ يَقْطَعُ أَلِفَ الْوَصْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {اللَّهُ} ابْتِدَاءٌ وَمَا بَعْدَهُ
خَبَرٌ، وَالْحَيُّ الْقَيُّومُ نَعْتٌ لَهُ.
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} أَيِ الْقُرْآنَ {بِالْحَقِّ}
بِالصِّدْقِ {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لِمَا
قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ
وَالْأَخْبَارِ وَبَعْضِ الشَّرَائِعِ {وَأَنْزَلَ
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ} وَإِنَّمَا قَالَ:
وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ أُنْزِلَا جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَقَالَ فِي
الْقُرْآنِ "نَزَّلَ" لِأَنَّهُ نَزَلَ مُفَصَّلًا
وَالتَّنْزِيلُ لِلتَّكْثِيرِ، وَالتَّوْرَاةُ قَالَ
الْبَصْرِيُّونَ: أَصْلُهَا وَوْرَيَةٌ عَلَى وَزْنِ
فَوْعَلَةٍ مِثْلَ: دَوْحَلَةٍ وَحَوْقَلَةٍ، فَحُوِّلَتِ
الْوَاوُ الْأُولَى تَاءً وَجُعِلَتِ الْيَاءُ الْمَفْتُوحَةُ
أَلِفًا فَصَارَتْ تَوْرَاةً، ثُمَّ كُتِبَتْ بِالْيَاءِ عَلَى
أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهَا
تَفْعِلَةٌ مِثْلَ تَوْصِيَةٍ وَتَوْفِيَةٍ فَقُلِبَتِ
الْيَاءُ أَلِفًا على لغة طيء فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ
لِلْجَارِيَةِ جَارَاةً، وَلِلتَّوْصِيَةِ تَوْصَاةً،
وَأَصْلُهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: وَرَى الزَّنْدُ إِذَا خَرَجَتْ
نَارُهُ، وَأَوْرَيْتُهُ أَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ " (الْوَاقِعَةِ
-71) فَسُمِّيَ التَّوْرَاةَ لِأَنَّهَا نُورٌ وَضِيَاءٌ،
قَالَ اللَّهُ تعالى: " وضياء وذكرى لِلْمُتَّقِينَ "
(الْأَنْبِيَاءِ -48) وَقِيلَ هِيَ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهِيَ
كِتْمَانُ [السِّرِّ] (1) وَالتَّعْرِيضُ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ
أَكْثَرُ التَّوْرَاةِ مَعَارِيضَ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ.
وَالْإِنْجِيلُ: إِفْعِيلٌ مِنَ النَّجْلِ وَهُوَ الْخُرُوجُ
وَمِنْهُ سُمِّيَ الْوَلَدُ نَجْلًا لِخُرُوجِهِ، فَسُمِّيَ
الْإِنْجِيلُ بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ بِهِ
دَارِسًا مِنَ الْحَقِّ عَافِيًا، وَيُقَالُ: هُوَ مِنَ
النَّجَلِ وَهُوَ سَعَةُ الْعَيْنِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ
أُنْزِلَ سَعَةً لَهُمْ وَنُورًا، وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ
بِالْعِبْرَانِيَّةِ تور، وتور مَعْنَاهُ الشَّرِيعَةُ،
وَالْإِنْجِيلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أنقليون وَمَعْنَاهُ
الْإِكْلِيلُ.
{مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
(5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ
يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُدًى لِلنَّاسِ} هَادِيًا لِمَنْ
تَبِعَهُ وَلَمْ يُثَنِّهِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ {وَأَنْزَلَ
الْفُرْقَانَ} الْمُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ،
وَقَالَ السُّدِّيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ
تَقْدِيرُهَا وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَالْفُرْقَانَ هُدًى لِلنَّاسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}
ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى،
__________
(1) في "ب" اليقين".
(2/6)
أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ، حَسَنًا أَوْ
قَبِيحًا، تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وَهَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى وَفْدِ
نَجْرَانَ مِنَ النَّصَارَى، حَيْثُ قَالُوا: عِيسَى وَلَدُ
اللَّهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلَّهِ وَلَدٌ
وَقَدْ صَوَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّحِمِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
الْبَغَوِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنَا أَبُو
خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مَسْعُودٍ يَقُولُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ "إِنَّ
خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مثل ذلك، 53/أثُمَّ
يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ
إِلَيْهِ الْمَلَكَ" أَوْ قَالَ: "يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ
بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَعَمَلَهُ
وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ" قَالَ: "وَإِنَّ
أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا
يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ غَيْرُ ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ
عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ
فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ غَيْرُ
ذِرَاعٍ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ
أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا" (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ
الْجُرْجَانِيُّ، أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْفَارِسِيُّ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عِيسَى
الْجُلُودِيُّ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ
أُسَيْدٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ
بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ
خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَيَقُولُ: يَا رَبِّ
أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبُ ذَلِكَ فَيَقُولُ: يَا
رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ
عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ فَلَا
يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق - باب: ذكر الملائكة: 6 / 303
وفي الأنبياء وفي القدر ومسلم في القدر - باب: كيفية الخلق
الآدمي في بطنه أمه. . . برقم (2643) 4 / 2036 - 2037 والمصنف
في شرح السنة: 1 / 128 - 129.
(2) أخرجه مسلم في القدر - باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن
أمه. . . برقم (2644) 4 / 37.
(2/7)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} مُبَيِّنَاتٌ مُفَصَّلَاتٌ،
سُمِّيَتْ مُحْكَمَاتٍ مِنَ الْإِحْكَامِ، كَأَنَّهُ
أَحْكَمَهَا فَمَنَعَ الْخَلْقَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا
لِظُهُورِهَا وَوُضُوحِ مَعْنَاهَا {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}
أَيْ أَصْلُهُ الَّذِي يُعْمَلُ عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَامِ
وَإِنَّمَا قَالَ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} وَلَمْ يَقُلْ
أُمَّهَاتِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي
تَكَامُلِهَا وَاجْتِمَاعِهَا كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ،
وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كُلُّ آيَةٍ
مِنْهُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ: " وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً " (50 -الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً {وَأُخَرُ} جَمْعُ أُخْرَى وَلَمْ
يَصْرِفْهُ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنِ الْآخَرِ، مِثْلَ: عُمَرَ
وَزُفَرَ {مُتَشَابِهَاتٌ} فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ فَرَّقَ
هَاهُنَا بَيْنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَقَدْ جَعَلَ
كُلَّ الْقُرْآنِ مُحْكَمًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؟ . فَقَالَ:
" الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ " (1-هُودٍ) وَجَعَلَهُ
كُلَّهُ مُتَشَابِهًا [فِي مَوْضِعٍ آخَرَ] (1) فَقَالَ:
"اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا "
(23 -الزُّمَرِ) .
قِيلَ: حَيْثُ جَعَلَ الْكُلَّ مُحْكَمًا، أَرَادَ أَنَّ
الْكُلَّ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ عَبَثٌ وَلَا هَزْلٌ، وَحَيْثُ
جَعَلَ الْكُلَّ مُتَشَابِهًا أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ
بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَفِي الْحُسْنِ وَجَعَلَ
هَاهُنَا بَعْضَهُ مُحْكَمًا وَبَعْضَهُ مُتَشَابِهًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُحْكَمَاتُ هُنَّ الْآيَاتُ
الثَّلَاثُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ
مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ " (151) وَنَظِيرُهَا فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ " (23 -الْإِسْرَاءِ) الْآيَاتِ وَعَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَشَابِهَاتُ حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي
أَوَائِلِ السُّوَرِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمُحْكَمُ مَا فِيهِ مِنَ
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُتَشَابِهٌ
يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ
بَعْضًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا
الْفَاسِقِينَ " (26 -الْبَقَرَةِ) " وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ
عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " (100 -يُونُسَ) .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: الْمُحْكَمُ
النَّاسِخُ الَّذِي يعمل به، والمشتابه الْمَنْسُوخُ الَّذِي
يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: مُحْكَمَاتُ الْقُرْآنِ نَاسِخُهُ وَحَلَالُهُ
وَحَرَامُهُ وَحُدُودُهُ وَفَرَائِضُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ
وَيُعْمَلُ بِهِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ مَنْسُوخُهُ
وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ وَأَمْثَالُهُ وَأَقْسَامُهُ
وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ، وَقِيلَ:
الْمُحْكَمَاتُ مَا أَوْقَفَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى
مَعْنَاهُ وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِعِلْمِهِ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ، نَحْوَ
الْخَبَرِ عَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْ خُرُوجِ
الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَطُلُوعِ
الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقِيَامِ السَّاعَةِ وَفَنَاءِ
الدُّنْيَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ:
الْمُحْكَمُ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ غَيْرَ
وَجْهٍ وَاحِدٍ وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2/8)
وَقِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا يُعْرَفُ
مَعْنَاهُ وَتَكُونُ حُجَجُهَا وَاضِحَةً وَدَلَائِلُهَا
لَائِحَةً لَا تَشْتَبِهُ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي
يُدْرَكُ عِلْمُهُ بِالنَّظَرِ، وَلَا يَعْرِفُ الْعَوَامُّ
تَفْصِيلَ الْحَقِّ فِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ
بَعْضُهُمُ: الْمُحْكَمُ مَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي
الْمَعْنَى وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ
إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ
[بَاذَانَ] (1) الْمُتَشَابِهُ حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي
أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ
مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ
وَنُظَرَاؤُهُمَا، أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ حُيَيٌّ: بَلَغَنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ
عَلَيْكَ {الم} فَنَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنَزَلَتْ عَلَيْكَ؟
قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا فَإِنِّي
أَعْلَمُ مُدَّةَ مُلْكِ أُمَّتِكَ، هِيَ إِحْدَى وَسَبْعُونَ
سَنَةً فَهَلْ أُنْزِلَ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ {المص} "
قَالَ: فَهَذِهِ أَكْثَرُ هِيَ إِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَةُ
سَنَةٍ، قَالَ: فَهَلْ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ {الر} ".
قَالَ: هَذِهِ أَكْثَرُ هِيَ مِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ
سَنَةً وَلَقَدْ خَلَطْتَ عَلَيْنَا فَلَا نَدْرِي
أَبِكَثِيرِهِ نَأْخُذُ أَمْ بِقَلِيلِهِ وَنَحْنُ مِمَّنْ لَا
يُؤْمِنُ بِهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (2) .
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أَيْ مَيْلٌ عَنِ
الْحَقِّ وَقِيلَ شَكٌّ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ
الرَّبِيعُ: هُمْ وَفْدُ نَجْرَانَ خَاصَمُوا النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ
كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قَالَ: "بَلَى" قَالُوا:
حَسْبُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الْيَهُودُ طَلَبُوا عِلْمَ أَجَلِ
هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاسْتِخْرَاجَهَا بِحِسَابِ الْجُمَّلِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَقَالَ
الْحَسَنُ: هُمُ الْخَوَارِجُ، وَكَانَ قَتَادَةُ إِذَا قَرَأَ
هَذِهِ الْآيَةَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}
قَالَ: إِنْ لَمْ يكونوا الحرورية والسبأية فَلَا أَدْرِي مَنْ
هُمْ، وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الْمُبْتَدِعَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَنَا يَزِيدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ،
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} -إِلَى قَوْلِهِ
{أُولُو الْأَلْبَابِ} قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ
سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ " (3) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه الطبري في التفسير مطولا: 1 / 216 - 218 وقال
السيوطي في الدر المنثور: أخرجه ابن إسحاق والبخاري في تاريخه
وابن جرير بسند ضعيف الدر المنثور 1 / 57 وذكره ابن كثير في
التفسير: 1 / 76 وقال: هذا الحديث مداره على محمد بن السائب
الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به وانظر تعليق الشيخ محمود
محمد شاكر على تفسير الطبري 1 / 218 - 220.
(3) أخرجه البخاري في التفسير - في تفسير سورة آل عمران - باب:
منه آيات محكمات: 8 / 209 ومسلم في العلم - باب: النهي عن
اتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعيه برقم: (2665) 4 / 2053
والمصنف في شرح السنة: 1 / 220 - 221.
(2/9)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ} طَلَبَ الشِّرْكِ قَالَهُ الرَّبِيعُ
وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ابْتِغَاءَ الشُّبُهَاتِ
وَاللَّبْسِ لِيُضِلُّوا بِهَا جُهَّالَهُمْ {وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ} تَفْسِيرِهِ وَعِلْمِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى " سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْرًا " (78 -الْكَهْفِ) وَقِيلَ: ابْتِغَاؤُهُ
عَاقِبَتُهُ، وَهُوَ طَلَبُ أَجَلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ
حِسَابِ الْجُمَّلِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى " ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا " (35 -الْإِسْرَاءِ) أَيْ
عَاقِبَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ:
الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَالرَّاسِخُونَ وَاوُ الْعَطْفِ
يَعْنِي: أَنَّ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ
وَيَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَهُمْ مَعَ
عِلْمِهِمْ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَهَذَا قَوْلُ
مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ
"يَقُولُونَ" حَالًا مَعْنَاهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ، هَذَا كقوله تعالى: 53/ب " مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى " (7 -الْحَشْرِ)
ثُمَّ قَالَ: " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ " (8 -الْحَشْرِ) إِلَى أَنْ
قَالَ: " وَالَّذِينَ تبوؤا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ
قَبْلِهِمْ " (9 -الْحَشْرِ) ثُمَّ قَالَ " وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ " (10 -الْحَشْرِ) وَهَذَا عَطْفٌ
عَلَى مَا سَبَقَ، ثُمَّ قَالَ: " يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنَا " (10 -الْحَشْرِ) يَعْنِي هُمْ مَعَ اسْتِحْقَاقِهِمُ
الْفَيْءَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا، أَيْ قَائِلِينَ
عَلَى الْحَالِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَا مِنَ
الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَا
مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ
"وَالرَّاسِخُونَ" وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ، وَتَمَّ الْكَلَامُ
عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
وَهُوَ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرِوَايَةُ
طَاوُوسَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَاخْتَارَهُ
الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ، وَقَالُوا: لَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا اللَّهُ وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ لِلْقُرْآنِ تَأْوِيلٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ
بِعِلْمِهِ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ
كَمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ طُلُوعِ
الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ
عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْوِهَا،
وَالْخَلْقُ مُتَعَبِّدُونَ فِي الْمُتَشَابِهِ بِالْإِيمَانِ
بِهِ وَفِي الْمُحْكَمِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالْعَمَلِ،
وَمِمَّا يُصَدِّقُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ إِنْ
تَأْوِيلُهُ إِلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ:
وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ آمَنَّا بِهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ
انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ
الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا. وَهَذَا قَوْلٌ أَقْيَسُ فِي الْعَرَبِيَّةِ
وَأَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أَيِ
الدَّاخِلُونَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَتْقَنُوا
عِلْمَهُمْ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْرِفَتِهِمْ شَكٌّ،
وَأَصْلُهُ مِنْ رُسُوخِ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ
ثُبُوتُهُ يُقَالُ: رَسَخَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِ فُلَانٍ
يَرْسُخُ رُسْخَا وَرُسُوخًا وَقِيلَ: الرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ عُلَمَاءُ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَثْلَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
(2/10)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
وَأَصْحَابِهِ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
" لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ " (162
-النِّسَاءِ) يَعْنِي (الْمُدَارِسِينَ) (1) عِلْمَ
التَّوْرَاةِ وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ قَالَ: الْعَالِمُ
الْعَامِلُ بِمَا عَلِمَ الْمُتَّبِعُ لَهُ وَقِيلَ:
الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ مَنْ وُجِدَ فِي عِلْمِهِ أَرْبَعَةُ
أَشْيَاءَ: التَّقْوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ،
وَالتَّوَاضُعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَالزُّهْدُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّنْيَا، وَالْمُجَاهَدَةُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ
وَالسُّدِّيُّ: بِقَوْلِهِمْ آمَنَّا بِهِ سَمَّاهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، فَرُسُوخُهُمْ فِي
الْعِلْمِ قَوْلُهُمْ: آمَنَّا بِهِ، أَيْ بِالْمُتَشَابِهِ
{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ
وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَمَا عَلِمْنَا وَمَا لَمْ
نَعْلَمْ {وَمَا يَذَّكَّرُ} وَمَا يَتَّعِظُ بِمَا فِي
الْقُرْآنِ {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ذَوُو الْعُقُولِ.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ (8) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} أَيْ
وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا أَيْ
لَا تُمِلْهَا عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى كَمَا أَزَغْتَ
قُلُوبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ {بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا} وَفَّقْتَنَا لِدِينِكَ وَالْإِيمَانِ
بِالْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ كِتَابِكَ {وَهَبْ لَنَا
مِنْ لَدُنْكَ} أَعْطِنَا مِنْ عِنْدِكَ {رَحْمَةً} تَوْفِيقًا
وَتَثْبِيتًا لِلَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ
وَالْهُدَى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَجَاوُزًا وَمَغْفِرَةً
{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
التَّمِيمِيُّ، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ
السَّهْمِيُّ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ،
أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ
الْقُرَشِيُّ يُعْرَفُ بِابْنِ الرَّوَّاسِ الْكَبِيرِ
بِدِمَشْقَ، أَنَا أَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ
مُسْهِرٍ الْغَسَّانِيُّ، أَنَا صَدَقَةُ، أَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِدْرِيسَ
الْخَوْلَانِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي النَّوَّاسُ بْنُ
سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ
بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِذَا شَاءَ
أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ
أَزَاغَهُ" وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ "اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ
ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَالْمِيزَانُ بِيَدِ
الرَّحْمَنِ يَرْفَعُ قَوْمًا وَيَضَعُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ،
أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، أَنَا عَبْدُ
الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنَا
سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ غُنَيْمِ بْنِ
قَيْسٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْقَلْبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ
تُقَلِّبُهَا
__________
(1) في "ب" الدارسين.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن النواس: 4 / 182 وابن ماجه
في المقدمة - باب فيما أنكرت الجهمية: 1 / 72 وقال في الزوائد:
إسناد صحيح والمصنف في شرح السنة: 1 / 166.
(2/11)
رَبَّنَا إِنَّكَ
جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ" (1) .
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ
إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في المقدمة برقم (88) 1 / 34 والإمام أحمد
في المسند: 4 / 408 عن أبي موسى الأشعري بإسناد صحيح والمصنف
في شرح السنة: 1 / 164.
(2/12)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ
النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى
جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ
لِيَوْمٍ} أَيْ لِقَضَاءِ يَوْمٍ، وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى
فِي، أَيْ فِي يَوْمٍ {لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ لَا شَكَّ
فِيهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {إِنَّ اللَّهَ لَا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} مِفْعَالٌ مِنَ الْوَعْدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ}
لَنْ تَنْفَعَ وَلَنْ تَدْفَعَ {عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ بِمَعْنَى عِنْدَ،
أَيْ عِنْدَ اللَّهِ {شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ
النَّارِ}
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: كَفِعْلِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَصَنِيعِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ،
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ:
كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَأَمْرِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَشَأْنِهِمْ، وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ:
كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، يُرِيدُ عَادَةَ هَؤُلَاءِ
الْكُفَّارِ فِي تَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَجُحُودِ الْحَقِّ
كَعَادَةِ آلِ فِرْعَوْنَ، {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}
كَفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ؛ مِثْلِ عَادٍ وَثَمُودَ
وَغَيْرِهِمْ {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ}
فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ {بِذُنُوبِهِمْ} وَقِيلَ نَظْمُ
الْآيَةِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} عِنْدَ حُلُولِ
النِّقْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ مِثْلَ آلِ فِرْعَوْنَ وَكُفَّارِ
الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ أَخَذْنَاهُمْ فَلَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ {وَاللَّهُ
شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ فِيهِمَا، أَيْ أَنَّهُمْ
يُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ
فِيهِمَا، عَلَى الْخِطَابِ، أَيْ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّكُمْ
سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ
مُشْرِكِي مَكَّةَ مَعْنَاهُ: قُلْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ:
سَتُغْلَبُونَ يَوْمَ بَدْرٍ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ
فِي الْآخِرَةِ،
(2/12)
قَدْ كَانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ
لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
بَدْرٍ "إِنَّ اللَّهَ غَالِبُكُمْ وَحَاشِرُكُمْ إِلَى
جَهَنَّمَ" (1) .
وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: الْيَهُودُ،
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالُوا لَمَّا هَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: هَذَا
-وَاللَّهِ -النَّبِيُّ الَّذِي بَشَّرَنَا بِهِ مُوسَى لَا
تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، وَأَرَادُوا اتِّبَاعَهُ، ثُمَّ قَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَى
وَقْعَةٍ أُخْرَى، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَنُكِبَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَكُّوا فَغَلَبَ عليهم الشقاء، 54/أفَلَمْ يُسْلِمُوا، وَقَدْ
كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ فَنَقَضُوا ذَلِكَ
الْعَهْدَ وَانْطَلَقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي سِتِّينَ
رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ لِيَسْتَفِزَّهُمْ، فَأَجْمَعُوا
أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ
هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ رِجَالِهِ وَرَوَاهُ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا: أَنَّهُ لَمَّا أَصَابَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا
بِبَدْرٍ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي
سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ
احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ يَوْمَ
بَدْرٍ وَأَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ مِثْلُ مَا
نَزَلَ بِهِمْ فَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ
تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ" فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ
لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا أَغْمَارًا لَا
عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً
وَإِنَّا وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْنَاكَ لَعَرَفْتَ أَنَّا
نَحْنُ النَّاسُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} (2) تُهْزَمُونَ
{وَتُحْشَرُونَ} فِي الْآخِرَةِ {إِلَى جَهَنَّمَ} {وَبِئْسَ
الْمِهَادُ} الْفِرَاشُ، أَيْ بِئْسَ مَا مُهِّدَ لَهُمْ
يَعْنِي النَّارَ.
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ
يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} وَلَمْ يَقُلْ
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ، وَالْآيَةُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ
رَدَّهَا إِلَى الْبَيَانِ أَيْ قَدْ كَانَ لَكُمْ بَيَانٌ،
فَذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا ذُكِّرَ لِأَنَّهُ حَالَتِ
الصِّفَةُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ،
فَذُكِّرَ الْفِعْلُ وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ
فَهَذَا وَجْهُهُ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: قَدْ كَانَ لَكُمْ
آيَةٌ أَيْ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُ
إِنَّكُمْ سَتَغْلِبُونَ. {فِي فِئَتَيْنِ} فِرْقَتَيْنِ
وَأَصْلُهَا فَيْءُ الْحَرْبِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَفِيءُ
إِلَى بَعْضٍ {الْتَقَتَا} يَوْمَ بَدْرٍ {فِئَةٌ تُقَاتِلُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ} طَاعَةِ اللَّهِ وَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانُوا
ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا سَبْعَةٌ
__________
(1) أخرجه ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق: 2 / 120 والطبري
في التفسير: 6 / 227 وفي التاريخ: 2 / 479.
(2) أخرجه ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق: 2 / 120 والطبري
في التفسير: 6 / 227 وفي التاريخ: 2 / 479.
(2/13)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ
وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
الْمَآبِ (14)
وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ،
وَمِائَتَانِ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ،
وَصَاحِبُ رَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَاحِبُ رَايَةِ الْأَنْصَارِ سَعْدُ
بْنُ عُبَادَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا
وَفَرَسَانِ فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو وَفَرَسٌ
لِمَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ وَأَكْثَرُهُمْ رَجَّالَةٌ
وَكَانَ مَعَهُمْ مِنَ السِّلَاحِ سِتَّةُ أَدْرُعٍ
وَثَمَانِيَةُ سُيُوفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} أَيْ فِرْقَةٌ
أُخْرَى كَافِرَةٌ وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَكَانُوا
تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ
رَأْسُهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ،
وَفِيهِمْ مِائَةُ فَرَسٍ وَكَانَتْ حَرْبُ بَدْرٍ أَوَّلُ
مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ} قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ يَعْنِي تَرَوْنَ يَا
مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَهْلَ مَكَّةَ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ
وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا حَضَرُوا
قِتَالَ بَدْرٍ لِيَنْظُرُوا عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ
فَرَأَوُا الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ
وَرَأَوُا النُّصْرَةَ مَعَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ
ذَلِكَ مُعْجِزَةً وَآيَةً، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهِ: فَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الرُّؤْيَةَ
لِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا يَرَى
الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ كَمَا هُمْ،
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: مِثْلَيْهِمْ وَهُمْ كَانُوا
ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ؟ قِيلَ: هَذَا مِثْلُ قَوْلِ
الرَّجُلِ وَعِنْدَهُ دِرْهَمٌ أَنَا أَحْتَاجُ إِلَى مِثْلَيْ
هَذَا الدِّرْهَمِ يَعْنِي إِلَى مِثْلَيْهِ سِوَاهُ فَيَكُونُ
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي -وَهُوَ
الْأَصَحُّ -كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ الْمُشْرِكِينَ
مِثْلَيْ عَدَدِ أَنْفُسِهِمْ، قَلَّلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى
فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى رَأَوْهُمْ سِتَّمِائَةٍ وَسِتَّةً
وَعِشْرِينَ ثُمَّ قَلَّلَهُمُ اللَّهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فِي
حَالَةٍ أُخْرَى حَتَّى رَأَوْهُمْ مِثْلَ عَدَدِ
أَنْفُسِهِمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يُضْعَفُونَ
عَلَيْنَا ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ
يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا. ثُمَّ قَلَّلَهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى رَأَوْهُمْ
عَدَدًا يَسِيرًا أَقَلَّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (1) حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ
إِلَى جَنْبِي: تَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً
قَالَ بَعْضُهُمُ: الرُّؤْيَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ
يَعْنِي يَرَى الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْهِمْ
قَلَّلَهُمُ اللَّهُ قَبْلَ الْقِتَالِ فِي أَعْيُنِ
الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ وَلَا
يَنْصَرِفُوا فَلَمَّا أَخَذُوا فِي الْقِتَالِ كَثَّرَهُمُ
اللَّهُ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ لِيَجْبُنُوا
وَقَلَّلَهُمْ فِي أعين المؤمنين ليجترؤوا فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي
أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ " (44
-الْأَنْفَالِ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَأْيَ الْعَيْنِ} أَيْ فِي رَأْيِ
الْعَيْنِ نُصِبَ بِنَزْعِ حَرْفِ الصَّنْعَةِ {وَاللَّهُ
يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ} الَّذِي
ذَكَرْتُ {لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} لِذَوِي
الْعُقُولِ، وَقِيلَ لِمَنْ أَبْصَرَ الْجَمْعَيْنِ.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ
وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}
جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ مَا تَدْعُو النَّفْسُ إِلَيْهِ {مِنَ
النِّسَاءِ}
__________
(1) ساقط من (أ) .
(2/14)
بَدَأَ بِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ حَبَائِلُ
الشَّيْطَانِ {وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ} جَمْعُ قِنْطَارٍ
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
الْقِنْطَارُ الْمَالُ الْكَثِيرُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ،
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
الْقِنْطَارُ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [وَالضَّحَّاكُ] (1) أَلْفٌ
وَمِائَتَا مِثْقَالٍ. وَعَنْهُمَا رِوَايَةٌ أُخْرَى اثْنَا
عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَلْفُ [دِينَارٍ] (2) دِيَةُ
أَحَدِكُمْ، وَعَنِ الْحَسَنِ الْقِنْطَارُ دِيَةُ أَحَدِكُمْ،
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: هُوَ مِائَةُ
أَلْفٍ وَمِائَةُ مَنٍّ وَمِائَةُ رَطْلٍ وَمِائَةُ مِثْقَالٍ
وَمِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ يَوْمَ جَاءَ
وَبِمَكَّةَ مِائَةُ رَجُلٍ قَدْ قَنْطَرُوا، وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ: ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ:
أَرْبَعَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ، وَقَالَ الْحَكَمُ: الْقِنْطَارُ
مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَقَالَ أَبُو
نَضْرَةَ: مِلْءُ مَسْكِ ثَوْرٍ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً.
وَسُمِّيَ قِنْطَارًا مِنَ الْإِحْكَامِ، يُقَالُ: قَنْطَرْتُ
الشَّيْءَ إِذَا أَحْكَمْتُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ
الْقَنْطَرَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْمُقَنْطَرَةِ} قَالَ الضَّحَّاكُ:
الْمُحَصَّنَةُ الْمُحْكَمَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ
الْكَثِيرَةُ الْمُنَضَّدَةُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَقَالَ
يَمَانٌ: [الْمَدْفُونَةُ] (3) وَقَالَ السُّدِّيُّ
الْمَضْرُوبَةُ الْمَنْقُوشَةُ حَتَّى صَارَتْ دَرَاهِمَ
وَدَنَانِيرَ، وَقَالَ [الْفَرَّاءُ] (4) الْمُضَعَّفَةُ،
فَالْقَنَاطِيرُ ثَلَاثَةٌ وَالْمُقَنْطَرَةُ تِسْعَةٌ {مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} وَقِيلَ سُمِّيَ الذَّهَبُ ذَهَبًا
لِأَنَّهُ يَذْهَبُ وَلَا يَبْقَى، وَالْفِضَّةُ لِأَنَّهَا
تَنْفَضُّ أَيْ تَتَفَرَّقُ {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}
الْخَيْلُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَاحِدُهَا
فَرَسٌ، كَالْقَوْمِ وَالنِّسَاءِ وَنَحْوِهِمَا،
الْمُسَوَّمَةُ قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمُطَهَّمَةُ
الْحِسَانُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَسْوِيمُهَا حُسْنُهَا،
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الرَّاعِيَةُ، يُقَالُ:
أَسَامَ الْخَيْلَ وَسَوَّمَهَا قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو
عُبَيْدَةَ: هِيَ الْمُعَلَّمَةُ مِنَ السِّيمَاءِ
وَالسِّيمَاءُ الْعَلَامَةُ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
سِيمَاهَا الشَّبَهُ وَاللَّوْنُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ
وَقِيلَ: الْكَيُّ.
{وَالْأَنْعَامِ} جَمْعُ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ
وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ
لَفْظِهِ {وَالْحَرْثِ} يَعْنِي الزَّرْعَ {ذَلِكَ} الَّذِي
ذَكَرْنَا {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يُشِيرُ إِلَى
أَنَّهَا مَتَاعٌ يَفْنَى {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
الْمَآبِ} أَيِ الْمَرْجِعِ، فِيهِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا
وَتَرْغِيبٌ فِي الْآخِرَةِ.
__________
(1) ساقط من أ.
(2) في ب درهم.
(3) في ب المدقومة.
(4) في أالسدي.
(2/15)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }
(2/16)
الَّذِينَ يَقُولُونَ
رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ
وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحَارِ (17)
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
(16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} قرأه
العامة 54/ب بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ عَنْ
عَاصِمٍ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْعُدْوَانِ
وَالْعِدْوَانِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
أَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ،
حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ
لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ:
لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي
يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ وَمَا
لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ
تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبُّ وَأَيُّ شَيْءٍ
أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ
رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
{الَّذِينَ يَقُولُونَ} إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ مَحَلَّ
الَّذِينَ خَفْضًا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ {لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا} وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ رَفْعًا عَلَى
الِابْتِدَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا تَقْدِيرُهُ
أَعْنِي الَّذِينَ يَقُولُونَ {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}
صَدَّقْنَا {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} اسْتُرْهَا عَلَيْنَا
وَتَجَاوَزْ عَنَّا {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} إِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهَا
عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنْ شِئْتَ خَفَضْتَهَا عَلَى النَّعْتِ،
يَعْنِي الصَّابِرِينَ فِي أَدَاءِ الْأَمْرِ وَعَنِ
ارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَعَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَحِينَ الْبَأْسِ، وَالصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ، قَالَ
قَتَادَةُ: هُمْ قَوْمٌ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ
قُلُوبُهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ فَصَدَقُوا فِي السِّرِّ
وَالْعَلَانِيَةِ {وَالْقَانِتِينَ} الْمُطِيعِينَ
الْمُصَلِّينَ {وَالْمُنْفِقِينَ} أَمْوَالَهُمْ فِي طَاعَةِ
اللَّهِ {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} قَالَ
مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْمُصَلِّينَ
بِالْأَسْحَارِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ:
هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي الْجَمَاعَةِ،
وَقِيلَ بِالسَّحَرِ لِقُرْبِهِ مِنَ
__________
(1) أخرجه البخاري في التوحيد. باب: كلام الرب مع أهل الجنة: 3
/ 487 ومسلم في الجنة. باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا
يسخط عليهم أبدا برقم (2829) 4 / 2176.
(2/16)
شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو
الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
الصُّبْحِ وَقَالَ الْحَسَنُ: مَدُّوا
الصَّلَاةَ إِلَى السَّحَرِ ثُمَّ اسْتَغْفَرُوا، وَقَالَ
نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحْيِي
اللَّيْلَ ثُمَّ يَقُولُ: يَا نَافِعُ أَسْحَرْنَا؟ فَأَقُولُ
لَا فَيُعَاوِدُ الصَّلَاةَ فَإِذَا قُلْتُ: نَعَمْ قَعَدَ
يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَدْعُو حَتَّى يُصْبِحَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ
الْمَخْلَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، أَنَا قُتَيْبَةُ [بْنُ سَعِيدٍ] (1)
أَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ
فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي
يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي
فَأُعْطِيهِ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرُ
لَهُ" (2) .
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا
بُنَيَّ لَا تَكُنْ أَعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ يُصَوِّتُ
مِنَ الْأَسْحَارِ وَأَنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ} قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَصَارَى
نَجْرَانَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَدِمَ حَبْرَانِ مِنْ
أَحْبَارِ الشَّامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ: أَحَدُهُمَا
لِصَاحِبِهِ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ بِصِفَةِ
مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ؟ فَلَمَّا دَخَلَا
عَلَيْهِ عَرَفَاهُ بِالصِّفَةِ، فَقَالَا لَهُ: أَنْتَ
مُحَمَّدٌ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَا لَهُ: وَأَنْتَ أَحْمَدُ؟
قَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ" قَالَا لَهُ: فَإِنَّا
نَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهِ آمَنَّا
بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، فَقَالَ اسْأَلَا فَقَالَا أَخْبِرْنَا
عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَسْلَمَ
الرَّجُلَانِ (3) .
قَوْلُهُ {شَهِدَ اللَّهُ} أَيْ بَيَّنَ اللَّهُ لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ تُبَيِّنُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حَكَمَ اللَّهُ
[وَقِيلَ: عَلِمَ اللَّهُ] (4) وَقِيلَ: أَعْلَمَ اللَّهُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في التهجد. باب: الدعاء والصلاة من آخر
الليل: 3 / 29 ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في الدعاء
والذكر في آخر الليل والإجابة فيه برقم (758) 1 / 521 والمصنف
في شرح السنة: 4 / 63 - 64.
(3) انظر: البحر المحيط لأبي حيان: 2 / 401 - 402 والحديث من
رواية الكلبي وهو متهم بالكذب. وانظر فيما سيأتي تفسير الآية
(23) وأسباب النزول للواحدي ص (130) .
(4) ساقط من "ب".
(2/17)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ
بِأَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَخَلَقَ الْأَرْزَاقَ قَبْلَ
الْأَرْوَاحِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، فَشَهِدَ بِنَفْسِهِ
لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ كَانَ وَلَمْ
تَكُنْ سَمَاءٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا بَرٌّ وَلَا بَحْرٌ (1)
فَقَالَ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}
وَقَوْلُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ} أَيْ وَشَهِدَتِ
الْمَلَائِكَةُ قِيلَ: مَعْنَى شَهَادَةِ اللَّهِ الْإِخْبَارُ
وَالْإِعْلَامُ، وَمَعْنَى شَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ
وَالْمُؤْمِنِينَ الْإِقْرَارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى {وَأُولُو
الْعِلْمِ} يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عُلَمَاءُ مُؤْمِنِي أَهْلِ
الْكِتَابِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ
السُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي جَمِيعَ عُلَمَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ. {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ بِالْعَدْلِ.
وَنَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ شَهِدَ اللَّهُ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ، نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى
الْقَطْعِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} أَيْ
قَائِمًا بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ
قَائِمٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ، أَيْ مُدَبِّرٌ لَهُ وَمُتَعَهِّدٌ
لِأَسْبَابِهِ، وَقَائِمٌ بِحَقِّ فُلَانٍ أَيْ مُجَازٍ لَهُ
فَاللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُدَبِّرٌ رَازِقٌ مُجَازٍ
بِالْأَعْمَالِ. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ}
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) }
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} يَعْنِي
الدِّينَ الْمَرْضِيَّ الصَّحِيحَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " (3 -الْمَائِدَةِ)
وَقَالَ " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ " (85 -آلِ عِمْرَانَ) وَفَتَحَ الْكِسَائِيُّ
الْأَلِفَ مِنْ أَنَّ الدِّينَ رَدًّا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى
تَقْدِيرُهُ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَشَهِدَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، أَوْ
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ
بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَكَسَرَ الْبَاقُونَ
الْأَلِفَ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْإِسْلَامُ هُوَ الدُّخُولُ
فِي السِّلْمِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، يُقَالُ:
أَسْلَمَ أَيْ دَخَلَ فِي السِّلْمِ وَاسْتَسْلَمَ، قَالَ
قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللَّهِ الْإِسْلَامُ} قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَالْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ
لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ
أَوْلِيَاءَهُ [وَلَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَجْزِي إِلَّا
بِهِ] (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو عَمْرٍو الْفُرَاتِيُّ،
أَنَا أَبُو مُوسَى عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، أَنَا الْحَسَنُ
بْنُ سُفْيَانَ، أَنَا عَمَّارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ
قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تِجَارَةٍ فَنَزَلْتُ قَرِيبًا
مِنَ الْأَعْمَشِ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَلَمَّا
كَانَتْ ذَاتُ لَيْلَةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَدِرَ إِلَى
__________
(1) للعلماء في هذه المسألة قولان: فمنهم من قال بأن الله خلق
الأرواح أولا، ومنهم من قال بأن الله تعالى خلق الأجساد أولا
ولكل من الفريقين أدلة استدل بها على قوله. انظر: الروح لابن
القيم ص (156 - 175) .
(2) ساقط من "أ".
(2/18)
الْبَصْرَةِ، فَإِذَا الْأَعْمَشُ قَائِمٌ
مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثُمَّ قَالَ
الْأَعْمَشُ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ
وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي عِنْدَ
اللَّهِ وَدِيعَةٌ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ} قَالَهَا مِرَارًا قُلْتُ لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا
شَيْئًا، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ وَوَدَّعْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ:
إِنِّي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ آيَةً تُرَدِّدُهَا فَمَا بَلَغَكَ
فِيهَا؟ [قَالَ لِي: أَوَمَا بَلَغَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ:
أَنَا عِنْدَكَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُحَدِّثْنِي] (1)
قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكَ بِهَا إِلَى سَنَةٍ،
فَكَتَبْتُ عَلَى بَابِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَأَقَمْتُ سَنَةً،
فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ
مَضَتِ السَّنَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لِعَبْدِي هَذَا عِنْدِي عَهْدًا،
وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ، أَدْخِلُوا عَبْدِيَ
الْجَنَّةَ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ َ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى حِينَ تَرَكُوا الْإِسْلَامَ أَيْ وَمَا
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فِي نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، يَعْنِي بَيَانَ نَعْتِهِ فِي
كُتُبِهِمْ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا سَبْعِينَ رَجُلًا
مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إسرائيل فاستودعهم 55/أالتَّوْرَاةَ
وَاسْتَخْلَفَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، فَلَمَّا مَضَى الْقَرْنُ
الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ
بَيْنَهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
أَبْنَاءِ أُولَئِكَ السَّبْعِينَ حَتَّى أَهْرَقُوا
بَيْنَهُمُ الدِّمَاءَ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالِاخْتِلَافُ،
وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ يَعْنِي بَيَانَ
مَا فِي التَّوْرَاةِ {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أَيْ طَلَبًا
لِلْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الْجَبَابِرَةَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ وَمَعْنَاهَا
{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يَعْنِي
الْإِنْجِيلَ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَفَرَّقُوا الْقَوْلَ فِيهِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْعِلْمُ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أَيْ لِلْمُعَادَاةِ
وَالْمُخَالَفَةِ {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
__________
(1) ساقط من المخطوط وأثبتناه من مجمع الزوائد.
(2) قال السيوطي: أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط والبيهقي
في شعب الإيمان وضعفه والخطيب في تاريخه وابن النجار عن غالب
القطان انظر: الدر المنثور للسيوطي 2 / 166 وذكره الهيثمي في
المجمع 6 / 325 - 326 وقال: رواه الطبراني وفيه عمر بن المختار
وهو ضعيف، وذكر ابن الجوزي له عدة روايات وقال: هذا حديث لا
يصح عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفرد به
عمر بن المختار، وعمر يحدث بالأباطيل قال العقيلي: لا يتابع
عمار على حديثه ولا يعرف إلا به. انظر: العلل المتناهية في
الأحاديث الواهية لابن الجوزي: 1 / 102 - 103 ميزان الاعتدال
للذهبي: 3 / 223.
(2/19)
فَإِنْ حَاجُّوكَ
فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ
أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ
النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا
فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} أَيْ خَاصَمُوكَ يَا
مُحَمَّدُ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى قَالُوا لَسْنَا عَلَى مَا سَمَّيْتَنَا بِهِ
يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ
نَسَبٌ، وَالدِّينُ هُوَ الْإِسْلَامُ وَنَحْنُ عَلَيْهِ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ} أَيِ انْقَدْتُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بِقَلْبِي
وَلِسَانِي وَجَمِيعِ جَوَارِحِي، وَإِنَّمَا خُصَّ الْوَجْهُ
لِأَنَّهُ أَكْرَمُ الْجَوَارِحِ مِنَ الْإِنْسَانِ وَفِيهِ
بَهَاؤُهُ، فَإِذَا خَضَعَ وَجْهُهُ لِلشَّيْءِ خَضَعَ لَهُ
جَمِيعُ جَوَارِحِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ
أَخْلَصْتُ عَمَلِي لِلَّهِ {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أَيْ وَمَنِ
اتَّبَعَنِي أَسْلَمَ كَمَا أَسْلَمْتُ، وَأَثْبَتَ نَافِعٌ
وَأَبُو عَمْرٍو الْيَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {اتَّبَعَنِي}
عَلَى الْأَصْلِ وَحَذَفَهَا الْآخَرُونَ عَلَى الْخَطِّ
لِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ يَاءٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْأُمِّيِّينَ} يَعْنِي الْعَرَبَ {أَأَسْلَمْتُمْ}
لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، أَيْ أَسْلِمُوا
كَمَا قَالَ " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " (91
-الْمَائِدَةِ) أَيِ انْتَهُوا، {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ
اهْتَدَوْا} فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ:
أَسْلَمْنَا، فَقَالَ لِلْيَهُودِ: أَتَشْهَدُونَ أَنَّ عِيسَى
كَلِمَةُ اللَّهِ وَعَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالُوا: مَعَاذَ
الله، وقال النصارى: أَتَشْهَدُونَ أَنَّ عِيسَى عَبْدُ
اللَّهِ وَرَسُولُهُ (1) ؟ قَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
يَكُونَ عِيسَى عَبْدًا فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} أَيْ تَبْلِيغُ
الرِّسَالَةِ وَلَيْسَ عَلَيْكَ الْهِدَايَةُ {وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} عَالِمٌ بِمَنْ يُؤْمِنُ وَبِمَنْ لَا
يُؤْمِنُ.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ} يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ،
وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} قَرَأَ حَمْزَةُ: وَيُقَاتِلُونَ
الَّذِينَ يَأْمُرُونَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الْوَحْيُ
يَأْتِي عَلَى [أَنْبِيَاءِ] (2) بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ
يَكُنْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ، فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ
فَيُقْتَلُونَ، فَيَقُومُ رِجَالٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ
وَصَدَّقَهُمْ فَيُذَكِّرُونَ قَوْمَهُمْ فَيُقْتَلُونَ
أَيْضًا فَهُمُ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ
النَّاسِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجُوَيْهِ
الدَّيْنَوَرِيُّ، أَنَا أَبُو نَصْرٍ مَنْصُورُ بْنُ جَعْفَرٍ
النُّهَاوَنْدِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
الْجَارُودِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ،
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ (حِمْيَرَ) (3) ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ
مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ
ذُؤَيْبٍ الْخُزَاعِيِّ
__________
(1) ساقط من (أ) .
(2) ساقط من (أ) .
(3) في "أ" نمير وهو خطأ.
(2/20)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا
لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ عَذَابًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ
رَجُلًا (1) أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ"
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ
النَّاسِ} إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ {وَمَا لَهُمْ
مِنْ نَاصِرِينَ} ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا فِي أَوَّلِ
النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَةٌ وَاثْنَا
عَشَرَ رَجُلًا مَنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرُوا
مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ، فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا فِي آخِرِ النَّهَارِ فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ وَأَنْزَلَ الآية فيهم" (2) {فَبَشِّرْهُمْ}
أَخْبِرْهُمْ {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَجِيعٍ، وَإِنَّمَا
أَدْخَلَ الْفَاءَ عَلَى خَبَرِ إِنَّ وَتَقْدِيرُهُ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ وَيَقْتُلُونَ فَبَشِّرْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا
يُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا فَقَائِمٌ.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) }
__________
(1) عطف "رجلا" على "نبيا" وفي الطبري: " أو رجل أمر بالمنكر
ونهى عن المعروف " عطفا على "رجل".
(2) أخرجه الطبري في التفسير: 6 / 285 - 286 وعزاه السيوطي
لابن أبي حاتم: الدر المنثور: 2 / 168 وقال الحافظ ابن حجر في
الكافي الشاف: رواه البزار والطبراني وابن أبي حاتم والثعلبي
من حديثه وفيه أبو الحسن مولى بني أسد وهو مجهول. انظر: الكافي
الشاف ص 25.
(2/21)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ} بَطَلَتْ {أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِوَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
وَبُطْلَانُ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا يُقْبَلَ وَفِي
الْآخِرَةِ أَلَّا يُجَازَى عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} يَعْنِي الْيَهُودَ {يُدْعَوْنَ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ،
فَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ دُعُوا إِلَى حُكْمِ
الْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ
الْقُرْآنَ حُكْمًا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ
الْقُرْآنُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّهُمْ عَلَى
غَيْرِ الْهُدَى فَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ:
هُوَ التَّوْرَاةُ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت المدارس عَلَى
جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ
بْنُ زَيْدٍ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ؟
فَقَالَ: عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(2/21)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا
رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (25)
"فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ فَهِيَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ" فَأَبَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1)
وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ
أَهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا وَكَانَ فِي كِتَابِهِمُ الرَّجْمُ،
فَكَرِهُوا رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا فِيهِمْ فَرَفَعُوا
أَمْرَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ رُخْصَةٌ فَحَكَمَ
عَلَيْهِمَا بِالرَّجْمِ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ
أَوْفَى وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو: جُرْتَ عَلَيْهِمَا يَا
مُحَمَّدُ لَيْسَ عَلَيْهِمَا الرَّجْمُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بَيْنِي
وَبَيْنَكُمُ التَّوْرَاةُ" قَالُوا: قَدْ أَنْصَفَتْنَا قَالَ
"فَمَنْ أَعْلَمُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ" قَالُوا رَجُلٌ أَعْوَرُ
يَسْكُنُ فَدَكَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُورِيَّا، فَأَرْسَلُوا
إِلَيْهِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ جِبْرِيلُ قَدْ
وَصَفَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "أَنْتَ ابْنُ صُورِيَّا؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
"أَنْتَ أَعْلَمُ الْيَهُودِ"؟ قَالَ: كَذَلِكَ يَزْعُمُونَ
قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، فِيهَا الرَّجْمُ
مَكْتُوبٌ، فَقَالَ لَهُ: "اقْرَأْ" فَلَمَّا أَتَى عَلَى
آيَةِ الرَّجْمِ وَضَعَ كَفَّهُ عَلَيْهَا وَقَرَأَ مَا
بَعْدَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ قَدْ جَاوَزَهَا فَقَامَ فَرَفَعَ كَفَّهُ عَنْهَا
ثُمَّ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى الْيَهُودِ بِأَنَّ الْمُحْصَنَ
وَالْمُحْصَنَةَ إِذَا زَنَيَا وَقَامَتْ عَلَيْهِمَا
الْبَيِّنَةُ رُجِمَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حُبْلَى
تُرُبِّصَ بِهَا حَتَّى تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْيَهُودِيَّيْنِ فَرُجِمَا، فَغَضِبَ الْيَهُودُ لِذَلِكَ
وَانْصَرَفُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} (2) {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ}
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا
رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ (25) }
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ}
وَالْغُرُورُ هُوَ الْإِطْمَاعُ فِيمَا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ
شَيْءٌ {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} وَالِافْتِرَاءُ اختلاق
الكذب.
55/ب قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} أَيْ
فَكَيْفَ حَالُهُمْ أَوْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ إِذَا
جَمَعْنَاهُمْ {لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [وَهُوَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ] (3) {وَوُفِّيَتْ} [وُفِّرَتْ] {كُلُّ نَفْسٍ
مَا كَسَبَتْ} أَيْ جَزَاءَ مَا كَسَبَتْ
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير عن ابن عباس: 6 / 228 - 229 وابن
شهاب في السيرة: 2 / 201 وعزاه السيوطي أيضا: لابن المنذر وابن
أبي حاتم. انظر: الدر المنثور: 2 / 170 أسباب النزول ص (131) .
(2) القصة من رواية الكلبي عن ابن عباس والكلبي هذا هو: أبو
النضر محمد بن السائب الكلبي وهو متهم بالكذب وقد مرض فقال
لأصحابه في مرضه كل ما حدثنكم به عن أبي صالح: كذب انظر: تهذيب
التهذيب: 9 / 157 - 159 الاسرائيليات والموضوعات في التفسير
للشيخ محمد أبو شهبة وقد ثبت رجم اليهودين اللذين زنيا في
الكتب الستة انظر: نصب الراية للزيلعي: 3 / 326 - 327.
(3) ساقط من "ب".
(2/22)
قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ
مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (26)
مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ {وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ} أَيْ لَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا
يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} قَالَ
قَتَادَةُ ذُكِرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ مُلْكَ فَارِسَ
وَالرُّومِ فِي أُمَّتِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا افْتَتَحَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ
وَعَدَ أُمَّتَهُ مُلْكَ فَارِسَ وَالرُّومِ قَالَ
الْمُنَافِقُونَ وَالْيَهُودُ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مِنْ
أَيْنَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلْكُ
فَارِسَ وَالرُّومِ؟ وَهُمْ أَعَزُّ وَأَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ
أَلَمْ يَكْفِ مُحَمَّدًا مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ حَتَّى
طَمِعَ فِي مُلْكِ فَارِسَ وَالرُّومِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ {قُلِ اللَّهُمَّ} (1) قِيلَ: مَعْنَاهُ يَا
اللَّهُ فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ النِّدَاءِ زِيدَ الْمِيمُ فِي
آخِرِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لِلْمِيمِ فِيهِ مَعْنًى،
وَمَعْنَاهَا يَا أَللَّهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ أَيِ:
اقْصِدْنَا، حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِمْ:
هَلُمَّ إِلَيْنَا، كَانَ أَصْلُهُ هَلْ أُمَّ إِلَيْنَا،
ثُمَّ كَثُرَتْ فِي الْكَلَامِ فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ
اسْتِخْفَافًا وَرُبَّمَا خَفَّفُوا أيضا فقالوا: لا هُمَّ،
قَوْلُهُ {مَالِكَ الْمُلْكِ} [يَعْنِي يَا مَالِكَ الْمُلْكِ]
(2) أَيْ مَالِكَ الْعِبَادِ وَمَا مَلَكُوا، وَقِيلَ يا مالك
السموات وَالْأَرْضِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَعْضِ
الْكُتُبِ: "أَنَا اللَّهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَمَالِكُ
الْمُلُوكِ وَقُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهِمْ بِيَدِي
فَإِنِ الْعِبَادُ أَطَاعُونِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِمْ
رَحْمَةً وَإِنْ عَصَوْنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً
فَلَا تَشْتَغِلُوا بِسَبِّ الْمُلُوكِ وَلَكِنْ تُوبُوا
إِلَيَّ أَعْطِفْهُمْ عَلَيْكُمْ " (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} قَالَ
مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي مُلْكَ
النُّبُوَّةِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
تَشَاءُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشَاءُ} أَبِي جَهْلٍ وَصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ وَقِيلَ:
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ: الْعَرَبَ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ: فَارِسَ وَالرُّومَ، وَقَالَ
السُّدِّيُّ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، آتَى اللَّهُ
الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَأَمَرَ الْعِبَادَ
بِطَاعَتِهِمْ {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}
نَزَعَهُ مِنَ الْجَبَّارِينَ وَأَمَرَ الْعِبَادَ
بِخِلَافِهِمْ، وَقِيلَ تُؤْتِي مَنْ تَشَاءُ: آدَمَ
وَوَلَدَهُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ إِبْلِيسَ
وَجُنُودَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ
تَشَاءُ} قَالَ عَطَاءٌ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ: الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارَ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ: فَارِسَ وَالرُّومَ،
وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ حَتَّى دَخَلُوا مَكَّةَ فِي
عَشْرَةِ آلَافٍ ظَاهِرِينَ عَلَيْهَا، وَتُذِلُّ مَنْ
تَشَاءُ: أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ حتى حُزَّت رؤوسهم
وَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (25) ذكره الواحدي في
أسبابه ص (131) عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهم ولم أجد له
إسنادا.
(2) ساقط من (أ) .
(3) رواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي فيه إبراهيم بن راشد
وهو متروك مجمع الزوائد: 5 / 249 وقال الألباني: ضعيف جدا
سلسلة الأحاديث الضعيفة: 1 / 68.
(2/23)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
تَشَاءُ بِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ،
وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ، وَقِيلَ
تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالطَّاعَةِ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِالْمَعْصِيَةِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالنَّصْرِ
وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْقَهْرِ، وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ
تَشَاءُ بِالْغِنَى وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْفَقْرِ،
وَقِيلَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْقَنَاعَةِ وَالرِّضَى
وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ {بِيَدِكَ
الْخَيْرُ} أَيْ بِيَدِكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فَاكْتَفَى
بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا قَالَ تَعَالَى: " سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ " (81 -النَّحْلِ) أَيِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ
فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ}
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ (27) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} أَيْ
تُدْخِلُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ حَتَّى يَكُونَ النَّهَارُ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَاللَّيْلُ تِسْعَ سَاعَاتٍ
{وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} حَتَّى يَكُونَ
اللَّيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَالنَّهَارُ تِسْعَ
سَاعَاتٍ، فَمَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا زَادَ فِي الْآخَرِ
{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "الْمَيِّتَ"
بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي الْأَنْعَامِ وَيُونُسَ
وَالرُّومِ وَفِي الْأَعْرَافِ "لِبَلَدٍ مَيِّتٍ" وَفِي
فَاطِرٍ "إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ" زاد نافع " أو من كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ " (122 -الْأَنْعَامِ) وَ" لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا " (12 -الْحُجُرَاتِ) وَ" الْأَرْضُ
الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا " (33 -يس) فَشَدَّدَهَا،
وَالْآخَرُونَ يُخَفِّفُونَهَا، وَشَدَّدَ يَعْقُوبُ "
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ " "لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا"
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ
وَقَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: يُخْرِجُ الْحَيَوَانَ مِنَ
النُّطْفَةِ وَهِيَ مَيْتَةٌ، وَيُخْرِجُ النُّطْفَةَ مِنَ
الْحَيَوَانِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ أَيِ الْفَرْخَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَيُخْرِجُ
الْبَيْضَةَ مِنَ الطَّيْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ.
يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَيُخْرِجُ الْكَافِرَ
مِنَ الْمُؤْمِنِ، فَالْمُؤْمِنُ حَيُّ الْفُؤَادِ،
وَالْكَافِرُ مَيِّتُ الْفُؤَادِ قَالَ الله تعالى: " أوَ مَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ " (122 -الْأَنْعَامِ) وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ مِنَ
الْحَبِّ الْيَابِسِ، وَيُخْرِجُ الْحَبَّ الْيَابِسَ مِنَ
النَّبَاتِ الْحَيِّ النَّامِي {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ} مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ [وَلَا تَقْتِيرٍ]
(1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْحَنَفِيُّ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ
الْحِيرِيُّ، أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْأَزْهَرِ، أَنَا الْحَارِثُ بْنُ
عُمَيْرٍ، أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ
__________
(1) في ب ولا تعسير.
(2/24)
لَا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ
فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
(28)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ
وَالْآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ (شَهِدَ اللَّهُ -إِلَى
قَوْلِهِ -إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ -وَ
-قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ -إِلَى قَوْلِهِ -بِغَيْرِ
حِسَابٍ) مُعَلَّقَاتٌ، مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ، قُلْنَ: يَا رَبُّ تُهْبِطُنَا إِلَى
أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: بِي حَلَفْتُ لَا يَقْرَؤُكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي
دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ
عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَلَأُسْكِنَنَّهُ فِي حَظِيرَةِ
الْقُدْسِ وَلَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِعَيْنِيَ الْمَكْنُونَةِ
كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً وَلَقَضَيْتُ لَهُ كُلَّ
يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ
وَلَأَعَذْتُهُ مِنْ كُلِّ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ وَنَصَرْتُهُ
مِنْهُمْ" (1) رَوَاهُ الْحَارِثُ عَنْ عَمْرٍو وَهُوَ
ضَعِيفٌ.
{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ
اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
(28) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَقَيْسُ بْنُ زَيْدٍ
{يَظُنُّونَ} (2) بِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لِيَفْتِنُوهُمْ
عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ خَيْثَمَةَ لِأُولَئِكَ
النَّفَرِ: اجْتَنِبُوا هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ لَا
يَفْتِنُونَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ، فَأَبَى أُولَئِكَ النَّفَرُ
إِلَّا مُبَاطَنَتَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي
بَلْتَعَةَ وَغَيْرِهِ وَكَانُوا يُظْهِرُونَ الْمَوَدَّةَ
لِكُفَّارِ مَكَّةَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ
الْيَهُودَ وَالْمُشْرِكِينَ وَيَأْتُونَهُمْ بِالْأَخْبَارِ
وَيَرْجُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الظَّفَرُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ
مِثْلِ [فِعْلِهِمْ] (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أَيْ مُوَالَاةَ
الْكُفَّارِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِمْ
وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ {فَلَيْسَ مِنَ
اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [أَيْ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ فِي
شَيْءٍ] (4) ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا
مِنْهُمْ تُقَاةً} يَعْنِي: إِلَّا أَنْ تَخَافُوا مِنْهُمْ
مَخَافَةً، قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَيَعْقُوبُ "تَقِيَّةً" عَلَى
وَزْنِ بَقِيَّةٍ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بِالْيَاءِ وَلَمْ
يَكْتُبُوهَا بِالْأَلِفِ، مِثْلَ حَصَاةٍ وَنَوَاةٍ، وَهِيَ
مَصْدَرٌ يقال تقيته 56/أتُقَاةً وَتَقَى تَقِيَّةً وَتَقْوًى
فَإِذَا قُلْتَ اتَّقَيْتَ كَانَ الْمَصْدَرُ الِاتِّقَاءَ،
وَإِنَّمَا قَالَ تَتَّقُوا مِنَ الِاتِّقَاءِ ثُمَّ قَالَ:
تُقَاةً وَلَمْ يَقُلِ اتِّقَاءً لِأَنَّ مَعْنَى
اللَّفْظَيْنِ إِذَا كَانَ وَاحِدًا يَجُوزُ إِخْرَاجُ
مَصْدَرِ أَحَدِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: " وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا " (8
-الْمُزَّمِّلِ)
__________
(1) لم نجد الحديث فيما بين أيدينا من كتب السنة وقد عزاه
المصنف للحارث في مسنده وضعفه.
(2) في ب يظنوا. وفي الأسباب النزول للواحدي: "يباطنون نفرا".
(3) في ب قولهم: وانظر: أسباب النزول ص (134) .
(4) ساقط من أ.
(2/25)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا
مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ
وَمُدَاهَنَتِهِمْ وَمُبَاطَنَتِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
الْكُفَّارُ غَالِبِينَ ظَاهِرِينَ، أَوْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ
فِي قَوْمٍ كُفَّارٍ يَخَافُهُمْ فَيُدَارِيهِمْ بِاللِّسَانِ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِلَّ دَمًا حَرَامًا أَوْ مَالًا
حَرَامًا، أَوْ يُظْهِرَ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّقِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ
خَوْفِ الْقَتْلِ وَسَلَامَةِ النِّيَّةِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: " إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمَانِ " (106 -النَّحْلِ) ثُمَّ هَذَا رُخْصَةٌ،
فَلَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ فَلَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَأَنْكَرَ
قَوْمٌ التَّقِيَّةَ [الْيَوْمَ] (1) قَالَ مُعَاذُ بْنُ
جَبَلٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي [بُدُوِّ] (2)
الْإِسْلَامِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الدِّينِ وَقُوَّةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ
الْإِسْلَامَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنْ
يَتَّقُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَقَالَ يَحْيَى الْبَكَّاءُ:
قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي أَيَّامِ الْحَجَّاجِ:
إِنَّ الْحَسَنَ كَانَ يَقُولُ لَكُمُ التَّقِيَّةُ
بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ؟ فَقَالَ
سَعِيدٌ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ تَقِيَّةٌ إِنَّمَا
التَّقِيَّةُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ
نَفْسَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمُ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ عَلَى
مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
وَمُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) }
__________
(1) في أإليهم.
(2) في ب جدة.
(2/26)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا
بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ
بِالْعِبَادِ (30)
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) }
{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} أَيْ قُلُوبِكُمْ
مِنْ مَوَدَّةِ الْكُفَّارِ {أَوْ تُبْدُوهُ} مُوَالَاتُهُمْ
قَوْلًا وَفِعْلًا {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
إِنْ تُسِرُّوا مَا فِي قُلُوبِكُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّكْذِيبِ أَوْ
تُظْهِرُوهُ، بِحَرْبِهِ وَقِتَالِهِ، يَعْلَمْهُ اللَّهُ
وَيَحْفَظْهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ ثُمَّ
قَالَ: {وَيَعْلَمُ} رُفِعَ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ {مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي إِذَا كَانَ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ شيء في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ
تَخْفَى عَلَيْهِ مُوَالَاتُكُمُ الْكُفَّارَ وَمَيْلُكُمْ
إِلَيْهِمْ بِالْقَلْبِ؟ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} نَصَبَ
يَوْمًا بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ أَيْ فِي يَوْمِ، وَقِيلَ:
بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيِ: اذْكُرُوا وَاتَّقُوا يَوْمَ تَجِدُ
كُلُّ نَفْسٍ {مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} لَمْ
يُبْخَسْ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا " (49 -الْكَهْفِ) {وَمَا
عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ خَبَرًا فِي
مَوْضِعِ النَّصْبِ أَيْ تَجِدُ مُحْضَرًا مَا عَمِلَتْ مِنَ
الْخَيْرِ [وَالشَّرِّ فَتُسَرُّ بِمَا عَمِلَتْ مِنَ
الْخَيْرِ] (1) وجعله
__________
(1) ساقط من ب.
(2/26)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
بعضهم خيرا مُسْتَأْنَفًا، دَلِيلُ هَذَا
التَّأْوِيلِ: قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا "وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ وَدَّتْ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا} أَيْ
بَيْنَ النَّفْسِ {وَبَيْنَهُ} يَعْنِي وَبَيْنَ السُّوءِ
{أَمَدًا بَعِيدًا} قَالَ السُّدِّيُّ: مَكَانًا بَعِيدًا،
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ،
وَالْأَمَدُ الْأَجَلُ وَالْغَايَةُ الَّتِي يُنْتَهَى
إِلَيْهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَسُرُّ أَحَدَهُمْ أَنْ لَا
يَلْقَى عَمَلَهُ أَبَدًا، وَقِيلَ يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ
يَعْمَلْهُ {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
(32) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَقَدْ نَصَبُوا أَصْنَامَهُمْ وَعَلَّقُوا عَلَيْهَا بَيْضَ
النَّعَامِ وَجَعَلُوا فِي آذَانِهَا (الشُّنُوفَ) (2) وَهُمْ
يَسْجُدُونَ لَهَا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ
لَقَدْ خَالَفْتُمْ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ" (3) فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ إِنَّمَا
نَعْبُدُهَا حُبًّا لِلَّهِ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وَتَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ
لِيُقَرِّبُوكُمْ إِلَيْهِ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ، فَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ وَحُجَّتُهُ
عَلَيْكُمْ، أَيِ اتَّبِعُوا شَرِيعَتِي وَسُنَّتِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فَحُبُّ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ
اتِّبَاعُهُمْ أَمْرَهُ وَإِيثَارُ طَاعَتِهِ وَابْتِغَاءُ
مَرْضَاتِهِ، وَحُبُّ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ ثَنَاؤُهُ
عَلَيْهِمْ وَثَوَابُهُ لَهُمْ وَعَفْوُهُ عَنْهُمْ فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
وَقِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ إِنَّ مُحَمَّدًا يَجْعَلُ
طَاعَتَهُ كَطَاعَةِ اللَّهِ وَيَأْمُرُنَا أَنْ نُحِبَّهُ
كَمَا أَحَبَّتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَنَزَلَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا} أَعْرَضُوا عَنْ طَاعَتِهِمَا {فَإِنَّ
اللَّهَ لايُحِبّ الْكَافِرِينَ} لَا يَرْضَى فِعْلَهُمْ وَلَا
يَغْفِرُ لَهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ سِنَانٍ، أَنَا فُلَيْحٌ، أَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
إِلَّا مَنْ أَبَى" قَالُوا وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ "مَنْ
أَطَاعَنِي دَخَلَ
__________
(1) أسباب النزول للواحدي: ص (135) .
(2) القرط.
(3) انظر: البحر المحيط: 2 / 431 وفي رواية الضحاك عن ابن عباس
مجاهيل وأسباب النزول ص (135) .
(2/27)
إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ
عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
الْجَنَّةَ وَمِنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى"
(1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُبَادَةَ، أَنَا يَزِيدُ نَا سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ
[وَأَثْنَى عَلَيْهِ] ، (2) أَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ
قَالَ: حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ
نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا: إِنَّ
لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا
فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ
فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ
الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ،
وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ
يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ
يَفْقَهُهَا، فَقَالُوا: أَمَّا الدَّارُ الْجَنَّةُ
وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ
عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ" (3)
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ
وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً
بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا}
الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
قَالَتِ الْيَهُودُ نَحْنُ مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى هَؤُلَاءِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ
دِينِ الْإِسْلَامِ {اصْطَفَى} اخْتَارَ، افْتَعَلَ مِنَ
الصَّفْوَةِ وَهِيَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ {آدَمَ}
أَبُو الْبَشَرِ {وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ
عِمْرَانَ} قِيلَ: أَرَادَ بِآلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعِمْرَانَ أَنْفُسَهُمَا
كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى
وَآلُ هَرُونَ " (248 -الْبَقَرَةِ) يَعْنِي مُوسَى
وَهَارُونَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: آلَ إِبْرَاهِيمَ: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ
وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَأَمَّا آلَ عِمْرَانَ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ
عِمْرَانُ بْنُ يَصْهُرَ بْنِ فَاهَتْ بْنِ لَاوِي بْنِ
يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {وَالِدُ} (4) مُوسَى
وَهَارُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَوَهْبٌ: هُوَ عِمْرَانُ بْنُ
أَشْهَمَ بْنِ أَمُونَ مِنْ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بْنِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام - باب: الاقتداء بسنن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 13 / 249. والمصنف في شرح
السنة: 1 / 192 - 193.
(2) ساقط من ب.
(3) أخرجه البخاري في الاعتصام - باب: الاقتداء بسنن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 13 / 249. والمصنف في شرح
السنة: 1 / 192 - 193.
(4) في ب وآل.
(2/28)
إِذْ قَالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ [وَالِدُ]
مَرْيَمَ وَعِيسَى. وَقِيلَ: عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ
وَإِنَّمَا خَصَّ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ
الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِهِمْ {عَلَى
الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً} اشْتِقَاقُهَا مِنْ ذَرَأَ
بِمَعْنَى خَلَقَ، وَقِيلَ: مِنَ الذَّرِّ لِأَنَّهُ
اسْتِخْرَاجُهُمْ مِنْ صلب آدم 56/ب كَالذَّرِّ، وَيُسَمَّى
الْأَوْلَادُ وَالْآبَاءُ ذُرِّيَّةً، فَالْأَبْنَاءُ
ذُرِّيَّةٌ لِأَنَّهُ ذَرَأَهُمْ، وَالْآبَاءُ ذُرِّيَّةٌ
لِأَنَّهُ ذَرَأَ الْأَبْنَاءَ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: " وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ "
(41 -يس) أَيْ آبَاءَهُمْ
{ذُرِّيَّةً} نُصِبَ عَلَى مَعْنَى وَاصْطَفَى ذُرِّيَّةً
{بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} أَيْ بَعْضُهَا مِنْ وَلَدِ بَعْضٍ،
[وَقِيلَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فِي التَّنَاصُرِ] (1)
وَقِيلَ: بَعْضُهَا عَلَى دِينِ بَعْضٍ {وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ}
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ
مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} وَهِيَ
حَنَّةُ بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ مَرْيَمَ، وَعِمْرَانُ هُوَ
عِمْرَانُ بْنُ مَاثَانَ وَلَيْسَ بِعِمْرَانَ أَبِي مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَهُمَا أَلْفٌ وَثَمَانُونَ
سَنَةً، وَكَانَ بنو ماثان رؤوس بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَأَحْبَارَهُمْ وَمُلُوكَهُمْ وَقِيلَ: عِمْرَانُ بْنُ
أَشْهَمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي
بَطْنِي مُحَرَّرًا} أَيْ جَعَلْتُ الَّذِي فِي بَطْنِي
مُحَرَّرًا نَذْرًا مِنِّي لَكَ {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ
أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَالنَّذْرُ: مَا يُوجِبُهُ
الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ {مُحَرَّرًا} أَيْ عَتِيقًا
خَالِصًا لِلَّهِ مُفْرَغًا لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَلِخِدْمَةِ
الْكَنِيسَةِ لَا أَشْغَلُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا،
وَكُلُّ مَا أُخْلِصَ فَهُوَ مُحَرَّرٌ يُقَالُ: حَرَّرْتُ
الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقْتُهُ وَخَلَّصْتُهُ مِنَ الرِّقِّ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا:
كَانَ الْمُحَرَّرُ إِذَا حُرِّرَ جُعِلَ فِي الْكَنِيسَةِ
يَقُومُ عَلَيْهَا وَيَكْنُسُهَا وَيَخْدِمُهَا وَلَا
يَبْرَحُهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْحُلُمَ، ثُمَّ يُخَيَّرُ إِنْ
أَحَبَّ أَقَامَ وَإِنْ أَحَبَّ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَإِنْ
أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ التَّخْيِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْعُلَمَاءِ إِلَّا وَمِنْ نَسْلِهِ مُحَرَّرًا لِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّرًا إِلَّا الْغِلْمَانُ،
وَلَا تَصْلُحُ لَهُ الْجَارِيَةُ لِمَا يُصِيبُهَا مِنَ
الْحَيْضِ وَالْأَذَى، فَحَرَّرَتْ أَمُّ مَرْيَمَ مَا فِي
بَطْنِهَا، وَكَانَتِ الْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا
وَعِمْرَانَ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ، وَكَانَتْ أَشْيَاعُ
بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ يَحْيَى عِنْدَ زَكَرِيَّا، وَكَانَتْ
حَنَّةُ بِنْتُ قَافُوذَا أُمُّ مَرْيَمَ عِنْدَ عِمْرَانَ،
وَكَانَ قَدْ أُمْسِكَ عَنْ حَنَّةَ الْوَلَدُ حَتَّى
أَسَنَّتْ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ،
فَبَيْنَمَا هِيَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ بَصُرَتْ بِطَائِرٍ
يُطْعِمُ فَرْخًا فَتَحَرَّكَتْ بِذَلِكَ نَفْسُهَا لِلْوَلَدِ
فَدَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهَا وَلَدًا وَقَالَتْ:
اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ رَزَقْتَنِي وَلَدًا أَنْ
أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2/29)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
فَيَكُونُ مِنْ سَدَنَتِهِ وَخَدَمَتِهِ،
فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ فَحَرَّرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَلَمْ
تَعْلَمْ مَا هُوَ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا: وَيْحَكِ مَا
صَنَعْتِ، أَرَأَيْتِ إِنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِكِ أُنْثَى لَا
تَصْلُحُ لِذَلِكَ؟ فَوَقَعَا جَمِيعًا فِي هَمٍّ مِنْ ذَلِكَ
فَهَلَكَ عِمْرَانُ وَحَنَّةُ حَامِلٌ بِمَرْيَمَ
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا
أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي
أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
(36) }
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} أَيْ وَلَدَتْهَا إِذَا هِيَ
جَارِيَةٌ، وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ "وَضَعَتْهَا" رَاجِعَةٌ
إِلَى النَّذِيرِ لَا إِلَى مَا وُلِدَ لِذَلِكَ أُنِّثَ
{قَالَتْ} حَنَّةُ وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُونَ غُلَامًا
{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} اعْتِذَارًا إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} بِجَزْمِ
التَّاءِ إِخْبَارًا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ
وَيَعْقُوبُ وَضَعْتُ بِرَفْعِ التَّاءِ جَعَلُوهَا مِنْ
كَلَامِ أَمِّ مَرْيَمَ {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} فِي
خِدْمَةِ الْكَنِيسَةِ وَالْعِبَادِ الَّذِينَ فِيهَا
لِعَوْرَتِهَا وَضَعْفِهَا وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} وَمَرْيَمُ
بِلُغَتِهِمُ الْعَابِدَةُ وَالْخَادِمَةُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ
أَجْمَلَ النِّسَاءِ فِي وَقْتِهَا وَأَفْضَلَهُنَّ {وَإِنِّي
أُعِيذُهَا} أَمْنَعُهَا وَأُجِيرُهَا {بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا}
أَوْلَادَهَا {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فَالشَّيْطَانُ
الطَّرِيدُ اللَّعِينُ، وَالرَّجِيمُ الْمَرْمِيُّ
بِالشُّهُبِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا أَبُو
الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ بَنِي آدَمَ
مَوْلُودٌ إِلَّا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ،
فَيَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ صَارِخًا مِنَ الشَّيْطَانِ غَيْرَ
مَرْيَمَ وَابْنِهَا" ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: "وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا أَبُو
الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ
الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي
جَنْبِهِ بِأُصْبُعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى بن
مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ" (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير تفسير سورة آل عمران - باب: وإني
أعيذها. . . 8 / 212. وأخرجه مسلم في الفضائل. باب فضائل عيسى
برقم (2366) د / 1838. والمصنف في شرح السنة: 14 / 406.
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة 2 / 523.
والطبري في التفسير: 6 / 342. وذكره ابن كثير في البداية
والنهاية عن الإمام أحمد 2 / 57 وقال: وهذا على شرط الصحيحين
ولم يخرجوه من هذا الوجه. وانظر تعليق الشيخ محمود شاكر على
تفسير الطبري 6 / 342.
(2/30)
فَتَقَبَّلَهَا
رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
قَوْلُهُ {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أَيْ
تَقَبَّلَ اللَّهُ مَرْيَمَ مِنْ حَنَّةَ مَكَانَ
الْمُحَرَّرِ، وَتَقَبَّلَ بِمَعْنَى قَبِلَ وَرَضِيَ،
وَالْقَبُولُ مَصْدَرُ قَبِلَ يَقْبَلُ قَبُولًا مِثْلَ
الْوَلُوعِ وَالْوَزُوعَ وَلَمْ يَأْتِ غَيْرُ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ التَّكَفُّلُ فِي
التَّرْبِيَةِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهَا {وَأَنْبَتَهَا
نَبَاتًا حَسَنًا} مَعْنَاهُ: وَأَنْبَتَهَا فَنَبَتَتْ
نَبَاتًا حَسَنًا وَقِيلَ هَذَا مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ
[اللَّفْظِ] (1) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [وَمَثَلُهُ شَائِعٌ كَقَوْلِكَ تَكَلَّمْتُ
كَلَامًا وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
بِقَبُولٍ حَسَنٍ} ] (2) أَيْ سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ
السُّعَدَاءِ {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} يَعْنِي سَوَّى
خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَكَانَتْ
تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي
الْعَامِ {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} قَالَ أَهْلُ
الْأَخْبَارِ: أَخَذَتْ حَنَّةُ مَرْيَمَ حِينَ وَلَدَتْهَا
فَلَفَّتْهَا فِي خِرْقَةٍ وَحَمْلَتْهَا إِلَى الْمَسْجِدِ
فَوَضَعَتْهَا عِنْدَ الأحبار، أبناء هرون وَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَلُونَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَا يَلِي الْحَجَبَةُ مِنَ
الْكَعْبَةِ فَقَالَتْ لَهُمْ: دُونَكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَةَ،
فَتَنَافَسَ فِيهَا الْأَحْبَارُ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ
إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ قُرْبَانِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ
زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّكُمْ بِهَا، عِنْدِي خَالَتُهَا،
فَقَالَتْ لَهُ الْأَحْبَارُ: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا
لَوْ تُرِكَتْ لِأَحَقِّ النَّاسِ لَهَا لَتُرِكَتْ لِأُمِّهَا
الَّتِي وَلَدَتْهَا لَكِنَّا نَقْتَرِعُ عَلَيْهَا فَتَكُونُ
عِنْدَ مَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ، فَانْطَلَقُوا وَكَانُوا
[تِسْعَةً وَعِشْرِينَ] (3) رَجُلًا إِلَى نَهْرٍ جَارٍ، قَالَ
السُّدِّيُّ: هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ فَأَلْقَوْا
أَقْلَامَهُمْ فِي الْمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ قَلَمُهُ
فِي الْمَاءِ فَصَعَدَ فَهُوَ أَوْلَى بِهَا.
وَقِيلَ: كَانَ عَلَى كُلِّ قَلَمٍ اسْمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَكْتُبُونَ التَّوْرَاةَ فَأَلْقَوْا
أَقْلَامَهُمُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ فِي الْمَاءِ
[فَارْتَزَّ] (4) قَلَمُ زَكَرِيَّا فَارْتَفَعَ فَوْقَ
الْمَاءِ وَانْحَدَرَتْ أَقْلَامُهُمْ وَرَسَبَتْ فِي
النَّهْرِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ.
وَقِيلَ: جَرَى قَلَمُ زَكَرِيَّا مُصْعِدًا إِلَى أَعْلَى
الْمَاءِ وَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ بِجَرْيِ الْمَاءِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَجَمَاعَةٌ: بَلْ ثَبَتَ قَلَمُ
زَكَرِيَّا وَقَامَ فَوْقَ الْمَاءِ كَأَنَّهُ فِي طِينٍ،
وَجَرَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ جَرْيَةِ الْمَاءِ
__________
(1) في ب الصدر.
(2) ساقط من أ.
(3) في ب سبعة وعشرين.
(4) في ب فارتز فيه رزا.
(2/31)
فَذَهَبَ بِهَا الْمَاءُ فَسَهَمَهُمْ
وَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا، وَكَانَ زَكَرِيَّا رَأْسَ
الْأَحْبَارِ وَنَبِيَّهُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَعَاصِمٌ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ فَيَكُونُ زَكَرِيَّا فِي
مَحَلِّ النَّصْبِ أَيْ ضَمَنَهَا اللَّهُ زَكَرِيَّا
وَضَمَّهَا إِلَيْهِ بِالْقُرْعَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ زَكَرِيَّا فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ
أَيْ ضَمَّهَا زَكَرِيَّا إِلَى نَفْسِهِ وَقَامَ بِأَمْرِهَا،
وَهُوَ زَكَرِيَّا بْنُ آذَنَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ صَدُوقَ،
مِنْ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ:
زَكَرِيَّا مَقْصُورًا وَالْآخَرُونَ يَمُدُّونَهُ.
فَلَمَّا ضَمَّ زَكَرِيَّا مَرْيَمَ إِلَى نَفْسِهِ بَنَى
لَهَا، بَيْتًا وَاسْتَرْضَعَ لَهَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ ضَمَّهَا إِلَى خَالَتِهَا أَمِّ يحيى حتى 57/أإِذَا
شَبَّتْ وَبَلَغَتْ مَبْلَغَ النِّسَاءِ بَنَى لَهَا
مِحْرَابًا فِي الْمَسْجِدِ، وَجُعِلَ بَابُهُ فِي وَسَطِهَا
لَا يُرْقَى إِلَيْهَا إِلَّا بِالسُّلَّمِ مِثْلَ بَابِ
الْكَعْبَةِ لَا يَصْعَدُ إِلَيْهَا غَيْرُهُ، وَكَانَ
يَأْتِيهَا بِطَعَامِهَا وَشَرَابِهَا وَدُهْنِهَا كُلَّ
يَوْمٍ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ}
وَأَرَادَ بِالْمِحْرَابِ الْغُرْفَةَ، وَالْمِحْرَابُ
أَشْرَفُ الْمَجَالِسِ وَمُقَدَّمُهَا، وَكَذَلِكَ هُوَ مِنَ
الْمَسْجِدِ، وَيُقَالُ لِلْمَسْجِدِ أَيْضًا مِحْرَابٌ قَالَ
الْمُبَرِّدُ: لَا يَكُونُ الْمِحْرَابُ إِلَّا أَنْ يُرْتَقَى
إِلَيْهِ بِدَرَجَةٍ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَ
زَكَرِيَّا إِذَا خَرَجَ يُغْلِقُ عَلَيْهَا سَبْعَةَ
أَبْوَابٍ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا غُرْفَتَهَا {وَجَدَ
عِنْدَهَا رِزْقًا} أَيْ فَاكِهَةً فِي غَيْرِ حِينِهَا،
فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ
فِي الصَّيْفِ {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا؟
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ مِنْ
أَيِّ جِهَةٍ لَكِ هَذَا؟ لِأَنَّ "أَنَّى" لِلسُّؤَالِ عَنِ
الْجِهَةِ وَأَيْنَ لِلسُّؤَالِ عَنِ الْمَكَانِ {قَالَتْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أَيْ مِنْ قِطْفِ الْجَنَّةِ، قَالَ
الْحَسَنُ: حِينَ وُلِدَتْ مَرْيَمُ لَمْ تَلْقُمْ ثَدْيًا
قَطُّ، كَانَ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ
لَهَا زَكَرِيَّا: أَنَّى لَكِ هَذَا؟ قَالَتْ: هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ تَكَلَّمَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ {إِنَّ اللَّهَ
يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَصَابَتْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَزْمَةٌ وَهِيَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهَا
حَتَّى ضَعُفَ زَكَرِيَّا عَنْ حَمْلِهَا فَخَرَجَ عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَقَالَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: تَعْلَمُونَ
وَاللَّهِ لَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَضَعُفْتُ عَنْ حَمْلِ
مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ فَأَيُّكُمْ يَكْفُلُهَا بَعْدِي؟
قَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ جَهِدْنَا وَأَصَابَنَا مِنَ
السَّنَةِ مَا تَرَى، فَتَدَافَعُوهَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَمْ
يَجِدُوا مِنْ حَمْلِهَا بُدًّا، فَتَقَارَعُوا عَلَيْهَا
بِالْأَقْلَامِ فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى رَجُلٍ نَجَّارٍ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ
وَكَانَ ابْنَ عَمِّ مَرْيَمَ فَحَمَلَهَا، فَعَرَفَتْ
مَرْيَمُ فِي وَجْهِهِ شِدَّةَ مُؤْنَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ
فَقَالَتْ لَهُ: يَا يُوسُفُ أَحْسِنْ بِاللَّهِ الظَّنَّ
فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرْزُقُنَا، فَجَعَلَ يُوسُفُ يُرْزَقُ
بِمَكَانِهَا مِنْهُ، فَيَأْتِيهَا كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبِهِ
بِمَا يُصْلِحُهَا فَإِذَا أَدْخَلَهُ عَلَيْهَا فِي
الْكَنِيسَةِ أَنْمَاهُ اللَّهُ، فَيَدْخُلُ عَلَيْهَا
زَكَرِيَّا فَيَرَى عِنْدَهَا فَضْلًا مِنَ الرِّزْقِ، لَيْسَ
بِقَدْرِ مَا يَأْتِيهَا بِهِ يُوسُفُ، فَيَقُولُ: يَا
مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ (1) .
قَالَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زَكَرِيَّا
قَالَ: إِنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مَرْيَمَ
بِالْفَاكِهَةِ فِي غَيْرِ حِينِهَا
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام: 2 / 49 فقد ذكره القصة مختصرة عن ابن
إسحاق دون إسناد وفيها أنه خرج السهم على جريج الراهب.
(2/32)
مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ
يُصْلِحَ زَوْجَتِي وَيَهَبَ لِي وَلَدًا فِي غَيْرِ حِينِهِ
مِنَ الْكِبَرِ فَطَمِعَ فِي الْوَلَدِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ
بَيْتِهِ كَانُوا قَدِ انْقَرَضُوا وَكَانَ زَكَرِيَّا قَدْ
شَاخَ وَأَيِسَ مِنَ الْوَلَدِ.
(2/33)
هُنَالِكَ دَعَا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ
سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ
قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {هُنَالِكَ} أَيْ عِنْدَ ذَلِكَ {دَعَا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فَدَخْلَ الْمِحْرَابَ [وَأَغْلَقَ
الْبَابَ] (1) وَنَاجَى رَبَّهُ {قَالَ رَبِّ} أَيْ يَا رَبِّ
{هَبْ لِي} أَعْطِنِي {مِنْ لَدُنْكَ} أَيْ مِنْ عِنْدِكَ
{ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أَيْ وَلَدًا مُبَارَكًا تَقِيًّا
صَالِحًا رَضِيًّا، وَالذُّرِّيَّةُ تَكُونُ وَاحِدًا
وَجَمْعًا ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَهُوَ هَاهُنَا وَاحِدٌ،
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا " (5 -مَرْيَمَ) وَإِنَّمَا قَالَ: طَيِّبَةً
لِتَأْنِيثِ لَفْظِ الذُّرِّيَّةِ {إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعَاءِ} أَيْ سَامِعُهُ، وَقِيلَ مُجِيبُهُ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: " إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ " (25
-يس) أَيْ فَأَجِيبُونِي
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
فَنَادَاهُ بِالْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، فَمَنْ
قَرَأَ بِالتَّاءِ فَلِتَأْنِيثِ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ
وَلِلْجَمْعِ مَعَ أَنَّ الذُّكُورَ إِذَا تَقَدَّمَ
فِعْلُهُمْ وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَانَ التَّأْنِيثُ فِيهَا
أَحْسَنَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " قَالَتِ الْأَعْرَابُ " (14
-الْحُجُرَاتِ) وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُذَكِّرُ
الْمَلَائِكَةَ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
إِنَّمَا نَرَى عَبْدَ اللَّهِ اخْتَارَ ذَلِكَ خِلَافًا
لِلْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ
اللَّهِ تَعَالَى، وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي
التَّاءِ وَالْيَاءِ فَاجْعَلُوهَا يَاءً وَذَكِّرُوا
الْقُرْآنَ.
وَأَرَادَ بِالْمَلَائِكَةِ هَاهُنَا: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَحْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ
النَّحْلِ " يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ" يَعْنِي جِبْرِيلَ
(بِالرُّوحِ) بِالْوَحْيِ، وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ
يُخْبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِمْ:
سَمِعْتُ هَذَا الْخَبَرَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا سَمِعَ
مِنْ وَاحِدٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ " (173 -آلِ عِمْرَانَ) يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ
مَسْعُودٍ "إِنَّ النَّاسَ" يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ بْنَ
حَرْبٍ، وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ: إِذَا كَانَ
الْقَائِلُ رَئِيسًا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْجَمْعِ
لِاجْتِمَاعِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ وَقَلَّ مَا يُبْعَثُ
إِلَّا وَمَعَهُ جَمْعٌ، فَجَرَى عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرَابِ} أَيْ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ أَنَّ زَكَرِيَّا
كَانَ الْحَبْرَ الْكَبِيرَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْقُرْبَانَ،
فَيَفْتَحُ بَابَ الْمَذْبَحِ فَلَا يَدْخُلُونَ حَتَّى
يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ، فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ
الْمَذْبَحِ يُصَلِّي، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَأْذَنَ
لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ
__________
(1) في ب وغلق الأبواب.
(2/33)
شَابٍّ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ فَفَزِعَ
مِنْهُ فَنَادَاهُ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا
زَكَرِيَّا {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
وَحَمْزَةُ {إِنَّ اللَّهَ} بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى
إِضْمَارِ الْقَوْلِ تَقْدِيرُهُ: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ
فَقَالَتْ {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالْفَتْحِ بِإِيقَاعِ النِّدَاءِ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ:
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ،
قَرَأَ حَمْزَةُ يَبْشُرُكَ وَبَابُهُ بِالتَّخْفِيفِ كُلَّ
الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ: " فَبِمَ تُبَشِّرُونَ " (54
-الْحِجْرِ) فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى تَشْدِيدِهَا
وَوَافَقَهُ الْكِسَائِيُّ هَاهُنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَفِي
سُبْحَانَ وَالْكَهْفِ وعسق وَوَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو
عَمْرٍو فِي "عسق" وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ
قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مِنْ بَشَّرَ يُبَشِّرُ
تَبْشِيرًا، وَهُوَ أَعْرَبُ اللُّغَاتِ وَأَفْصَحُهَا.
دَلِيلُ التَّشْدِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى " فَبَشِّرْ عِبَادِ "
(الزَّمْرِ -17) " وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ " (112
-الصَّافَّاتِ) "قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ" (55
-الْحِجْرِ) وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَمَنْ خَفَّفَ
فَهُوَ مِنْ بَشَرَ يَبْشُرُ وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ،
وَقَرَأَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {بِيَحْيَى}
هُوَ اسْمٌ لَا يُجَرُّ لِمَعْرِفَتِهِ وَلِلزَّائِدِ فِي
أَوَّلِهِ مِثْلَ يَزِيدَ وَيَعَمُرَ، وَجَمْعُهُ يَحْيَوْنَ،
مِثْلَ مُوسَوْنَ وَعِيسَوْنَ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ لِمَ
سُمِّيَ يَحْيَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: لِأَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ عُقْرَ أُمِّهِ،
قَالَ قَتَادَةُ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا قَلْبَهُ
بِالْإِيمَانِ وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُ
بِالطَّاعَةِ حَتَّى لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ
{مُصَدِّقًا} نُصِبَ عَلَى الْحَالِ {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ}
يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ عِيسَى كَلِمَةَ
اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: كُنْ مِنْ
غَيْرِ أَبٍ فَكَانَ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَلِمَةِ
لِأَنَّهُ بِهَا كَانَ، وَقِيلَ: سُمِّيَ كَلِمَةً لِأَنَّهُ
يُهْتَدَى بِهِ كَمَا يُهْتَدَى بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَقِيلَ: هِيَ بِشَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَرْيَمَ بِعِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَلَامِهِ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ أَنَّهُ
يَخْلُقُ نَبِيًّا بِلَا أَبٍ، فَسَمَّاهُ كَلِمَةً
لِحُصُولِهِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ. وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَصَدَّقَهُ، وَكَانَ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْبَرَ
مِنْ عِيسَى بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَا ابْنَيِ الْخَالَةِ،
ثُمَّ قُتِلَ يَحْيَى قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ {بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللَّهِ} أَيْ بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، تَقُولُ
الْعَرَبُ: أَنْشِدْنِي كَلِمَةَ فُلَانٍ أَيْ قَصِيدَتَهُ.
قَوْلُهُ تعالى: {وَسَيِّدًا} فعيل مِنْ سَادَ يَسُودُ وَهُوَ
الرَّئِيسُ الَّذِي يُتْبَعُ وَيُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ،
قَالَ الْمُفَضَّلُ: أَرَادَ سَيِّدًا فِي الدِّينِ. قَالَ
الضحاك: السيد 57/ب الْحَسَنُ الْخُلُقَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ: السَّيِّدُ الَّذِي يُطِيعُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: السَّيِّدُ الْفَقِيهُ
الْعَالِمُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: سَيِّدٌ فِي الْعِلْمِ
وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، وَقِيلَ: الْحَلِيمُ الَّذِي لَا
يُغْضِبُهُ شَيْءٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: السَّيِّدُ التَّقِيُّ، قَالَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الَّذِي لَا يَحْسِدُ وَقِيلَ:
الَّذِي يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي جَمِيعِ خِصَالِ الْخَيْرِ،
وَقِيلَ: هُوَ الْقَانِعُ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ. وَقِيلَ:
السَّخِيُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بُنِيَ سَلَمَةَ"؟ قَالُوا:
جَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ قَالَ: "وَأَيُّ
دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ، لَكِنَّ سَيِّدَكُمْ عَمْرُو
بْنُ الْجَمُوحِ" (1) .
__________
(1) روي هذا الحديث من طرق عن جابر وأبي هريرة وأنس مرفوعا
وروي مرسلا عن حبيب بن أبي ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص (90)
طبعه مكتبة الآداب وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب الأمثال برقم
(89 - 95) ص 56 - 59 وأبو نعيم في الحلية: 7 / 317 والحاكم في
المستدرك: 3 / 219 عن أبي هريرة بلفظ "بل سيدكم البراء بن
معرور" وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الهيثمي: رواه الطبراني
في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني مجمع الزوائد:
3 / 315. وانظر: الإصابة لابن حجر: 4 / 615 - 616 أسد الغابة
لابن الأثير: 4 / 206 - 207 مجمع الزوائد: 9 / 314 - 315 / 126
- 127.
(2/34)
قَالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي
عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ} الْحَصُورُ أَصْلُهُ مِنَ الْحَصْرِ
وَهُوَ الْحَبْسُ. وَالْحَصُورُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَطَاءٍ
وَالْحَسَنِ: الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا
يَقْرَبُهُنَّ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَعُولٌ
بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُرُ نَفْسَهُ عَنِ
الشَّهَوَاتِ [وَقِيلَ: هُوَ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَالَ]
(1) لَهُ فَيَكُونُ الْحَصُورُ بِمَعْنَى الْمَحْصُورِ يَعْنِي
الْمَمْنُوعَ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ: كَانَ لَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ وَقَدْ
تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَغَضَّ لِبَصَرِهِ. وَفِيهِ
قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّ الْحَصُورَ هُوَ الْمُمْتَنِعُ مِنَ
الْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ قَوْمٌ هَذَا
الْقَوْلَ لِوَجْهَيْنِ {أَحَدُهُمَا} : لِأَنَّ الْكَلَامَ
خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّنَاءِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى استحقاق
الثناء، و {الثاني} : أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ إِلْحَاقِ
الْآفَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالَ رَبِّ} أَيْ يَا سَيِّدِي، قَالَ
لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ
وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: قَالَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَنَّى
يَكُونُ} أَيْنَ يَكُونُ {لِي غُلَامٌ} أَيِ ابْنٌ {وَقَدْ
بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ وَقَدْ
بَلَغْتُ الْكِبَرَ وَشِخْتُ كَمَا يُقَالُ بَلَغَنِي
الْجَهْدُ أَيْ أَنَا فِي الْجَهْدِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
وَقَدْ الْكِبَرُ وَأَدْرَكَنِي وَأَضْعَفَنِي. قَالَ
الْكَلْبِيُّ: كَانَ زَكَرِيَّا يَوْمَ بُشِّرَ بِالْوَلَدِ
ابْنَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ
سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
سَنَةً فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}
أَيْ عَقِيمٌ لَا تَلِدُ يُقَالُ: رَجُلٌ عَاقِرٌ وَامْرَأَةٌ
عَاقِرٌ، وَقَدْ عَقُرَ بِضَمِّ الْقَافِ يَعْقِرُ عُقْرًا،
وَعُقَارَةً {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}
فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَالَ زَكَرِيَّا بَعْدَمَا وَعَدَهُ
اللَّهُ تَعَالَى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أَكَانَ
شَاكًّا فِي وَعْدِ اللَّهِ وَفِي قُدْرَتِهِ؟ قِيلَ: إِنَّ
زَكَرِيَّا لَمَّا سَمِعَ نِدَاءَ الْمَلَائِكَةِ جَاءَهُ
الشَّيْطَانُ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّ الصَّوْتَ الَّذِي
سَمِعْتَ لَيْسَ هُوَ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ
الشَّيْطَانِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ اللَّهِ لَأَوْحَاهُ إِلَيْكَ
كَمَا يُوحِي إِلَيْكَ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَقَالَ ذَلِكَ
دَفْعًا لِلْوَسْوَسَةِ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ،
وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِي وَعْدِ
اللَّهِ إِنَّمَا شَكَّ فِي كَيْفِيَّتِهِ أَيْ كَيْفَ ذَلِكَ؟
__________
(1) في "ب": "وقال سعيد بن المسيب: هو العنين الذي لا ماء له.
. . ".
(2/35)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ
آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا
رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا
مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ
عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أَيْ
عَلَامَةً أَعْلَمُ بِهَا وَقْتَ حَمْلِ امْرَأَتِي فَأَزِيدُ
فِي الْعِبَادَةِ شُكْرًا لَكَ {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا
تُكَلِّمَ النَّاسَ} تَكُفَّ عَنِ الْكَلَامِ {ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ} وَتُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِكَ عَلَى عِبَادَتِي، لَا
أَنَّهُ حَبَسَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ نَهْيٌ
عَنِ الْكَلَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ سَوِيٌّ، كَمَا قَالَ فِي
سُورَةِ مَرْيَمَ الْآيَةَ (10) {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} فَأَمَرَهُ
بِالذِّكْرِ وَنَهَاهُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ.
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَقَلَ لِسَانَهُ عَنِ
الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَالَ
قَتَادَةُ: أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ الْكَلَامِ عُقُوبَةً لَهُ
لِسُؤَالِهِ الْآيَةَ بَعْدَ مُشَافَهَةِ الْمَلَائِكَةِ
إِيَّاهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَامِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، وَقَوْلُهُ {إِلَّا رَمْزًا} أَيْ إِشَارَةً،
وَالْإِشَارَةُ قَدْ تَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْعَيْنِ
وَبِالْيَدِ، وَكَانَتْ إِشَارَتُهُ بِالْإِصْبَعِ
الْمُسَبِّحَةِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَدْ يَكُونُ الرَّمْزُ
بِاللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ، وَهُوَ الصَّوْتُ
الْخَفِيُّ أَشْبَهَ الْهَمْسَ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ بِهِ
صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَامُوا
لَمْ يَتَكَلَّمُوا إِلَّا رَمْزًا {وَاذْكُرْ رَبَّكَ
كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} قِيلَ:
الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةُ، وَالْعَشِيُّ مَا
بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمِنْهُ
سُمِّيَ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ،
وَالْإِبْكَارُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى الضُّحَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ} يَعْنِي
جِبْرِيلَ {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ} اخْتَارَكِ
{وَطَهَّرَكِ} قِيلَ مِنْ مَسِيسِ الرِّجَالِ وَقِيلَ مِنَ
الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتْ مَرْيَمُ
لَا تَحِيضُ، وَقِيلَ: مِنَ الذُّنُوبِ {وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قِيلَ: عَلَى عَالَمِي زَمَانِهَا
وَقِيلَ: عَلَى جَمِيعِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي أَنَّهَا
وَلَدَتْ بِلَا أَبٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ
النِّسَاءِ، وَقِيلَ: بِالتَّحْرِيرِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ
تُحَرَّرْ أُنْثَى.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا
النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ أَخْبَرَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " خَيْرُ نِسَائِهَا
مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " (1) وَرَوَاهُ وَكِيعٌ وَأَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَأَشَارَ وَكِيعٌ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء. باب: وإذ قالت الملائكة يا
مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين 6 / 470.
ومسلم في فضائل الصحابة. باب: فضائل خديجة أم المؤمنين برقم
(2430) 4 / 1886. والمصنف في شرح السنة: 14 / 156.
(2/36)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا آدَمُ، أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ وَآسِيَةَ
امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ
كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ الصَّمَدِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ
الدِّيرِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ
عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآسِيَةُ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (2) .
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ (43) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} قَالَتْ
لَهَا الْمَلَائِكَةُ شَفَاهًا أَيْ أَطِيعِي رَبَّكِ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ لِرَبِّكِ
[وَالْقُنُوتُ الطَّاعَةُ] (3) وَقِيلَ: الْقُنُوتُ طُولُ
الْقِيَامِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا قَالَتْ لَهَا
الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ قَامَتْ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى وَرِمَتْ
قَدَمَاهَا وَسَالَتْ دَمًا وَقَيْحًا {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي}
قِيلَ: إِنَّمَا قَدَّمَ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ
لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ وَقِيلَ: بَلْ
كَانَ الرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا
وَلَيْسَ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ بَلْ لِلْجَمْعِ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا، وَإِنْ
كَانَ قَدْ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ {مَعَ الرَّاكِعِينَ}
ولم يقل 58/أمَعَ الرَّاكِعَاتِ لِيَكُونَ أَعَمَّ وَأَشْمَلَ
فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ مَعَ الْمُصَلِّينَ فِي الْجَمَاعَةِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء باب قول الله تعالى (وضرب الله
مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون. . إلى قوله وكانت من القانتين)
: 6 / 446 وفي باب قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم. .)
6 / 472. ومسلم في فضائل الصحابة. باب: فضائل خديجة أم
المؤمنين رضي الله عنها برقم (2430) 4 / 1886. والمصنف في شرح
السنة: 14 / 163.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب: باب: فضل خديجة رضي الله عنها
10 / 389 وقال: هذا حديث صحيح والإمام أحمد في المسند عن أنس:
3 / 135 وفي كتاب فضائل الصحابة 2 / 755. وابن حبان: ص (549)
من موارد الظمآن والحاكم: 3 / 157 وصححه ووافقه الذهبي. وأبو
نعيم في الحلية. 2 / 344 وعزاه الهيتمي للطبراني في الأوسط
وقال: فيه سليمان الشاذكوني وهو ضعيف: انظر مجمع الزوائد: 9 /
223. والمصنف في شرح السنة: 14 / 157 والحديث صحيح.
(3) ساقط من ب.
(2/37)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
(45)
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
(45) }
(2/38)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ
إِلَيْكَ} يَقُولُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ {ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا
وَيَحْيَى وَمَرْيَمَ وَعِيسَى {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}
أَيْ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} رَدَّ
الْكِنَايَةَ إِلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ {وَمَا كُنْتَ}
يَا مُحَمَّدُ {لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}
سِهَامَهُمْ فِي الْمَاءِ لِلِاقْتِرَاعِ {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ} يَحْضُنُهَا وَيُرَبِّيهَا {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فِي كَفَالَتِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ
إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إِنَّمَا قَالَ: اسْمُهُ
رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى عِيسَى وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ
لِمَ سُمِّيَ مَسِيحًا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ فَعِيلٌ
بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَعْنِي أَنَّهُ مُسِحَ مِنَ
الْأَقْذَارِ وَطُهِّرَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ
مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ
أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ، وَقِيلَ مَسَحَهُ جِبْرِيلُ
بِجَنَاحِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ
سَبِيلٌ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ مَسِيحَ الْقَدَمِ لَا
أَخْمَصَ لَهُ، وَسُمِّيَ الدَّجَّالُ مَسِيحًا لِأَنَّهُ
كَانَ مَمْسُوحَ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ
هُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، مِثْلُ عَلِيمٍ وَعَالِمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُمِّيَ
مَسِيحًا لِأَنَّهُ مَا مَسَحَ ذَا عَاهَةٍ إِلَّا بَرِأَ،
وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَسِيحُ فِي
الْأَرْضِ وَلَا يُقِيمُ فِي مَكَانٍ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ
تَكُونُ الْمِيمُ فِيهِ زَائِدَةً. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ: الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ. وَيَكُونُ الْمَسِيحُ
بِمَعْنَى الْكَذَّابِ وَبِهِ سُمِّيَ الدَّجَّالُ وَالْحَرْفُ
مِنَ الْأَضْدَادِ {وَجِيهًا} أَيْ شَرِيفًا رَفِيعًا ذَا
جَاهٍ وَقَدْرٍ {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ} عِنْدَ اللَّهِ
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} صَغِيرًا قَبْلَ أَوَانِ
الْكَلَامِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ قَالَ: "
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ " (الْآيَةَ -30)
وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ: كُنْتُ
إِذَا خَلَوْتُ أَنَا وَعِيسَى حَدَّثَنِي وَحَدَّثْتُهُ
فَإِذَا شَغَلَنِي عَنْهُ إِنْسَانٌ سَبَّحَ فِي بَطْنِي
وَأَنَا أَسْمَعُ (1) قَوْلَهُ {وَكَهْلًا} قَالَ مُقَاتِلٌ:
يَعْنِي إِذَا اجْتَمَعَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إِلَى
السَّمَاءِ وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: {وَكَهْلًا}
بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: أَخْبَرَهَا
أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَكْتَهِلَ، وَكَلَامُهُ بَعْدَ
الْكُهُولَةِ إِخْبَارُهُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُعْجِزَةِ،
وَقِيلَ: {وَكَهْلًا} نَبِيًّا بَشَّرَهَا بِنُبُوَّةِ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَلَامُهُ فِي الْمَهْدِ مُعْجِزَةٌ
وَفِي الْكُهُولَةِ دَعْوَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَكَهْلًا}
أَيْ حَلِيمًا. وَالْعَرَبُ تَمْدَحُ الْكُهُولَةَ لِأَنَّهَا
الْحَالَةُ الْوُسْطَى فِي احْتِنَاكِ (2) السِّنِّ
وَاسْتِحْكَامِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ
وَالتَّجْرِبَةِ {وَمِنَ الصَّالِحِينَ}
__________
(1) لا يتناسب هذا القول مع نص الآية الكريمة ولم يذهب إليه
غير مجاهد وقد أورده المؤلف بصيغة التضعيف.
(2) في ب احتباك.
(2/38)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ
اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ
اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ
الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
أَيْ: هُوَ مِنَ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ.
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا
قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى
بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) }
{قَالَتْ رَبِّ} يَا سَيِّدِي تَقُولُهُ لِجِبْرِيلَ. وَقِيلَ:
تَقُولُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} يُصِبْنِي رَجُلٌ، قَالَتْ ذَلِكَ
تَعَجُّبًا إِذْ لَمْ تَكُنْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُولَدَ
وَلَدٌ لَا أَبَ لَهُ {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا} أَيْ كَوْنَ الشَّيْءِ
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} كَمَا يُرِيدُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} وَقِيلَ:
رَدَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ}
{وَيُعَلِّمُهُ} وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ عَلَى
التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} قَوْلُهُ: {الْكِتَابَ} أَيِ
الْكِتَابَةَ وَالْخَطَّ {وَالْحِكْمَةَ} الْعِلْمَ
وَالْفِقْهَ {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} عَلَّمَهُ
اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
{وَرَسُولًا} أَيْ وَنَجْعَلُهُ رَسُولًا {إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ} قِيلَ: كَانَ رَسُولًا فِي حَالِ الصِّبَا،
وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولًا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ
أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُوسُفَ وَآخِرُهُمْ
عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَلَمَّا بُعِثَ قَالَ:
{أَنِّي} قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّمَا فَتَحَ لِأَنَّهُ
أَوْقَعَ الرِّسَالَةَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِأَنِّي
{قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} عَلَامَةٍ {مِنْ رَبِّكُمْ}
تُصَدِّقُ قَوْلِي وَإِنَّمَا قَالَ: بِآيَةٍ وَقَدْ أَتَى
بِآيَاتٍ لِأَنَّ الْكُلَّ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ
صِدْقُهُ فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا: وَمَا هِيَ
قَالَ: {أَنِّي} قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى
مَعْنَى بِإِنِّي {أَخْلُقُ} أَيْ أُصَوِّرُ وَأُقَدِّرُ
{لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} قَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ هَاهُنَا وَفِي الْمَائِدَةِ،
وَالْهَيْئَةُ الصُّورَةُ الْمُهَيَّأَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
هَيَّأْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ وَأَصْلَحْتُهُ
{فَأَنْفُخُ فِيهِ} أَيْ فِي الطَّيْرِ {فَيَكُونُ طَيْرًا
بِإِذْنِ اللَّهِ} قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ بِالْجَمْعِ
لِأَنَّهُ خَلَقَ طَيْرًا كَثِيرًا، وَقَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ فَيَكُونُ طَائِرًا عَلَى الْوَاحِدِ
هَاهُنَا. وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ذَهَبُوا إِلَى نَوْعٍ
وَاحِدٍ مِنَ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ غَيْرَ
الْخُفَّاشِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْخُفَّاشَ، لِأَنَّهُ أَكْمَلُ
الطَّيْرِ خَلْقًا لِأَنَّ لَهَا ثَدْيًا وَأَسْنَانًا وَهِيَ
تَحِيضُ. قَالَ وَهْبٌ: كَانَ يَطِيرُ مَا دَامَ النَّاسُ
يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنِهِمْ سَقَطَ
مَيِّتًا، لِيَتَمَيَّزَ فِعْلُ الْخَلْقِ مِنْ فِعْلِ
الْخَالِقِ،
(2/39)
وَلِيَعْلَمَ أَنَّ الْكَمَالَ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} أَيْ
أَشْفِيهِمَا وَأُصَحِّحُهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي
الْأَكْمَهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ الَّذِي
وُلِدَ أَعْمَى، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ
الْأَعْمَى. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْأَعْمَشُ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ
بِاللَّيْلِ، {وَالْأَبْرَصُ} الَّذِي بِهِ وَضَحٌ، وَإِنَّمَا
خَصَّ هَذَيْنِ لِأَنَّهُمَا دَاءَانِ عَيَاءَانِ، وَكَانَ
الْغَالِبُ فِي زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الطِّبَّ،
فَأَرَاهُمُ الْمُعْجِزَةَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ. قَالَ وَهْبٌ:
رُبَّمَا اجْتَمَعَ عِنْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ
الْمَرْضَى فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ خَمْسُونَ أَلْفًا مَنْ
أَطَاقَ مِنْهُمْ أَنْ يَبْلُغَهُ بَلَغَهُ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ
مَشَى إِلَيْهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ
يُدَاوِيهِمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى شَرْطِ الْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) قَدْ
أَحْيَا أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ، عَازِرَ وَابْنَ الْعَجُوزِ،
وَابْنَةَ الْعَاشِرِ، وَسَامَ بْنَ نُوحٍ، فَأَمَّا عَازِرُ
فَكَانَ صَدِيقًا لَهُ فَأَرْسَلَتْ أُخْتُهُ إِلَى عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّ أَخَاكَ عَازِرَ يَمُوتُ وَكَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَتَاهُ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: انْطَلِقِي بِنَا إِلَى
قَبْرِهِ، فَانْطَلَقَتْ مَعَهُمْ إِلَى قَبْرِهِ، فَدَعَا
اللَّهَ تَعَالَى فَقَامَ عَازِرُ وَوَدَكُهُ يَقْطُرُ
فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَبَقِيَ وَوُلِدَ لَهُ.
وَأَمَّا ابْنُ الْعَجُوزِ مُرَّ بِهِ مَيِّتًا عَلَى عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى سَرِيرٍ يُحْمَلُ فَدَعَا اللَّهَ
عِيسَى فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَنَزَلَ عَنْ أَعْنَاقِ
الرِّجَالِ، وَلَبِسَ ثِيَابَهُ، وَحَمَلَ السَّرِيرَ عَلَى
عُنُقِهِ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَبَقِيَ وَوُلِدَ لَهُ.
وَأَمَّا ابْنَةُ الْعَاشِرِ كَانَ [أَبُوهَا] (2) رَجُلًا
يَأْخُذُ الْعُشُورَ مَاتَتْ لَهُ بِنْتٌ بِالْأَمْسِ، فَدَعَا
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ [بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ] (3)
فَأَحْيَاهَا [اللَّهُ تَعَالَى] (4) وَبَقِيَتْ [بَعْدَ
ذَلِكَ زَمَنًا] (5) وَوُلِدَ لَهَا. وَأَمَّا سَامُ بْنُ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
جَاءَ إِلَى قَبْرِهِ فَدَعَا بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ
فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَقَدْ شَابَ نِصْفُ رَأْسِهِ خَوْفًا
مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَشِيبُونَ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ فَقَالَ: قَدْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ؟ قَالَ:
لَا وَلَكِنَّ دَعَوْتُكَ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ، ثُمَّ
قَالَ لَهُ: مُتْ قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ يُعِيذَنِي اللَّهُ
مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ فَدَعَا اللَّهَ فَفَعَلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُنَبِّئُكُمْ} وَأُخْبِرُكُمْ {بِمَا
تَأْكُلُونَ} مِمَّا لَمَّ أُعَايِنْهُ {وَمَا تَدَّخِرُونَ}
تَرْفَعُونَهُ {فِي بُيُوتِكُمْ} حَتَّى تَأْكُلُوهُ وَقِيلَ:
كان يخبر 58/ب الرَّجُلَ بِمَا أَكَلَ الْبَارِحَةَ وَبِمَا
يَأْكُلُ الْيَوْمَ وَبِمَا ادَّخَرَهُ لِلْعَشَاءِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
الْكُتَّابِ يُحَدِّثُ الْغِلْمَانَ بِمَا يَصْنَعُ آبَاؤُهُمْ
وَيَقُولُ لِلْغُلَامِ: انْطَلِقْ فَقَدْ أَكَلَ أَهْلُكَ
كَذَا وَكَذَا، وَرَفَعُوا لَكَ كَذَا وَكَذَا، فَيَنْطَلِقُ
الصَّبِيُّ إِلَى أَهْلِهِ وَيَبْكِي عَلَيْهِمْ حَتَّى
يُعْطُوهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَخْبَرَكَ
بِهَذَا؟ . فَيَقُولُ: عِيسَى فَحَبَسُوا صِبْيَانَهُمْ عَنْهُ
وَقَالُوا: لَا تَلْعَبُوا مَعَ هَذَا السَّاحِرِ
فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ فَجَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَطْلُبُهُمْ فَقَالُوا: لَيْسُوا هَاهُنَا، فَقَالَ: فَمَا
فِي هَذَا
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 2 / 467.
(2) ساقط من أ.
(3) ساقط من أ.
(4) ساقط من أ.
(5) ساقط من أ.
(2/40)
وَمُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
(51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ
أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ
أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (52)
الْبَيْتِ؟ قَالُوا خَنَازِيرُ، قَالَ
عِيسَى كَذَلِكَ يَكُونُونَ فَفَتَحُوا عَلَيْهِمْ فَإِذَا
هُمْ خَنَازِيرُ ففشى ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَهَمَّتْ
بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا خَافَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ
حَمَلَتْهُ عَلَى [حَمِيرٍ] (1) لَهَا وَخَرَجَتْ (هَارِبَةً
مِنْهُمْ) (2) إِلَى أَهْلِ مِصْرَ، وَقَالَ قَتَادَةُ:
إِنَّمَا هَذَا فِي الْمَائِدَةِ وَكَانَ خِوَانًا يَنْزِلُ
عَلَيْهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا كَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى،
وَأُمِرُوا أَنْ لَا يخونوا ولا يخبؤا لِغَدٍ فَخَانُوا وخبؤا
فَجَعَلَ عِيسَى يُخْبِرُهُمْ بِمَا أَكَلُوا مِنَ
الْمَائِدَةِ وَبِمَا ادَّخَرُوا مِنْهَا فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ
خَنَازِيرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْتُ
{لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى
اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) }
{وَمُصَدِّقًا} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَرَسُولًا {لِمَا
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} مِنَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ،
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَرَادَ بِالْبَعْضِ الْكُلَّ
يَعْنِي: كُلَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ يُذْكَرُ
الْبَعْضُ وَيُرَادُ بِهِ الْكُلُّ كَقَوْلِ لَبِيدٍ: تَرَّاكُ
أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ تَرْتَبِطْ بَعْضَ
النُّفُوسِ حِمَامُهَا
يَعْنِي: كُلَّ النُّفُوسِ (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
يَعْنِي مَا ذَكَرَ مِنَ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا وَحَّدَهَا
لِأَنَّهَا كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى
رِسَالَتِهِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ} أَيْ وَجَدَ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: عَرَفَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رَأَى {مِنْهُمُ
الْكُفْرَ} وَأَرَادُوا قَتْلَهُ اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ وَ
{قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} قَالَ السُّدِّيُّ:
كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا
بَعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَأَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ نَفَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَخْرَجُوهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَأُمُّهُ يَسِيحَانِ فِي
الْأَرْضِ، فَنَزَلَ فِي قَرْيَةٍ عَلَى رَجُلٍ فَأَضَافَهُمَا
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا،
__________
(1) في "ب": على أتان.
(2) ساقط من "ب".
(3) ولم يرتض هذا ابن سيده فقال: وليس هذا عندي على ما ذهب
إليه أهل اللغة من أن البعض في معنى الكل هذا نقض ولا دليل في
هذا البيت لأنه إنما عنى ببعض النفوس نفسه. انظر: لسان العرب:
7 / 119 شرح المعلقات السبع للأنباري ص (573) .
(2/41)
وَكَانَ لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ جَبَّارٌ
مُتَعَدٍّ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَوْمًا مُهْتَمًّا
حَزِينًا فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَمَرْيَمُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ
فَقَالَتْ لَهَا مَرْيَمُ: مَا شَأْنُ زَوْجِكِ أَرَاهُ
كَئِيبًا، قَالَتْ: لَا تَسْأَلِينِي، قَالَتْ: أَخْبِرِينِي
لَعَلَّ اللَّهَ يُفَرِّجُ كُرْبَتَهُ، قَالَتْ: إِنَّ لَنَا
مَلِكًا يَجْعَلُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمًا أَنْ
يُطْعِمَهُ وَجُنُودَهُ وَيَسْقِيَهُمُ الْخَمْرَ فَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ عَاقَبَهُ، وَالْيَوْمَ نَوْبَتُنَا وَلَيْسَ
لِذَلِكَ عِنْدَنَا سَعَةٌ، قَالَتْ: فَقُولِي لَهُ لَا
يَهْتَمُّ فَإِنِّي آمُرُ ابْنِي فَيَدْعُو لَهُ فَيُكْفَى
ذَلِكَ، فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
ذَلِكَ، فَقَالَ عِيسَى: إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ وَقَعَ شَرٌّ،
قَالَتْ: فَلَا تُبَالِ فَإِنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا
وَأَكْرَمَنَا، قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقُولِي
لَهُ إِذَا اقْتَرَبَ ذَلِكَ فَامْلَأْ قُدُورَكَ وَخَوَابِيكَ
مَاءً ثُمَّ أَعْلِمْنِي فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَدَعَا اللَّهَ
تَعَالَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَحَوَّلَ مَاءُ
الْقُدُورِ مَرَقًا وَلَحْمًا وَمَاءُ الْخَوَابِي خَمْرًا
لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ قَطُّ فَلَمَّا جَاءَ الْمَلِكُ
أَكَلَ فَلَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ قَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا
الْخَمْرُ قَالَ: مَنْ أَرْضِ كَذَا، قَالَ [الْمَلِكُ] (1)
فَإِنَّ خَمْرِي مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مِثْلَ
هَذِهِ قَالَ: هِيَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى، فَلَمَّا خَلَطَ
عَلَى الْمَلِكِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ قَالَ: فَأَنَا
أُخْبِرُكَ عِنْدِي غُلَامٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا
إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَإِنَّهُ دَعَا اللَّهُ فَجَعَلَ
الْمَاءَ خَمْرًا وَكَانَ لِلْمَلِكِ ابْنٌ يُرِيدُ أَنْ
يَسْتَخْلِفَهُ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَكَانَ
أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا دَعَا
اللَّهَ حَتَّى جَعَلَ الْمَاءَ خَمْرًا [لَيُسْتَجَابُ لَهُ]
(2) حَتَّى يُحْيِيَ ابْنِي، فَدَعَا عِيسَى فَكَلَّمَهُ فِي
ذَلِكَ فَقَالَ عِيسَى: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّهُ إِنْ عَاشَ
وَقَعَ شَرٌّ، فَقَالَ الْمَلِكُ: لَا أُبَالِي أَلَيْسَ
أَرَاهُ قَالَ عِيسَى: إِنْ أَحْيَيْتُهُ تَتْرُكُونِي
وَأُمِّي نَذْهَبُ حَيْثُ نَشَاءُ، قَالَ: نَعَمْ فَدَعَا
اللَّهَ فَعَاشَ الْغُلَامُ فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ
مَمْلَكَتِهِ قَدْ عَاشَ تَبَادَرُوا بِالسِّلَاحِ، وَقَالُوا:
أَكَلَنَا هَذَا حَتَّى إِذَا دَنَا مَوْتُهُ يُرِيدُ أَنْ
يَسْتَخْلِفَ عَلَيْنَا ابْنَهُ فَيَأْكُلُنَا كَمَا أَكَلَ
أَبُوهُ فَاقْتَتَلُوا فَذَهَبَ عِيسَى وَأُمُّهُ فَمَرَّ
بِالْحَوَارِيِّينَ وَهُمْ يَصْطَادُونَ السَّمَكَ، فَقَالَ:
مَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: نَصْطَادُ السَّمَكَ قَالَ:
أَفَلَا تَمْشُونَ حَتَّى نَصْطَادَ النَّاسَ، قَالُوا: وَمَنْ
أَنْتَ قَالَ: أَنَا عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ فَآمَنُوا بِهِ
وَانْطَلَقُوا مَعَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} قَالَ
السُّدِّيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مَعَ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ
الْعَرَبُ: الذَّوْدُ إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ أَيْ مَعَ
الذَّوْدِ وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ " (2 -النِّسَاءِ) أَيْ
مَعَ أَمْوَالِكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ:
إِلَى بِمَعْنَى فِي أَيْ مَنْ أَعْوَانِي فِي اللَّهِ أَيْ
فِي ذَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، وَقِيلَ إِلَى فِي مَوْضِعِهِ
مَعْنَاهُ مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ لِي
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَوَارِيِّينَ قَالَ مُجَاهِدٌ
وَالسُّدِّيُّ: كَانُوا صَيَّادِينَ يَصْطَادُونَ السَّمَكَ
سُمُّوا حَوَارِيِّينَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ، وَقِيلَ:
كَانُوا مَلَّاحِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا قَصَّارِينَ
سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَوِّرُونَ الثِّيَابَ
أَيْ يُبَيِّضُونَهَا. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَلَّمَتْ مَرْيَمُ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَعْمَالٍ شَتَّى فَكَانَ
آخِرُ مَا دَفَعَتْهُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ، وَكَانُوا
قَصَّارِينَ وَصَبَّاغِينَ فَدَفَعَتْهُ إِلَى رَئِيسِهِمْ
لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ ثِيَابٌ وَعَرَضَ
لَهُ سَفَرٌ، فَقَالَ لِعِيسَى: إِنَّكَ قَدْ تَعَلَّمْتَ
هَذِهِ الْحِرْفَةَ وَأَنَا خَارِجٌ فِي سَفَرٍ لَا
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب": ليجاء به إلى.
(2/42)
أَرْجِعُ إِلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَهَذِهِ
ثِيَابُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، وَقَدْ
أَعْلَمْتُ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخَيْطٍ عَلَى
اللَّوْنِ الَّذِي يُصْبَغُ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ
فَارِغًا مِنْهَا وَقْتَ قُدُومِي، وَخَرَجَ فَطَبَخَ عِيسَى
جُبًّا وَاحِدًا عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ وَأَدْخَلَ جَمِيعَ
الثِّيَابِ وَقَالَ: كُونِي بِإِذْنِ اللَّهِ عَلَى مَا
أُرِيدَ مِنْكِ، فَقَدِمَ الْحَوَارِيُّ وَالثِّيَابُ كُلُّهَا
فِي الْجُبِّ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: فَرَغْتُ
مِنْهَا، قَالَ: أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: فِي الْجُبِّ، قَالَ:
كُلُّهَا، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: لَقَدْ أَفْسَدْتَ تِلْكَ
الثِّيَابَ فَقَالَ: قُمْ فَانْظُرْ، فَأَخْرَجَ عِيسَى
ثَوْبًا أَحْمَرَ، وَثَوْبًا أَصْفَرَ، وَثَوْبًا أَخْضَرَ،
إِلَى أَنْ أَخْرَجَهَا عَلَى الْأَلْوَانِ الَّتِي
أَرَادَهَا، فَجَعَلَ الْحَوَارِيُّ يَتَعَجَّبُ فَعَلِمَ
أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَعَالَوْا
فَانْظُرُوا فَآمَنَ بِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَهُمُ
الْحَوَارِيُّونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سُمُّوا حَوَارِيِّينَ
لِصَفَاءِ [قُلُوبِهِمْ] (1) وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ:
سُمُّوا بِهِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ
وَنُورِهَا، وَأَصْلُ الْحَوَرِ عِنْدَ الْعَرَبِ شِدَّةُ
الْبَيَاضِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَحْوَرُ وَامْرَأَةٌ حَوْرَاءُ
أَيْ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ
وَعِكْرِمَةُ: الْحَوَارِيُّونَ هُمُ الْأَصْفِيَاءُ وَهُمْ
كَانُوا أَصْفِيَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا
اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا قَالَ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ:
سَأَلْتُ قَتَادَةَ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ قَالَ: هُمُ
الَّذِينَ يَصْلُحُ لَهُمُ الْخِلَافَةُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: الْحَوَارِيُّونَ هُمُ الْوُزَرَاءُ، وَقَالَ
الْحَسَنُ: الْحَوَارِيُّونَ الْأَنْصَارُ، وَالْحَوَارِيُّ
النَّاصِرُ، وَالْحَوَارِيُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خَاصَّةً
الرَّجُلُ الَّذِي يستعين به 59/أفِيمَا يَنُوبُهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ:
سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا يَقُولُ: نَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَانْتَدَبَ
الزُّبَيْرُ ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرَ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ لِكُلِّ
نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ" (2) .
قَالَ سُفْيَانُ الْحَوَارِيُّ النَّاصِرُ، قَالَ مَعْمَرٌ:
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْحَوَارِيِّينَ كُلَّهُمْ مِنْ
قُرَيْشٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ
وَحَمْزَةُ وَجَعْفَرٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ
وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍّ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أَعْوَانُ
دِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ} يَا
عِيسَى {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
__________
(1) في ب: لحومهم.
(2) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة: باب: مناقب الزبير بن
العوام: 7 / 79 - 80 وفي الجهاد والمغازي. ومسلم: في فضائل
الصحابة: باب: من فضائل طلحة والزبير لاضي الله عنهما برقم:
(2415) 4 / 1879. والمصنف في شرح السنة: 14 / 122.
(2/43)
رَبَّنَا آمَنَّا
بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (53)
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
(53) }
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} مِنْ كِتَابِكَ
{وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} عِيسَى {فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ} الَّذِينَ شَهِدُوا لِأَنْبِيَائِكَ
بِالصِّدْقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَعَ النَّبِيِّينَ لِأَنَّ
كُلَّ نَبِيٍّ شَاهِدُ أُمَّتِهِ.
(2/43)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُمَّتِهِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالْبَلَاغِ.
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
(54) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَكَرُوا} يَعْنِي كُفَّارَ بني إسرائيل
الذي أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ وَبَرُّوا فِي قَتْلِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنْ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ بَعْدَ إِخْرَاجِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَأُمَّهُ
عَادَ إِلَيْهِمْ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ، وَصَاحَ فِيهِمْ
بِالدَّعْوَةِ فهموا بقتله وتواطؤوا عَلَى الْفَتْكِ بِهِ
فَذَلِكَ مَكْرُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَكَرَ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فَالْمَكْرُ مِنَ
الْمَخْلُوقِينَ: الْخُبْثُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْحِيلَةُ،
وَالْمَكْرُ مِنَ اللَّهِ: اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ وَأَخْذُهُ
بَغْتَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ كَمَا قَالَ: "
سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ " (182
-الْأَعْرَافِ) وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكْرُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ مُجَازَاتُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ فَسَمَّى الْجَزَاءَ
بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: " اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ " (15 -الْبَقَرَةِ)
" وَهُوَ خَادِعُهُمْ " (142 -النِّسَاءِ) وَمَكْرُ اللَّهِ
تَعَالَى خَاصَّةً بِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ
إِلْقَاؤُهُ الشَّبَهَ عَلَى صَاحِبِهِمُ الَّذِي أَرَادَ
قَتْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ عِيسَى اسْتَقْبَلَ رَهْطًا
مِنَ الْيَهُودِ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: قَدْ جَاءَ
السَّاحِرُ ابْنُ السَّاحِرَةِ، وَالْفَاعِلُ ابْنُ
الْفَاعِلَةِ، وَقَذَفُوهُ وَأَمَّهُ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ
فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ خَنَازِيرَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ
يَهُوذَا رَأْسُ الْيَهُودِ وَأَمِيرُهُمْ فَزِعَ لِذَلِكَ
وَخَافَ دَعْوَتَهُ فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ الْيَهُودِ عَلَى
قَتْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَثَارُوا إِلَيْهِ
لِيَقْتُلُوهُ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ
فَأَدْخَلَهُ فِي خَوْخَةٍ فِي سَقْفِهَا رَوْزَنَةٌ
فَرَفْعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ تِلْكَ
الرَّوْزَنَةِ، فَأَمَرَ يَهُوذَا رَأْسُ الْيَهُودِ رَجُلًا
مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ: طَطْيَانُوسُ أَنْ يَدْخُلَ
الْخَوْخَةَ وَيَقْتُلَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ لَمْ يَرَ عِيسَى،
فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ فَظَنُّوا أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ فِيهَا،
فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شِبْهَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَلَمَّا خَرَجَ ظَنُّوا أَنَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، قَالَ وَهْبٌ: طَرَقُوا
عِيسَى فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، وَنَصَبُوا خَشَبَةً
لِيَصْلُبُوهُ، فَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ
الْمَلَائِكَةَ فَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَجَمَعَ
عِيسَى الْحَوَارِيِّينَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَوْصَاهُمْ
ثُمَّ قَالَ: لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ
يَصِيحَ الدِّيكُ وَيَبِيعُنِي بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ،
فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ،
فَأَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ فَقَالَ
لَهُمْ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى
الْمَسِيحِ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَخَذَهَا
وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ. وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ أَلْقَى
اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى، فَرُفِعَ عِيسَى وَأُخِذَ
الذي دلهم علي فَقَالَ: أَنَا الَّذِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ
فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِهِ وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ،
وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ عِيسَى، فَلَمَّا صُلِبَ شِبْهُ
عِيسَى، جَاءَتْ مَرْيَمُ أُمُّ عِيسَى وَامْرَأَةٌ كَانَ
عِيسَى دَعَا لَهَا فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ
تَبْكِيَانِ عِنْدَ الْمَصْلُوبِ، فَجَاءَهُمَا عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُمَا: عَلَامَ تَبْكِيَانِ؟
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَنِي وَلَمْ يُصِبْنِي
إِلَّا خَيْرٌ، وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ، فَلَّمَا
كَانَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: اهْبِطْ عَلَى مَرْيَمَ
الْمَجْدَلَانِيَّةِ اسْمُ مَوْضِعٍ فِي جَبَلِهَا، فَإِنَّهُ
لَمْ يَبْكِ عَلَيْكَ أَحَدٌ بُكَاءَهَا، وَلَمْ يَحْزَنْ
حُزْنَهَا ثُمَّ لِيَجْتَمِعَ لَكَ الْحَوَارِيُّونَ
فَبُثَّهُمْ فِي
(2/44)
إِذْ قَالَ اللَّهُ
يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
الْأَرْضِ دُعَاةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فَأَهْبَطَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فَاشْتَعَلَ الْجَبَلُ
حِينَ هَبَطَ نُورًا، فَجَمَعَتْ لَهُ الْحَوَارِيِّينَ
فَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ دُعَاةً ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ هِيَ الَّتِي
تَدَخَّنَ فِيهَا النَّصَارَى، فَلَمَّا أَصْبَحَ
الْحَوَارِيُّونَ حَدَّثَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِلُغَةِ
مَنْ أَرْسَلَهُ عِيسَى إِلَيْهِمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ الْيَهُودَ حَبَسُوا عِيسَى فِي
بَيْتٍ وَعَشْرَةً مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فَدَخْلَ عَلَيْهِمْ
رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَهُ، وَقَالَ
قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَيُّكُمْ يُقْذَفُ عَلَيْهِ
شَبَهِي فَإِنَّهُ مَقْتُولٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ:
أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَقُتِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَمَنَعَ
اللَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ
وَكَسَاهُ اللَّهُ الرِّيشَ وَأَلْبَسَهُ النُّورَ وَقَطَعَ
عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَطَارَ مَعَ
الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ مَعَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَكَانَ
إِنْسِيًّا مَلَكِيًّا سَمَائِيًّا أَرْضِيًّا، قَالَ أَهْلُ
التَّوَارِيخِ: حَمَلَتْ مَرْيَمُ بِعِيسَى وَلَهَا ثَلَاثَ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَوَلَدَتْ عِيسَى بِبَيْتِ لَحْمٍ مِنْ
أَرْضِ أُورِي شَلِمَ لِمُضِيِّ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ
غَلَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى أَرْضِ بَابِلَ فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَرَفَعَهُ
اللَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً
فَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ
مَرْيَمُ بَعْدَ رَفْعِهِ سِتَّ سِنِينَ.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(55) }
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} اختلفوا في بعض التَّوَفِّي هَاهُنَا،
قَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنِّي
قَابِضُكَ وَرَافِعُكَ فِي الدُّنْيَا إِلَيَّ مِنْ غَيْرِ
مَوْتٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي " (117 -الْمَائِدَةِ) أَيْ قَبَضْتَنِي إِلَى
السَّمَاءِ وَأَنَا حَيٌّ، لِأَنَّ قَوْمَهُ إِنَّمَا
تَنَصَّرُوا بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَا بَعْدَ
مَوْتِهِ، فَعَلَى هَذَا لِلتَّوَفِّي تَأْوِيلَانِ،
أَحَدُهُمَا: إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَافِيًا لَمْ
يَنَالُوا مِنْكَ شَيْئًا، مِنْ قَوْلِهِمْ تَوَفَّيْتُ كَذَا
وَاسْتَوْفَيْتُهُ إِذَا أَخَذْتُهُ تَامًّا وَالْآخَرُ:
أَنِّي [مُسْتَلِمُكَ] (1) مِنْ قَوْلِهِمْ تَوَفَّيْتُ مِنْهُ
كَذَا أَيْ تَسَلَّمْتُهُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
الْمُرَادُ بِالتَّوَفِّي النَّوْمُ [وَكُلُّ ذِي عَيْنٍ
نَائِمٌ] (2) وَكَانَ عِيسَى قَدْ نَامَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ
نَائِمًا إِلَى السَّمَاءِ، مَعْنَاهُ: أَنِّي مُنَوِّمُكَ
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَهُوَ
الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ " (60 -الْأَنْعَامِ) أَيْ
يُنِيمُكُمْ.
__________
(1) في "أ" مستسلمك.
(2) ساقط من "ب".
(2/45)
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُرَادُ
بِالتَّوَفِّي الْمَوْتُ، رُوِيَ [عَنْ] (1) عَلِيِّ بْنِ
طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
مَعْنَاهُ: أَنِّي مُمِيتُكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: " قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ " (11
-السَّجْدَةِ) فَعَلَى هَذَا لَهُ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا
مَا قَالَهُ وهب: توفى 59/ب اللَّهُ عِيسَى ثَلَاثَ سَاعَاتٍ
مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّ النَّصَارَى يَزْعُمُونَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَفَّاهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ مِنَ
النَّهَارِ ثُمَّ أَحْيَاهُ وَرَفَعَهُ، وَالْآخَرُ مَا
قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا مَعْنَاهُ أَنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ
إِنْزَالِكَ مِنَ السَّمَاءِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ
بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ
مَرْيَمَ حَكَمًا عَادِلًا يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ
الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى
لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ" (2) .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُزُولِ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "وَتَهْلِكُ فِي زَمَانِهِ
الْمِلَلُ كُلُّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَيَهْلَكُ
الدَّجَّالُ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً
ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ" (3) .
وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ هَلْ تَجِدُ نُزُولَ
عِيسَى فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ نَعَمْ: {وَكَهْلًا} وَلَمْ
يَكْتَهِلْ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَكَهْلًا
بَعْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
أَيْ مُخْرِجُكَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَمُنْجِيكَ مِنْهُمْ
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ
وَالشَّعْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ
الْإِسْلَامِ الَّذِينَ صَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوا دِينَهُ فِي
التَّوْحِيدِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَهُوَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظَاهِرِينَ
قَاهِرِينَ بِالْعِزَّةِ وَالْمَنْعَةِ وَالْحُجَّةِ، وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْحَوَارِيِّينَ فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الرُّومِ، وَقِيلَ: أَرَادَ
بِهِمُ النَّصَارَى فَهُمْ فَوْقَ الْيَهُودِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الْيَهُودَ قَدْ ذَهَبَ مُلْكُهُمْ،
وَمُلْكُ النَّصَارَى دَائِمٌ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ قِيَامِ
السَّاعَةِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاتِّبَاعُ بِمَعْنَى
الِادِّعَاءِ وَالْمَحَبَّةِ لَا اتِّبَاعَ الدِّينِ. {ثُمَّ
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} فِي الْآخِرَةِ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء. باب: نزول عيسى بن مريم عليهما
السلام: 6 / 490. ومسلم في الإيمان. باب: نزول عيسى بن مريم
حاكما بشريعة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
برقم (155) 1 / 135 - 136. والمصنف في شرح السنة: 15 / 80 -
81.
(3) أخرجه أو داود - في الملاحم: باب: خروج الدجال: 6 / 177
وسكت عنه المنذري. وأحمد في المسند عن أبي هريرة: 2 / 406، 437
مطولا.
(2/46)
فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
(58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَأَمْرِ عِيسَى.
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ
الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى
عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا
تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) }
{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ
وَالْجِزْيَةِ وَالذِّلَّةِ {وَالْآخِرَةِ} أَيْ وَفِي
الْآخِرَةِ بِالنَّارِ {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} قَرَأَ الْحَسَنُ وَحَفْصٌ
بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ أَيْ نُوَفِّي أُجُورَ
أَعْمَالِهِمْ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أَيْ لَا
يَرْحَمُ الْكَافِرِينَ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ
بِالْجَمِيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ} أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ
لَكَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عِيسَى وَمَرْيَمَ
وَالْحَوَارِيِّينَ {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} [نُخْبِرُكَ بِهِ
بِتِلَاوَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْكَ] (1) {مِنَ الْآيَاتِ
وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالذِّكْرَ ذِي
الْحِكْمَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الذِّكْرُ الْحَكِيمُ أَيِ
الْمُحْكَمُ الْمَمْنُوعُ مِنَ الْبَاطِلِ وَقِيلَ: الذِّكْرُ
الْحَكِيمُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ
بِالْعَرْشِ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ. وَقِيلَ مِنَ الْآيَاتِ
أَيِ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ لِأَنَّهَا
أَخْبَارٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا قَارِئُ كِتَابٍ أَوْ مَنْ
يُوحَى إِلَيْهِ وَأَنْتَ أُمِّيٌّ لَا تَقْرَأُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ
كَمَثَلِ آدَمَ} الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مالك تَشْتُمُ صَاحِبَنَا؟ قَالَ: وَمَا
أَقُولُ قَالُوا: تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ:
أَجَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ فَغَضِبُوا
وَقَالُوا هَلْ رَأَيْتَ إِنْسَانًا قَطُّ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ
اللَّهِ} (2) فِي كَوْنِهِ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَمَثَلِ
آدَمَ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ {خَلَقَهُ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ} يَعْنِي لِعِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ {كُنْ فَيَكُونُ} يَعْنِي فَكَانَ فَإِنْ قِيلَ مَا
مَعْنَى قَوْلِهِ {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ} وَلَا تَكْوِينَ بَعْدَ الْخَلْقِ؟ قِيلَ
مَعْنَاهُ ثُمَّ خَلَقَهُ ثُمَّ أَخْبَرَكُمْ أَنِّي قُلْتُ
لَهُ: كُنْ فَكَانَ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ فِي الْخَلْقِ كَمَا
يَكُونُ فِي الْوِلَادَةِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ:
أَعْطَيْتُكَ الْيَوْمَ دِرْهَمًا ثُمَّ أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ
دِرْهَمًا أَيْ ثُمَّ أُخْبِرُكَ أَنِّي أَعْطَيْتُكَ أَمْسِ
دِرْهَمًا. وَفِيمَا سَبَقَ مِنَ التَّمْثِيلِ دَلِيلٌ عَلَى
جَوَازِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ رَدُّ فَرْعٍ
إِلَى أَصْلٍ بِنَوْعِ شَبَهٍ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى
خَلْقَ عِيسَى إِلَى آدَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِنَوْعِ
شَبَهٍ.
__________
(1) ساقط من أ.
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (136) .
(2/47)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ} أَيْ هُوَ الْحَقُّ وَقِيلَ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشَّاكِّينَ
الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ.
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ
عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} أَيْ
جَادَلَكَ فِي عِيسَى أَوْ فِي الْحَقِّ {مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ {فَقُلْ تَعَالَوْا} وَأَصْلُهُ تَعَالَيُوا
تَفَاعَلُوا مِنَ الْعُلُوِّ فَاسْتُثْقِلَتِ الضَّمَّةُ عَلَى
الْيَاءِ فَحُذِفَتْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: بِمَعْنَى تَعَالٍ
كَأَنَّهُ يَقُولُ: ارْتَفِعْ. قَوْلُهُ {نَدْعُ} جُزِمَ
لِجَوَابِ الْأَمْرِ وَعَلَامَةُ الْجَزْمِ سُقُوطُ الْوَاوِ
{أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} قِيلَ: أَبْنَاءَنَا أَرَادَ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَنِسَاءَنَا فَاطِمَةَ.
وَأَنْفُسَنَا عَنَى نَفْسَهُ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ابْنَ عَمِّ الرَّجُلِ نَفْسَهُ،
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ " (11 -الْحُجُرَاتِ) يُرِيدُ إِخْوَانَكُمْ
وَقِيلَ هُوَ عَلَى الْعُمُومِ الْجَمَاعَةُ أَهْلُ الدِّينِ
{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: أَيْ نَتَضَرَّعُ فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: نَجْتَهِدُ وَنُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: نَلْتَعِنُ وَالِابْتِهَالُ
الِالْتِعَانُ يُقَالُ: عَلَيْهِ بَهْلَةُ اللَّهِ أَيْ
لَعْنَتُهُ: {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ} مِنَّا وَمِنْكُمْ فِي أَمْرِ عِيسَى، فَلَمَّا
قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى وَفْدِ نَجْرَانَ وَدَعَاهُمْ إِلَى
الْمُبَاهَلَةِ قَالُوا: حَتَّى نَرْجِعَ وَنَنْظُرَ فِي
أَمْرِنَا ثُمَّ نَأْتِيكَ غَدًا، فَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ
فَقَالُوا لِلْعَاقِبِ وَكَانَ ذَا رَأْيِهِمْ: يَا عَبْدَ
الْمَسِيحِ مَا تَرَى؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ يَا
مَعْشَرَ النَّصَارَى أَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ،
وَاللَّهِ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ فَعَاشَ
كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَلَئِنْ فَعَلْتُمْ
ذَلِكَ لَنَهْلِكَنَّ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْإِقَامَةَ
عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِي صَاحِبِكُمْ
فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ،
فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ غَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُحْتَضِنًا لِلْحُسَيْنِ آخِذًا بِيَدِ الْحَسَنِ
وَفَاطِمَةُ تَمْشِي خَلْفَهُ وَعَلِيٌّ خَلْفَهَا وَهُوَ
يَقُولُ لَهُمْ: "إِذَا أَنَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا" فَقَالَ
أُسْقُفُّ نَجْرَانَ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى إِنِّي لِأَرَى
وُجُوهًا لَوْ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُزِيلَ جَبَلًا مِنْ
مَكَانِهِ لِأَزَالَهُ فَلَا تَبْتَهِلُوا فَتَهْلَكُوا وَلَا
يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْكُمْ نَصْرَانِيٌّ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ: قَدْ
رَأَيْنَا أَنْ لَا نُلَاعِنَكَ وَأَنْ نَتْرُكَكَ عَلَى
دِينِكَ وَنَثْبُتَ عَلَى دِينِنَا، فَقَالَ رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 60/أ /"فَإِنْ أَبَيْتُمُ
الْمُبَاهَلَةَ فَأَسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا
لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهِمْ" فَأَبَوْا
فَقَالَ: "فَإِنِّي أُنَابِذُكُمْ" فَقَالُوا: مَا لَنَا
بِحَرْبِ الْعَرَبِ طَاقَةٌ، وَلَكِنَّا نُصَالِحُكَ عَلَى
أَنْ لَا تَغْزُوَنَا وَلَا تُخِيفَنَا وَلَا تَرُدَّنَا عَنْ
دِينِنَا عَلَى أَنْ نُؤَدِّيَ إِلَيْكَ كُلَّ عَامٍ أَلْفَيْ
حُلَّةٍ أَلْفًا فِي صَفَرَ وَأَلْفًا فِي رَجَبٍ،
فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
إِنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَلَوْ
تَلَاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَلَاضْطَرَمَ
عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا، وَلَاسْتَأْصَلَ اللَّهُ
نَجْرَانَ وَأَهْلَهُ حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ،
وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ حَتَّى
هَلَكُوا" (1) .
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف أخرجه أبو نعيم في دلائل
النبوة من طريق محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس بطوله وابن مروان متروك متهم بالكذب. ثم أخرج أبو
نعيم نحوه عن الشعبي مرسلا ومنه: (فإن أبيتم المباهلة فأسلموا.
. . .) انظر الكافي الشاف ص 26. وأخرجه الطبري في التفسير 6 /
479 - 480 من طريق ابن إسحاق عن محمد بن جعفر ابن الزبير في
قوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق) فذكره مرسلا. وانظر: الدر
المنثور للسيوطي: 2 / 229 - 233 وابن كثير: 1 / 371 - 372.
(2/48)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (64) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ
الْحَقُّ} النَّبَأُ الْحَقُّ {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا
اللَّهُ} وَ"مِنْ" صِلَةٌ تَقْدِيرُهُ وَمَا إِلَهٌ إِلَّا
اللَّهُ {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ {فَإِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} الَّذِينَ يَعْبُدُونَ
غَيْرَ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ
اللَّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الْآيَةَ
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ الْمَدِينَةَ
فَالْتَقَوْا مَعَ الْيَهُودِ فَاخْتَصَمُوا فِي إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّهُ كَانَ
نَصْرَانِيًّا وَهُمْ عَلَى دِينِهِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ،
وَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَلْ كَانَ يَهُودِيًّا وَهُمْ عَلَى
دِينِهِ وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ
بَرِيءٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ بَلْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَأَنَا عَلَى دِينِهِ فَاتَّبِعُوا
دِينَهُ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَا
مُحَمَّدُ مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَتَّخِذَكَ رِبًّا كَمَا
اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى رَبًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى:
يَا مُحَمَّدُ مَا تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَقُولَ فِيكَ مَا
قَالَتِ الْيَهُودُ فِي عُزَيْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ} (1) وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ قِصَّةٍ لَهَا
شَرْحٌ كَلِمَةً وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْقَصِيدَةُ كَلِمَةً
{سَوَاءٍ} عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مُسْتَوِيَةٍ، أَيْ
أَمْرٍ مُسْتَوٍ يُقَالُ: دَعَا فَلَانَ إِلَى السَّوَاءِ،
أَيْ إِلَى النَّصَفَةِ، وَسَوَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَسَطُهُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ
" (55 -الصَّافَّاتِ) وَإِنَّمَا قِيلَ لِلنِّصْفِ سَوَاءٌ
لِأَنَّ أَعْدَلَ الْأُمُورِ وَأَفْضَلَهَا أَوْسَطُهَا
وَسَوَاءٌ نَعْتٌ لِكَلِمَةٍ إِلَّا أَنَّهُ مَصْدَرٌ،
وَالْمَصَادِرُ لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ وَلَا تُؤَنَّثُ،
فَإِذَا فَتَحْتَ السِّينَ مَدَدْتَ، وَإِذَا كَسَرْتَ أَوْ
ضَمَمْتَ قَصَرْتَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "مَكَانًا سُوًى" (58
-طه) ثُمَّ فَسَّرَ الْكَلِمَةَ فَقَالَ: {أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللَّهَ} وَمَحَلُّ أَنْ رَفْعٌ عَلَى إِضْمَارِ هِيَ،
وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
__________
(1) الدر المنثور: 2 / 235.
(2/49)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ
التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا
تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(66)
رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَقِيلَ:
مَحَلُّهُ نَصْبٌ بِنَزْعِ حَرْفِ الصِّفَةِ مَعْنَاهُ بِأَنْ
لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَقِيلَ: مَحَلُّهُ خَفْضٌ
بَدَلًا مِنَ الْكَلِمَةِ أَيْ تَعَالَوْا إِلَى أَنْ لَا
نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًاوَلا
يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}
كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ " (31 -التَّوْبَةِ) وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: هُوَ سُجُودُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ لَا
تَسْجُدُوا لِغَيْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا نُطِيعُ
أَحَدًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا} فَقُولُوا أَنْتُمْ لَهُمُ اشْهَدُوا {بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ} مُخْلِصُونَ بِالتَّوْحِيدِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ
بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ
بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي
رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ فِي
الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاهَدَ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكَفَّارَ
قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُوَ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي
مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، وَدَعَا بِكِتَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
بَعَثَ بِهِ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيَّ إِلَى
عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا
هُوَ:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ
عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ،
سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ
تَسْلَمْ، أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ،
فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ إِثْمُ
الْأَرِيسِيِّينَ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ
بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ
حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ
فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ
فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ
وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} تَزْعُمُونَ أَنَّهُ
كَانَ عَلَى دِينِكُمْ، وَإِنَّمَا دِينُكُمُ الْيَهُودِيَّةُ
وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَقَدْ حَدَثَتِ الْيَهُودِيَّةُ بَعْدَ
نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالنَّصْرَانِيَّةُ بَعْدَ نُزُولِ
الْإِنْجِيلِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ
وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ،
وَكَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ
مُوسَى وَعِيسَى أَلْفَا سَنَةٍ {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
بُطْلَانَ قَوْلِكُمْ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَا أَنْتُمْ} بِتَلْيِينِ الْهَمْزَةِ
حَيْثُ كَانَ مَدَنِيٌّ، وَأَبُو عَمْرٍو وَالْبَاقُونَ
بِالْهَمْزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَصْلِهِ
__________
(1) أخرجه البخاري: في التفسير تفسير سورة آل عمران باب: قل يا
أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. . . 8 / 214.
(2/50)
مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ (68)
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُهُ: أَأَنْتُمْ
وَهَا تَنْبِيهٌ وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَصْلُهُ أَأَنْتُمْ
فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ الْأُولَى هَاءً كَقَوْلِهِمْ هَرَقْتَ
الْمَاءَ وَأَرَقْتَ {هَؤُلَاءِ} أَصْلُهُ أُولَاءِ دَخَلَتْ
عَلَيْهِ هَاءُ التَّنْبِيهِ وَهِيَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ،
يَعْنِي يَا هَؤُلَاءِ أَنْتُمْ {حَاجَجْتُمْ} جَادَلْتُمْ
{فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يَعْنِي فِي أَمْرِ مُوسَى
وَعِيسَى وَادَّعَيْتُمْ أَنَّكُمْ عَلَى دِينِهِمَا وَقَدْ
أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عَلَيْكُمْ {فَلِمَ
تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وَلَيْسَ فِي
كِتَابِكُمْ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا،
وَقِيلَ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عَلْمٌ يَعْنِي فِي
أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا نَعْتَهُ فِي كِتَابِهِمْ، فَجَادَلُوا
فِيهِ بِالْبَاطِلِ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَلَيْسَ فِي كِتَابِكُمْ، وَلَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ؟
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ثُمَّ
بَرَّأَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ مِمَّا قَالُوا:
فَقَالَ:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا
وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ
لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُ الْمُؤْمِنِينَ (68) }
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا
وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} وَالْحَنِيفُ: الْمَائِلُ عَنِ الْأَدْيَانِ
كُلِّهَا إِلَى الدِّينِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقِيلَ: الْحَنِيفُ:
الَّذِي يُوَحِّدُ وَيَحُجُّ وَيُضَحِّي وَيُخْتَنُ
وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ. وَهُوَ أَسْهَلُ الْأَدْيَانِ
وَأَحَبُّهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ
لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} أَيْ: مَنِ اتَّبَعَهُ فِي زَمَانِهِ،
{وَهَذَا النَّبِيُّ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَالَّذِينَ آمَنُوا} مَعَهُ، يَعْنِي
مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}
رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
بِإِسْنَادِهِ، حَدِيثَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، لَمَّا هَاجَرَ
جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأُنَاسٌ
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدَّارُ
وَهَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى
المدينة 60/ب وَكَانَ مِنْ أَمْرِ بَدْرٍ مَا كَانَ
فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَقَالُوا:
إِنَّ لَنَا فِي الَّذِينَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ مِنْ
أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَأْرًا مِمَّنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ، فَاجْمَعُوا مَالًا
وَأَهْدُوهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ لَعَلَّهُ يَدْفَعُ
إِلَيْكُمْ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِكُمْ وَلْيُنْتَدَبْ
لِذَلِكَ رَجُلَانِ مِنْ ذَوِي رَأْيِكُمْ فَبَعَثُوا عَمْرَو
بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ مَعَ الْهَدَايَا
الْأُدُمَ وَغَيْرِهِ، فَرَكِبَا الْبَحْرَ وَأَتَيَا
الْحَبَشَةَ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَجَدَا
لَهُ وَسَلَّمَا عَلَيْهِ وَقَالَا لَهُ: إِنَّ قَوْمَنَا لَكَ
نَاصِحُونَ شَاكِرُونَ وَلِصَلَاحِكَ مُحِبُّونَ وَإِنَّهُمْ
بَعَثُونَا إِلَيْكَ لِنُحَذِّرَكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
قَدِمُوا عَلَيْكَ، لِأَنَّهُمْ قَوْمُ رَجُلٍ كَذَّابٍ خَرَجَ
فِينَا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُتَابِعْهُ
أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا السُّفَهَاءُ، وَإِنَّا كُنَّا قَدْ
ضَيَّقْنَا عَلَيْهِمُ الْأَمْرَ وَأَلْجَأْنَاهُمْ إِلَى
شِعْبٍ بِأَرْضِنَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَلَا
يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَدْ قَتَلَهُمُ الْجُوعُ
وَالْعَطَشُ فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ بَعَثَ
إِلَيْكَ ابْنَ عَمِّهِ لِيُفْسِدَ عَلَيْكَ دِينَكَ
وَمُلْكَكَ وَرَعِيَّتَكَ فَاحْذَرْهُمْ وَادْفَعْهُمْ
إِلَيْنَا لِنَكْفِيَكَهُمْ، وَقَالَا وَآيَةُ ذَلِكَ
أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْكَ لَا يَسْجُدُونَ لَكَ وَلَا
يُحَيُّونَكَ بِالتَّحِيَّةِ الَّتِي يُحَيِّيكَ بِهَا
النَّاسُ رَغْبَةً عَنْ دِينِكَ وَسُنَّتِكَ، قَالَ:
فَدَعَاهُمُ النَّجَاشِيُّ فَلَمَّا حَضَرُوا، صَاحَ جَعْفَرٌ
بِالْبَابِ: يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ حِزْبُ اللَّهِ، فَقَالَ
النَّجَاشِيُّ: مُرُوا هَذَا الصَّائِحَ فَلْيُعِدْ كَلَامَهُ،
فَفَعَلَ جَعْفَرٌ فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: نَعَمْ
فَلْيَدْخُلُوا بِأَمَانِ اللَّهِ وَذِمَّتِهِ، فَنَظَرَ
عَمْرُو بْنُ
(2/51)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (70)
الْعَاصِ إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: أَلَا
تَسْمَعُ كَيْفَ يَرْطُنُونَ بِحِزْبِ اللَّهِ وَمَا
أَجَابَهُمْ بِهِ النَّجَاشِيُّ، فَسَاءَهُمَا ذَلِكَ ثُمَّ
دَخَلُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَقَالَ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ: أَلَّا تَرَى أَنَّهُمْ يَسْتَكْبِرُونَ أَنْ
يَسْجُدُوا لَكَ، فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: مَا
مَنَعَكُمْ أَنْ تَسْجُدُوا لِي وَتُحَيُّونِي بِالتَّحِيَّةِ
الَّتِي يُحَيِّينِي بِهَا مَنْ أَتَانِي مِنَ الْآفَاقِ؟
قَالُوا: نَسْجُدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَمُلْكَكَ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ التَّحِيَّةُ لَنَا وَنَحْنُ
نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا
صَادِقًا فَأَمَرَنَا بِالتَّحِيَّةِ الَّتِي رَضِيَهَا
اللَّهُ وَهِيَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ،
فَعَرَفَ النَّجَاشِيُّ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ وَأَنَّهُ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَالَ: أَيُّكُمُ الْهَاتِفُ:
يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ حِزْبُ اللَّهِ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا،
قَالَ: فَتَكَلَّمْ، قَالَ: إِنَّكَ مَلِكٌ مَنْ مُلُوكِ
أَهْلِ الْأَرْضِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَصْلُحُ
عِنْدَكَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَلَا الظُّلْمُ وَأَنَا أُحِبُّ
أَنْ أُجِيبَ عَنْ أَصْحَابِي فَمُرْ هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ
فَلْيَتَكَلَّمْ أَحَدُهُمَا وَلْيُنْصِتِ الْآخَرُ فَتَسْمَعُ
مُحَاوَرَتَنَا. فَقَالَ عَمْرٌو لِجَعْفَرٍ: تَكَلَّمْ،
فَقَالَ جَعْفَرٌ لِلنَّجَاشِيِّ: سَلْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ
أَعَبِيدٌ نَحْنُ أَمْ أَحْرَارٌ؟ فَإِنْ كُنَّا عَبِيدًا
أَبَقْنَا مِنْ أَرْبَابِنَا فَارْدُدْنَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ
النَّجَاشِيُّ: أَعَبِيدٌ هُمْ أَمْ أَحْرَارٌ؟ فَقَالَ
عَمْرٌو: بَلْ أَحْرَارٌ كِرَامٌ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ:
نَجَوْا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ جَعْفَرٌ:
سَلْهُمَا هَلْ أَهْرَقْنَا دَمًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُقْتَصُّ
مِنَّا؟ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنْ كَانَ قِنْطَارًا فَعَلَيَّ
قَضَاؤُهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا وَلَا قِيرَاطًا، قَالَ
النَّجَاشِيُّ: فَمَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ؟ قَالَ عَمْرٌو:
كُنَّا وَهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَأَمْرٍ وَاحِدٍ عَلَى
دِينِ آبَائِنَا فَتَرَكُوا ذَلِكَ وَابْتَغَوْا غَيْرَهُ
فَبَعَثَنَا إِلَيْكَ قَوْمُهُمْ لِتَدْفَعَهُمْ إِلَيْنَا،
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي كُنْتُمْ
عَلَيْهِ وَالدِّينُ الَّذِي اتَّبَعْتُمُوهُ اصْدُقْنِي،
قَالَ جَعْفَرٌ: أَمَّا الدِّينُ الَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ
فَتَرَكْنَاهُ فَهُوَ دِينُ الشَّيْطَانِ، كُنَّا نَكْفُرُ
بِاللَّهِ وَنَعْبُدُ الْحِجَارَةَ، وَأَمَّا الدِّينُ الَّذِي
تَحَوَّلْنَا إِلَيْهِ فَدِينُ اللَّهِ الْإِسْلَامُ جَاءَنَا
بِهِ مِنَ اللَّهِ رَسُولٌ وَكِتَابٌ مِثْلَ كِتَابِ عِيسَى بن
مَرْيَمَ مُوَافِقًا لَهُ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: يَا
جَعْفَرُ تَكَلَّمْتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَعَلَى رِسْلِكَ،
ثُمَّ أَمَرَ النَّجَاشِيُّ فَضُرِبَ بِالنَّاقُوسِ
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ كُلُّ قِسِّيسٍ وَرَاهِبٍ، فَلَمَّا
اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ النَّجَاشِيُّ: أَنْشُدُكُمُ
اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى هَلْ
تَجِدُونَ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
نَبِيًّا مُرْسَلًا فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَدْ
بَشَّرَنَا بِهِ عِيسَى وَقَالَ: مَنْ آمَنَ بِهِ فَقَدْ آمَنَ
بِي وَمَنْ كَفَرَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِي، فَقَالَ
النَّجَاشِيُّ لِجَعْفَرٍ: مَاذَا يَقُولُ لَكُمْ هَذَا
الرَّجُلُ وَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ وَمَا يَنْهَاكُمْ عَنْهُ؟
فَقَالَ: يَقْرَأُ عَلَيْنَا كِتَابَ اللَّهِ وَيَأْمُرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْمُرُ
بِحُسْنِ الْجِوَارِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الْيَتِيمِ
وَيَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَيَّ مِمَّا يَقْرَأُ عَلَيْكُمْ
فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ وَالرُّومِ
فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الدَّمْعِ
وَقَالُوا: زِدْنَا يَا جَعْفَرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
الطَّيِّبِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ الْكَهْفِ فَأَرَادَ
عَمْرٌو أَنْ يُغْضِبَ النَّجَاشِيَّ فَقَالَ: إِنَّهُمْ
يَشْتُمُونَ عِيسَى وَأُمَّهُ، فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: مَا
تَقُولُونَ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ
مَرْيَمَ فَلَمَّا أَتَى جَعْفَرٌ عَلَى ذِكْرِ مَرْيَمَ
وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَفَعَ النَّجَاشِيُّ
نُفْثَةً مِنْ سِوَاكِهِ قَدْرَ مَا تُقْذَى الْعَيْنُ
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَ الْمَسِيحُ عَلَى مَا تَقُولُونَ
هَذَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ:
اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي [يَقُولُ] : (1)
آمِنُونَ مَنْ سَبَّكُمْ أَوْ آذَاكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ قَالَ:
أَبْشِرُوا وَلَا تَخَافُوا فَلَا دَهْوَرَةَ (2) الْيَوْمَ
عَلَى حِزْبِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ عَمْرٌو: يَا نَجَاشِيُّ
وَمَنْ حِزْبُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ
وَصَاحِبُهُمُ الَّذِي جَاءُوا مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ
تَبِعَهُمْ. فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ وَادَّعَوْا فِي
دِينِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ رَدَّ النَّجَاشِيُّ عَلَى عَمْرٍو
وَصَاحِبِهِ الْمَالَ الَّذِي حَمَلُوهُ وَقَالَ: إِنَّمَا
هَدِيَّتُكُمْ لِي رَشْوَةٌ فَاقْبِضُوهَا فَإِنَّ اللَّهَ
مَلَّكَنِي وَلَمْ يَأْخُذْ مِنِّي رِشْوَةً، قَالَ جَعْفَرٌ:
فَانْصَرَفْنَا فَكُنَّا فِي خَيْرِ دَارٍ وَأَكْرَمِ جَوَارٍ،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُصُومَتِهِمْ
فِي إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ قَوْلَهُ عَزَّ
وَجَلَّ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ
وَلِيُ الْمُؤْمِنِينَ} (3) .
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ
يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) }
__________
(1) ساقط من أ.
(2) دهورة: جمعه وقذفه في مهواة.
(3) أخرجه ابن إسحاق في السيرة عن أم سلمة: 1 / 211 - 215 ومن
طريقه الإمام أحمد في المسند: 1 / 201 - 203 عن أم سلمة. وقال
الهيثمي في المجمع: 6 / 27: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"
وذكره الواحدي في أسباب النزول ص (138 - 141) .
(2/52)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ} نَزَلَتْ فِي مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَحُذَيْفَةَ
بْنِ الْيَمَانِ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ دَعَاهُمُ
الْيَهُودُ إِلَى دِينِهِمْ، فَنَزَلَتْ {وَدَّتْ طَائِفَةٌ}
(1) [تمنيت جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] (2) يَعْنِي
الْيَهُودَ {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} عَنْ دِينِكُمْ
وَيَرُدُّونَكُمْ إِلَى الْكُفْرِ {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}
يَعْنِي الْقُرْآنَ وَبَيَانَ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أَنَّ نَعْتَهُ
فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَذْكُورٌ.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ} تَخْلِطُونَ الْإِسْلَامَ بِالْيَهُودِيَّةِ
وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَقِيلَ: لِمَ تَخْلِطُونَ الْإِيمَانَ
بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الْحَقُّ بِالْكُفْرِ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
الْبَاطِلُ؟ وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى
مُوسَى بِالْبَاطِلِ الَّذِي حَرَّفْتُمُوهُ وَكَتَبْتُمُوهُ
بِأَيْدِيكُمْ {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ} أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَدِينَهُ حَقٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ آمِنُوا} الْآيَةَ. قَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ:
تَوَاطَأَ اثْنَا عَشَرَ حَبْرًا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ
وَقُرَى عيينة وقال 61/ب بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْخُلُوا فِي
دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ بِاللِّسَانِ دُونَ
__________
(1) أسباب النزول ص (142) .
(2) ساقط من ب.
(2/53)
وَلَا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ
يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(73)
الِاعْتِقَادِ ثُمَّ اكْفُرُوا آخِرَ
النَّهَارِ وَقُولُوا: إِنَّا نَظَرْنَا فِي كُتُبِنَا
وَشَاوَرْنَا عُلَمَاءَنَا فَوَجَدْنَا مُحَمَّدًا لَيْسَ
بِذَلِكَ، وَظَهَرَ لَنَا كَذِبُهُ، فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ
شَكَّ أَصْحَابُهُ فِي دِينِهِمْ وَاتَّهَمُوهُ وَقَالُوا:
إِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِهِ
فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ (2) هَذَا فِي
شَأْنِ الْقِبْلَةِ لَمَّا صُرِفَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ شَقَّ
ذَلِكَ عَلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ
لِأَصْحَابِهِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ
مِنْ أَمْرِ الْكَعْبَةِ وَصَلُّوا إِلَيْهَا أَوَّلَ
النَّهَارِ ثُمَّ اكْفُرُوا وَارْجِعُوا إِلَى قِبْلَتِكُمْ
آخِرَ النَّهَارِ لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ أَهْلُ
الْكِتَابِ وَهُمْ أَعْلَمُ فَيَرْجِعُونَ إِلَى قِبْلَتِنَا،
فَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ عَلَى سِرِّهِمْ
وَأَنْزَلَ {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
آمِنُوا} {بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ
النَّهَارِ} أَوَّلَهُ سُمِّيَ وَجْهًا لِأَنَّهُ أَحْسَنُهُ
وَأَوَّلُ مَا يُوَاجِهُ النَّاظِرَ فَيَرَاهُ {وَاكْفُرُوا
آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فَيَشُكُّونَ وَيَرْجِعُونَ
عَنْ دِينِهِمْ.
{وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ
الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ} هَذَا مُتَّصِلٌ بِالْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِ
الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ {وَلَا تُؤْمِنُوا} أَيْ لَا
تُصَدِّقُوا {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وَافَقَ
مِلَّتَكُمْ وَاللَّامُ فِي "لِمَنْ" صِلَةٌ، أَيْ لَا
تُصَدِّقُوا إِلَّا مَنْ تَبِعَ دِينَكُمُ الْيَهُودِيَّةَ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ
" (72 -النَّحْلِ) أَيْ: رِدْفَكُمْ. {قُلْ إِنَّ الْهُدَى
هُدَى اللَّهِ} هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ
الْبَيَانَ بَيَانُهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ، وَمَا بَعْدَهُ
مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، إِخْبَارٌ عَنْ قَوْلِ
الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَمَعْنَاهُ: وَلَا
تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وَالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَالْآيَاتِ مِنَ الْمَنِّ
وَالسَّلْوَى وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْكَرَامَاتِ. وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ
رَبِّكُمْ لِأَنَّكُمْ أَصَحُّ دِينًا مِنْهُمْ. وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لِسَفَلَتِهِمْ {وَلَا
تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} {أَنْ يُؤْتَى
أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} مِنَ الْعِلْمِ أَيْ: لِئَلَّا
يُؤْتَى أَحَدٌ، وَ"لَا" فِيهِ مُضْمَرَةٌ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا (النِّسَاءِ
-176) أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا، يَقُولُ: لَا تُصَدِّقُوهُمْ
لِئَلَّا يَعْلَمُوا مِثْلَ مَا عَلِمْتُمْ فَيَكُونُ لَكُمُ
الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، وَلِئَلَّا يُحَاجُّوكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ فَيَقُولُوا: عَرَفْتُمْ أَنَّ دِينَنَا
حَقٌّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ {إِنْ يُؤْتَى} بِكَسْرِ
الْأَلِفِ، فَيَكُونُ قَوْلُ الْيَهُودِ تَامًّا عِنْدَ
قَوْلِهِ: {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وَمَا بَعْدَهُ
مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ
{إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى} أَنْ بِمَعْنَى
الْجَحْدِ،
__________
(1) انظر: الطبري: 6 / 507، أسباب النزول ص (142) .
(2) أسباب النزول ص (142 - 143) .
(2/54)
يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
أَيْ مَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} يَعْنِي:
إِلَّا أَنْ يُجَادِلَكُمُ الْيَهُودُ بِالْبَاطِلِ
فَيَقُولُوا: نَحْنُ أَفْضَلُ مِنْكُمْ، فَقَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ {عِنْدَ رَبِّكُمْ} أَيْ عِنْدَ فَضْلِ رَبِّكُمْ
بِكُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَالْحَسَنِ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى كَمَا يُقَالُ:
تَعَلَّقْ بِهِ أَوْ يُعْطِيكَ حَقَّكَ أَيْ حَتَّى يُعْطِيَكَ
حَقَّكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُعْطِيتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مِنَ الدِّينِ وَالْحُجَّةِ
حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ {آنْ يُؤْتَى} بِالْمَدِّ عَلَى
الِاسْتِفْهَامِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِيهِ اخْتِصَارٌ
تَقْدِيرُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَا
مَعْشَرَ الْيَهُودِ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
تَحْسُدُونَهُ وَلَا تُؤْمِنُونَ بِهِ، هَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ
وَالرَّبِيعِ وَقَالَا هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
يَقُولُ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ {إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ} بِأَنْ أَنْزَلَ كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِكُمْ
وَبَعَثَ نَبِيًّا حَسَدْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ.
{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قَوْلُهُ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عَلَى
هَذِهِ الْقِرَاءَةِ رُجُوعٌ إِلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ
وَتَكُونُ "أَوْ" بِمَعْنَى أَنَّ لِأَنَّهُمَا حَرْفَا شَرْطٍ
وَجَزَاءٍ يُوضَعُ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ أَيْ وَإِنْ
يُحَاجُّوكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رَبِّكُمْ
فَقُلْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ وَنَحْنُ
عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ خِطَابًا
لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ نَظْمُ الْآيَةِ: أَنْ يُؤْتَى
أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يا معشر المؤكمنين حَسَدُوكُمْ
فَقُلْ {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} وَإِنْ حَاجُّوكُمْ
{قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَنِ الْيَهُودِ قَدْ تَمَّ
عِنْدَ قَوْلِهِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وَقَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَلَا تُؤْمِنُوا} كَلَامُ اللَّهِ يُثَبِّتُ بِهِ
قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يَشُكُّوا عِنْدَ تَلْبِيسِ
الْيَهُودِ وَتَزْوِيرِهِمْ فِي دِينِهِمْ، يَقُولُ لَا
تُصَدِّقُوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَنْ تَبِعْ
دِينَكُمْ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ
يُحَاجُّوكُمْ فِي دِينِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَوْ يَقْدِرُوا
عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ، وَ {إِنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فَتَكُونُ الْآيَةُ كُلُّهَا خِطَابَ اللَّهِ
لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تَلْبِيسِ الْيَهُودِ لِئَلَّا
يَرْتَابُوا.
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا
دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ
عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أَيْ
بِنُبُوَّتِهِ {مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الْآيَةَ نَزَلَتْ
فِي الْيَهُودِ أَخْبَرَ اللَّهُ
(2/55)
بَلَى مَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(76)
تَعَالَى أَنَّ فِيهِمْ أَمَانَةً
وَخِيَانَةً، وَالْقِنْطَارُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ
الْكَثِيرِ، وَالدِّينَارُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ
الْقَلِيلِ، يَقُولُ: مِنْهُمْ مَنْ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ
وَإِنْ كَثُرَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَدِّيهَا وَإِنْ
قَلَّتْ قَالَ مُقَاتِلٌ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} هُمْ مُؤْمِنُوا
أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
وَأَصْحَابِهِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ
لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يَعْنِي: كُفَّارَ الْيَهُودِ،
كَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ جُوَيْبِرٌ
عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
سَلَامٍ، أَوْدَعَهُ رَجُلٌ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةً
مِنْ ذَهَبٍ فَأَدَّاهَا إِلَيْهِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يَعْنِي:
فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ، اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ
قُرَيْشٍ دِينَارًا فَخَانَهُ، قَوْلُهُ {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ {يُؤَدِّهْ}
{لَا يُؤَدِّهْ} وَ {نُصْلِهْ} وَ {نُؤْتِهْ} وَ {نُوَلِّهْ}
سَاكِنَةَ الْهَاءِ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونُ
وَيَعْقُوبُ بِالِاخْتِلَاسِ كَسْرًا، وَالْبَاقُونَ
بِالْإِشْبَاعِ كَسْرًا، فَمَنْ سَكَّنَ الْهَاءَ قَالَ
لِأَنَّهَا وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِ الْجَزْمِ وَهُوَ الْيَاءُ
الذَّاهِبَةُ، وَمَنِ اخْتَلَسَ فَاكْتَفَى بِالْكَسْرَةِ عَنِ
الْيَاءِ، وَمَنْ أَشْبَعَ فَعَلَى الْأَصْلِ، لِأَنَّ
الْأَصْلَ فِي الْهَاءِ الْإِشْبَاعُ، {إِلَّا مَا دُمْتَ
عَلَيْهِ قَائِمًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُلِحًّا يُرِيدُ
يَقُومُ عَلَيْهِ يُطَالِبُهُ بِالْإِلْحَاحِ، وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: مُوَاظِبًا أَيْ تُوَاظِبُ عَلَيْهِ
بِالِاقْتِضَاءِ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَوْدَعْتَهُ ثُمَّ
اسْتَرْجَعْتَهُ وَأَنْتَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ
تُفَارِقْهُ رَدَّهُ إِلَيْكَ، فَإِنْ فَارَقْتَهُ
وَأَخَّرْتَهُ أَنْكَرَهُ وَلَمْ يُؤَدِّهِ {ذَلِكَ} أَيْ:
ذَلِكَ الِاسْتِحْلَالُ وَالْخِيَانَةُ، {بِأَنَّهُمْ قَالُوا
لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أَيْ: فِي مَالِ
الْعَرَبِ إِثْمٌ وَحَرَجٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ
قَالُوا: أَمْوَالُ الْعَرَبِ حَلَالٌ لَنَا، لِأَنَّهُمْ
لَيْسُوا عَلَى دِينِنَا ولا حرمة 61/ألَهُمْ فِي كِتَابِنَا،
وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَ ظُلْمَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي
دِينِهِمْ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ الْأَمْوَالَ
كُلَّهَا كَانَتْ لَنَا فَمَا فِي يَدِ الْعَرَبِ مِنْهَا
فَهُوَ لَنَا وَإِنَّمَا ظَلَمُونَا وَغَصَبُونَا فَلَا
سَبِيلَ عَلَيْنَا فِي أَخْذِنَا إِيَّاهُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُقَاتِلٌ: بَايَعَ
الْيَهُودُ رِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
فَلَمَّا أَسْلَمُوا تَقَاضُوهُمْ بَقِيَّةَ أَمْوَالِهِمْ
فَقَالُوا: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقٌّ، وَلَا عِنْدَنَا
قَضَاءٌ لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ، وَانْقَطَعَ
الْعَهْدُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ
وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ثُمَّ قَالَ رَدًّا
عَلَيْهِمْ:
{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) }
{بَلَى} أَيْ: لَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ،
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ {مَنْ أَوْفَى} أَيْ: وَلَكِنَّ مَنْ
أَوْفَى {بِعَهْدِهِ} أَيْ: بِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ
إِلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَأَدَاءِ
الْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي عَهْدِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى
الْمُوفِي {وَاتَّقَى} الْكَفْرَ وَالْخِيَانَةَ وَنَقْضَ
الْعَهْدِ، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}
(2/56)
إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(77)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ،
أَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ
كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ
النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا
حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ
فَجَرَ" (1) .
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} قَالَ عِكْرِمَةُ:
نَزَلَتْ فِي رُؤُوسِ الْيَهُودِ، كَتَمُوا مَا عَهِدَ اللَّهَ
إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَدَّلُوهُ وَكَتَبُوا
بِأَيْدِيهِمْ غَيْرَهُ وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ لِئَلَّا يَفُوتَهُمُ الْمَآكِلُ وَالرِّشَا الَّتِي
كَانَتْ لَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
أَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ
امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَ
ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ،
فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالُوا: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ:
فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ
لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: "هَاتِ بَيِّنَتَكَ أَوْ
يَمِينَهُ " قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا
فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ
اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (2) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ
الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
سُفْيَانَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنَا قُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ أَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ
حَرْبٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ
كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب علامة المنافق: 1 / 89 وفي
المظالم باب وإذا خاصم فجر: 5 / 107، ومسلم في الإيمان باب
بيان خصال المنافق برقم (106) : 1 / 78. والمصنف في شرح السنة:
1 / 74.
(2) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور باب قول الله: "إن الذين
يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا": 11 / 558 و11 / 544
بلفظ "من حلف على يمين كاذبة" وفي التفسير في تفسير سورة
البقرة، وفي الإحكام، ومسلم في الإيمان باب وعيد من اقتطع حق
مسلم بيمين فاجرة بالنار برقم (220) : 1 / 112 والمصنف في شرح
السنة: 10 / 99.
(2/57)
الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي،
فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضٌ فِي يَدِي أَزْرَعُهَا،
لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ"؟
قَالَ: لَا قَالَ: "فَلَكَ يَمِينُهُ" قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا
يَحْلِفُ عَلَيْهِ، قَالَ: "لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ"
فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ لَهُ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا لَئِنْ
حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ
اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ" (1) وَرَوَاهُ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ، وَقَالَ هُوَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ الْكِنْدِيُّ وَخَصْمُهُ
رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدَانَ.
وَرُوِيَ لَمَّا هَمَّ أَنْ يَحْلِفَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فَامْتَنَعَ امْرُؤُ الْقَيْسِ أَنْ يَحْلِفَ، وَأَقَرَّ
لِخَصْمِهِ بِحَقِّهِ وَدَفْعَهُ إِلَيْهِ. أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ،
أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا
أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ"
قَالُوا: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: "وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مَنْ أَرَاكٍ" قَالَهَا ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
أَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَا هُشَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ
أَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى
أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً وَهُوَ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ
بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ لِيُوقِعَ
فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَنًا قَلِيلًا} (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أَيْ:
يَسْتَبْدِلُونَ {بِعَهْدِ اللَّهِ} وَأَرَادَ الْأَمَانَةَ،
{وَأَيْمَانِهِمْ} الْكَاذِبَةِ {ثَمَنًا قَلِيلًا} أَيْ:
شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، {أُولَئِكَ لَا
خَلَاقَ لَهُمْ} لَا نَصِيبَ لَهُمْ {فِي الْآخِرَةِ}
وَنَعِيمِهَا، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} كَلَامًا
يَنْفَعُهُمْ وَيَسُرُّهُمْ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى
الْغَضَبِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: إِنِّي لَا أُكَلِّمُ
فُلَانًا إِذَا كَانَ غَضِبَ عَلَيْهِ، {وَلَا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ: لَا يَرْحَمُهُمْ وَلَا
يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُنِيلُهُمْ خَيْرًا، {وَلَا
يُزَكِّيهِمْ} أَيْ: لَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ بِالْجَمِيلِ
وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَنَا
عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، أَنَا سُفْيَانُ، أَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين
فاجرة بالنار برقم (223) : 1 / 123 - 124.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين
فاجرة بالنار برقم (218) : 1 / 122 والمصنف في شرح السنة: 10 /
113.
(3) أخرجه البخاري في التفسير في تفسير سورة آل عمران باب "إن
الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق
لهم": 8 / 213.
(2/58)
زُرْعَةَ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"
قَالَ: قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا
وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
"الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ
بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ" (1) فِي رِوَايَةٍ: "الْمُسْبِلُ
إِزَارَهُ".
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَنَا أُسَيْدٌ أَبُو الْحَسَنِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِيُّ أَنَا أَبُو نَصْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَوَيْهِ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَا سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
رَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَاقْتَطَعَهُ،
وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ صَلَاةِ
الْعَصْرِ أَنَّهُ أُعْطِيَ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا
أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَالِهِ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ
فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار
والمن بالعطية. . . برقم (171) : 1 / 102.
(2) أخرجه البخاري في المساقاة باب من رأى أن صاحب الحوض
والقربة أحق بمائه: 5 / 43، وفي التوحيد باب قول الله تعالى:
"وجوه يومئذ ناضرة": 13 / 423 وفيه: "ورجل منع فضل ماء" بدل
ماله. ومسلم في الإيمان باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن
بالعطية. . برقم (108) : 1 / 103 وفيه أيضا: " على فضل ماء"
بدل مال. والمصنف في شرح السنة: 6 / 170 10 / 142.
(2/59)
وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ
الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ
كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا
كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ (79) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا} يَعْنِي:
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَفَرِيقًا أَيْ: طَائِفَةً، وَهُمْ
كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَحُيَيُّ
بْنُ أَخْطَبَ وَأَبُو يَاسِرٍ وَشُعْبَةُ بْنُ عُمَرَ
الشَّاعِرُ، {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} أَيْ:
يَعْطِفُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ
وَهُوَ مَا غَيَّرُوا مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَةِ الرَّجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
يُقَالُ: لَوَى لِسَانَهُ عَلَى كَذَا أَيْ: غَيَّرَهُ،
{لِتَحْسَبُوهُ} أي: لتظنوأ 62/أمَا حَرَّفُوا {مِنَ
الْكِتَابِ} الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى، {وَمَا هُوَ
مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ} عَمْدًا، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنَّهُمْ
كَاذِبُونَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَأَلْحَقُوا بِكِتَابِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ
اللَّهُ الْكِتَابَ} الْآيَةَ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ:
مَا كَانَ لِبَشَرٍ يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَذَلِكَ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ
عِيسَى أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهُ رَبًّا فَقَالَ
(2/59)
تَعَالَى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} يَعْنِي:
عِيسَى {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الْإِنْجِيلَ (1)
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ}
يَعْنِي مُحَمَّدًا {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} أَيِ
الْقُرْآنَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ الْقُرَظِيَّ مِنَ
الْيَهُودِ، وَالرَّئِيسَ (2) مِنْ نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ
قَالَا يَا مُحَمَّدُ تُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ وَنَتَّخِذَكَ
رَبًّا فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ
غَيْرِ اللَّهِ مَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي اللَّهُ، وَلَا
بِذَلِكَ أَمَرَنِي (3) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ (4) {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أَيْ مَا يَنْبَغِي
لِبَشَرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَتَكَلَّمَ بِهَذَا " (سُورَةُ، النُّورِ الْآيَةُ: 16) أَيْ
مَا يَنْبَغِي لَنَا، وَالْبَشَرُ: جَمِيعُ بَنِي آدَمَ لَا
وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْقَوْمِ وَالْجَيْشِ
وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، {أَنْ يُؤْتِيَهُ
اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ
وَقِيلَ: إِمْضَاءَ الْحُكْمِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
{وَالنُّبُوَّةَ} الْمَنْزِلَةَ الرَّفِيعَةَ
بِالْأَنْبِيَاءِ، {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا
لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا} أَيْ: وَلَكِنْ
يَقُولُ كُونُوا، {رَبَّانِيِّينَ}
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنُ: كُونُوا فُقَهَاءَ عُلَمَاءَ وَقَالَ قَتَادَةُ:
حُكَمَاءَ وَعُلَمَاءَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
الْعَالِمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فُقَهَاءَ مُعَلِّمِينَ.
وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ
الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: عُلَمَاءَ
حُكَمَاءَ نُصَحَاءَ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ، قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَجُلًا عَالِمًا يَقُولُ:
الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، (5) الْعَالِمُ بِأَنْبَاءِ
الْأُمَّةِ (6) مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَقِيلَ:
الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ، وَالْأَحْبَارُ:
الْعُلَمَاءُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ: الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ
الْعِلْمِ الْبَصَارَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ.
قَالَ الْمُؤَرِّجُ: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ تَدِينُونَ
لِرَبِّكُمْ، مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، كَانَ فِي الْأَصْلِ
رَبِّيٌّ فَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ لِلتَّفْخِيمِ، ثُمَّ
أُدْخِلَتِ النُّونُ لِسُكُونِ الْأَلِفِ، كَمَا قِيلَ:
صَنْعَانِيٌّ وَبَهْرَانِيٌّ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ سُمُّوا بِهِ
لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ الْعِلْمَ، وَيَقُومُونَ بِهِ
وَيُرَبُّونَ الْمُتَعَلِّمِينَ بِصِغَارِ الْعُلُومِ
__________
(1) أسباب النزول للواحدي ص (146) .
(2) في ب "ليس" وهو خطأ. وفي الواحدي "الرييس".
(3) في ب: بعثني.
(4) رواه ابن إسحاق في السيرة، وعنه أخرجه الطبري في التفسير:
6 / 539 وانظر: لباب النقول للسيوطي بهامش الجلالين ص 131.
(5) في أ: الآمر والناهي.
(6) الأمة: ساقط من: أ.
(2/60)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا
وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
قَبْلَ كِبَارِهَا، وَكُلُّ مَنْ قَامَ
بِإِصْلَاحِ شَيْءٍ وَإِتْمَامِهِ فَقَدْ رَبَّهُ يَرُبُّهُ،
وَاحِدُهَا: "رَبَّانُ" (كَمَا قَالُوا: رَيَّانُ) (1)
وَعَطْشَانُ وَشَبْعَانُ وَعُرْيَانُ ثُمَّ ضُمَّتْ إِلَيْهِ
يَاءُ النِّسْبَةِ (2) كَمَا قَالُوا: لِحْيَانِيٌّ
وَرَقَبَانِيٌّ.
وَحُكِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
هُوَ الَّذِي يَرُبُّ عِلْمَهُ، بِعَمَلِهِ قَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَنَفِيَّةِ لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْيَوْمَ
مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. {بِمَا كُنْتُمْ} أَيْ:
بِمَا أَنْتُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " مَنْ كَانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا " (سُورَةُ مَرْيَمَ الْآيَةُ 29) أَيْ:
مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ {تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} قَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "
تُعَلِّمُونَ " بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْلِيمِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ " تَعْلَمُونَ " بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْعِلْمِ
كَقَوْلِهِ: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي: تقرؤون.
{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) }
قَوْلُهُ {وَلَا يَأْمُرَكُمْ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ
وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِنَصْبِ الرَّاءِ عَطْفًا عَلَى
قَوْلِهِ: ثُمَّ يَقُولَ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى
الْبَشَرِ، أَيْ: وَلَا يَأْمُرُ ذَلِكَ الْبَشَرُ، وَقِيلَ:
عَلَى إِضْمَارِ "أَنْ" أَيْ: وَلَا أَنْ يَأْمُرَكُمْ ذَلِكَ
الْبَشَرُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، مَعْنَاهُ: وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ،
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ: وَلَا يَأْمُرُكُمْ
مُحَمَّدٌ، {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَابًا} كَفِعْلِ قُرَيْشٍ وَالصَّابِئِينَ حَيْثُ
قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا فِي الْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ مَا
قَالُوا، {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ} قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ
وَالْإِنْكَارِ، يَعْنِي: لَا يَقُولُ هَذَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}
قَرَأَ حَمْزَةُ " لِمَا " بِكَسْرِ اللَّامِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا فَمَنْ كَسَرَ اللَّامَ فَهِيَ لَامُ
الْإِضَافَةِ دَخَلَتْ عَلَى مَا، وَمَعْنَاهُ الَّذِي يُرِيدُ
لِلَّذِي آتَيْتُكُمْ أَيْ: أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ
لِأَجْلِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ
يَعْنِي أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ وَمَنْ فَتَحَ
اللَّامَ فَمَعْنَاهُ: لِلَّذِي آتَيْتُكُمْ بِمَعْنَى
الْخَبَرِ وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْجَزَاءِ أَيْ: لَئِنْ
آتَيْتُكُمْ وَمَهْمَا آتَيْتُكُمْ وَجَوَابُ الْجَزَاءِ
قَوْلُهُ {لَتُؤْمِنُنَّ}
__________
(1) ساقط من أ.
(2) في ب: التشبيه وهو خطأ.
(2/61)
فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
قَوْلُهُ: {لَمَا آتَيْتُكُمْ} قَرَأَ
نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ " آتَيْنَاكُمْ " عَلَى
التَّعْظِيمِ كَمَا قال: " وآتينا داوود زَبُورًا "
(النِّسَاءِ -163) " وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا "
(سُورَةُ مَرْيَمَ 12) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ
لِمُوَافَقَةِ الْخَطِّ وَلِقَوْلِهِ: {وَأَنَا مَعَكُمْ}
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَذَهَبَ
قَوْمٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْذَ الْمِيثَاقِ عَلَى
النَّبِيِّينَ خَاصَّةً أَنْ يُبَلِّغُوا كِتَابَ اللَّهِ
وَرِسَالَاتِهِ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ
بِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَنْصُرَهُ
إِنْ أَدْرَكَهُ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ أَنْ يَأْمُرَ
قَوْمَهُ بِنُصْرَتِهِ إِنْ أَدْرَكُوهُ، فَأَخَذَ الْمِيثَاقَ
مِنْ مُوسَى أَنْ يُؤْمِنَ بِعِيسَى، وَمِنْ عِيسَى أَنْ
يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَقَالَ الْآخَرُونَ: بِمَا أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ
مِنْهُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) (1) فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا: مِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: إِنَّمَا أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ
الَّذِينَ أَرْسَلَ مِنْهُمُ النَّبِيِّينَ، وَهَذَا قَوْلُ
مُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ {ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ
بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} وَإِنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْعُوثًا إِلَى أَهْلِ
الْكِتَابِ دُونَ النَّبِيِّينَ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي
قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ} وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ {وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} فَأَرَادَ: أَنَّ
اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ أَنْ يَأْخُذُوا
الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَدِّقُوهُ
وَيَنْصُرُوهُ إِنْ أَدْرَكُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى
النَّبِيِّينَ، وَأُمَمِهِمْ جَمِيعًا فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ
الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْعَهْدَ مَعَ الْمَتْبُوعِ عَهْدٌ
عَلَى الْأَتْبَاعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ
نَبِيًّا آدَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ
الْعَهْدَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ، وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى
قَوْمِهِ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَئِنْ بُعِثَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ
لَيَنْصُرُنَّهُ.
قَوْلُهُ: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}
يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
{لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى لِلْأَنْبِيَاءِ حِينَ اسْتَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ
مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَنْبِيَاءُ
فِيهِمْ كَالْمَصَابِيحِ وَالسُّرُجِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ
الْمِيثَاقَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إِصْرِي} أَيْ: قَبِلْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ عَهْدِي،
وَالْإِصْرُ: الْعَهْدُ الثَّقِيلُ، {قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ} اللَّهُ تَعَالَى: {فَاشْهَدُوا} أَيْ: فَاشْهَدُوا
أَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى أَتْبَاعِكُمْ، {وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاشْهَدُوا، أَيْ: فَاعْلَمُوا،
وَقَالَ سَعِيدُ بن المسيب 62/ب قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْمَلَائِكَةِ فَاشْهَدُوا عَلَيْهِمْ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ
مَذْكُورٍ.
{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (82) }
{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} الْإِقْرَارِ، {فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ} الْعَاصُونَ الْخَارِجُونَ عَنِ
الْإِيمَانِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من أ.
(2/62)
أَفَغَيْرَ دِينِ
اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا
وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }
(2/63)
قُلْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ
مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا
بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ
هُمُ الضَّالُّونَ (90)
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ
جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ
فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ
يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا
كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ (90) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}
وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا فَادَّعَى كُلُّ
وَاحِدٍ أَنَّهُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ" فَغَضِبُوا وَقَالُوا: لَا
نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ بِدِينِكَ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (1)
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ عَنْ
عَاصِمٍ {يَبْغُونَ} بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَمَا آتَيْتُكُمْ} ، {وَلَهُ
أَسْلَمَ} خَضَعَ وَانْقَادَ، {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} فَالطَّوْعُ: الِانْقِيَادُ
وَالِاتِّبَاعُ بِسُهُولَةٍ، وَالْكُرْهُ: مَا كَانَ
بِمَشَقَّةٍ وَإِبَاءٍ مِنَ النَّفْسِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ {طَوْعًا وَكَرْهًا} قَالَ
الْحَسَنُ: أسلم أهل السموات طَوْعًا وَأَسْلَمَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ بَعْضُهُمْ طَوْعًا وَبَعْضُهُمْ كَرْهًا، خَوْفًا
مِنَ السَّيْفِ وَالسَّبْيِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَوْعًا
الْمُؤْمِنُ، وَكَرْهَا ذَلِكَ الْكَافِرُ، بِدَلِيلِ: "
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ من في السموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا
وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ "
(الرَّعْدِ -15) وَقِيلَ: هَذَا يَوْمُ الْمِيثَاقِ حِينَ
قَالَ لَهُمْ: " أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى "
(الْأَعْرَافِ -172) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: طَوْعًا
وَبَعْضُهُمْ: كَرْهًا، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُؤْمِنُ
أَسْلَمَ طَوْعًا فَنَفَعَهُ، وَالْكَافِرُ أَسْلَمَ كَرْهًا
فِي وَقْتِ الْبَأْسِ فَلَمْ يَنْفَعْهُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: " فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا " (غَافِرِ -85) وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ
اسْتِعَاذَتُهُمْ بِهِ عِنْدَ اضْطِرَارِهِمْ كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: " فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " (الْعَنْكَبُوتِ -65) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: طَوْعًا الَّذِي {وُلِدَ} (2) فِي
الْإِسْلَامِ، وَكَرْهًا الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى
الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يُسْبَى مِنْهُمْ فَيُجَاءُ بِهِمْ فِي
السَّلَاسِلِ، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} قَرَأَ بِالْيَاءِ
حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ كَمَا قَرَأَ {يَبْغُونَ}
بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا إِلَّا
أَبَا عَمْرٍو فَإِنَّهُ قَرَأَ {يَبْغُونَ} بِالْيَاءِ وَ
{تُرْجَعُونَ} بِالتَّاءِ، وَقَالَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ
وَالثَّانِي عَامٌّ، لِأَنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: 4 / 127، البحر المحيط لأبي حيان: 2
/ 514، أسباب النزول للواحدي ص (146) .
(2) ساقط من: أ.
(2/63)
ذَكَرَ الْمِلَلَ وَالْأَدْيَانَ
وَاضْطِرَابَ النَّاسِ فِيهَا، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: {آمَنَّا
بِاللَّهِ} الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ} نَزَلَتْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا
ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ
وَأَتَوْا مَكَّةَ كُفَّارًا، مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ
سُوَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ {وَمَنْ
يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ} لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ جَحْدٌ،
أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: كَيْفَ
يَهْدِيهِمُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ
وَالثَّوَابِ {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا
هُمْ يُنْظَرُونَ} وَذَلِكَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ
لَمَّا لَحِقَ بِالْكُفَّارِ نَدِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى
قَوْمِهِ: أَنْ سَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا
ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) لَمَّا كَانَ مِنْهُ،
فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَقَرَأَهَا
عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ -وَاللَّهِ -مَا
عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَصْدَقُ مِنْكَ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ الْحَارِثُ إِلَى
الْمَدِينَةِ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} قَالَ قَتَادَةُ
وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي
__________
(1) انظر: الطبري: 6 / 573، أسباب النزول ص (147) .
(2/64)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (91)
الْيَهُودِ كَفَرُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَالْإِنْجِيلِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
بِأَنْبِيَائِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِكُفْرِهِمْ (1)
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَوْهُ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ
وَصِفَتِهِ فِي كُتُبِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا يَعْنِي:
ذُنُوبًا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ أَشْرَكُوا
بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ، ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا أَيْ: أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى
هَلَكُوا عَلَيْهِ (2) .
قَالَ الْحَسَنُ: ازْدَادُوا كُفْرًا كُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ
كَفَرُوا بِهَا، فَازْدَادُوا كُفْرًا وَقِيلَ: ازْدَادُوا
كُفْرًا بِقَوْلِهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ رَيْبَ
الْمَنُونِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَحَدَ عَشَرَ مِنْ
أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، لَمَّا رَجَعَ الْحَارِثُ
إِلَى الْإِسْلَامِ أَقَامُوا هُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمَكَّةَ
وَقَالُوا: نُقِيمُ عَلَى الْكُفْرِ مَا بَدَا لَنَا فَمَتَى
أَرَدْنَا الرَّجْعَةَ يَنْزِلُ فِينَا مَا نَزَلَ فِي
الْحَارِثِ، فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ
فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَنَزَلَ فِيمَنْ مَاتَ
مِنْهُمْ كَافِرًا
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}
الْآيَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ وَعَدَ اللَّهُ قَبُولَ تَوْبَةِ مَنْ
تَابَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} قِيلَ: لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ إِذَا (رَجَعُوا فِي حَالِ الْمُعَايَنَةِ) (3)
كَمَا قَالَ: " وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ
إِنِّي تُبْتُ الْآنَ " سُورَةُ النِّسَاءِ الْآيَةُ (18) .
وَقِيلَ هَذَا فِي أَصْحَابِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ حَيْثُ
أَمْسَكُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: نَتَرَبَّصُ
بِمُحَمَّدٍ فَإِنْ سَاعَدَهُ الزَّمَانُ نَرْجِعُ إِلَى
دِينِهِ، لَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ
مُتَرَبِّصُونَ غَيْرُ مُحَقِّقِينَ، وَأُولَئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ
افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ
مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ
الْأَرْضِ} أَيْ: قَدْرُ مَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ مِنْ
شَرْقِهَا إِلَى غَرْبِهَا، {ذَهَبًا} نُصِبَ عَلَى
التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: عِشْرُونَ دِرْهَمًا. {وَلَوِ
افْتَدَى بِهِ} قِيلَ: مَعْنَاهُ لَوِ افْتَدَى بِهِ،
وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
__________
(1) ساقط من: ب وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (148) ، الطبري:
6 / 578 - 579، الدر المنثور: 2 / 258.
(2) انظر: الدر المنثور: 2 / 258 - 259، أسباب النزول ص (148)
.
(3) في ب: إذا وقعوا في الحشرجة.
(2/65)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ
اللَّهُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ
أَكُنْتَ تَفْدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَقُولُ: أَرَدْتُ
مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ
لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ
بِي" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق باب من نوقش الحساب عذب: 11 /
400، وباب صفة الجنة والنار: 11 / 416، وفي الأنبياء باب خلق
آدم وذريته. ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم باب طلب الكافر
الفداء بملء الأرض ذهبا برقم (2805) : 4 / 2160، والمصنف في
شرح السنة: 15 / 242.
(2/66)
لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} يَعْنِي:
الْجَنَّةَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ
وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: التَّقْوَى،
وَقِيلَ: الطَّاعَةَ، وَقِيلَ: الْخَيْرَ، وَقَالَ الْحَسَنُ:
أَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ،
أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ
عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قال: قال 63/أرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ
الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرَّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي
إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ
وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ
صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ
يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى
النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى
الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
أَيْ: مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكُمْ إِلَيْكُمْ، رَوَى
الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ
أَدَاءُ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ
نَسَخَتْهَا آيَةُ الزَّكَاةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ
إِنْفَاقٍ يَبْتَغِي بِهِ الْمُسْلِمُ وَجْهَ اللَّهِ حَتَّى
الثَّمَرَةَ يَنَالُ بِهِ هَذَا الْبِرَّ وَقَالَ عَطَاءٌ:
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ أَيْ: شَرَفَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى
حَتَّى تَتَصَدَّقُوا وَأَنْتُمْ أَصِحَّاءُ أَشِحَّاءُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا زَاهِرُ
بْنُ أَحْمَدَ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا
أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ يَقُولُ "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ
أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبُّ
أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةً
الْمَسْجِدَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ
مِنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب قول الله تعالى: "يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين": 10 / 507، ومسلم
في البر والصلة باب قبح الكذب وحسن الصدق برقم (2607) 4 /
2013، والمصنف في شرح السنة: 13 / 152.
(2/66)
كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
(94)
مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ:
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ
بَيْرُحَاءُ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا
وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
حَيْثُ شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخٍ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. أَوْ
قَالَ: ذَلِكَ مَالُ رَابِحٍ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ
فِيهَا وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ،
فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ"
(1) .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ
جَلُولَاءَ يَوْمَ فُتِحَتْ فَدَعَا بِهَا فَأَعْجَبَتْهُ،
فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ (2) .
وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ
الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا كَانَ شَيْءٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ
مِنْ فُلَانَةٍ، هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى،
قَالَ: لَوْلَا أَنَّنِي لَا أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ
لِلَّهِ لَنَكَحْتُهَا (3) .
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
أَيْ: يَعْلَمُهُ وَيُجَازِي بِهِ.
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا
مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ
فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (94) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} سَبَبُ نُزُولِ
هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ؟ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ لَا يَأْكُلُ
لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا وَأَنْتَ تَأْكُلُهَا،
فَلَسْتَ عَلَى مِلَّتِهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا
لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ" فَقَالُوا: كُلُّ مَا
نُحَرِّمُهُ الْيَوْمَ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا عَلَى نُوحٍ
وَإِبْرَاهِيمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (4) {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يُرِيدُ: سِوَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَلَالًا قَطُّ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة باب الزكاة على الأقارب: 3 / 325،
وفي الوكالة باب إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله: 4 /
493، وفي التفسير تفسير سورة آل عمران باب: "لن تنالوا البر
حتى تنفقوا مما تحبون" 8 / 223. وفي الوصايا والأشربة. وأخرجه
مسلم في الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين. . . برقم
(998) : 2 / 693 والمصنف في شرح السنة: 6 / 189 - 190.
(2) الدر المنثور: 2 / 260 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر.
(3) أخرجه الطبري من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد: 6 / 588،
وانظر: الكافي الشاف لابن حجر ص 27، الدر المنثور: 2 / 260.
(4) انظر: البحر المحيط: 3 / 2، أسباب النزول ص (148) .
(2/67)
{إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى
نَفْسِهِ} وَهُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {مِنْ قَبْلِ
أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} يَعْنِي: لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى
مَا قَالُوا مِنْ حُرْمَةِ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا
عَلَى إِبْرَاهِيمَ، بَلْ كَانَ الْكُلُّ حَلَالًا لَهُ
وَلِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنَّمَا حَرَّمَهَا إِسْرَائِيلُ
عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ، يَعْنِي:
لَيْسَتْ فِي التَّوْرَاةِ حُرْمَتُهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّعَامِ الَّذِي حَرَّمَهُ يَعْقُوبُ
عَلَى نَفْسِهِ وَفِي سَبَبِهِ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ
وَعَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ ذَلِكَ
الطَّعَامُ: لُحْمَانَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا، وَرُوِيَ
أَنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا فَطَالَ سُقْمُهُ
فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ
لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ،
وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانَ الْإِبِلِ
وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَهَا فَحَرَّمَهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ
وَالضَّحَّاكُ: هِيَ الْعُرُوقُ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَكَى عِرْقَ
النَّسَا وَكَانَ أَصْلُ وَجَعِهِ فِيمَا رَوَى جُوَيْبِرٌ
وَمُقَاتِلٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ نَذَرَ
إِنْ وَهَبَهُ اللَّهُ اثَّنَى عَشَرَ وَلَدًا وَأَتَى بَيْتَ
الْمَقْدِسِ صَحِيحًا أَنْ يَذْبَحَ آخِرَهُمْ فَتَلَقَّاهُ
مَلَكٌ [مِنَ الْمَلَائِكَةِ] (1) فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ
إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ فَهَلْ لَكَ فِي الصِّرَاعِ،
فَعَالَجَهُ فَلَمْ يَصْرَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ
فَغَمَزَهُ الْمَلَكُ غَمْزَةً فَعَرَضَ لَهُ عِرْقُ النَّسَا
مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنِّي لَوْ شِئْتُ أَنْ
أَصْرَعَكَ لَفَعَلْتُ وَلَكِنْ غَمَزْتُكَ هَذِهِ الْغَمْزَةَ
لِأَنَّكَ كُنْتَ نَذَرْتَ إِنْ أَتَيْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
صَحِيحًا ذَبَحْتَ آخِرَ وَلَدِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَكَ
بِهَذِهِ الْغَمْزَةِ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجًا، فَلَمَّا
قَدِمَهَا يَعْقُوبُ أَرَادَ ذَبْحَ وَلَدِهِ وَنَسِيَ قَوْلَ
الْمَلَكِ فَأَتَاهُ الْمَلَكُ وَقَالَ: إِنَّمَا غَمَزْتُكَ
لِلْمَخْرَجِ وَقَدْ وُفِّيَ نَذْرُكَ فَلَا سَبِيلَ لَكَ
إِلَى وَلَدِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ
وَالسُّدِّيُّ: أَقْبَلَ يَعْقُوبُ مِنْ حَرَّانَ يُرِيدُ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ هَرَبَ مِنْ أَخِيهِ عِيصُو: وَكَانَ
رَجُلًا بَطِيشًا قَوِيًّا فَلَقِيَهُ مَلَكٌ فَظَنَّ
يَعْقُوبُ أَنَّهُ لِصٌّ فَعَالَجَهُ أَنْ يَصْرَعَهُ فَغَمَزَ
الْمَلَكُ فَخِذَ يَعْقُوبَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ
وَيَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَهَاجَ
بِهِ عِرْقُ النَّسَا وَلَقِيَ مِنْ ذَلِكَ بَلَاءً وَشِدَّةً
وَكَانَ لَا يَنَامُ بِاللَّيْلِ مِنَ الْوَجَعِ، وَيَبِيتُ
وَلَهُ زُقَاءٌ، أَيْ: صِيَاحٌ، فَحَلَفَ يَعْقُوبُ لَئِنْ
شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ عِرْقًا وَلَا طَعَامًا
فِيهِ عِرْقٌ، فَحَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَ بَنُوهُ
بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّبِعُونَ الْعُرُوقَ يُخْرِجُونَهَا مِنَ
اللَّحْمِ.
وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
لَمَّا أَصَابَ يعقوب عرق النس وَصَفَ لَهُ الْأَطِبَّاءُ أَنْ
يَجْتَنِبَ لُحْمَانَ الْإِبِلِ فَحَرَّمَهَا يَعْقُوبُ عَلَى
نَفْسِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
لَحْمَ الْجَزُورِ تَعَبُّدًا لِلَّهِ تَعَالَى: فَسَأَلَ
رَبَّهُ أَنْ يُجِيزَ لَهُ ذَلِكَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى
وَلَدِهِ (2) .
__________
(1) ساقط من: أ.
(2) انظر في هذه الأقوال: الدر المنثور: 2 / 263 - 264.
(2/68)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى
مَا تَعْمَلُونَ (98)
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي حَالِ هَذَا
الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ
نُزُولِ التَّوْرَاةِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ مَا كَانُوا يُحَرِّمُونَهُ
قَبْلَ نُزُولِهَا، وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِنَّمَا كَانَ
مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُ
كَانَ قَدْ قَالَ: لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَا يَأْكُلُهُ
لِي وَلَدٌ، وَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ فِي
التَّوْرَاةِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ
{عَلَيْهِمْ} (1) فِي التَّوْرَاةِ وَإِنَّمَا حُرِّمَ
عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِظُلْمِهِمْ، كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: " فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ " (سُورَةُ
النِّسَاءِ الْآيَةُ 160) وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} إِلَى أَنْ
قَالَ: " ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا
لَصَادِقُونَ " (سُورَةُ الْأَنْعَامِ الْآيَةُ (146)
وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابُوا ذَنْبًا
عَظِيمًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَعَامًا طَيِّبًا أَوْ
صَبَّ عَلَيْهِمْ رِجْزًا وَهُوَ الْمَوْتُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرَامًا
عَلَيْهِمْ وَلَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ،
وَإِنَّمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمُ اتِّبَاعًا
لِأَبِيهِمْ، ثُمَّ أَضَافُوا تَحْرِيمَهُ إِلَى اللَّهِ،
فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: {قُلْ} يَا
مُحَمَّدُ {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} حَتَّى
يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَمَا قُلْتُمْ، {إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} فلم يأتوا. 63/ب فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا
وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
(97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) }
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَإِنَّمَا
دَعَاهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ فِي
اتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ اتِّبَاعُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} سَبَبُ [نُزُولِ هَذِهِ
الْآيَةِ] (2) أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ:
بَيْتُ الْمَقْدِسِ قِبْلَتُنَا، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ
الْكَعْبَةِ وَأَقْدَمُ، وَهُوَ مُهَاجَرُ الْأَنْبِيَاءِ،
وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ
الْفَضَائِلِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
__________
(1) ساقط من: أ.
(2) في أ: سبب نزولها.
(2/69)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةَ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ ظَهَرَ
عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ عِنْدَ خَلْقِ [السَّمَاءِ] (1)
وَالْأَرْضِ، خَلَقَهُ اللَّهُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ
عَامٍ، وَكَانَتْ زُبْدَةً بَيْضَاءَ عَلَى الْمَاءِ
فَدُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ، هَذَا قَوْلُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ بُنِيَ فِي
الْأَرْضِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ تَحْتَ الْعَرْشِ بَيْتًا وَهُوَ
الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ
يَطُوفُوا بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ
سُكَّانُ الْأَرْضِ أَنْ يَبْنُوا فِي الْأَرْضِ بَيْتًا عَلَى
مِثَالِهِ وَقَدْرِهِ، فَبَنَوْا وَاسْمُهُ الضِّرَاحُ،
وَأَمَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا
يَطُوفُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَوْهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ
بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ، فَلَمَّا حَجَّهُ
آدَمُ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: بَرَّ حَجُّكَ يَا آدَمُ
حَجَجْنَا هَذَا الْبَيْتَ قَبْلَكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَيُرْوَى
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ
أَوَّلُ بَيْتٍ بَنَاهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: هُوَ
أَوَّلُ بَيْتٍ مُبَارَكٍ وُضِعَ [فِي الْأَرْضِ] (2) هُدًى
لِلنَّاسِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
قَالَ الضَّحَّاكُ: أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَةُ
وَقِيلَ: أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ يُحَجُّ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: أَوَّلُ بَيْتٍ جُعِلَ قِبْلَةً لِلنَّاسِ. وَقَالَ
الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ: أَوَّلُ مَسْجِدٍ
وَمُتَعَبَّدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ
تُرْفَعَ} يَعْنِي الْمَسَاجِدَ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا
مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ،
أَنَا الْأَعْمَشُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ
التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ
يَقُولُ: قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ
فِي الْأَرْضِ أَوَّلًا؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ،
قُلْتُ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ:
كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ
أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّ فَإِنَّ
الْفَضْلَ فِيهِ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} قَالَ جَمَاعَةٌ:
هِيَ مَكَّةُ نَفْسُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الضحاك، والعرب تعاقبت
بَيْنَ الْبَاءِ وَالْمِيمِ، فَتَقُولُ: سَبَّدَ رَأْسَهُ
وَسَمَّدَهُ وَضَرْبَةُ لَازِبٍ وَلَازِمٍ، وَقَالَ
الْآخَرُونَ: بَكَّةُ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَمَكَّةُ اسْمُ
الْبَلَدِ كُلِّهِ.
وَقِيلَ: بَكَّةُ مَوْضِعُ الْبَيْتِ وَالْمَطَافِ، سُمِّيَتْ
بَكَّةَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكُّونَ فِيهَا، أَيْ
يَزْدَحِمُونَ يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُصَلِّي
بَعْضُهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضٍ وَيَمُرُّ بَعْضُهُمْ بَيْنَ
يَدَيْ بَعْضٍ.
__________
(1) في أ: "السموات".
(2) ساقط من أ.
(3) انظر الطبري: 7 / 19- 22 وقد رجح هذا القول الأخير.
(4) أخرجه البخاري في الأنبياء باب حدثنا موسى بن إسماعيل: 6 /
407، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم (520) : 1 / 370.
(2/70)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ:
سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ
الْجَبَابِرَةِ، أَيْ تَدُقُّهَا فَلَمْ يَقْصِدْهَا جَبَّارٌ
بِسُوءٍ إِلَّا قَصَمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا مَكَّةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ مَائِهَا مِنْ
قَوْلِ الْعَرَبِ: مَكَّ الْفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ
وَامْتَكَّهُ إِذَا امْتَصَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ اللَّبَنِ،
وَتُدْعَى أُمَّ رَحِمٍ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ بِهَا.
{مُبَارَكًا} نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ: ذَا بَرَكَةٍ
{وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} لِأَنَّهُ قِبْلَةُ الْمُؤْمِنِينَ
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {آيَةٌ
بَيِّنَةٌ} عَلَى الْوَاحِدَانِ، وَأَرَادَ مَقَامَ
إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ {آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ} بِالْجَمْعِ فَذَكَرَ مِنْهَا مَقَامَ
إِبْرَاهِيمَ [وَهُوَ الْحَجَرُ] (1) الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِيهِ فَانْدَرَسَ
مِنْ كَثْرَةِ الْمَسْحِ بِالْأَيْدِي، وَمِنْ تِلْكَ
الْآيَاتِ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَالْحَطِيمُ وَزَمْزَمُ
وَالْمَشَاعِرُ كُلُّهَا، وَقِيلَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ
جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَمِنَ الْآيَاتِ فِي الْبَيْتِ أَنَّ
الطَّيْرَ تَطِيرُ فَلَا تَعْلُو فَوْقَهُ، وَأَنَّ
الْجَارِحَةَ إِذَا قَصَدَتْ صَيْدًا فَإِذَا دَخَلَ الصَّيْدُ
الْحَرَمَ كَفَّتْ عَنْهُ، وَإِنَّهُ بَلَدٌ صَدَرَ إِلَيْهِ
الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالْأَوْلِيَاءُ
وَالْأَبْرَارُ، وَإِنَّ الطَّاعَةَ وَالصَّدَقَةَ فِيهَا
تُضَاعَفُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ الزُّهْرِيُّ، أَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ
بْنِ رَبَاحٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ
صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} أَنْ
يُحَاجَّ فِيهِ، وَذَلِكَ بِدُعَاءِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا،
وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَنْ دَخَلَ
الْحَرَمَ أَمِنَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْغَارَةِ، وَهُوَ
الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا
وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ " (سُورَةُ
الْعَنْكَبُوتِ الْآيَةَ 67) وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ
مَنْ دَخَلَهُ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ آمِنًا، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: " لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ " (سُورَةُ الْفَتْحِ الْآيَةَ 27) وَقِيلَ:
هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ تَقْدِيرُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ
فَأَمِّنُوهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَلَا رَفَثَ وَلَا
فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ " (الْبَقَرَةِ -197)
أَيْ: لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا، حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ
قِصَاصًا أَوْ حَدًّا فَالْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ فَلَا
يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ [لَا يُطْعَمُ] (3)
وَلَا يُبَايَعُ وَلَا يُشَارَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ
فَيُقْتَلُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ،
__________
(1) ساقط من: أ.
(2) أخرجه البخاري في الصلاة في مسجد مكة والمدينة باب فضل
الصلاة في مسجد مكة والمدينة: 3 / 63، ومسلم في الحج - باب فضل
الصلاة بمسجدي مكة والمدينة برقم (1395) : 2 / 1013، والمصنف
في شرح السنة: 2 / 335.
(3) ساقط من: أ.
(2/71)
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ
قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاجِبَ بِالشَّرْعِ
يُسْتَوْفَى فِيهِ أَمَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْجَرِيمَةَ فِي
الْحَرَمِ يُسْتَوْفَى فِيهِ عُقُوبَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَمَنْ دَخَلَهُ مُعَظِّمًا لَهُ
مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ آمِنًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} أَيْ: وَلِلَّهِ
فَرْضٌ وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ، قَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ {حِجُّ
الْبَيْتَ} بِكَسْرِ الْحَاءِ فِي هَذَا الْحَرْفِ خَاصَّةً،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ
الْحِجَازِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ وَمَعْنَاهُمَا
وَاحِدٌ.
وَالْحَجُّ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،
عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى
خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وإيتاءِ
الزكاة 64/أوَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) .
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: وَلِوُجُوبِ الْحَجِّ خَمْسُ
شَرَائِطَ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ
وَالْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، فَلَا يَجِبُ عَلَى
الْكَافِرِ وَلَا عَلَى الْمَجْنُونِ، وَلَوْ حَجَّا
بِأَنْفُسِهِمَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِ الْقُرْبَةِ وَلَا حُكْمَ [لِفِعْلِ] (2) الْمَجْنُونِ،
وَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا عَلَى الْعَبْدِ، وَلَوْ
حَجَّ صَبِيٌّ يَعْقِلُ، أَوْ عَبْدٌ يَصِحُّ حَجُّهُمَا
تَطَوُّعًا لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ الْإِسْلَامِ عَنْهُمَا
فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ عُتِقَ الْعَبْدُ بَعْدَمَا
حَجَّ وَاجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ شَرَائِطُ [وُجُوبِ] (3)
الْحَجِّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ ثَانِيًا، وَلَا يَجِبَ
عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} غَيْرَ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَ
فَحَجَّ يَسْقُطُ عَنْهُ فَرَضُ الْإِسْلَامِ.
وَالِاسْتِطَاعَةُ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ
مُسْتَطِيعًا [بِنَفْسِهِ] (4) وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ
مُسْتَطِيعًا بِغَيْرِهِ، أَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ بِنَفْسِهِ
أَنْ يَكُونَ قَادِرًا بِنَفْسِهِ عَلَى الذِّهَابِ وَوَجَدَ
الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ الْخَطِيبُ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ
بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَعَدْنَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان باب دعاؤكم إيمانكم: 1 / 49
ومسلم في الإيمان: باب أركان الإيمان برقم (19) : 1 / 45
والمصنف في شرح السنة: 1 / 17.
(2) في أ: قول.
(3) ساقط من: أ.
(4) في أ: "ببدنه".
(2/72)
ابْنِ عُمَرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَأَلَ
رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: مَا الْحَاجُّ؟ قَالَ: "الشَّعِثُ التَّفِلُ" فَقَامَ
رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْحَجِّ
أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْعَجُّ وَالثَّجُّ" فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: "زَادٌ
وَرَاحِلَةٌ" (1) .
وَتَفْصِيلُهُ: أَنْ يَجِدَ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِمِثْلِهِ،
وَوَجَدَ الزَّادَ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ، فَاضِلًا عَنْ
نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ
وَكُسْوَتُهُمْ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ، وَعَنْ دَيْنٍ
يَكُونُ عَلَيْهِ، وَوَجَدَ رُفْقَةً يَخْرُجُونَ فِي وَقْتٍ
جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ، فَإِنْ خَرَجُوا قَبْلَهُ أَوْ أَخَّرُوا
الْخُرُوجَ إِلَى وَقْتٍ لَا يَصِلُونَ إِلَّا أَنْ يَقْطَعُوا
كُلَّ يَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ لَا يَلْزَمُهُمُ
الْخُرُوجُ [فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ] (2) وَيُشْتَرَطُ أَنْ
يَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنًا فَإِنْ كَانَ فِيهِ خَوْفٌ مِنْ
عَدُوٍّ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ رَصْدِيٍّ يَطْلُبُ
شَيْئًا لَا يَلْزَمُهُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ
الْمَنَازِلُ الْمَأْهُولَةُ مَعْمُورَةً يَجِدُ فِيهَا
الزَّادَ وَالْمَاءَ، فَإِنْ كَانَ زَمَانُ جُدُوبَةٍ
تَفَرَّقَ أَهْلُهَا أَوْ غَارَتْ مِيَاهُهَا فَلَا
يَلْزَمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الرَّاحِلَةَ لَكِنَّهُ
قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ، أَوْ لَمْ يَجِدِ الزَّادَ وَلَكِنْ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ
الْحَجُّ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ فَعَلَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ
يَلْزَمُهُ.
أَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ بِالْغَيْرِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ
الرَّجُلُ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ، بِأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ
بِهِ مَرَضٌ غَيْرُ مَرْجُوِّ الزَّوَالِ، لَكِنْ لَهُ مَالٌ
يُمَكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
لَكِنْ بَذَلَ لَهُ وَلَدُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ الطَّاعَةَ فِي
أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَهُ إِذَا كَانَ
يَعْتَمِدُ صِدْقَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ [يَتَعَلَّقُ]
(3) بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: فُلَانٌ
مُسْتَطِيعٌ لِبِنَاءِ دَارٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَفْعَلُهُ
بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِمَالِهِ أَوْ
بِأَعْوَانِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِبَذْلِ
الطَّاعَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَعْضُوبِ
فِي الْمَالِ.
وَحُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَهُ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ
عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ
خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ
إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ
إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّ فَرِيضَةَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران: 8 / 348،
وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي
المكي وقد تكلم بعض أهل العلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه.
والشافعي في ترتيب المسند: 1 / 284. وأخرجه ابن ماجه في
المناسك باب ما يوجب الحج برقم (2896) : 2 / 967 والدارقطني في
السنن: 2 / 217 والمصنف في شرح السنة: 7 / 14. قال الحافظ ابن
حجر في تلخيص الحبير: 2 / 221: "وطرقه كلها ضعيفة، وقد قال عبد
الحق: إن طرقه كلها ضعيفة، وقال أبو بكر ابن المنذر: لا يثبت
الحديث في ذلك مسندا والصحيح من الروايات رواية الحسن مرسلة".
(2) ساقط من: أ.
(3) في أ: "معلق".
(2/73)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ
أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ:
"نَعَمْ" (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعَالَمِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ
وَعَطَاءٌ: جَحَدَ فَرْضَ الْحَجِّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ
كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ
حَيْثُ قَالُوا: الْحَجُّ إِلَى مَكَّةَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ مَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ ثُمَّ
لَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ كُفْرٌ بِهِ أَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ الْكَلَمَاتِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ،
أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنِ
اللَّيْثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "مَنْ لَمْ تَحْبِسْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ
حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ
إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا" (2) .
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أهل الكتاب لما تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ} أَيْ: لِمَ تَصْرِفُونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ، {مَنْ
آمَنَ تَبْغُونَهَا}
__________
(1) أخرجه البخاري في الحج باب وجوب الحج وفضله: 3 / 378، وفي
باب حج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وباب حج المرأة عن
الرجل، ومسلم في الحج باب الحج عن العاجز لزمانة أو هو محرم
ونحوه برقم (1334) : 2 / 973. والمصنف في شرح السنة: 7 / 25.
(2) روي هذا الحديث بألفاظ متقاربة عن عدد من الصحابة بطرق
ضعيفة، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال العقيلي
والدارقطني: لا يصح فيه شيء. قال ابن حجر: وله طرق أحدها:
أخرجه سعيد بن منصور في السنن وأحمد وأبو يعلى والبيهقي من طرق
عن شريك عن ليث بن أبي سليم عن ابن سابط عن أبي أمامة. . .
وليث: ضعيف وشريك: سيئ الحفظ وقد خالفه سفيان فأرسله. ورواه
أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط.
. . فذكره مرسلا، وذكره ابن أبي شيبة عن ليث مرسلا، وأورده أبو
يعلى من طريق أخرى عن شريك عن ليث مخالفة للإسناد الأول.
والثاني: عن علي مرفوعا: من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت
الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا. . ورواه
الترمذي وقال: غريب وفي إسناده مقال، والحارث يضعّف. كتاب الحج
باب ما جاء من التغليظ في ترك الحج: 3 / 541. والثالث: عن أبي
هريرة مرفوعا، رواه ابن عدي من حديث عبد الرحمن القطابي عن أبي
المهزم وهما متروكان. وله طرق صحيحة إلا أنها موقوفة رواها
سعيد بن منصور والبيهقي عن عمر بن الخطاب. ثم قال: "وإذا انضم
هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط علم أن لهذا الحديث أصلا.
ومحمله على من استحل الترك وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع.
والله أعلم". تلخيص الحبير: 2 / 222 - 223 الكافي الشاف ص 28.
وانظر: نصب الراية للزيلعي: 4 / 410 - 411.
(2/74)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ (100)
تَطْلُبُونَهَا، {عِوَجًا} زَيْغًا
وَمَيْلًا يَعْنِي: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
بَاغِينَ لَهَا عِوَجًا؟ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعِوَجُ
-بِالْكَسْرِ -فِي الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
وَالْعَوَجُ -بِالْفَتْحِ -فِي الْجِدَارِ، وَكُلِّ شَخْصٍ
قَائِمٍ، {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ} [أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا] (1)
نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ
دِينَ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ هُوَ
الْإِسْلَامُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:
إِنَّ شَاسَ بْنَ قَيْسٍ الْيَهُودِيَّ -وَكَانَ شَيْخًا
عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الطَّعْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
-مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي
مَجْلِسِ جَمْعِهِمْ يَتَحَدَّثُونَ، فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ
أُلْفَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ
بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ
الْعَدَاوَةِ، قَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ
بِهَذِهِ الْبِلَادِ لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا
اجْتَمَعُوا بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ شَابًّا مِنَ
الْيَهُودِ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ
وَاجْلِسْ مَعَهُمْ ثُمَّ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا
كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا
تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ بُعَاثٌ يَوْمًا
اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ مَعَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ
الظَّفَرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ
وَتَكَلَّمَ فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ
فَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ
الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ، أَوْسُ بْنُ قِبْطِيٍّ أَحَدُ
بَنِي حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ
أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلَا ثُمَّ
قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ
رَدَدْتُهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا
وَقَالَا قَدْ فَعَلْنَا السِّلَاحَ السِّلَاحَ مَوْعِدُكُمُ
الظَّاهِرَةُ، وَهِيَ حَرَّةٌ فَخَرَجُوا إِلَيْهَا،
وَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى جَاءَهُمْ. فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ
أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ
بَعْدَ إِذْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَقَطَعَ
بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ (2) الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَلَّفَ
بَيْنَكُمْ؟ تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ
كُفَّارًا، اللَّهَ اللَّهَ!! فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا
نزغُة من 64/ب الشَّيْطَانِ وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ
فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَبَكَوْا وَعَانَقَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ
__________
(1) في أ: "أن التوراة فيها مكتوب".
(2) في أ: "إصر".
(2/75)
الْآيَةَ (1) .
{يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} قَالَ جَابِرٌ:
فَمَا رَأَيْتُ قَطُّ يَوْمًا أَقْبَحَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ
آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبَ:
__________
(1) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص 29: "أخرجه الطبري عن يونس
بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن
أبيه، وأخرجه ابن إسحاق في المغازي، وذكره ابن هشام فلم يذكر
إسناد ابن إسحاق، وذكره الثعلبي والواحدي في أسبابه عن زيد ابن
أسلم بغير إسناد". وعزاه السيوطي أيضا لابن المنذر وابن أبي
حاتم وأبي الشيخ. انظر: الدر المنثور: 4 / 278 - 279، أسباب
النزول للواحدي ص (149 - 150) . الطبري: 7 / 55 - 56 وسيرة ابن
هشام: 2 / 556 - 557.
(2/76)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ
وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ
رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى
عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(101) }
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} يَعْنِي: وَلِمَ تَكْفُرُونَ؟
{وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} الْقُرْآنُ،
{وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَمَانِ بَيِّنَانِ:
كِتَابُ اللَّهِ وَنَبِيُّ اللَّهِ أَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ
فَقَدْ مَضَى وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ فَأَبْقَاهُ بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو
الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ الْعَدْلُ،
أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الْعَبْدِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَوْفٍ أَخْبَرَنَا
أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ حِبَّانَ [عَنْ
يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ] (1) قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ
أَرْقَمَ قَالَ: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي
رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُهُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ
الثَّقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى
وَالنُّورُ، فَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَخُذُوا بِهِ
فَحَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ
بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} أَيْ:
يَمْتَنِعْ بِاللَّهِ وَيَسْتَمْسِكْ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ،
{فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} طريقا وَاضِحٍ،
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أَيْ:
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ، وَأَصْلُ الْعِصْمَةِ: الْمَنْعُ، فَكُلُّ
مَانِعٍ شَيْئًا فَهُوَ عَاصِمٌ لَهُ.
__________
(1) زيادة من: ب.
(2) قطعة من حديث أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل
علي بن أبي طالب برقم (2408) : 4 / 1873 - 1874، والمصنف في
شرح السنة: 14 / 117 - 118.
(2/76)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (102) }
قَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ:
كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عَدَاوَةٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَقِتَالٌ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَافْتَخَرَ بَعْدَهُ مِنْهُمْ
رَجُلَانِ: ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمٍ مِنَ الْأَوْسِ وَأَسْعَدُ
بْنُ زُرَارَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، فَقَالَ الْأَوْسِيُّ:
مِنَّا خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ،
وَمِنَّا حَنْظَلَةُ غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنَّا عَاصِمُ
بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَفْلَحَ حَمِيُّ الدَّبْرِ، وَمِنَّا
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ [لِمَوْتِهِ] (1) عَرْشُ
الرَّحْمَنِ وَرَضِيَ اللَّهُ بِحُكْمِهِ فِي بَنِي
قُرَيْظَةَ.
وَقَالَ الْخَزْرَجِيُّ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ أَحْكَمُوا
الْقُرْآنَ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ،
وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَمِنَّا سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ خَطِيبُ الْأَنْصَارِ وَرَئِيسُهُمْ، فَجَرَى
الْحَدِيثُ بَيْنَهُمَا فَغَضِبَا وَأَنْشَدَا الْأَشْعَارَ
وَتَفَاخَرَا، فَجَاءَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ وَمَعَهُمُ
السِّلَاحُ فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
(2) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ
أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْ
تُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَلَا
تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَتَقُومُوا
لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَآبَائِكُمْ
وَأَبْنَائِكُمْ. وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَّقِي
اللَّهَ عَبْدٌ حَقَّ تُقَاتِهِ حَتَّى يَخْزِنَ لِسَانَهُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " (التَّغَابُنِ 16)
فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَيْسَ فِي آلِ
عِمْرَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ إِلَّا هَذَا. (3) .
{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أَيْ:
مُؤْمِنُونَ، وَقِيلَ مُخْلِصُونَ مُفَوِّضُونَ أُمُورَكُمْ
إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ الْفُضَيْلُ: مُحْسِنُونَ
الظَّنَّ بِاللَّهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْعَبْدُوسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدُونَ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ،
أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ
جَرِيرٍ، أَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ
عَلَى الْأَرْضِ لَأَمَرَّتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا
مَعِيشَتَهُمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ طَعَامُهُ وَلَيْسَ لَهُ
طَعَامٌ غَيْرُهُ"؟ (4) .
__________
(1) ساقط من: "أ".
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (151) .
(3) انظر الطبري: 7 / 68 - 69 فقد ذكر الرأيين ولم يرجح أحدهما
ونقل الشيخ محمود شاكر عن النحاس أنه رجح القول بعدم النسخ
فراجعه.
(4) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ما جاء في صفة شراب أهل
النار: 7 / 307، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الزهد باب
صفة النار برقم (4325) 2 / 1446، والحاكم في المستدرك: 2 / 294
وصححه على شرط الشيخين وابن حبان في موارد الظمآن للهيثمي ص
649، والإمام أحمد في المسند: 1 / 301، 338، والمصنف في شرح
السنة: 15 / 246. وعزاه السيوطي أيضا: لابن المنذر وابن أبي
حاتم والطيالسي والطبراني والبيهقي في البعث والنشور. . .
انظر: الدر المنثور: 2 / 284. وانظر تفسير ابن كثير: 1 / 389.
وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1582.
(2/77)
وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى
شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(103) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعًا} الْحَبْلُ: السَّبَبُ الَّذِي [يُتَوَصَّلُ] (1)
بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ وَسُمِّيَ الْإِيمَانُ حَبْلًا
لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى زَوَالِ الْخَوْفِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَعْنَاهُ تَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ
بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ
وَالطَّاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: بِعَهْدِ اللَّهِ، وَقَالَ
قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ
وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ،
وَعِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ"
(2) وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بِحَبْلِ اللَّهِ: أَيْ
بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، {وَلَا تَفَرَّقُوا} كَمَا
__________
(1) في أ: "يوصل".
(2) أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه في فضائل القرآن باب ما
جاء في فضل القرآن: 8 / 218 - 221 وقال: هذا حديث غريب لا
نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث
مقال، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 10 / 482. وله شاهد من
حديث معاذ بن جبل قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الفتن فعظمها فقال علي بن أبي طالب يا رسول الله فما
المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه حديث ما قبلكم. . . . رواه
الطبراني وفيه عمرو بن واقد وهو متروك انظر: مجمع الزوائد: 7 /
165. وأخرجه الدارمي عن عبد الله بن مسعود في فضائل القرآن باب
فضل من قرأ القرآن: 2 / 431، والحاكم في المستدرك: 1 / 555
وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح بن عمر، وقال
الحافظ الذهبي: صالح ثقة أخرج له مسلم لكن إبراهيم بن مسلم
الهجري ضعيف. ورواه الطبراني أيضا قال الهيثمي: 7 / 164: وفيه
إبراهيم بن مسلم الهجري وهو متروك، وابن أبي شيبة في المصنف:
10 / 482 - 483 وعبد الرزاق في المصنف: 2 / 375 من طريق ابن
عيينة عن إبراهيم الهجري، وأورده في كنز العمال من رواية ابن
أبي شيبة وعزاه ابن كثير أيضا لأبي عبيد القاسم بن سلام. تفسير
ابن كثير: 4 / 582. وعزاه ابن حجر للبزار أيضا وإسحاق من طريق
الحارث قال البزار: "لا نعلمه إلا من طريق علي، ولا نعلمه رواه
عنه إلا الحارث. انظر: الكافي الشاف لابن حجر: ص 29. وقال:
الحافظ ابن كثير بعد أن ساق رواية الترمذي: لم ينفرد بروايته
حمزة الزيات، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي
عن الحارث فبرئ حمزة من عهدته. . . . وقصارى هذا الحديث أن
يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم
في رفعه وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله
بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ساق
حديث أبي عبيد عنه. انظر فضائل القرآن الملحق بالتفسير لابن
كثير: 4 / 582.
(2/78)
[افْتَرَقَتِ] (1) الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ،
أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ
سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا
يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَأَنْ
تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّى اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ
لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ
السُّؤَالِ" (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ
الْأَخْبَارِ: كَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَخَوَيْنِ
لِأَبٍ وَأُمٍّ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ بِسَبَبِ
قَتِيلٍ، فَتَطَاوَلَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ وَالْحَرْبُ
بَيْنَهُمْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ إِلَى أَنْ أَطْفَأَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ وَأَلَّفَ
[بَيْنَهُمْ] (3) بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ سَبَبُ أُلْفَتِهِمْ أَنَّ
سُوَيْدَ بْنَ الصَّامِتِ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ
وَكَانَ شَرِيفًا يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ الْكَامِلَ لِجَلَدِهِ
وَنَسَبِهِ، قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
بُعِثَ وَأُمِرَ بِالدَّعْوَةِ، فَتَصَدَّى لَهُ حِينَ سَمِعَ
بِهِ وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى
الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ
مِثْلُ الَّذِي مَعِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَمَا الَّذِي مَعَكَ قَالَ:
مَجَلَّةُ لُقْمَانَ يَعْنِي حِكْمَتَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) اعْرِضْهَا
عَلَيَّ فَعَرَضَهَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَكَلَامٌ حَسَنٌ،
مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ
نُورًا وَهُدًى فَتَلَا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُ إِلَى
الْإِسْلَامِ فَلَمْ [يَبْعُدْ] (5) مِنْهُ وَقَالَ: إِنَّ
هَذَا [لَقَوْلٌ] (6) حَسَنٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ
قِبَلَ يَوْمِ بُعَاثٍ فَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَقُولُونَ: قَدْ
قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ.
ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رافع ومعه
65/أفِئَةٌ مِنْ بَنِي الْأَشْهَلِ فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ
مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمٍ
مِنَ الْخَزْرَجِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فَجَلَسَ
إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا
جِئْتُمْ لَهُ؟ فَقَالُوا: وَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنَا رَسُولُ
اللَّهِ بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ
لَا يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ
الْكِتَابَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ وَكَانَ
غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا
جِئْتُمْ لَهُ، فَأَخَذَ أَبُو الْحَيْسَرِ حَفْنَةً مِنَ
الْبَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسٍ
__________
(1) في أ: "تفرقت".
(2) أخرجه مسلم في الأقضية باب النهي عن كثرة المسائل من غير
حاجة. . . برقم (1715) : 3 / 1340 وأخرج البخاري من حديث
المغيرة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينهى عن
قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 1 / 202 - 203.
(3) في أ: "بين قلوبهم".
(4) زيادة من "أ".
(5) في أ: "يبعده".
(6) في أ: "القرآن".
(2/79)
وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ فَلَعَمْرِي
لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا، فَصَمَتَ إِيَاسٌ وَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ،
وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ
بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ
بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ.
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِظْهَارَ دِينِهِ
وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ
النَّفَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى
قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ،
فَلَقِيَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ
اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا، وَهُمْ سِتَّةُ نَفَرٍ: أَسْعَدُ بْنُ
زُرَارَةَ، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ،
وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الْعَجْلَانِيُّ، وَقُطْبَةُ بْنُ
عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
نَابِيٍّ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، قَالَ: أَمِنَ
مَوَالِي يَهُودَ؟ قَالُوا: نَعَمْ: قَالَ: أَفَلَا
تَجْلِسُونَ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، فَجَلَسُوا
مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَرَضَ
عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ.
قَالُوا: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ بِهِ فِي
الإسلام أن يهودًا كَانُوا مَعَهُمْ بِبِلَادِهِمْ، وَكَانُوا
أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ أَوْثَانٍ
وَشِرْكٍ، وَكَانُوا إِذَا كَانَ مِنْهُمْ شَيْءٌ قَالُوا:
إِنَّ نَبِيًّا الْآنَ مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ
نَتْبَعُهُ وَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ،
فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرِ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ
تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي
تَوَعَّدُكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ،
فَأَجَابُوهُ وَصَدَّقُوهُ وَأَسْلَمُوا، وَقَالُوا: إِنَّا
قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ
الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ وَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَجْمَعَهُمْ بِكَ، وَسَنَقْدُمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ
إِلَى أَمْرِكَ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا
رَجُلَ أَعَزَّ مِنْكَ.
ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا
بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمُوا
الْمَدِينَةَ ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى
فَشَا فِيهِمْ فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ
إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ
وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا
وَهُمْ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَعَوْفٌ، وَمُعَاذٌ ابْنَا
عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ،
وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَعُبَادَةُ بْنُ
الصَّامِتِ، وَيَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَعَبَّاسُ بْنُ
عُبَادَةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ،
وَهَؤُلَاءِ خَزْرَجِيُّونَ وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ
التَّيْهَانِ، وَعُوَيْمِرُ بْنُ سَاعِدَةَ مِنَ الْأَوْسِ،
فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى،
فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، عَلَى أَنْ لَا
يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقُوا وَلَا
يَزْنُوا، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ
الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ، وَإِنَّ سُتِرَ عَلَيْكُمْ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ
إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ، قَالَ:
وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبَ.
قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ الْقَوْمُ بَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ
عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ
يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ
وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَكَانَ مُصْعَبٌ يُسَمَّى
بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى
أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، ثُمَّ إِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ
خَرَجَ بِمُصْعَبٍ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا، مِنْ حَوَائِطِ
بَنِي ظُفَرَ،
(2/80)
فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ وَاجْتَمَعَ
إِلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ: انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ
الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَنَا لِيُسَفِّهَا
ضُعَفَاءَنَا فَازْجُرْهُمَا، فَإِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ
ابْنُ خَالَتِي وَلَوْلَا ذَاكَ لَكَفَيْتُكَهُ، وَكَانَ
سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ سَيِّدَيْ
قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَهُمَا
مُشْرِكَانِ، فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ
ثُمَّ أَقْبَلُ إِلَى مُصْعَبٍ وَأَسْعَدَ وَهُمَا جَالِسَانِ
فِي الْحَائِطِ، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَالَ
لِمُصْعَبٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ
اللَّهَ فِيهِ، قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ
قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا فَقَالَ: مَا جَاءَ
بِكُمْ إِلَيْنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَا إِنْ
كَانَتْ لَكُمَا فِي أَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فَقَالَ لَهُ
مُصْعَبٌ: أَوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ؟ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا
قَبِلْتَهُ وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ،
قَالَ: أَنْصَفْتَ ثُمَّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ
إِلَيْهِمَا فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ وَقَرَأَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَقَالَا وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي
وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فِي
إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا
الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ
أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتَسِلُ
وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ
[ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ
ثَوْبَيْهِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ] (1) ثُمَّ قَامَ
وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي
رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ
مِنْ قَوْمِهِ وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الْآنَ، سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ فَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ
وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ فَلَمَّا نَظَرَ
إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا قَالَ: أَحْلِفَ
بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ
الَّذِي ذَهَبَ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى
النَّادِي قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ
الرَّجُلَيْنِ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا
وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا فَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ،
وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ خَرَجُوا إِلَى
أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيُحَقِّرُوكَ فَقَامَ
سَعْدٌ [مُغْضَبًا] (2) مُبَادِرًا لِلَّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ
بَنِي حَارِثَةَ، فَأَخَذَ الْحَرْبَةِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ
مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا فَلَمَّا رَآهُمَا
مُطْمَئِنِّينَ عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدًا إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ
يَسْمَعَ مِنْهُمَا فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا ثُمَّ
قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: لَوْلَا مَا بَيْنِي
وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي،
تَغْشَانَا فِي دَارِنَا بِمَا نَكْرَهُ وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ
لِمُصْعَبٍ: جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدُ قَوْمِهِ، إِنْ
يَتْبَعْكَ لَمْ يُخَالِفْكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ
مُصْعَبٌ: أَوَ تَقْعُدُ فَتَسْمَعُ فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا
وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا
عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَ سَعْدٌ: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ
الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ
وَقَرَأَ عَلَيْهِ القرآن قالأ 65/ب فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي
وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ: قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فِي
إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ
تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي
هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ،
ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ ثُمَّ [تُصَلِّي] (3)
رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ
وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
أَخَذَ حَرْبَتَهُ فَأَقْبَلَ عَامِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ
وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ
مُقْبِلًا قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ سَعْدٌ
إِلَيْكُمْ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ
عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي
عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟
قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا وَأَيْمَنُنَا
نَقِيبَةً قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ
عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ،
قَالَ: فَمَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ
رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسْلِمَةٌ،
وَرَجَعَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَمُصْعَبٌ إِلَى مَنْزِلِ
أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُو النَّاسَ
إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ
الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ مُسْلِمُونَ وَنِسَاءٌ
مُسْلِمَاتٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ
زَيْدٍ وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ وَوَاقِفٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الشَّاعِرُ،
وَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ فَوَقَفَ بِهِمْ
عَنِ الْإِسْلَامِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَضَى بَدْرٌ
وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ.
قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إِلَى
مَكَّةَ وَخَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ رَجُلًا مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِمْ
مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ فَوَاعَدُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهِيَ
بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةُ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -وَكَانَ قَدْ شَهِدَ ذَلِكَ
-فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ
الَّتِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
أَبُو جَابِرٍ أَخْبَرْنَاهُ وَكُنَّا نَكْتُمُ عَمَّنْ
مَعَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِنَا أَمَرَنَا
فَكَلَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ إِنَّكَ
سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا
وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ
حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، وَدَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ
فَأَسْلَمَ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ مَعَنَا
الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا، فَبِتْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ
مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ
اللَّيْلِ خَرَجْنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِينَ
تَسَلُّلَ الْقَطَا، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ
الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا وَمَعَنَا
امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ
عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ
بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيٍّ أُمُّ مَنِيعٍ إِحْدَى نِسَاءِ
بَنِي سَلَمَةَ، فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ نَنْتَظِرُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إِلَّا
أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ،
وَيَتَوَثَّقَ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ
تَكَلَّمَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ -وَكَانَتِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ هَذَا
الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ خَزْرَجَهَا
وَأَوْسَهَا -إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ
مَنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأَيْنَا وَهُوَ
فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَأَنَّهُ
قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْقِطَاعَ إِلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ
بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ
بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ
فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ
تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ
الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ فَمِنَ الْآنَ فَدَعُوهُ فَإِنَّهُ فِي
عِزٍّ وَمَنَعَةٍ.
قَالَ: فَقُلْنَا قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ: فَتَكَلَّمْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا شِئْتَ.
قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ وَرَغَّبَ
فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ
تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ [أَنْفُسَكُمْ
وَنِسَاءَكُمْ] (4) وَأَبْنَاءَكُمْ، قَالَ: فَأَخَذَ
الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي
__________
(1) زيادة من نشخة "أ".
(2) في أ: "مبغضا" وهو خطأ.
(3) في أ:: "تركع".
(4) ساقطة من: "أ" و"أنفسكم" ساقطة من "ب".
(2/81)
بَعْثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لَنَمْنَعُكَ
مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ
وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.
قَالَ: [فَاعْتَرَضَ] (1) الْقَوْلَ -وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَبُو
الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالًا يَعْنِي
الْعُهُودَ، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ
فَعَلْنَا نَحْنُ ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ
تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ:
الدَّمُ الدَّمُ وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ أَنْتُمْ مِنِّي
وَأَنَا مِنْكُمْ أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ
سَالَمْتُمْ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا
كُفَلَاءَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ كَكَفَالَةِ
الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بن مَرْيَمَ" فَأَخْرَجُوا اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيبًا تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةً مِنَ
الْأَوْسِ.
قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ: إِنَّ الْقَوْمَ
لَمَّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ
نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ هَلْ
تَدْرُونَ عَلَامَا تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ إِنَّكُمْ
تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ،
فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نَهَكَتْ
أَمْوَالَكُمْ مُصِيبَةٌ وَأَشْرَافَكُمْ قَتْلَى
أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ
فَعَلْتُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ
كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا
دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ مِنْ تَهْلُكَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ
الْأَشْرَافِ فَخُذُوهُ فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ.
قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ
وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ" قَالَ:
ابْسُطْ يَدَكَ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ، وَأَوَّلُ مَنْ
ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ثُمَّ
تَتَابَعَ (2) الْقَوْمُ، فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ
رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ مَا سَمِعْتُهُ قَطُّ:
يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ
وَالصُّبَاةِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا
عَدُوُّ اللَّهِ، هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، اسْمَعْ أَيْ
عَدُوَّ اللَّهِ أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ، ثُمَّ
قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفضوا
إِلَى رِحَالِكُمْ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ [لَنَمِيلَنَّ] (3) غَدًا
عَلَى أَهْلِ مِنًى بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ
وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ.
قَالَ فَرَجَعْنَا إِلَى مَضَاجِعِنَا فَنِمْنَا عَلَيْهَا
حَتَّى أَصْبَحْنَا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا
جِلَّةُ قريش حتى جاؤونا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا
مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ جِئْتُمْ صَاحِبَنَا
هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا
__________
(1) في أ: "فعرض".
(2) في أ: (تبايع) .
(3) في ب: (لنملين) .
(2/83)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا،
وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْغَضُ
إِلَيْنَا أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
[مِنْكُمْ] (1) قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ
مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِاللَّهِ: مَا كَانَ
مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ وَصَدَقُوا، وَلَمْ
يَعْلَمُوا، وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، وَقَامَ
الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ [الْمَخْزُومِيُّ] (2) وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ
جَدِيدَانِ، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَةً كَأَنِّي أريد أن
66/أأُشْرِكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا يَا جَابِرُ
أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ
سَادَاتِنَا مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ،
قَالَ فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ
ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إِلَيَّ وَقَالَ: وَاللَّهِ
لَتَنْتَعِلَنَّهُمَا قَالَ يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: مَهْ وَاللَّهِ أَحْفَظْتَ الْفَتَى فَارْدُدْ
إِلَيْهِ نَعْلَيْهِ، قَالَ: لَا أَرُدُّهُمَا فَأْلٌ
-وَاللَّهِ -صَالِحٌ وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ
[لَأَسْلُبَنَّهُ] (3) .
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ الْأَنْصَارُ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَقَدْ شَدَّدُوا الْعَقْدَ، فَلَمَّا قَدِمُوهَا أَظْهَرُوا
الْإِسْلَامَ بِهَا وَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَآذَوْا
أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَصْحَابِهِ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكُمْ
إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ فِيهَا" فَأَمَرَهُمْ
بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاللُّحُوقِ
بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ.
فَأَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَبُو سَلَمَةَ
بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، ثُمَّ عَامِرُ بْنُ
رَبِيعَةَ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ ثُمَّ تَتَابَعَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْسَالًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَمَعَ اللَّهُ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا بِالْإِسْلَامِ،
وَأَصْلَحَ ذَاتَ بَيْنِهِمْ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ} يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ {إِذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً} قَبْلَ الْإِسْلَامِ {فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ} بِالْإِسْلَامِ، {فَأَصْبَحْتُمْ} أَيْ
فَصِرْتُمْ، {بِنِعْمَتِهِ} بِرَحْمَتِهِ وَبِدِينِهِ
الْإِسْلَامِ، {إِخْوَانًا} فِي الدِّينِ وَالْوِلَايَةِ
بَيْنَكُمْ {وَكُنْتُمْ} يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
{عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} أَيْ عَلَى طَرَفِ
حُفْرَةٍ مِثْلِ شَفَا الْبِئْرِ مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ عَلَى
طَرَفِ حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ
الْوُقُوعِ فِيهَا إِلَّا أَنْ تَمُوتُوا عَلَى كُفْرِكُمْ،
{فَأَنْقَذَكُمُ} اللَّهُ {مِنْهَا} بِالْإِيمَانِ، {كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) }
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} أَيْ: كُونُوا أُمَّةً، {مِنْ}
صِلَةٌ لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ "
__________
(1) ساقط من (أ) .
(2) ساقط من (أ) .
(3) في أ: (لأستغلبنه) .
(4) أخرج هذه القصة ابن إسحاق في المغازي 1 / 265 - 266 من
سيرة ابن هشام مع الروض الأنف وعنه أخرجها الطبري في التفسير:
7 / 78 - 79.
(2/84)
(الْحَجِّ -30) لَمْ يُرِدِ اجْتِنَابَ
بَعْضِ الْأَوْثَانِ بَلْ أَرَادَ فَاجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ،
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ {وَلْتَكُنْ} لَامُ الْأَمْرِ،
{يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} إِلَى الْإِسْلَامِ،
{وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، قَالَ أَنَا
عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِبْرَاهِيمُ (1) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، ثَنَا
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ،
عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ
الْخِرَقِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
الطَّيَسْفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ،
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَا عَمْرُو بْنُ
أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ
الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا
يُسْتَجَابُ لَكُمْ" (3) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الدَّرَاوَرْدِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو
النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ
الْقَسْمَلِيُّ، أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ
قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ
الصَّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا
الناس إنكم تقرؤون هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ
إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ
إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ
يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَذَابِهِ" (4) .
__________
(1) في أ: عيسى بن محمد.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من
الإيمان برقم (78) : 1 / 69.
(3) أخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر: 6 / 391 وقال: هذا حديث حسن والإمام أحمد في
المسند: 5 / 388 والمصنف في شرح السنة: 14 / 345. قال الهيثمي:
رواه الطبراني في الأوسط والبزار عن أبي هريرة وفيه حبان بن
علي وهو متروك وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى. مجمع
الزوائد: 7 / 266.
(4) أخرجه أبو دواد في الملاحم باب الأمر والنهي: 6 / 187،
وعزاه المنذري للنسائي، وأخرجه الترمذي في الفتن باب ما جاء في
نزول العذاب إذا لم يغيروا المنكر: 6 / 388 - 389 وفي التفسير
سورة المائدة 8 / 422 - 423 وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه في
الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم (4005) : 2 /
1327 وأحمد في المسند: 1 / 7 وابن حبان ص (455) من موارد
الظمآن والمصنف في شرح السنة: 14 / 344 وأبو بكر المروزي في
مسند أبي بكر الصديق برقم (86 - 88) ص 130 - 131 وقال الحافظ
ابن كثير في التفسير: 2 / 110 " وقد روى هذا الحديث أصحاب
السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن
جماعة كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا ومنهم من
رواه عنهم موقوفا على الصديق. وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره".
وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 4 / 88 - 89.
(2/85)
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(105)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَمْرُو بْنُ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي أَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي
الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُدَاهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ
تَعَالَى وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا
عَلَى سَفِينَةٍ فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ
بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا
يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا،
فَتَأَذَّوْا بِهِ فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ
أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فأتوه فقالوا: مالك؟ فَقَالَ
تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلَا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ (1) فَإِنْ
أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ
وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ" (2)
.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} قَالَ
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى،
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمُبْتَدِعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ،
وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُمُ
الْحَرُورِيَّةُ بِالشَّامِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: وَقَفَ أَبُو أُمَامَةَ
وَأَنَا مَعَهُ عَلَى رَأْسِ (3) الْحَرُورِيَّةِ بِالشَّامِ
فَقَالَ: هُمْ كِلَابُ النَّارِ، كَانُوا مُؤْمِنِينَ
فَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ {وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
{أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
أَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "من سرّه أن
سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ
فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ
أَبْعَدُ" (4) .
__________
(1) في أ: "ماء".
(2) أخرجه البخاري في الشهادات باب القرعة في المشكلات: 5 /
292 بلفظه، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 342 بألفاظ
مقاربة.
(3) في أ: "رؤوس".
(4) قطعة من حديث طويل في خطبة عمر بالجابية، أخرجه الترمذي:
في الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة: 6 / 383 - 386 وقال: هذا
حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد رواه ابن المبارك عن
محمد بن سوقة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخرجه ابن أبي عاصم في
السنة: برقم (86 - 88) : 1 / 42 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد
أهل السنة والجماعة: 1 / 106 - 107 والحاكم في المستدرك: 1 /
114 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وذكر له شاهدين.
والإمام أحمد في المسند 1 / 18 عن عمر رضي الله عنه وصححه
الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم.
(2/86)
يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
(106) }
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} {يَوْمَ}
نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ: فِي يَوْمِ وَانْتِصَابُ
الظَّرْفِ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْمَفْعُولِ، يُرِيدُ:
تَبْيَضُّ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ
الْكَافِرِينَ وَقِيلَ: تَبْيَضُّ وُجُوهُ الْمُخْلِصِينَ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ الْمُنَافِقِينَ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ
تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ
أَهْلِ الْبِدْعَةِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رُفِعَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا
كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، فَيَسْعَى كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا
كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى " (النِّسَاءِ -115) فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ
حَزِنُوا فَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ مِنَ الْحُزْنِ، وَبَقِيَ
أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمْ
يَعْرِفُوا شَيْئًا مِمَّا رُفِعَ لَهُمْ فَيَأْتِيهِمُ
اللَّهُ فَيَسْجُدُ لَهُ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا
مُطِيعًا مُؤْمِنًا وَيَبْقَى أَهْلُ الْكِتَابِ
وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ، ثُمَّ
يُؤْذَنُ لهم فيرفعون رؤوسهم وَوُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلُ
الثَّلْجِ بَيَاضًا وَالْمُنَافِقُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ
إِذَا نَظَرُوا إِلَى وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ حَزِنُوا حُزْنًا
شَدِيدًا فَاسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا
لَنَا مُسْوَدَّةٌ وُجُوهُنَا فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا
مُشْرِكِينَ؟ فَيَقُولُ الله للملائكة: " انظروا كَيْفَ
كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ " (الْأَنْعَامِ -24) .
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: ابْيِضَاضُ الْوُجُوهِ:
إِشْرَاقُهَا واستبشَارُها وسُرورها بعلِمها وَبِثَوَابِ
اللَّهِ، وَاسْوِدَادُهَا: حُزْنُهَا وَكَآبَتُهَا
وَكُسُوفُهَا بِعَمَلِهَا وَبِعَذَابِ اللَّهِ، يَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلَا ذِلَّةٌ " (يُونُسَ -26) وَقَالَ تَعَالَى: "
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ
بِمِثْلِهَا وترهقُهم ذلة " 66/ب (يُونُسَ -27) وَقَالَ: "
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ " (الْقِيَامَةِ 22 -24)
وَقَالَ " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ "
(عَبَسَ 37 -40) .
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} مَعْنَاهُ: يُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ}
(2/87)
وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ
(108)
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وَهُمْ (1) لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟
حُكِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ:
الْإِيمَانَ يَوْمِ الْمِيثَاقِ، حِينَ قَالَ لَهُمْ: أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَقُولُ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ
الْمُنَافِقُونَ تَكَلَّمُوا بِالْإِيمَانِ بِأَلْسِنَتِهِمْ،
وَأَنْكَرُوا بِقُلُوبِهِمْ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، آمَنُوا
بِأَنْبِيَائِهِمْ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا
بِهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ مِنْ أَهْلِ قِبْلَتِنَا، وَقَالَ أَبُو
أُمَامَةَ: هُمُ الْخَوَارِجُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَهْلُ
الْبِدَعِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ،
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
أَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ،
حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ
حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ (2)
وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَنِّي وَمِنْ
أُمَّتِي فَيُقَالُ لِي هَلْ شَعَرْتَ بِمَا عَمِلُوا
بَعْدَكَ؟ وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ". (3) .
وَقَالَ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ
لَيَخْرُجُ مِنْ أهله فما يؤوب إِلَيْهِمْ حَتَّى يَعْمَلَ
عَمَلًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِنَّ الرَّجُلَ
لِيَخْرُجُ مَنْ أَهْلِهِ فَمَا يَعُودُ إِلَيْهِمْ حَتَّى
يَعْمَلَ عَمَلًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ النَّارَ ثُمَّ قَرَأَ
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الْآيَةَ
ثُمَّ نَادَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الْإِيمَانِ
-وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ
الْخِرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيَسْفُونِيُّ،
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ
حُجْرٍ، أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ
الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا
وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ
بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا". (4) .
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ
اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعَالَمِينَ (108) }
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) في أ: "من أمتي".
(3) أخرجه البخاري في كتاب الفتن باب ما جاء في قول الله
تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة": 13 / 3،
ومسلم في الفضائل باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وصفاته برقم (2293) : 4 / 1794 واللفظ له.
(4) أخرجه مسلم في الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل
تظاهر الفتن برقم (118) : 1 / 110 وأخرجه المصنف في شرح السنة:
15 / 15.
(2/88)
|