يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا
يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي
هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ
مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
(115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(117) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك هم
الصالحون}
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} قَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ فِيهِمَا
إِخْبَارٌ عَنِ الْأُمَّةِ الْقَائِمَةِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا لِقَوْلِهِ {كُنْتُمْ
خَيْرَ أُمَّةٍ} وَأَبُو عَمْرٍو يَرَى الْقِرَاءَتَيْنِ
جَمِيعًا وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ تُعْدَمُوا ثَوَابَهُ بَلْ يُشْكَرُ لَكُمْ
وَتُجَازُونَ عَلَيْهِ، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ} بِالْمُؤْمِنِينَ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}
أَيْ: لَا تَدْفَعُ أَمْوَالُهُمْ بِالْفِدْيَةِ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ بِالنُّصْرَةِ شَيْئًا مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ، وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ
يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ تَارَةً بِفِدَاءِ الْمَالِ
وَتَارَةً بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْأَوْلَادِ. {وَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَإِنَّمَا
جَعَلَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهَا لِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا لَا
يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُفَارِقُونَهَا، كَصَاحِبِ
الرَّجُلِ لَا يُفَارِقُهُ.
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} قِيلَ: أَرَادَ نَفَقَاتِ أَبِي سُفْيَانَ
وَأَصْحَابِهِ بِبَدْرٍ وَأُحُدٍ عَلَى عَدَاوَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: نَفَقَةُ الْيَهُودِ عَلَى عُلَمَائِهِمْ،
قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي جَمِيعَ نَفَقَاتِ الْكُفَّارِ
[فِي الدُّنْيَا] (1) وَصَدَقَاتِهِمْ وَقِيلَ: أَرَادَ
إِنْفَاقَ الْمُرَائِي الَّذِي لَا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ
اللَّهِ تَعَالَى، {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [حُكِيَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا
السَّمُومُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَقْتُلُ وَقِيلَ: (2) ]
فِيهَا صِرٌّ أَيْ: صَوْتٌ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ
قَالُوا: فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ، {أَصَابَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ} زَرْعَ قَوْمٍ، {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}
بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى، {فَأَهْلَكَتْهُ}
فَمَعْنَى الْآيَةِ: مَثَلُ نَفَقَاتِ الْكُفَّارِ فِي
ذَهَابِهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَمَثَلِ زَرْعٍ
أَصَابَتْهُ رِيحٌ بَارِدَةٌ فَأَهْلَكَتْهُ أَوْ نَارٌ
فَأَحْرَقَتْهُ فَلَمْ يَنْتَفِعْ أَصْحَابُهُ مِنْهُ
بِشَيْءٍ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} بِذَلِكَ، {وَلَكِنْ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
(2/94)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا
عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ
أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ
قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ
خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ
مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ
قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ
وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ
وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ (119) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} الْآيَةَ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رِجَالٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ الْيَهُودَ لِمَا
بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالصَّدَاقَةِ وَالْحِلْفِ
وَالْجِوَارِ وَالرَّضَاعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ خَوْفَ
الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُصَافُونَ الْمُنَافِقِينَ،
فَنَهَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ (1) فَقَالَ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أَيْ: أَوْلِيَاءَ
وَأَصْفِيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ،
وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ: خَاصَّتُهُ تَشْبِيهًا بِبِطَانَةِ
الثَّوْبِ الَّتِي تَلِي بَطْنَهُ لِأَنَّهُمْ
يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَيَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى مَا
لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي النَّهْيِ عَنْ
مُبَاطَنَتِهِمْ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {لَا
يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} 67/ب أَيْ: لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا
يَتْرُكُونَ جُهْدَهُمْ فِيمَا يُورِثُكُمُ الشَّرَّ
وَالْفَسَادَ، وَالْخَبَالُ: الشَّرُّ وَالْفَسَادُ،
وَنُصِبَ "خَبَالًا" عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَنَّ
يَأْلُو يَتَعَدَّى (2) إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَقِيلَ:
بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ بِالْخَبَالِ كَمَا يُقَالُ
أَوْجَعْتُهُ ضَرْبًا، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أَيْ:
يَوَدُّونَ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ مِنَ الضُّرِّ
وَالشَّرِّ وَالْهَلَاكِ. وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ {قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} أَيِ: الْبُغْضُ، مَعْنَاهُ ظَهَرَتْ
أَمَارَةُ الْعَدَاوَةِ، {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}
بِالشَّتِيمَةِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ،
وَقِيلَ: بِإِطْلَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَسْرَارِ
الْمُؤْمِنِينَ {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} مِنَ
الْعَدَاوَةِ وَالْغَيْظِ، {أَكْبَرُ} أَعْظَمُ، {قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}
{هَا أَنْتُمْ} هَا تَنْبِيهٌ وَأَنْتُمْ كِنَايَةٌ
لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الذُّكُورِ، {أُولَاءِ} اسْمٌ
لِلْمُشَارِ إِلَيْهِمْ يُرِيدُ أَنْتُمْ أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ، {تُحِبُّونَهُمْ} أَيْ: تُحِبُّونَ
هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ نَهَيْتُكُمْ عَنْ
مُبَاطَنَتِهِمْ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي بَيْنَكُمْ مِنَ
__________
(1) انظر أسباب النزول للواحدي (153) تفسير الطبري: 7 /
141 سيرة ابن هشام: 2 / 207.
(2) في أ: "لأن الألو تتعدى".
(2/95)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ
يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
الْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ
وَالْمُصَاهَرَةِ، {وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} هُمْ لِمَا
بَيْنَكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الدِّينِ، قَالَ مُقَاتِلٌ:
هُمُ الْمُنَافِقُونَ يُحِبُّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِمَا
أَظْهَرُوا مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَعْلَمُونَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ، {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}
يَعْنِي: بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
بِكِتَابِكُمْ، {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا} وَكَانَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ {عَضُّوا
عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} يَعْنِي:
أَطْرَافَ الْأَصَابِعِ وَاحِدَتُهَا أُنْمُلَةٌ بِضَمِّ
الْمِيمِ وَفَتْحِهَا، مِنَ الْغَيْظِ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ
ائْتِلَافِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ،
وَعَضُّ الْأَنَامِلِ عِبَارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْغَيْظِ
وَهَذَا مِنْ مَجَازِ الْأَمْثَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
ثَمَّ عَضٌّ، {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} أَيِ: ابْقَوْا
إِلَى الْمَمَاتِ بِغَيْظِكُمْ، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ: بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ
خَيْرٍ وَشَرٍّ.
{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) }
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} أَيْ:
تُصِبْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِكُمْ عَلَى
عَدُوِّكُمْ وَغَنِيمَةٍ تَنَالُونَهَا مِنْهُمْ،
وَتَتَابُعِ النَّاسِ فِي الدُّخُولِ فِي دِينِكُمْ،
وَخِصْبٍ فِي مَعَايِشِكُمْ {تَسُؤْهُمْ} تُحْزِنْهُمْ،
{وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} مَسَاءَةٌ بِإِخْفَاقِ
سَرِيَّةٍ لَكُمْ أَوْ إِصَابَةِ عَدُوٍّ مِنْكُمْ، أَوِ
اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَكُمْ أَوْ جَدْبٍ أَوْ نَكْبَةٍ
تُصِبْكُمْ {يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا} عَلَى
أَذَاهُمْ {وَتَتَّقُوا} وَتَخَافُوا رَبَّكُمْ {لَا
يَضُرُّكُمْ} أَيْ: لَا يَنْقُصُكُمْ، {كَيْدُهُمْ
شَيْئًا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ
الْبَصْرَةِ {لَا يَضُرُّكُمْ} بِكَسْرِ الضَّادِ
خَفِيفَةٍ يُقَالُ: ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا، وَهُوَ جَزْمٌ
عَلَى جَوَابِ الْجَزَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ
الضَّادِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا
مِثْلَ رَدَّ يَرُدُّ رَدًّا وَفِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الْجَزْمَ وَأَصْلُهُ
يَضْرُرْكُمْ فَأُدْغِمَتِ الرَّاءُ فِي الرَّاءِ
وَنُقِلَتْ ضَمَّةُ الرَّاءِ الْأُولَى إِلَى الضَّادِ
وَضُمَّتِ الثَّانِيَةُ اتِّبَاعًا، وَالثَّانِي: أَنْ
يَكُونَ لَا بِمَعْنَى لَيْسَ وَيُضْمَرُ فِيهِ الْفَاءُ
تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَلَيْسَ
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} عَالَمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} قَالَ
الْحَسَنُ: هُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَوْمُ
الْأَحْزَابِ، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ
يَوْمُ أُحُدٍ لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ
آخِرِ السُّورَةِ فِي حَرْبِ أُحُدٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالْوَاقِدِيُّ: غَدَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
مَنْزِلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَمَشَى عَلَى
رِجْلَيْهِ إِلَى أُحُدٍ فَجَعَلَ يَصُفُّ أَصْحَابَهُ
لِلْقِتَالِ كَمَا يُقَوَّمُ الْقِدْحُ (1) .
__________
(1) انظر: الدر المنثور للسيوطي: 2 / 302.
(2/96)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
وَالسُّدِّيُّ عَنْ رِجَالِهِمَا: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ
نَزَلُوا بِأُحُدٍ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَلَمَّا سَمِعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِنُزُولِهِمُ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ وَدَعَا عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ وَلَمْ يَدْعُهُ قَطُّ
قَبْلَهَا فَاسْتَشَارَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ وَأَكْثَرُ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تَخْرُجْ إِلَيْهِمْ،
فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ قَطُّ
إِلَّا أَصَابَ مِنَّا وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا
أَصَبْنَا مِنْهُ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ فِينَا، فَدَعْهُمْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ
مَجْلِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي
وُجُوهِهِمْ وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ
بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا
خَائِبِينَ. فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الرَّأْيُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اخْرُجْ
بِنَا إِلَى هَذِهِ الْأَكْلُبِ، لَا يَرَوْنَ أَنَا
جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي
مَنَامِي بَقَرًا تُذْبَحُ، فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا،
وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلَمًا فَأَوَّلْتُهَا
هَزِيمَةً وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ
حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ
أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ" وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ
يَدْخُلُوا عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ (1) فَيُقَاتِلُوا فِي
الْأَزِقَّةِ فَقَالَ رِجَالٌ (2) مِنَ الْمُسْلِمِينَ
مِمَّنْ فَاتَهُمْ يَوْمُ بَدْرٍ وَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ
بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ: اخْرُجْ بِنَا إِلَى
أَعْدَائِنَا. فَلَمْ يَزَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُبِّهِمْ لِلِقَاءِ
الْقَوْمِ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، فَلَمَّا
رَأَوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلَاحَ نَدِمُوا، وَقَالُوا:
بِئْسَ مَا صَنَعْنَا، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ،
فَقَامُوا وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا: اصْنَعْ مَا
رَأَيْتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ
لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يُقَاتِلَ" (3) .
وَكَانَ قَدْ أَقَامَ الْمُشْرِكُونَ بِأُحُدٍ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ فَرَاحَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
بَعْدَمَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْجُمُعَةَ وَقَدْ مَاتَ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَصَلَّى
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَأَصْبَحَ
بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ
شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ مِنْ
حَرْبِ أُحُدٍ مَا كَانَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} أَيْ: وَاذْكُرْ إِذَا
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ:
تُنْزِلُ الْمُؤْمِنِينَ {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أَيْ:
مَوَاطِنَ، وَمَوَاضِعَ لِلْقِتَالِ، يُقَالُ: بَوَّأْتُ
الْقَوْمَ إذا وطنتهم وتبؤوا هُمْ إِذَا تَوَاطَنُوا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ " (يُونُسَ -93) وَقَالَ "
أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا " (يُونُسَ
-87) وَقِيلَ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرًا، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ}
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) في ب: "رجل".
(3) السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 126 وما بعدها مع الروض
الأنف، المسند للإمام أحمد: 3 / 351، المستدرك للحاكم: 2 /
128 - 129 وصححه ووافقه الذهبي.
(2/97)
إِذْ هَمَّتْ
طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ
وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (122)
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) }
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا}
أَيْ: تَجْبُنَا وَتَضْعُفَا وَتَتَخَلَّفَا
وَالطَّائِفَتَانِ بَنُو سَلَمَةَ
(2/97)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُنْزَلِينَ (124)
مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ
الْأَوْسِ، وَدَنَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ وَذَلِكَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ
إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: فِي
تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا فَلَمَّا بَلَغُوا
الشَّوْطَ (1) انْخَذَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
بِثُلُثِ النَّاسِ ورجع في ثلاث مائة وَقَالَ: عَلَامَ
نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا وَأَوْلَادَنَا؟ فَتَبِعَهُمْ أَبُو
جَابِرٍ السُّلَمِيُّ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ فِي
نَبِيِّكُمْ وَفِي أَنْفُسِكُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُبَيٍّ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ،
وَهَمَّتْ بَنُو سَلَمَةُ وَبَنُو حَارِثَةَ
بِالِانْصِرَافِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ
فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَنْصَرِفُوا فَذَكَّرَهُمُ
اللَّهُ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ (2) فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا
وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} نَاصِرُهُمَا وَحَافِظُهُمَا.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل،
68/أأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ
عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِينَا {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بَنُو سَلَمَةُ وَبَنُو
حَارِثَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ
وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} (3) .
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ
أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
بِبَدْرٍ} وَبَدْرٌ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ، وَعَلَيْهِ
الْأَكْثَرُونَ وَقِيلَ: اسْمٌ لِبِئْرٍ هُنَاكَ، وَقِيلَ:
كَانَتْ بَدْرٌ بِئْرًا لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ بَدْرٌ،
قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَأَنْكَرَ الْآخَرُونَ عَلَيْهِ.
يَذْكُرُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَّتَهُ
عَلَيْهِمْ بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، {وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ} جَمْعُ: ذَلِيلٍ وَأَرَادَ بِهِ قِلَّةَ
الْعَدَدِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ
عَشَرَ رَجُلًا فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ مَعَ قِلَّةِ
عَدَدِهِمْ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ
يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ
فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ أَمَدَّهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ كَمَا
قَالَ: " فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ " (الْأَنْفَالِ -9) ثُمَّ صَارُوا
ثَلَاثَةَ آلَافٍ ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ كَمَا
ذُكِرَ هَاهُنَا {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُنْزَلِينَ}
__________
(1) اسم موضع بين المدينة وأحد. (معجم البلدان) .
(2) انظر: سيرة ابن هشام 2 / 128.
(3) أخرجه البخاري في المغازي باب "إذ همت طائفتان منكم أن
تفشلا. . " 7 / 357.
(2/98)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ (125) }
{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ
آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} فَصَبَرُوا
يَوْمَ بَدْرٍ فَاتَّقَوْا فَأَمَدَّهُمُ اللَّهُ
بِخَمْسَةِ آلَافٍ كَمَا وَعَدَ قَالَ الْحَسَنُ:
وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ آلَافٍ رِدْءُ الْمُؤْمِنِينَ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَمْ تُقَاتِلِ
الْمَلَائِكَةُ فِي الْمَعْرَكَةِ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ،
وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَشْهَدُونَ الْقِتَالَ وَلَا
يُقَاتِلُونَ، إِنَّمَا يَكُونُونَ عَدَدًا وَمَدَدًا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ
أُحُدٍ انْجَلَى الْقَوْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَقِيَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ
يَرْمِي وَفَتًى شَابٌّ يَتَنَبَّلُ لَهُ كُلَّمَا فَنِيَ
النَّبْلُ أَتَاهُ بِهِ فَنَثَرَهُ فَقَالَ ارْمِ أَبَا
إِسْحَاقَ مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا انْجَلَتِ الْمَعْرَكَةُ
سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ يُعْرَفْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ (1) وَمَعَهُ رَجُلَانِ
يُقَاتِلَانِ عَنْهُ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ كَأَشَدِّ
الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ (2) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ
وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ
أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: "رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ
شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ
بيض ما رأبتهما قَبْلُ وَلَا بَعْدُ" يَعْنِي: جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ (3) .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ
بَدْرٍ: أَنَّ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيَّ
يُرِيدُ أَنْ يَمُدَّ الْمُشْرِكِينَ فَشَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَنْ
يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ
{مُسَوِّمِينَ} فَبَلَغَ كُرْزًا الْهَزِيمَةُ فَرَجَعَ
فَلَمْ يَأْتِهِمْ وَلَمْ يَمُدَّهُمْ فَلَمْ يَمُدَّهُمُ
اللَّهُ أَيْضًا بِالْخَمْسَةِ آلَافٍ، وَكَانُوا قَدْ
أُمِدُّوا بِأَلْفٍ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّمَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ إِنْ صَبَرُوا عَلَى
طَاعَتِهِ وَاتَّقَوْا مَحَارِمَهُ: أَنْ يَمُدَّهُمْ
أَيْضًا فِي حُرُوبِهِمْ كُلِّهَا فَلَمْ يَصْبِرُوا
إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، فَأَمَدَّهُمُ اللَّهُ
حَتَّى حَاصَرُوا قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، قَالَ
__________
(1) في أ: "بدر" وانظر: فتح الباري: 7 / 349.
(2) أخرجه البخاري في المغازي باب: "إذ همت طائفتان منكم
أن تفشلا" 7 / 358، وفي اللباس باب الثياب البيض، ومسلم في
الفضائل باب قتال جبريل وميكائيل عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد برقم (2306) : 4 / 1802،
والمصنف في شرح السنة: 13 / 292.
(3) أخرجه مسلم في الفضائل باب في قتال جبريل وميكائيل عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. .برقم (2306) :
4 / 1802.
(2/99)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: كُنَّا
مُحَاصِرِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ (1) مَا شَاءَ اللَّهُ
فَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْنَا فَرَجَعْنَا فَدَعَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُسْلٍ
فَهُوَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَقَالَ: وَضَعْتُمْ أَسْلِحَتَكُمْ وَلَمْ
تَضَعِ الْمَلَائِكَةُ أَوْزَارَهَا؟ فَدَعَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِرْقَةٍ
فَلَفَّ بِهَا رَأْسَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ، ثُمَّ نَادَى
فِينَا فَقُمْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قُرَيْظَةَ
وَالنَّضِيرَ (2) فَيَوْمَئِذٍ أَمَدَّنَا اللَّهُ
تَعَالَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ،
فَفَتَحَ لَنَا فَتْحًا يَسِيرًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعِكْرِمَةُ: كَانَ هَذَا يَوْمَ
أُحُدٍ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْمَدَدَ إِنْ صَبَرُوا فَلَمْ
يَصْبِرُوا فَلَمْ يُمَدُّوا بِهِ (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ}
وَالْإِمْدَادُ: إِعَانَةُ الْجَيْشِ بِالْجَيْشِ،
وَقِيلَ: مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الْقُوَّةِ
وَالْإِعَانَةِ يُقَالُ فِيهِ: أُمِدُّهُ إِمْدَادًا وَمَا
كَانَ عَلَى جِهَةِ الزِّيَادَةِ يُقَالُ: مَدَّهُ مَدًّا،
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ "
(لُقْمَانَ -27) وَقِيلَ: الْمَدُّ فِي الشَّرِّ
وَالْإِمْدَادُ فِي الْخَيْرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: " وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
" (الْبَقَرَةِ -15) " وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ
مَدًّا " (مَرْيَمَ -79) وَقَالَ فِي الْخَيْرِ: {أَنِّي
مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
وَقَالَ: " وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ "
(الْإِسْرَاءِ -26) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ
بِتَشْدِيدِ الزَّايِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: " وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةَ " (سُورَةُ الْأَنْعَامِ -111) وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
" لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ "
(الْفَرْقَانِ -21) وَقَوْلُهُ: " وَأَنْزَلَ جُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا " (التَّوْبَةِ -26) .
ثُمَّ قَالَ: {بَلَى} نَمُدُّكُمْ (4) {إِنْ تَصْبِرُوا}
لِعَدُوِّكُمْ {وَتَتَّقُوا} أَيْ: مُخَالَفَةَ
نَبِيِّكُمْ {وَيَأْتُوكُمْ} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {مِنْ
فَوْرِهِمْ هَذَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَأَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: مِنْ وَجْهِهِمْ (5) هَذَا، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا،
لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا رَجَعُوا لِلْحَرْبِ يَوْمَ أُحُدٍ
مِنْ غَضَبِهِمْ لِيَوْمِ بَدْرٍ، {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ
بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} لَمْ يُرِدْ
خَمْسَةَ آلَافٍ سِوَى مَا ذَكَرَ (6) مِنْ ثَلَاثَةِ
آلَافٍ بَلْ أَرَادَ مَعَهُمْ وَقَوْلُهُ {مُسَوِّمِينَ}
أَيْ: مُعَلِّمِينَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو
وَعَاصِمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِفَتْحِهَا فَمَنْ كَسَرَ الْوَاوَ فَأَرَادَ أَنَّهُمْ
سَوَّمُوا خَيْلَهُمْ وَمَنْ فَتَحَهَا أَرَادَ بِهِ
أَنْفُسَهُمْ، وَالتَّسْوِيمُ: الْإِعْلَامُ مِنَ
السَّوْمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ.
__________
(1) لم يرد في كتب السيرة أن قريظة والنضير حوصروا في زمن
واحد كما توهمه الرواية هنا وانظر: السيرة النبوية لابن
هشام: 2 / 194 وما بعدها مع الروض الأنف، طبقات ابن سعد: 2
/ 57 و74.
(2) انظر: المصنف لابن أبي شيبة 14 / 424 الاكتفاء في
مغازي رسول الله. . .للكلاعي: 2 / 176.
(3) في ب "يمددهم".
(4) في أ: يمددكم.
(5) في أ: "وجوههم".
(6) في أ: ذكرنا.
(2/100)
وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا
خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعَلَامَةِ
فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَتِ
الْمَلَائِكَةُ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ
صُفْرٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ: كَانَتْ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ بِيضٌ قَدْ
أَرْسَلُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، (وَقَالَ هِشَامُ بْنُ
عُرْوَةَ وَالْكَلْبِيُّ: عَمَائِمُ صُفْرٌ مُرَخَّاةٌ
عَلَى أَكْتَافِهِمْ) (1) وَقَالَ الضَّحَّاكُ
وَقَتَادَةُ: كَانُوا قَدْ أَعْلَمُوا بِالْعِهْنِ فِي
نَوَاصِي الْخَيْلِ وَأَذْنَابِهَا، وَرُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: "تَسَوَّمُوا فَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ
فِي قَلَانِسِهِمْ وَمَغَافِرِهِمْ" (2) .
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ
يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (129) }
قَوْلُهُ تَعَالِي (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ) يَعْنِي هَذَا
الْوَعْدَ وَالْمَدَدَ، (إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ) أَيْ:
بِشَارَةً لِتَسْتَبْشِرُوا بِهِ (وَلِتَطْمَئِنَّ)
وَلِتَسْكُنَ (قُلُوبُكُمْ بِهِ) فَلَا تَجْزَعُوا مِنْ
كَثْرَةِ عَدُوِّكُمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ (وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ) يَعْنِي: لَا تُحِيلُوا بِالنَّصْرِ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ وَالْجُنْدِ، فَإِنَّ النَّصْرَ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَعِينُوا بِهِ وَتَوَكَّلُوا
عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِزَّ وَالْحُكْمَ لَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا} يَقُولُ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ
لِيَقْطَعَ طَرَفًا أَيْ: لِكَيْ يُهْلِكَ طَائِفَةً مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ
لِيَهْدِمَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الشِّرْكِ بِالْقَتْلِ
وَالْأَسْرِ، فَقُتِلَ مِنْ قَادَتِهِمْ وَسَادَتِهِمْ
يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ وَمَنْ حَمَلَ
الْآيَةَ عَلَى حَرْبِ أُحُدٍ فَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ وَكَانَتِ النُّصْرَةُ
لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى خَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْقَلَبَ
عَلَيْهِمْ، {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
يَهْزِمَهُمْ وَقَالَ يَمَانٌ: يَصْرَعُهُمْ
لِوُجُوهِهِمْ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَلْعَنُهُمْ، وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ: يُهْلِكُهُمْ، وَقِيلَ: يُحْزِنُهُمْ،
وَالْمَكْبُوتُ: الْحَزِينُ وَقِيلَ أَصْلُهُ:
يَكْبِدَهُمْ أَيْ: يُصِيبُ الحزن والغيظ 68/ب
أَكْبَادَهُمْ، وَالتَّاءُ وَالدَّالُ يَتَعَاقَبَانِ
كَمَا يُقَالُ سَبَتَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ: إِذَا
حَلَقَهُ، وَقِيلَ: يَكْبِتُهُمْ بِالْخَيْبَةِ،
{فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا
كَانُوا يَرْجُونَ مِنَ الظَّفَرِ بِكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}
الْآيَةَ، اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
فَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ
__________
(1) زيادة من "أ".
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجهاد: 12 / 261
من طريق محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن عمير بن إسحاق قال.
. . وأخرجه أيضا في المغازي: 14 / 358 من طريق أبي أسامة
عن ابن عون عن عمير بن إسحاق مرسلا، ورواه الطبري في
التفسير: 7 / 186. وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح عن
عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد. . فذكره. . ورواه ابن سعد
في الطبقات: 2 / 16. وانظر: الكافي الشاف لابن حجر ص (31)
.
(2/101)
فِي أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهُمْ
سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْقُرَّاءِ، بَعَثَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِئْرِ
مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ أُحُدٍ
لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ
أَمِيرُهُمُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَتَلَهُمْ
عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا،
وَقَنَتَ شَهْرًا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا يَدْعُو عَلَى
جَمَاعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ بِاللَّعْنِ
وَالسِّنِينَ فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ} (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا حِبَّانُ
بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ
الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
حَدَّثَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ
مِنَ الْفَجْرِ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا
وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
(2) .
وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ
الْغَافِرِ (3) بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ
الْحَجَّاجِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
بْنِ قَعْنَبٍ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِي
رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلِتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ:
"كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا [رَأْسَ] (4)
نَبِيِّهِمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ
يَدْعُوهُمْ إِلَى (5) [اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ] فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}
(6) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ
أَبَا سُفْيَانَ اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ
هِشَامٍ، اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ"
فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ
يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ
(7) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ (8) لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ يَوْمَ
أُحُدٍ مَا
__________
(1) انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير باب ليس لك من الأمر
شيء: 8 / 225 - 226.
(2) أخرجه البخاري في المغازي باب ليس لك من الأمر شيء أو
يتوب عليهم: 7 / 365.
(3) في "أ": عبد الغفار.
(4) زيادة من "ب".
(5) في "أ": يدعوهم إلى الإسلام.
(6) أخرجه البخاري في المغازي: باب ليس لك من الأمر شيء أو
يتوب عليهم: 7 / 365 ومسلم في الجهاد باب غزوة أحد برقم
(1791) : 3 / 1417.
(7) أخرجه البخاري عن ابن عمر بلفظ:"كان رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على صفوان بن أمية وسهيل
بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت: ليس لك من الأمر شيء" في
المغازي باب ليس لك من الأمر شيء: 7 / 365. وبلفظ المصنف
أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران: 8 / 355 -
356 وقال: هذا حديث حسن غريب يستغرب من حديث عمر بن حمزة
عن سالم وكذا رواه الزهري عن سالم عن أبيه. وأحمد في
المسند: 2 / 93.
(8) انظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 141.
(2/102)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
بِأَصْحَابِهِمْ مِنْ جَدْعِ الْآذَانِ
وَالْأُنُوفِ وَقَطْعِ الْمَذَاكِيرِ، قَالُوا: لَئِنْ
أَدَالَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ لَنَفْعَلَنَّ
بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا، وَلَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ
مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ
بِأَحَدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ
فِيهِمْ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسْلِمُونَ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}
أَيْ: لَيْسَ إِلَيْكَ، فَاللَّامُ بِمَعْنَى "إِلَى"
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا
مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ " (سُورَةُ آلِ
عِمْرَانَ -193) أَيْ: إِلَى الْإِيمَانِ: قَوْلُهُ
تَعَالَى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (قَالَ بَعْضُهُمْ:
مَعْنَاهُ حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (2) أَوْ: إِلَى
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: هُوَ نَسَقٌ عَلَى
قَوْلِهِ "لِيَقْطَعَ طَرَفًا" وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ لَكَ
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} اعْتِرَاضٌ بَيْنَ نَظْمِ
الْكَلَامِ وَنَظْمِ الْآيَةِ (3) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ،
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الْأَمْرُ
أَمْرِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ (131) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا
أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} أَرَادَ بِهِ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَهُ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ مِنْ
زِيَادَةِ الْمَالِ وَتَأْخِيرِ الطَّلَبِ، {وَاتَّقُوا
اللَّهَ} فِي أَمْرِ الرِّبَا فَلَا تَأْكُلُوهُ،
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فَقَالَ: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (132) }
__________
(1) انظر: الطبري: 7 / 198.
(2) زيادة من "ب".
(3) في "ب" جاءت العبارة هكذا: اعتراض بين اللام ونظم
الآية.
(2/103)
وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) }
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} لِكَيْ تُرْحَمُوا.
{وَسَارِعُوا} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ
سَارِعُوا بِلَا وَاوٍ، {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
أَيْ بَادِرُوا وَسَابِقُوا إِلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي
تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ.
(2/103)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (134)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: إِلَى الْإِسْلَامِ، وَرُوِيَ عَنْهُ: إِلَى
التَّوْبَةِ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِلَى أَدَاءِ
الْفَرَائِضِ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِلَى
الْهِجْرَةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَى الْجِهَادِ،
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهَا التَّكْبِيرَةُ
الْأُولَى.
{وَجَنَّةٍ} أَيْ وَإِلَى جَنَّةٍ {عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أَيْ: عرضها كعرض السموات
وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: "
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ "
(سُورَةُ الْحَدِيدِ -21) أَيْ: سَعَتُهَا، وَإِنَّمَا
ذُكِرَ الْعَرْضُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ طُولَ
كُلِّ شَيْءٍ فِي الْأَغْلَبِ أَكْثَرُ مِنْ عَرْضِهِ
يَقُولُ: هَذِهِ صِفَةُ عَرْضِهَا فَكَيْفَ طُولُهَا؟
قَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا وَصَفَ عَرْضَهَا فَأَمَّا
طُولُهَا فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا عَلَى
التَّمْثِيلِ لا أنها كالسموات وَالْأَرْضِ لَا غَيْرَ،
معناه: كعرض السموات السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ
عِنْدَ ظَنِّكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " خَالِدِينَ
فِيهَا ما دامت السمواتُ وَالْأَرْضُ " (سُورَةُ هُودٍ
-107) يَعْنِي: عِنْدَ ظَنِّكُمْ وَإِلَّا فُهُمَا
زَائِلَتَانِ، وَرُوِيَ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ
نَاسًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَقَالُوا: أَرَأَيْتُمْ قَوْلَهُ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ
عُمَرُ: أَرَأَيْتُمْ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ أَيْنَ
يَكُونُ النَّهَارُ، وَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ أَيْنَ
يَكُونُ اللَّيْلُ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَمِثْلُهَا فِي
التَّوْرَاةِ (1) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ
اللَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ " (سُورَةُ
الذَّارِيَاتِ -22) وَأَرَادَ بِالَّذِي وَعَدَنَا:
الْجَنَّةَ فَإِذَا كَانَتِ الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ
فَكَيْفَ يكون عرضُها السموات وَالْأَرْضَ؟ وَقِيلَ: إِنَّ
بَابَ الْجَنَّةِ فِي السماء وعرضها السموات وَالْأَرْضُ
كَمَا أَخْبَرَ، وَسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْجَنَّةِ: أَفِي السَّمَاءِ أَمْ
فِي الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: وَأَيُّ أَرْضٍ وَسَمَاءٍ تَسَعُ
الْجَنَّةَ؟ قِيلَ: فَأَيْنَ هِيَ؟ قال: فوق السموات
السَّبْعِ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا
يَرَوْنَ أَنَّ الجنة فوق السموات السَّبْعِ وَأَنَّ
جَهَنَّمَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ {أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ}
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) }
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}
أَيْ: فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَ
مِنْ أَخْلَاقِهِمُ الْمُوجِبَةِ لِلْجَنَّةِ ذِكْرُ
السَّخَاوَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ. أَخْبَرَنَا
أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 7 / 133، وأخرج ابن حبان عن
أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا محمد: أرأيت جنة عرضها السموات
والأرض فأين النار؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أرأيت هذا الليل قد كان ثم ليس شيء أين جعل؟
قال: الله أعلم. قال: فإن الله يفعل ما يشاء". موارد
الظمآن ص (428) ورواه الحاكم في المستدرك: 1 / 36 وصححه
على شرط الشيخين وقال الهيثمي في المجمع: 6 / 327: "رواه
البزار ورجاله رجال الصحيح". وانظر: تفسير الطبري بتعليق
الشيخ شاكر: 7 / 212.
(2/104)
وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
أَبُو عَمْرٍو الْفُرَاتِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْعَنْبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
حَازِمٍ الْبَغَوِيُّ بِمَكَّةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو
صَالِحِ بْنُ أَيُّوبَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ
قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ،
وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ
الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ،
وَالْجَاهِلُ السَّخِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ
عَابِدٍ بَخِيلٍ" (1) .
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أَيِ: الْجَارِعِينَ
الْغَيْظَ عِنْدَ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنْهُ،
وَالْكَظْمُ: حَبْسُ الشَّيْءِ عند امتلائه 69/أوَكَظْمُ
الْغَيْظِ أَنْ يَمْتَلِئَ غَيْظًا فَيَرُدُّهُ فِي
جَوْفِهِ وَلَا يُظْهِرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "
إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ " (سُورَةُ
غَافِرٍ -18) أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَمْرٍو الْفُرَاتِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ
الْحَسَنُ بن محمد الإسفرايني، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ زَكَرِيَّا الْعَلَّانِيُّ،
أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي أَخْبَرَنَا سَعِيدُ
بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَرْحُومٍ
عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ
عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى
يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ ". (2) .
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنِ
الْمَمْلُوكِينَ سُوءَ الْأَدَبِ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ: عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَأَسَاءَ
إِلَيْهِمْ. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(135) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً
أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: يَا
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في السخاء: 6
/ 95 - 96 وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث يحيى بن
سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمد وقد
خولف سعيد بن محمد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد
إنما يروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل. قال الهيثمي
في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعيد بن
محمد الوراق وهو ضعيف. المجمع: 3 / 127. وانظر: فيض القدير
للمناوي: 4 / 139.
(2) أخرجه أبو دواد في الأدب باب فيمن كظم غيظا: 7 / 164
قال: المنذري وسهل بن معاذ بن أنس الجهني: ضعيف والذي روى
عنه هذا الحديث: أبو مرحوم عبد الرحيم بم ميمون الليثي
مولاهم المصري ولا يحتج بحديثه. وأخرجه الترمذي في البر
والصلة باب في كظم الغيظ: 6 / 166 وقال: هذا حديث حسن غريب
وأخرجه في القيامة أيضا. وأخرجه ابن ماجه في الزهد باب
الحلم برقم (4186) : 2 / 1400، وأحمد في المسند: 3 / 438.
وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 2 / 317: لعبد بن حميد
والبيهقي في الشعب.
(3) في المطبوع هذه الزيادة: "عن الثوري: الإحسان أن تحسن
إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن تجارة". وليست في
النسختين المخطوطتين.
(2/105)
رَسُولَ اللَّهِ كَانَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا، كَانَ
أَحَدُهُمْ إِذَا أَذْنَبَ أَصْبَحَتْ كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ
مَكْتُوبَةً فِي عَتَبَةِ بَابِهِ اجْدَعْ أَنْفَكَ
وَأُذُنَكَ، افْعَلْ كَذَا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي نَبْهَانَ التَّمَّارِ
وَكُنْيَتُهُ أَبُو مَعْبَدٍ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ
تَبْتَاعُ مِنْهُ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا إِنَّ هَذَا
التَّمْرَ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَفِي الْبَيْتِ أَجْوَدُ
مِنْهُ فَذَهَبَ بِهَا إِلَى بَيْتِهِ فَضَمَّهَا إِلَى
نَفْسِهِ وَقَبَّلَهَا فَقَالَتْ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ
فَتَرَكَهَا وَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ فَأَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (2) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُمَا مِنَ الْأَنْصَارِ وَالْآخَرُ مِنْ ثَقِيفٍ
فَخَرَجَ الثَّقَفِيُّ فِي غَزَاةٍ وَاسْتَخْلَفَ
الْأَنْصَارِيَّ عَلَى أَهْلِهِ فَاشْتَرَى لَهُمُ
اللَّحْمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ
أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ دَخَلَ عَلَى أَثَرِهَا وَقَبَّلَ
يَدَهَا، ثُمَّ نَدِمَ وَانْصَرَفَ وَوَضَعَ التُّرَابَ
عَلَى رَأْسِهِ وَهَامَ عَلَى وَجْهِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ
الثَّقَفِيُّ لَمْ يَسْتَقْبِلْهُ الْأَنْصَارِيُّ
فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَتْ: لَا
أَكْثَرَ اللَّهُ فِي الْإِخْوَانِ مِثْلَهُ وَوَصَفَتْ
لَهُ الْحَالَ، وَالْأَنْصَارِيُّ يَسِيحُ فِي الْجِبَالِ
تَائِبًا مُسْتَغْفِرًا، فَطَلَبَهُ الثَّقَفِيُّ حَتَّى
وَجَدَهُ فَأَتَى بِهِ أَبَا بَكْرٍ رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ
عِنْدَهُ رَاحَةً وَفَرَجًا. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ:
هَلَكْتُ: وَذَكَرَ لَهُ الْقِصَّةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
وَيْحَكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يغار
للغازي مالا يَغَارُ لِلْمُقِيمِ، ثُمَّ أَتَيَا عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَتَيَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}
(3) يَعْنِي: قَبِيحَةً خَارِجَةً عَمَّا أَذِنَ اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ فِيهِ، وَأَصْلُ الْفُحْشِ الْقُبْحُ
وَالْخُرُوجُ عَنِ الْحَدِّ قَالَ جَابِرٌ: الْفَاحِشَةُ
الزِّنَا.
{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} مَا دُونَ الزِّنَا مِنَ
الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْفَاحِشَةُ مَا دُونَ
الزِّنَا مِنْ قُبْلَةٍ أَوْ لَمْسَةٍ أَوْ نَظْرَةٍ
فِيمَا لَا يَحِلُّ أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بِالْمَعْصِيَةِ.
وَقِيلَ: فَعَلُوا فَاحِشَةَ الْكَبَائِرِ، أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ بِالصَّغَائِرِ.
وَقِيلَ: فَعَلُوا فَاحِشَةً فِعْلًا أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ قَوْلًا.
__________
(1) أخرجه الطبري: 7 / 219، والواحدي في أسباب النزول ص
(119) بسنده عن عطاء وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 2 /
326؛ لابن المنذر عن ابن عباس.
(2) أسباب النزول للواحدي ص (118) وذكر القصة الحافظ ابن
حجر في الإصابة: 6 / 418 - 419 في ترجمة نبهان التمار.
قال: ذكر مقاتل بن سليمان في تفسيره عن الضحاك عن ابن
عباس. . . ثم قال: وهكذا أخرجه عبد الغني بن سعيد الثقفي
في تفسيره عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن
ابن عباس مطولا. ومقاتل: متروك والضحاك: لم يسمع من ابن
عباس. وعبد الغني وموسى: هالكان. وأورد هذه القصة: الثعلبي
والمهدوي ومكي والماوردي في تفاسيرهم بغير سند.
(3) أسباب النزول للواحدي ص (118) بدون إسناد والكلبي
ضعيف.
(2/106)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعَامِلِينَ (136)
{ذَكَرُوا اللَّهَ} أَيْ: ذَكَرُوا وَعِيدَ
اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ، وَقَالَ مُقَاتِلُ
بْنُ حَيَّانَ: ذَكَرُوا اللَّهَ بِاللِّسَانِ عِنْدَ
الذُّنُوبِ.
{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} أَيْ: وَهَلْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} أَيْ: لَمْ
يُقِيمُوا وَلَمْ يَثْبُتُوا عَلَيْهِ وَلَكِنْ تَابُوا
وَأَنَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا، وَأَصْلُ الْإِصْرَارِ:
الثَّبَاتُ عَلَى الشَّيْءِ وَقَالَ الْحَسَنُ: إِتْيَانُ
الْعَبْدِ ذَنْبًا عَمْدًا إِصْرَارٌ حَتَّى يَتُوبَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْإِصْرَارُ: السُّكُوتُ وَتَرْكُ
الِاسْتِغْفَارَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ
السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الرَّيَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ،
أَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ
الْعُمَرِيِّ، عَنْ أَبِي نُصَيْرَةَ، قَالَ: لَقِيتُ
مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ
لَهُ: أَسَمِعْتَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا؟ قَالَ:
نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا أَصَرَّ مَنِ
اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ
مَرَّةً" (1) .
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ
وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا
مَعْصِيَةٌ، وَقِيلَ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ
الْإِصْرَارَ ضَارٌّ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَهُمْ
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُ مَغْفِرَةَ
الذُّنُوبِ، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ،
وَقِيلَ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا
يَتَعَاظَمُهُ الْعَفْوُ عَنِ الذُّنُوبِ وَإِنْ كَثُرَتْ
وَقِيلَ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ إِنِ اسْتَغْفَرُوا
غُفِرَ لَهُمْ.
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) }
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
__________
(1) أخرجه أبو داود في الوتر في الاستغفار: 2 / 150
والترمذي في الدعوات باب أحاديث شتى في الدعوات: 10 / 4
وقال: هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة وليس
إسناده بالقوي، وأخرجه المروزي في مسند أبي بكر، الصديق
برقم (121 - 122) ص 155 - 156. والحديث فيه أيضا مجهول وهو
مولى أبي بكر وأخرجه الطبري في التفسير: 7 / 225 - 226.
وأخرجه أبو يعلى والبزار وقال: البزار: لا نحفظه إلا من
حديث أبي بكر بهذا الطريق وأبو نصيرة وشيخه لا يعرفان قال
ابن حجر: له شاهد أخرجه الطبراني في الدعاء من حديث ابن
عباس انظر: الكافي الشاف ص 32. وذكره ابن كثير في التفسير:
1 / 409 وقال: "رواه أبو دواد والترمذي والبزار في مسنده
من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى ابن معين به -
وشيخه أبو بكر المقاسطي واسمه سالم بن عبيد: وثقه الإمام
أحمد وابن حبان. وقول على بن المديني والترمذي: ليس إسناد
هذا الحديث بذاك. فالظاهر: أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر.
ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير. ويكفيه نسبته إلى
أبي بكر.
(2/107)
ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو
مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الرَّيَّانِيُّ، أَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، أَنَا
عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَا أَبُو عُوَانَةَ، أَنَا
عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ
الْأَسَدِيِّ، عَنْ أَسْمَاءَ بْنِ الْحَكَمِ
الْفَزَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ رَجُلًا إِذَا سَمِعْتُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدِيثًا يَنْفَعُنِي اللَّهُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ أَنْ
يَنْفَعَنِي وَإِذَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ،
وَإِنَّهُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ
مُؤْمِنٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطَّهُورَ ثُمَّ
يَقُومُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ" وَرَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ
قُتَيْبَةَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ وَزَادَ: ثُمَّ قَرَأَ:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ} الْآيَةَ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الرَّيَّانِيُّ، أَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، أَنَا
هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ،
عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،
قَالَ: كَانَ قَاضٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
"إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ: أَيْ رَبِّ
أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي قَالَ: فَقَالَ
رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا
يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، فَغَفَرَ لَهُ
فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ
فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي
فَقَالَ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ
رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ قَدْ غَفَرْتُ
لِعَبْدِي فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الرَّيَّانِيُّ، أَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ،
أَخْبَرَنَا النُّعْمَانُ السَّدُوسِيُّ، أَخْبَرَنَا
الْمَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، أَخْبَرَنَا غَيْلَانُ بْنُ
جَرِيرٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَب عن معدي كرب عَنْ أبي
ذر 69/ب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: "قَالَ يَا ابْنَ آدَمَ
إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ
عَلَى مَا كَانَ فِيكَ، ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ
تَلْقَانِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا لَقِيتُكَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الصلاة باب ما جاء في الصلاة عند
التوبة: 2 / 442 - 444 وقال: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا
الوجه، وأخرجه أيضا في التفسير، وابن حبان في التوبة ص
(608) من موارد الظمآن والإمام أحمد في المسند عن أبي بكر:
1 / 10، وأبو داود الطيالسي في المسند: (ص2) ، وأبو بكر
المروزي في مسند أبي بكر الصديق برقم (9 10) ص 42 - 43
وأخرجه الطبري في التفسير: 7 / 220. وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 4 / 151 - 152 وقال: هذا حديث حسن لا يعرف إلا من
حديث عثمان بن المغيرة ويروي عنه شعبة ومسعر وغير واحد.
وعزاه السيوطي للنسائي وعبد حميد وابن المنذر وابن أبي
حاتم والبيهقي في الشعب. وانظر: الدر المنثور: 2 / 327.
قال ابن حجر في التهذيب: 1 / 235: "وهذا الحديث جيد
الإسناد". وقال ابن كثير في التفسير: 1 / 408 بعد أن ساق
رواية الإمام أحمد: " وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي
وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنة وابن حبان في صحيحه
والبزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به. وقد
ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق
رضي الله عنه وبالجملة: فهو حديث حسن" ثم ذكر شواهد لصحته
في الصحيحين. وانظر أيضا 1 / 554 من ابن كثير.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب قول الله تعالى "يريدون
أن يبدلوا كلام الله": 13 / 466 ومسلم في التوبة باب قبول
التوبة من الذنوب وإن تكررت برقم (2758) : 4 / 2112
والمصنف في شرح السنة: 5 / 72.
(2/108)
قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا
بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
(138)
بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً بَعْدَ أَنْ لَا
تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تُذْنِبْ
حَتَّى تَبْلُغَ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ
تَسْتَغْفِرُنِي أَغْفِرُ لَكَ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
الْحَسَنِيُّ الشَّرَفِيُّ، أَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ،
أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو
قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْتُ لَهُ وَلَا
أُبَالِي مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا" (2) قَالَ
ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ إِبْلِيسَ بَكَى
حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً} إِلَى آخِرِهَا.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}
قَالَ عَطَاءٌ: شَرَائِعُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَضَتْ
لِكُلِّ أُمَّةٍ سُنَّةٌ وَمِنْهَاجٌ إِذَا اتَّبَعُوهَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ بِالْهَلَاكِ فِيمَنْ كَذَّبَ
قَبْلَكُمْ، وَقِيلَ: سُنَنٌ أَيْ: أُمَمٌ وَالسُّنَّةُ:
الْأُمَّةُ قَالَ الشَّاعِرُ: مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ
فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ ... وَلَا رَأَوْا مِثْلَكُمْ فِي
سَالِفِ السُّنَنِ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَهْلُ السُّنَنِ، وَالسُّنَّةُ هِيَ:
الطَّرِيقَةُ الْمُتَّبَعَةُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ،
يُقَالُ: سَنَّ فُلَانٌ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً
سَيِّئَةً إِذَا عَمِلَ عَمَلًا اقْتُدِيَ بِهِ مِنْ
خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: قَدْ مَضَتْ وَسَلَفَتْ مِنِّي سُنَنٌ
فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ
الْكَافِرَةِ، بِإِمْهَالِي وَاسْتِدْرَاجِي إِيَّاهُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ فِيهِمْ أَجَلِي الَّذِي
أَجَّلْتُهُ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَإِدَالَةِ أَنْبِيَائِي
عَلَيْهِمْ. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أَيْ: آخِرُ أَمْرِ
الْمُكَذِّبِينَ، وَهَذَا فِي حَرْبِ أُحُدٍ، يَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَنَا أُمْهِلُهُمْ
وَأَسْتَدْرِجُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ أَجَلِي الَّذِي
أَجَّلْتُ فِي نُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْلِيَائِهِ وَإِهْلَاكِ
أَعْدَائِهِ.
{هَذَا} أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ، {بَيَانٌ لِلنَّاسِ}
عَامَّةً، {وَهُدًى} مِنَ الضَّلَالَةِ، {وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ}
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 154، والدارمي في
الرقاق باب إذا تقرب العبد إلى الله: 2 / 322. وله شاهد
عند الترمذي في الدعوات باب غفران الذنوب مهما عظمت: 9 /
524 - 525. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 5 / 75.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 4 / 262. وقال: هذا حديث
صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي فقال: العدني واه. وأخرجه
المصنف في شرح السنة: 14 / 388. قال ابن حجر في التقريب: 1
/ 34 "وإبراهيم بن الحكم العدني: ضعيف وصل مراسيل".
(2/109)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا
تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
خَاصَّةً.
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (140) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا}
هَذَا حَثٌّ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِهَادِ، زِيَادَةً عَلَى مَا
أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ يَوْمَ أُحُدٍ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا تَهِنُوا أَيْ: لَا
تَضْعُفُوا وَلَا تَجْبُنُوا عَنْ جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ
بِمَا نَالَكُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ، وَكَانَ قَدْ
قُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسَةٌ
مِنْهُمْ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمُصْعَبُ
بْنُ عُمَيْرٍ، وَقُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ
رَجُلًا.
{وَلَا تَحْزَنُوا} فَإِنَّكُمْ {أَنْتُم الْأَعْلَوْنَ}
أَيْ تَكُونُ لَكُمُ الْعَاقِبَةُ بِالنُّصْرَةِ
وَالظَّفَرِ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يَعْنِي: إِذْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: أَيْ: لِأَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا
انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ أَنْ يَعْلُوَ
عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ لَا يُعْلُونَ عَلَيْنَا،
اللَّهُمَّ لَا قُوَّةَ لَنَا إِلَّا بِكَ وَثَابَ نَفَرٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُمَاةٌ فَصَعِدُوا الْجَبَلَ
وَرَمَوْا خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى هَزَمُوهُمْ (1)
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ
يَوْمِ أُحُدٍ حِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِطَلَبِ الْقَوْمِ مَا
أَصَابَهُمْ مِنَ الْجِرَاحِ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَا تَهِنُوا
فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ " (النِّسَاءِ -104) .
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ " قُرْحٌ " بِضَمِّ
الْقَافِ حَيْثُ جَاءَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ
وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ كَالْجُهْدِ
وَالْجَهْدِ وَقَالَ الْفَرَّاءُ الْقَرْحُ بِالْفَتْحِ:
الْجِرَاحَةُ وَبِالضَّمِّ: أَلَمُ الْجِرَاحَةِ هَذَا
خِطَابٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ انْصَرَفُوا مِنْ
أُحُدٍ مَعَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ، يَقُولُ اللَّهُ
تَعَالَى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} يَوْمَ أُحُدٍ،
{فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} يَوْمَ بَدْرٍ،
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}
فَيَوْمٌ لَهُمْ وَيَوْمٌ عَلَيْهِمْ أُدِيلَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى
قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ
وَأُدِيلَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ
أُحُدٍ حَتَّى جَرَحُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَقَتَلُوا
خَمْسًا وَسَبْعِينِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ
خَالِدٍ، أَنَا زُهَيْرٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: جَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الرَّجَّالَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: "إِنْ
رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا
__________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: 7 / 236 وفي التاريخ: 2 /
521 522. وانظر سيرة ابن هشام 2 / 137.
(2/110)
تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا
الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ فَهَزَمُوهُمْ (1) قَالَ: فَأَنَا
وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَتَشَدَّدْنَ قَدْ بَدَتْ
خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ،
فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ:
الْغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ
أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ
مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ
وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ. فَذَاكَ إِذْ
يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ فَلَمْ يَبْقَ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ
اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ
بَدْرٍ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، سَبْعِينَ أَسِيرًا
وَسَبْعِينَ قَتِيلًا فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي
الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَهَاهُمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي
قُحَافَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ
ابْنُ الْخَطَّابِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا
فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ
يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَّدْتَ
لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ
قَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ
إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ
بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: اعْلُ
هُبَلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَلَا تُجِيبُوهُ"؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُ أَعْلَى
وَأَجَلُّ" قَالَ: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى
لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "أَلَا تَجِيبُوهُ"؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا
وَلَا مَوْلًى لَكُمْ" (2)
وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي حَدِيثِهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
يَوْمٌ بِيَوْمٍ وَإِنَّ الْأَيَّامَ دُوَلٌ وَالْحَرْبَ
سِجَالٌ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا
سَوَاءً قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي
النَّارِ" (3) .
قَالَ الزَّجَّاجُ: الدَّوْلَةُ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ
عَلَى الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ
جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وكانت 70/أيَوْمَ أُحُدٍ
لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَتِهِمْ
أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا} يَعْنِي: إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةُ
ليعلم أي (أَيْ: لِيَرَى اللَّهُ) (4) الَّذِينَ آمَنُوا
فَيُمَيَّزُ (5) الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ،
{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} يُكْرِمُ أَقْوَامًا
بِالشَّهَادَةِ، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}
__________
(1) في "أ": "فهزمهم".
(2) أخرجه البخاري في الجهاد باب ما يكره من التنازع
والاختلاف في الحرب. . . 6 / 163 - 164 بلفظه وفي المغازي
باب غزوة أحد: 7 / 349 - 350 بمعناه مطولا.
(3) مسند الإمام أحمد: 1 / 288.
(4) زيادة من (ب) .
(5) في "أ": (فيتميز) .
(2/111)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ
رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ (144)
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) }
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ:
يُطَهِّرَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، {وَيَمْحَقَ
الْكَافِرِينَ} يُفْنِيهِمْ وَيُهْلِكُهُمْ مَعْنَاهُ:
أَنَّهُمْ إِنْ قَتَلُوكُمْ فَهُوَ تَطْهِيرٌ لَكُمْ،
وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ فَهُوَ مَحْقُهُمْ
وَاسْتِئْصَالُهُمْ.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ
رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ (144) }
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أَحَسِبْتُمْ؟ {أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} [أَيْ: وَلَمْ
يَعْلَمِ اللَّهُ] (1) {الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَلْقَوْهُ} وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ تَمَنَّوْا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْرٍ
لِيُقَاتِلُوا وَيُسْتَشْهَدُوا فَأَرَاهُمُ اللَّهُ
يَوْمَ أُحُدٍ وَقَوْلُهُ {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} أَيْ:
سَبَبَ الْمَوْتِ وَهُوَ الْجِهَادُ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَلْقَوْهُ، {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يَعْنِي: أَسْبَابَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ {وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}
قِيلَ: ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا وَقِيلَ: الرُّؤْيَةُ قَدْ
تَكُونُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، فَقَالَ: {وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ} لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ
النَّظَرُ، وَقِيلَ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إِلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} قَالَ أَصْحَابُ
الْمُغَازِي (2) خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ
فِي سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جُبَيْرٍ وَهُوَ أَخُو خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَلَى
الرَّجَّالَةِ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا وَقَالَ:
أَقِيمُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ وَانْضَحُوا عَنَّا
بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، فَإِنْ
كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَلَا تَبْرَحُوا
مَكَانَكُمْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ فَإِنَّا لَنْ
نَزَالَ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ فَجَاءَتْ
قُرَيْشٌ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ
وَمَعَهُمُ النِّسَاءُ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَيَقُلْنَ
الْأَشْعَارَ فَقَاتَلُوا حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ
فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَيْفًا فَقَالَ مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ
بِحَقِّهِ وَيَضْرِبُ بِهِ الْعَدُوَّ حَتَّى يُثْخِنَ،
فَأَخَذَهُ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ (3)
الْأَنْصَارِيُّ فَلَمَّا
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) انظر: سيرة ابن هشام 2 / 127 وما بعدها مع الروض الأنف
طبقات ابن سعد: 2 / 36 وما بعدها.
(3) في "أ": حرب وانظر: أسد الغابة: 2 / 451.
(2/112)
أَخْذَهُ اعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ
وَجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ
يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ" فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ وَحَمَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمُوهُمْ.
وَرُوِّينَا عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: فَأَنَا
وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ قَدْ بَدَتْ
خَلَاخِلُهُنَّ وَأَسْوُقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ
فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ:
الْغَنِيمَةَ وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ
فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَلَمَّا أَتَوْهُمْ
صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: فَرَأَيْتُ هِنْدًا
وَصَوَاحِبَاتِهَا هَارِبَاتٍ مُصَعِّدَاتٍ فِي الْجَبَلِ،
بَادِيَاتٌ خُدَّامُهُنَّ مَا دُونَ أَخْذِهِنَّ شَيْءٌ
فَلَمَّا نَظَرَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْقَوْمِ قَدِ
انْكَشَفُوا وَرَأَوْا أَصْحَابَهُمْ يَنْتَهِبُونَ
الْغَنِيمَةَ أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ النَّهْبَ.
فَلَمَّا رَأَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قِلَّةَ
الرُّمَاةِ وَاشْتِغَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْغَنِيمَةِ،
وَرَأَى ظُهُورَهُمْ خَالِيَةً صَاحَ فِي خَيْلِهِ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَلْفِهِمْ
فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، وَرَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
قَمِئَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ (1) فَكَسَرَ أَنْفَهُ وَرَبَاعِيَتَهُ
وَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ فَأَثْقَلَهُ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ
أَصْحَابُهُ وَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَخْرَةٍ يَعْلُوهَا، وَكَانَ
قَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ
فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ فَنَهَضَ حَتَّى اسْتَوَى
عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ" (2) وَوَقَعَتْ
هِنْدٌ وَالنِّسْوَةُ مَعَهَا يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَجْدَعْنَ الْآذَانَ وَالْأُنُوفَ حَتَّى
اتَّخَذَتْ هِنْدٌ مِنْ ذَلِكَ قَلَائِدَ، وَأَعْطَتْهَا
وَحَشِيًّا وَبَقَرَتْ عَنْ كَبِدَةِ حَمْزَةَ
وَلَاكَتْهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا
فَلَفَظَتْهَا، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَمِئَةَ
يُرِيدُ قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَبَّ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ -وَهُوَ صَاحِبُ
رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ ابْنُ قَمِئَةَ، وَهُوَ يَرَى
أَنَّهُ قَتَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ: إِنِّي
قَتَلْتُ مُحَمَّدًا وَصَاحَ صَارِخٌ أَلَا إِنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ
الصَّارِخَ كَانَ إِبْلِيسَ، فَانْكَفَأَ النَّاسُ
وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ: "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ
{إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} (3) فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ
ثَلَاثُونَ رَجُلًا فَحَمَوْهُ حَتَّى كَشَفُوا عَنْهُ
الْمُشْرِكِينَ وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ حَتَّى
انْدَقَّتْ سِيَةُ قَوْسِهِ وَنَثَلَ (4) لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَتَهُ،
وَقَالَ لَهُ: ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، وَكَانَ
أَبُو طَلْحَةَ رجلا راميًا شديدا النَّزْعِ كَسَرَ
يَوْمَئِذٍ (5) قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ
الرَّجُلُ يَمُرُّ بِجَعْبَةٍ مِنَ النَّبْلِ فَيَقُولُ:
انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ، وَكَانَ إِذَا رَمَى
أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ وَأُصِيبَتْ يَدُ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَيَبِسَتْ حِينَ وَقَى
بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأُصِيبَتْ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ
__________
(1) في "أ" بالحجر.
(2) أي عمل عملا أوجب له الجنة.
(3) زيادة من "ب".
(4) في "أ": (نار) .
(5) في "أ": يوم أحد.
(2/113)
النُّعْمَانِ يَوْمَئِذٍ حِينَ وَقَعَتْ
عَلَى وَجْنَتِهِ، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهَا، فَعَادَتْ
كَأَحْسَنِ مَا كَانَتْ.
فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ
الْجُمَحِيُّ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ
فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا يَعْطِفَ
عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: دَعُوهُ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ وَكَانَ
أُبَيٌّ قَبْلَ ذَلِكَ يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: عِنْدِي رَمْكَةٌ
أَعْلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرْقَ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ
عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرْبَةَ مِنَ
الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ
فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَدَشَهُ خَدْشَةً فَتَدَهْدَأَ
عَنْ فَرَسِهِ وَهُوَ يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ،
وَيَقُولُ: قَتَلَنِي مُحَمَّدٌ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُهُ
وَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ قَالَ: بَلَى لَوْ
كَانَتْ هَذِهِ الطَّعْنَةُ بِرَبِيعَةَ وَمُضَرَ
لَقَتَلَتْهُمْ، أَلَيْسَ قَالَ لِي: أَقْتُلُكَ؟ فَلَوْ
بَزَقَ عَلَيَّ بَعْدَ تِلْكَ الْمَقَالَةِ لَقَتَلَنِي،
فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمًا حَتَّى مَاتَ بِمَوْضِعٍ
يُقَالُ لَهُ سَرِفَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، أَنَا أَبُو
عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قتله
نبي 70/ب وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى
وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(1) .
قَالُوا: وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ
قُتِلَ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: لَيْتَ لَنَا
رَسُولًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَيَأْخُذُ
لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَبَعْضُ
الصَّحَابَةِ جَلَسُوا وَأَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَقَالَ
أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدًا
قَدْ قُتِلَ فَالْحَقُوا بِدِينِكُمُ الْأَوَّلِ، فَقَالَ
أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: يَا
قَوْمُ إِنْ كَانَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ رَبَّ
مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ وَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ
بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ
هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ
مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ،
ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ انْطَلَقَ إِلَى الصَّخْرَةِ وَهُوَ يَدْعُو
النَّاسَ فَأَوَّلُ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ
عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تَحْتَ الْمِغْفَرِ تُزْهِرَانِ
فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ
الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ
اسْكُتْ فَانْحَازَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَلَامَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفِرَارِ فَقَالُوا: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا،
أَتَانَا الْخَبَرُ بِأَنَّكَ قَدْ قُتِلْتَ فَرُعِبَتْ
قُلُوبُنَا فَوَلَّيْنَا مُدْبِرِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب ما أصاب النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجراح يوم أحد: 7 / 372.
(2) أخرجه ابن إسحاق في السيرة من طريق جعفر بن عبد الله
بن أسلم مولى عمر بن الخطاب عن رجل من الأنصار من بني
سلمة. . سيرة ابن هشام: 2 / 127 - 132 وانظر: الاكتفاء
للكلاعي: 2 / 90 وما بعدها أسباب النزول للواحدي ص (158)
الكافي الشاف لابن حجر ص (32 - 33) .
(2/114)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا
وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ (145)
وَمُحَمَّدٌ هُوَ الْمُسْتَغْرِقُ
لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، لِأَنَّ الْحَمْدَ لَا
يَسْتَوْجِبُهُ إِلَّا الْكَامِلُ وَالتَّحْمِيدُ فَوْقَ
الْحَمْدِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا الْمُسْتَوْلِي
عَلَى الْأَمْرِ فِي الْكَمَالِ، وَأَكْرَمَ اللَّهُ
نَبِيَّهُ وَصَفِيَّهُ بِاسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ مِنَ
اسْمِهِ جَلَّ جَلَالُهُ (مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ) وَفِيهِ
يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَرْسَلَ عَبْدَهُ ... بِبُرْهَانِهِ وَاللَّهُ أَعْلَى
وَأَمْجَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو
الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رَجَعْتُمْ إِلَى
دِينِكُمُ الْأَوَّلِ، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلَىعَقِبَيْهِ} فَيَرْتَدَّ عَنْ دِينِهِ، {فَلَنْ
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} بِارْتِدَادِهِ وَإِنَّمَا
يَضُرُّ نَفْسَهُ، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ
الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ
الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
(145) }
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} قَالَ الْأَخْفَشُ:
اللَّامُ فِي {لِنَفْسٍ} مَنْقُولَةٌ تَقْدِيرُهُ: وَمَا
كَانَتْ نَفْسٌ لِتَمُوتَ، {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}
بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَقِيلَ: بِعِلْمِهِ
وَقِيلَ: بِأَمْرِهِ، {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} أَيْ: كَتَبَ
لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلًا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى
تَغْيِيرِهِ وَتَأْخِيرِهِ، وَنُصِبَ الْكِتَابُ عَلَى
الْمَصْدَرِ، أَيْ: كَتَبَ كِتَابًا، {وَمَنْ يُرِدْ
ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} يَعْنِي: مَنْ
يُرِدْ بِطَاعَتِهِ الدُّنْيَا وَيَعْمَلْ لَهَا نُؤْتِهِ
مِنْهَا مَا يَكُونُ جَزَاءً لِعَمَلِهِ، يُرِيدُ نُؤْتِهِ
مِنْهَا مَا نَشَاءُ بِمَا قَدَّرْنَاهُ لَهُ كَمَا قَالَ:
" مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا
مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ " (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ -18)
نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَرَكُوا الْمَرْكَزَ يَوْمَ
أُحُدٍ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ
الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} أَيْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ
الْآخِرَةَ، قِيلَ: أَرَادَ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ
أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ حَتَّى
قُتِلُوا. {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} أَيِ:
الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّاوُودِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ أَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ عَبْدُ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ،
أَنَا أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُقْرِئِ، أَنَا
أَبِي، أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ يَزِيدَ
الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ
الْآخِرَةِ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ
لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ،
وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ
اللَّهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ عَلَيْهِ
أَمْرَهُ وَلَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ"
(1) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في القيامة باب رقم (14) : 7 / 165 وفيه
يزيد الرقاشي وهو ضعيف وله شاهد عند ابن ماجه من حديث زيد
بن ثابت في الزهد باب الهم في الدنيا برقم (4105) : 2 /
1375 قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. وأخرجه ابن
حبان برقم (72) ص (47) من موارد الظمآن وأحمد في المسند: 5
/ 183 مطولا عن زيد بن ثابت. وأخرجه المصنف في شرح السنة:
14 / 331. قال الهيثمي: رواه البزار وفيه إسماعيل بن مسلم
المكي وهو ضعيف. مجمع الزوائد: 10 / 247.
(2/115)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا
وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا
ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ (146)
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ تَوْبَةَ
الزَّرَّادُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
إِدْرِيسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ، وَأَبُو
أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُعَلِّمُ
الْهَرَوِيُّ، قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ
بْنُ عِيسَى الْمَالِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ،
أَخْبَرَنَا حَيَّانُ بْنُ مُوسَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَسْمَاءَ ابْنُ أَخِي جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ
اللَّيْثِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ
يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"
(1) .
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ
كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "
وَكَائِنٌ " بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ
فَاعِلٍ وَتَلْيِينُ الْهَمْزَةِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ " وَكَأَيِّنْ " بِالْهَمْزِ وَالتَّشْدِيدِ
عَلَى وَزْنٍ كَعَيِّنْ، وَمَعْنَاهُ: وَكَمْ، وَهِيَ
كَافُ التَّشْبِيهِ ضُمَّتْ إِلَى أَيٍّ
الِاسْتِفْهَامِيَّةِ، وَلَمْ يَقَعْ لِلتَّنْوِينِ
صُورَةٌ فِي الْخَطِّ إِلَّا فِي هَذَا الْحَرْفِ خَاصَّةً
وَيَقِفُ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عَلَى " وَكَأَيٍّ " بِلَا
نُونٍ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْوُقُوفِ بِالنُّونِ
قَوْلُهُ {قَاتَلَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ
وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ بِضَمِّ الْقَافِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ {قَاتَلَ} فَمَنْ قَرَأَ {قَاتَلَ}
فَلِقَوْلِهِ: {فَمَا وَهَنُوا} وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُهُمْ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَهِنُوا بَعْدَمَا قُتِلُوا لِقَوْلِ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَا سَمِعْنَا أَنَّ نَبِيًّا
قُتِلَ فِي الْقِتَالِ وَلِأَنَّ {قَاتَلَ} أَعَمُّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا
حَمِدَ مَنْ قَاتَلَ كَانَ مَنْ قُتِلَ دَاخِلًا فِيهِ،
وَإِذَا حَمِدَ مَنْ قَتَلَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ
غَيْرُهُمْ، فَكَانَ {قَاتَلَ} أَعَمُّ.
وَمَنْ قَرَأَ "قُتِلَ") فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ رَاجِعًا إِلَى النَّبِيِّ
وَحْدَهُ، فَيَكُونُ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ "
قُتِلَ " وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ:
وَمَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، كَمَا يُقَالُ: قُتِلَ
فَلَانٌ مَعَهُ جَيْشٌ كَثِيرٌ أَيْ: وَمَعَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ نَالَ
النَّبِيَّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّبِّيِّينَ وَيَكُونُ
الْمُرَادُ: بَعْضَ مَنْ مَعَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ
قَتَلْنَا بَنِي فُلَانٍ وَإِنَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ
وَيَكُونُ قَوْلُهُ {فَمَا وَهَنُوا} رَاجِعًا إِلَى
الْبَاقِينَ.
__________
(1) أخرجه البخاري في سبعة مواضع من الصحيح في بدء الوحي
باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 1 / 9 وفي الإيمان وفي العتق وفي
مناقب الأنصار وفي النكاح وفي الإيمان والنذور وفي الحيل.
وأخرجه مسلم في الإمارة باب قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنية برقم (1907) : 3 / 1515 -
1516.
(2/116)
وَمَا كَانَ
قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ
ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
(148)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ
الْقَتْلُ لِلرِّبِّيِّينَ لَا غَيْرَ.
وَقَوْلُهُ {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: الرِّبِّيُّونَ الْأُلُوفُ، وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ: عَشْرَةُ
آلَافٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الرِّبِّيَّةُ الْوَاحِدَةُ:
أَلْفٌ، وَقَالَ الْحَسَنُ: فُقَهَاءُ عُلَمَاءُ وَقِيلَ:
هُمُ الْأَتْبَاعُ وَالرَّبَّانِيُّونَ الْوُلَاةُ،
وَالرِّبِّيُّونَ الرَّعِيَّةُ، وَقِيلَ: مَنْسُوبٌ إِلَى
الرَّبِّ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الرَّبَّ، {فَمَا
وَهَنُوا} أَيْ: فَمَا جَبُنُوا، {لِمَا أَصَابَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} عَنِ الْجِهَادِ بِمَا
نَالَهُمْ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ (1) وَقَتْلِ
الْأَصْحَابِ. {وَمَا اسْتَكَانُوا} قَالَ مُقَاتِلٌ:
وَمَا اسْتَسْلَمُوا وَمَا خَضَعُوا لِعَدُوِّهِمْ وَقَالَ
السُّدِّيُّ: وما ذلوأ 71/أقَالَ عَطَاءٌ وَمَا
تَضَرَّعُوا وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَمَا جَبُنُوا
وَلَكِنَّهُمْ صَبَرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ وَطَاعَةِ
نَبِيِّهِمْ وَجِهَادِ عَدُوِّهِمْ، {وَاللَّهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ}
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا
اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا
وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ
الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (148) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} نُصِبَ عَلَى
خَبَرِ كَانَ وَالِاسْمُ فِي أَنْ قَالُوا، وَمَعْنَاهُ:
وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ عِنْدَ قَتْلِ نَبِيِّهِمْ،
{إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}
أَيِ: الصَّغَائِرَ، {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} أَيِ:
الْكَبَائِرَ، {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} كَيْ لَا تَزُولَ،
{وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} يَقُولُ
فَهَلَّا فَعَلْتُمْ وَقُلْتُمْ مِثْلَ ذَلِكَ يَا
أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ.
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} النُّصْرَةَ
وَالْغَنِيمَةَ، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} الْأَجْرَ
وَالْجَنَّةَ، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي: الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ
عِنْدَ الْهَزِيمَةِ: ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ
وَادْخُلُوا فِي دِينِهِمْ.
{يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} يُرْجِعُوكُمْ إِلَى
أَوَّلِ أَمْرِكُمُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، {فَتَنْقَلِبُوا
خَاسِرِينَ} مَغْبُونِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ} نَاصِرُكُمْ
وَحَافِظُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، {وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ}
__________
(1) في "أ": (الجرح) .
(2/117)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا
يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا
خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى
إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ (152)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ
اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
(151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ
مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا
عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
}
{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}
وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكِينَ لَمَّا
ارْتَحَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ مُتَوَجِّهِينَ نَحْوَ مَكَّةَ
انْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بَعْضَ الطَّرِيقِ
نَدِمُوا وَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْنَا قَتَلْنَاهُمْ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ
تَرَكْنَاهُمُ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ فَلَمَّا
عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ.
سَنُلْقِي أَيْ: سَنَقْذِفُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ الْخَوْفَ وَقَرَأَ (1) أَبُو جَعْفَرٍ
وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ {الرُّعُبَ}
بِضَمِّ الْعَيْنِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِهَا،
{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا} حُجَّةً وَبُرْهَانًا، {وَمَأْوَاهُمُ
النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} مَقَامُ
الْكَافِرِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ
وَعْدَهُ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ:
لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أُحُدٍ
وَقَدْ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، قَالَ نَاسٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا؟ وَقَدْ
وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} بِالنَّصْرِ
وَالظَّفَرِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ كَانَ
لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِابْتِدَاءِ، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ} وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ أُحُدًا خَلْفَ
ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْمَدِينَةَ وَجَعَلَ عَيْنَيْنَ،
وَهُوَ جَبَلٌ عَنْ يَسَارِهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ
الرُّمَاةَ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
جُبَيْرٍ وَقَالَ لَهُمُ: احْمُوا ظُهُورَنَا فَإِنْ
رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا وَإِنْ
رَأَيْتُمُونَا نُقَتَّلُ فَلَا تَنْصُرُونَا، وَأَقْبَلَ
الْمُشْرِكُونَ فَأَخَذُوا فِي الْقِتَالِ فَجَعَلَ
الرُّمَاةُ يَرْشُقُونَ خَيْلَ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبْلِ
وَالْمُسْلِمُونَ يَضْرِبُونَهُمْ بِالسُّيُوفِ، حَتَّى
وَلَّوْا هَارِبِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أَيْ تَقْتُلُونَهُمْ قَتْلًا
ذَرِيعًا بِقَضَاءِ اللَّهِ.
__________
(1) في "أ": (وقال) .
(2/118)
إِذْ تُصْعِدُونَ
وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ
فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَسُّ: هُوَ
الِاسْتِئْصَالُ بِالْقَتْلِ.
{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} أَيْ: إِنْ جَبُنْتُمْ وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ فَلَمَّا فَشِلْتُمْ، {وَتَنَازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ فِي
{وَتَنَازَعْتُمْ} يَعْنِي: حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ
تَنَازَعْتُمْ، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ
تَقْدِيرُهُ: حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
وَعَصَيْتُمْ فَشِلْتُمْ وَمَعْنَى التَّنَازُعِ
الِاخْتِلَافُ.
وَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ أَنَّ الرُّمَاةَ اخْتَلَفُوا
حِينَ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمُ:
انْهَزَمَ الْقَوْمُ فَمَا مُقَامُنَا؟ وَأَقْبَلُوا عَلَى
الْغَنِيمَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُجَاوِزُوا أَمْرَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَثَبَتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ
دُونَ الْعَشْرَةِ.
فَلَمَّا رَأَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ
أَبِي جَهْلٍ ذَلِكَ حَمَلُوا عَلَى الرُّمَاةِ فَقَتَلُوا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَأَصْحَابَهُ، وَأَقْبَلُوا
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَحَالَتِ الرِّيحُ فَصَارَتْ
دَبُوَرًا بَعْدَ مَا كَانَتْ صَبًا (1) وَانْتَقَضَتْ
صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ وَاخْتَلَطُوا فَجَعَلُوا
يَقْتُلُونَ عَلَى غَيْرِ شِعَارٍ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا مَا يَشْعُرُونَ مِنَ الدَّهَشِ، وَنَادَى
إِبْلِيسُ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ وَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبَ الْهَزِيمَةِ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَصَيْتُمْ} يَعْنِي: الرَّسُولَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَالَفْتُمُ أمره،
{مِنْ بَعْدِمَا أَرَاكُمْ} اللَّهُ {مَا تُحِبُّونَ} يَا
مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ،
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} يَعْنِي: الَّذِينَ
تَرَكُوا الْمَرْكَزَ وَأَقْبَلُوا عَلَى النَّهْبِ،
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} يَعْنِي: الَّذِينَ
ثَبَتُوا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ حَتَّى
قُتِلُوا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا
شَعَرْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى
كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {ثُمَّ
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أَيْ: رَدَّكُمْ عَنْهُمْ
بِالْهَزِيمَةِ، {لِيَبْتَلِيَكُمْ} لِيَمْتَحِنَكُمْ
وَقِيلَ: لُيُنْزِلَ الْبَلَاءَ عَلَيْكُمْ {وَلَقَدْ
عَفَا عَنْكُمْ} يَسْتَأْصِلُكُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ
وَالْمُخَالَفَةِ، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ}
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ
غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (153) }
{إِذْ تُصْعِدُونَ} يَعْنِي: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ إِذْ
تُصْعِدُونَ هَارِبِينَ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ
{تَصْعَدُونَ} بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ
وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ
الْعَيْنِ.
وَالْإِصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوَى الْأَرْضِ
وَالصُّعُودُ: الِارْتِفَاعُ عَلَى الْجِبَالِ
وَالسُّطُوحِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يُقَالُ
__________
(1) الدبور: الريح التي تقابل الصَّبا والصَّبا: ريح تهب
من مطلع الثريا.
(2/119)
أَصْعَدْتَ إِذَا مَضَيْتَ حِيَالَ
وَجْهِكَ وَصَعِدْتَ إِذَا ارْتَقَيْتَ فِي جَبَلٍ أَوْ
غَيْرِهِ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْعَدَ إِذَا أَبْعَدَ
فِي الذَّهَابِ، وَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ صَوَابٌ
فَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ مُصْعِدٌ
وَصَاعِدٌ وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: صَعِدَ وَأَصْعَدَ
وَصَعَّدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
{وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أَيْ: لَا تَعْرُجُونَ
وَلَا تُقِيمُونَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَلْتَفِتُ
بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي
أُخْرَاكُمْ} أَيْ: فِي آخِرِكُمْ وَمِنْ وَرَائِكُمْ
إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ فَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَنْ
يَكِرُّ فَلَهُ الْجَنَّةُ (1) ، {فَأَثَابَكُمْ}
فَجَازَاكُمْ جَعَلَ الْإِثَابَةَ بِمَعْنَى الْعِقَابِ،
وَأَصْلُهَا فِي الْحَسَنَاتِ لِأَنَّهُ وَضَعَهَا
مَوْضِعَ الثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} جَعَلَ الْبِشَارَةَ فِي الْعَذَابِ
(2) وَمَعْنَاهُ: جَعَلَ مَكَانَ الثَّوَابِ الَّذِي
كُنْتُمْ تَرْجُونَ (3) {غَمًّا بِغَمٍّ} وَقِيلَ:
الْبَاءُ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ: غَمًّا عَلَى غَمٍّ
وَقِيلَ: غَمَّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ فَالْغَمُّ
الْأَوَّلُ: مَا فَاتَهُمْ مِنَ الظَّفَرِ وَالْغَنِيمَةِ،
وَالْغَمُّ الثَّانِي: مَا نَالَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ
وَالْهَزِيمَةِ.
وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ
الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي: مَا
سَمِعُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ فَأَنْسَاهُمُ الْغَمَّ الْأَوَّلَ.
وَقِيلَ: الْغَمُّ الْأَوَّلُ: إِشْرَافُ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِ الْمُشْرِكِينَ،
وَالْغَمُّ الثَّانِي: حِينَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ أَبُو
سُفْيَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْطَلَقَ يَوْمَئِذٍ يَدْعُو النَّاسَ
حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ، فَلَمَّا
رَأَوْهُ وَضَعَ رَجُلٌ سَهْمًا فِي قَوْسِهِ وَأَرَادَ
أَنْ يَرْمِيَهُ، فَقَالَ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ
فَفَرِحُوا حين وجدوأ 71/ب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرِحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى أَنَّ فِي أَصْحَابِهِ
مَنْ يَمْتَنِعُ، فَأَقْبَلُوا يَذْكُرُونَ الْفَتْحَ
وَمَا فَاتَهُمْ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ أَصْحَابَهُمُ
الَّذِينَ قُتِلُوا فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ
وَأَصْحَابُهُ حَتَّى وَقَفُوا بِبَابِ الشِّعْبِ،
فَلَمَّا نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ أَهَمَّهُمْ
ذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَمِيلُونَ عَلَيْهِمْ
فَيَقْتُلُونَهُمْ فَأَنْسَاهُمْ هَذَا مَا نَالَهُمْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا اللَّهُمَّ إِنْ
تَقْتُلْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ،
ثُمَّ نَدَبَ أَصْحَابَهُ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ
حَتَّى أَنْزَلُوهُمْ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ غَمُّوا الرَّسُولَ بِمُخَالَفَةِ
أَمْرِهِ، فَجَازَاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْغَمَّ غَمَّ
الْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا
فَاتَكُمْ} مِنَ الْفَتْحِ وَالْغَنِيمَةِ، {وَلَا مَا
أَصَابَكُمْ} أَيْ: وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنَ
الْقَتْلِ وَالْهَزِيمَةِ، {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ}
__________
(1) أخرجه الطبري في التاريخ: 2 / 519 - 520 وانظر البداية
والنهاية: 4 / 23.
(2) في "أ": "العقاب".
(3) .
(2/120)
ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا
يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ
الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا
مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ
لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا
فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ
وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ
بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ
يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ
إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ
كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا
هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى
مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ (154) }
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ،
{مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} يَعْنِي:
أَمْنًا وَالْأَمْنُ الأمَنَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَقِيلَ:
الْأَمْنُ يَكُونُ مَعَ زَوَالِ سَبَبِ الْخَوْفِ
وَالْأَمَنَةُ مَعَ بَقَاءِ سَبَبِ الْخَوْفِ وَكَانَ
سَبَبُ الْخَوْفِ هُنَا قَائِمًا، {نُعَاسًا} بَدَلٌ مِنَ
الْأَمَنَةِ {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} قَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ " تَغْشَى " بِالتَّاءِ رَدًّا إِلَى
الْأَمَنَةِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ رَدًّا عَلَى
النُّعَاسِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
أَمَّنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ بِنُعَاسٍ يَغْشَاهُمْ وَإِنَّمَا
يَنْعَسُ مَنْ يَأْمَنُ، وَالْخَائِفُ لَا يَنَامُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ أَخْبَرَنَا أَنَسٌ
أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِيَنَا النُّعَاسُ
وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: فَجَعَلَ
سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي فَآخُذُهُ وَيَسْقُطُ
وَآخُذُهُ" (1) .
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ:
رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ مَا أَرَى
أَحَدًا مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا وَهُوَ يَمِيلُ تَحْتَ
جُحْفَتِهِ مِنَ النُّعَاسِ (2) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
اشْتَدَّ عَلَيْنَا الْحَرْبُ، أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا
النَّوْمَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ
بْنِ قُشَيْرٍ وَالنُّعَاسُ يَغْشَانِي مَا أَسْمَعُهُ
إِلَّا كَالْحُلْمِ،
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير تفسير سورة آل عمران باب
قوله تعالى: "أمنة نعاسا": 8 / 228 وفي المغازي. وأخرجه
المصنف في شرح السنة: 13 / 392.
(2) أخرجه الترمذي في تفسيره سورة آل عمران: 8 / 358 وقال:
هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم على شرط مسلم: 2 / 297
ووافقه الذهبي. وعزاه في تحفة الأحوذي للنسائي.
(2/121)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} يَعْنِي:
الْمُؤْمِنِينَ، {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ: قِيلَ: أَرَادَ
اللَّهُ بِهِ تَمْيِيزَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَأَوْقَعَ النُّعَاسَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَمِنُوا وَلَمْ يُوقِعْ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ فَبَقُوا فِي الْخَوْفِ وَقَدْ
أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَيْ: حَمَلَتْهُمْ عَلَى
الْهَمِّ يُقَالُ: أَمْرٌ مُهِمٌّ.
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أَيْ: لَا
يَنْصُرُ مُحَمَّدًا، وَقِيلَ: ظَنُّوا أَنَّ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، {ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ} أَيْ: كَظَنِّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَالشِّرْكِ، {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا} مَا لَنَا لَفْظُهُ
اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ: حَجْدٌ، {مِنَ الْأَمْرِ مِنْ
شَيْءٍ} يَعْنِي: النَّصْرَ، {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِرَفْعِ
اللَّامِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِي {لِلَّهِ}
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ
وَقِيلَ: عَلَى النَّعْتِ.
{يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا
قُتِلْنَا هَا هُنَا} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ كَانَ لَنَا عُقُولٌ لَمْ
نَخْرُجْ (2) مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ مَكَّةَ
وَلَمْ يُقْتَلْ رُؤَسَاؤُنَا، وَقِيلَ: لَوْ كُنَّا عَلَى
الْحَقِّ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.
قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجَاهِلِيَّةِ يَعْنِي: التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ وَهُوَ
قَوْلُهُمْ {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا
قُتِلْنَا هَا هُنَا} {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ} قُضِيَ، {عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ
إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} مَصَارِعِهِمْ، {وَلِيَبْتَلِيَ
اللَّهُ} وَلِيَمْتَحِنَ اللَّهُ، {مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ} يُخْرِجَ وَيُظْهِرَ {مَا فِي قُلُوبِكُمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بِمَا فِي
الْقُلُوبِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ
بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) }
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} أَيِ انْهَزَمُوا،
{مِنْكُمْ} يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، {يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ} جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ وَجَمْعُ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَ قَدِ انْهَزَمَ
أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا ثَلَاثَةَ
عَشَرَ رَجُلًا سِتَّةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ: وَهُمْ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعْلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ} أَيْ: طَلَبَ زَلَّتَهُمْ كَمَا يُقَالُ:
اسْتَعْجَلْتُ فُلَانًا إِذَا طَلَبْتُ
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق في المغازي والبزار في مسنده والطبري
وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي كلهم من طريق ابن إسحاق.
انظر الكافي الشاف ص (33) .
(2) في "أ": ما خرجنا.
(2/122)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ
أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا
وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي
قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
عَجَلَتَهُ وَقِيلَ: حَمَلَهُمْ عَلَى
الزَّلَةِ وَهِيَ الْخَطِيئَةُ وَقِيلَ: أَزَلَّ
وَاسْتَزَلَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}
أَيْ: بِشُؤْمِ ذُنُوبِهِمْ، قَالَ بَعْضُهُمْ:
بِتَرْكِهِمُ الْمَرْكَزَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا
كَسَبُوا هُوَ قَبُولُهُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ مَا وَسْوَسَ
إِلَيْهِمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا
ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا
عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (157) }
(2/123)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ
قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى
اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ (159) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ، {وَقَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ} فِي النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَقِيلَ: فِي
النَّسَبِ، {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ:
سَافَرُوا فِيهَا لِتِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، {أَوْ
كَانُوا غُزًّى} أَيْ: غُزَاةً جَمْعُ غَازٍ فَقُتِلُوا،
{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا
لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ} يَعْنِي: قَوْلَهُمْ
وَظَنَّهُمْ، {حَسْرَةً} غَمًّا {فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
" يَعْمَلُونَ " بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّاءِ.
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ}
قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " مِتَّمْ "
بِكَسْرِ الْمِيمِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالضَّمِّ فَمَنْ
ضَمَّهُ فَهُوَ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ كَقَوْلِكَ: مِنْ قَالَ
يَقُولُ قُلْتُ بِضَمِّ الْقَافِ وَمَنْ كَسَرَهُ فَهُوَ
مِنْ مَاتَ يَمَاتُ كَقَوْلِكَ مِنْ خَافَ يَخَافُ:
خِفْتُ، {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} فِي الْعَاقِبَةِ،
{وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} مِنَ الْغَنَائِمِ
قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، "تَجْمَعُونَ") بِالتَّاءِ
لِقَوْلِهِ {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ
عَاصِمٍ {يَجْمَعُونَ} بِالْيَاءِ يَعْنِي: خَيْرٌ (1)
مِمَّا يَجْمَعُ النَّاسُ.
{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ
تُحْشَرُونَ} فِي الْعَاقِبَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أَيْ:
فَبِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ" مَا ") صِلَةٌ كَقَوْلِهِ
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ}
__________
(1) زيادةمن: (ب) .
(2/123)
{لِنْتَ لَهُمْ} أَيْ: سَهُلَتْ لَهُمْ
أَخْلَاقُكَ وَكَثْرَةُ احْتِمَالِكَ وَلَمْ تُسْرِعْ
إِلَيْهِمْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، {وَلَوْ
كُنْتَ فَظًّا} يعني: جافيًا سيّء الْخُلُقِ قَلِيلَ
الِاحْتِمَالِ، {غَلِيظَ الْقَلْبِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ:
فَظًّا فِي الْقَوْلِ غَلِيظَ الْقَلْبِ فِي الْفِعْلِ،
{لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أَيْ: لَنَفَرُوا
وَتَفَرَّقُوا عَنْكَ، يُقَالُ: فَضَضْتُهُمُ فَانْفَضُّوا
أَيْ فَرَّقْتُهُمْ فَتَفَرَّقُوا {فَاعْفُ عَنْهُمْ}
تَجَاوَزْ عَنْهُمْ مَا أَتَوْا يَوْمَ أُحُدٍ،
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} حَتَّى أُشَفِّعَكَ فِيهِمْ،
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أَيِ: اسْتَخْرِجْ
آرَاءَهُمْ وَاعْلَمْ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ قَوْلِ
الْعَرَبِ: شُرْتُ الدَّابَّةَ وَشَوَّرْتُهَا إِذَا
اسْتَخْرَجْتُ جَرْيَهَا وَشُرْتُ الْعَسَلَ وَأَشَرْتُهُ
إِذَا أَخَذْتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَاسْتَخْرَجْتُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ
اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَجَزَالَةِ (1)
رَأْيِهِ وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَوُجُوبِ
طَاعَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِيمَا أَحَبُّوا وَكَرِهُوا.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خَاصٌّ فِي المعنى أي: وشاروهم
فِيمَا لَيْسَ عِنْدَكَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
عَهْدٌ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي نَاظِرْهُمْ فِي
لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَمَكَايِدِ الْحَرْبِ عِنْدَ
الْغَزْوِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ
ذَلِكَ أَعْطَفُ لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَذْهَبُ
لِأَضْغَانِهِمْ، فَإِنَّ سَادَاتِ الْعَرَبِ كَانُوا
إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الْأَمْرِ شَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عز وجل
72/أأَنَّهُ مَا بِهِ إِلَى مُشَاوَرَتِهِمْ حَاجَةٌ
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو ذَرٍّ
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ
الصَّالِحَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمَقَانِعِيُّ أَخْبَرَنَا
أحمد بن ما هان، أَخْبَرَنِي أَبِي، أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ
بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
"مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَكْثَرَ اسْتِشَارَةً لِلرِّجَالِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
(2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ} لَا عَلَى مُشَاوَرَتِهِمْ أَيْ: قُمْ بِأَمْرِ
اللَّهِ وَثِقْ بِهِ وَاسْتَعِنْهُ، {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .
__________
(1) في "أ" وجودة رأيه.
(2) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة في الجهاد باب ما جاء في
المشورة: 5 / 373 - 374 قال: ويروى عن أبي هريرة: ما رأيت
أحدا. . . وأخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 188 وفيه طلحة
بن زيد القرشي أبو مسكين أو أبو محمد الرقي أصله من دمشق؛
متروك. قال أحمد وعلي وأبو دواد: كان يضع الحديث. انظر:
التقريب: 1 / 378. قال ابن حجر في الكاف الشافي ص (33) :
أخرجه الشافعي: 2 / 177 (من ترتيب المسند) عن ابن عيينة عن
الزهري عن أبي هريرة وهو منقطع وهو مختصر من الحديث الطويل
في قصة الحديبية وغزوة الفتح وأخرجه ابن حبان من رواية عبد
الرزاق عن عمر عن الزهري عن عروة عن المسور ومروان. . . ".
(2/124)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ
ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ
لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) }
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} يُعِنْكُمُ اللَّهُ
وَيَمْنَعْكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، {فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}
مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ، {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} يَتْرُكْكُمْ
فَلَمْ يَنْصُرْكُمْ كَمَا كَانَ بِأُحُدٍ وَالْخِذْلَانُ:
الْقُعُودُ عَنِ النُّصْرَةِ وَالْإِسْلَامُ لِلْهَلَكَةِ،
{فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ:
مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، {وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قِيلَ: التَّوَكُّلُ أَنْ
لَا تَعْصِيَ اللَّهَ مِنْ أَجْلِ رِزْقِكَ وَقِيلَ: أَنْ
لَا تَطْلُبَ لِنَفْسِكَ نَاصِرًا غَيْرَ اللَّهِ وَلَا
لِرِزْقِكَ خَازِنًا غَيْرَهُ وَلَا لِعَمَلِكَ شَاهِدًا
غَيْرَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ
هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَزَّارُ
بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَيْثَمُ الْأَنْبَارِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ أَخْبَرَنَا
وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ
عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَدْخُلُ سَبْعُونَ أَلْفًا
مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ" قِيلَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لَا
يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ
مِحْصَنٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ" ثُمَّ
قَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ
أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا
عَكَاشَةُ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ
الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
عَنْ حَيَاةَ بْنِ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ
عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا تَمِيمٍ الْجَيْشَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى
اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ
الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان باب الدليل على دخول طوائف من
المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب برقم (371) : 1 / 198
وبلفظ مقارب أخرجه البخاري في الطب باب من اكتوى أو كوى
غيره: 10 / 155. وأخرجه عن ابن عباس في الرقاق. وأخرجه
المصنف في شرح السنة: 14 / 300.
(2) أخرجه الترمذي في الزهد - باب ما جاء في الزهادة في
الدنيا: 7 / 8 وقال: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من
هذا الوجه. وابن ماجه في الزهد - باب التوكل واليقين برقم
(4164) : 2 / 1394 وابن حبان في الزهد باب ما جاء في
التوكل ص (632) من موارد الظمآن. وأحمد في المسند: 1 / 30،
52 والمصنف في شرح السنة: 14 / 301 وصححه الحاكم: 4 / 318
ووافقه الذهبي. وانظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير
العزيز الحميد ص 190 - 191.
(2/125)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ (161) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَغُلَّ} الْآيَةَ رَوَى عِكْرِمَةُ وَمِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ
فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ
أُحُدٍ حِينَ تَرَكَ الرُّمَاةُ الْمَرْكَزَ لِلْغَنِيمَةِ
وَقَالُوا: نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ
لَهُ وَأَنْ لَا يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ كَمَا لَمْ
يَقْسِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَتَرَكُوا الْمَرْكَزَ
وَوَقَعُوا فِي الْغَنَائِمِ، فَقَالَ لهم النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لم أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أَنْ
لَا تَتْرُكُوا الْمَرْكَزَ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمْرِي"؟
قَالُوا: تَرَكْنَا بَقِيَّةَ إِخْوَانِنَا وُقُوفًا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنَّا نَغُلُّ وَلَا نَقْسِمُ لَكُمْ"
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
طَائِفَةٍ غَلَّتْ مِنْ أَصْحَابِهِ. (3) .
وَقِيلَ: إِنَّ الْأَقْوِيَاءَ أَلَحُّوا عَلَيْهِ
يَسْأَلُونَهُ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} فَيُعْطِي
قَوْمًا وَيَمْنَعُ آخَرِينَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ
بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ (4) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: هَذَا فِي
الْوَحْيِ، يَقُولُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكْتُمَ
شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً أَوْ
مُدَاهَنَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَعَاصِمٌ
"يَغُلُّ") بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ
مَعْنَاهُ: أَنْ يَخُونَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأُمَّةَ
وَقِيلَ: اللَّامُ فِيهِ مَنْقُولَةٌ مَعْنَاهُ: مَا كَانَ
النَّبِيُّ لِيَغُلَّ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا كَانَ
يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ، وَلَهُ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْغُلُولِ
أَيْضًا أَيْ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُخَانَ يَعْنِي:
أَنْ تَخُونَهُ أُمَّتُهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ
يَكُونَ مِنَ الْإِغْلَالِ، مَعْنَاهُ: مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ أَيْ يُنْسَبَ إِلَى الْخِيَانَةِ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في أول كتاب الحروف: 6 / 3 من مختصر
المنذري والترمذي في تفسير سورة آل عمران: 8 / 359 وقال:
هذا حديث حسن غريب وقد روى عبد السلام بن حرب عن خُصيف نحو
هذا وروى بعضهم هذا الحديث عن خُصيف عن مِقْسم. . ولم يذكر
فيه ابن عباس وأخرجه الطبري في التفسير: 7 / 348 349. قال
المنذري في مختصر سنن أبي داود: "وفي إسناده خصيف: وهو ابن
عبد الرحمن الحراني وقد تكلم فيه غير واحد".
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (161) الطبعة الثانية.
(3) انظر: أسباب النزول ص (161) تفسير الطبري: 7 / 353.
(4) انظر: تفسير الطبري: 7 / 351 الدر المنثور: 2 / 363.
(2/126)
{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَمْثُلُ لَهُ
ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ:
انْزِلْ فَخُذْهُ فَيَنْزِلُ فَيَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ
فَإِذَا بَلَغَ مَوْضِعَهُ وَقَعَ فِي النَّارِ ثُمَّ
يُكَلَّفُ أَنْ يَنْزِلَ إِلَيْهِ، فَيُخْرِجُهُ فَفَعَلَ
ذَلِكَ بِهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ
الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ
الدِّيلِيِّ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ مَوْلَى بن مُطِيعٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَامَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً
إِلَّا الْأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، قَالَ
فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَحْوَ وَادِي الْقُرَى وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ
زَيْدٍ وَهَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ قَالَ
فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى
فَبَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ
عَائِرٌ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ:
هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ
خَيْبَرَ مِنَ الْغَنَائِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ
تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا" فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ
النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا
زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى
بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِي عَمْرَةِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: تُوُفِّيَ
رَجُلٌ يَوْمَ خَيْبَرَ فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "صَلُّوا عَلَى
صَاحِبِكُمْ" فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ
فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ غَلَّ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ" قَالَ: فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ
فَوَجَدْنَا خَرَزَاتٍ مِنْ خَرَزَاتِ الْيَهُودِ
يُسَاوِينَ دِرْهَمَيْنِ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ
الْمَرْوَزِيُّ، أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ
الْخَلَّالُ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَنَا
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ،
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ
قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ
اللُّتْبِيَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ:
هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أَهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ: "مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ عَلَى بَعْضِ
أَعْمَالِنَا فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أَهْدِيَ
لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ فِي بَيْتِ
أَبِيهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يأخذ 72/ب أَحَدٌ مِنْهَا
شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ
عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الإيمان والنذور باب هل يدخل في
الإيمان والنذور: الأرض والغنم. . . 11 / 593 ومسلم في
الإيمان باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا
المؤمنون برقم (115) : 1 / 108. والمصنف في شرح السنة: 11
/ 116.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في تعظيم الغلول: 4 / 38
والنسائي في الجنائز باب الصلاة على من غل: 4 / 64 وابن
ماجه في الجهاد باب الغلول برقم (2848) : 2 / 950 ومالك في
الموطأ: 2 / 458 وأحمد: 4 / 114 5 / 192. والمصنف في شرح
السنة: 11 / 117.
(2/127)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ
دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ (163)
بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً لَهَا
تَيْعَرُ" ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا
عَفْرَةَ إِبِطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَلْ
بَلَّغْتُ" (1) .
وَرَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْيَمَنِ فَقَالَ: "لَا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ
إِذْنِي فَإِنَّهُ غُلُولٌ، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا
غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "إِذَا وَجَدْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ
فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ" (3) .
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ حَرَقُوا مَتَاعَ الْغَالِّ وَضَرَبُوهُ" (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا
كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ
بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) }
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} وَتَرَكَ
الْغُلُولَ، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} فِعْلٌ،
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
__________
(1) أخرجه البخاري في الهبة باب من لم يقبل الهدية لعلة: 5
/ 220 وفي الجمعة وفي الحيل وفي الزكاة والأيمان والنذور.
. . ومسلم في الإمارة باب تحريم هدايا العمال برقم (1832)
: 4 / 1463 - 1464. والمصنف في شرح السنة: 5 / 496 - 497.
(2) أخرجه الترمذي في الأحكام باب ما جاء في هدايا
الأمراء: 4 / 564 وقال: حديث معاذ حديث غريب لا نعرفه إلا
من هذا الوجه من حديث أبي أسامة عن داود الأودي. داود بن
يزيد الأودي: ضعيف (التقريب: 1 / 235) .
(3) أخرجه أبو داود في الجهاد باب في عقوبة الغال: 4 / 39
- 40 والترمذي في الحدود باب ما جاء في الغال ما يصنع به:
5 / 29 وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وسألت محمدا عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن
محمد بن زائدة وهو أبو واقد الليثي وهو منكر الحديث قال
محمد: وقد روي في غير حديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغال ولم يأمر فيه بحرق متاعه.
وأخرجه الدارمي في السير باب في عقوبة الغال: 2 / 231
بلفظ: " من وجدتموه غل فاضربوه واحرقوا متاعه" وصححه
الحاكم في المستدرك: 2 / 128 ووافقه الذهبي فقال: صحيح.
وأخرجه سعيد بن منصور في السنن: 2 / 269. قال: المنذري في
تهذيب السنن: 4 / 40 "وصالح بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير
واحد من الأئمة وقد قيل: إنه انفرد به وقال البخاري: وعامة
أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول وهذا باطل ليس بشيء. وقال
الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد قال: وهذا
حديث لم يتابع عليه ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمحفوظ أن سالم أمر
بذلك وصحح أبو داود وقفه".
(4) أخرجه أبو داود في الجهاد باب عقوبة الغال: 4 / 41.
وقال: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ولم أسمعه منه: "
ومنعوه سهمه" وقال ابن القيم رحمه الله: وعلة هذا الحديث
أنه من رواية زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب وزهير هذا ضعيف
قال البيهقي: وزهير هذا يقال: هو مجهول وليس بالمكي وقد
رواه أيضا مرسلا. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 2 / 131
وقال: حديث غريب صحيح ولم يخرجاه. وكذا قال الذهبي. وقال
الشوكاني: "أخرجه أيضا: الحاكم والبيهقي وفي إسناده: زهير
بن محمد وهو الخراساني نزيل مكة. وقال البيهقي: يقال هو
غيره وأنه مجهول وقد رواه أيضا أبو داود من وجه آخر عن
زهير موقوفا. قال في الفتح: وهو الراجح". انظر: نيل
الأوطار: 9 / 226.
(2/128)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا
مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا
قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} يعني: ذو
دَرَجَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ
اللَّهِ وَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ مُخْتَلِفُو
الْمَنَازِلِ عِنْدَ اللَّهِ فَلِمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ
اللَّهِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، وَلِمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ
مِنَ اللَّهِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ
بِمَا يَعْمَلُونَ}
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) }
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قِيلَ: أَرَادَ بِهِ
الْعَرَبَ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ
الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ إلا بني تعلبة
دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي
الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} وَقَالَ الْآخَرُونَ:
أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: بِالْإِيمَانِ
وَالشَّفَقَةِ لَا بِالنَّسَبِ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} وَقَدْ كَانُوا، {مِنْ
قَبْلُ} أَيْ: مِنْ قَبْلِ بَعْثِهِ {لَفِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ}
{أَوَلَمَّا} أَيْ: حِينَ {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}
بِأُحُدٍ، {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يَوْمَ بَدْرٍ
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَتَلُوا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعِينَ وَقَتَلَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا
سَبْعِينَ، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} مِنْ أَيْنَ لَنَا
هَذَا الْقَتْلُ وَالْهَزِيمَةُ وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِينَا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} رَوَى
عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ
كَرِهَ مَا صَنَعَ قَوْمُكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ
مِنَ الْأَسَارَى، وَقَدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرَهُمْ
بَيْنَ أَنْ يُقَدَّمُوا فَتُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ،
وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْفِدَاءَ عَلَى أَنْ يُقْتَلَ
مِنْهُمْ عِدَّتُهُمْ فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ عَشَائِرُنَا وَإِخْوَانُنَا، لَا
بَلْ نَأْخُذُ فَدَاءَهُمْ فَنَقْوَى بِهَا عَلَى قِتَالِ
عَدُوِّنَا، وَيُسْتَشْهَدُ مِنَّا عِدَّتُهُمْ [فَقُتِلَ
مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ] (1) سَبْعُونَ عَدَدُ أَسَارَى
أَهِلِ بَدْرٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ
هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (2) أَيْ: بِأَخْذِكُمُ
الْفِدَاءَ وَاخْتِيَارِكُمُ الْقَتْلَ، {إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) أخرجه الطبري في التفسير: 7 / 367 وابن حبان مختصرا في
موارد الظمآن ص (411) ، وذكره ابن كثير في التفسير وقال:
وهكذا رواه النسائي والترمذي من حديث أبي داود الحفري عن
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وروى أبو أسامة عن هشام نحوه
وروي عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انظر تفسير ابن كثير: 1 / 426 تحفة
الأحوذي: 5 / 188.
(2/129)
وَمَا أَصَابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ
وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ
نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ
قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ
أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا
لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا
قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا
وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا
لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا
لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ
وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ
فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) }
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}
بِأُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْهَزِيمَةِ،
{فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أَيْ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ،
{وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: لِيُمَيِّزَ وَقِيلَ
لِيَرَى.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ: لِأَجْلِ
دِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، {أَوِ ادْفَعُوا} عَنْ
أَهْلِكُمْ وَحَرِيمِكُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ
كَثِّرُوا سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ وَرَابِطُوا إِنْ لَمْ
تُقَاتِلُوا يَكُونُ ذَلِكَ دَفْعًا وَقَمْعًا
لِلْعَدُوِّ، {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا
لَاتَّبَعْنَاكُمْ} وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ
وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ انْصَرَفُوا عَنْ أُحُدٍ
وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُمْ
لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ} أَيْ: إِلَى الْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ {مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} (أَيْ: إِلَى
الْإِيمَانِ) (1) ، {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} يَعْنِي:
كَلِمَةَ الْإِيمَانِ {مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}
{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} فِي النَّسَبِ لَا
فِي الدِّينِ وَهُمْ شُهَدَاءُ أُحُدٍ {وَقَعَدُوا}
يَعْنِي: قَعَدَ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ عَنِ الْجِهَادِ
{لَوْ أَطَاعُونَا} وَانْصَرَفُوا عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَدُوا فِي بُيُوتِهِمْ
{مَا قُتِلُوا قُلْ} يَا مُحَمَّدُ، {فَادْرَءُوا}
فَادْفَعُوا، {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ} إِنَّ الْحَذَرَ لَا يُغْنِي عَنِ الْقَدَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الْآيَةَ قِيلَ: نَزَلَتْ
فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ (2) وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا ثَمَانِيَةً مِنَ الْأَنْصَارِ وَسِتَّةً مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ
وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا أَرْبَعَةً مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعُثْمَانُ بْنُ شَمَّاسٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَسَائِرُهُمْ مِنَ
الْأَنْصَارِ (3) .
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) انظر: تفسير الطبري: 7 / 390 الدر المنثور للسيوطي: 2
/ 372.
(3) عزاه السيوطي لسعيد بن منصور وهو عنده في السنن في
الجهاد باب جامع الشهادة: 2 / 319 وعبد بن حميد وابن أبي
حاتم. الدر المنثور: 2 / 371 وانظر أسباب النزول ص (163) .
(2/130)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ
الطُّوسِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ
(هُوَ بن مَسْعُودٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ هَذِهِ
الْآيَةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} الْآيَةَ قَالَ أَمَا إِنَّا قَدْ
سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "أَرْوَاحُهُمْ كَطَيْرٍ
خُضْرٍ" وَيُرْوَى "فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا
قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ
الْجَنَّةِ فِي أَيِّهَا شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى
قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ إِذِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلَاعَةً
فَقَالَ: سَلُونِي مَا شِئْتُمْ فَقَالُوا: يَا رَبُّ
كَيْفَ نَسْأَلُكَ وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي
أَيِّهَا شِئْنَا؟ فَلَمَّا رَأَوْا أَنْ لَا يُتْرَكُوا
مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا شَيْئًا قَالُوا: إِنَّا نَسْأَلُكَ
أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا إِلَى أَجْسَادِنَا نُقْتَلُ
فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ
لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا هَذَا تُرِكُوا" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَامِدٍ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
شَاذَانَ، أَنَا جيعويةُ أَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أُمَيَّةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ: رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا
أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ
أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا
وَتَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ وَتَأْوِي
إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَلَمَّا
رَأَوْا طِيبَ مَقِيلِهِمْ وَمَطْعَمِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ
وَرَأَوْا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الكرامة قالوا:
ياليت قَوْمَنَا يَعْلَمُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ
النَّعِيمِ وَمَا صَنَعَ اللَّهُ بِنَا كَيْ يَرْغَبُوا
فِي الْجِهَادِ وَلَا يَتَّكِلُوا عَنْهُ فَقَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ وَمُبَلِّغٌ
إِخْوَانَكُمْ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} إِلَى قَوْلِهِ
{لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} " (2) .
سَمِعْتُ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيَّ،
قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ الْقُتَيْبِيَّ
(3) قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ (4) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ
الْبَكْرِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ حَبِيبِ بْنِ
عَرَبِيٍّ
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة باب بيان أن أرواح الشهداء في
الجنة. . . برقم (1887) 3 / 1502. والمصنف في شرح السنة:
10 / 364.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد باب فضل الشهادة: 3 / 373 -
374 قال المنذري: وذكر الدارقطني أن عبد الله بن ادريس
تفرد به عن محمد بن إسحاق وغيره يرويه عن ابن إسحاق لا
يذكر فيه سعيد بن جبير. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 2 /
88، 297 وصححه على شرط مسلم والإمام أحمد في المسند: 1 /
266 عن ابن عباس. والطبري في التفسير: 7 / 285 وانظر ما
كتبه الشيخ أحمد شاكر عن الحديث في الموضع نفسه. وعزاه ابن
حجر في الكافي الشاف ص (34) لابن أبي شيبة وأبي يعلى
والبزار كلهم من حديث ابن عباس به وأتم منه. وأصل الحديث
عند مسلم من حديث ابن مسعود السابق. وعزاه السيوطي أيضا
لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الدلائل. انظر: الدر
المنثور: 2 / 371 وذكره ابن كثير في التفسير: 1 / 428
وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مختصر سنن أبي داود:
3 / 374.
(3) في "أ": "الليثي".
(4) في "أ": "أحمد".
(2/131)
قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ إِبْرَاهِيمَ
قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ قَالَ: سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَقُولُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: "يَا جَابِرُ مَا لِي
أَرَاكَ مُنْكَسِرًا"؟ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ
اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا قَالَ:
"أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهَ بِهِ أَبَاكَ"؟
قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قال: 73/أ "مَا كَلَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ، وَإِنَّهُ أَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا
قَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ قَالَ: يَا
رَبِّ أَحْيِنِي فَأُقْتَلُ فِيكَ الثَّانِيَةَ، قَالَ
الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ
مَنِّي أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ فَأُنْزِلَتْ فِيهِمْ
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتًا} (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ
الطَّيَسْفُونِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْجَوْهَرِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْكُشْمِيهَنِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ
يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ
إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا،
إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ،
فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا
فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى" (2) .
وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شُهَدَاءِ
بِئْرِ مَعُونَةَ (3) وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ عَلَى مَا
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ إِسْحَاقَ
بْنِ يَسَارٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَعَنْ
حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: قَدِمَ أَبُو
بَرَاءٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، مُلَاعِبُ
الْأَسِنَّةِ وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ
صَعْصَعَةَ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْدَى إِلَيْهِ
هَدِيَّةً فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهَا وَقَالَ لَا أَقْبَلُ
هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ، فَأَسْلِمْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ
أَقْبَلَ هَدِيَّتَكَ؟ ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ
وَأَخْبَرَهُ بِمَا لَهُ فِيهِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَلَمْ
يُسْلِمْ، وَلَمْ يَبْعُدْ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ
الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ حَسَنٌ جَمِيلٌ فَلَوْ بَعَثْتَ
رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ
فَيَدْعُونَهُمْ إِلَى أَمْرِكَ رَجَوْتُ أَنْ
يَسْتَجِيبُوا لَكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ".
فَقَالَ أَبُو الْبَرَاءِ: أَنَا لَهُمْ جَارٌ
فَابْعَثْهُمْ فَلْيَدْعُوَا النَّاسَ إِلَى أَمْرِكَ.
فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ
فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ
مِنْهُمُ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة آل عمران: 8 /
360 - 361 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ولا نعرفه
إلا من حديث موسى بن إبراهيم وابن ماجه في المقدمة باب
فيما أنكرت الجهمية. . برقم (190) : 1 / 68 وفي الجهاد
أيضا وابن أبي عاصم في السنة: 1 / 267 وصححه الحاكم في
المستدرك: 3 / 203 وتعقبه الذهبي فقال: فيض بن وثيق: كذاب
وزاد السيوطي نسبته للطبراني وابن خزيمة وابن مردويه
والبيهقي في الدلائل " الدر المنثور: 2 / 371" وأخرجه
الواحدي بسنده في أسباب النزول ص (162) . وقال الألباني في
تخريج السنة: إسناده حسن رجاله صدوقون على ضعف في موسى بن
إبراهيم بن كثير.
(2) أخرجه مسلم في الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله
برقم (1877) : 3 / 1498 والمصنف في شرح السنة: 10 / 368.
(3) انظر: تفسير الطبري: 7 / 392 أسباب النزول للواحدي ص
(163) .
(2/132)
الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَحَرَامُ بْنُ
مِلْحَانَ وَعُرْوَةُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ
السُّلَمِيُّ وَنَافِعُ بْنُ يَزِيدَ ابن وَرْقَاءَ
الْخُزَاعِيُّ وَعَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ
أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ مِنْ أُحُدٍ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِئْرَ
مَعُونَةَ وَهِيَ أَرْضٌ بَيْنَ أَرْضِ بَنِي عَامِرٍ
وَحَرَّةِ بَنِي سَلِيمٍ فَلَمَّا نَزَلُوهَا قَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيُّكُمْ يُبَلِّغُ رِسَالَةَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ
هَذَا الْمَاءِ؟ فَقَالَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ: أَنَا
فَخَرَجَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ
وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَتَاهُمْ حَرَامُ
بْنُ مِلْحَانَ لَمْ يَنْظُرْ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ
فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ: يَا أَهْلَ
بِئْرِ مَعُونَةَ إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ
إِلَيْكُمْ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ
مِنْ كَسْرِ الْبَيْتِ بِرُمْحٍ فَضَرَبَ بِهِ فِي
جَنْبِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَ:
اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
ثُمَّ اسْتَصْرَخَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ بَنِي عَامِرٍ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوهُ إِلَى مَا
دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَقَالُوا: لَنْ نَخْفِرَ أَبَا
بَرَاءٍ قَدْ عَقَدَ لَهُمْ عَقْدًا وَجِوَارًا ثُمَّ
اسْتَصْرَخَ عَلَيْهِمْ قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ
-عُصَيَّةَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ -فَأَجَابُوهُ
فَخَرَجُوا حَتَّى غَشُوا الْقَوْمَ فَأَحَاطُوا بِهِمْ
فِي رِحَالِهِمْ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ أَخَذُوا السُّيُوفَ
فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قُتِلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ
إِلَّا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ فَإِنَّهُمْ تَرَكُوهُ وَبِهِ
رَمَقٌ فَارْتَثَّ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى فَضَّلُوهُ
فِيهِمْ (1) فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ،
وَكَانَ فِي سَرْحِ الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ
الضَّمْرِيُّ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدُ بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَلَمْ يُنَبِّهْهُمَا بِمُصَابِ
أَصْحَابِهِمَا إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ عَلَى
الْمُعَسْكَرِ! فَقَالَا وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذَا
الطَّيْرِ لَشَأْنًا فَأَقْبَلَا لِيَنْظُرَا فَإِذَا
الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي
أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ
لِعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ: مَاذَا تَرَى؟
قَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ فَقَالَ
الْأَنْصَارِيُّ اللَّهُ أَكْبَرُ (2) لَكِنِّي مَا كُنْتُ
لِأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ
الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى
قُتِلَ وَأَخَذُوا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ
أَسِيرًا فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ
أَطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ
وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى
أُمِّهِ فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ
الْخَبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ قَدْ
كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا" فَبَلَغَ ذَلِكَ
أَبَا بَرَاءٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ إِخْفَارُ عَامِرٍ
إِيَّاهُ وَمَا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِهِ وَجِوَارِهِ.
وَكَانَ فِيمَنْ أُصِيبَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، فَرَوَى
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ كَانَ يَقُولُ:
مَنِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَمَّا قُتِلَ رَأَيْتُهُ رُفِعَ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى رَأَيْتُ السَّمَاءَ
مِنْ دُونِهِ؟ قَالُوا: هُوَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ،
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَمَلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي بَرَاءٍ
عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ فَطَعَنَهُ عَلَى فَرَسِهِ
فَقَتَلَهُ (3) .
__________
(1) زيادة من (ب) .
(2) زيادة من (ب) .
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام مع الروض الأنف: 2 /
174 - 176.
(2/133)
فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى
بْنُ حَمَّادٍ، أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، أَنَا
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
"أَنَّ رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَبَنِي لَحْيَانَ
اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ لَهُمْ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ
مِنَ الْأَنْصَارِ كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ فِي
زَمَانِهِمْ، وَكَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ
وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ
مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ فَبَلَغَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَنَتَ
شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ
أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ
وَبَنِي لَحْيَانَ.
قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَقَرَأْنَا، فِيهِمْ
قُرْآنًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ: "بَلِّغُوا عَنَّا
قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا
وَأَرْضَانَا" (1) ثُمَّ نُسِخَتْ (فَرُفِعَ بَعْدَمَا
قَرَأْنَاهُ) (2) زَمَانًا وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتًا} الْآيَةَ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ الشُّهَدَاءَ كَانُوا إِذَا
أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ تَحَسَّرُوا عَلَى الشُّهَدَاءِ،
وَقَالُوا: نَحْنُ فِي النِّعْمَةِ وَآبَاؤُنَا
وَأَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا فِي الْقُبُورِ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى تَنْفِيسًا عَنْهُمْ وَإِخْبَارًا عَنْ
حَالِ قَتْلَاهُمْ (3) {وَلَا تَحْسَبَنَّ} وَلَا
تَظُنَّنَّ {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "قُتِّلُوا") بِالتَّشْدِيدِ،
وَالْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ "أَمْوَاتًا ") كَأَمْوَاتِ
مَنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ {بَلْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ} قِيلَ أَحْيَاءٌ فِي الدِّينِ وَقِيلَ:
فِي الذِّكْرِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ
وَيَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ كَالْأَحْيَاءِ، وَقِيلَ:
لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ كُلَّ لَيْلَةٍ
تَحْتَ الْعَرْشِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ:
لِأَنَّ الشَّهِيدَ لَا يَبْلَى فِي الْقَبْرِ وَلَا
تَأْكُلُهُ الأرض.
وقال عبيدة بْنُ عُمَيْرٍ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ
عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ مَقْتُولٌ فَوَقَفَ
عَلَيْهِ ودعا له 73/أثُمَّ قَرَأَ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ثُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللَّهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلَا فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ
وَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا
يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
إِلَّا رَدُّوا عَلَيْهِ" (4) . {يُرْزَقُونَ} مِنْ
ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ
مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (170) }
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
رِزْقِهِ وَثَوَابِهِ، {وَيَسْتَبْشِرُونَ} وَيَفْرَحُونَ
{بِالَّذِينِ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان
وبئر معونة: 7 / 385 ومسلم في المساجد باب استحباب القنوت
في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة مختصرا برقم
(677) : 1 / 468. والمصنف في شرح السنة: 13 / 395 - 396.
(2) في "أ" جاءت العبارة هكذا: (فرفعت بعد ما قرأناها) .
(3) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (163) .
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2 / 248 وقال: هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال: كذا
قال وأنا أحسبه موضوعا وقطن لم يرو له البخاري وعبد
الأعلى: لم يخرجا له. ورواه الطبراني في الأوسط عن جابر بن
عبد الله. قال: الهيثمي: وفيه عبد الأعلى بن عبد الله بن
أبي فروة؛ وهو متروك. مجمع الوائد: 6 / 123.
(2/134)
يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ
أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَاهِجِ الْإِيمَانِ
وَالْجِهَادِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا
وَلَحِقُوا بِهِمْ وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مَا
نَالُوا فَهُمْ لِذَلِكَ مُسْتَبْشِرُونَ، {أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ
مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ
وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) }
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
وَأَنَّ اللَّهَ} أَيْ: وَبِأَنَّ اللَّهَ، وَقَرَأَ
الْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
{لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ،
حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا أَبُو
مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ
لَا يُخْرِجُهُ مَنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي
سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ
الْجَنَّةَ أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي
خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ"
(1) .
وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ
فِي سَبِيلِهِ -إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ
وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ" (2) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَنَا أَبُو
بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الدَّارَابَجِرْدِيُّ أَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، أَنَا سَعِيدٌ،
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ
بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّهِيدُ لَا
يَجِدُ أَلَمَ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ
أَلَمَ الْقَرْصَةِ" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الخمس باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أحلت لكم الغنائم". 6 / 220 وفي
التوحيد باب "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين": 13 /
441. ومسلم في الإمارة باب فضل الجهاد والخروج في سبيل
الله برقم (1876) : 3 / 1496.
(2) أخرجه مسلم في الإمارة في الموضع السابق والبخاري في
الوضوء باب ما يقع من النجاسات. . . 1 / 344 وفي الجهاد
باب من يجرح في سبيل الله: 6 / 20 والمصنف في شرح السنة:
10 / 365.
(3) أخرجه النسائي في الجهاد باب ما يجد الشهيد من الألم:
6 / 36 وابن ماجه في الجهاد باب فضل الشهادة في سبيل الله
برقم (2802) : 2 / 937 والدارمي في الجهاد باب فضل الشهيد:
2 / 205. وأحمد في المسند: 2 / 297 والمصنف في شرح السنة:
10 / 365 وإسناده جيد.
(2/135)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ
أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا انْصَرَفُوا
مِنْ أُحُدٍ فَبَلَغُوا الرَّوْحَاءَ نَدِمُوا عَلَى
انْصِرَافِهِمْ وَتَلَاوَمُوا وَقَالُوا: لَا مُحَمَّدًا
قَتَلْتُمْ وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ،
قَتَلْتُمُوهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا
الشَّرِيدُ تَرَكْتُمُوهُمُ؟ ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَنْ يُرْهِبَ الْعَدُوَّ
وَيُرِيَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ قُوَّةً
فَنَدَبَ أَصْحَابَهُ لِلْخُرُوجِ فِي طَلَبِ أَبِي
سُفْيَانَ، فَانْتَدَبَ عِصَابَةً مِنْهُمْ مَعَ مَا
بِهِمْ مِنَ الْجُرْحِ وَالْقَرْحِ الَّذِي أَصَابَهُمْ
يَوْمَ أُحُدٍ وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا لَا يَخْرُجَنَّ
مَعَنَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ
فَكَلَّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ قَدْ خَلَفَنِي عَلَى
أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ، وَقَالَ لِي يَا بُنَيَّ إِنَّهُ
لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَكَ أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ
النِّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ وَلَسْتُ بِالَّذِي
أُوثِرُكَ عَلَى نَفْسِي فِي الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَخَلَّفْ
عَلَى أَخَوَاتِكَ، فَتَخَلَّفْتُ عَلَيْهِنَّ فَأَذِنَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَخَرَجَ مَعَهُ.
وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ
وَلِيُبْلِغَهُمْ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ
فَيَظُنُّوا بِهِ قُوَّةً وَأَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ
لَمْ يُوهِنْهُمْ فَيَنْصَرِفُوا.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ
وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَأَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ
وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ (1)
.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا ابْنَ
أُخْتِي أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ وَجَدَّكَ -تَعْنِي
أَبَا بَكْرٍ وَالزُّبَيْرَ -لَمِنَ الَّذِينَ قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ
الْقَرْحُ} (2) فَمَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ بِحَمْرَاءِ
الْأَسَدِ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ -مُسْلِمُهُمْ
وَكَافِرُهُمْ -عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِهَامَةَ صَفْقَتُهُمْ
مَعَهُ لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِهَا،
وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ
وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي
أَصْحَابِكَ وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ
قَدْ أَعْفَاكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ قَدْ
أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: لَقَدْ أَصَبْنَا
جُلَّ أَصْحَابِهِ وَقَادَتِهِمْ لَنَكِرَّنَّ عَلَى
بَقِيَّتِهِمْ فَلْنَفْرُغَنَّ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى
أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا
مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ
يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ
يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ
مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ
وَنَدِمُوا عَلَى صَنِيعِهِمْ، وَفِيهِمْ مِنَ الْحَنَقِ
عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ:
وَيْلَكَ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ
تَرْحَلُ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ،
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 2 / 143 - 144 تفسير الطبري: 7 /
400 - 401.
(2) حديث صحيح أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه
الذهبي: 2 / 298 وهو في الصحيحين باختلاف في توجيه الخطاب
لعروة بن الزبير أخرجه البخاري في المغازي باب (الذين
استجابوا لله والرسول) : 7 / 373 ومسلم.
(2/136)
قَالَ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا
الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ،
قَالَ: فَإِنِّي وَاللَّهِ أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ
فَوَاللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ عَلَى أَنْ
قُلْتُ فِيهِ أَبْيَاتًا: كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ
الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ
بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ
فَذَكَرَ أَبْيَاتًا فَرَدَّ ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ
وَمَنْ مَعَهُ.
وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالَ:
أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمَدِينَةَ قَالَ:
(وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيرَةَ) (1) قَالَ: فَهَلْ
أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً
وَأُحَمِّلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ زَبِيبًا بِعُكَاظَ
غَدًا إِذَا وَافَيْتُمُونَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ:
فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ
أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ
لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ وَانْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ
إِلَى مَكَّةَ، وَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ بِحَمْرَاءِ
الْأَسَدِ فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ" ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ
الثَّالِثَةِ (2) . هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا
سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَوْعِدُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ
مَوْسِمُ بَدْرٍ الصُّغْرَى لِقَابِلٍ إِنْ شِئْتَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "ذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ" فَلَّمَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ خَرَجَ
أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ
مَجَنَّةَ مِنْ نَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ ثُمَّ
أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قَلْبِهِ فَبَدَا لَهُ
الرُّجُوعُ فَلَقِيَ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ
الْأَشْجَعِيَّ وَقَدْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا فَقَالَ لَهُ
أَبُو سُفْيَانَ: يَا نَعِيمُ إِنِّي وَاعَدْتُ مُحَمَّدًا
وَأَصْحَابَهُ أَنَّ نَلْتَقِيَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ
الصُّغْرَى وَإِنَّ هَذِهِ عَامُ جَدْبٍ وَلَا يُصْلِحُنَا
إِلَّا عَامٌ نَرْعَى فِيهِ الشَّجَرَ وَنَشْرَبُ فِيهِ
اللَّبَنَ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَخْرُجَ إِلَيْهَا
وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَخْرُجُ أَنَا
فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ جُرْأَةً وَلَأَنْ يَكُونَ الْخُلْفُ
مِنْ قِبَلِهِمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ
قِبَلِي فَالْحَقْ بِالْمَدِينَةِ فَثَبِّطْهُمْ
وَأَعْلِمْهُمْ أَنِّي فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ لَا طَاقَةَ
لَهُمْ بِنَا، وَلَكَ عِنْدِي عَشْرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ
أَضَعُهَا لَكَ عَلَى يَدَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
وَيَضْمَنُهَا قَالَ: فَجَاءَ سُهَيْلٌ فَقَالَ لَهُ
نَعِيمٌ يَا أَبَا يَزِيدَ: أَتَضْمَنُ لِي هَذِهِ
الْقَلَائِصَ وَأَنْطَلِقُ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأُثَبِّطُهُ؟
قَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ نَعِيمٌ حَتَّى أتى المدينة
74/أفَوَجْدَ النَّاسَ يَتَجَهَّزُونَ لِمِيعَادِ أَبِي
سُفْيَانَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا:
وَاعَدَنَا أَبُو سُفْيَانَ بِمَوْسِمِ بَدْرٍ الصُّغْرَى
أَنْ نَقْتَتِلَ بِهَا فَقَالَ: بِئْسَ الرَّأْيُ
رَأَيْتُمْ أَتَوْكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَقَرَارِكُمْ
فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْكُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ، فَتُرِيدُونَ
أَنْ تَخْرُجُوا وَقَدْ جَمَعُوا لَكُمْ عِنْدَ
الْمَوْسِمِ، وَاللَّهِ لَا يُفْلِتُ مِنْكُمْ أَحَدٌ،
فَكَرِهَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَخْرُجَنَّ وَلَوْ وَحْدِي"
فَأَمَّا الْجَبَانُ فَإِنَّهُ رَجَعَ وَأَمَّا الشُّجَاعُ
فَإِنَّهُ تَأَهَّبَ لِلْقِتَالِ وَقَالَ: "حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
__________
(1) جاءت العبارة في المطبوعة محرفة هكذا: (ولم يقولوا
نريد الميرة) والتصحيح من تفسير الطبري.
(2) انظر: سيرة ابن هشام: 2 / 144 تفسير الطبري"7 / 406 -
409.
(2/137)
الَّذِينَ قَالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى وَافَوْا
بَدْرًا الصُّغْرَى فَجَعَلُوا يَلْقَوْنَ الْمُشْرِكِينَ
وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ فَيَقُولُونَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُرْعِبُوا
الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، حَتَّى بَلَغُوا بَدْرًا
وَكَانَتْ مَوْضِعَ سُوقٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهَا فِي كُلِّ عَامٍ ثَمَانِيَةَ
أَيَّامٍ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ
وَقَدِ انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَجَنَّةَ إِلَى
مَكَّةَ فَلَمْ يَلْقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أَحَدًا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَوَافَقُوا السُّوقَ وَكَانَتْ مَعَهُمْ
تِجَارَاتٌ وَنَفَقَاتٌ فَبَاعُوا وَأَصَابُوا
بِالدِّرْهَمِ دِرْهَمَيْنِ وَانْصَرَفُوا إِلَى
الْمَدِينَةِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}
أَيْ أَجَابُوا وَمَحَلُّ "الَّذِينَ" خَفْضٌ عَلَى صِفَةِ
الْمُؤْمِنِينَ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ، {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}
أَيْ: (نَالَتْهُمُ الْجِرَاحُ) (2) تَمَّ الْكَلَامُ
هَاهُنَا ثُمَّ ابْتِدَاءٌ فَقَالَ: {لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجَابَتِهِ إِلَى
الْغَزْوِ، {وَاتَّقَوْا} مَعْصِيَتَهُ {أَجْرٌ عَظِيمٌ}
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا
وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) }
__________
(1) انظر تفسير الطبري: 7 / 411-412 وقد رجح القول الأول
وهو قول أكثر المفسرين: 7 / 412 - 413.
(2) في ب (نالهم الجرح) .
(2/138)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ (174)
{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ
اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) }
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وَمَحَلُّ "الَّذِينَ "
خَفْضٌ أَيْضًا مَرْدُودٌ عَلَى الَّذِينَ الْأَوَّلِ
وَأَرَادَ بِالنَّاسِ: نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ، فِي
قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ
الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ: أَرَادَ بِالنَّاسِ الرَّكْبَ
مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ} يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ،
{فَاخْشَوْهُمْ} فَخَافُوهُمْ وَاحْذَرُوهُمْ فَإِنَّهُ
لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِمْ، {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}
تَصْدِيقًا وَيَقِينًا وَقُوَّةً {وَقَالُوا حَسْبُنَا
اللَّهُ} أَيْ: كَافِينَا اللَّهُ، {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
أَيِ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى
مَفْعُولٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمُلَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي
حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ
أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ} (1) .
{فَانْقَلَبُوا} فَانْصَرَفُوا، {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}
بِعَافِيَةٍ لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا {وَفَضْلٍ} تِجَارَةٍ
وَرِبْحٍ وَهُوَ مَا أَصَابُوا
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير تفسير سورة آل عمران باب
"الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم": 8 / 229.
(2/138)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا
يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ
أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا
إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
فِي السُّوقِ {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}
يُصِبْهُمْ أَذًى وَلَا مَكْرُوهٌ، {وَاتَّبَعُوا
رِضْوَانَ اللَّهِ} فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ
رَسُولِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ يَكُونُ هَذَا
غَزْوًا فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الْغَزْوِ وَرَضِيَ
عَنْهُمْ، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي
الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ
يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ}
يَعْنِي: ذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَكُمْ: {إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} مِنْ فِعْلِ
الشَّيْطَانِ أَلْقَى فِي أَفْوَاهِهِمْ لِيَرْهَبُوهُمْ
وَيَجْبُنُوا عَنْهُمْ، {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ
يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي
قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَعْنِي: يُخَوِّفُ
الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَافِرِينَ قَالَ السُّدِّيُّ:
يُعَظِّمُ أَوْلِيَاءَهُ فِي صُدُورِهِمْ لِيَخَافُوهُمْ
يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
"يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ") {فَلَا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ} فِي تَرْكِ أَمْرِي {إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} مُصَدِّقِينَ بِوَعْدِي فَإِنِّي مُتَكَفِّلٌ
لَكُمْ بِالنُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَحْزُنْكَ} قَرَأَ
نَافِعٌ " يُحْزِنُكَ " بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ
الزَّايِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ إِلَّا قَوْلَهُ
{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} ضِدَّهُ أَبُو
جَعْفَرٍ وَهُمَا لُغَتَانِ: حَزِنَ يَحْزُنُ وَأَحْزَنَ
يُحْزِنُ إِلَّا أَنَّ اللُّغَةَ الْغَالِبَةَ حَزِنَ
يَحْزُنُ، {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} قَالَ
الضَّحَّاكُ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ وَقَالَ غَيْرُهُ:
هُمُ الْمُنَافِقُونَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
بِمُظَاهَرَةِ الْكُفَّارِ. {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا
اللَّهَ شَيْئًا} بِمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ،
{يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي
الْآخِرَةِ} نَصِيبًا فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَلِذَلِكَ
خَذَلَهُمْ حَتَّى سَارَعُوا فِي الْكُفْرِ، {وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} اسْتَبْدَلُوا {الْكُفْرَ
بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} وَإِنَّمَا
يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} قَرَأَ حَمْزَةُ
هَذَا وَالَّذِي بَعْدَهُ بِالتَّاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ فَمَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ
"فَالَّذِينَ " فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِ
وَتَقْدِيرُهُ (1) وَلَا يَحْسَبَنَّ الْكَفَّارُ
إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرًا، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ
__________
(1) ساقط من (ب) .
(2/139)
مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ
عَظِيمٌ (179)
يَعْنِي: وَلَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ
الَّذِينَ كَفَرُوا، وَإِنَّمَا نُصِبَ عَلَى الْبَدَلِ
مِنَ الَّذِينَ، {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ} وَالْإِمْلَاءُ الْإِمْهَالُ
وَالتَّأْخِيرُ، يُقَالُ: عِشْتُ طَوِيلًا حَمِيدًا
وَتَمَلَّيْتُ حِينًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا" (مَرْيَمَ -46) أَيْ: حِينًا
طَوِيلًا ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ} نُمْهِلُهُمْ {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ}
قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَقَالَ
عَطَاءٌ: فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَفَّالُ، أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ
الْفَضْلِ الْبَرْوَنْجِرْدِيُّ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ
بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الصَّيْرَفِيُّ،
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ أَنَا أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ، أَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ:
"مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ" قِيلَ: فَأَيُّ
النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ
عَمَلُهُ" (1) .
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ
يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى
يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} اخْتَلَفُوا فِيهَا،
فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: يَا مُحَمَّدُ
تَزْعُمُ أَنَّ مَنْ خَالَفَكَ فَهُوَ فِي النَّارِ
وَاللَّهُ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، وَأَنَّ مَنِ اتَّبَعَكَ
عَلَى دِينِكَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَاللَّهُ عَنْهُ
رَاضٍ، فَأَخْبِرْنَا بِمَنْ يُؤْمِنُ بِكَ وَبِمَنْ لَا
يُؤْمِنُ بِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
الْآيَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أُمَّتِي
فِي صُوَرِهَا فِي الطِّينِ كَمَا عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ
وَأُعْلِمْتُ مَنْ يُؤْمِنُ بِي وَمَنْ يَكْفُرُ بِي"
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُنَافِقِينَ فَقَالُوا اسْتِهْزَاءً:
زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
وَمَنْ يَكْفُرُ مِمَّنْ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، وَنَحْنُ
مَعَهُ وَمَا يَعْرِفُنَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عَلَى
الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ
قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ طَعَنُوا فِي عِلْمِي لا
تسألوني 74/ب عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد باب ما جاء في طول العمر
للمؤمن: 6 / 622 وقال: هذا حديث حسن صحيح والدارمي في
الرقاق باب أي المؤمنين خير؟: 2 / 308 والحاكم في
المستدرك: 1 / 339 وصححه على شرط مسلم وأخرج أيضا عن جابر:
"ألا أنبئكم بخياركم من شراركم؟ قالوا: بلى قال: خياركم
أطولكم أعمارا وأحسنكم عملا" وقال هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين وله شاهد صحيح على شرط مسلم ثم ذكر حديث أبي بكرة.
وأخرجه الإمام أحمد: 4 / 188، 190 5 / 40، 43، 44 وفي
مواضع أخرى والمصنف في شرح السنة: 14 / 287، 288 والطيالسي
في المسند ص (116) .
(2/140)
السَّاعَةِ إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ"
فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ:
فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
حُذَافَةُ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا
وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا وَبِكَ نَبِيًّا فَاعْفُ عَنَّا
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ"؟ ثُمَّ
نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْآيَةِ وَنَظْمِهَا، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالضَّحَّاكُ
وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ يَعْنِي {مَا
كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ
عَلَيْهِ} يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ
مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ}
وَقَالَ قَوْمٌ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
أَخْبَرَ عَنْهُمْ، مَعْنَاهُ: مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِ
بِالْمُنَافِقِ، فَرَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى
الْخِطَابِ.
{حَتَّى يَمِيزَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَالتَّشْدِيدِ وَكَذَلِكَ
الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ
بِالْخَفِيفِ يُقَالُ: مَازَ الشَّيْءَ يَمِيزُهُ مَيْزًا
وَمَيَّزَهُ تَمْيِيزًا إِذَا فَرَّقَهُ فَامْتَازَ،
وَإِنَّمَا هُوَ بِنَفْسِهِ، قَالَ أَبُو مُعَاذٍ إِذَا
فَرَّقْتَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ قُلْتَ: مِزْتُ مَيْزًا،
فَإِذَا كَانَتْ أَشْيَاءَ قُلْتَ: مَيَّزْتُهَا
تَمْيِيزًا وَكَذَلِكَ إِذَا جَعَلْتَ الشَّيْءَ
الْوَاحِدَ شَيْئَيْنِ قُلْتَ: فَرَقْتُ بِالتَّخْفِيفِ
وَمِنْهُ فَرْقُ الشَّعْرِ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ أَشْيَاءَ
قُلْتَ: فَرَّقْتُهُ تَفْرِيقًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ
حَتَّى يُمَيِّزَ الْمُنَافِقَ مِنَ الْمُخْلِصِ،
فَمَيَّزَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ أَظْهَرُوا النِّفَاقَ وَتَخَلَّفُوا
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: حَتَّى يَمِيزَ الْكَافِرَ مِنَ
الْمُؤْمِنِ بِالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} فِي
أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ يَا مَعْشَرَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُفَرِّقَ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ فِي أَصْلَابِكُمْ وَأَرْحَامِ
نِسَائِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقِيلَ: {حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ} وَهُوَ الْمُذْنِبُ {مِنَ الطَّيِّبِ} وَهُوَ
الْمُؤْمِنُ يَعْنِي: حَتَّى يَحُطَّ الْأَوْزَارَ عَنِ
الْمُؤْمِنِ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ نَكْبَةٍ وَمِحْنَةٍ
وَمُصِيبَةٍ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى
الْغَيْبِ} لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ (2) أَحَدٌ
غَيْرُهُ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ
مَنْ يَشَاءُ} فَيُطْلِعُهُ عَلَى بَعْضِ عِلْمِ
الْغَيْبِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا
مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ" (سُورَةُ الْجِنِّ
الْآيَتَانِ: 26،27) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ اجْتَبَاهُ، {فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا
فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
__________
(1) ذكره الواحدي بدون سند عن السدي إلى قوله: فبلغ ذلك
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقام. . .
انظر: أسباب النزول ص (165) وأخرج الإمام أحمد في المسند:
3 / 162 عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فلما سلم قام على
المنبر. . . دون أن يذكر أن نزول الآية كان عقب ذلك.
وأخرجه ابن عبد البر بسنده عن أنس في أسد الغابة: 3 / 212.
وانظر: الإصابة لابن حجر: 4 / 57.
(2) ساقطة من (أ) .
(2/141)
وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ
بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) }
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} أَيْ: وَلَا
يَحْسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ،
{بَلْ هُوَ} يَعْنِي: الْبُخْلَ، {شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ} أَيْ: سَوْفَ يُطَوَّقُونَ {مَا بَخِلُوا
بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يَعْنِي: يَجْعَلُ مَا مَنَعَهُ
مِنَ الزَّكَاةِ حَيَّةً تُطَوَّقُ فِي عُنُقِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ تَنْهَشُهُ مِنْ فَوْقِهِ (1) إِلَى قَدَمِهِ
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي
وَائِلٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْمَدِينِيُّ، أَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ
مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ
يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُ
بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي شِدْقَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ:
أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلَا {وَلَا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الْآيَةَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَمْرُو بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ،
أَنَا أَبِي، أَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ
سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ يَعْنِي: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (3) . "وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ، أَوْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ كَمَا
حَلَفَ مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ إِبِلٌ أَوْ بَقَرٌ
أَوْ غَنَمٌ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا أُتِيَ بِهَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ وَأَسْمَنَهُ
تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا
كُلَّمَا جَازَتْ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُوْلَاهَا
حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ" (4) .
قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَعْنَى الْآيَةِ
يَجْعَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَعْنَاقِهِمْ طَوْقًا
مِنَ النَّارِ قَالَ مُجَاهِدٌ: يُكَلَّفُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَنْ يَأْتُوا بِمَا بَخِلُوا بِهِ فِي
الدُّنْيَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ
كَتَمُوا صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
__________
(1) في أ: (قرنة) .
(2) أخرجه البخاري في الزكاة باب إثم مانع الزكاة: 3 / 268
وفي التفسير وفي الحيل والمصنف في شرح السنة: 5 / 478.
(3) في ب: (فقال) .
(4) أخرجه البخاري في الزكاة باب ليس دون خمس ذود صدقة: 3
/ 323 ومسلم في الزكاة باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة
برقم (990) : 2 / 686. والمصنف في شرح السنة: 5 / 477 -
478.
(2/142)
وَنُبُوَّتَهُ وَأَرَادَ بِالْبُخْلِ
كِتْمَانَ الْعِلْمِ (1) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ
النِّسَاءِ "الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ" (النِّسَاءِ -37) .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ "سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ" أَيْ: يَحْمِلُونَ وِزْرَهُ
وَإِثْمَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَهُمْ يَحْمِلُونَ
أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ" (الْأَنْعَامِ -31) .
{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَعْنِي:
أَنَّهُ الْبَاقِي الدَّائِمُ بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ
وَزَوَالِ أَمْلَاكِهِمْ فَيَمُوتُونَ وَيَرِثُهُمْ،
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا" (مَرْيَمَ -40) {وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قَرَأَ أَهْلُ البصرة ومكة
يعلمون بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 7 / 432 الدر المنثور: 2 / 394
أسباب النزول للواحدي ص (165 - 166) .
(2/143)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ
الْحَرِيقِ (181)
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ
سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
(181) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ} قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: لَمَّا
نَزَلَتْ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا} قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
اسْتَقْرَضَ مِنَّا وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَذَكَرَ
الْحَسَنُ: أَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ حُيَيُّ
بْنُ أَخْطَبَ (1) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَمُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إِلَى يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ يَدْعُوهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ وَإِلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ وَأَنْ يُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ
بَيْتَ مُدَارِسِهِمْ فَوَجَدَ نَاسًا كَثِيرًا مِنَ
الْيَهُودِ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ وَكَانَ مِنْ
عُلَمَائِهِمْ، وَمَعَهُ حَبْرٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ
أَشْيَعُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِفِنْحَاصَ: اتَّقِ
اللَّهَ وَأَسْلِمْ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ
فِي التَّوْرَاةِ فَآمِنْ وَصَدِّقْ وَأَقْرِضِ اللَّهَ
قَرْضًا حَسَنًا يُدْخِلْكَ الْجَنَّةَ وَيُضَاعِفْ لَكَ
الثَّوَابَ.
فَقَالَ فِنْحَاصُ: يَا أَبَا بَكْرٍ تَزْعُمُ أَنَّ
رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ أَمْوَالَنَا وَمَا يَسْتَقْرِضُ
إِلَّا الْفَقِيرُ مِنَ الْغَنِيِّ؟ فَإِنْ كَانَ مَا
تَقُولُ حَقًّا فَإِنَّ اللَّهَ إِذًا لَفَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِيَاءُ، وَإِنَّهُ يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا
وَيُعْطِينَا، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا مَا أَعْطَانَا
الرِّبَا.
فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَرَبَ
وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا
وَبَيْنَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عُدُوَّ اللَّهِ
فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ انْظُرْ مَا
صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ"؟
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 7 / 444 الدر المنثور: 2 / 397.
(2/143)
ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ
إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا
بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ
فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ
عَدُوَّ اللَّهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا زَعَمَ أَنَّ
اللَّهَ فَقِيرٌ وَأَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ فَغَضِبْتُ
لِلَّهِ فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَى فِنْحَاصَ
وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ
اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْن أَغْنِيَاءُ} " (1) 75/أ
{سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} مِنَ الْإِفْكِ وَالْفِرْيَةِ
عَلَى اللَّهِ {فَنُجَازِيهِمْ بِهِ} (2) وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: سَنَحْفَظُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ:
سَنَأْمُرُ الْحَفَظَةَ بِالْكِتَابَةِ، نَظِيرُهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} ،
{وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ
ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} قَرَأَ حَمْزَةُ "سَيُكْتَبُ"
بِضَمِّ الْيَاءِ، " وَقَتْلُهُمْ " بِرَفْعِ اللَّامِ
"وَيَقُولُ" بِالْيَاءِ وَ {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}
أَيِ: النَّارِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْمُحْرِقُ كَمَا
يُقَالُ: لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ: مُؤْلِمٌ.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ
حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ
قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) }
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فَيُعَذِّبُ بِغَيْرِ
ذَنْبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
عَهِدَ إِلَيْنَا} الْآيَةَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ
فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ
وَوَهْبِ بْنِ يَهُوذَا وَزَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ (3)
وَفِنْحَاصَ بْنِ عَازُورَاءَ وَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ
أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَهِدَ
إِلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ {أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ}
يَزْعُمُ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، {حَتَّى
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} فَإِنْ
جِئْتَنَا بِهِ صَدَّقْنَاكَ؛ قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالُوا} (4) أَيْ: سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا وَمَحَلُّ {الَّذِينَ} خَفْضٌ
رَدًّا عَلَى {الَّذِينَ} الْأَوَّلِ، {إِنَّ اللَّهَ
عَهِدَ إِلَيْنَا} أَيْ: أَمَرَنَا وَأَوْصَانَا فِي
كُتُبِهِ أَنْ لَا نُؤْمِنُ بِرَسُولٍ أَيْ: لَا نُصَدِّقَ
رَسُولًا يَزْعُمُ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، وَالْقُرْبَانُ: كُلُّ
مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ نَسِيكَةٍ وَصَدَقَةٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ فُعْلَانٌ
مِنَ الْقُرْبَةِ وَكَانَتِ الْقَرَابِينُ وَالْغَنَائِمُ
لَا تَحِلُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانُوا إِذَا
قَرَّبُوا قُرْبَانًا أَوْ غَنِمُوا غَنِيمَةً جَاءَتْ
نَارٌ
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق في السيرة: 2 / 207 - 208 طبعة الحلبي
وابن جرير الطبري في التفسير: 7 / 441 - 444 وابن المنذر
وابن أبي حاتم - انظر: الدر المنثور: 2 / 396 أسباب النزول
للواحدي ص (166) .
(2) ساقط من: (ب) .
(3) في أ: (الباقر) .
(4) انظر: أسباب النزول ص (167) تفسير القرطبي: 4 / 295.
(2/144)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
(184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا
تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ
فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ (185)
بَيْضَاءُ مِنَ السَّمَاءِ لَا دُخَانَ
لَهَا وَلَهَا دَوِيٌّ وَحَفِيفٌ (1) فَتَأْكُلُهُ
وَتُحْرِقُ ذَلِكَ الْقُرْبَانَ وَتِلْكَ الْغَنِيمَةَ
فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْقَبُولِ وَإِذَا لَمْ
يُقْبَلْ بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مَنْ جَاءَكُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ
اللَّهِ فَلَا تُصَدِّقُوهُ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ
بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ
الْمَسِيحُ وَمُحَمَّدٌ، فَإِذَا أَتَيَاكُمْ فَآمِنُوا
بِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ بِغَيْرِ قُرْبَانٍ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ،
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {قَدْ جَاءَكُمْ} يَا مَعْشَرَ
الْيَهُودِ {رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} الْقُرْبَانِ {فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ} يَعْنِي: زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَسَائِرَ
مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ
أَسْلَافَهُمْ فَخَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَضُوا
بِفِعْلِ أَسْلَافِهِمْ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
مَعْنَاهُ تَكْذِيبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِكَ،
كَقَتْلِ آبَائِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، مَعَ الْإِتْيَانِ
بِالْقُرْبَانِ وَالْمُعْجِزَاتِ، ثُمَّ قَالَ مُعَزِّيًا
لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ
الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ (185) }
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} قَرَأَ ابْنُ
عَامِرٍ " وَبِالزُّبُرِ " أَيْ: بِالْكُتُبِ
الْمَزْبُورَةِ يَعْنِي: الْمَكْتُوبَةَ، وَاحِدُهَا
زَبُورٌ مِثْلَ: رَسُولٍ وَرُسُلٍ، {وَالْكِتَابِ
الْمُنِيرِ} الْوَاضِحِ الْمُضِيءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ نَفْسٍ} مَنْفُوسَةٍ،
{ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وَفِي الْحَدِيثِ: "لَمَّا خَلَقَ
اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ اشْتَكَتِ الْأَرْضُ إِلَى
رَبِّهَا لِمَا أُخِذَ مِنْهَا فَوَعَدَهَا أَنْ يَرُدَّ
فِيهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
يُدْفَنُ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا" (2) ،
{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} تُوَفَّوْنَ جَزَاءَ
أَعْمَالِكُمْ، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إِنْ خَيْرًا
فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، {فَمَنْ زُحْزِحَ}
نُجِّيَ وَأُزِيلَ، {عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ
فَقَدْ فَازَ} ظَفِرَ بِالنَّجَاةِ وَنَجَا مِنَ
الْخَوْفِ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ} يَعْنِي مَنْفَعَةٌ وَمُتْعَةٌ كَالْفَأْسِ
وَالْقِدْرِ وَالْقَصْعَةِ ثُمَّ تَزُولُ وَلَا تَبْقَى.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَخُضْرَةِ النَّبَاتِ وَلَعِبِ
الْبَنَاتِ لَا حَاصِلَ لَهُ.
__________
(1) في ب: (وهفيف) .
(2) لم يثبت بهذا اللفظ والذي يظهر والله أعلم أنه ليس
بحديث وقد ذكره الخازن في تفسيره ولم يشر إلى أنه حديثه.
انظر المطالب العالية 3 / 333 - 334 فقد ورد قريبا منه.
(2/145)
لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَتَاعٌ مَتْرُوكَةٌ
يُوشِكُ أَنْ تَضْمَحِلَّ بِأَهْلِهَا فَخُذُوا مِنْ هَذَا
الْمَتَاعِ بِطَاعَةِ اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَالْغُرُورُ: الْبَاطِلُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ
الْحِيرِيُّ، أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا بن
هَارُونَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ
لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا
أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"
وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ" (السَّجْدَةِ -17) وَإِنَّ فِي
الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا
مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ:
"وَظِلٍّ مَمْدُودٍ" (الْوَاقِعَةِ -30) وَلَمَوْضِعُ
سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا
عَلَيْهَا وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَمَنْ زُحْزِحَ
عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (1) .
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ (186) }
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}
الْآيَةَ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ
وَابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ
وَفِنْحَاصَ بْنِ عَازُورَاءَ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ
إِلَى فِنْحَاصَ بْنِ عَازُورَاءَ سَيِّدِ بَنِي
قَيْنُقَاعَ لِيَسْتَمِدَّهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا
وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "لَا
تَفْتَاتَنَّ (2) عَلَيَّ بِشَيْءٍ حَتَّى تَرْجِعَ"
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ
مُتَوَشِّحٌ بِالسَّيْفِ فَأَعْطَاهُ الْكِتَابَ فَلَمَّا
قَرَأَهُ قَالَ: قَدِ احْتَاجَ رَبُّكَ إِلَى أَنْ
نُمِدَّهُ، فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنْ يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا
تَفْتَاتَنَّ عَلَيَّ بِشَيْءٍ حَتَّى تَرْجِعَ" فَكَفَّ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (3) .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ
الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ كَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسُبُّ
الْمُسْلِمِينَ،
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الواقعة: 9 / 179 - 180
وقال حسن صحيح وأحمد في المسند: 2 / 438 عن أبي هريرة
وأخرج بعضه البخاري في التفسير باب "فلا تعلم نفس ما أخفي
لهم من قرة أعين" 9: 8 / 515 وفي بدء الخلق ومسلم في الجنة
وصفة نعيمها برقم (2824) : 4 / 2174. وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 15 / 208 - 209.
(2) كل من أحدث دونك شيئا ومضى عليه ولم يستشرك واستبد به
دونك فقد فاتك بالشيء وافتات عليك له أو فيه. وهو "افتعال"
من "الفوت" وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار أو مشورة.
وانظر: تعليق محمود شاكر على الطبري: 7 / 455 النهاية لابن
الأثير: 3 / 477.
(3) الطبري: 7 / 455 وعزاه السيوطي في لباب النقول ص (126)
لابن أبي حاتم وابن المنذر وقال: "إنه سند حسن" وانظر: فتح
الباري: 8 /231.
(2/146)
وَيُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ فِي شِعْرِهِ وَيُشَبِّبُ بِنِسَاءِ
الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ
فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"؟.
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا
لَكَ يَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ قَالَ:
"فَافْعَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ".
فَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَمَكَثَ ثَلَاثًا لَا
يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلَّا مَا تَعَلَّقَ نَفْسَهُ،
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: لِمَ تَرَكْتَ
الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قُلْتُ قَوْلًا وَلَا أَدْرِي هَلْ أَفِي بِهِ أَمْ لَا
فَقَالَ: إِنَّمَا عَلَيْكَ الْجُهْدُ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا
مِنْ أَنْ نَقُولَ قَالَ: قُولُوا مَا بَدَا لَكُمْ
فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ فِي
قَتْلِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَسِلْكَانُ بْنُ
سَلَامٍ وَأَبُو نَائِلَةَ، وَكَانَ أَخَا كَعْبٍ مِنَ
الرَّضَاعَةِ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَالْحَارِثُ بْنُ
أَوْسٍ وَأَبُو عِيسَى بْنُ جُبَيْرٍ فَمَشَى مَعَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ثُمَّ وَجَّهَهُمْ، وَقَالَ:
"انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ"
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ.
فَأَقْبَلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِهِ
فَقَدَّمُوا أَبَا نَائِلَةَ فَجَاءَهُ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ
سَاعَةً وَتَنَاشَدَا الشِّعْرَ، وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ
يَقُولُ الشِّعْرَ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ
الْأَشْرَفِ إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ
ذِكْرَهَا لَكَ فَاكْتُمْ عَلَيَّ قَالَ أَفْعَلُ قَالَ:
كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ بِلَادَنَا بَلَاءً
عَادَتْنَا الْعَرَبُ وَرَمَوْنَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ،
وَانْقَطَعَتْ عَنَّا السُّبُلُ حَتَّى ضَاعَتِ الْعِيَالُ
وَجَهَدَتِ الْأَنْفُسُ، فَقَالَ كَعْبٌ: أَنَا ابْنُ
الْأَشْرَفِ أَمَا وَاللَّهُ لَقَدْ كُنْتُ أَخْبَرْتُكَ
يَا بن سَلَامَةَ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى هَذَا،
فَقَالَ أبو نائلة: 75/ب إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا أَرَدْنَا
أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامَكَ وَنَرْهَنُكَ وَنُوَثِّقُ لَكَ
وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ قَالَ: أَتَرْهَنُونِي
أَبْنَاءَكُمْ قَالَ: إِنَّا نَسْتَحِي إِنْ يُعَيَّرَ
أَبْنَاؤُنَا فَيُقَالُ هَذَا رَهِينَةُ وَسْقٍ وَهَذَا
رَهِينَةُ وَسْقَيْنِ قَالَ: تَرْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ
قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ
الْعَرَبِ وَلَا نَأْمَنُكَ وَأَيَّةُ امْرَأَةٍ
تَمْتَنِعُ مِنْكَ لِجَمَالِكَ؟ وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ
الْحَلْقَةَ يَعْنِي: السِّلَاحَ وَقَدْ عَلِمْتَ
حَاجَتَنَا إِلَى السِّلَاحِ، قَالَ: نَعَمْ وَأَرَادَ
أَبُو نَائِلَةَ أَنْ لَا يُنْكِرَ السِّلَاحَ إِذَا رَآهُ
فَوَعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَرَجَعَ أَبُو نَائِلَةَ
إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ.
فَأَقْبَلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِهِ لَيْلًا
فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ وَكَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ
بِعُرْسٍ، فَوَثَبَ مِنْ مِلْحَفَتِهِ فَقَالَتِ
امْرَأَتُهُ: أَسْمَعُ صَوْتًا يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ،
وَإِنَّكَ رَجُلٌ مُحَارِبٌ وَإِنَّ صَاحِبَ الْحَرْبِ لَا
يَنْزِلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ فَكَلِّمْهُمْ مِنْ
فَوْقِ الْحِصْنِ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ
بْنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ وَإِنَّ
هَؤُلَاءِ لَوْ وَجَدُونِي نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي،
وَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ
أَجَابَ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ
سَاعَةً ثُمَّ قَالُوا: يَا بن الْأَشْرَفِ هَلْ لَكَ
إِلَى أَنْ نَتَمَاشَى إِلَى شِعْبِ الْعَجُوزِ
نَتَحَدَّثُ فِيهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ؟ قَالَ:
إِنْ شِئْتُمْ؟ فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ وَكَانَ أَبُو
نَائِلَةَ قَالَ: لِأَصْحَابِهِ إِنِّي فَاتِلٌ شَعْرَهُ
فَأَشُمُّهُ فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ
(2/147)
مِنْ رَأْسِهِ فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ،
ثُمَّ إِنَّهُ شَامَ يَدَهُ فِي فَوْدِ رَأْسِهِ ثُمَّ
شَمَّ يَدَهُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبَ
عَرُوسٍ قَطُّ، قَالَ: إِنَّهُ طِيبُ أُمِّ فُلَانٍ
يَعْنِي امْرَأَتَهُ، ثُمَّ مَشَى سَاعَةً ثُمَّ عَادَ
لِمِثْلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً
فَعَادَ لِمِثْلِهَا ثُمَّ أَخَذَ بِفَوْدَيْ رَأْسِهِ
حَتَّى اسْتَمْكَنَ ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عَدُوَّ
اللَّهِ فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ فَلَمْ
تُغْنِ شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
فَذَكَرْتُ مِغْوَلًا فِي سَيْفِي فَأَخَذْتُهُ وَقَدْ
صَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً لَمْ يَبْقَ حَوْلَنَا
حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ، قَالَ
فَوَضَعْتُهُ فِي ثُنْدُوَتِهِ ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ
حَتَّى بَلَغْتُ عَانَتَهُ وَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ،
وَقَدْ أُصِيبَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ بِجُرْحٍ فِي
رَأْسِهِ أَصَابَهُ بَعْضُ أَسْيَافِنَا، فَخَرَجْنَا
وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْنَا صَاحِبُنَا الْحَارِثُ
وَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَوَقَفْنَا لَهُ سَاعَةً ثُمَّ
أَتَانَا يَتْبَعُ آثَارَنَا فَاحْتَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا
بِهِ رَسُولَ اللَّهِ آخِرَ اللَّيْلِ وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَخَرَجَ إِلَيْنَا
فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ كَعْبٍ وَجِئْنَا بِرَأْسِهِ
إِلَيْهِ وَتَفَلَ عَلَى جُرْحِ صَاحِبِنَا.
فَرَجَعْنَا إِلَى أَهْلِنَا فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ خَافَتْ
يَهُودُ وَقْعَتَنَا بِعَدُوِّ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ
ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ"
فَوَثَبَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى سُنَيْنَةِ
رَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ الْيَهُودِ كَانَ يُلَابِسُهُمْ
وَيُبَايِعُهُمْ فَقَتَلَهُ وَكَانَ حُوَيِّصَةُ بْنُ
مَسْعُودٍ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ
مُحَيِّصَةَ فَلَمَّا قَتَلَهُ جَعَلَ حُوَيِّصَةُ
يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ قَتَلْتَهُ
أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ
مَالِهِ.
قَالَ مُحَيِّصَةُ: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ
مَنْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، قَالَ:
لَوْ أَمَرَكَ مُحَمَّدٌ بِقَتْلِي لَقَتَلْتَنِي؟ قَالَ:
نَعَمْ قَالَ وَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا
لَعَجَبٌ؟ ! فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ (1) وَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ كَعْبٍ: {لَتُبْلَوُنَّ}
لَتُخْبَرُنَّ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَفِيهِ مَعْنَى
الْقَسَمِ، وَالنُّونُ لِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ {فِي
أَمْوَالِكُمْ} بِالْجَوَائِحِ وَالْعَاهَاتِ
وَالْخُسْرَانِ {وَأَنْفُسِكُمْ} بِالْأَمْرَاضِ وَقِيلَ:
بِمَصَائِبِ الْأَقَارِبِ وَالْعَشَائِرِ، قَالَ عَطَاءٌ:
هُمُ الْمُهَاجِرُونَ أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ أَمْوَالَهُمْ
وَرِبَاعَهُمْ وَعَذَّبُوهُمْ وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مَا
فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ مِنَ
الْحُقُوقِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ
وَالْجِهَادِ وَالزَّكَاةِ، {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَعْنِي:
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}
يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ، {أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ
تَصْبِرُوا} عَلَى أَذَاهُمْ {وَتَتَّقُوا} اللَّهَ،
{فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} مِنْ حَقِّ
الْأُمُورِ وَخَيْرِهَا وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنْ حَقِيقَةِ
الْإِيمَانِ.
__________
(1) أخرج القصة بطولها ابن إسحاق في السيرة: 2 / 123 - 126
واختصرها البخاري في المغازي باب قتل كعب: 7 / 337 -
وانظر: تفسير الطبري: 7 / 456 - 458 وعزاه السيوطي في
اللباب ص (146) لعبد الرزاق وكذلك ابن حجر في الفتح: 8 /
231.
(2/148)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ
مَا يَشْتَرُونَ (187)
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا
تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ (187) }
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا
تَكْتُمُونَهُ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ
(2/148)
لَا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(188)
وَأَبُو بَكْرٍ بِالْيَاءِ فِيهِمَا
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ فِيهَا عَلَى إِضْمَارِ
الْقَوْلِ، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} أَيْ:
طَرَحُوهُ وَضَيَّعُوهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ،
{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} يَعْنِي: الْمَآكِلَ
وَالرُّشَا، {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} قَالَ قَتَادَةُ:
هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ
الْعِلْمِ فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيُعَلِّمْهُ
وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْلَا
مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مَا
حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ} الْآيَةَ.
حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْحَنَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاذٍ الشَّاهُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ
سَهْلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الدَّيْنَوَرِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبِرْتِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ
أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ سِمَاكِ
بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سُئِلَ
عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أُلِجْمَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ: أَتَيْتُ الزُّهْرِيَّ
بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ فَأَلْفَيْتُهُ عَلَى
بَابِهِ فَقُلْتُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُحَدِّثَنِي؟
فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنِّي قَدْ تَرَكْتُ الْحَدِيثَ؟
فَقُلْتُ: إِمَّا أَنْ تُحَدِّثَنِي وَإِمَّا أَنْ
أُحَدِّثَكَ فَقَالَ: حَدِّثْنِي فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي
الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ
قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ
الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا قَالَ: فَحَدَّثَنِي
أَرْبَعِينَ حَدِيثًا (2) .
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا
تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) }
قَوْلُهُ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا
أَتَوْا} الْآيَةَ قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ {لَا تَحْسَبَنَّ} بِالتَّاءِ،
__________
(1) أخرجه أبو داود في العلم باب كراهية منع العلم: 5 /
251 والترمذي في العلم باب ما جاء في كتمان العلم: 7 / 407
- 408 وقال: حديث حسن. ونقل المنذري تحسين الترمذي له ثم
قال: وقد روي عن أبي هريرة من طرق فيها مقال والطريق التي
أخرجه بها أبو داود طريق حسن فإنه رواه عن التبوذكي وقد
احتج به البخاري ومسلم - عن حماد بن مسلمة - وقد احتج به
مسلم واستشهد به البخاري - عن علي بن الحكم وهو أبو الحكم
البناني قال الإمام أحمد: ليس به بأس - عن عطاء بن أبي
رباح وقد اتفق الإمامان على الاحتجاج به. وأخرجه أيضا ابن
ماجه في المقدمة باب من سئل عن علمه فكتمه بلفظ "ما من رجل
يحفظ علما فيكتمه إلا أتي به يوم القيامة ملجما بلجام من
نار" برقم (261) : 1 / 96. والحاكم في المستدرك: 1 / 101
وصححه على شرط الشيخين وأحمد في المسند: 1 / 161، 2 / 263
ومواضع أخرى وابن عبد البر في جامع بيان العلم ص 22
والمصنف في شرح السنة: 1 / 301.
(2) أخرجه الحارث بن أبي أسامة أخبرنا عبد الوهاب الخفاقي
حدثنا الحسن بن عمارة حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن
الجزار قال سمعت عليا فذكره. . . والحسن متروك. ومن طريق
الحارث رواه الثعلبي وذكره ابن عبد البر في العلم قال:
ويروي عن علي. . وذكره صاحب الفردوس عن علي. انظر: الكافي
الشاف ص (35) .
(2/149)
أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ
الْفَارِحِينَ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ "لَا
يَحْسَبَنَّ" الْفَارِحُونَ فَرَحَهُمْ مُنْجِيًا لَهُمْ
مِنَ الْعَذَابِ {فَلَا يَحْسَبَنَّهُمْ} وَقَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بِالْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ
خَبَرًا عَنِ الْفَارِحِينَ، أَيْ فَلَا يَحْسَبُنَّ
أَنْفُسَهُمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ وَفَتْحِ
الْبَاءِ أَيْ: فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ يَا مُحَمَّدُ
وَأَعَادَ قَوْلَهُ {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تَأْكِيدًا
وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ {لَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} غَيْرِ تَكْرَارٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي
مَرْيَمَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي
زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
أَبِي سعيد الخدري 76/أأَنَّ رِجَالًا مِنَ
الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إِذَا خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ
خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا،
وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا،
فَنَزَلَتْ {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا
أَتَوْا} (1) الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَنَا
هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ: أَخْبَرَنِي
ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ: اذْهَبْ
يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فَقُلْ لَهُ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ
بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ
يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ
فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ
فَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ
اسْتُحْمِدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا
سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ،
ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ} كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ: {يَفْرَحُونَ بِمَا
أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا} (2) .
قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ وَأَشْيَعَ
وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَحْبَارِ يَفْرَحُونَ
بِإِضْلَالِهِمُ النَّاسَ وَبِنِسْبَةِ النَّاسِ
إِيَّاهُمْ إِلَى الْعِلْمِ وَلَيْسُوا بِأَهْلِ الْعِلْمِ
(3) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْيَهُودُ فَرِحُوا
بِإِعْجَابِ النَّاسِ بِتَبْدِيلِهِمُ الْكِتَابَ
وَحَمْدِهِمْ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير تفسير سورة آل عمران باب "لا
تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" 8 / 233 ومسلم في صفات
المنافقين وأحكامهم برقم (2777) : 4 / 2142.
(2) أخرجه البخاري في الموضع السابق نفسه ومسلم في الموضع
نفسه برقم (2778) .
(3) تفسير الطبري: 7 / 466.
(4) تفسير الطبري: 7 / 469.
(2/150)
وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ (190)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ
الْيَهُودُ فَرِحُوا بِمَا أَعْطَى اللَّهُ آلَ
إِبْرَاهِيمَ وَهُمْ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: أَتَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ
نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِفُكَ وَنُصَدِّقُكَ وَإِنَّا
عَلَى رَأْيِكُمْ وَنَحْنُ لَكُمْ رِدْءٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ: مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: عَرَفْنَاهُ
وَصَدَّقْنَاهُ فَقَالَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ:
أَحْسَنْتُمْ هَكَذَا فَافْعَلُوا فَحَمِدُوهُمْ وَدَعَوْا
لَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2)
وَقَالَ: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} قَالَ الْفَرَّاءُ
بِمَا فَعَلُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "لَقَدْ
جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا" (مَرْيَمَ -27) أَيْ: فَعَلْتِ،
{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} بِمَنْجَاةٍ، {مِنَ
الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) }
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَصْرِفُهَا
كَيْفَ يَشَاءُ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ
الْمَلِكِ بن الحسين الإسفرايني، أَنَا أَبُو عَوَانَةَ
يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَقَدَ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَآهُ اسْتَيْقَظَ فَتَسَوَّكَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَهُوَ
يَقُولُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَ فِيهِمَا الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ
وَالسُّجُودَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ
ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ
كُلُّ ذَلِكَ يَسْتَاكُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَقْرَأُ
هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ، ثُمَّ أَوْتَرَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ
ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ
وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا
وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي لِسَانِي نُورًا وَاجْعَلْ
خَلْفِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي
نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا اللَّهُمَّ أَعْطِنِي
نُورًا" (3) .
وَرَوَاهُ كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَزَادَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي
نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ
يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا" (4) .
__________
(1) تفسير الطبري: 7 / 469.
(2) الطبري: 7 / 471. وقد رجح الطبري أن المعني بهم أهل
الكتاب الذين أخبر الله عز وجل أنه أخذ ميثاقهم ليبين
للناس: أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا
يكتمونه. انظر ص 471 - 472 منه.
(3) أخرجه البخاري في الدعوات باب الدعاء إذا انتبه من
الليل: 11 / 116 بنحوه ومسلم في صلاة المسافرين باب الدعاء
في صلاة الليل وقيامه برقم (763) : 1 / 530 واللفظ له.
(4) مسلم في الموضع نفسه: 1 / 529.
(2/151)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ (192)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَآيَاتٍ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ} ذَوِي الْعُقُولِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا
بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) }
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالنَّخَعِيُّ
وَقَتَادَةُ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ يُصَلِّي قَائِمًا
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَعَلَى جَنْبٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، أَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ، أَنَا هَنَّادٌ أَنَا وَكِيعٌ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ الْمَرِيضِ فَقَالَ:
"صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ". (1) .
وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ أَرَادَ بِهِ
الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الذِّكْرِ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَخْلُو مِنْ إِحْدَى
هَذِهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ، نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ
النِّسَاءِ "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ"
{النِّسَاءِ -103} ، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَمَا أَبْدَعَ فِيهِمَا
لِيَدُلَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَيَعْرِفُوا
أَنَّ لَهَا صَانِعًا قَادِرًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا قَالَ
ابْنُ عَوْنٍ: الْفِكْرَةُ تُذْهِبُ الْغَفْلَةَ
وَتُحْدِثُ لِلْقَلْبِ الْخَشْيَةَ كَمَا يُحْدِثُ
الْمَاءُ لِلزَّرْعِ النَّبَاتَ، وَمَا جُلِيَتِ
الْقُلُوبُ بِمِثْلِ الْأَحْزَانِ وَلَا اسْتَنَارَتْ
بِمِثْلِ الْفِكْرَةِ، {رَبَّنَا} أَيْ: وَيَقُولُونَ
رَبَّنَا {مَا خَلَقْتَ هَذَا} رَدَّهُ إِلَى الْخَلْقِ
فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ هَذِهِ، {بَاطِلًا} أَيْ: عَبَثًا
وَهَزْلَا بَلْ خَلَقْتَهُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَانْتَصَبَ
الْبَاطِلُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: بِالْبَاطِلِ،
{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ} أَيْ: أَهَنْتَهُ، وَقِيلَ: أَهْلَكْتَهُ،
وَقِيلَ: فَضَحْتَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا
تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} (هُودٍ -78) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ
النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" (التَّحْرِيمِ -8)
وَمِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَقَدْ
قَالَ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ} قِيلَ: قَالَ أَنَسٌ وَقَتَادَةُ مَعْنَاهُ:
إِنَّكَ مَنْ تُخَلِّدْ فِي النَّارِ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ
(2) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ هَذِهِ خَاصَّةٌ
لِمَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا (3) فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ قَوْمًا
النَّارَ ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا" (4) . {وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
__________
(1) أخرجه البخاري في تقصير الصلاة باب إذا لم يطق قاعدا
صلى على جنب: 2 / 587 والمصنف في شرح السنة: 4 / 109.
(2) تفسير الطبري: 7 / 477.
(3) تفسير الطبري: 7 / 477.
(4) أخرج البخاري عن أنس " يخرج قوم من النار بعد ما مسهم
منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة: الجهنميين"
كتاب الرقاق باب صفة الجنة والنار: 11 / 416 وفي التوحيد:
13 / 434.
(2/152)
رَبَّنَا إِنَّنَا
سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا
مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا
وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا
يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا
رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا
تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ
الْمِيعَادَ (194) }
(2/153)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا
أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي
وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} يَعْنِي:
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ:
يَعْنِي الْقُرْآنَ فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَلْقَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يُنَادِي
لِلْإِيمَانِ} أَيْ إِلَى الْإِيمَانِ، {أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا
مَعَ الْأَبْرَارِ} أَيْ: فِي جُمْلَةِ الْأَبْرَارِ.
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أَيْ:
عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، {وَلَا تُخْزِنَا} وَلَا
تُعَذِّبْنَا وَلَا تُهْلِكْنَا وَلَا تَفْضَحْنَا وَلَا
تُهِنَّا، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ
الْمِيعَادَ}
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا وَآتِنَا
مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ
اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؟ قِيلَ: لَفْظُهُ
دُعَاءٌ وَمَعْنَاهُ خَبَرٌ أَيْ: لِتُؤْتِيَنَا مَا
وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ تَقْدِيرُهُ: {فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} {وَلَا
تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لِتُؤْتِيَنَا مَا
وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ
وَقِيلَ: معناه ربنا واجلعنأ 76/ب مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ
ثَوَابَكَ وَتُؤْتِيهِمْ مَا وَعَدْتَهُمْ عَلَى
أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَيَقَّنُوا
اسْتِحْقَاقَهُمْ لِتِلْكَ الْكَرَامَةِ فَسَأَلُوهُ أَنْ
يَجْعَلَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّمَا
سَأَلُوهُ تَعْجِيلَ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى
الْأَعْدَاءِ، قَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ لَا
تُخْلِفُ وَلَكِنْ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى حِلْمِكَ
فَعَجِّلْ خِزْيَهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ
أَنِّي} أَيْ: بِأَنِّي، {لَا أُضِيعُ} لَا أُحْبِطُ،
{عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ اللَّهَ
يَذْكُرُ
(2/153)
لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
الرِّجَالَ فِي الْهِجْرَةِ وَلَا يَذْكُرُ
النِّسَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (1) قَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي
الدِّينِ وَالنُّصْرَةِ وَالْمُوَالَاةِ، وَقِيلَ:
كُلُّكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
رِجَالُكُمْ شَكْلُ نِسَائِكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ شَكْلُ
رِجَالِكُمْ فِي الطَّاعَةِ، كَمَا قَالَ:
"وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ" (التَّوْبَةِ -71) .
{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أَيْ: فِي طَاعَتِي وَدِينِي،
وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ
الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَكَّةَ، {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا}
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ " وَقُتِّلُوا "
بِالتَّشْدِيدِ وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي أَنَّهُمْ
قُطِّعُوا فِي الْمَعْرَكَةِ، وَالْآخَرُونَ
بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ:
{وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا
الْعَدُوَّ ثُمَّ أَنَّهُمْ قُتِلُوا وَقَرَأَ حَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ {وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا} وَلَهُ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ وَقَاتَلَ مَنْ بَقِيَ
مِنْهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ {وَقُتِلُوا} أَيْ: قُتِلَ
بَعْضُهُمْ تَقُولُ الْعَرَبُ قَتَلْنَا بَنِي فُلَانٍ
وَإِنَّمَا قَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ
{وَقُتِلُوا} وَقَدْ قَاتَلُوا، {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَاالأنْهَار ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} نُصِبَ
عَلَى الْقَطْعِ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ
الْمُبَرِّدُ: مَصْدَرٌ أَيْ: لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا،
{وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ
(198) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} نَزَلَتْ فِي
الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي رَخَاءٍ
وَلِينٍ مِنَ الْعَيْشِ يَتَّجِرُونَ وَيَتَنَعَّمُونَ
فَقَالَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ
تَعَالَى فِيمَا نَرَى مِنَ الْخَيْرِ وَنَحْنُ فِي
الْجَهْدِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
الْبِلَادِ} وَضَرْبُهُمْ فِي الْأَرْضِ وَتَصَرُّفُهُمْ
فِي الْبِلَادِ لِلتِّجَارَاتِ وَأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ
فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُهُ.
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أَيْ: هُوَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَبُلْغَةٌ
فَانِيَةٌ وَمُتْعَةٌ زَائِلَةٌ، {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ}
مَصِيرُهُمْ، {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الْفِرَاشُ.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
نُزُلًا} جَزَاءً وَثَوَابًا، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ وَقِيلَ: جَعَلَ ذَلِكَ نُزُلًا
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} مِنْ مَتَاعِ
الدُّنْيَا.
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير تفسير سورة النساء: 8 / 377
وصححه الحاكم في المستدرك: 2 / 300 على شرط البخاري
والطبري في التفسير: 7 / 486 - 487. وعزاه السيوطي أيضا
لسعيد بن منصور وابن المنذر وعيد الرزاق وابن أبي حاتم
والطبراني عن أم سلمة أيضا. انظر: الدر المنثور: 2 / 412
ولباب النقول ص (150) بهامش الجلالين.
(2/154)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ
لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ
أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرُبَةٍ وَإِنَّهُ لَعَلَى
حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ
وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ
رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُورًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبٌ
مُعَلَّقَةٌ فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ،
فَبَكَيْتُ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ
وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ
تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ" (1) ؟ .
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي
النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ
وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةُ وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَمَّا مَاتَ نَعَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ
اخْرُجُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخٍ لَكُمْ مَاتَ بِغَيْرِ
أَرْضِكُمُ النَّجَاشِيِّ، فَخَرَجَ إِلَى الْبَقِيعِ
وَكُشِفَ لَهُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَأَبْصَرَ
سَرِيرَ النَّجَاشِيِّ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ
أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ فَقَالَ
الْمُنَافِقُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يُصَلِّي عَلَى
عِلْجٍ حَبَشِيٍّ نَصْرَانِيٍّ (2) لَمْ يَرَهُ قَطُّ
وَلَيْسَ عَلَى دِينِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ (3) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ نَجْرَانَ
أَرْبَعِينَ رَجُلًا [مِنْ بَنِي حَارِثِ بْنِ كَعْبٍ] (4)
اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ
وَثَمَانِيَةٍ مِنَ الرُّومِ كَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ
(5) .
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في التفسير تفسير سورة
التحريم باب: تبتغي مرضاة أزواجك" 8 / 657.
(2) زايدة من (ب) .
(3) قال ابن حجر: ذكره الثعلبي من قول ابن عباس وقتادة
وذكره الواحدي بلا إسناد ورواه الطبري وابن عدي في ترجمة
أبي بكر الهذلي واسمه سلمى وهو ضعيف عن قتادة عن سعيد ابن
المسيب عن جابر دون قوله: ونظر إلى أرض الحبشة. وأخرجه
الطبراني في الأوسط من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن
أبيه. انظر الكافي الشاف ص (37) . وعن أنس أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على النجاشي فكبر عليه
أربعا" رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني
رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد: 3 / 38 - 39 9 / 419.
تفسير ابن كثير: 1 / 440. وصلاة النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النجاشي ثابتة في الصحيحين. انظر
البخاري: 2 / 116 ومسلم: 2 / 656 - 657.
(4) زيادة من (ب) .
(5) انظر: البحر المحيط: 3 / 148.
(2/155)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي مُؤْمِنِي
أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ (1) ، {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} {وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ} يَعْنِي: التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ،
{خَاشِعِينَ لِلَّهِ} خَاضِعِينَ مُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ،
{لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}
يَعْنِي: لَا يُحَرِّفُونَ كُتُبَهُمْ وَلَا يَكْتُمُونَ
صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَجْلِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَأْكَلَةِ كَفِعْلِ
غَيْرِهِمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، {أُولَئِكَ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا
وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(200) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} قَالَ الْحَسَنُ:
اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَلَا تَدَعُوهُ لِشِدَّةٍ
وَلَا رَخَاءٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: اصْبِرُوا عَلَى
طَاعَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: عَلَى
أَمْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: عَلَى
الْجِهَادِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَلَى الْبَلَاءِ،
وَصَابِرُوا يَعْنِي: الْكُفَّارَ، وَرَابِطُوا يَعْنِي:
الْمُشْرِكِينَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، أَيْ دَاوِمُوا
وَاثْبُتُوا، وَالرَّبْطُ الشَّدُّ، وَأَصْلُ الرِّبَاطِ
أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ خُيُولَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ
خُيُولَهُمْ، ثُمَّ قِيلَ: لِكُلِّ مُقِيمٍ فِي ثَغْرٍ
يَدْفَعُ عَمَّنْ وَرَاءَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَرْكَبٌ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمُلَيْحِيُّ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُنِيرٍ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ، أَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا،
وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَوِ الْغُدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا"
(2) . .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ
الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ
أَبُو بَكْرٍ الْجُورَبَذِيُّ، أَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ
شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ عَنْ سَلْمَانَ الْخَيْرِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: "مَنْ رَابَطَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي سَبِيلِ
اللَّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ صِيَامِ
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 7 / 498 - 499، الدر المنثور: 2 /
388 وابن كثير: 1 / 440.
(2) أخرجه البخاري في الجهاد باب فضل رباط يوم في سبيل
الله. . 6 / 85، وقد ساق ابن كثير كثيرًا من الأحاديث في
هذا المعنى في تفسيره للآية: 1 / 445 - 448.
(2/156)
شَهْرٍ مُقِيمٍ، وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا
جَرَى لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الْأَجْرِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ
مِنَ الرِّزْقِ، وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ" (1) .
وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لَمْ
يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ انْتِظَارُ
الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّلَاةِ، وَدَلِيلُ هَذَا
التَّأْوِيلِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، أَنَا زَاهِرُ بْنُ
أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَنَا أَبُو
مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا
يَمْحُو اللَّهُ الخطايا ويرفع 77/أبِهِ الدَّرَجَاتِ؟
إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ
الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ
بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ
الرِّبَاطُ" (2) .
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَالَ
بَعْضُ أَرْبَابِ اللِّسَانِ: اصْبِرُوا عَلَى
النَّعْمَاءِ وَصَابِرُوا عَلَى الْبَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَرَابِطُوا فِي دَارِ الْأَعْدَاءِ
وَاتَّقُوا إِلَهَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله
عز وجل - برقم (1913) : 3 / 1520، بلفظ "رباط يوم وليلة"
والمصنف في شرح السنة: 10 / 352. والفتان: يروي بضم الفاء
وفتحها، فالضم جمع فاتن وهو الذي يضل الناس عن الحق
ويفتنهم وبالفتح هو الشيطان، لأنه يفتن الناس عن الدين،
وفتان: من أبنية المبالغة في الفتنة. انظر: النهاية: 3 /
410.
(2) أخرجه مسلم في الطهارة - باب فضل إسباغ الوضوء على
المكاره برقم (251) : 1 / 219، المصنف في شرح السنة: 1 /
320.
(2/157)