تفسير البغوي
طيبة يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ
مَا يُرِيدُ (1)
سُورَةِ الْمَائِدَةِ
مِائَةٌ وَعِشْرُونَ آية، نزلت بالمدنية كُلُّهَا إِلَّا
قَوْلَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الْآيَةَ،
فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَاتٍ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ
رُوِيَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حُكْمًا
لَمْ يُنْزِلْهَا فِي غَيْرِهَا، قَوْلُهُ: {وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا
أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ
تُعَلِّمُونَهُنَّ} {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَتَمَامُ الطُّهُورِ فِي
قَوْلِهِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ} {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
الْآيَةَ، {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ
وَلَا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} ذوقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} (1) . بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} أَيْ بِالْعُهُودِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ
أَوْكَدُ الْعُهُودِ، يُقَالُ: عَاقَدْتُ فُلَانًا وَعَقَدْتُ
عَلَيْهِ أَيْ: أَلْزَمْتُهُ ذَلِكَ بِاسْتِيثَاقٍ، وَأَصْلُهُ
مِنْ عَقْدِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ وَوَصْلِهِ بِهِ، كَمَا
__________
(1) أخرجه الفريابي، وأبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر،
وأبو الشيخ عن أبي ميسرة. انظر الدر المنثور: 3 / 4.
(2/5)
يُعْقَدُ الْحَبْلُ بِالْحَبْلِ [إِذَا
وُصِلَ] (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
هَذَا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، يَعْنِي: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْفُوا
بِالْعُهُودِ الَّتِي عَهِدْتُهَا إِلَيْكُمْ فِي شَأْنِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ" (سُورَةُ آلِ
عِمْرَانَ، 187) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ عَامٌّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ
بِهَا الْحِلْفَ الَّذِي تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: هِيَ عُهُودُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَقِيلَ: هِيَ
الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ.
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} قال 100/ب الْحَسَنُ
وَقَتَادَةُ: هِيَ الْأَنْعَامُ كُلُّهَا، وَهِيَ الْإِبِلُ
وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَأَرَادَ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الْأَجِنَّةُ،
وَمِثْلُهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: هِيَ الْأَجِنَّةُ
الَّتِي تُوجَدُ مَيْتَةً فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا إِذَا
ذُبِحَتْ أَوْ نُحِرَتْ، ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ
إِلَى تَحْلِيلِهِ.
[قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ] (2) قَرَأْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْخِرَقِيِّ فَقُلْتُ:
قُرِئَ عَلَى أَبِي سَهْلٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
طَرَفَةَ وَأَنْتَ حَاضِرٌ، فَقِيلَ لَهُ: حَدَّثَكُمْ أَبُو
سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرِ ابن دَاسَةَ
أَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ أَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا
هُشَيْمٌ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ قُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْحَرُ النَّاقَةَ وَنَذْبَحُ
الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ فَنَجِدُ فِي بَطْنِهَا الْجَنِينَ،
أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ؟ فَقَالَ: "كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ
فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ" (3) . وَرَوَى أَبُو
الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه أبو داود في الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين: 4
/ 118،
والترمذي في الصيد، باب ما جاء في ذكاة الجنين، بلفظ: "ذكاة
الجنين ذكاة أمه" وقال: حديث حسن. والدارقطني في الصيد
والذبائح والأطعمة: 4 / 274، والإمام أحمد في المسند: 3 / 31،
45، 53، والمصنف في شرح السنة: 11 / 228. كلهم رووه من طريق
مجالد عن أبي الودّاك عن أبي سعيد الخدري. قال عبد الحق: لا
يحتج بأسانيده كلها. وقال الغزالي: هو حديث صحيح لا يتطرق
احتمال إلى متنه ولا ضعف إلى سنده. وقال الحافظ ابن حجر: في
هذا نظر، والحق أن فيه ما تنتهض به الحجة، وهو مجموع طرقه،
وطرق حديث جابر -الآتي بعد هذا مباشرة-
انظر: تلخيص الحبير: 4 / 156-158، نصب الراية: 4 / 189-192،
مختصر المنذري لسنن أبي داود: 4 / 119-121.
(2/6)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ
رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (2)
قَالَ" "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ
أُمِّهِ" (1) .
وَشَرَطَ بَعْضُهُمُ الْإِشْعَارَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ:
ذَكَاةُ مَا فِي بَطْنِهَا فِي ذَكَاتِهَا إِذَا تَمَّ
خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ، وَمِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحِلُّ
أَكْلُ الْجَنِينِ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا بَعْدَ ذَكَاةِ
الْأُمِّ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: وَحْشِيُّهَا،
وَهِيَ الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ، سُمِّيَتْ بَهِيمَةً
لِأَنَّهَا أُبْهِمَتْ عَنِ التَّمْيِيزِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا
لَا نُطْقَ لَهَا، {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَيْ: مَا
ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ"
إِلَى قَوْلِهِ: "وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ"، {غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ} وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا
مُحِلِّي الصَّيْدِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ كُلُّهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا
وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ لَا يَحِلُ لَكُمْ فِي حَالِ
الْإِحْرَامِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ
اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا
الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} نَزَلَتْ فِي الْحُطَمِ
وَاسْمُهُ شُرَيْحُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْبَكْرِيُّ، أَتَى
الْمَدِينَةَ وَخَلَّفَ خَيْلَهُ [خَارِجَ] (2) الْمَدِينَةِ،
وَدَخَلَ وَحْدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: إِلَى مَا تَدْعُو النَّاسَ؟ فَقَالَ:
إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، [وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ] (3) وَإِقَامِ الصَّلَاةِ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الضحايا، باب ما جاء في ذكاة الجنين: 4
/ 119، والدارمي في الأضاحي، باب في ذكاة الجنين: 2 / 84،
والدارقطني: 4 / 273 بلفظ "كل الجنين في بطن أمه"، وصححه
الحاكم في المستدرك على شرط مسلم ووافقه الذهبي: 4 / 114.
وعزاه الهيثمي في المجمع: 4 / 35 والزيلعي في نصب الراية: 4 /
189 لأبي يعلى في مسنده. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 11 /
229.
قال المنذري: في إسناده عبد الله بن أبي زياد المكي القداح،
وفيه مقال. وقال الهيثمي: فيه حماد بن شعيب وهو ضعيف. وصححه
الألباني في إرواء الغليل: 8 / 172.
(2) في "ب": (ظاهر) .
(3) ساقط من "ب".
(2/7)
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَقَالَ: [حَسَنٌ]
(1) إِلَّا أَنَّ لِي أُمَرَاءَ لَا أَقْطَعُ أَمْرًا
دُونَهُمْ، وَلَعَلِّي أُسْلِمُ وَآتِي بِهِمْ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ: يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ رَبِيعَةَ
يَتَكَلَّمُ [بِلِسَانِ] (2) شَيْطَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ شُرَيْحٌ
مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ
بِقَفَا غَادِرٍ وَمَا الرَّجُلُ بِمُسْلِمٍ، فَمَرَّ بِسَرْحِ
الْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَهُ وَانْطَلَقَ، فَاتَّبَعُوهُ فَلَمْ
يُدْرِكُوهُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْقَابِلُ خَرَجَ
حَاجًّا فِي حُجَّاجِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنَ الْيَمَامَةِ
وَمَعَهُ تِجَارَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ قَلَّدَ الْهَدْيَ،
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: هَذَا الْحُطَمُ قَدْ خَرَجَ حَاجًّا فَخَلِّ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ قَلَّدَ الْهَدْيَ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا شَيْءٌ كُنَّا
نَفْعَلُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا
شَعَائِرَ اللَّهِ} (3) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ مَنَاسِكُ الْحَجِّ،
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ وَيُهْدُونَ، فَأَرَادَ
الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ
عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَعَائِرُ اللَّهِ هِيَ الْهَدَايَا
الْمُشْعَرَةُ، وَالْإِشْعَارُ مِنَ الشِّعَارِ، وَهِيَ
الْعَلَامَةُ، وَإِشْعَارُهَا: إِعْلَامُهَا بِمَا يُعْرَفُ
أَنَّهَا هَدْيٌ، وَالْإِشْعَارُ هَاهُنَا: أَنْ يَطْعَنَ فِي
صَفْحَةِ سَنَامِ الْبَعِيرِ بِحَدِيدَةٍ حَتَّى يَسِيلَ
الدَّمُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَامَةً أَنَّهَا هَدْيٌ، وَهِيَ
سُنَّةٌ فِي الْهَدَايَا إِذَا كَانَتْ مِنَ الْإِبِلِ، لِمَا
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ أَنَا أَفْلَحُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ
بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي،
ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حُرِّمَ
عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ (4) .
وَقَاسَ الشَّافِعِيُّ الْبَقَرَ عَلَى الْإِبِلِ فِي
الْإِشْعَارِ، وَأَمَّا الْغَنَمُ فَلَا تُشْعَرُ بِالْجَرْحِ،
فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْجَرْحَ لِضَعْفِهَا، وَعِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُشْعَرُ الْهَدْيُ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا: لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ هِيَ أَنْ تَصِيدَ
وَأَنْتَ مُحْرِمٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا"، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ
حَرَمَ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ
الْقَتْلِ فِي الْحَرَمِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: شَعَائِرُ اللَّهِ
حُرُمَاتُ اللَّهِ وَاجْتِنَابُ سَخَطِهِ وَاتِّبَاعُ
طَاعَتِهِ.
قَوْلُهُ: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} أَيْ: بِالْقِتَالِ
فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ النَّسِيءُ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِلُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَامًا
وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، {وَلَا الْهَدْيَ} وَهُوَ كُلُّ مَا
يُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ
__________
(1) في "ب": (حسبي) .
(2) في "ب": (بكلام) .
(3) انظر: تفسير الطبري: 9 / 472-473، الدر المنثور: 3 / 9-10،
أسباب النزول للواحدي ص (219) ، تفسير القرطبي: 6 / 43.
(4) أخرجه البخاري في الحج، باب من أشعر وقلد بذي الحليفة: 3 /
542، ومسلم في الحج، باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم ... برقم
(1321) : 2 / 957، والمصنف في شرح السنة: 7 / 92.
(2/8)
بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، {وَلَا الْقَلَائِدَ}
أَيِ: الْهَدَايَا الْمُقَلَّدَةُ، يُرِيدُ ذَوَاتَ
الْقَلَائِدِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ أَصْحَابَ
الْقَلَائِدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
إِذَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنَ الْحَرَمِ قَلَّدُوا
أَنْفُسَهُمْ وَإِبِلَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ
الْحَرَمِ كَيْلَا يُتَعَرَّضَ لَهُمْ، فَنَهَى الشَّرْعُ عَنِ
اسْتِحْلَالِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ
الشِّخِّيرِ: هِيَ الْقَلَائِدُ نَفْسُهَا وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ
مَكَّةَ وَيَتَقَلَّدُونَهَا فَنُهُوا عَنْ نَزْعِ شَجَرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}
أَيْ: قَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، يَعْنِي: الْكَعْبَةَ
فَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُمْ، {يَبْتَغُونَ} يَطْلُبُونَ
{فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ} يَعْنِي الرِّزْقَ بِالتِّجَارَةِ،
{وَرِضْوَانًا} أَيْ: عَلَى زَعْمِهِمْ؛ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ
لا نصيب له فِي الرِّضْوَانِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَنْ
يُصْلِحَ مَعَاشَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُعَجِّلَ لَهُمُ
الْعُقُوبَةَ فِيهَا، وَقِيلَ: ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَامَّةً، وَابْتِغَاءُ
الرِّضْوَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ، وَهَذِهِ
الْآيَةُ إِلَى هَاهُنَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: "فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" (سُورَةُ التَّوْبَةِ،
5) وَبِقَوْلِهِ: "فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا" (سُورَةُ التَّوْبَةِ، 28) ، فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ مُشْرِكٌ وَلَا أَنْ يَأُمَّنَ كَافِرٌ
بِالْهَدْيِ وَالْقَلَائِدِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} مِنْ
إِحْرَامِكُمْ، {فَاصْطَادُوا} أَمْرُ إِبَاحَةٍ، أَبَاحَ
لِلْحَلَالِ أَخْذَ الصَّيْدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ"
(الْجُمُعَةِ، 10) .
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ:
لَا يَحْمِلَنَّكُمْ، يُقَالُ: جَرَمَنِي فُلَانٌ عَلَى أَنْ
صَنَعْتُ كَذَا، أَيْ حَمَلَنِي، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا
يَكْسِبَنَّكُمْ، يُقَالُ: جَرَمَ أَيْ: كَسَبَ، وَفُلَانٌ
جَرِيمَةُ أَهْلِهِ، أَيْ: كَاسِبُهُمْ، وَقِيلَ: لَا
يَدْعُوَنَّكُمْ، {شَنَآنُ قَوْمٍ} أَيْ: بُغْضُهُمْ
وَعَدَاوَتُهُمْ، وَهُوَ مَصْدَرُ شَنَئْتَ، قرأ ابن ابْنُ
عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ {شَنْآنُ قَوْمٍ} بِسُكُونِ النُّونِ
الْأُولَى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا
لُغَتَانِ، وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ، لِأَنَّ الْمَصَادِرَ
أَكْثَرُهَا فَعَلَانِ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُ
الضَّرَبَانِ وَالسَّيَلَانِ وَالنَّسَلَانِ وَنَحْوِهَا،
{أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قَرَأَ ابْنُ
كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى
الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ،
أَيْ: لِأَنْ صَدُّوكُمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَا
يَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَةُ قَوْمٍ عَلَى الِاعْتِدَاءِ
لِأَنَّهُمْ صَدُّوكُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ:
لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ قِصَّةِ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ الصَّدُّ قَدْ تَقَدَّمَ، {أَنْ
تَعْتَدُوا} عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ،
{وَتَعَاوَنُوا} أَيْ: لِيُعِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، {عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} قِيلَ: الْبِرُّ مُتَابَعَةُ
الْأَمْرِ، وَالتَّقْوَى مُجَانَبَةُ النَّهْيِ، وَقِيلَ:
الْبِرُّ: الْإِسْلَامُ، وَالتَّقْوَى: السُّنَّةُ، {وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قِيلَ:
الْإِثْمُ: الْكُفْرُ، وَالْعُدْوَانُ: الظُّلْمُ، وَقِيلَ:
الْإِثْمُ: الْمَعْصِيَةُ، والعدوان: البدعة.
(2/9)
101\أأَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
طَاهِرٍ الدَّقَّاقُ بِبَغْدَادَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْقُرَشِيُّ أَنَا
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ أَنَا زَيْدُ بْنُ
الْحُبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرِ بْنِ مَالِكٍ
الْحَضْرَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النُّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ
الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، قَالَ:
"الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي
نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" (1) .
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
__________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب تفسير البر والإثم، برقم
(2553) : 4 / 1980، والمصنف في شرح السنة: 13 / 76.
(2/10)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ} أَيْ: مَا ذُكِرَ عَلَى ذَبْحِهِ اسْمُ غَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى، {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وَهِيَ الَّتِي
تَخْتَنِقُ فَتَمُوتُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَهْلُ
الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إِذَا مَاتَتْ
أَكَلُوهَا، {وَالْمَوْقُوذَةُ} هِيَ الْمَقْتُولَةُ
بِالْخَشَبِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَضْرِبُونَهَا
بِالْعَصَا فَإِذَا مَاتَتْ أَكَلُوهَا، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}
هِيَ الَّتِي تَتَرَدَّى مِنْ مَكَانٍ عَالٍ أَوْ فِي بِئْرٍ
فَتَمُوتُ، {وَالنَّطِيحَةُ} وَهِيَ الَّتِي تَنْطَحُهَا
أُخْرَى فَتَمُوتُ، وَهَاءُ التَّأْنِيثِ تَدْخُلُ فِي
الْفَعِيلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، فَإِذَا كَانَ
بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ اسْتَوَى فِيهِ الْمُذَكَّرُ
وَالْمُؤَنَّثُ، نَحْوَ عَيْنٍ كَحِيلٍ وَكَفٍّ خَضِيبٍ،
فَإِذَا حَذَفْتَ الِاسْمَ وَأَفْرَدْتَ الصِّفَةَ، أَدْخَلُوا
الْهَاءَ فَقَالُوا: رَأَيْنَا كَحِيلَةً وَخَضِيبَةً، وَهُنَا
أَدْخَلَ الْهَاءَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا الِاسْمُ،
فَلَوْ أَسْقَطَ الْهَاءَ لَمْ يُدْرَ أَنَّهَا صِفَةُ
مُؤَنَّثٍ أَمْ مُذَكَّرٍ، وَمِثْلُهُ الذَّبِيحَةُ
وَالنَّسِيكَةُ، وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ {وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ} يُرِيدُ مَا بَقِيَ مِمَّا أَكَلَ السَّبْعُ،
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَهُ، {إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ} يَعْنِي: إِلَّا مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ مِنْ
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
(3/10)
وَأَصْلُ التَّذْكِيَةِ الْإِتْمَامُ،
يُقَالُ: ذَكَّيْتَ النَّارَ إِذَا أَتْمَمْتَ إِشْعَالَهَا،
وَالْمُرَادُ هُنَا: إِتْمَامُ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ
وَإِنْهَارُ الدَّمِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ" (1) .
وَأَقَلُّ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَقْدُورِ عليه قطع
المري وَالْحُلْقُومِ وَكَمَا لَهُ أَنْ يَقْطَعَ
الْوَدَجَيْنِ مَعَهُمَا، وَيَجُوزُ بِكُلِّ مُحَدَّدٍ
يَقْطَعُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ زُجَاجٍ أَوْ حَجَرٍ
إِلَّا السِّنَّ وَالظُّفُرَ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الذَّبْحِ بِهِمَا،
وَإِنَّمَا يَحِلُّ مَا ذَكَّيْتَهُ بَعْدَمَا جَرَحَهُ
السَّبُعُ وَأَكَلَ شَيْئًا مِنْهُ إِذَا أَدْرَكْتَهُ
وَالْحَيَاةُ فِيهِ مُسْتَقِرَّةٌ فَذَبَحْتَهُ، فَأَمَّا مَا
صَارَ بِجَرْحِ السَّبُعِ إِلَى حَالَةِ الْمَذْبُوحِ، فَهُوَ
فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ، فَلَا يَكُونُ حَلَالًا وَإِنْ
ذَبَحْتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ إِذَا
أَدْرَكْتَهَا حَيَّةً قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ إِلَى حَالَةِ
الْمَذْبُوحِ فَذَبَحْتَهَا تَكُونُ حَلَالًا وَلَوْ رَمَى
إِلَى صَيْدٍ فِي الْهَوَاءِ فَأَصَابَهُ فَسَقَطَ عَلَى
الْأَرْضِ فَمَاتَ كَانَ حَلَالًا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى
الْأَرْضِ مِنْ ضَرُورَتِهِ، فَإِنْ سَقَطَ عَلَى جَبَلٍ أَوْ
شَجَرٍ أَوْ سَطْحٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ فَمَاتَ فَلَا
يَحِلُّ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَرَدِّيَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
السَّهْمُ أَصَابَ مَذْبَحَهُ فِي الْهَوَاءِ فَيَحِلُّ كَيْفَ
مَا وَقَعَ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ حَصَلَ بِإِصَابَةِ
السَّهْمِ الْمَذْبَحَ.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قِيلَ: النُّصُبُ جَمْعٌ
وَاحِدُهُ نِصَابٌ، وَقِيلَ: هُوَ وَاحِدٌ وَجَمْعُهُ
أَنْصَابٌ مِثْلُ عُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ، وَهُوَ الشَّيْءُ
الْمَنْصُوبُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: كَانَتْ
حَوْلَ الْبَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَجَرًا
مَنْصُوبَةً، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَهَا
وَيُعَظِّمُونَهَا وَيَذْبَحُونَ لَهَا، وَلَيْسَتْ هِيَ
بِأَصْنَامٍ، إِنَّمَا الْأَصْنَامُ هِيَ الْمُصَوَّرَةُ
الْمَنْقُوشَةُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: هِيَ الْأَصْنَامُ
الْمَنْصُوبَةُ، وَمَعْنَاهُ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ
النُّصُبِ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: هُمَا وَاحِدٌ، قَالَ
قُطْرُبٌ: عَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ: وَمَا ذُبِحَ
لِأَجْلِ النُّصُبِ.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} أَيْ: وَيَحْرُمُ
عَلَيْكُمُ الِاسْتِقْسَامَ بِالْأَزْلَامِ، وَالِاسْتِقْسَامُ
هُوَ طَلَبُ الْقَسْمِ وَالْحُكْمِ مِنَ الْأَزْلَامِ،
وَالْأَزْلَامُ هِيَ: الْقِدَاحُ الَّتِي لَا رِيشَ لَهَا
وَلَا نَصْلَ، وَاحِدُهَا: زَلْمٌ، وَزُلْمٌ بِفَتْحِ الزَّايِ
وَضَمِّهَا، وَكَانَتْ أَزْلَامُهُمْ سَبْعَةَ قِدَاحٍ
مُسْتَوِيَةٍ مِنْ شَوْحَطٍ (2) يَكُونُ عِنْدَ سَادِنِ
الْكَعْبَةِ، مَكْتُوبٌ عَلَى وَاحِدٍ: نَعَمْ، وَعَلَى
وَاحِدٍ: لَا وَعَلَى وَاحِدٍ: مِنْكُمْ، وَعَلَى وَاحِدٍ:
مِنْ غَيْرِكُمْ، وَعَلَى
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما أنهر الدم من
القصب والمروة والحديد: 9 / 631، ومسلم في الأضاحي، باب جواز
الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظم، برقم
(1968) : 3 / 1558.
(2) الشَّوْحَط: شجر تتخذ منه القسيّ. (القاموس المحيط: 2 /
680) ، وانظر: الميسر والقداح، لابن قتيبة ص (44) وما بعدها.
(3/11)
وَاحِدٍ: مُلْصَقٌ، وَعَلَى وَاحِدٍ:
الْعَقْلُ، وَوَاحِدٌ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ،
فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا مِنْ سَفَرٍ أَوْ نِكَاحٍ
أَوْ خِتَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ تَدَارَءُوا فِي نَسَبٍ أَوِ
اخْتَلَفُوا فِي تَحَمُّلِ عَقْلٍ جَاءُوا إِلَى هُبَلَ،
وَكَانَ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَجَاءُوا
بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَوْهَا صَاحِبَ الْقِدَاحِ حَتَّى
يُجِيلَ الْقِدَاحَ، وَيَقُولُونَ: يَا إِلَهَنَا إِنَّا
أَرَدْنَا كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ خَرَجَ نَعَمْ، فَعَلُوا،
وَإِنْ خَرَجَ لَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ حَوْلًا ثُمَّ
عَادُوا إِلَى الْقِدَاحِ ثَانِيَةً، فَإِذَا أَجَالُوا عَلَى
نَسَبٍ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْكُمْ كَانَ وَسَطًا مِنْهُمْ،
وَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِكُمْ كَانَ حَلِيفًا، وَإِنْ خَرَجَ
مُلْصَقٌ كَانَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا
حِلْفَ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي عَقْلٍ فَمَنْ خَرَجَ
عَلَيْهِ قَدَحُ الْعَقْلِ حَمَلَهُ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ
أَجَالُوا ثَانِيًا حَتَّى يَخْرُجَ الْمَكْتُوبُ، فَنَهَى
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ وَحَرَّمَهُ، وَقَالَ:
{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْأَزْلَامُ
حَصًى بِيضٌ كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا، وَقَالَ مُجَاهِدٍ:
هِيَ كِعَابُ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَتَقَامَرُونَ
بِهَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ: الْأَزْلَامُ
لِلْعَرَبِ، وَالْكِعَابُ لِلْعَجَمِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ
وَكِيعٍ: هِيَ الشِّطْرَنْجُ، وَرُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعِيَافَةُ
وَالطَّرْقُ وَالطِّيَرَةُ مِنَ الْجِبْتِ" (1) وَالْمُرَادُ
مِنَ الطَّرْقِ: الضَّرْبُ بِالْحَصَى.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا ابْنُ فَنْجَوَيْهِ أَنَا
ابْنُ الْفَضْلِ الْكِنْدِيُّ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ
دَاوُدَ الْخَشَّابُ أَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا [أَبُو
الْمُخْتَارِ] (2) عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ
رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ
تَكَهَّنَ أَوِ اسْتَقْسَمَ أَوْ تَطَيَّرَ طِيَرَةً تَرُدُّهُ
عَنْ سَفَرِهِ لَمْ يَنْظُرْ إلى الدرجات العلى مِنَ
الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (3) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ} يَعْنِي: أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ
كُفَّارًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْمَعُونَ
فِي عَوْدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دِينِهِمْ فَلَمَّا قَوِيَ
الْإِسْلَامُ يَئِسُوا، وَيَئِسَ وَأَيِسَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا} نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاقِفٌ بِعَرَفَاتٍ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ، فَكَادَتْ
عَضُدُ النَّاقَةِ تَنْدَقُّ مِنْ ثِقَلِهَا فَبَرَكَتْ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطب، باب في الخط وزجر الطير: 5 / 373،
وأحمد في المسند: 3 / 477، 5 / 60، والمصنف في شرح السنة: 12 /
177. وعزاه المنذري للنسائي. قال النووي: إسناده حسن. انظر:
فيض القدير: 4 / 396.
(2) في "ب": (أبو المحياة) . وهو يحيى بن يعلى التيمي، ثقة من
الثامنة. (التقريب) .
(3) عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط، وقال: فيه محمد بن الحسن
بن أبي يزيد، وهو كذاب. مجمع الزوائد: 1 / 128. وأخرجه أبو
نعيم في الحلية: 5 / 174، وقال: غريب من حديث الثوري عن عبد
الملك، تفرد به محمد بن الحسن.
(3/12)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَاحِ
سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ أَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَنَا
قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ
الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي
كِتَابِكُمْ تَقْرَأُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ
الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا،
قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قَالَ: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا" قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرْفَنَا ذَلِكَ
الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ
بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (1) . أَشَارَ عُمَرُ إِلَى
أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ عِيدًا لَنَا".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَمْسَةُ
أَعْيَادٍ: جُمْعَةٌ وَعَرَفَةُ وعيد اليهود 101/ب
وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ أَعْيَادُ
أَهْلِ الْمِلَلِ فِي يَوْمٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
رَوَى هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَا يُبْكِيكَ يَا عُمَرُ"؟ فَقَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا
كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا نَقُصَ، قَالَ:
صَدَقْتَ (2) .
وَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَعْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاشَ بَعْدَهَا إِحْدَى وَثَمَانِينَ
يَوْمًا، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَمَا زَاغَتِ
الشَّمْسُ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ [سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ،
وَقِيلَ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ] (3) وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ فِي الثَّانِي
عَشَرَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ} يَعْنِي: يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، يَعْنِي الْفَرَائِضَ
وَالسُّنَنَ وَالْحُدُودَ وَالْجِهَادَ وَالْأَحْكَامَ
وَالْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَلَمَّ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ
الْآيَةِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ
الْفَرَائِضِ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ آيَةَ الرِّبَا
نَزَلَتْ بَعْدَهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ فَلَمْ يَحُجَّ مَعَكُمْ مُشْرِكٌ.
وَقِيلَ: أَظْهَرْتُ دِينَكُمْ وَأَمَّنْتُكُمْ مِنَ
الْعَدُوِّ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة المائدة، باب "اليوم
أكملت لكم دينكم ... ": 8 / 270، وفي الإيمان، والاعتصام.
وأخرجه مسلم في التفسير، برقم (3017) : 4 / 2313.
(2) أخرجه الطبري في التفسير: 9 / 519، وعزاه السيوطي لابن أبي
شيبة. انظر الدر المنثور: 3 / 18.
(3) ما بين القوسين ساقط من: "ب".
(3/13)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} يَعْنِي: وَأَنْجَزْتُ وَعْدِي فِي
قَوْلِ "وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ" (سُورَةُ
الْبَقَرَةِ، 150) ، فَكَانَ مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ أَنْ
دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ وَعَلَيْهَا ظَاهِرِينَ، وَحَجُّوا
مُطْمَئِنِّينَ لَمْ يُخَالِطْهُمْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
سَمِعْتُ عَبْدَ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ
بْنَ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسَيَّبِ الْمَرْوَزِيَّ، سَمِعْتُ
أَبَا حَاتِمٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ الْحَنْظَلِيَّ،
سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَسْلَمَةَ أَنَا مَرْوَانُ
الْمِصْرِيُّ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمِعْتُ عَمِّي
مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا
دِينٌ ارْتَضَيْتُهُ لِنَفْسِي وَلَنْ يُصْلِحَهُ إِلَّا
السَّخَاءُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ، فَأَكْرِمُوهُ بِهِمَا مَا
صَحِبْتُمُوهُ" (1)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}
أَيْ: أُجْهِدَ فِي مَجَاعَةٍ، وَالْمَخْمَصَةُ خُلُوُّ
الْبَطْنِ مِنَ الْغِذَاءِ، يُقَالُ: رَجُلٌ خَمِيصُ الْبَطْنِ
إِذَا كَانَ طَاوِيًا خَاوِيًا، {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ}
أَيْ: مَائِلٍ إِلَى إِثْمٍ وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ فَوْقَ
الشِّبَعِ، وَقَالَ قَتَادَةُ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِمَعْصِيَةٍ
فِي مَقْصِدِهِ، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَفِيهِ
إِضْمَارٌ، أَيْ: فَأَكَلَهُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
الْمَرْوَزِيُّ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سِرَاجٍ الطَّحَّانُ أَنَا أَبُو أَحْمَدَ
مُحَمَّدُ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَا أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ أَنَا
أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
كَثِيرٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّا نَكُونُ بِالْأَرْضِ فَتُصِيبُنَا بِهَا
الْمَخْمَصَةُ فَمَتَى تَحِلُّ لَنَا الْمَيْتَةُ؟ فَقَالَ:
"مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط عن جابر، وبمعناه أيضا عن عمران
بن حصين، ورواه الأصبهاني وذكره المنذري بصيغة التضعيف في
الترغيب والترهيب: 3 / 383، 406. وقال الهيثمي: "رواه
الطبراني، وفيه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك" مجمع
الزوائد: 3 / 248، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة
برقم (1282) : 3 / 441-442. وانظر: بحثا بعنوان: إن الدين عند
الله الإسلام. في مجلة البحوث الإسلامية، العدد (16) .
(3/14)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
تَغْتَبِقُوا أَوْ تَحْتَفِئُوا بِهَا
بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا" (1) .
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ
مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (4) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ
لَهُمْ} الْآيَةَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَزَيْدِ بْنِ
الْمُهَلْهِلِ الطَّائِيَّيْنِ وَهُوَ زَيْدُ الْخَيْلِ
الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَيْدَ الْخَيْرِ، قَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِالْكِلَابِ وَالْبُزَاةِ فَمَاذَا
يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (2) .
وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا؟ فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ (3) فَلَمَّا نَزَلَتْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اقْتِنَاءِ الْكِلَابِ
الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا، وَنَهَى عَنْ إِمْسَاكِ مَا لَا
نَفْعَ فِيهِ مِنْهَا.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا
أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بِشْرَانَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ أَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنِ
اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ
زَرْعٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ" (4)
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي سَبَبِ نِزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يَعْنِي: الذَّبَائِحَ
عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: كُلُّ مَا
تَسْتَطِيبُهُ الْعَرَبُ
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند: 5 / 218، والدارمي في
الأضاحي، باب في أكل الميتة للمضطر: 2 / 88. وأخرجه أيضا:
البيهقي والطبراني، ورجاله ثقات، إلا أن في إسناده انقطاعا،
فإن حسان بن عطية لم يسمع من أبي واقد الليثي، واختلف في صحبة
أبي واقد. وأخرجه المصنف أيضا في شرح السنة: 11 / 347، وساقه
ابن كثير برواية الإمام أحمد وقال: "هو إسناد صحيح على شرط
الشيخين". ومعنى قوله "تحتفئوا بها بقلا": قال أبو عبيد: بلغني
أنه من الحفاء، مهموز مقصور، وهو أصل البردي الأبيض الرطب منه،
وهو يؤكل، يقول: ما لم تقتلعوا هذا بعينه، فتأكلوه. وقيل:
صوابه "ما لم تحتفوها بها بقلا" مخفف الفاء غير مهموز، وكل شيء
استؤصل فقد احتفي، ومنه إحفاء الشعر، يقال: احتفى الرجل يحتفي:
إذا أخذ من وجه الأرض بأطراف أصابعه. وقال: معنى الحديث: إنما
لكم منها، يعني من الميتة، الصبوح: وهو الغداء، أو الغبوق: وهو
العشاء، فليس لكم أن تجمعوهما من الميتة. وأنكروا هذا على أبي
عبيد، وقالوا: معناه: إذا لم تجدوا صبوحا أو غبوقا، ولم تجدوا
بقلة تأكلونها حلت لكم الميتة ... انظر: شرح السنة: 11 /
347-348.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، انظر: الدر المنثور:
3 / 20، أسباب النزول للواحدي ص (222-223) .
(3) أخرجه الحاكم عن أبي رافع: 2 / 311 وصححه، ووافقه الذهبي،
وانظر: أسباب النزول للواحدي ص (221) ، الدر المنثور: 3 / 21.
(4) أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة، باب اقتناء الكلب
للحرث: 5 / 5، بلفظ "من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله
قيراط، إلا كلب حرث أو ماشية".
وأخرجه مسلم في المساقاة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه،
وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك
(1575) : 3 / 1203، والمصنف في شرح السنة: 11 / 209.
(3/15)
وَتَسْتَلِذُّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرِدَ
بِتَحْرِيمِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سَنَةٍ {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} يَعْنِي: وَأُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْجَوَارِحِ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ
وَالسُّدِّيُّ: هِيَ الْكِلَابُ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا
يَحِلُّ مَا صَادَهُ غَيْرُ الْكَلْبِ إِلَّا أَنْ يُدْرِكَ
ذَكَاتَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، بَلْ عَامَّةُ
أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَوَارِحِ
وَالْكَوَاسِبِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْفَهْدِ
وَالنَّمِرِ وَالْكَلْبِ، وَمِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ
كَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهَا مِمَّا
يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ، فَيَحِلُّ صَيْدُ جَمِيعِهَا،
سُمِّيَتْ جَارِحَةً: لِجَرْحِهَا لِأَرْبَابِهَا
أَقْوَاتَهُمْ مِنَ الصَّيْدِ، أَيْ: كَسْبِهَا، يُقَالُ:
فُلَانٌ جَارِحَةُ أَهْلِهِ، أَيْ: كَاسِبُهُمْ،
{مُكَلِّبِينَ} وَالْمُكَلِّبُ الَّذِي يُغْرِي الْكِلَابَ
عَلَى الصَّيْدِ، وَيُقَالُ لِلَّذِي يُعَلِّمُهَا أَيْضًا:
مُكَلِّبٌ، وَالْكَلَّابُ: صَاحِبُ الْكِلَابِ، وَيُقَالُ
لِلصَّائِدِ بِهَا أَيْضًا كَلَّابٌ، وَنَصَبَ مُكَلِّبِينِ
عَلَى الْحَالِ، أَيْ: فِي حَالِ تَكْلِيبِكُمْ هَذِهِ الجوارح
أي إغرائكم إِيَّاهَا عَلَى الصَّيْدِ، وَذَكَرَ الْكِلَابَ
لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وَأَعَمُّ، وَالْمُرَادُ جَمِيعُ
جَوَارِحِ الصَّيْدِ، {تُعَلِّمُونَهُنَّ} تُؤَدِّبُونَهُنَّ
آدَابَ أَخْذِ الصَّيْدِ، {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} أَيْ:
مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، وَقَالَ
السُّدِّيُّ: أَيْ كَمَا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، "مِنْ"
بِمَعْنَى الْكَافِ، {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
أَرَادَ أَنَّ الْجَارِحَةَ الْمُعَلَّمَةَ إِذَا خَرَجَتْ
بِإِرْسَالِ صَاحِبِهَا فَأَخَذَتِ الصَّيْدَ وَقَتَلَتْهُ
كَانَ حَلَالًا وَالتَّعْلِيمُ هُوَ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا
ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: إِذَا أُشْلِيَتِ اسْتَشْلَتْ، وَإِذَا
زُجِرَتِ انْزَجَرَتْ، وَإِذَا أَخَذَتِ الصَّيْدَ أَمْسَكَتْ
وَلَمْ تَأْكُلْ، وَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا
وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ كَانَتْ مُعَلَّمَةً، يَحِلُّ
قَتْلُهَا إِذَا خَرَجَتْ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
أَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا ثَابِتُ بْنُ زَيْدٍ
عَنْ عَاصِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَسَمَّيْتَ
فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ
فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا خَالَطَ كِلَابًا
لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا فَأَمْسَكْنَ
وَقَتَلْنَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهَا
قَتَلَ، وَإِذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ
يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلَّا أَثَرُ سَهْمِكَ
فَكُلْ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ" (1)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَخَذَتِ الصَّيْدَ وَأَكَلَتْ
مِنْهُ شَيْئًا: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى
تَحْرِيمِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ
قَوْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ
الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ
__________
(1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب الصيد إذا غاب عنه
يومين أو ثلاثة: 9 / 610، ومسلم في الصيد والذبائح، باب الصيد
بالكلاب المعلمة، برقم (1929) : 3 / 1531 بلفظ مقارب، والمصنف
في شرح السنة: 11 / 191-192.
(3/16)
وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنْ أَكَلَ
فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ".
وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِي أَكْلِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ
وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلْ وَإِنْ أَكَلَ
مِنْهُ" (1) .
وَأَمَّا غَيْرُ المعلم من 102\أالْجَوَارِحِ إِذَا أَخَذَ
صَيْدًا، أَوِ الْمُعَلَّمُ إِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ إِرْسَالِ
صَاحِبِهِ فَأَخَذَ وَقَتَلَ فَلَا يَكُونُ حَلَالًا إِلَّا
أَنْ يُدْرِكَهُ صَاحِبُهُ حَيًّا فَيَذْبَحَهُ، فَيَكُونُ
حَلَالًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ أَنَا حَيْوَةُ أَخْبَرَنِي
رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ
عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ
اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ
فِي آنِيَتِهِمْ، وَبِأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي
وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ، وَبِكَلْبِي
الْمُعَلَّمِ فَمَا يَصِحُّ لِي؟ قَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ
مِنْ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا
فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا
وَكُلُوا فِيهَا وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ
فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَمَا صِدْتَ
بِكَلْبِكَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ
فَكُلْ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فَفِيهِ
بَيَانُ أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
الذَّبِيحَةِ شَرْطٌ حَالَةَ مَا يُذْبَحُ، وَفِي الصَّيْدِ
حَالَةَ مَا يُرْسِلُ الْجَارِحَةَ أَوِ السَّهْمَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُلْوِيَّةَ
الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْأَثْرَمِ الْمُقْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَيْبَةَ أَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ
عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "ضَحَّى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ
وَسَمَّى وَكَبَّرَ، قَالَ: رَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ
عَلَى صِفَاحِهِمَا وَيَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الضحايا، باب في الصيد: 4 / 136،
والمصنف في شرح السنة: 11 / 195.
قال المنذري في مختصر السنن: "في إسناده داود بن عمرو الأودي
الدمشقي، عامل واسط، وثقه يحيى بن معين، وقال الإمام أحمد:
حديث مقارب، وقال أبو زرعة: لا بأس به ... وقال أحمد بن عبد
الله العجلي: ليس بالقوي".
(2) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب صيد القوس: 9 /
604-605، وباب ما جاء في التصيد: 9 / 612، وباب آنية المجوس: 9
/ 622، ومسلم في الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلّمة،
برقم (1930) : 3 / 1532. والمصنف في شرح السنة: 11 / 199.
(3/17)
الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا
مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
وَيَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ
أَكْبَرُ" (1) .
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (5) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ} يَعْنِي: الذَّبَائِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ} يُرِيدُ ذَبَائِحَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ
دَخَلَ فِي دِينِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَ مَبْعَثِ
النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَلَالٌ لَكُمْ، فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ
مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا
تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَلَوْ ذَبَحَ يَهُودِيٌّ أَوْ
نَصْرَانِيٌّ عَلَى اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ كَالنَّصْرَانِيِّ
يَذْبَحُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ
عُمَرُ (2) لَا يَحِلُّ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ، وَذَهَبَ
أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ، وَهُوَ
قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ،
سُئِلَ الشَّعْبِيُّ وَمَكْحُولٌ عَنِ النَّصْرَانِيِّ
يَذْبَحُ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، قَالَا يَحِلُّ فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ ذَبَائِحَهُمْ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا
يَقُولُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا ذَبَحَ الْيَهُودِيُّ
أَوِ النَّصْرَانِيُّ فَذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ وَأَنْتَ
تَسْمَعُ فَلَا تَأْكُلْهُ فَإِذَا غَابَ عَنْكَ فَكُلْ فَقَدْ
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} فَإِنْ
قِيلَ: كَيْفَ شَرَعَ لَهُمْ حِلُّ طَعَامِنَا وَهُمْ كُفَّارٌ
لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ
حَلَالٌ لَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ فَيَكُونُ خِطَابُ الْحِلِّ
مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ عُقَيْبَهُ
حُكْمَ النِّسَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حِلَّ الْمُسْلِمَاتِ
لَهُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَلَالٌ لَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ
حَرَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هَذَا رَاجَعٌ إِلَى الْأَوَّلِ
مُنْقَطِعٌ عَنْ قَوْلِهِ: "وَطَعَامُكُمْ حَلٌّ لَهُمْ".
__________
(1) أخرجه البخاري في الأضاحي، باب من ذبح بيده: 10 / 18، وفي
أبوب أخرى. ومسلم في الأضاحي، باب استحباب الضحية، برقم (1966)
: 3 / 1556-1557، والمصنف في شرح السنة: 4 / 334.
(2) في "ب": (ابن عمر) .
(3/18)
اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى " الْمُحْصَنَاتِ
" فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ
مِنْهُنَّ الْحَرَائِرُ، وَأَجَازُوا نِكَاحَ كُلِّ حُرَّةٍ،
مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً، فَاجِرَةً كَانَتْ أَوْ
عَفِيفَةً، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: لَا
يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لقوله
تعالى: "فمما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ" (سُورَةُ النِّسَاءِ، 25) جَوَّزَ نِكَاحَ
الْأَمَةِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً، وَجَوَّزَ
أَكْثَرُهُمْ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ
الْحَرْبِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَجُوزُ وَقَرَأَ
"قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" إِلَى
قَوْلِهِ "حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ" (التَّوْبَةِ، 29) ، فَمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ
حَلَّ لَنَا نِسَاؤُهُ وَمَنْ لَمْ يُعْطِهَا فَلَا يَحِلُّ
لَنَا نِسَاؤُهُ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ
فِي الْآيَةِ: الْعَفَائِفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حَرَائِرَ
كُنَّ أَوْ إِمَاءً وَأَجَازُوا نِكَاحَ الْأَمَةِ
الْكِتَابِيَّةِ، وَحَرَّمُوا الْبَغَايَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْكِتَابِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: إِحْصَانُ الْكِتَابِيَّةِ أَنْ تَسْتَعِفَّ
مِنَ الزِّنَا وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ.
{إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مُهُورَهُنَّ
{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} غَيْرَ مُعَالِنِينَ
بِالزِّنَا، {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} أَيْ: يُسِرُّونَ
بِالزِّنَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: حَرَّمَ اللَّهُ الْجِمَاعَ
عَلَى جِهَةِ السِّفَاحِ وَعَلَى جِهَةِ اتِّخَاذِ
الصَّدِيقَةِ، وَأَحَلُّهُ عَلَى جِهَةِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ
التَّزَوُّجُ.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ
حَيَّانَ: يَقُولُ لَيْسَ إِحْصَانُ الْمُسْلِمِينَ
إِيَّاهُنَّ بِالَّذِي يُخْرِجُهُنَّ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ
يُغْنِي عَنْهُنَّ شَيْئًا وَهِيَ لِلنَّاسِ عَامَّةً: "وَمَنْ
يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى: "وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ" أَيْ: بِاللَّهِ
الَّذِي يَجِبُ
(3/19)
الْإِيمَانُ بِهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِالْإِيمَانِ أَيْ: بِكَلِمَةِ
التَّوْحِيدِ وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقِيلَ: مَنْ
يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ أَيْ: يَسْتَحِلُّ الْحَرَامَ
وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ
الثَّوَابَ.
(3/20)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(6)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} أَيْ: إِذَا أَرَدْتُمُ
الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِذَا
قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ"، (سُورَةُ
النَّحْلِ، 98) ، أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ
مَرَّةٍ يُرِيدُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، لَكِنْ
أُعْلِمْنَا بِبَيَانِ السُّنَّةِ وَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ:
"إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ" وَأَنْتُمْ عَلَى غَيْرِ
طُهْرٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ
حَتَّى يَتَوَضَّأَ" (1) .
وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَيْنَ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ
وَاحِدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْحَنِيفِيُّ أَنَا أَبُو الْحَارِثِ طَاهِرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الطَّاهِرِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ حَلِيمٍ أَنَا أَبُو الْمُوَجِّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَمْرِو بْنِ الْمُوَجِّهِ أَنَا عَبْدَانُ أَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ الصَّلَوَاتِ
بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ (2) .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مَعْنَى الْآيَةِ إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَمْرٌ عَلَى طَرِيقِ النَّدْبِ،
نَدْبُ مَنْ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ أَنْ يُجَدِّدَ لَهَا
طَهَارَتَهُ وَإِنْ كَانَ عَلَى طُهْرٍ، رَوَى ابْنُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ
كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ" (3) .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ عَامِرٍ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا أَوْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الوضوء، باب لا تقبل صلاة بغير طهور: 1 /
234، وفي الحيل، باب في الصلاة: 12 / 329، ومسلم في الطهارة،
باب وجوب الطهارة للصلاة، برقم (225) 1 / 204 بلفظ "لا تقبل
صلاة أحدكم إذا أحدث ... "، والمصنف في شرح السنة: 1 / 328.
(2) أخرجه مسلم في الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد
(277) : والمصنف في شرح السنة: 1 / 448.
(3) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب الرجل يحدث الوضوء من غير
حدث: 1 / 46، والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في الوضوء لكل
صلاة: 1 / 192، وقال: ... هو إسناد ضعيف، وأخرجه ابن ماجه في
الطهارة، باب الوضوء على الطهارة، برقم (512) : 1 / 171. قال
في الزوائد: مدار الحديث على عبد الرحمن بن زيادة الإفريقي،
وهو ضعيف، ومع ضعفه كان يدلس. وضعفه المصنف في شرح السنة 1 /
449.
(3/20)
غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِ أَمَرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلَاةٍ" (1) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا قَامَ إِلَى
الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَذِنَ لَهُ
أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الْحَدَثِ مَا بَدَا لَهُ مِنَ
الْأَفْعَالِ غَيْرَ الصَّلَاةِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ
الْحَنِيفِيُّ أَنَا أَبُو الْحَارِثِ الطَّاهِرِيُّ أَنَا
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَلِيمٍ أَنَا أَبُو
الْمُوَجِّهِ أَنَا صَدَقَةُ أَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ
سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ:
(كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَجَعَ مِنَ الْغَائِطِ فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فَقِيلَ لَهُ:
أَلَا تَتَوَضَّأُ؟ "فَقَالَ: لِمَ؟ أَأُصْلِي فَأَتَوَضَّأُ؟)
. (2)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وَحَدُّ
الْوَجْهِ مِنْ مَنَابِتِ شعر الرأس 102/ب إِلَى مُنْتَهَى
الذَّقْنِ طُولًا وَمَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا يجب
غَسْلُ جَمِيعِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَيَجِبُ أَيْضًا إِيصَالُ
الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ الْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابِ
الْعَيْنَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعِذَارِ أَوِ الْعَنْفَقَةِ
وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً وَأَمَّا الْعَارِضُ وَاللِّحْيَةُ
فَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لَا تُرَى الْبَشَرَةُ مِنْ
تَحْتِهَا لَا يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِهَا فِي الْوُضُوءِ، بَلْ
يَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا.
وَهَلْ يَجِبُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِ مَا
اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنِ الذَّقَنِ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ،
لِأَنَّ الشَّعْرَ النَّازِلَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ لَا
يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الرَّأْسِ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ
عَلَيْهِ، كَذَلِكَ النَّازِلُ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ لَا
يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْوَجْهِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجِبُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى
ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ
الْوَجْهِ، وَالْوَجْهُ ما يقع به الْمُوَاجَهَةِ مِنْ هَذَا
الْعُضْوِ، وَيُقَالُ فِي اللُّغَةِ بَقَلَ وَجْهُ فُلَانٍ
وَخَرَجَ وَجْهُهُ: إِذَا نَبَتَتْ لِحْيَتُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أَيْ:
مَعَ الْمَرَافِقِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ" (سُورَةُ
النِّسَاءِ، 2) أَيْ: مَعَ أَمْوَالِكُمْ، وَقَالَ: "مَنْ
أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ" (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، 52
وَسُورَةُ الصَّفِّ، 14) ، أَيْ: مَعَ اللَّهِ.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ
الْمِرْفَقَيْنِ، وَفِي الرِّجْلِ يَجِبُ غَسْلُ
الْكَعْبَيْنِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ
__________
(1) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب في السواك: 1 / 40، قال
المنذري: في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار، وقد اختلف الأئمة
في الاحتجاج بحديثه، وأخرجه الدارمي في الوضوء: 1 / 168،
والإمام أحمد في المسند: 5 / 225.
(2) أخرجه مسلم في الحيض، باب جواز أكل المحدث الطعام. برقم
(374) : 1 / 283، والمصنف في شرح السنة: 2 / 40.
(3/21)
وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: لَا يَجِبُ
غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ فِي غَسْلِ الْيَدِ
وَالرِّجْلِ لِأَنَّ حَرْفَ "إِلَى" لِلْغَايَةِ وَالْحَدِّ،
فَلَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ.
قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا بِحَدٍّ وَلَكِنَّهُ بِمَعْنَى مَعَ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَقِيلَ: الشَّيْءُ إِذَا حُدَّ إِلَى
جِنْسِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْغَايَةُ، وَإِذَا حُدَّ إِلَى
غَيْرِ جِنْسِهِ لَا يَدْخُلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ" (سُورَةُ الْبَقَرَةِ،
187) ، لَمْ يَدْخُلِ اللَّيْلُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
جِنْسِ النَّهَارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ،
فَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَمَا
يَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ مَسْحُ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ قَدْرُ مَا يُطْلَقُ
عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ بِمَا
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ
أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا
الشَّافِعِيُّ أَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ
وَعَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ"، (1) فَأَجَازَ بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ بِهَذَا
الْحَدِيثِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ.
وَلَمْ يُجَوِّزْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَسْحَ عَلَى
الْعِمَامَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ،
وَقَالُوا: فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ إِنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ
سَقَطَ عَنْهُ بِمَسْحِ النَّاصِيَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ
وَحَفْصٌ "وَأَرْجُلَكُمْ" بِنُصْبِ اللَّامِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ "وَأَرْجُلِكُمْ" بِالْخَفْضِ، فَمَنْ قَرَأَ
"وَأَرْجُلَكُمْ" بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى
قَوْلِهِ: "فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ" أَيْ:
وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْخَفْضِ فَقَدْ
ذَهَبَ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ
عَلَى رِجْلَيْنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: الْوُضُوءُ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ، وَيُرْوَى
ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْمَسْحِ وَقَالَ: أَلَا تَرَى
الْمُتَيَمِّمَ يَمْسَحُ مَا كَانَ غَسْلًا وَيُلْغِي مَا
كَانَ مَسْحًا؟
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَتَخَيَّرُ
الْمُتَوَضِّئُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَبَيْنَ
غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ.
وَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعَيْنَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى وُجُوبِ غَسْلِ
الرِّجْلَيْنِ، وَقَالُوا:
__________
(1) أخرجه مسلم في الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة
برقم (275) : 1 / 231، والمصنف في شرح السنة:1 / 451.
(3/22)
خَفْضُ اللَّامِ فِي الْأَرْجُلِ عَلَى
مُجَاوَرَةِ اللَّفْظِ لَا عَلَى مُوَافَقَةِ الْحُكْمِ، كَمَا
قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ"،
فَالْأَلِيمُ صِفَةُ الْعَذَابِ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ إِعْرَابَ
الْيَوْمِ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضَبٍّ
خَرِبٍ، فَالْخَرِبُ نَعْتٌ لِلْجُحْرِ، وَأَخَذَ إِعْرَابَ
الضَّبِّ لِلْمُجَاوَرَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ: مَا
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ الْخَطِيبُ أَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحَافِظُ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ أَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى أَنَا
الْحَجَبِيُّ وَمُسَدَّدٌ قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ
عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: "تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ
سَافَرْنَاهُ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ
صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ
عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَانَا بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "وَيْلٌ
لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
عَبْدَانُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَنَا مَعْمَرٌ حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ
مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: "رَأَيْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ
مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ
ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ
ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى إِلَى الْمِرْفَقِ
ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ:
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ
وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ
نَفْسَهُ فِيهِمَا بِشَيْءٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ". (2)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ {وَأَرْجُلَكُمْ}
الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ كَمَا رُوِيَ "أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكَعَ وَضَعَ
يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ" (3) وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ، وَيُقَالُ: قَبَّلَ
فُلَانٌ رَأْسَ الْأَمِيرِ وَيَدَهُ، وَإِنْ كَانَتِ
الْعِمَامَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَدُهُ فِي كُمِّهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ أَنَا زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
"كُنْتُ مَعَ
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم
عنه: 1 / 189،ومسلم في الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين
بكمالهما، برقم (241 / 214) ، والمصنف في شرح السنة: 1 / 428.
(2) أخرجه البخاري في الوضوء، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا: 1 /
259، وفي الصوم، باب سواك الرطب واليابس: 4 / 158، ومسلم في
الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله برقم (226) :1 / 205.
(3) أخرجه البخاري في الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد:2 /
305، وانظر: مسلم في المساجد، باب الندب إلى وضع الأيدي على
الركب في الركوع ونسخ التطبيق برقم (534-535) : 1 / 379-380.
(3/23)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: "أَمَعَكَ
مَاءٌ" فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَشَى
حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ
فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ
وَيَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ
أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ
أَسْفَلِ الْجُبَّةِ فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ
بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ:
دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ"، فَمَسَحَ
عَلَيْهِمَا. (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فَالْكَعْبَانِ
هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ مِنْ جَانِبَيِ
الْقَدَمَيْنِ، وَهُمَا مُجْتَمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ
وَالْقَدَمِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا مَعَ الْقَدَمَيْنِ كَمَا
ذَكَرْنَا فِي الْمِرْفَقَيْنِ.
وَفَرَائِضُ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ
كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَسْحُ الرَّأْسِ،
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ:
فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى وُجُوبِهَا لأن الوضوء فيفتقر
إِلَى النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَذَهَبَ
بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ قَوْلُ
الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ أَنْ يَغْسِلَ
أَعْضَاءَهُ عَلَى الْوَلَاءِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى وُجُوبِهِ، وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ"، (سُورَةُ
الْبَقَرَةِ، 158) . وَبَدَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفَا، وَقَالَ: "نَبْدَأُ بِمَا
بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" (2) وَكَذَلِكَ هَاهُنَا بَدَأَ اللَّهُ
تَعَالَى بِذِكْرِ غَسْلِ الْوَجْهِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ
نَبْدَأَ فِعْلًا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذِكْرًا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أن الترتيب 103\أسُنَّةٌ، وَقَالُوا:
الْوَاوَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ لِلْجَمِيعِ لَا
لِلتَّرْتِيبِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" الْآيَةَ
(سُورَةُ التَّوْبَةِ، 60) ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا
تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي صَرْفِ الصَّدَقَاتِ إِلَى
أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَمَنْ أَوْجَبَ التَّرْتِيبَ أَجَابَ
بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَاعَى التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَهْلِ
السُّهْمَانِ، وَفِي الْوُضُوءِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ
تَوَضَّأَ إِلَّا مُرَتِّبًا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَبَيَانُ الْكِتَابِ يُؤْخَذُ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا" (سُورَةُ الْحَجِّ، 77) ، لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ
الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَ إِلَّا
كَذَلِكَ
__________
(1) أخرجه البخاري في اللباس، باب لبس جبة الصوف في الغزو: 10
/ 268-269،ومسلم في الطهارة باب المسح على الخفين، برقم (274)
: 1 / 230. والمصنف في شرح السنة: 1 / 455.
(2) أخرجه مسلم في الحج، باب حجة النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، برقم (1218) : 2 / 886-888، وهو قطعة من
حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بلفظ "أبدأ بما بدأ ... "، والمصنف في شرح السنة: 7
/ 136.
(3/24)
فَكَانَ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِيهِ
وَاجِبَةً، كَذَلِكَ التَّرْتِيبُ هُنَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا} أَيِ: اغْتَسِلُوا، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ
الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ كَمَا
يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي
الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ
عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرْفَاتٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ
الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ" (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى
سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ} فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ الْوَجْهِ
وَالْيَدَيْنِ بِالصَّعِيدِ وَهُوَ التُّرَابُ، {مَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ} بِمَا فَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنَ
الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ، {مِنْ حَرَجٍ} ضِيقٍ،
{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} مِنَ الْأَحْدَاثِ
وَالْجَنَابَاتِ وَالذُّنُوبِ، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِتْمَامُ النِّعْمَةِ تَكْفِيرُ
الْخَطَايَا بِالْوُضُوءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ" (سُورَةُ الْفَتْحِ، 2) ، فَجَعَلَ تَمَامَ
نِعْمَتِهِ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ
أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حُمْرَانَ: أَنَّ
عُثْمَانَ تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا خَرَجَتْ
خَطَايَاهُ مِنْ وَجْهِهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ
بْنُ أَحْمَدَ أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو
مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ: أَنَّ عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَسَ عَلَى
الْمَقَاعِدِ يَوْمًا فَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ فَآذَنَهُ
بِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ
قَالَ: وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا
__________
(1) أخرجه البخاري في الغسل، باب الوضوء قبل الغسل: 1 / 360،
ومسلم في الحيض، باب صفة غسل الجنابة، برقم (316) : 1 /
253-254، والمصنف في شرح السنة: 2 / 10.
(2) أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في المسند: 1 / 31 (ترتيب
المسند) ، وأخرجه البخاري في الوضوء، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا:
1 / 259 بلفظ "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث
فيها نفسه - غفر له ما تقدم من ذنبه" ومسلم في الطهارة، باب
خروج الخطايا مع ماء الوضوء، برقم (245) : 1 / 216 بلفظ: "من
توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت
أظفاره". وأخرجه المصنف في شرح السنة: 1 / 324.
(3/25)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
(8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا
حَدَّثْتُكُمُوهُ، ثُمَّ قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنَ
امْرِئٍ [مُسْلِمٍ] (1) يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ
ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَاةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى حَتَّى يُصَلِّيَهَا" قَالَ
مَالِكٌ: أَرَاهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (2) وَرَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ (3)
وَقَالَ عُرْوَةُ: الْآيَةُ "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ" (سُورَةُ الْبَقَرَةِ، 159) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا يَحْيَى بْنُ
بُكَيْرٍ أَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي هِلَالٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجَمَّرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ظَهْرِ
الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ
أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ
مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ
مِنْكُمْ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ" (4) .
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ
الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}
يَعْنِي: النِّعَمَ كُلَّهَا، {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي
وَاثَقَكُمْ بِهِ} عَهْدَهُ الَّذِي عَاهَدَكُمْ بِهِ أَيُّهَا
الْمُؤْمِنُونَ، {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}
وَذَلِكَ حِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا
أَحَبُّوا وَكَرِهُوا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي
الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ
مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بِمَا فِي
الْقُلُوبِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
__________
(1) ليست في "ب".
(2) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب جامع الوضوء: 1 /
30-31.
(3) أخرجه البخاري في الوضوء، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا: 1 /
206، والمصنف في شرح السنة: 1 / 325.
(4) أخرجه البخاري في الوضوء، باب فضل الوضوء والغر المحجلين
من آثار الوضوء: 1 / 235، ومسلم في الطهارة، باب استحباب إطالة
الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم (246) : 1 / 216، والمصنف في
شرح السنة: 1 / 425.
(3/26)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ} أَيْ: كُونُوا قَائِمِينَ بِالْعَدْلِ
[قَوَّالِينَ] (1) بِالصِّدْقِ، أَمَرَهُمْ بِالْعَدْلِ
وَالصِّدْقِ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، {وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ} وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ، {شَنَآنُ قَوْمٍ}
بُغْضُ قَوْمٍ، {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} أَيْ: عَلَى تَرْكِ
الْعَدْلِ فِيهِمْ لِعَدَاوَتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: {اعْدِلُوا}
يَعْنِي: فِي أَوْلِيَائِكُمْ وَأَعْدَائِكُمْ، {هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى} يَعْنِي: إِلَى التَّقْوَى، {وَاتَّقُوا اللَّهَ
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وَهَذَا فِي مَوْضِعِ
النَّصْبِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَعْدِ وَاقِعٌ عَلَى
الْمَغْفِرَةِ، وَرَفْعُهَا عَلَى تَقْدِيرٍ أَيْ: وَقَالَ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
__________
(1) في "ب": (قائلين) .
(3/27)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بِالدَّفْعِ عَنْكُمْ،
{إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}
بِالْقَتْلِ.
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَطْنِ نَخْلٍ فَأَرَادَ
بَنُو ثَعْلَبَةَ وَبَنُو مُحَارِبٍ أَنْ يَفْتِكُوا بِهِ
وَبِأَصْحَابِهِ إِذَا اشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ فَأَطْلَعَ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ صَلَاةَ الْخَوْفِ (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُحَاصِرًا غَطْفَانَ بِنَخْلٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ: هَلْ لَكَمَ فِي أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا؟
قَالُوا: وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ، قَالُوا:
وَدِدْنَا أَنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، فَأَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ أَرِنِي سَيْفَكَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَجَعَلَ
الرَّجُلُ يَهُزُّ السَّيْفَ وَيَنْظُرُ مَرَّةً إِلَى
السَّيْفِ وَمَرَّةً إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي يَا مُحَمَّدُ؟
قَالَ: اللَّهُ، فَتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَامَ السَّيْفَ وَمَضَى،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
__________
(1) أخرجه الطبري عن قتادة: 6 / 146 (طبعة الحلبي) ، وعزاه
السيوطي أيضا لعبد بن حميد، انظر: الدر المنثور: 3 / 38.
(2) انظر: الطبري: 6 / 146، أسباب النزول للواحدي ص (223-224)
. سيرة ابن هشام: 3 / 205-206، الدر المنثور: 3 / 36.
(3/27)
وَلَقَدْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ
اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ
فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ
وَالْكَلْبِيُّ وَابْنُ يَسَارٍ عَنْ رِجَالِهِ: بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو السَّاعِدِيَّ، وَهُوَ أَحَدُ
النُّقَبَاءُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا
مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ
صَعْصَعَةَ، فَخَرَجُوا فَلَقَوْا عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ
عَلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهِيَ مِنْ مِيَاهِ بَنِي عَامِرٍ،
فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو
وَأَصْحَابُهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَانُوا فِي طَلَبِ
ضَالَّةٍ لَهُمْ، أَحَدُهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ
الضَّمْرِيُّ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ فِي
السَّمَاءِ، يَسْقُطُ مِنْ بَيْنِ خَرَاطِيمِهَا عَلَقُ
الدَّمِ، فَقَالَ أَحَدُ النَّفَرِ: قُتِلَ أَصْحَابُنَا،
ثُمَّ تَوَلَّى يَشْتَدُّ حَتَّى لَقِيَ رَجُلًا فَاخْتَلَفَا
ضَرْبَتَيْنِ فَلَمَّا خَالَطَتْهُ الضَّرْبَةُ رَفْعَ
[رَأَسَهُ] (1) إِلَى السَّمَاءِ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ:
اللَّهُ أَكْبَرُ الْجَنَّةُ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَرَجَعَ
صَاحِبَاهُ فَلَقِيَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَلِيمٍ وَكَانَ
بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ
قَوْمِهِمَا مُوَادَعَةٌ، فَانْتَسَبَا لَهُمَا إِلَى بَنِي
عَامِرٍ فَقَتْلَاهُمَا وَقَدِمَ قَوْمُهُمَا إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُونَ الدِّيَةَ،
فَخَرَجَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ
وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى دَخَلُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ
الْأَشْرَفِ وَبَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي
عَقْلِهِمَا، وَكَانُوا قَدْ عَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ وَعَلَى
أَنْ يُعِينُوهُ فِي الدِّيَاتِ، قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا
الْقَاسِمِ قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتَسْأَلَنَا
حَاجَةً اجْلِسْ حَتَّى نُطْعِمَكَ وَنُعْطِيَكَ الذي سألته
103/ب فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَخَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ
وَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا مُحَمَّدًا أَقْرَبَ
مِنْهُ الْآنَ فَمَنْ يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ
فَيَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَقَالَ
عُمَرُ بْنُ جَحَّاشٍ: أَنَا، فَجَاءَ إِلَى رَحًى عَظِيمَةٍ
لِيَطْرَحَهَا عَلَيْهِ فَأَمْسَكَ اللَّهُ تَعَالَى يَدَهُ
وَجَاءَ جِبْرِيلُ وَأَخْبَرَهُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ
دَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: لَا تَبْرَحْ مَقَامَكَ، فَمَنْ
خَرَجَ عَلَيْكَ مِنْ أَصْحَابِي فَسَأَلَكَ عَنِّي فَقُلْ:
تَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى تَنَاهَوْا إِلَيْهِ ثُمَّ تَبِعُوهُ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ:
{فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) .
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ
إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ
الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ
وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيبًا} وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُورِثَهُ وَقَوْمَهُ الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ وَهِيَ الشَّامُ، وَكَانَ يَسْكُنُهَا
الْكَنْعَانِيُّونَ الْجَبَّارُونَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الدَّارُ بِمِصْرَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى بِالسَّيْرِ إِلَى أَرْيَحَاءَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ
وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَكَانَتْ لَهَا أَلْفُ
قَرْيَةٍ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَلْفُ بُسْتَانٍ، وَقَالَ: يَا
مُوسَى إِنِّي كَتَبْتُهَا لَكُمْ دَارًا وَقَرَارًا فَاخْرُجْ
إِلَيْهَا وَجَاهِدْ مَنْ فِيهَا مِنَ الْعَدُوِّ فَإِنِّي
نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْ قَوْمِكَ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيبًا
__________
(1) في "ب": (طرفه) .
(2) انظر: تفسير الطبري: 6 / 145 (طبع الحلبي) ، أسباب النزول
للواحدي ص (224-225) ، الدر المنثور للسيوطي: 3 / 37-38، سيرة
ابن هشام: 2 / 563.
(3/28)
مِنْ كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا يَكُونُ
كَفِيلًا عَلَى قَوْمِهِ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ عَلَى مَا
أُمِرُوا بِهِ، فَاخْتَارَ مُوسَى النُّقَبَاءَ وَسَارَ مُوسَى
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَرُبُوا مِنْ أَرْيَحَاءَ
فَبَعَثَ هَؤُلَاءِ النُّقَبَاءَ يَتَجَسَّسُونَ لَهُ
الْأَخْبَارَ وَيَعْلَمُونَ عِلْمَهَا، فَلَقِيَهُمْ رَجُلٌ
مِنَ الْجَبَابِرَةِ يُقَالُ لَهُ عُوجُ بن عُنُقٍ، وَكَانَ
طُولُهُ ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاث وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا
وَثُلُثَ ذِرَاعٍ، وَكَانَ يَحْتَجِرُ بِالسَّحَابِ وَيَشْرَبُ
مِنْهُ وَيَتَنَاوَلُ الْحُوتَ مِنْ قَرَارِ الْبَحْرِ
فَيَشْوِيهِ بِعَيْنِ الشَّمْسِ يَرْفَعُهُ إِلَيْهَا ثُمَّ
يَأْكُلُهُ، وَيُرْوَى أَنَّ الْمَاءَ طَبَقَ مَا عَلَى
الْأَرْضِ مِنْ جَبَلٍ وَمَا جَاوَزَ رُكْبَتَيْ عُوجٍ وَعَاشَ
ثَلَاثَةَ آلَافِ سَنَةٍ حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى
يَدَيْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ
[وَقَلَعَ] (1) صَخْرَةً مِنَ الْجَبَلِ عَلَى قَدْرِ عَسْكَرِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ،
وَحَمَلَهَا لِيُطْبِقَهَا عَلَيْهِمْ فَبَعَثَ اللَّهُ
الْهُدْهُدَ فَقَوَّرَ الصَّخْرَةَ بِمِنْقَارِهِ فَوَقَعَتْ
فِي عُنُقِهِ فَصَرَعَتْهُ، فَأَقْبَلَ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَهُوَ مَصْرُوعٌ فَقَتَلَهُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
[عُنُقَ] (2) إِحْدَى بَنَاتِ آدَمَ وَكَانَ مَجْلِسُهَا
[جَرِيبًا] (3) مِنَ الْأَرْضِ، فَلَمَّا لَقِيَ عُوجٌ
النُّقَبَاءَ وَعَلَى رَأْسِهِ حَزْمَةُ حَطَبٍ أَخَذَ
الِاثْنَيْ عَشَرَ وَجَعَلَهُمْ فِي حُجْزَتِهِ وَانْطَلَقَ
بِهِمْ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ انْظُرِي إِلَى هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قِتَالَنَا،
وَطَرَحَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهَا وَقَالَ: أَلَا أَطْحَنُهُمْ
بِرِجْلِي؟ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: لَا بَلْ خَلِّ عَنْهُمْ
حَتَّى يُخْبِرُوا قَوْمَهُمْ بِمَا رَأَوْا، فَفَعَلَ ذَلِكَ
(4) .
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ فِي كُمِّهِ وَأَتَى بِهِمْ إِلَى
الْمَلِكِ فَطَرَحَهُمْ (5) بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ
الْمَلِكُ: ارْجِعُوا فَأَخْبِرُوهُمْ بِمَا رَأَيْتُمْ،
وَكَانَ لَا يَحْمِلُ عُنْقُودًا مِنْ عِنَبِهِمْ إِلَّا
خَمْسَةَ أَنْفُسٍ مِنْهُمْ فِي خَشَبَةٍ، وَيَدْخُلُ فِي
شَطْرِ الرُّمَّانَةِ إِذَا نُزِعَ مِنْهَا حَبُّهَا خَمْسَةُ
أَنْفُسٍ، فَرَجَعَ النُّقَبَاءُ وَجَعَلُوا يَتَعَرَّفُونَ
أَحْوَالَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ يَا قَوْمِ:
إِنَّكُمْ إِنْ أَخْبَرْتُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَبَرَ
الْقَوْمِ ارْتَدُّوا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَلَكِنِ
اكْتُمُوا، وَأَخْبِرُوا مُوسَى وَهَارُونَ فَيَرَيَانِ
رَأْيَهُمَا وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهِمُ الْمِيثَاقَ
بِذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَكَثُوا الْعَهْدَ وَجَعَلَ كُلُّ
وَاحِدٍ
__________
(1) في "أ": (وقوَّر) .
(2) زيادة من "ب".
(3) زيادة من "ب":.
(4) ذكر قصة عوج بن عنق هذه: الإمام الطبري في التفسير: 6 /
174-175 (طبع الحلبي) ، والسيوطي في الدر المنثور: 3 / 48-49
وغيرهما من المفسرين. وهي من الروايات الإسرائيلية والخرافات
التي دسّها أعداء الإسلام وروّجوا لها. وقد نقلها الحافظ ابن
كثير رحمه الله عن الطبري وقال: "وفي هذا الإسناد نظر" ثم نقل
رواية ابن أبي حاتم وقال: "وهذا شيء يُسْتحى من ذكره، ثم هو
مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا،
ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن". ثم ذكروا أن هذا الرجل كان
كافرا وأنه ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن
الطوفان لم يصل إلى ركبتيه. وهذا كذب وافتراء. فإن الله تعالى
ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال: "ربّ لا تذر
على الأرض من الكافرين ديارا" وقال تعالى: "فأنجيناه ومن معه
في الفلك المشحون، ثم أغرقنا بعد الباقين"، وقال تعالى: "لا
عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم"، وإذا كان ابن نوح الكافر
غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في
عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له: عوج بن عنق نظر، والله
أعلم". تفسير ابن كثير: 2 / 39 طبعة دار الفكر، 1400 هـ. وذكر
ابن قيم الجوزية رحمه الله هذه الرواية مثالا لما تقوم الشواهد
الصحيحة على بطلانه، ثم قال: "وليس العجب من جرأة هذا الكذاب
على الله، إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من
التفسير وغيره، ولا يبين أمره، وهذا عندهم ليس من ذرية نوح،
وقد قال الله تعالى: "وجعلنا ذريته هم الباقين"، فأخبر أن كل
من بقي على وجه الأرض من ذرية نوح، فلو كان للعوج - هذا - وجود
لم يبق بعد نوح ... وأيضا فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة
عام، وسمكها كذلك، وإذا كانت الشمس في السماء الرابعة، فبيننا
وبينها هذه المسافة العظيمة، فكيف يصل إليها طول ثلاثة آلاف
ذراع، حتى يشوي في عينها الحوت؟ ولا ريب أن هذا وأمثاله من وضع
زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا السخرية والاستهزاء بالرسل
وأتباعهم". نقد المنقول أو: المنار المنيف لابن القيم ص
(44-45) وانظر: روح المعاني للآلوسي: 6 / 86-87، الفتاوى
الحديثية لابن حجر الهيثمي ص (188) ، الإسرائيليات والموضوعات
في كتب التفسير للشيخ محمد أبو شهبة، ص (259-262) . البداية
والنهاية لابن كثير: 1 / 278.
(5) ساقط من "ب".
(3/29)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
مِنْهُمْ يَنْهَى سِبْطَهُ عَنْ
قِتَالِهِمْ وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا رَأَى: إِلَّا رَجُلَانِ
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيبًا.
{وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} نَاصِرُكُمْ عَلَى
عَدُوِّكُمْ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ فَقَالَ: {لَئِنْ
أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
{وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} نَصَرْتُمُوهُمْ، وَقِيلَ:
وَوَقَّرْتُمُوهُمْ وَعَظَّمْتُمُوهُمْ؛ {وَأَقْرَضْتُمُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قِيلَ: هُوَ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ،
وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَهْلِ، {لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} لَأَمْحُوَنَّ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ، {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ
فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أَيْ: أَخْطَأَ قَصْدَ
السَّبِيلِ، يُرِيدُ طَرِيقَ [الْحَقِّ] (1) وَسَوَاءُ كُلِّ
شَيْءٍ: وَسْطُهُ.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ
مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا
تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (13) }
__________
(1) في "ب": (الجنة) .
(3/31)
وَمِنَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا
حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
(14)
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) }
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أَيْ: فَبِنَقْضِهِمْ، وَ"مَا" صِلَةٌ،
{مِيثَاقَهُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: نَقَضُوهُ مِنْ وُجُوهٍ
لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ
مُوسَى وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَنَبَذُوا كِتَابَهُ
وَضَيَّعُوا فَرَائِضَهُ {لَعَنَّاهُمْ} قَالَ [عَطَاءٌ] (1)
أَبْعَدْنَاهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا، قَالَ الْحَسَنُ
وَمُقَاتِلٌ: عَذَّبْنَاهُمْ بِالْمَسْخِ، {وَجَعَلْنَا
قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ
قَسِيَّةً بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ، وَهُمَا
لُغَتَانِ مِثْلُ الذَّاكِيَةِ وَالذَّكِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَاسِيَةٌ أَيْ يَابِسَةٌ،
وَقِيلَ: غَلِيظَةٌ لَا تَلِينُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّ
قُلُوبَهُمْ لَيْسَتْ بِخَالِصَةٍ لِلْإِيمَانِ بَلْ
إِيمَانُهُمْ مَشُوبٌ بِالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَمِنْهُ
الدَّرَاهِمُ الْقَاسِيَةُ وَهِيَ الرَّدِيَّةُ
الْمَغْشُوشَةُ.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قِيلَ: هُوَ
تَبْدِيلُهُمْ نَعْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: تَحْرِيفُهُمْ بِسُوءِ التَّأْوِيلِ،
{وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أَيْ: وَتَرَكُوا
نَصِيبَ أَنْفُسِهِمْ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَانِ
نَعْتِهِ، {وَلَا تَزَالُ} [يَا مُحَمَّدُ] (2) {تَطَّلِعُ
عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} أَيْ: عَلَى خِيَانَةٍ، فَاعِلَةٍ
بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَالْكَاذِبَةِ وَاللَّاغِيَةِ،
وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَالْهَاءُ
لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ [رَوَّايَةٍ] (3) وَنَسَّابَةٍ
وَعَلَّامَةٍ وَحَسَّابَةٍ، وَقِيلَ: عَلَى فِرْقَةٍ
خَائِنَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
عَلَى خَائِنَةٍ أَيْ: عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَكَانَتْ
خِيَانَتُهُمْ نَقْضَهُمُ الْعَهْدِ وَمُظَاهَرَتَهُمُ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ وَسَمِّهِ،
وَنَحْوِهِمَا مِنْ خِيَانَاتِهِمُ الَّتِي ظَهَرَتْ، {إِلَّا
قَلِيلًا مِنْهُمْ} لَمْ يَخُونُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا
الْعَهْدَ وَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} أَيْ: أَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَلَا تَتَعَرَّضْ لَهُمْ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ}
__________
(1) في "ب": (قتادة) .
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب": (راوية) .
(3/31)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ
السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وَهَذَا مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا
نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} قِيلَ: أَرَادَ بِهِمُ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا،
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ فِي النَّصَارَى خَاصَّةً
لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْيَهُودِ، وَقَالَ
الْحَسَنُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ نَصَارَى
بِتَسْمِيَتِهِمْ لَا بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ،
{فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا
بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ} بِالْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْجِدَالِ
فِي الدِّينِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي بَيْنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ النَّصَارَى
وَحْدَهُمْ صَارُوا فِرَقًا مِنْهُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ
وَالنَّسْطُورِيَّةُ وَالْمَلْكَانِيَّةُ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ
تُكَفِّرُ الْأُخْرَى، {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ} فِي الْآخِرَةِ.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ
وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ
الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يُرِيدُ: يَا
أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ، {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}
__________
(1) نقل هذا عن قتادة: الطبري في التفسير: 10 / 135. ثم رد
القول بالنسخ بكلام نفيس قال فيه: "والذي قاله قتادة غير مدفوع
إمكانه، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان
نافيا كل معاني خلافه، الذي كان قبله.
فأما ما كان غير ناف جميعه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا
بخبر من الله جل وعز، أو من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وليس في قوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون" (التوبة) دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن
اليهود، وإن كان ذلك كذلك - وكان جائزا مع إقرارهم بالصغار
وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا
بها، أو نكثة عزموا عليها، ما لم يصيبوا حربا دون أداء الجزية،
ويمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم - لم يكن واجبا أن يحكم
لقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... "
الآية، بأنه ناسخ قوله: "فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب
المحسنين". وقال الزركشي، رحمه الله، في كتابه "البرهان في
علوم القرآن": "ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة
بالتخفيف من أنها منسوخة بآية السيف قول ضعيف، فهو من المُنْسأ
- بضم الميم - بمعنى: أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما،
لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر،
ليس بنسخ، إنما النسخ: الإزالة، حتى لا يجوز امتثاله أبدا..
فليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب
امتثاله في وقته". انظر: البرهان للزركشي: 2 / 43-44، علوم
القرآن للدكتور عدنان محمد زرزور ص (210-212) .
(3/32)
أي: من التوارة وَالْإِنْجِيلِ مِثْلُ
صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَةِ
الرَّجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أَيْ:
يُعْرِضُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا أَخْفَيْتُمْ فَلَا يَتَعَرَّضُ
لَهُ وَلَا يُؤَاخِذُكُمْ بِهِ، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ
نُورٌ} يعني: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ، {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّنٌ،
وَقِيلَ: مُبِينٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ.
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} رِضَاهُ،
{سُبُلَ السَّلَامِ} قِيلَ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَسَبِيلُهُ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ لِعِبَادِهِ،
وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، وَقِيلَ: السَّلَامُ هُوَ
السَّلَامَةُ، كَاللَّذَاذِ وَاللَّذَاذَةِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ،
وَالْمُرَادُ بِهِ طُرُقُ السَّلَامَةِ، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَيْ: مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ
إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، {بِإِذْنِهِ} بِتَوْفِيقِهِ
وَهِدَايَتِهِ، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
104\أوَهُوَ الْإِسْلَامُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وَهُمُ
الْيَعْقُوبِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى يَقُولُونَ الْمَسِيحُ
هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا} أَيْ: مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ شَيْئًا إِذَا قَضَاهُ؟ {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ
الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ}
(3/33)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ
خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قِيلَ: أَرَادُوا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا كَالْأَبِ فِي الْحُنُوِّ
وَالْعَطْفِ، وَنَحْنُ كَالْأَبْنَاءِ لَهُ فِي الْقُرْبِ
وَالْمَنْزِلَةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنَّ
الْيَهُودَ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ يَا أَبْنَاءَ
أَحْبَارِي، فَبَدَّلُوا يَا أَبْنَاءَ أَبْكَارِي، فَمِنْ
ذَلِكَ قَالُوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
نَحْنُ أَبْنَاءُ رُسُلِ اللَّهِ.
(3/33)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} يُرِيدُ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ
كَمَا زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ
فَإِنَّ الْأَبَ لَا يُعَذِّبُ وَلَدَهُ، وَالْحَبِيبَ لَا
يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ، وَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ أَنَّهُ
مُعَذِّبُكُمْ؟ وَقِيلَ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ أَيْ: لِمَ
عَذَّبَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً
وَخَنَازِيرَ؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}
كَسَائِرِ بَنِي آدَمَ مَجْزِيُّونَ بِالْإِسَاءَةِ
وَالْإِحْسَانِ، {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} فَضْلًا
{وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} عَدْلًا {وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ}
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا
جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ
وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا
مِنَ الْعَالَمِينَ (20) }
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} مُحَمَّدٌ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يُبَيِّنُ لَكُمْ}
أَعْلَامَ الْهُدَى وَشَرَائِعَ الدِّينِ، {عَلَى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ} أَيِ انْقِطَاعٍ مِنَ الرُّسُلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ،
وَقَالَ قَتَادَةُ: خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَقَالَ
مَعْمَرٌ وَالْكَلْبِيُّ، خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً
(1) وَسُمِّيَتْ فَتْرَةً لِأَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تَتْرَى
بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ
إِلَى زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَمْ يَكُنْ
بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سِوَى رَسُولِنَا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {أَنْ تَقُولُوا} كَيْلَا
تَقُولُوا، {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ
جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ}
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير، رحمه الله في التفسير: 2 / 36 بعد أن
ذكر نحوا مما قاله البغوي: ".. وقال الضحاك: أربعمائة وبضع
وثلاثون سنة. وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام، عن
الشعبي، أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة.
والمشهور: هو القول الأول، وهو أنها ستمائة سنة. ومنهم من
يقول: ستمائة وعشرون سنة. ولا منافاة بينهما؛ فإن القائل الأول
أراد: ستمائة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية، وبين كل مائة سنة
شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين. ولهذا قال تعالى في قصة
أهل الكهف: "ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا" أي:
قمرية، لتكميل ثلاثمائة الشمسية، التي كنت معلومة لأهل الكتاب.
وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين
محمد خاتم النبيين على الإطلاق كما ثبت في صحيح البخاري". أي
إن زمن الفترة وهي المدة الزمنية التي لم يبعث فيها رسول، هي
ما بين عيسى وبعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(3/34)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ
وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ
يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [أَيْ: مِنْكُمْ
أَنْبِيَاءَ] (1) {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي أَصْحَابَ خَدَمٍ
وَحَشَمٍ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا أَوَّلَّ مَنْ مَلَكَ
الْخَدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ خَدَمٌ. وَرُوِيَ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ
بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ خَادِمٌ
وَامْرَأَةٌ وَدَابَّةٌ يُكْتَبُ مَلِكًا" (2) .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ: سَمِعْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ
فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ
لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ (3) .
قَالَ السُّدِّيُّ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا أَحْرَارًا
تَمْلِكُونَ أَمْرَ أَنْفُسِكُمْ بَعْدَمَا كُنْتُمْ فِي
أَيْدِي الْقِبْطِ يَسْتَعْبِدُونَكُمْ، قَالَ الضَّحَّاكُ:
كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ وَاسِعَةً فِيهَا مِيَاهٌ جَارِيَةٌ
فَمَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ وَاسِعًا وَفِيهِ مَاءٌ جَارٍ فَهُوَ
مَلِكٌ {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ} يَعْنِي عَالَمِي زَمَانِكُمْ، قَالَ
مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَالْحَجَرَ
وَتَظْلِيلَ الْغَمَامِ.
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ
فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا
دَاخِلُونَ (22) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} اخْتَلَفُوا
فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الطُّورُ
وَمَا حَوْلَهُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِيلِيَّا وَبَيْتُ
الْمَقْدِسِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ
أَرْيَحَاءُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ دِمَشْقُ
وَفِلَسْطِينُ وَبَعْضُ الْأُرْدُنِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ
الشَّامُ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) عزاه السيوطي لابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري، (الدر
المنثور: 3 / 46) ، وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير: 2 / 38
وقال: حديث غريب من هذا الوجه. والحديث فيه: ابن لهيعة: صدوق
من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، ودراج بن أبي السمح: صدوق في
حديثه عن أبي الهيثم ضعف. (التقريب) .
(3) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، برقم (2979) : 4 / 2285.
(3/35)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (23)
كُلُّهَا، قَالَ كَعْبٌ: وَجَدْتُ فِي
كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ الشَّامَ كَنْزُ اللَّهِ
فِي أَرْضِهِ [وَبِهَا أَكْثَرُ] (1) عِبَادِهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يَعْنِي:
كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنَّهَا مَسَاكِنُ لَكُمْ،
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وَقِيلَ:
جَعَلَهَا لَكُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَمَرَكُمُ اللَّهُ
بِدُخُولِهَا، [وَقَالَ قَتَادَةُ] (2) أُمِرُوا بِهَا كَمَا
أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ، أَيْ: فَرَضَ عَلَيْكُمْ. {وَلَا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أَعْقَابِكُمْ بِخِلَافِ
أَمْرِ اللَّهِ، {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} قال الكلبي: صعيد
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَبَلَ لُبْنَانَ فَقِيلَ
لَهُ: انْظُرْ فَمَا أَدْرَكَهُ بَصَرُكَ فَهُوَ مُقَدَّسٌ
وَهُوَ مِيرَاثٌ لِذُرِّيَّتِكَ.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}
وَذَلِكَ أَنَّ النُّقَبَاءَ الَّذِينَ خَرَجُوا
يَتَجَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مُوسَى
وَأَخْبَرُوهُ بِمَا عَايَنُوا، قَالَ لَهُمْ مُوسَى:
اكْتُمُوا شَأْنَهُمْ وَلَا تُخْبِرُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ
أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَيَفْشَلُوا، فَأَخْبَرَ كُلُّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ قَرِيبَهُ وَابْنَ عَمِّهِ إِلَّا رَجُلَانِ وَفَّيَا
بِمَا قَالَ لَهُمَا مُوسَى، أَحَدُهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونِ
بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَتَى
مُوسَى، وَالْآخَرُ كالب بن يوفنا خَتَنُ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ عَلَى أُخْتِهِ مَرْيَمَ بِنْتِ عُمْرَانَ، وَكَانَ
مِنْ سِبْطِ يَهُودَ وَهُمَا مِنَ النُّقَبَاءِ فَعَلِمَتْ
جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ وَرَفَعُوا
أَصْوَاتَهُمْ بِالْبُكَاءِ وَقَالُوا يَا لَيْتَنَا فِي
أَرْضِ مِصْرَ، وَلَيْتَنَا نَمُوتُ فِي هَذِهِ
[الْبَرِّيَّةِ] (3) وَلَا يُدْخِلُنَا اللَّهُ أَرْضَهُمْ
فَتَكُونُ نِسَاؤُنَا وَأَوْلَادُنَا وَأَثْقَالُنَا غَنِيمَةً
لَهُمْ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ
نَجْعَلُ عَلَيْنَا رَأْسًا وَنَنْصَرِفُ إِلَى مِصْرَ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ {قَالُوا يَا
مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ
نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا
مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} أَصْلُ الْجَبَّارِ:
الْمُتَعَظِّمُ الْمُمْتَنِعُ عَنِ الْقَهْرِ، يُقَالُ:
نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ إِذَا كَانَتْ طَوِيلَةٌ مُمْتَنِعَةٌ
عَنْ وُصُولِ الْأَيْدِي إِلَيْهَا، وَسُمِّيَ أُولَئِكَ
الْقَوْمُ جَبَّارِينَ لِامْتِنَاعِهِمْ بِطُولِهِمْ وَقُوَّةِ
أَجْسَادِهِمْ، وَكَانُوا مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَبَقِيَّةَ
قَوْمِ عَادٍ، فَلَمَّا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا قَالُوا
وَهَمُّوا بِالِانْصِرَافِ إِلَى مِصْرَ خَرَّ مُوسَى
وَهَارُونُ سَاجِدِينَ، وَخَرَقَ يُوشَعُ وَكَالِبُ
ثِيَابَهُمَا وَهُمَا اللَّذَانِ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخَافُونَ}
{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا
دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) }
{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أَيْ: يَخَافُونَ
اللَّهَ تَعَالَى، قَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ "يُخَافُونَ"
__________
(1) في "ب": (وبها كنزه من عباده) .
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب": (التربة) .
(3/36)
بِضَمِّ الْيَاءِ، وَقَالَ: الرَّجُلَانِ
كَانَا مِنَ الْجَبَّارِينَ فَأَسْلَمَا وَاتَّبَعَا مُوسَى،
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ
قَالَا {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} يَعْنِي: قَرْيَةَ
الْجَبَّارِينَ، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ} لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ وَعْدَهُ،
وَإِنَّا رَأَيْنَاهُمْ وَأَجْسَامُهُمْ عَظِيمَةٌ
وَقُلُوبُهُمْ ضَعِيفَةٌ، فَلَا تَخْشَوْهُمْ، {وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَأَرَادَ
بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْجُمُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ
وَعَصَوْهُمَا.
(3/37)
قَالُوا يَا مُوسَى
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ (26)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ
نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي
لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) }
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا
دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا
هَاهُنَا قَاعِدُونَ} أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَنَا إِسْرَائِيلُ
عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ
ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ
بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ،
فَقَالَ: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ: "اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا" وَلَكِنَّا
نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ
وَمِنْ خَلْفِكَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ مَا قَالَ (1)
. فَلَمَّا فَعَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا فَعَلَتْ مِنْ
مُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ وَهَمِّهِمْ بِيُوشَعَ
وَكَالِبَ غَضِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَعَا
عَلَيْهِمْ.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي}
[قِيلَ: معناه وأخي 104/ب لَا يَمْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ،
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يُطِيعُنِي إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي]
(2) {فَافْرُقْ} فَافْصِلْ، {بَيْنَنَا} قِيلَ: فَاقْضِ
بَيْنَنَا، {وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الْعَاصِينَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}
قِيلَ: هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ مَعْنَاهُ تِلْكَ
الْبَلْدَةُ مُحَرَّمَةٌ
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب قول الله تعالى "إذ
تستغيثون ربكم ... " 7 / 287.
(2) ساقط من "ب".
(3/37)
عَلَيْهِمْ أَبَدًا لَمْ يُرِدْ بِهِ
تَحْرِيمَ تَعَبُّدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْرِيمَ مَنْعٍ،
فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى: [بِي حَلَفْتَ] (1)
لَأُحَرِّمَنَّ عَلَيْهِمْ دُخُولَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ
غَيْرَ عَبْدَيَّ يُوشَعُ وَكَالِبُ، وَلَأُتَيِّهَنَّهُمْ فِي
هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ {أَرْبَعِينَ سَنَةً} [يَتِيهُونَ] (2)
مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي تُحْبَسُونَ
فِيهَا سَنَةٌ، وَلَأُلْقِيَنَّ جِيَفَهُمْ فِي هَذِهِ
الْقِفَارِ، وَأَمَّا بَنُوهُمُ الذين لم يعلموا الشَّرَّ
فَيَدْخُلُونَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} {يَتِيهُونَ}
يَتَحَيَّرُونَ، {فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ} أَيْ: لَا تَحْزَنْ عَلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمِ، فَلَبِثُوا أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي سِتَّةِ
فَرَاسِخَ وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانُوا
يَسِيرُونَ كُلَّ يَوْمٍ جَادِّينَ فَإِذَا أَمْسَوْا كَانُوا
فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ارْتَحَلُوا عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمْ
يَكُونَا فِيهِمْ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا كَانَا فِيهِمْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا عُقُوبَةٌ إِنَّمَا كَانَتِ
الْعُقُوبَةُ لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَمَاتَ فِي التِّيهِ
كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا مِمَّنْ جَاوَزَ عِشْرِينَ سَنَةً غَيْرَ
يُوشَعُ وَكَالِبُ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَرْيَحَاءَ أَحَدٌ
مِمَّنْ قَالُوا إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا فَلَمَّا
هَلَكُوا وَانْقَضَتِ الْأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَنَشَأَتِ
النَّوَاشِئُ مِنْ ذَرَارِيهِمْ سَارُوا إِلَى حَرْبِ
الْجَبَّارِينَ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَوَلَّى تِلْكَ الْحَرْبِ وَعَلَى
يَدَيْ مَنْ كَانَ الْفَتْحُ، فَقَالَ قَوْمٌ: وَإِنَّمَا
فَتَحَ مُوسَى أَرْيَحَاءَ وَكَانَ يُوشَعُ عَلَى
مُقَدِّمَتِهِ، فَسَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِمْ
فِيمَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَخَلَهَا يُوشَعُ
فَقَاتَلَ الْجَبَابِرَةَ ثُمَّ دَخَلَهَا مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَأَقَامَ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ، وَلَا يَعْلَمُ
قَبْرَهُ أَحَدٌ، وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ لِاتِّفَاقِ
الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُوجَ بْنَ عُنُقَ قَتْلَهُ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّمَا قَاتَلَ الْجَبَّارِينَ يُوشَعُ
وَلَمْ يَسِرْ إِلَيْهِمْ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ، [وَقَالُوا: مَاتَ مُوسَى] (3)
وَهَارُونُ جَمِيعًا فِي التِّيهِ.
__________
(1) زيادة من: "ب".
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "ب".
(3/38)
قِصَّةُ وَفَاةِ هَارُونَ
قَالَ السُّدِّيُّ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى
مُوسَى أَنِّي مُتَوَفِّي هَارُونَ فَأْتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا
وَكَذَا، فَانْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ نَحْوَ ذَلِكَ الْجَبَلِ فَإِذَا هُمَا بِشَجَرَةٍ
لَمْ يُرَ مِثْلُهَا وَإِذَا بِبَيْتٍ مَبْنِيٍّ وَفِيهِ
سَرِيرٌ عَلَيْهِ فَرْشٌ وَإِذَا فِيهِ رِيحٌ طَيِّبَةٌ،
فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إِلَى ذَلِكَ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ:
يَا مُوسَى إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَنَامَ عَلَى هَذَا
السَّرِيرِ قَالَ: فَنَمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ
أَنَّ يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبُ عَلَيَّ،
قَالَ لَهُ مُوسَى: لَا تَرْهَبْ إِنِّي أَكْفِيكَ أَمْرَ
رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ فَنَمْ، قَالَ: يَا مُوسَى نَمْ أَنْتَ
مَعِي فَإِنْ جَاءَ رَبُّ الْبَيْتِ غَضِبَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ
جَمِيعًا فَلَمَّا نَامَا أَخَذَ هَارُونَ الْمَوْتُ فَلَمَّا
وَجَدَ مَنِيَّتَهُ قَالَ: يَا مُوسَى خَدَعْتَنِي، فَلَمَّا
قُبِضَ رُفِعَ الْبَيْتُ وَذَهَبَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ
وَرُفِعَ السَّرِيرُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَجَعَ
مُوسَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ مَعَهُ هَارُونُ
قَالُوا: إِنَّ مُوسَى قَتَلَ هَارُونَ وَحَسَدَهُ لِحُبِّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ، فَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَيْحَكُمْ كَانَ أَخِي فَكَيْفَ أَقْتُلُهُ، فَلَمَّا
أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا
اللَّهَ تَعَالَى وَنَزَلَ السَّرِيرُ حَتَّى نَظَرُوا
إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَصَدَّقُوهُ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: صَعِدَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
الْجَبَلَ فَمَاتَ هَارُونُ [وَبَقِيَ مُوسَى] (1) فَقَالَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْتَ
قَتَلْتَهُ فَآذَوْهُ فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ
فَحَمَلُوهُ حَتَّى مَرُّوا بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَتَكَلَّمَتِ الْمَلَائِكَةُ بِمَوْتِهِ حَتَّى عَرَفَ بَنُو
إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَاتَ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى
مِمَّا قَالُوا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ حَمَلُوهُ
وَدَفَنُوهُ فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَوْضِعِ قَبْرِهِ أَحَدٌ
إِلَّا الرَّخَمَ فَجَعَلَهُ اللَّهُ أَصَمَّ وَأَبْكَمَ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: مَاتَ هَارُونُ قَبْلَ مَوْتِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التِّيهِ، وَكَانَا قَدْ
خَرَجَا إِلَى بَعْضِ الْكُهُوفِ فَمَاتَ هَارُونُ وَدَفَنَهُ
مُوسَى وَانْصَرَفَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا:
قَتَلْتَهُ لِحُبِّنَا إِيَّاهُ، وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ، فَتَضَرَّعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ
انْطَلِقْ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ فَإِنِّي بَاعِثُهُ،
فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى قَبْرِهِ [فَنَادَاهُ مُوسَى] (2)
فَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ، فَقَالَ: أَنَا
قَتَلْتُكَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي مِتُّ، قَالَ: فَعُدْ إِلَى
مَضْجَعِكَ، وَانْصَرَفُوا.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب": (فنادى: يا هارون] .
(3/39)
وَأَمَّا وَفَاةُ مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ كَرِهَ الْمَوْتَ وَأَعْظَمَهُ
فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحَبِّبَ إِلَيْهِ الْمَوْتَ،
فَنَبَّأَ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ فَكَانَ يَغْدُو وَيَرُوحُ
عَلَيْهِ، قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ؟
[فَيَقُولُ لَهُ يُوشَعُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَمْ
أَصْحَبْكَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، فَهَلْ كُنْتُ أَسْأَلُكَ
شَيْئًا مِمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ] (1) حَتَّى تَكُونَ
أَنْتَ الَّذِي تَبْتَدِئُ بِهِ وَتَذْكُرُهُ؟ وَلَا يَذْكُرُ
لَهُ شَيْئًا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ كَرِهَ مُوسَى الْحَيَاةَ
وَأَحَبَّ الْمَوْتَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ
الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ
السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى
مُوسَى بْنِ عُمْرَانَ، فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، قَالَ:
فَلَطَمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ
فَفَقَأَهَا، قَالَ: فَرَجَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ
لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي قَالَ فَرَدَّ
اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي
فَقُلْ لَهُ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ
الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وَارَتْ
يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ:
ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فَالْآنَ مِنْ
قَرِيبٍ، رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ
رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ
لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ
الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ" (2) .
وَقَالَ وَهْبٌ: خَرَجَ مُوسَى لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَمَرَّ
بِرَهْطٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفِرُونَ قَبْرًا لَمْ يُرَ
شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا مِثْلَ مَا فِيهِ مِنَ
الْخُضْرَةِ وَالنَّضْرَةِ وَالْبَهْجَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا
مَلَائِكَةَ اللَّهِ لِمَ تَحْفِرُونَ هَذَا الْقَبْرَ؟
قَالُوا: لَعَبَدٍ كَرِيمٍ عَلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: إِنَّ
هَذَا الْعَبْدَ مِنَ اللَّهِ لَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ مَا
رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ مَضْجَعًا قَطُّ، فَقَالَتِ
الْمَلَائِكَةُ: يَا صَفِيَّ اللَّهِ تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ
لَكَ؟ قَالَ: وَدِدْتُ، قَالُوا: فَانْزِلْ وَاضْطَجِعْ فِيهِ
وَتَوَجَّهْ إِلَى رَبِّكَ، قَالَ: فَاضْطَجَعَ فِيهِ
وَتَوَجَّهَ إِلَى رَبِّهِ ثُمَّ تَنَفَّسَ أَسْهَلَ تَنَفُّسٍ
فَقَبَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رُوحَهُ، ثُمَّ سَوَّتْ
عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَتَاهُ بِتُفَّاحَةٍ مِنَ
الْجَنَّةِ فَشَمَّهَا فَقَبَضَ رُوحَهُ.
وَكَانَ عُمْرُ مُوسَى مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً فَلَمَّا
مَاتَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَانْقَضَتِ الْأَرْبَعُونَ
سَنَةً بَعَثَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب من أحب الدفن في الأرض
المقدسة: 3 / 206، وفي الأنبياء، وأخرجه مسلم في الفضائل، باب
من فضائل موسى عليه السلام، برقم (2373) : 4 / 1843، واللفظ
له، وأخرجه المصنف في شرح السنة: 5 / 265.
(3/40)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
اللَّهُ يُوشَعَ نَبِيًّا فَأَخْبَرَهُمْ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْجَبَابِرَةِ،
فَصَدَّقُوهُ وَتَابَعُوهُ فَتَوَجَّهَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ
إِلَى أَرْيَحَاءَ وَمَعَهُ تَابُوتُ الْمِيثَاقِ، فَأَحَاطَ
بِمَدِينَةِ أَرْيَحَاءَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا كَانَ
السَّابِعَ نَفَخُوا فِي الْقِرَانِ وَضَجَّ الشَّعْبُ ضَجَّةً
وَاحِدَةً فَسَقَطَ سُورُ الْمَدِينَةِ، وَدَخَلُوا
فَقَاتَلُوا الْجَبَّارِينَ وَهَزَمُوهُمْ وَهَجَمُوا
عَلَيْهِمْ يَقْتُلُونَهُمْ، وَكَانَتِ الْعِصَابَةُ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى عُنُقِ الرَّجُلِ
يَضْرِبُونَهَا حَتَّى يَقْطَعُونَهَا، فَكَانَ الْقِتَالُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ وَكَادَتِ
الشَّمْسُ تَغْرُبُ وَتَدْخُلُ لَيْلَةُ السَّبْتِ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ ارْدُدِ الشَّمْسَ عَلَيَّ وَقَالَ لِلشَّمْسِ:
إِنَّكِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَا
فِي طَاعَتِهِ فَسَأَلَ الشَّمْسَ أَنْ تَقِفَ وَالْقَمَرَ
أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَنْتَقِمَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ
تَعَالَى قَبْلَ دُخُولِ السَّبْتِ، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ
الشَّمْسُ وَزِيدَتْ فِي النَّهَارِ ساعة حتى قتلتهم
أَجْمَعِينَ، وَتَتَبَّعَ مُلُوكَ الشَّامِ فَاسْتَبَاحَ
مِنْهُمْ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ مَلِكًا حَتَّى غَلَبَ عَلَى
جَمِيعِ أَرْضِ الشَّامِ، وَصَارَتِ الشَّامُ كُلُّهَا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ وَفَرَّقَ عُمَّالَهُ في نواحيهأ 105\أوَجَمَعَ
الْغَنَائِمَ، فَلَمْ تَنْزِلِ النَّارُ، فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَى يُوشَعَ أَنَّ فِيهَا غُلُولًا فَمُرْهُمْ
فَلْيُبَايِعُوا فَبَايَعُوهُ فَالْتَصَقَتْ يَدُ رَجُلٍ
مِنْهُمْ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَلُمَّ مَا عِنْدَكَ فَأَتَاهُ
بِرَأْسِ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِالْيَاقُوتِ
وَالْجَوَاهِرِ كَانَ قَدْ غَلَّهُ، فَجَعَلَهُ فِي
الْقُرْبَانِ وَجَعَلَ الرَّجُلَ مَعَهُ فَجَاءَتِ النَّارُ
فَأَكَلَتِ الرَّجُلَ وَالْقُرْبَانَ، ثُمَّ مَاتَ يُوشَعُ
وَدُفِنَ فِي جَبَلِ أَفْرَائِيمَ، وَكَانَ عُمْرُهُ مِائَةً
وَسِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَتَدْبِيرُهُ أَمْرَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ} وَهُمَا هَابِيلُ وَقَابِيلُ (1) وَيُقَالُ لَهُ
قَابِينُ، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} وَكَانَ سَبَبُ
قُرْبَانِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ
حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
كُلِّ بَطْنٍ غُلَامًا وَجَارِيَةً، وَكَانَ جَمِيعُ مَا
وَلَدَتْهُ أَرْبَعِينَ وَلَدًا فِي عِشْرِينَ بَطْنًا
أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ أَقْلِيمَا، وَآخِرُهُمْ
عَبْدُ الْمُغِيثِ وَتَوْأَمَتُهُ أَمَةُ الْمُغِيثِ، ثُمَّ
بَارَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي نَسْلِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَمُتْ آدَمُ حَتَّى
بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْلِدِ قَابِيلَ وَهَابِيلَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: غَشِيَ آدَمُ حَوَّاءَ بَعْدَ مَهْبِطِهِمَا إِلَى
الْأَرْضِ بِمِائَةِ سَنَةٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ قَابِيلَ
وَتَوْأَمَتَهُ أَقْلِيمَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ
هَابِيلَ وَتَوْأَمَتَهُ لُبُودَا فِي بَطْنٍ.
__________
(1) هذه التسمية لابني آدم: "قابيل، هابيل" إنما هي من نقل
العلماء عن أهل الكتاب، لم يرد بها نص في القرآن، ولا جاءت في
سنة ثابتة، فيما نعلم، فلا علينا أن لا نجزم بها ولا نرجحها،
وإنما هي قول قيل. انظر: عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر: 4 /
123.
(3/41)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ
بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ: إِنَّ آدَمَ
كَانَ يَغْشَى حَوَّاءَ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ
الْخَطِيئَةَ، فَحَمَلَتْ فِيهَا بِقَابِيلَ وَتَوْأَمَتِهِ
أَقْلِيمَا، فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِمَا وَحَمًا وَلَا وَصَبًا
وَلَا طَلْقًا حَتَّى وَلَدَتْهُمَا، وَلَمْ تَرَ مَعَهُمَا
دَمًا فَلَمَّا هَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ تَغَشَّاهَا فَحَمَلَتْ
بِهَابِيلَ وَتَوْأَمَتِهِ، فَوَجَدَتْ عَلَيْهِمَا الْوَحَمَ
وَالْوَصَبَ وَالطَّلْقَ وَالدَّمَ، وَكَانَ آدَمُ إِذَا شَبَّ
أَوْلَادُهُ يُزَوِّجُ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ جَارِيَةَ
بَطْنٍ أُخْرَى، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَزَوَّجُ
أَيَّةَ أَخَوَاتِهِ شَاءَ إِلَّا تَوْأَمَتَهُ الَّتِي
وُلِدَتْ مَعَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ نِسَاءٌ
إِلَّا أَخَوَاتُهُمْ، فَلَمَّا وُلِدَ قَابِيلُ
وَتَوْأَمَتُهُ أَقْلِيمَا ثُمَّ هَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ
لُبُودَا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا سَنَتَانِ فِي قَوْلِ
الْكَلْبِيِّ وَأَدْرَكُوا، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُنْكِحَ قَابِيلَ لُبُودَا أُخْتَ
هَابِيلَ وَيُنْكِحَ هَابِيلَ أَقْلِيمَا أُخْتَ قَابِيلَ،
وَكَانَتْ أُخْتُ قَابِيلَ أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ هَابِيلَ،
فَذَكَرَ ذَلِكَ آدَمُ لِوَلَدِهِ فَرْضِيَ هَابِيلُ وَسَخِطَ
قَابِيلُ، وَقَالَ: هِيَ أُخْتِي أَنَا أَحَقُّ بِهَا،
وَنَحْنُ مِنْ [وِلَادَةِ] (1) الْجَنَّةِ وَهُمَا مِنْ
[وِلَادَةِ] (2) الْأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: إِنَّهَا
لَا تَحِلُ لَكَ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّ
اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَذَا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
رَأْيِهِ، فَقَالَ لَهُمَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
فَقَرِّبَا قُرْبَانًا فَأَيُّكُمَا يُقْبَلُ قُرْبَانُهُ
فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَكَانَتِ الْقَرَابِينُ إِذَا كَانَتْ
مَقْبُولَةً نَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ بَيْضَاءُ
فَأَكَلَتْهَا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمْ تَنْزِلِ
النَّارُ وَأَكَلَتْهُ الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ، فَخَرَجَا
لِيُقَرِّبَا [قُرْبَانًا] (3) وَكَانَ قَابِيلُ صَاحِبَ
زَرْعٍ فَقَرَّبَ صُبْرَةً مِنَ الطَّعَامِ مِنْ أَرْدَأِ
زَرْعِهِ وَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ مَا أُبَالِي أَيُقْبَلُ
مِنِّي أَمْ لَا لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتِي أَبَدًا، وَكَانَ
هَابِيلُ صَاحِبَ غَنَمٍ فَعَمَدَ إِلَى أَحْسَنِ كَبْشٍ فِي
غَنَمِهِ فَقَرَّبَ بِهِ وَأَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ رِضَا
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَضَعَا قُرْبَانَهُمَا أَعْلَى
الْجَبَلِ، ثُمَّ دَعَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَزَلَتْ
نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ وَلَمْ
تَأْكُلْ قُرْبَانَ قَابِيلَ (4) فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} [يَعْنِي هَابِيلَ]
(5) {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} يَعْنِي: قَابِيلَ
فَنَزَلُوا عَلَى الْجَبَلِ وَقَدْ غَضِبَ قَابِيلُ لِرَدِّ
قُرْبَانِهِ وَكَانَ يُضْمِرُ الْحَسَدَ فِي نَفْسِهِ إِلَى
أَنْ أَتَى آدَمُ مَكَّةَ لِزِيَارَةِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا
غَابَ آدَمُ أَتَى قَابِيلُ هَابِيلَ وَهُوَ فِي غَنَمِهِ،
{قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ قُرْبَانَكَ وَرَدَّ قُرْبَانِي،
وَتَنْكِحُ أُخْتِي الْحَسْنَاءَ وَأَنْكِحُ أُخْتَكَ
الدَّمِيمَةَ، فَيَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنِّي
وَيَفْتَخِرُ وَلَدُكَ عَلَى وَلَدِي، {قَالَ} هَابِيلُ: وَمَا
ذَنْبِي؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
__________
(1) في "ب": (أولاد) .
(2) في "ب": (أولاد) .
(3) ساقط من "ب".
(4) أخرج هذه القصة: الطبري في التفسير: 6 / 188، (طبع الحلبي)
وساق ابن كثير عدة روايات في ذلك تتفق في المعنى: 2 / 42-44.
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في عمدة التفسير: 4 / 124 "هذا من
قصص أهل الكتاب، ليس له أصل صحيح - ثم قد ساق الحافظ ابن كثير
آثارا في هذا المعنى، مما امتلأت به كتب المفسرين" وعلق على
رواية الطبري التي نقلها ابن كثير فقال: وهو خبر - كما ترى -
ليس من السنة النبوية - بل ظاهره يدل على أنه مما أخذه ابن
عباس من كتب أهل الكتاب.
(5) ساقط من "ب".
(3/42)
لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ
جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ
فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) }
{لَئِنْ بَسَطْتَ} أَيْ: مَدَدْتَ، {إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ
الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ وَلَكِنْ مَنَعَهُ
التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ إِلَى أَخِيهِ يَدَهُ، وهذا في
الشرع آدَمَ جَائِزٌ لِمَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ أَنْ يَنْقَادَ
وَيَسْتَسْلِمَ طَلَبًا لِلْأَجْرِ كَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُتِبَ عَلَيْهِمْ
فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِذَا أَرَادَ رَجُلٌ قَتْلَ رَجُلٍ أَنْ
لَا يَمْتَنِعَ وَيَصْبِرَ.
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ} تَرْجِعَ، وَقِيلَ: تَحْتَمِلَ،
{بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أَيْ: بِإِثْمِ قَتْلِي إِلَى
إِثْمِكَ، أَيْ: إِثْمِ مَعَاصِيكَ الَّتِي عَمِلْتَ مِنْ
قَبْلُ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَرَوَى ابْنُ
أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَعْنَاهُ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ يَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيئَتِي الَّتِي عَمِلْتُهَا أَنَا
إِذَا قَتَلَتْنِي وَإِثْمُكَ فَتَبُوءُ بِخَطِيئَتِي وَدَمِي
جَمِيعًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ تَرْجِعَ بِإِثْمِ قَتْلِي
وَإِثْمِ مَعْصِيَتِكَ الَّتِي لَمْ يُتَقَبَّلْ لِأَجْلِهَا
قُرْبَانُكَ، أَوْ إِثْمِ حَسَدِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ
بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ، وَإِرَادَةُ الْقَتْلِ وَالْمَعْصِيَةِ
لَا تَجُوزُ؟ قِيلَ لَيْسَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ إِرَادَةٍ
وَلَكِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ لَا مَحَالَةَ
وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ طَلَبًا لِلثَّوَابِ
فَكَأَنَّهُ صَارَ مُرِيدًا لِقَتْلِهِ مَجَازًا، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مُرِيدًا حَقِيقَةً، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنِّي أُرِيدُ
أَنْ تَبُوءَ بِعِقَابِ قَتْلِي فَتَكُونُ إِرَادَةً
صَحِيحَةً، لِأَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَلَا يَكُونُ هَذَا إِرَادَةً لِلْقَتْلِ، بَلْ
لِمُوجِبِ الْقَتْلِ مِنَ الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ، {فَتَكُونَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أَيْ:
طَاوَعَتْهُ وَشَايَعَتْهُ وَعَاوَنَتْهُ، {قَتْلَ أَخِيهِ}
أَيْ فِي قَتْلِ أَخِيهِ، [وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَشَجَّعَتْهُ،
وَقَالَ قَتَادَةُ: فَزَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ، وَقَالَ
يَمَانٌ: سَهَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ ذَلِكَ، أَيْ: جَعَلَتْهُ
سَهْلًا] (1) تَقْدِيرُهُ: صَوَّرَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ
قَتْلَ أَخِيهِ طَوْعٌ لَهُ أَيْ سَهْلٌ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ
فَلَمَّا قَصَدَ قَابِيلُ قَتْلَ هَابِيلَ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ
يَقْتُلُهُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَتَمَثَّلَ لَهُ إِبْلِيسُ
وَأَخَذَ طَيْرًا فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى حَجَرٍ ثُمَّ شَدَخَ
رَأْسَهُ بِحَجَرٍ آخَرَ وَقَابِيلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ
فَعَلَّمَهُ الْقَتْلَ، فَرَضَخَ قَابِيلُ رَأْسَ هَابِيلَ
بَيْنَ
__________
(1) ساقط من "ب".
(3/43)
فَبَعَثَ اللَّهُ
غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
حَجَرَيْنِ (1) قِيلَ: قُتِلَ وَهُوَ
مُسْتَسْلِمٌ، وَقِيلَ: اغْتَالَهُ وَهُوَ فِي النَّوْمِ
فَشَدَخَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَكَانَ
لِهَابِيلَ يَوْمَ قُتِلَ عِشْرُونَ سَنَةً.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ [قِيلَ: بِالْبَصْرَةِ
فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ فَاسْوَدَّ جِسْمُ
الْقَاتِلِ وَسَأَلَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَخِيهِ
فَقَالَ لَمْ أَكُنْ عَلَيْهِ وَكِيلًا فَقَالَ: بَلْ
قَتَلْتَهُ وَلِذَلِكَ اسْوَدَّ جَسَدُكَ، مَكَثَ آدَمُ
مِائَةَ سَنَةٍ لَمْ يَضْحَكْ قَطُّ مُنْذُ قَتَلَهُ] (2) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَلَى جَبَلِ
[ثَوْرٍ] (3) وَقِيلَ عِنْدَ عَقَبَةِ حِرَاءَ، فَلَمَّا
قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ
بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَيِّتٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
مِنْ بَنِي آدَمَ، وَقَصَدَتْهُ السِّبَاعُ، فَحَمَلَهُ فِي
جِرَابٍ عَلَى ظَهْرِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: سَنَةً، حَتَّى أَرْوَحَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ
الطَّيْرُ وَالسِّبَاعُ تَنْتَظِرُ مَتَى يُرْمَى بِهِ
فَتَأْكُلُهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا
فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ حَفَرَ لَهُ
بِمِنْقَارِهِ وَبِرَجُلِهِ حَتَّى مَكَّنَ لَهُ ثُمَّ
أَلْقَاهُ فِي الْحُفْرَةِ وَوَارَاهُ، وَقَابِيلُ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ، فَذَلِكَ قوله تعالى: 105/ب {فَبَعَثَ اللَّهُ
غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْأَةَ أَخِيهِ}
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ
كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ
سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) }
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ
كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} فَلَمَّا رَأَى قَابِيلُ
ذَلِكَ قَالَ يَا وَيْلَتَا كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ فَقِيلَ لَمَّا
رَأَى الدَّفْنَ مِنَ الْغُرَابِ أَنَّهُ أَكْبَرُ عِلْمًا
مِنْهُ وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ كَانَ جَهْلًا فَنَدِمَ
وَتَحَسَّرَ {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} أَيْ:
جِيفَتَهُ، وَقِيلَ: عَوْرَتَهُ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَبَ
ثِيَابَهُ، {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} عَلَى حَمْلِهِ
عَلَى عَاتِقِهِ لَا عَلَى قَتْلِهِ، وَقِيلَ: عَلَى فِرَاقِ
أَخِيهِ، وَقِيلَ: نَدِمَ لِقِلَّةِ النَّفْعِ بِقَتْلِهِ
فَإِنَّهُ أَسْخَطَ وَالِدَيْهِ، وَمَا انْتَفَعَ بِقَتْلِهِ
شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ نَدَمُهُ عَلَى الْقَتْلِ وَرُكُوبِ
الذَّنْبِ.
قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ:
لَمَّا قَتَلَ ابْنُ آدم أخاه وجفت الْأَرْضُ بِمَا عَلَيْهَا
سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ شَرِبَتِ الْأَرْضُ دَمَهُ كَمَا
يُشْرَبُ الْمَاءُ، فَنَادَاهُ آدَمُ أَيْنَ أَخُوكَ هَابِيلُ؟
قَالَ: مَا أَدْرِي مَا كُنْتُ عَلَيْهِ
__________
(1) انظر: الطبري: 6 / 195 (طبع الحلبي) ، تفسير ابن كثير: 2 /
46.
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب": (فود) .
(3/44)
رَقِيبًا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ
دَمَ أَخِيكَ لَيُنَادِينِي مِنَ الْأَرْضِ، فَلِمَ قَتَلْتَ
أَخَاكَ؟ قَالَ: فَأَيْنَ دَمُهُ إِنْ كُنْتُ قَتَلْتُهُ؟
فَحَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ
أَنْ تَشْرَبَ دَمًا بَعْدَهُ أَبَدًا.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا قَتَلَ
قَابِيلُ هَابِيلَ وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَكَّةَ
اشْتَاكَ الشَّجَرُ وَتَغَيَّرَتِ الْأَطْعِمَةُ وَحَمَضَتِ
الْفَوَاكِهُ، وَأَمَرَّ الْمَاءُ وَاغْبَرَّتِ الْأَرْضُ،
فَقَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ
حَدَثٌ، فَأَتَى الْهِنْدَ فَإِذَا قَابِيلُ قَدْ قَتَلَ
هَابِيلَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ
الشِّعْرَ: تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا فَوَجْهُ
الْأَرْضِ مُغْبَرٌ قَبِيحٌ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ وَقَلَّ بَشَاشَةُ
الْوَجْهِ المليح
وَرُوِيَ: الْمَلِيحُ.
وَرُوِيَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَنْ قَالَ إِنَّ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ شِعْرًا فَقَدْ كَذَبَ، إِنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي
النَّهْيِ عَنِ الشِّعْرِ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ لَمَّا قَتَلَ
قَابِيلُ هَابِيلَ رَثَاهُ آدَمَ وَهُوَ سُرْيَانِيٌّ،
فَلَمَّا قَالَ آدَمُ مَرْثِيَّتَهُ قَالَ لَشِيثٍ: يَا
بُنَيَّ إِنَّكَ وَصِيٌّ احْفَظْ هَذَا الْكَلَامَ
لِيُتَوَارَثَ فَيَرِقَّ النَّاسُ عَلَيْهِ، لَمْ يَزَلْ
يُنْقَلُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ،
وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ
الشِّعْرَ فَنَظَرَ فِي الْمَرْثِيَّةِ فَرَدَّ الْمُقَدَّمَ
إِلَى الْمُؤَخَّرِ وَالْمُؤَخَّرَ إِلَى الْمُقَدَّمِ،
فَوَزَنَهُ شِعْرًا وزاد فيه أبيات مِنْهَا: وَمَا لِي لَا
أَجُودُ بِسَكْبِ دَمْعٍ وَهَابِيلُ تَضَمَّنَهُ الضَّرِيحُ
أَرَى طُولَ الْحَيَاةِ عَلَيَّ غَمًّا فَهَلْ أَنَا مِنْ
حَيَاتِي مُسْتَرِيحُ
فَلَمَّا مَضَى مِنْ عُمْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَذَلِكَ بَعْدَ قَتْلِ هَابِيلَ
بِخَمْسِ سِنِينَ وَلَدَتْ لَهُ حَوَّاءُ شِيثًا،
وَتَفْسِيرُهُ: هِبَةُ اللَّهِ، يَعْنِي إِنَّهُ خَلَفٌ مِنْ
هَابِيلَ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَاعَاتِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ، وَعَلَّمَهُ عِبَادَةَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ
سَاعَةٍ مِنْهَا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَحِيفَةً
فَصَارَ وَصِيَّ آدَمَ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ، وَأَمَّا قَابِيلُ
فَقِيلَ لَهُ اذْهَبْ طَرِيدًا شَرِيدًا فَزِعًا مَرْعُوبًا
لَا تَأْمَنُ مَنْ تَرَاهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ
أَقْلِيمَا وَهَرَبَ بِهَا إِلَى عَدَنَ مِنْ أَرْضِ
الْيَمَنِ، فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا
أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَ هَابِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ
يَعْبُدُ النَّارَ فَانْصُبْ أَنْتَ نَارًا أَيْضًا تَكُونُ
لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَبَنَى بَيْتًا لِلنَّارِ فَهُوَ أَوَّلُ
مَنْ عَبَدَ النَّارَ، وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا
رَمَاهُ، فَأَقْبَلَ ابْنٌ لَهُ أَعْمًى وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ،
فَقَالَ ابْنُهُ: هَذَا أبوك قابيل، مرمى الْأَعْمَى أَبَاهُ
فَقَتَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَعْمَى: قَتَلْتَ أَبَاكَ؟
فَرَفَعَ يَدَهُ فَلَطَمَ ابْنَهُ، فَمَاتَ فَقَالَ
الْأَعْمَى: وَيْلٌ لِي قَتَلْتُ أَبِي بِرَمْيَتِي وَقَتَلْتُ
ابْنِي بِلَطْمَتِي.
(3/45)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَعَلِقَتْ إِحْدَى
رِجْلَيْ قابيل إلى فخدها وَسَاقِهَا وَعَلِقَتْ مِنْ
يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ إِلَى
الشَّمْسِ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ، فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ
نَارٍ وَفِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ.
قَالَ: وَاتَّخَذَ أَوْلَادُ قَابِيلَ آلَاتِ اللَّهْوِ مِنَ
الْيَرَاعِ وَالطُّبُولِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْعِيدَانِ
وَالطَّنَابِيرِ، وَانْهَمَكُوا فِي اللَّهْوِ وَشُرْبِ
الْخَمْرِ وَعِبَادَةِ النَّارِ وَالزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ
حَتَّى غَرَّقَهُمُ اللَّهُ بِالطُّوفَانِ أَيَّامَ نُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَقِيَ نَسْلُ شِيثَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عُمَرُ بْنُ
حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ثَنَا أَبِي ثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا
تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ
الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ
الْقَتْلَ" (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب خلق آدم، صلوات الله عليه،
وذريته: 6 / 364، وفي الديات، وفي الاعتصام. وأخرجه مسلم في
القسامة، باب بيان من سنّ القتل، برقم (1677) 3 / 1303-1304،
والمصنف في شرح السنة: 1 / 234.
(3/46)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ (32) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} قَرَأَ أَبُو
جَعْفَرٍ مِنِ اجْلِ ذَلِكَ بِكَسْرِ النُّونِ مَوْصُولًا
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِجَزْمِ النُّونِ، أَيْ: مِنْ
جَرَّاءِ ذَلِكَ الْقَاتِلِ وَجِنَايَتِهِ، يُقَالُ: أَجَلَ
يَأْجَلُ أَجَلًا إِذَا جَنَى، مِثْلُ أَخَذَ يَأْخُذُ
أَخْذًا، {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} قَتَلَهَا فَيُقَادُ مِنْهُ،
{أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} يُرِيدُ بِغَيْرِ نَفْسٍ
وَبِغَيْرِ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ زِنًا أَوْ
قَطْعِ طَرِيقٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا} اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ:
مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامًا عَدْلًا فَكَأَنَّمَا
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ شَدَّ عَضُدَ نَبِيٍّ أَوْ
إِمَامٍ عَدْلٍ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً يَصْلَى
النَّارَ بِقَتْلِهَا، كَمَا يَصْلَاهَا لَوْ قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا "وَمَنْ أَحْيَاهَا" مَنْ سَلِمَ مِنْ قَتْلِهَا
فَقَدْ سَلِمَ مِنْ قَتْلِ النَّاسِ جَمِيعًا.
(3/46)
إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قَالَ قَتَادَةُ: عَظَّمَ اللَّهُ
أَجْرَهَا وَعَظَّمَ وِزْرَهَا، مَعْنَاهُ مَنِ اسْتَحَلَّ
قَتْلَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْهُ،
{وَمَنْ أَحْيَاهَا} وَتَوَرَّعَ عَنْ قَتْلِهَا،
{فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [فِي الثَّوَابِ
لِسَلَامَتِهِمْ مِنْهُ. قَالَ الْحَسَنُ: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا] (1) يَعْنِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ
الْقِصَاصِ بِقَتْلِهَا مِثْلُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا: أَيْ عَفَى
عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَهُ فَلَمْ يَقْتُلْهُ
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، قَالَ سُلَيْمَانُ
بْنُ عَلِيٍّ قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ: هِيَ
لَنَا كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: إِيْ
وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا كَانَتْ دِمَاءُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ دِمَائِنَا،
{وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ
كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
}
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} الْآيَةَ. قَالَ
الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَطَعُوا
السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ (2) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي قَوْمِ هِلَالِ بْنِ
عُوَيْمِرٍ، وَذَلِكَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وداع هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ وَهُوَ أَبُو بُرْدَةَ
الْأَسْلَمِيُّ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ وَلَا يعين عليه،
وممن مَرَّ بِهِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ آمِنٌ لَا يُهَاجُ،
فَمَرَّ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ
بِنَاسٍ مِنْ أَسَلَمَ مِنْ قَوْمِ هِلَالِ بْنِ عُوَيْمِرٍ،
وَلَمْ يَكُنْ هِلَالٌ شَاهِدًا [فَشَدُّوا] (3) عَلَيْهِمْ
فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْقَضَاءِ فِيهِمْ، وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ عُرَيْنَة وعُكْل أتو
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعُوهُ
عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ كَذَبَةٌ فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ،
فَارْتَدُّوا وقتلوا الراعي 106\أوَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري عن ابن عباس قال: كان من أهل الكتاب بينهم
وبين النبي عهد ... ، وأخرجه عن الضحاك قال: كان قوم بينهم
وبين رسول الله ميثاق - ولم يذكر أنهم من أهل الكتاب. تفسير
الطبري: 6 / 206 (طبع الحلبي) وعزاه السيوطي أيضا لعبد بن
حميد: الدر المنثور: 3 / 69.
(3) في "ب": (فهدوا إليهم) .
(3/47)
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنَا
الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ
الْجَرْمِيُّ] (1) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا
وَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمُ [النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (2) أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ
الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا،
فَفَعَلُوا فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا
وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ فَقِطَعَ
أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ لَمْ
يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا.
وَرَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ
ثُمَّ أَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَكَحَّلَهُمْ بِهَا وَطَرَحَهُمْ
بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا،
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: قَتَلُوا وَسَرَقُوا وَحَارَبُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا (3)
[وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا] (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ الْعُرَنِيِّينَ: فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّ الْمُثْلَةَ لَا
تَجُوزُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حُكْمُهُ ثَابِتٌ إِلَّا
السَّمْلَ [وَالْمُثْلَةَ] (5) وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ [يَنْزِلَ الْحَدُّ]
(6) وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَلَمَّا فَعَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِهِمْ
أَنْزَلَ اللَّهُ الْحُدُودَ وَنَهَاهُ عَنِ الْمُثْلَةِ
فَلَمْ يَعُدْ.
وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ
يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ (7)
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ: إِنَّمَا
سَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ
أولئك لأنهم سلموا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ. وَقَالَ اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْلِيمًا
مِنْهُ إِيَّاهُ عُقُوبَتَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّمَا جَزَاؤُهُمْ
هَذَا لَا الْمُثْلَةُ، وَلِذَلِكَ مَا قَامَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا إِلَّا نَهَى عَنِ
الْمُثْلَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ
هَذَا الْحَدَّ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ
الطَّرِيقَ وَيَحْمِلُونَ السِّلَاحَ، وَالْمُكَابِرُونَ فِي
الْأَمْصَارِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ
وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
__________
(1) سقط الإسناد من هذا الموضع إلى نهاية ورقة (106) من نسخة
الظاهرية.
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه البخاري في المغازي، باب قصة عكل وعرينة: 7 / 458،
وفي الحدود، ومسلم في القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين،
برقم (1671) : 3 / 1296-1297. والمصنف في شرح السنة: 10 /
256-257.
(4) ساقط من "ب".
(5) ساقط من "ب".
(6) في "ب": (تنزل الحدود) .
(7) انظر: البخاري، كتاب المغازي: 7 / 458.
(3/48)
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُكَابِرُونَ فِي
الْأَمْصَارِ لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ الْمُحَارِبِينَ فِي
اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْحُدُودِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَعُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ
الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ فِي أَمْرِ الْمُحَارِبِينَ بَيْنَ
الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالصَّلْبِ، [وَالنَّفْيِ] (1) كَمَا
هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ
عَلَى تَرْتِيبِ الْجَرَائِمِ لَا عَلَى التَّخْيِيرِ، [لِمَا
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ
أَنَا عَبْدُ العزيز بن أحمدد الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو
الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ
أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ] (2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا
الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ
يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا
أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أَيْدِيهُمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، فَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ
وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نُفُوا مِنَ الْأَرْضِ (3) .
وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
[وَإِذَا قَتَلَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ يُقْتَلُ] (4) حَتْمًا
حَتَّى لَا يَسْقُطَ بِعَفْوِ وَلِيِّ الدَّمِ، وَإِذَا أَخَذَ
مِنَ الْمَالِ نِصَابًا وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ تُقْطَعُ
يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَإِذَا قَتَلَ
وَأَخَذَ الْمَالَ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ: فَظَاهِرُ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُقْتَلَ ثُمَّ
يُصْلَبَ وَقِيلَ: يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُطْعَنُ حَتَّى
يَمُوتَ مَصْلُوبًا، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،
وَقِيلَ: يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَيًّا ثُمَّ يُنْزَلُ
فَيُقْتَلُ، وَإِذَا أَخَافَ السَّبِيلَ يُنْفَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي النَّفْيِ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ
الْإِمَامَ يَطْلُبُهُ فَفِي كُلِّ بَلْدَةٍ يُوجَدُ يُنْفَى
عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: يُطْلَبُ لِتُقَامَ الْحُدُودُ
عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاللَّيْثِ بْنِ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه الشافعي في المسند: 2 / 86 (ترتيب المسند) وفي سنده:
إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، متروك. (التقريب) .
وصالح مولى التوأمة، وهو صالح بن نبهان صدوق اختلط بآخرة
(تقريب) .
(4) زيادة من "ب".
(3/49)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
سَعْدٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ:
وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: النَّفْيُ هُوَ الْحَبْسُ، وَهُوَ
نَفْيٌ مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ:
يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَيُحْبَسُ فِي
السِّجْنِ [فِي الْبَلَدِ الَّذِي نُفِيَ إِلَيْهِ حَتَّى
تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ. كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلَ مَنْ حَبَسَ فِي السُّجُونِ] (1)
وَقَالَ: أَحْبِسُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ،
وَلَا أَنْفِيهِ إِلَى بَلَدٍ فَيُؤْذِيهِمْ، {ذَلِكَ} الَّذِي
ذَكَرْتُ مِنَ الْحَدِّ، {لَهُمْ خِزْيٌ} عَذَابٌ وَهَوَانٌ
وَفَضِيحَةٌ، {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ}
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَمَنْ
ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، قَالَ
مَعْنَاهُ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ
وَأَسْلَمُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَلَا سَبِيلَ
عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ وَلَا تَبِعَةَ
عَلَيْهِمْ فِيمَا أَصَابُوا فِي حَالِ الْكُفْرِ مِنْ دَمٍ
أَوْ مَالٍ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْمُحَارِبُونَ فَمَنْ
[تَابَ] (2) مِنْهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ
قَبْلَ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ الْإِمَامُ تَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ
عُقُوبَةٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ، وَلَا يَسْقُطُ مَا كَانَ
مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ فِي قَطْعِ
الطَّرِيقِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ تَحَتُّمُ الْقَتْلِ، وَيَبْقَى عَلَيْهِ الْقِصَاصُ
لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ فَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ
اسْتَوْفَاهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْمَالَ يَسْقُطُ
عَنْهُ [الْقَطْعُ] (3) وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
يَسْقُطُ عَنْهُ تَحَتُّمُ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَيَجِبُ
ضَمَانُ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ
عَلَيْهِ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ فِي دَمٍ
وَلَا مَالٍ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مَعَهُ مَالٌ بِعَيْنِهِ
فَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَارِثَةَ
بْنِ يَزِيدَ كَانَ خَرَجَ مُحَارِبًا فَسَفَكَ الدِّمَاءَ
وَأَخَذَ الْمَالَ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَلَيْهِ تَبِعَةً [فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ
مَعَهُ مَالٌ فَيُرَدُّ إِلَى صَاحِبِهِ] (4) أَمَّا مَنْ
تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ
شَيْءٌ مِنْهَا.
وَقِيلَ: كُلُّ عُقُوبَةٍ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
مِنْ عُقُوبَاتِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ
وَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ بِكُلِّ
حَالٍ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب": مات.
(3) زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين زيادة من "ب"، وانظر: الطبري: 6 / 221،
الدر المنثور: 3 / 70.
(3/50)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا
بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي
سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(36) }
(3/51)
يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا
مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ
وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ
(37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا} اطْلُبُوا، {إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أَيِ:
الْقُرْبَةَ، فَعَيْلَةٌ مِنْ تَوَسَّلَ إِلَى فُلَانٍ
بِكَذَا، أَيْ: تَقَرَّبَ إِلَيْهِ وَجَمْعُهَا وَسَائِلُ،
{وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[تَلْخِيصُهُ: امْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ تَنْجُوا] (1) .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ
عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} أَخْبَرَ
أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا وَمِثْلَهَا
مَعَهَا ثُمَّ فَدَى بِذَلِكَ نَفْسَهُ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ
يُقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِدَاءُ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}
{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ
بِخَارِجِينَ مِنْهَا} فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا:
أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ وَيَطْلُبُونَ الْمَخْرَجَ مِنْهَا،
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ
يَخْرُجُوا مِنْهَا" (الْحَجُّ -22) وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ
يَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا"
(الْمُؤْمِنُونَ -107) {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
أَرَادَ بِهِ أَيْمَانَهُمَا، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَحُكْمُهُ أَنَّ مَنْ سَرَقَ [نِصَابًا] (2) مِنَ الْمَالِ
مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ تُقْطَعُ يَدُهُ
الْيُمْنَى مِنَ الرُّسْغِ، وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي
سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ
الْعِلْمِ، حُكِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ
يَقْطَعُ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ
عَلَى خِلَافِهِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) زيادة من "ب".
(3/51)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي
يُقْطَعُ فِيهِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا
يُقْطَعُ فِي أَقَلِّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، فَإِنْ سَرَقَ
رُبُعَ دِينَارٍ أَوْ مَتَاعًا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ
يُقْطَعْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْأَوْزَاعِيُّ
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، لِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا ابْنُ
عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْقَطْعُ فِي رُبُعِ
دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الشِّيرَزِيُّ أَخْبَرَنَا
زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ
أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ
سَارِقًا فِي مِجَنٍّ [ثَمَنُهُ] (2) ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ (3)
.
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَطَعَ سَارِقًا فِي
أُتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ
اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي ثَلَاثَةِ
دَرَاهِمَ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ فِي أَقَلِّ مِنْ
دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ قَوْمٌ لَا يُقْطَعُ إِلَّا فِي خَمْسَةِ دَرَاهِمَ
يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ
يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ
فَتُقْطَعُ يَدُهُ" (4) وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ
أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ وَالْحَبْلُ. يَرَوْنَ أَنَّ
مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ.
وَيَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى الْقَطْعَ فِي
الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَهُوَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ
عَلَى مَا قاله الأعمش] (5) 106/ب لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا "وَإِذَا سَرَقَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ
كَثَمَرٍ فِي حَائِطٍ لَا
__________
(1) أخرجه الشافعي في المسند: 2 / 83 والبخاري في الحدود، باب
قول الله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" وفي كم
يقطع؟: 12 / 96، ومسلم في الحدود، باب حد السرقة ونصابها، برقم
(1684) : 3 / 1312، والمصنف في شرح السنة: 10 / 312.
(2) في "ب": (قيمته) .
(3) أخرجه البخاري، في الموضع السابق: 12 / 97، ومسلم في
الموضع نفسه، برقم (1686) : 3 / 1313، والمصنف في شرح السنة 10
/ 313.
(4) أخرجه البخاري في الحدود، باب لعن السارق إذا لم يسم: 12 /
81، ومسلم في الحدود في الموضع السابق برقم (1687) : 3 / 1314،
والمصنف في شرح السنة: 10 / 314.
(5) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3/52)
حَارِسَ لَهُ أَوْ حَيَوَانٍ فِي
بَرِّيَّةٍ لَا حَافِظَ لَهُ، أَوْ مَتَاعٍ فِي بَيْتٍ
مُنْقَطِعٍ عَنِ الْبُيُوتِ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ".
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ
وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوِ
الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ" (1)
.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا
مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ" (2) .
وَإِذَا سَرَقَ مَالًا لَهُ فِيهِ شُبْهَةٌ كَالْعَبْدِ
يَسْرِقُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ أَوِ الْوَلَدِ يَسْرِقُ مِنْ
مَالِ وَالِدِهِ أَوِ الْوَالِدِ يَسْرِقُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
أَوْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَسْرِقُ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِكِ
شَيْئًا: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا سَرَقَ السَّارِقُ أَوَّلَ مَرَّةٍ تُقْطَعُ يَدُهُ
الْيُمْنَى مِنَ الْكُوعِ، ثُمَّ إِذَا سَرَقَ ثَانِيًا
تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مَفْصِلِ الْقَدَمِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا سَرَقَ ثَالِثًا: فَذَهَبَ
أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ
إِذَا سَرَقَ رَابِعًا تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ
إِذَا سَرَقَ بَعْدَهُ شَيْئًا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى
تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ،
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "فِي
السَّارِقِ يَسْرِقُ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ
إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ
فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ"
(3) .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَالِثًا بَعْدَمَا
قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى لَا
يُقْطَعْ بَلْ يُحْبَسْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: "إِنِّي لَأَسْتَحِي أَنْ لَا أَدَعَ
لَهُ يَدًا يَسْتَنْجِي بِهَا وَلَا رِجْلًا
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ما يجب فيه
القطع: 2 / 831، قال ابن عبد البر: "لم تختلف رواة الموطأ في
إرساله، ويتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو وغيره". ووصله
النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، في قطع السارق، باب
الثمر المعلق يُسْرق، وباب الثمر يسرق بعد أن يؤيه الجرين؛ 8 /
84-86، والمصنف في شرح السنة: 10 / 319.
(2) أخرجه أبو داود في الحدود، باب القطع في الخلسة والخيانة:
6 / 224-225، والترمذي في الحدود باب ما جاء في الخائن
والمختلس: 5 / 8-9 وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في باب
ما لا قطع فيه: 8 / 89، وابن ماجه في الحدود، باب الخائن
والمنتهب والمختلس: 2 / 864، والدارمي في باب ما لا يقطع من
السراق: 2 / 175، وصححه ابن حبان برقم (1502،1503) من موارد
الظمآن، قال الزيلعي في نصب الراية: 3 / 364: "سكت عنه عبد
الحق في أحكامه، وابن القطان بعد، فهو صحيح عندهما" وانظر: شرح
السنة: 10 / 321-322.
(3) أخرجه الدارقطني في السنن: 3 / 181، والطبراني والشافعي
(مجمع الزوائد: 6 / 275، تلخيص الحبير: 4 / 68 وقال ابن حجر:
إسناده ضعيف، وصححه الألباني بشواهده عند أبي داود والنسائي
والبيهقي. انظر: إرواء الغليل: 8 / 86-89.
(3/53)
فَمَنْ تَابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا
آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ
بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
يَمْشِي بِهَا" (1) وَهُوَ قَوْلُ
الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ،
وَمِثْلُهُ: {نَكَالًا} أَيْ: عُقُوبَةً، {مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ
اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (41) }
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أَيْ: سَرِقَتِهِ،
{وَأَصْلَحَ} الْعَمَلَ، {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هَذَا فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا الْقَطْعُ فَلَا يَسْقُطُ
عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
قَطْعُ السَّارِقِ تَوْبَتُهُ، فَإِذَا قُطِعَ حَصَلَتِ
التَّوْبَةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَطْعَ لِلْجَزَاءِ عَلَى
الْجِنَايَةِ، كَمَا قَالَ: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} فَلَا
بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدُ، وَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ عَلَى
مَا مَضَى وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ،
وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ يَجِبُ عَلَيْهِ غُرْمُ مَا سَرَقَ
مِنَ الْمَالِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا غُرْمَ
عَلَيْهِ، وَبِالِاتِّفَاقِ إِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ بَاقِيًا
عِنْدَهُ يُسْتَرَدَّ وَتُقْطَعْ يَدُهُ لِأَنَّ الْقَطْعَ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغُرْمَ حَقُّ الْعَبْدِ، فَلَا
يَمْنَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 9 / 509، وذكره ابن
التركماني في الجوهر النقي في الرد على البيهقي المطبوع مع
السنن: 8 / 274.
(3/54)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْخِطَابُ
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُرَادُ بِهِ الْجَمِيعُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَمْ
تَعْلَمْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ فَيَكُونُ خِطَابًا لِكُلِّ
أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ} قال السدي واالكلبي: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ:
مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ:
[الْكَبِيرَةَ] (1) مَنْ تَابَ مِنْ كُفْرِهِ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ عَلَى
الْكَبِيرَةِ، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} أَيْ: فِي مُوَالَاةِ
الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللَّهَ، {مِنَ
الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ
قُلُوبُهُمْ} وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، {وَمِنَ الَّذِينَ
هَادُوا} يَعْنِي: الْيَهُودَ، {سَمَّاعُونَ} أَيْ: قَوْمٌ
سَمَّاعُونَ، {لِلْكَذِبِ} أَيْ: قَائِلُونَ لِلْكَذِبِ،
كَقَوْلِ الْمُصَلِّي: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، أَيْ:
قَبِلَ اللَّهُ، وَقِيلَ: سَمَّاعُونَ لِأَجْلِ الْكَذِبِ،
أَيْ يَسْمَعُونَ مِنْكَ لِيَكْذِبُوا عَلَيْكَ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا
مِنْهُ كَذَا وَلَمْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ، {سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أَيْ هُمْ جَوَاسِيسُ،
يَعْنِي: بَنِي قُرَيْظَةَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، وَهُمْ أَهْلُ
خَيْبَرَ.
وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ
خَيْبَرَ زَنَيَا وَكَانَا مُحْصَنَيْنِ، وَكَانَ حَدُّهَمَا
الرَّجْمَ فِي التَّوْرَاةِ، فَكَرِهَتِ الْيَهُودُ
رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ
الَّذِي بِيَثْرِبَ لَيْسَ فِي كِتَابِهِ الرَّجْمُ
وَلَكِنَّهُ الضَّرْبُ، فَأَرْسِلُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ مِنْ
بَنِي قُرَيْظَةَ فَإِنَّهُمْ جِيرَانُهُ وَصُلْحٌ لَهُ
فَلْيَسْأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ. فَبَعَثُوا رَهْطًا مِنْهُمْ
مُسْتَخْفِينَ وَقَالُوا لَهُمْ: سَلُوا مُحَمَّدًا عَنِ
الزَّانِيَيْنِ إِذَا أُحْصِنَا مَا حَدُّهُمَا؟ فَإِنْ
أَمَرَكُمْ بِالْجَلْدِ فَاقْبَلُوا مِنْهُ، وَإِنْ أَمَرَكُمْ
بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوهُ وَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُ،
وَأَرْسَلُوا مَعَهُمُ الزَّانِيَيْنِ فَقَدِمَ الرَّهْطُ
حَتَّى نَزَلُوا عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ
فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّكُمْ جِيرَانُ هَذَا الرَّجُلِ
وَمَعَهُ فِي بَلَدِهِ وَقَدْ حَدَثَ، فِينَا حَدَثُ فُلَانٍ
وَفُلَانَةَ قَدْ فَجَرَا وَقَدْ أُحْصِنَا، فَنُحِبُّ أَنْ
تَسْأَلُوا لَنَا مُحَمَّدًا عَنْ قَضَائِهِ فِيهِ، فَقَالَتْ
لَهُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ: إِذًا وَاللَّهِ يَأْمُرُكُمْ
بِمَا تَكْرَهُونَ.
ثُمَّ انْطَلَقَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ
وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ وَسَعْيَةُ بْنُ عَمْرٍو وَمَالِكُ بْنُ
الصَّيْفِ وَكِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَغَيْرُهُمْ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنِ الزَّانِي
وَالزَّانِيَةِ إِذَا أَحْصَنَا مَا حَدُّهُمَا فِي كِتَابِكَ؟
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ تَرْضَوْنَ
بِقَضَائِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِالرَّجْمِ فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ
__________
(1) ساقط من "ب".
(3/55)
فَأَبَوْا أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ.
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اجْعَلْ بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُمُ ابْنَ صُورِيَا، وَوَصَفَهُ لَهُ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "هَلْ تَعْرِفُونَ شَابًّا أَمْرَدَ أَعْوَرَ
يَسْكُنُ فَدَكَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُورِيَا؟ قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيكُمْ؟ فَقَالُوا: هُوَ
أَعْلَمُ يَهُودِيٍّ بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّوْرَاةِ.
قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ، فَفَعَلُوا فَأَتَاهُمْ،
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنْتَ ابْنُ صُورِيَا"؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنْتَ
أَعْلَمُ الْيَهُودِ؟ قَالَ: كَذَلِكَ يَزْعُمُونَ، قَالَ:
أَتَجْعَلُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ،
الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَأَخْرَجَكُمْ مِنْ مِصْرَ، وَفَلَقَ لَكُمُ
الْبَحْرَ وَأَنْجَاكُمْ وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَالَّذِي
ظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ وَفِيهِ
حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ
الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أَحْصَنَ؟ ".
قَالَ ابْنُ صُورِيَا: نَعَمْ وَالَّذِي ذَكَّرْتَنِي بِهِ
لَوْلَا خَشْيَةُ أَنْ تَحْرِقَنِي التَّوْرَاةُ إِنْ كَذَبْتُ
أَوْ غَيَّرْتُ مَا اعْتَرَفْتُ لَكَ، وَلَكِنْ كَيْفَ هِيَ
فِي كِتَابِكَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: "إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةُ
رَهْطٍ عُدُولٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَهُ فِيهَا كَمَا يَدْخُلُ
الْمِيلُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ"،
فَقَالَ ابْنُ صُورِيَا: وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ
عَلَى مُوسَى هَكَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي
التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا كَانَ
أَوَّلَ مَا تَرَخَّصْتُمْ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ؟ "، قَالَ:
كُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ وَإِذَا
أَخَذْنَا الضَّعِيفَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَكَثُرَ
الزِّنَا فِي أَشْرَافِنَا حَتَّى زَنَا ابْنُ عَمِّ مَلِكٍ
لَنَا فَلَمْ نَرْجُمْهُ، ثُمَّ زَنَى رَجُلٌ آخَرُ مِنَ
النَّاسِ فَأَرَادَ ذَلِكَ الْمَلِكُ رَجْمَهُ فَقَامَ دُونَهُ
قَوْمُهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَرْجُمُهُ حَتَّى
يُرْجَمَ فُلَانٌ -لِابْنِ عَمِّ الْمَلِكِ -فَقُلْنَا:
تَعَالَوْا نَجْتَمِعْ فَلْنَضَعْ شَيْئًا دُونَ الرَّجْمِ
يَكُونُ عَلَى الْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ، فَوَضَعْنَا الْجَلْدَ
وَالتَّحْمِيمَ، وَهُوَ أَنْ يُجْلَدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً
بِحَبْلٍ مَطْلِيٍّ بِالْقَارِ ثُمَّ يُسَوَّدَ وُجُوهُهُمَا،
ثُمَّ يُحْمَلَانِ عَلَى حِمَارَيْنِ وَوُجُوهُهُمَا مِنْ
قِبَلِ دُبُرِ الْحِمَارِ وَيُطَافُ بِهِمَا، فَجَعَلُوا هَذَا
مَكَانَ الرَّجْمِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ [لِابْنِ صُورِيَا]
(1) مَا أَسْرَعَ مَا أَخْبَرْتَهُ بِهِ، وَمَا كُنَّا لِمَا
أَثْنَيْنَا عَلَيْكَ بِأَهْلٍ وَلَكِنَّكَ كُنْتَ غَائِبًا
فَكَرِهْنَا أَنْ نَغْتَابَكَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ
أَنْشَدَنِي بِالتَّوْرَاةِ وَلَوْلَا خَشْيَةُ التَّوْرَاةِ
أَنْ تُهْلِكَنِي لَمَا أَخْبَرْتُهُ، فَأَمَرَ بِهِمَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا
عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ
__________
(1) ساقط من "ب".
(3/56)
إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ
أماتوه، فأنزل 107\أاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ} (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ
بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا
أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ
جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً
زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي
شَأْنِ الرَّجْمِ؟ " فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ،
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ: [كَذَبْتُمْ] (2) إِنَّ
فِيهَا لَآيَةَ الرَّجْمِ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ
فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ
الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا
فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ فِيهَا
آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ
يَقِيهَا الْحِجَارَةَ (3) .
وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْقِصَاصُ، وَذَلِكَ
أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ فَقَالَ بَنُو قُرَيْظَةَ: يَا مُحَمَّدُ
إِخْوَانُنَا بَنُو النَّضِيرِ وَأَبُونَا وَاحِدٌ وَدِينُنَا
وَاحِدٌ وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ، إِذَا قَتَلُوا مِنَّا قَتِيلًا
وَاحِدًا لَمْ يُقِيدُونَا وَأَعْطَوْنَا دِيَتَهُ سَبْعِينَ
وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَإِذَا قَتَلْنَا مِنْهُمْ قَتَلُوا
الْقَاتِلَ وَأَخَذُوا مِنَّا الضِّعْفَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ
وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ امْرَأَةً
قَتَلُوا بِهَا الرَّجُلَ مِنَّا وَبِالرَّجُلِ مِنْهُمُ
الرَّجُلَيْنِ مِنَّا، وَبِالْعَبْدِ الْحُرَّ مِنَّا،
وَجَرَاحَتُنَا عَلَى التَّضْعِيفِ مِنْ جِرَاحَاتِهِمْ،
فَاقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
هَذِهِ الْآيَةَ (4) .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْآيَةَ فِي الرَّجْمِ.
قَوْلُهُ: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}
قِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى، وَقِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ،
أَيْ: يَسْمَعُونَ لِكَيْ يَكْذِبُوا عَلَيْكَ، وَاللَّامُ فِي
قَوْلِهِ: {لِقَوْمٍ} أَيْ: لِأَجْلِ قَوْمٍ {آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ} وَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ، {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ}
[جَمْعُ كَلِمَةٍ] (5) {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أَيْ: مِنْ
بَعْدِ وَضْعِهِ مَوَاضِعَهُ، ذَكَرَ الْكِنَايَةَ رَدًّا
عَلَى لَفْظِ الْكَلِمِ، {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ} أَيْ: [إِنْ] (6) أَفْتَاكُمْ
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 6 / 232، الدر المنثور: 3 / 78، ابن
كثير: 2 / 60-61.
(2) ساقط في ب.
(3) أخرجه البخاري في المناقب، باب "يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم ... " 6 / 631، وفي التفسير والتوحيد، واللفظ له،
وأخرجه مسلم في الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنا،
برقم (1699) : 3 / 1326.
(4) انظر: تفسير الطبري: 6 / 243، الدر المنثور: 3 / 78، ابن
كثير: 2 / 61-62.
(5) زيادة من "ب".
(6) في ب "من أجل أن".
(3/57)
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَاقْبَلُوا، {وَإِنْ
لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
فِتْنَتَهُ} كُفْرَهُ وَضَلَالَتَهُ، قَالَ الضَّحَّاكُ:
هَلَاكَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابَهُ، {فَلَنْ تَمْلِكَ
لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} فَلَنْ تَقْدِرَ عَلَى دَفْعِ
أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ
يُنْكِرُ الْقَدَرَ، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أَيْ:
لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، فَخِزْيُ الْمُنَافِقِينَ
الْفَضِيحَةُ وَهَتْكُ السِّتْرِ بِإِظْهَارِ نِفَاقِهِمْ،
وَخِزْيُ الْيَهُودِ الْجِزْيَةُ وَالْقَتْلُ وَالسَّبْيُ
وَالنَّفْيُ، وَرُؤْيَتُهُمْ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِيهِمْ مَا يَكْرَهُونَ،
{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الْخُلُودُ فِي
النَّارِ.
(3/58)
سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ
فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(42)
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ
شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ
الْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ "لِلسُّحُتِ" بِضَمِّ الْحَاءِ،
وَالْآخَرُونَ بِسُكُونِهَا، وَهُوَ الْحَرَامُ، وَأَصْلُهُ
الْهَلَاكُ وَالشِّدَّةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} (طه، 61) ، نَزَلَتْ فِي حُكَّامِ
الْيَهُودِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأَمْثَالِهِ، كَانُوا
يَرْتَشُونَ وَيَقْضُونَ لِمَنْ رَشَاهُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْحَاكِمُ مِنْهُمْ إِذَا أَتَاهُ
أَحَدٌ بِرُشْوَةٍ جَعَلَهَا فِي كُمِّهِ فَيُرِيهَا إِيَّاهُ
وَيَتَكَلَّمُ بِحَاجَتِهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ وَلَا يَنْظُرُ
إِلَى خَصْمِهِ، فَيَسْمَعُ الْكَذِبَ وَيَأْكُلُ الرُّشْوَةَ.
وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَكَمِ إِذَا
رَشَوْتَهُ لِيُحِقَّ لَكَ بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلَ [عَنْكَ]
(1) حَقًّا (2) . فَأَمَّا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ الْوَالِيَ
يَخَافُ ظُلْمَهُ لِيَدْرَأَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ،
فَالسُّحْتُ هُوَ الرُّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ عَلَى قَوْلِ
الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الرُّشْوَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً لِيَرُدَّ بِهَا
حَقًّا أَوْ يَدْفَعَ بِهَا [ظُلْمًا (3) فَأُهْدِيَ لَهُ
فَقَبِلَ فَهُوَ سُحْتٌ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ إِلَّا الْأَخْذَ عَلَى
الْحُكْمِ، فَقَالَ: الْأَخْذُ عَلَى الْحُكْمِ كُفْرٌ (4)
قَالَ اللَّهُ
__________
(1) في "ب": (لك) .
(2) انظر: الطبري: 6 / 239، الدر المنثور: 3 / 80-81.
(3) في "ب": (باطلا) .
(4) الطبري: 6 / 240.
(3/58)
تَعَالَى: {يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "سُورَةُ
الْمَائِدَةِ، 44".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ
أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنَا
ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ
اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ". (1) .
وَالسُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لَا يَحِلُّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ
فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى
رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ
بَيْنَهُمْ إِنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْآيَةِ الْيَوْمَ هَلْ لِلْحَاكِمِ
الْخِيَارُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا
تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا؟ فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
هُوَ حُكْمٌ ثَابِتٌ، وَلَيْسَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ
مَنْسُوخٌ، وَحُكَّامُ الْمُسْلِمِينَ بِالْخِيَارِ فِي
الْحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِنْ شَاءُوا حَكَمُوا
وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يَحْكُمُوا، وَإِنْ حَكَمُوا حَكَمُوا
بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ
وَالشَّعْبِيِّ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: يَجِبُ عَلَى حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ" (سُورَةُ الْمَائِدَةِ، 49) ، وَهُوَ قَوْلُ
مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(2) وَقَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الْمَائِدَةِ إِلَّا
آيَتَانِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ
اللَّهِ" نَسَخَهَا قوله تعالى: "اقتلوا الْمُشْرِكِينَ"
وَقَوْلُهُ: "فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ" نَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ" فَأَمَّا إِذَا
تَحَاكَمَ إِلَيْنَا مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ فَيَجِبُ عَلَيْنَا
الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ،
لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الِانْقِيَادُ لِحُكْمِ
أَهْلِ الذِّمَّةِ. قَوْلُهُ {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} أَيْ: بِالْعَدْلِ، {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أَيِ: الْعَادِلِينَ، رُوِّينَا عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ"
(3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأقضية، باب في كراهية الرشوة: 5 /
207، والترمذي في الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي في
الحكم: 4 / 567، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في
الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة. 2 / 775. وصححه
الحاكم: 4 / 102،103، ووافقه الذهبي. وأخرجه المصنف في شرح
السنة: 10 / 87-88.
(2) انظر: الطبري: 6 / 744-747، الناسخ والمنسوخ لأبي القاسم
هبة الله بن سلامة، ص (41-42) ، أحكام القرآن للجصاص: 4 /
87-89.
(3) أخرجه مسلم في الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل، برقم
(1827) : 3 / 1458، والمصنف في شرح السنة: 10 / 63-64.
(3/59)
وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ
اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ
التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ
التَّوْرَاةُ} هَذَا تَعْجِيبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ، أَيْ: كَيْفَ
يَجْعَلُونَكَ حَكَمًا بَيْنَهُمْ فَيَرْضَوْنَ بِحُكْمِكَ
وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ؟ {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} وَهُوَ
الرَّجْمُ، {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أَيْ بِمُصَدِّقِينَ لَكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا} أَيْ: أَسْلَمُوا وَانْقَادُوا [لِأَمْرِ] (1)
اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ
أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" (سُورَةُ الْبَقَرَةِ، 131)
، وَكَمَا قَالَ: "وَلَهُ أَسْلَمَ من في السموات وَالْأَرْضِ"
(سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، 83) ، وَأَرَادَ بِهِمُ النَّبِيِّينَ
الَّذِينَ بُعِثُوا مِنْ بَعْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِيَحْكُمُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا
لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَحَكَمُوا بِهَا، فَإِنَّ مِنَ
النَّبِيِّينَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ
مِنْهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "لكل جعلنا منك شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا" (سُورَةُ الْمَائِدَةِ، 48) .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: أَرَادَ بِهِ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِ
بِالرَّجْمِ، ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَمَا قَالَ: "إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا" (سُورَةُ النَّحْلِ،
120) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ هَادُوا} فِيهِ تَقْدِيمٌ
وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينِ
هَادَوْا. ثُمَّ قَالَ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ، وَقِيلَ: هُوَ
عَلَى مَوْضِعِهِ، وَمَعْنَاهُ: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى الَّذِينَ هَادَوْا، كَمَا قَالَ:
"وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا" (سُورَةُ الْإِسْرَاءِ، 7) أَيْ:
فَعَلَيْهَا، وَقَالَ: "أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ"
(سُورَةُ الرَّعْدِ، 25) أَيْ: عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: فِيهِ
حَذْفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِلَّذِينِ هَادَوْا وَعَلَى
الَّذِينَ هَادَوْا فَحَذَفَ أَحَدَهُمَا اخْتِصَارًا.
__________
(1) في "ب": (لحكم) .
(3/60)
{وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ}
يَعْنِي الْعُلَمَاءَ: وَاحِدُهُمْ حَبْرٌ، وَحِبْرٌ بِفَتْحِ
الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ، وَهُوَ
الْعَالِمُ الْمُحْكِمُ لِلشَّيْءِ، قَالَ الْكِسَائِيُّ
وَأَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مِنَ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ
وَقَالَ قُطْرُبٌ هُوَ مِنَ الْحِبْرِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى
الْجَمَالِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ
"يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ قَدْ ذَهَبَ حَبْرُهُ
وَسَبْرُهُ" (1) أَيْ: حُسْنُهُ وَهَيْئَتُهُ، وَمِنْهُ
التَّحْبِيرُ وَهُوَ التَّحْسِينُ، فَسُمِّيَ الْعَالِمُ
حِبْرًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ جَمَالِ الْعِلْمِ وَبَهَائِهِ،
وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ هَاهُنَا مِنَ النَّصَارَى،
وَالْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ، وَقِيلَ: كِلَاهُمَا مِنَ
الْيَهُودِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ} أَيِ: اسْتُودِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، {وَكَانُوا
عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أَنَّهُ كَذَلِكَ.
{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا
بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال قتادة
107/ب وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ
فِي الْيَهُودِ دُونَ مَنْ أَسَاءَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَالظَّالِمُونَ
وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهَا فِي الْكَافِرِينَ، وَقِيلَ: هِيَ
عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ.
وَقَالَ ابن عباس (2) وطاووس: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ
الْمِلَّةِ، بَلْ إِذَا فَعَلَهُ فَهُوَ بِهِ [كَافِرٌ] (3)
وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ
ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِدًا بِهِ
فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ
فَهُوَ ظَالِمٌ فَاسِقٌ.
وَسُئِلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ عَنْ
هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ: إِنَّهَا تَقَعُ عَلَى جَمِيعِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ لَا عَلَى بَعْضِهِ، فَكُلُّ مَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ
ظَالِمٌ فَاسِقٌ، فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
مِنَ التَّوْحِيدِ وَتَرْكِ الشِّرْكِ، ثُمَّ لَمْ يَحْكُمْ
[بِجَمِيعِ] (4) مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ لَمْ
يَسْتَوْجِبْ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ:
هَذَا إِذَا رَدَّ نَصَّ حُكْمِ اللَّهِ عِيَانًا عَمْدًا،
فَأَمَّا مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلٍ
فَلَا (5) .
__________
(1) ذكره الزمخشري في الفائق: 1 / 251، وابن الأثير في
النهاية: 1 / 327.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2 / 313 وصححه على شرط الشيخين.
(3) في "ب": (كفر) .
(4) في "ب": (ببعض) .
(5) للشيخ أحمد محمد شاكر وأخيه محمود شاكر تعليق على هذه
الآثار، في عمدة التفسير وفي تفسير الطبري، عند تفسير هذه
الآية، ننقله هنا بتمامه: قال الشيخ أحمد شاكر في عمدة
التفسير: 4 / 156-158 "وهذه الآثار - عن ابن عباس وغيره - مما
يلعب به المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم
من الجرآء على الدين: يجعلونها عذرا أو إباحة للقوانين الوثنية
الموضوعة، التي ضربت على بلاد الإسلام. وهناك أثر عن أبي مجلز،
في جدال الإباضية إياه، فيما كان يصنع بعض الأمراء من الجور،
فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة، عمدا إلى الهوى، أو
جهلا بالحكم. والخوارج، من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر، فهم
يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر
هؤلاء الأمراء، ليكون ذلك عذرا لهم فيما يرون من الخروج عليهم
بالسيف. وهذان الأثران رواهما الطبري: 12025، 12026. وكتب
عليهما أخي السيد محمود محمد شاكر تعليقا نفيسا جدا، قويا
صريحا. فرأيت أن أثبت هنا نص أولى روايتي الطبري، ثم تعليق أخي
على الروايتين. فروى الطبري: 12025، عن عمران بن حدير: قال:
"أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز،
أرأيت قول الله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون" أحق هو؟ قال: نعم، قال: "ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الظالمون" أحق هو؟ قال: نعم، قالوا: "ومن لم يحكم
بما أنزل فأولئك هم الفاسقون" أحق هو؟ قال: نعم. قال: فقالوا:
يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي
يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون. فإن هم تركوا شيئا منه
عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا، فقالوا: لا والله، ولكنك تفرق!
قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم ترون هذا ولا تحرجون!
ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك، أو نحوا من هذا".
ثم روى الطبري: 12026 نحو معناه. وإسناداه صحيحان. فكتب أخي
السيد محمود، بمناسبة هذين الأثرين ما نصه: اللهم إني أبرأ
إليك من الضلالة. وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا
للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك
الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال
بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه. وفي اتخاذهم قانون أهل
الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين،
اتخذهما رأيا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء
بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا
تكفر الراضي بها، والعامل عليها. والناظر في هذين الخبرين لا
محيص له عن معرفة السائل والمسئول، فأبو مجلز (لاحق بن حميد
الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وكان يحب عليا رضي الله عنه.
وكان قوم أبي مجلز، وهم بنو شيبان. من شيعة علي يوم الجمل
وصفين. فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان
فيمن خرج على علي رضي الله عنه، طائفة من بني شيبان، ومن بني
سدوس بن شيبان بن ذهل. وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز، ناس من
بني عمرو بن سدوس (كما في الأثر: 12025) ، وهم نفر من الإباضية
(كما في الأثر: 12026) ، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية،
هم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون بمقالة سائر
الخوارج في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم
الحكمين، وأن عليا لم يحكم بما أنزل الله، في أمر التحكيم. ثم
إن عبد الله بن إباض قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك،
فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على
من خالفهم. ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام
افتراقا لا ندري معه - في أمر هذين الخبرين - من أي الفرق كان
هؤلاء السائلون، بيد أن الإباضية كلها يقول: إن دور مخالفيهم
دور توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر عندهم. ثم قالوا
أيضا: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وأن كل
كبيرة فهي كفر نعمة، لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار
خالدون مخلدون فيها. ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من
الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير
الأمراء، لأنهم في معسكر السلطان، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا
بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول
(رقم: 12025) : "فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا
ذنبا"، وقال لهم في الخبر الثاني: "إنهم يعملون بما يعملون أنه
ذنب". وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من
القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل
الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى
حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن
دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى،
وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير
القائل والداعي إليه. والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله
عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه،
وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على
تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام الله المنزلة، وادعاء
المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا،
ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها. فأين هذا
مما بيناه من حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية من بني عمرو بن
سدوس!! ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم
أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة. فإنه لم يحدث
في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء
بها. هذه واحدة. وأخرى، أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها
بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا
أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية،
فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم بها
متأولا حكما خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول
يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله. وأما أن
يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في
أمر، جاحدا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرا لأحكام أهل الكفر
على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط. فلا يمكن صرف كلام أبي
مجلز والإباضيين إليه. فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير
بابهما، وصرفهما إلى غير معناهما، رغبة في نصرة سلطان، أو
احتيالا على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده،
فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب،
فإن أصر وكابر وجاحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام = فحكم
الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. وكتبه محمود محمد
شاكر".
(3/61)
وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ
بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أَيْ:
أَوْجَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ،
{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يَعْنِي: نَفْسَ الْقَاتِلِ
بِنَفْسِ الْمَقْتُولِ وَفَاءً يُقْتَلُ بِهِ، {وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ} تُفْقَأُ بِهَا، {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ}
يُجْدَعُ بِهِ، {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} تُقْطَعُ بِهَا،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِحُكْمِهِ
فِي التَّوْرَاةِ وَهُوَ: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ إِلَى
آخِرِهَا، فَمَا بَالُهُمْ يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ
بِالنَّفْسِ النَّفْسَيْنِ، وَيَفْقَأُونَ بِالْعَيْنِ
الْعَيْنَيْنِ، وَخَفَّفَ نَافِعٌ الْأُذُنَ فِي جَمِيعِ
الْقُرْآنِ وَثَقَّلَهَا الْآخَرُونَ، {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
تُقْلَعُ بِهَا وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ قِيَاسٌ عَلَيْهَا فِي
الْقِصَاصِ، {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ
تَخْصِيصٍ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ
وَالْأُذُنَ وَالسِّنَّ، ثُمَّ قَالَ: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
أَيْ فِيمَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ كَالْيَدِ
وَالرِّجْلِ وَاللِّسَانِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا مَا لَا
يُمْكِنُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ مِنْ كَسْرِ عَظْمٍ أَوْ جَرْحِ
لَحْمٍ كَالْجَائِفَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهِ،
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى نِهَايَتِهِ،
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ "وَالْعَيْنُ" وَمَا بَعْدَهَا
بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو
جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "وَالْجُرُوحُ" بِالرَّفْعِ فَقَطْ
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ كُلَّهَا بِالنَّصْبِ كَالنَّفْسِ.
(3/62)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ} أَيْ بِالْقِصَاصِ {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قِيلَ:
الْهَاءُ فِي "لَهُ" كِنَايَةٌ عَنِ الْمَجْرُوحِ وَوَلِيِّ
الْقَتِيلِ، أَيْ: كَفَّارَةٌ لِلْمُتَصَدِّقِ وَهُوَ قَوْلُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَالْحَسَنِ
وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْنَوَرِيُّ أَنَا عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ
أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ أَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ
عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهُ بِشَيْءٍ
كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ" (1) .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَارِحِ
وَالْقَاتِلِ، يَعْنِي: إِذَا عَفَا المجني عليه من الْجَانِي
فَعَفْوُهُ كَفَّارَةٌ لِذَنْبِ الْجَانِي لَا يُؤَاخَذُ بِهِ
فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الْقِصَاصَ كَفَّارَةٌ لَهُ،
فَأَمَّا أَجْرُ الْعَافِي فَعَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ" (الشُّورَى-40) ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ
إِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، {وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ}
__________
(1) أخرجه الترمذي بنحوه مطولا عن أبي الدرداء، في الديات، باب
ما جاء في العفو: 4 / 650، وقال: هذا حديث غريب، ولا أعرف لأبي
السفر سماعا من أبي الدرداء، وأخرجه ابن ماجه في الديات، باب
العفو في القصاص برقم (2693) : 2 / 898، والطبري في التفسير:
10 / 368، وابن أبي عاصم في الديات، والإمام أحمد في المسند: 5
/ 316، 6 / 448. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب: 3 / 305
من رواية الإمام أحمد وقال: رجاله رجال الصحيح. ومن رواية ابن
ماجه وقال: إسناده حسن لولا الانقطاع.
(3/64)
وَقَفَّيْنَا عَلَى
آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ
هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ
جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(48)
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ
الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ} أَيْ:
عَلَى آثَارِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، {بِعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ}
(3/64)
أَيْ: فِي الْإِنْجِيلِ، {هُدًى وَنُورٌ
وَمُصَدِّقًا} يَعْنِي الْإِنْجِيلَ، {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهِ} قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ "وَلِيَحْكُمَ" بِكَسْرِ
اللَّامِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، أَيْ لِكَيْ يَحْكُمَ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَجَزَمَ الْمِيمِ عَلَى
الْأَمْرِ، قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانِ: أَمَرَ اللَّهُ
الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارَ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا فِي
التَّوْرَاةِ، وَأَمَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ أَنْ
يَحْكُمُوا بِمَا فِي الْإِنْجِيلِ، فَكَفَرُوا وَقَالُوا
عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، {وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} الْخَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ}
يَا مُحَمَّدُ {الْكِتَابَ} الْقُرْآنَ، {بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أَيْ: مِنَ
الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ قَبْلُ، {وَمُهَيْمِنًا
عَلَيْهِ} رَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، أَيْ شَاهِدًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ
مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَالْكِسَائِيِّ.
قَالَ حَسَّانُ: إِنَّ الْكِتَابَ مُهْيَمِنٌ لِنَبِيِّنَا ...
وَالْحَقُ يَعْرِفُهُ ذَوُو الْأَلْبَابِ
يُرِيدُ: شَاهِدًا وَمُصَدِّقًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: دَالًّا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ، مُؤْتَمِنًا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ:
أَمِينًا (1) وَقِيلَ: أَصْلُهُ مُؤَيْمِنٌ، مُفَيْعِلٌ مِنْ
أَمِينٍ، كَمَا قَالُوا: مُبَيْطِرٌ مِنَ الْبَيْطَارِ،
فَقُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً، كَمَا قَالُوا: أَرَقْتُ
الْمَاءَ وَهَرَقْتُهُ، وَإِيهَاتَ وَهَيْهَاتَ، وَنَحْوَهَا.
وَمَعْنَى أَمَانَةَ الْقُرْآنِ مَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَمَا
أَخْبَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ [كِتَابِهِمْ] (2) فَإِنْ
كَانَ فِي الْقُرْآنِ فَصَدِّقُوا وَإِلَّا فَكَذِّبُوا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ قَاضِيًا،
وَقَالَ الْخَلِيلُ: رَقِيبًا وَحَافِظًا، وَالْمَعَانِي
مُتَقَارِبَةٌ، وَمَعْنَى الْكُلِّ: أَنَّ كُلَّ كِتَابٍ
يَشْهَدُ بِصِدْقِهِ الْقُرْآنُ فَهُوَ كِتَابُ اللَّهِ
تَعَالَى، وَمَا لَا فَلَا. {فَاحْكُمْ}
__________
(1) انظر معنى الهيمنة ووجوهها بالتفصيل في مقال: "الإسلام
وعلاقته بالديانات الأخرى"، عثمان جمعة ضميرية، في العدد (21)
من مجلة البحوث الإسلامية، بالرياض، ربيع الأول 1408هـ ص
(315-320) .
(2) في "ب": (كتبهم) .
(3/65)
وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
يَا مُحَمَّدُ، {بَيْنَهُمْ} بَيْنَ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْكَ، {بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} بِالْقُرْآنِ، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا
جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أَيْ لَا تُعْرِضْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ
الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ سَبِيلًا وَسُنَّةً،
فَالشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، وَكُلُّ
مَا شَرَعَتْ فِيهِ فَهُوَ شَرِيعَةٌ وَشِرْعَةٌ، وَمِنْهُ
شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ لِشُرُوعِ أَهْلِهَا فِيهَا، وَأَرَادَ
بِهَذَا أَنَّ الشَّرَائِعَ مُخْتَلِفَةٌ، وَلِكُلِّ أَهْلِ
مِلَّةٍ شَرِيعَةٌ.
قَالَ قَتَادَةُ: الْخِطَابُ لِلْأُمَمِ الثَّلَاثِ: أُمَّةِ
مُوسَى وَأُمَّةِ عِيسَى وَأُمِّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، للتوراة شريعة
والإنجيل شَرِيعَةٌ وَلِلْفُرْقَانِ شَرِيعَةٌ، وَالدِّينُ
وَاحِدٌ وَهُوَ التَّوْحِيدُ. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أَيْ: عَلَى مِلَّةٍ
وَاحِدَةٍ، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ} لِيَخْتَبِرَكُمْ، {فِي
مَا آتَاكُمْ} مِنَ الْكُتُبِ وَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ
الشَّرَائِعِ فَيَتَبَيَّنُ الْمُطِيعُ مِنَ الْعَاصِي
وَالْمُوَافِقُ مِنَ الْمُخَالِفِ، {فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ} فَبَادِرُوا إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا
تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ
أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ كَعْبُ
بْنُ [أَسَدٍ] (1) وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ [صُورِيَّا] (2)
وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا
نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ
قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَأَشْرَافُهُمْ
وَأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ لَمْ يُخَالِفْنَا الْيَهُودُ،
وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ خُصُومَاتٍ
فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ فَاقْضِ لَنَا عَلَيْهِمْ نُؤْمِنُ
بِكَ، وَيَتْبَعُنَا غَيْرُنَا، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمُ
الْإِيمَانَ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمُ التَّلْبِيسَ
وَدَعْوَتَهُ إِلَى الْمَيْلِ فِي الْحُكْمِ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَةَ (3) . {فَإِنْ تَوَلَّوْا}
أَيْ: أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْحُكْمِ بِالْقُرْآنِ،
{فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أَيْ: فَاعْلَمْ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ
مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ
الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، {وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} يَعْنِي الْيَهُودَ، {لَفَاسِقُونَ}
__________
(1) في الأصل: (أسيد) ، والتصويب من السيرة النبوية لابن هشام:
2 / 567.
(2) في السيرة لابن هشام: (صَلُوبا) .
(3) سيرة ابن هشام: 2 / 567، الطبري: 10 / 393، أسباب النزول
للواحدي، ص (229) .
(3/66)
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}
108\أقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "تَبْغُونَ" بِالتَّاءِ وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، أَيْ: يَطْلُبُونَ، {وَمَنْ أَحْسَنُ
مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
(3/67)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ
فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ
(52) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} اخْتَلَفُوا فِي نِزُولِ هَذِهِ
الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا لِجَمِيعِ
الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمَا اخْتَصَمَا، فَقَالَ عُبَادَةُ: إِنَّ لِي
أَوْلِيَاءَ مِنَ الْيَهُودِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدَةٌ
شَوْكَتُهُمْ، وَإِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى
رَسُولِهِ مِنْ وِلَايَتِهِمْ وَوِلَايَةِ الْيَهُودِ، وَلَا
مَوْلَى لِي إِلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: لَكِنِّي لَا أَبْرَأُ مِنْ وِلَايَةِ الْيَهُودِ،
لِأَنِّي أَخَافُ الدَّوَائِرَ، وَلَا بُدَّ لِي مِنْهُمْ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا
أَبَا الْحُبَابِ مَا نَفَسْتَ بِهِ مِنْ وِلَايَةِ الْيَهُودِ
عَلَى عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ فَهُوَ لَكَ دُونَهُ، قَالَ:
إِذًا أَقْبَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
(1) .
قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ اشْتَدَّتْ
عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ وَتَخَوَّفُوا أَنْ يُدَالَ
عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
أَنَا أَلْحَقُ بِفُلَانٍ الْيَهُودِيِّ وَآخُذُ مِنْهُ
أَمَانًا إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُدَالَ عَلَيْنَا الْيَهُودُ،
وَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَلْحَقُ بِفُلَانٍ
النَّصْرَانِيِّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَآخُذُ مِنْهُ
أَمَانًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
يَنْهَاهُمَا (2) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي [أَبِي لُبَابَةَ] (3) بْنِ
عَبْدِ الْمُنْذِرِ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ [حِينَ
حَاصَرَهُمْ] (4) فَاسْتَشَارُوهُ فِي النُّزُولِ، وَقَالُوا:
مَاذَا يَصْنَعُ بِنَا إِذَا نَزَلْنَا، فَجَعَلَ أُصْبُعَهُ
عَلَى حَلْقِهِ أَنَّهُ
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 10 / 395-396، الدر المنثور: 3 /
98،99، أسباب النزول ص (229) .
(2) انظر: تفسير الطبري: 6 / 276 (طبع الحلبي) ، الدر المنثور:
3 / 99.
(3) في "ب" (أبي أمامة) وهو خطأ.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3/67)
|