تفسير البغوي طيبة

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)

الذَّبْحُ، أَيْ: يَقْتُلُكُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فِي الْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ وَيَدُهُمْ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [فَيُوَفِّقْهُمْ وَيُعِنْهُمْ] (2) {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أَيْ: نِفَاقٌ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُوَالُونَ الْيَهُودَ، {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} فِي مَعُونَتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} دَوْلَةٌ، يَعْنِي: أَنْ يَدُولَ الدَّهْرُ دَوْلَةً فَنَحْتَاجُ إِلَى نَصْرِهِمْ إِيَّانَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَعْنَاهُ نَخْشَى أَنْ لَا يَتِمَّ أَمْرُ مُحَمَّدٍ فَيَدُورُ الْأَمْرُ عَلَيْنَا، وَقِيلَ: نَخْشَى أَنْ يَدُورَ الدَّهْرُ عَلَيْنَا بِمَكْرُوهٍ مِنْ جَدْبٍ وَقَحْطٍ فَلَا يُعْطُونَا الْمِيرَةَ وَالْقَرْضَ، {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: بِالْقَضَاءِ الْفَصْلِ مِنْ نَصْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: فَتْحُ مَكَّةَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَتْحُ قُرَى الْيَهُودِ مِثْلُ خَيْبَرَ وَفَدَكَ، {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} قِيلَ: بِإِتْمَامِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُوَ عَذَابٌ لَهُمْ، وَقِيلَ: إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، {فَيُصْبِحُوا} يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَدَسِّ الْأَخْبَارِ إِلَيْهِمْ، {نَادِمِينَ}
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) }
{وَ} حِينَئِذٍ، {َيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "وَيَقُولُ" بِالْوَاوِ وَالرَّفْعِ] (3) وَقَرَأَ أَهْلُ
__________
(1) انظر: الطبري: 6 / 276 (طبع الحلبي) ، الدر المنثور: 3 / 99-100، وهنا نضع كلمة لشيخ المفسرين الإمام الطبري، رحمه الله يبين فيها الصواب من هذه الأقوال، قال: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أن من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزّب على الله ورسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان، وقد يجوز أن الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أُبيّ بن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرجلين اللذين ذكر السدي أن أحدهم همّ باللحاق بِدَهْلَكَ اليهودي والآخر بنصراني بالشام. ولم يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجة، فيسلم لصحته القول بأنه كما قيل. فإذا كان ذلك كذلك، فالصواب: أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه، غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى خوفا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية بعده تدل على ذلك".
(2) زيادة من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(3/68)


الْبَصْرَةِ بِالْوَاوِ وَنَصْبِ اللَّامِ عَطْفًا عَلَى {أَنْ يَأْتِيَ} أَيْ: وَعَسَى أَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَرَفْعِ اللَّامِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ [الْعَالِيَةِ] (1) اسْتِغْنَاءً عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ بِمُلَابَسَةِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، يَعْنِي يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي وَقْتِ إِظْهَارِ اللَّهِ تَعَالَى نِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ، {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ} حَلَفُوا بِاللَّهِ، {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَيْ: حَلَفُوا بِأَغْلَظِ الْأَيْمَانِ، {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} أَيْ: إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، يُرِيدُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ وَحَلِفِهِمْ بِالْبَاطِلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بَطَلَ كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوهُ، {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} خَسِرُوا الدُّنْيَا بِافْتِضَاحِهِمْ، وَالْآخِرَةَ بِالْعَذَابِ وَفَوَاتِ الثَّوَابِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ "يَرْتَدِدْ" بِدَالَيْنِ عَلَى إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ "عَنْ دِينِهِ" فَيَرْجِعُ إِلَى الْكُفْرِ.
قَالَ الْحَسَنُ: عَلِمَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ قَوْمًا يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَأْتِي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ وَيُحِبُّونَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُمْ أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ قَاتَلُوا أهل الردة ومانعي الزَّكَاةِ (2) وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قُبِضَ ارْتَدَّ عَامَّةُ الْعَرَبِ إِلَّا أَهْلَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَحْرَيْنِ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمُ الزَّكَاةَ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقِتَالِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ نُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي [عَنَاقًا] (3) كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا" (4) .
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَرِهَتِ الصَّحَابَةُ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَقَالُوا: أَهْلُ الْقِبْلَةِ، فَتَقَلَّدَ أَبُو بَكْرٍ سَيْفَهُ وَخَرَجَ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى أَثَرِهِ.
__________
(1) في "ب": (الشام) .
(2) انظر: تفسير الطبري: 6 / 283 (طبع الحلبي) .
(3) في "ب": (عقالا) .
(4) أخرجه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة 3 / 262، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. برقم (20) : 1 / 51-52، والمصنف في شرح السنة: 1 / 66-67.

(3/69)


قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَرِهْنَا ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ حَمِدْنَاهُ عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: سَمِعْتُ أَبَا حُصَيْنٍ يَقُولُ: مَا وُلِدَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مَوْلُودٌ أَفْضَلُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَقَدْ قَامَ مَقَامَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ.
وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ فِرَقٍ:
مِنْهُمْ [بَنُو مَذْحِجٍ] (1) وَرَئِيسُهُمْ ذُو الْخِمَارِ، عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ، الْعَنْسِيُّ، وَيُلَقَّبُ بِالْأَسْوَدِ، وَكَانَ كَاهِنًا مُشَعْبِذًا فَتَنَبَّأَ بِالْيَمَنِ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهَا، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحُثُّوا النَّاسَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِدِينِهِمْ، وَعَلَى النُّهُوضِ إِلَى حَرْبِ الْأَسْوَدِ، فَقَتَلَهُ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَى الْخَبَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّمَاءِ اللَّيْلَةَ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُتِلَ الْأَسْوَدُ الْبَارِحَةَ قَتْلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ"، قِيلَ: وَمَنْ هُوَ؟ قال: "فيروز، [فازفيروز] (2) فَبَشَّرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَلَاكِ الْأَسْوَدِ، وَقُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَدِ؛ وَأَتَى [خَبَرُ] (3) مَقْتَلِ الْعَنْسِيِّ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَمَا خَرَجَ أُسَامَةُ وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ فَتْحٍ جَاءَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (4) .
وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: بَنُو حَنِيفَةَ بِالْيَمَامَةِ، وَرَئِيسُهُمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، [وَاسْمُهُ ثُمَامَةُ بْنُ قَيْسٍ] (5) وَكَانَ قَدْ تَنَبَّأَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ أُشْرِكَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النُّبُوَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْأَرْضَ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَكَ، وَبَعَثَ [بِذَلِكَ] (6) إِلَيْهِ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَتَشْهَدَانِ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَا نَعَمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (7) "لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا"، ثُمَّ أَجَابَ: "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الأرض لله يروثها مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"، وَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُوُفِّيَ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ وَحْشِيٍّ، غُلَامِ مُطَعِمِ بْنِ عَدِيٍّ الَّذِي قَتَلَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، بَعْدَ حَرْبٍ شَدِيدٍ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَقُولُ: قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرَّ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ (8) .
__________
(1) في "ب": (بنو مدحة) .
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "ب".
(4) انظر: تاريخ الطبري: 3 / 227 وما بعدها، البداية والنهاية 6 / 305-311 أسد الغابة لابن الأثير: 4 / 371. تفسير الطبري: 10 / 424-425.
(5) ساقط من "ب".
(6) زيادة من "ب".
(7) زيادة من "ب".
(8) انظر: سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب الرسل: 4 / 64، البداية والنهاية: 5 / 51، 6 / 200، سيرة ابن هشام: 2 / 600.

(3/70)


وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: بَنُو أَسَدٍ، وَرَئِيسُهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَكَانَ طُلَيْحَةُ آخِرَ مَنِ ارْتَدَّ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلَ مَنْ قُوتِلَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل 108/ب الرِّدَّةِ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِ، فَهَزَمَهُمْ خَالِدٌ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَأَفْلَتَ طُلَيْحَةُ فَمَرَّ عَلَى وَجْهِهِ هَارِبًا نَحْوَ الشَّامِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ (1) .
وَارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (2) خَلْقٌ كَثِيرٌ، حَتَّى كَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ وَنَصَرَ دِينَهُ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
قَالَتْ عَائِشَةُ: "تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ، وَنَزَلَ بِأَبِي بَكْرٍ مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا" (4) .
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} هَمُ الْأَشْعَرِيُّونَ، رُوِيَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُمْ قَوْمُ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ" (5) وَكَانُوا مِنَ الْيَمَنِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخِرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ [عَلِيِّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ] (6) حُجْرٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَرَقَّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٌ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ" (7)
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ أَحْيَاءٌ مِنَ الْيَمَنِ أَلْفَانِ مِنَ النَّخَعِ وَخَمْسَةُ آلَافٍ مِنْ كِنْدَةَ وَبَجِيلَةَ، وَثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنْ أَفْيَاءِ النَّاسِ، فَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية: 6 / 314-319، 4 / 61.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) انظر: حروب الردة للشهيد المؤرخ الكلاعي ص (35) وما بعدها.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 665، حروب الردة للكلاعي ص (35) . تاريخ الطبري، 3 / 225.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك: 2 / 313 وصححه على شرط مسلم، وأخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد: 7 / 16) . والطبري في التفسير: 10 / 414-415.
(6) زيادة من "ب" و"شرح السنة".
(7) أخرجه البخاري في المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن: 8 / 98، ومسلم في الإيمان، باب أهل الإيمان ... (52) : 1 / 71، والمصنف في شرح السنة: 14 / 201.

(3/71)


إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يَعْنِي: أَرِقَّاءَ رُحَمَاءَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ"، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْهَوَانَ، بَلْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ جَانِبَهُمْ لَيِّنٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الذُّلِّ مِنْ قَوْلِهِمْ دَابَّةٌ ذَلُولٌ، يَعْنِي أَنَّهُمْ مُتَوَاضِعُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا"، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ: أَشِدَّاءَ غِلَاظٍ عَلَى الْكُفَّارِ يُعَادُونَهُمْ وَيُغَالِبُونَهُمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَّهُ أَيْ غَلَبَهُ، قَالَ عَطَاءٌ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: كَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ: كَالسَّبُعِ عَلَى فَرِيسَتِهِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ". {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} يَعْنِي: لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ الْكُفَّارَ وَيَخَافُونَ لَوْمَهُمْ، وَرُوِّينَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ" (1) .
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أَيْ مَحَبَّتُهُمْ لِلَّهِ وَلِينُ جَانِبِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَشِدَّتُهُمْ عَلَى الْكَافِرِينَ، مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) }
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ حِينَ تَبَرَّأَ عُبَادَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَالَ: أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ"، إِلَى قَوْلِهِ: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا" (2) يَعْنِي عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) . وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمَنَا قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ قَدْ هَجَرُونَا وَفَارَقُونَا وَأَقْسَمُوا أَنْ لَا يُجَالِسُونَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ رَضِينَا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاءَ" (4) . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَهُمْ رَاكِعُونَ}
__________
(1) أخرجه البخاري في الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس: 13 / 192، وفي الفتن، وأخرجه مسلم في الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، برقم (1709) : 3 / 1470، والمصنف في شرح السنة: 10 / 46.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) انظر ما سبق، سبب نزول الآية (51) من السورة، والطبري: 10 / 424.
(4) أخرجه الواحدي في أسباب النزول، (230) عن جابر وعن ابن عباس، وعزاه السيوطي لابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بنحوه، الدر المنثور 3 / 105.

(3/72)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

صَلَاةَ التَّطَوُّعِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَوْلُهُ: "وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"، أَرَادَ بِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَرَّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأَعْطَاهُ خاتمه (1) .
وقال جوبير عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: هُوَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) .
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} يَعْنِي: يَتَوَلَّى الْقِيَامَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ} يَعْنِي: أَنْصَارَ دِينِ اللَّهِ، {هُمُ الْغَالِبُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) }
__________
(1) أخرجه الطبري: 10 / 325-326. وفيه عن السدي: هؤلاء جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مرَّ به سائل وهو راكع.. وانظر: الدر المنثور: 3 / 104-105.
(2) أخرجه الطبري: 10 / 425، وانظر: الدر المنثور: 3 / 106.

(3/73)


وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)

{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ، ثُمَّ نَافَقَا وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (1) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا"، بِإِظْهَارِ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلًا وَهُمْ مُسْتَبْطِنُونَ الْكُفْرَ، {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يَعْنِي: الْيَهُودَ، {وَالْكُفَّارَ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ "الْكُفَّارِ"، بِخَفْضِ الرَّاءِ، [يَعْنِي:
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 568، تفسير الطبري: 6 / 290، أسباب النزول للواحدي ص (231) ، الدر المنثور: 3 / 107.

(3/73)


وَمِنَ الْكُفَّارِ] (1) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ، أَيْ: لَا تتخذوا الكفار، و {أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَادَى إِلَى الصَّلَاةِ وَقَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا، قَالَتِ الْيَهُودُ: قَدْ قَامُوا لَا قَامُوا، وَصَلَّوْا لَا صَلَّوْا، عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَضَحِكُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ النَّصَارَى بِالْمَدِينَةِ كَانَ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: حُرِقَ الْكَاذِبُ، فَدَخَلَ خَادِمُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِنَارٍ [وَهُوَ وَأَهْلُهُ نِيَامٌ] (3) فَتَطَايَرَتْ مِنْهَا شَرَارَةٌ فَاحْتَرَقَ الْبَيْتُ وَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ (4) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا الْأَذَانَ حَسَدُوا الْمُسْلِمِينَ فَدَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ لِقَدْ أَبْدَعْتَ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْ بِهِ فِيمَا مَضَى مِنَ الْأُمَمِ فَإِنْ كُنْتَ تَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَقَدْ خَالَفْتَ -فِيمَا أَحْدَثْتَ -الْأَنْبِيَاءَ قَبْلَكَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ صِيَاحٌ كَصِيَاحِ [الْعَنْزِ] (5) ؟ فَمَا أَقْبَحَ مِنْ صَوْتٍ وَمَا أَسْمَجَ مِنْ أَمْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَنَزَّلَ "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ"، الْآيَةَ (6) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} الْآيَةَ. قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: "هَلْ تَنْقِمُونَ"، بِإِدْغَامِ اللَّامِ فِي التَّاءِ، وَكَذَلِكَ يُدْغِمُ لَامَ هَلْ فِي التَّاءِ وَالثَّاءِ وَالنُّونِ، وَوَافَقَهُ حَمْزَةُ فِي التَّاءِ وَالثَّاءِ وَأَبُو عَمْرٍو فِي "هَلْ تَرَى" فِي مَوْضِعَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ، أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ وَغَيْرُهُمَا، فَسَأَلُوهُ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ، فَقَالَ: أُومِنُ "بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ" إِلَى قَوْلِهِ: "وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"، فَلَمَّا ذَكَرَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ، وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (7) "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا"
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص (231) ، الدر المنثور: 3 / 107.
(3) في "ب" جاءت العبارة هكذا: (وهو نائم، هو وأهله) .
(4) انظر: الطبري: 6 / 291، الدر المنثور: 3 / 107-108، أسباب النزول، ص (231) البحر المحيط: 3 / 515.
(5) في أسباب النزول "العير".
(6) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (231-232) ، البحر المحيط: 3 / 515.
(7) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 567، الطبري: 6 / 292، الدر المنثور: 3 / 108، أسباب النزول ص (232) .

(3/74)


قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

أَيْ: تَكْرَهُونَ مِنَّا، {إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ: هَلْ تَكْرَهُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا وَفِسْقَكُمْ، أَيْ: إِنَّمَا كَرِهْتُمْ إِيمَانَنَا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّا عَلَى حَقٍّ، لِأَنَّكُمْ فَسَقْتُمْ بِأَنْ أَقَمْتُمْ عَلَى دِينِكُمْ لِحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَحُبِّ الْأَمْوَالِ.
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) }
ثُمَّ قَالَ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أُخْبِرُكُمْ، {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْتُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُمْ لَمْ نَرَ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَذَكَرَ الْجَوَابَ بلفظ الابتداء، 109\أوَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِابْتِدَاءُ شَرًّا كقوله تعالى: "أفأنبأكم بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ" (الْحَجِّ، 72) ، {مَثُوبَةً} ثَوَابًا وَجَزَاءً، نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ، {عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أَيْ: هُوَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} يَعْنِي: الْيَهُودَ، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فَالْقِرَدَةُ أَصْحَابُ السَّبْتِ، وَالْخَنَازِيرُ كُفَّارُ مَائِدَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْمَمْسُوخِينَ كِلَاهُمَا مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ، فَشُبَّانُهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَمَشَايِخُهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ. {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أَيْ: جُعِلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، أَيْ: أَطَاعَ الشَّيْطَانَ فِيمَا سَوَّلَ لَهُ، وَتَصْدِيقُهَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ "وَعَبُدَ" بِضَمِّ الْبَاءِ "الطَّاغُوتِ" بِجَرِّ التَّاءِ، أَرَادَ الْعَبُدَ وَهُمَا لُغَتَانِ عَبْدٌ بِجَزْمِ الْبَاءِ وَعُبُدٌ بِضَمِّ الْبَاءِ، مِثْلُ سَبْعٍ وَسُبُعٌ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ الْعِبَادِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، عَلَى الْوَاحِدِ، {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أَيْ: عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ.
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا} يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ قَالُوا: "آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وجه النهار وكفروا آخِرَهُ"، دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ فِيمَا قُلْتَ، وَهُمْ يُسِرُّونَ الْكُفْرَ، {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} يَعْنِي: دَخَلُوا كَافِرِينَ وَخَرَجُوا كَافِرِينَ، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ}

(3/75)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} يَعْنِي: مِنَ الْيَهُودِ {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} قِيلَ: الْإِثْمُ الْمَعَاصِي وَالْعُدْوَانُ الظُّلْمُ، وَقِيلَ: الْإِثْمُ مَا كَتَمُوا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَالْعُدْوَانُ ما زَادُوا فِيهَا، {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} الرِّشَا، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
{لَوْلَا} هَلَّا {يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} يَعْنِي: الْعُلَمَاءَ، قِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ النَّصَارَى وَالْأَحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، {عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) }
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ بَسَطَ عَلَى الْيَهُودِ حَتَّى كَانُوا مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ مَالًا وَأَخْصَبِهِمْ نَاحِيَةً فَلَمَّا عَصَوُا اللَّهَ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبُوا بِهِ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا بَسَطَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّعَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، أَيْ: مَحْبُوسَةٌ مَقْبُوضَةٌ عَنِ الرِّزْقِ نَسَبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.
قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِنْحَاصٌ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَهُ الْآخَرُونَ وَرَضُوا بِقَوْلِهِ أَشْرَكَهُمُ اللَّهُ فِيهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يَدُ اللَّهِ مَكْفُوفَةٌ عَنْ عَذَابِنَا فَلَيْسَ يُعَذِّبُنَا إِلَّا مَا تَبَرُّ بِهِ قَسَمُهُ قَدْرَ مَا عَبَدَ آبَاؤُنَا الْعِجْلَ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: "يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ".
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أَيْ: [أُمْسِكَتْ] (1) أَيْدِيهِمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: أَنَا الْجَوَّادُ وَهُمُ الْبُخَلَاءُ وَأَيْدِيهِمْ هِيَ الْمَغْلُولَةُ الْمُمْسِكَةُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْغَلِّ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ" (غَافِرِ، 71) . {وَلُعِنُوا} عُذِّبُوا، {بِمَا قَالُوا} فَمِنْ لَعْنِهِمْ أَنَّهُمْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَيَدُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ [صِفَاتِهِ] (2) كَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ وَالْوَجْهِ، وَقَالَ جَلَّ
__________
(1) في "ب" (أمسك الله) .
(2) في "ب": (صفات ذاته) .

(3/76)


ذِكْرُهُ: "لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" (ص، 75) ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ" (1) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِفَاتِهِ، فَعَلَى الْعِبَادِ فِيهَا الْإِيمَانُ وَالتَّسْلِيمُ.
وَقَالَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ: "أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفَ".
{يُنْفِقُ} يَرْزُقُ، {كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} أَيْ: كُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ كَفَرُوا بِهَا وَازْدَادُوا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، [كُلَّمَا نَزَلَتْ آيَةٌ] (2) {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} يَعْنِي: بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: وَقِيلَ بَيْنَ طَوَائِفِ الْيَهُودِ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مُخْتَلِفِينَ فِي دِينِهِمْ مُتَبَاغِضِينَ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} يَعْنِي: الْيَهُودَ أَفْسَدُوا وَخَالَفُوا حُكْمَ التَّوْرَاةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْطُوسَ الرُّومِيُّ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ.
وَقِيلَ: كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ لِيُفْسِدُوا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْقَدُوا نَارَ الْمُحَارَبَةِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، فَرَدَّهُمْ وَقَهَرَهُمْ وَنَصَرَ نَبِيَّهُ وَدِينَهُ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ حَرْبٍ طَلَبَتْهُ الْيَهُودُ فَلَا تَلْقَى الْيَهُودَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ، {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه الإمام مسلم في الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر ... برقم (1827) : 3 / 1458.
(2) ساقط من "ب".

(3/77)


وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) }
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا} بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَاتَّقَوْا} الْكُفْرَ، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}

(3/77)


{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} يَعْنِي: أَقَامُوا أَحْكَامَهُمَا وَحُدُودَهُمَا وَعَمِلُوا بِمَا فِيهِمَا، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، وَقِيلَ: كُتُبُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قِيلَ: مِنْ فَوْقِهِمْ هُوَ الْمَطَرُ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ نَبَاتُ الْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَأَنْزَلْتُ عَلَيْهِمُ الْقَطْرَ وَأَخْرَجْتُ لَهُمْ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ.
وَقَالَ الْفِرَاءُ أَرَادَ بِهِ التَّوْسِعَةَ فِي الرِّزْقِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فِي الْخَيْرِ مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (الْأَعْرَافِ، 96) .
{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} يَعْنِي: مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ، مُقْتَصِدَةٌ أَيْ عَادِلَةٌ غَيْرُ غَالِيَةٍ، وَلَا مُقَصِّرَةٍ جَافِيَةٍ، وَمَعْنَى الِاقْتِصَادِ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِدَالُ فِي الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ غُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ، {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} بِئْسَ شَيْئًا عَمَلُهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَمِلُوا الْقَبِيحَ مَعَ التَّكْذِيبِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَةَ، رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" الْآيَةَ (1) . رَوَى الْحَسَنُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ رَسُولَهُ ضَاقَ ذَرْعًا وَعَرَفَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُكَذِّبُهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (2) .
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَيْبِ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ وَجَعَلُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، فَيَقُولُونَ لَهُ: تُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَكَ حَنَانًا كَمَا اتَّخَذَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ حَنَانًا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ سَكَتَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ" الْآيَةَ.
وَقِيلَ: بَلِّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ، نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَنِكَاحِهَا.
وَقِيلَ: فِي الْجِهَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَرِهُوهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ"
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب "يا أيها الرسول بلغ ... " من سورة المائدة: 8 / 275، ومسلم في الإيمان. باب معنى قول الله عز وجل "ولقد رآه نزلة أخرى" برقم (177) : 1 / 159.
(2) أسباب النزول للواحدي ص (232-233) ، الدر المنثور: 3 / 116-117.

(3/78)


(مُحَمَّدٍ، 20) وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ" الْآيَةَ (النِّسَاءِ، 70) ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْسِكُ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ عَنِ الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ (رِسَالَاتِهِ) ، عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ رِسَالَتَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ لَمْ تُبَلِّغِ الْجَمِيعَ وَتَرَكْتَ بَعْضَهُ، فَمَا بَلَّغْتَ شَيْئًا، أَيْ: جُرْمُكَ فِي تَرْكِ تَبْلِيغِ البعض كجرمك 109/ب فِي تَرْكِ تَبْلِيغِ الْكُلِّ، كَقَوْلِهِ: "وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا" (النِّسَاءِ، 150-151) ، أَخْبَرَ أَنَّ كُفْرَهُمْ بِالْبَعْضِ مُحْبِطٌ لِلْإِيمَانِ بِالْبَعْضِ.
وَقِيلَ: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ أَيْ: أَظْهِرْ تَبْلِيغَهُ، كَقَوْلِهِ: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ" (الْحِجْرِ، 94) وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ: فَإِنْ لَمْ تُظْهِرْ تَبْلِيغَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مُجَاهِرًا مُحْتَسِبًا صَابِرًا، غَيْرَ خَائِفٍ، فَإِنْ أَخْفَيْتَ مِنْهُ شَيْئًا لِخَوْفٍ يَلْحَقُكَ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.
{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} يَحْفَظُكَ وَيَمْنَعُكَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ شُجَّ رَأْسُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَأُوذِيَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْأَذَى؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ يَعْصِمُكَ مِنَ الْقَتْلِ فَلَا يَصِلُونَ إِلَى قَتْلِكَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَمَا شُجَّ رَأْسُهُ لِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: وَاللَّهُ يَخُصُّكَ بِالْعِصْمَةِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ.
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَا سِنَانُ بْنُ أبي سنان الدولي وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَفَلَ مَعَهُ وَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاةِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ "ثَلَاثًا"، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ. (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة: 6 / 96، وفي المغازي. ومسلم في صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف برقم (843) : 1 / 576. واللفظ للبخاري.

(3/79)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)

وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ سَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي يَا مُحَمَّدُ قَالَ: اللَّهُ، فَرَعَدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَ يَضْرِبُ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهِرَ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ، إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلَاحٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ جِئْتُ لِأَحْرُسَكَ، فَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ لَهُمْ: "أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" (2) .
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) }
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله: 6 / 81، ومسلم في فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص، برقم (2410) : 4 / 1875.
(2) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة المائدة: 8 / 411، وقال: هذا حديث غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجُريري عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبي ... ولم يذكروا فيه: عن عائشة. وصححه الحاكم في المستدرك: 2 / 313 ووافقه الذهبي، والطبري في التفسير 6 / 308. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وإسناده حسن، واختلفوا في وصله وإرساله". وزاد السيوطي نسبته: لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي، كلاهما في الدلائل، وابن مردويه. انظر: الدر المنثور: 3 / 118.

(3/80)


وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}

(3/80)


أَيْ: تُقِيمُوا أَحْكَامَهُمَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْكُمْ فِيهِمَا، {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ} فَلَا تَحْزَنْ، {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} وكان حقه: {والصائبين} وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَجْهَ ارْتِفَاعِهِ (1) . وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادَوْا وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالصَّابِئُونَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: بِاللِّسَانِ، وَقَوْلُهُ: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ: بِالْقَلْبِ، وَقِيلَ: الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَيْ: ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ، {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا} عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، {وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} يَحْيَى وَزَكَرِيَّا.
__________
(1) انظر فيما سبق تفسير الآية (62) من سورة البقرة، في المجلد الأول.

(3/81)


لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

{وَحَسِبُوا} ظَنُّوا {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أَيْ: عَذَابٌ وَقَتْلٌ، وَقِيلَ: ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ، أَيْ: ظَنُّوا أَنْ لَا يُبْتَلَوْا وَلَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ، قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " تَكُونُ " بِرَفْعِ النُّونِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ، وَنَصَبَهَا الْآخَرُونَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ لَا {فَعَمُوا} عَنِ الْحَقِّ فَلَمْ يُبْصِرُوهُ، {وَصَمُّوا} عَنْهُ فَلَمْ يَسْمَعُوهُ، يَعْنِي عَمُوا وَصَمُّوا بَعْدَ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بِبَعْثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بِالْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) }
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وَهُمُ الْمَلْكَانِيَّةُ وَالْيَعْقُوبِيَّةُ مِنْهُمْ، {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} يَعْنِي: الْمُرْقُوسِيَّةَ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ: ثَالِثُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِلَهِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَرْيَمَ وَعِيسَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَهٌ فَهُمْ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، يُبَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَسِيحِ: "أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ"؟ (الْمَائِدَةِ، 116) ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِلَهِيَّةَ لَا يَكْفُرُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ" (الْمُجَادَلَةِ، 7) ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" (1) . ثُمَّ قَالَ رَدًّا عَلَيْهِمْ: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [لِيُصِيبُنَّ] (2) {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} خَصَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لِعِلْمِهِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُونَ.
{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} ؟ قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا أَمْرٌ بِلَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" (الْمَائِدَةِ، 91) ، أَيِ: انْتَهُوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ [يَأْمُرُكُمْ] (3) بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} [مَضَتْ] (4) {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أَيْ: لَيْسَ هُوَ بِإِلَهٍ بَلْ هُوَ كَالرُّسُلِ الَّذِينَ مَضَوْا لَمْ يَكُونُوا آلِهَةً، {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أَيْ: كَثِيرَةُ الصِّدْقِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، سورة التوبة، باب "ثاني اثنين إذ هما في الغار ... " 8 / 325.
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب": (يأمرهم) .
(4) ساقط في (ب) .

(3/82)


مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

وَقِيلَ: سُمِّيَتْ صِدِّيقَةً لِأَنَّهَا صَدَّقَتْ بِآيَاتِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي وَصْفِهَا: "وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا" (التَّحْرِيمِ، 12) ، {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} أَيْ: كَانَا يَعِيشَانِ بِالطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ كَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مَنْ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا أَكْلُ الطَّعَامِ؟
وَقِيلَ: هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ وَشَرِبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا؟
ثُمَّ قَالَ: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أَيْ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ.
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) }

(3/83)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) }
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أَيْ: لَا تَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ، وَالْغُلُوُّ وَالتَّقْصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ، وَقَوْلُهُ: {غَيْرَ الْحَقِّ} أَيْ: فِي دِينِكُمُ الْمُخَالِفِ لِلْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْحَقَّ فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ غَلَوْا فِيهِ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} وَالْأَهْوَاءُ جَمْعُ الْهَوَى وَهُوَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ شَهْوَةُ النَّفْسِ {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي: رُؤَسَاءَ الضَّلَالَةِ مِنْ فَرِيقَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْخِطَابُ لِلَّذِينِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُهُوا عَنِ اتِّبَاعِ أَسْلَافِهِمْ فِيمَا ابتدعوه بأهوائهم 110\أ {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} يَعْنِي: مَنِ اتَّبَعَهُمْ [عَلَى أَهْوَائِهِمْ] (1) {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ، أَيْ: بِالْإِضْلَالِ، فَالضَّلَالُ الْأَوَّلُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَالثَّانِي بِإِضْلَالِ مَنِ اتَّبَعَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} يَعْنِي: أَهْلَ أَيْلَةَ لَمَّا اعْتَدَوْا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(3/83)


كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

فِي السَّبْتِ، وَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ وَاجْعَلْهُمْ آيَةً فَمُسِخُوا قِرَدَةً، {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أَيْ: عَلَى لِسَانِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَعْنِي: كُفَّارَ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ، لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا، قَالَ عِيسَى: اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ وَاجْعَلْهُمْ آيَةً فَمُسِخُوا خَنَازِيرَ، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [أَيْ: لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا] (1) {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا الْحَسَنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ أَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ أَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيَّ -عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا عَمِلَ الْعَامِلُ مِنْهُمُ الْخَطِيئَةَ نَهَاهُ النَّاهِي تَعْذِيرًا فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَالَسَهُ وَآكَلَهُ وَشَارَبَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ عَلَى الْخَطِيئَةِ بِالْأَمْسِ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ" (2) .
{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} قِيلَ: مِنَ الْيَهُودِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ، {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ب) .
(2) روي من طرق وبألفاظ مختلفة عن أبي موسى وعن عبد الله بن مسعود، فقد أخرجه أبو داود في الملاحم، باب الأمر والنهي: 6 / 186، والترمذي في تفسير سورة المائدة: 8 / 412-413، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقال بعضهم: يقول عن أبي عبيدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مرسل. وأخرجه ابن ماجه في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم (4006-4007) 2 / 1327-1328 مرسلا وموصولا، والإمام أحمد في المسند: 1 / 391، وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد: 7 / 269) . وقال المنذري: أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، فهو منقطع.

(3/84)


مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ يُجَيِّشُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: مِنْهُمْ يَعْنِي مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} بِئْسَ مَا قَدَّمُوا مِنَ الْعَمَلِ لِمَعَادِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ، {مَا اتَّخَذُوهُمْ} يَعْنِي الْكُفَّارَ، {أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ خَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يَعْنِي: مُشْرِكِي الْعَرَبِ، {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} لَمْ يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ فِي عَدَاوَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ كَالْيَهُودِ فِي قَتْلِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْرِهِمْ وَتَخْرِيبِ بِلَادِهِمْ وَهَدْمِ مَسَاجِدِهِمْ وَإِحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ، لَا وَلَاءَ، وَلَا كَرَامَةَ لَهُمْ، بَلِ الْآيَةُ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ مِثْلُ النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ، [وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي جَمِيعِ الْيَهُودِ وَجَمِيعِ النَّصَارَى، لِأَنَّ الْيَهُودَ أَقْسَى قَلْبًا وَالنَّصَارَى أَلْيَنُ قَلْبًا مِنْهُمْ، وَكَانُوا أَقَلَّ مُظَاهَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ مِنَ الْيَهُودِ] (1) .
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: ائْتَمَرَتْ قُرَيْشٌ أَنْ يَفْتِنُوا الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُؤْذُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ، فَافْتُتِنَ مَنِ افْتُتِنَ، وَعَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ، وَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِأَصْحَابِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ وَلَمْ يُؤْمَرْ بَعْدُ بِالْجِهَادِ أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَالَ: "إِنَّ بِهَا مَلِكًا صَالِحًا لَا يَظْلِمُ وَلَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَرَجًا" وَأَرَادَ بِهِ النَّجَاشِيَّ، وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ وَهُوَ بِالْحَبَشَةِ عَطِيَّةُ، وَإِنَّمَا النَّجَاشِيُّ اسْمُ الْمَلِكِ، كَقَوْلِهِمْ قَيْصَرَ وَكِسْرَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ سِرًّا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، [وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ] (2) وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَمُصَعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَامْرَأَتُهُ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(3/85)


لَيْلَى بِنْتُ أَبِي [حَثْمَةَ] (1) وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو وَ [سَهْلُ] (2) بْنُ بَيْضَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَخَرَجُوا إِلَى الْبَحْرِ وَأَخَذُوا سَفِينَةً إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ الْأُولَى ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا سِوَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
فَلَمَّا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ وَجَّهُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَصَاحِبَهُ بِالْهَدَايَا إِلَى النَّجَاشِيِّ وَبَطَارِقَتِهِ لِيَرُدُّوهُمْ إِلَيْهِمْ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ، وَذُكِرَتِ الْقِصَّةُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
فَلَمَّا انْصَرَفَا خَائِبَيْنِ، أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ هُنَاكَ بِخَيْرِ دَارٍ وَأَحْسَنِ جِوَارٍ إِلَى أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَا أَمْرُهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ عَلَى يَدِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ لِيُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ -وَكَانَتْ قَدْ هَاجَرَتْ إِلَيْهِ مَعَ زَوْجِهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا، -وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى أُمِّ حَبِيبَةَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا أَبَرْهَةُ تُخْبِرُهَا بِخِطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا، فَأَعْطَتْهَا أَوْضَاحًا لَهَا سُرُورًا بِذَلِكَ، فَأَذِنَتْ لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حَتَّى أَنْكَحَهَا عَلَى صَدَاقٍ أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَ الْخَاطِبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَنْفَذَ إِلَيْهَا النَّجَاشِيُّ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى يَدِ أَبَرْهَةَ، فَلَمَّا جَاءَتْهَا بِهَا أَعْطَتْهَا خَمْسِينَ دِينَارًا فَرَدَّتْهُ وَقَالَتْ: أَمَرَنِي الْمَلِكُ أَنْ لَا آخُذُ مِنْكِ شَيْئًا، وَقَالَتْ: أَنَا صَاحِبَةُ دَهْنِ الْمَلِكِ وَثِيَابِهِ، وَقَدْ صَدَّقْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتُ بِهِ، وَحَاجَتِي مِنْكِ أن تقرئيه منك السَّلَامَ، قَالَتْ نَعَمْ: وَقَدْ أَمَرَ الْمَلِكُ نِسَاءَهُ أَنْ يَبْعَثْنَ إِلَيْكِ بِمَا عِنْدَهُنَّ مِنْ عُودٍ وَعَنْبَرٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا فَلَا يُنْكِرُ.
قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَخَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، فَخَرَجَ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ وَأَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَكَانَ يَسْأَلُنِي عَنِ النَّجَاشِيِّ فَقَرَأَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَبَرْهَةَ السَّلَامَ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً" يَعْنِي: أَبَا سُفْيَانَ مَوَدَّةً، يَعْنِي: بِتَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَلَمَّا جَاءَ أَبَا سُفْيَانَ تَزْوِيجُ أُمِّ حَبِيبَةَ، قَالَ: ذَلِكَ الْفَحْلُ لَا يُقْرَعُ أَنْفُهُ (3) .
وَبَعَثَ النَّجَاشِيُّ بَعْدَ قُدُومِ جَعْفَرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْنَهُ أَزْهَى بْنَ أَصْحَمَةَ بْنِ أَبْجَرَ فِي سِتِّينَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مُصَدِّقًا وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ
__________
(1) في الأصل (خيثمة) ، والتصويب من السيرة النبوية.
(2) في "ب": (وسهيل) .
(3) أي: كفء كريم، لا يرد.

(3/86)


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

ابن عمك وأسملت لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ ابْنِي أَزْهَى، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ آتِيَكَ بِنَفْسِي فَعَلْتُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَكِبُوا سَفِينَةً فِي أَثَرِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي وَسَطِ الْبَحْرِ غَرِقُوا، وَوَافَى جَعْفَرُ وَأَصْحَابُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، مِنْهُمُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ [أَهْلِ] (1) الشَّامِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ يس إِلَى آخِرِهَا، فَبَكَوْا حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَآمَنُوا، وَقَالَ: آمَنُوا، وَقَالُوا: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} 110/ب يَعْنِي: وَفْدَ النَّجَاشِيِّ الَّذِينَ قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرٍ وَهُمُ السَّبْعُونَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الحبشة، وثمانية روميون مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
[وَقَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ بَنِي الْحَرِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الحبشة وثمانية روميون مِنْ أَهْلِ الشَّامِ] (3) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقُوهُ وَآمَنُوا بِهِ فَأَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ (4) . {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} أَيْ عُلَمَاءَ، قَالَ قُطْرُبٌ: الْقَسُّ وَالْقِسِّيسُ الْعَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ، {وَرُهْبَانًا} الرُّهْبَانُ الْعُبَّادُ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَاحِدُهُمْ رَاهِبٌ، مِثْلُ فَارِسٍ وَفُرْسَانٍ، وَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ، وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعُهُ رَهَابِينُ، مِثْلُ قُرْبَانٍ وَقَرَابِينٍ، {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} لَا يَتَعَظَّمُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ.
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 321 وما بعدها، الطبري: 7 / 1-3 (الحلبي) ، أسباب النزول للواحدي، ص (235-236) .
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة. (الدر المنثور: 3 / 132) .

(3/87)


وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) }
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ} تَسِيلُ، {مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: يريد النجاشي ولأصحابه قَرَأَ عَلَيْهِمْ جَعْفَرٌ بِالْحَبَشَةِ كهيعص، فَمَا زَالُوا يَبْكُونَ حَتَّى فَرَغَ جَعْفَرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ. {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}

(3/87)


وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" (الْبَقَرَةِ، 143) .
{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَيَّرُوهُمْ وَقَالُوا لَهُمْ: لِمَ آمَنْتُمْ؟ فَأَجَابُوهُمْ بِهَذَا، {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} أَيْ: فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيَانُهُ ( {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ، 105) .
{وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) }
{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ} أَعْطَاهُمُ اللَّهُ، {بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} وَإِنَّمَا أَنْجَحَ قَوْلَهُمْ وَعَلَّقَ الثَّوَابَ بِالْقَوْلِ لِاقْتِرَانِهِ بِالْإِخْلَاصِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} يَعْنِي: الْمُوَحِّدِينَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ: "تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَّفُوا مِنَ الْحَقِّ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ وَالْمَعْرِفَةَ بِالْقَلْبِ مَعَ الْقَوْلِ يَكُونُ إِيمَانًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الْآيَةَ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: ذَكَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمًا وَوَصَفَ الْقِيَامَةَ، فَرَقَّ لَهُ النَّاسُ وَبَكُوا، فَاجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيِّ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو ذَرِّ الْغِفَارِيُّ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَتَشَاوَرُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَتَرَهَّبُوا وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ وَيَجُبُّوا مَذَاكِيرَهُمْ، وَيَصُومُوا الدَّهْرَ، وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ، وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْمَ وَالْوَدَكَ، وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَى دَارَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ فَلَمْ يُصَادِفْهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَاسْمُهَا الْخَوْلَاءُ، وَكَانَتْ عَطَّارَةً: أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي

(3/88)


عَنْ زَوْجِكَ وَأَصْحَابِهِ؟ فَكَرِهَتْ أَنْ تَكْذِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرِهَتْ أَنْ تُبْدِيَ عَلَى زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ بِشَيْءٍ فَقَدْ صَدَقَكَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكُمُ اتَّفَقْتُمْ عَلَى كَذَا وَكَذَا) ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَيْرَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ) ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَقُومُوا وَنَامُوا، فَإِنِّي أَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَآتِي النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالطِّيبَ وَالنَّوْمَ وَشَهَوَاتِ [النِّسَاءِ] (1) ؟ أَمَا إِنِّي لَسْتُ آمُرُكُمْ أَنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي دِينَيْ تَرْكُ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، وَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الصَّوْمُ وَرَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجِهَادُ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ وَاسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ لَكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ الْكُشْمِيهَنِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ أَنْعُمَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ائْذَنْ لَنَا فِي الْاخْتِصَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى وَلَا اخْتَصَى، خِصَاءُ أُمَّتِي الصِّيَامُ) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لَنَا فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ: (إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لَنَا فِي التَّرَهُّبِ، فَقَالَ: (إِنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتَيِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ) (3) .
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ مِنَ اللَّحْمِ فَانْتَشَرْتُ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ، فَحَرَّمْتُ اللَّحْمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (4)
__________
(1) في "ب": (الدنيا) .
(2) انظر: تفسير الطبري: 7 / 8-11، الدر المنثور: 3 / 141-142، أسباب النزول (236-237) .
(3) أخرجه المصنف في شرح السنة: 2 / 270-271، وفي مصابيح السنة: 1 / 225 (مشكاة المصابيح) . والحديث ضعيف، لضعف رشدين بن سعد وزياد بن أنعم الأفريقي. وللقطعة الثانية من الحديث "إن سياحة أمتي ... " شاهد عند أبي داود من حديث أبي أمامة في الجهاد باب النهي عن السياحة: 3 / 357. وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة: 3 / 479-480، مشكاة المصابيح: 1 / 225، مجمع الزوائد: 4 / 254.
(4) أخرجه الترمذي في التفسير، سورة المائدة: 8 / 415، وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم مرسلا، ليس فيه: عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا، وأخرجه الواحدي بسنده في أسباب النزول: ص (236) ، وأخرج الطبري في التفسير: 7 / 8 الرواية التي أشار إليها الترمذي، وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم وابن مردويه. انظر: الدر المنثور: 3 / 139، تفسير القرطبي: 6 / 260.

(3/89)


وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

يَعْنِي: اللَّذَّاتَ الَّتِي تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ، مِمَّا أُحِلَّ لَكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ الطَّيِّبَةِ وَالْمُشَارِبِ اللَّذِيذَةِ، {وَلَا تَعْتَدُوا} أَيْ: وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ، وَقِيلَ: هُوَ جَبُّ الْمَذَاكِيرِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: الْحَلَالُ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَالطَّيِّبُ مَا غَذَّى وَأَنْمَى، فَأَمَّا الْجَوَامِدُ كَالطِّينِ وَالتُّرَابِ وَمَا لَا يُغَذِّي فَمَكْرُوهٌ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ أَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ) (1) .

(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89))
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا نَزَلَتْ: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا الَّتِي حَلَفْنَا عَلَيْهَا؟ وَكَانُوا حَلَفُوا عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (2) {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ [وَأَبُو بكر] (3) (عقدتم) بالتحفيف، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (عَاقَدْتُمْ) بِالْأَلْفِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (عَقَّدْتُمْ) بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: وَكَّدْتُمْ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ قَصَدْتُمْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأشربة، باب الباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة: 10 / 62، والمصنف في شرح السنة: 11 / 308.
(2) أخرجه الطبري: 7 / 13. وانظر: أسباب النزول (237) .
(3) ساقط من "ب".

(3/90)


وَتَعَمَّدْتُمْ، {فَكَفَّارَتُهُ} أَيْ: كَفَّارَةُ مَا عَقَدْتُمُ الْأَيْمَانَ إِذَا حَنِثْتُمْ، {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنَ الطَّعَامِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رِطْلٌ وَثُلْثٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ الْيَسَارِ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ.
وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: عَلَيْهِ لِكُلِّ مسكين مُدّان، 11\أوَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَطْعَمَ مِنَ الْحِنْطَةِ فَنِصْفُ صَاعٍ، وَإِنْ أَطْعَمَ مِنْ غَيْرِهَا فَصَاعٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ.
وَلَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ لَا يَجُوزُ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلَا تَجُوزُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَلَا الْخُبْزُ وَلَا الدَّقِيقُ، بَلْ يَجِبُ إِخْرَاجُ الْحَبِّ إِلَيْهِمْ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ ذَلِكَ.
وَلَوْ صَرَفَ الْكُلَّ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ [لَا يَجُوزُ] (1) وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَصْرِفَ طَعَامَ عَشْرَةٍ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إِلَّا إِلَى مُسْلِمٍ حُرٍّ مُحْتَاجٍ، فَإِنْ صُرِفَ إِلَى ذِمِّيٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ غَنِيٍّ لَا يَجُوزُ، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ صَرْفَهَا إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أَيْ: مِنْ خَيْرِ قُوتِ عِيَالِكُمْ، وَقَالَ عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: الْأَوْسَطُ الْخُبْزُ وَالْخَلُّ، وَالْأَعْلَى الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ، وَالْأَدْنَى الْخُبْزُ الْبَحْتُ وَالْكُلُّ [يُجْزِئُ] (2) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} كُلُّ مَنْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَهُوَ فِيهَا مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةً مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَإِنْ شَاءَ كَسَاهُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، فَإِنِ اخْتَارَ الْكُسْوَةَ، فَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهَا:
فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَكْسُو كُلَّ مِسْكِينٍ ثَوْبًا وَاحِدًا مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكُسْوَةِ، إِزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ سَرَاوِيلُ أَوْ عِمَامَةٌ أَوْ كِسَاءٌ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ ومجاهد وعطاء وطاووس، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) ساقط من (ب) .
(2) في "ب": (مجزٍ) .

(3/91)


وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَا تَجُوزُ فِيهِ صَلَاتُهُ، فَيَكْسُو الرِّجَالَ ثَوْبًا وَاحِدًا وَالنِّسَاءَ ثَوْبَيْنِ دِرْعًا وَخِمَارًا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَانِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَإِذَا اخْتَارَ الْعِتْقَ يَجِبُ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْكَفَّارَاتِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يَجِبُ فِيهَا إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالثَّوْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِعْتَاقَ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي جَمِيعِهَا إِلَّا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الرَّقَبَةَ فِيهَا بِالْإِيمَانِ، قُلْنَا: الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ [كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الشَّهَادَةَ بِالْعَدَالَةِ فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ: "وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ"، (الطَّلَاقِ، 2) ، وَأُطْلِقَ فِي مَوْضِعٍ، فَقَالَ: "وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ" (الْبَقَرَةِ، 282) ، ثُمَّ الْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي جَمِيعِهَا حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ] (1) كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَلَا يَجُوزُ إِعْتَاقُ الْمُرْتَدِّ بِالِاتِّفَاقِ عَنِ الْكَفَّارَةِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الرِّقِّ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ مُكَاتِبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ عَبْدًا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ أَوِ اشْتَرَى قَرِيبَهُ الَّذِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، يُعْتِقُ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَجَوَّزَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَدَّى شَيْئًا مِنَ النُّجُومِ، وَعِتْقَ الْقَرِيبِ عَنِ الْكَفَّارَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ يَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا حَتَّى لَا يَجُوزَ مَقْطُوعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ، أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَا الْأَعْمَى وَلَا الزَّمِنُ وَلَا الْمَجْنُونُ الْمُطْبِقُ، وَيَجُوزُ الْأَعْوَرُ وَالْأَصَمُّ وَمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ لَا تَضُرُّ بِالْعَمَلِ ضَرَرًا بَيِّنًا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلُّ عَيْبٍ يُفَوِّتُ جِنْسًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ [عَلَى الْكَمَالِ] (2) يَمْنَعُ الْجَوَازَ، حَتَّى جَوَّزَ مَقْطُوعَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَلَمْ يُجَوِّزْ مَقْطُوعَ الْأُذُنَيْنِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} إِذَا عَجَزَ الَّذِي لَزِمَتْهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَنِ الْإِطْعَامِ وَالْكُسْوَةِ وَتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ، وَالْعَجْزُ أَنْ لَا يَفْضُلَ مِنْ مَالِهِ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ وَحَاجَتِهِ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُو أَوْ يُعْتِقُ فَإِنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا مَلَكَ مَا يُمْكِنُهُ الْإِطْعَامَ وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ كِفَايَتِهِ فَلَيْسَ لَهُ الصِّيَامُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ساقط من "ب".

(3/92)


وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي هَذَا الصَّوْمِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ بَلْ إِنْ شَاءَ تَابِعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ، وَالتَّتَابُعُ أَفْضَلُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه صيام ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. {ذَلِكَ} أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ، {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وَحَنِثْتُمْ، فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى جَوَازِهِ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (1) . وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ [وَابْنِ عُمَرَ] (2) وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَدَنِيٌّ، إِنَّمَا يَجُوزُ بِالْإِطْعَامِ أَوِ الْكُسْوَةِ أَوِ الْعِتْقِ كَمَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} قِيلَ: أَرَادَ بِهِ تَرْكَ الْحَلِفِ، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا، وَقِيلَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَرَادَ بِهِ: إِذَا حَلَفْتُمْ فَلَا تَحْنَثُوا، فَالْمُرَادُ مِنْهُ حِفْظُ الْيَمِينِ عَنِ الْحِنْثِ هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ يَمِينُهُ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ أَوْ فِعْلِ مَكْرُوهٍ، فَإِنْ حَلِفَ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ أَوْ تَرْكِ مَنْدُوبٍ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ، لِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ أَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيَتْهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (3) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
__________
(1) أخرجه مسلم في الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ... برقم (1650) : 3 / 1272، والمصنف في شرح السنة: 10 / 17.
(2) ساقط من (ب) .
(3) أخرجه الإمام مسلم في الأيمان، في الموضع السابق، برقم (1652) : 3 / 1273-1274، وفي الإمارة: 3 / 1456، والمصنف في شرح السنة 10 / 56، دون قوله "وإذا حلفت على يمين ... ".

(3/93)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} أَيِ: الْقِمَارُ {وَالْأَنْصَابُ} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْصِبُونَهَا، وَاحِدُهَا نَصْبٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَنُصْبٌ بِضَمِّ النُّونِ مُخَفَّفًا وَمُثْقَلًا {وَالْأَزْلَامُ} يَعْنِي: الْأَقْدَاحَ الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا وَاحِدُهَا زَلَمٌ {رِجْسٌ} خَبِيثٌ مُسْتَقْذَرٌ، {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} مِنْ تَزْيِينِهِ، {فَاجْتَنِبُوهُ} رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الرِّجْسِ، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

(3/94)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أَمَّا الْعَدَوَاةُ فِي الْخَمْرِ فَإِنَّ الشَّارِبِينَ إِذَا سَكِرُوا عَرْبَدُوا وَتَشَاجَرُوا، كَمَا فَعَلَ الْأَنْصَارِيُّ الَّذِي شَجَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ بَلَحْيِ الْجَمَلِ أَمَّا الْعَدَاوَةُ فِي الْمَيْسِرِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الرَّجُلُ يُقَامِرُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ ثُمَّ يَبْقَى حَزِينًا مَسْلُوبَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ مُغْتَاظًا عَلَى [حُرَفَائِهِ] (1) . {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوِ الْقِمَارِ أَلْهَاهُ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَشَوَّشَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ كَمَا فَعَلَ بِأَضْيَافِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، تَقَدَّمَ رَجُلٌ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ صلاة المغرب 111/ب بَعْدَمَا شَرِبُوا فَقَرَأَ "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ": أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، بِحَذْفٍ لَا (2) {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أَيِ: انْتَهُوا، اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ"؟ (سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ، 80) .
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} الْمَحَارِمَ وَالْمَنَاهِيَ، {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}
وَفِي وَعِيدِ شَارِبِ الْخَمْرِ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفُورَانِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ ثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْمَحْمُودِيُّ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَاسَرْجِسِيُّ بِنَيْسَابُورَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ قُدَامَةَ حَدَّثَنَا أَخِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ
__________
(1) في "ب" (حؤفانه) .
(2) انظر: الدر المنثور: 3 / 164.

(3/94)


وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ مُسْكِرٍ حرام، وإن ختما عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَشْرَبَهُ عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ، هَلْ تَدْرُونَ مَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ " قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ" (1) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ" (2) .
وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ أُبَيٍّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْغَافِقِيِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: "لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَآكِلَ ثَمَنِهَا" (3) .
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
__________
(1) أخرجه المصنف في شرح السنة: 11 / 356، وفيه عبد الملك بن قدامة، وهو ضعيف، ويشهد له عدة أحاديث صحيحة عن جابر بن عبد الله وغيره منها حديث جابر عند مسلم، برقم (2002) في الأشربة وحديث ابن عمر عند مسلم برقم (2003) وهو الآتي.
(2) أخرجه مسلم في الأشربة، باب عقوبة من شرب الخمر إذ1 لم يتب منها ... برقم (2003) : 3 / 1588، والمصنف في شرح السنة: 11 / 355.
(3) أخرجه أبو داود في الأشربة، باب العنب بعصر للخمر: 5 / 260، وابن ماجه في الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه برقم (3380) : 2 / 1121، والإمام أحمد في المسند: 2 / 97، وفيه: عبد الرحمن الغافقي. قال المنذري: سئل عنه ابن معين؟ فقال: لا أعرفه، وذكره ابن يونس في تاريخه وقال: روى عن ابن عمر، وأبو طعمة: رماه مكحول بالكذب، وللحديث شواهد يتقوى بها، لذلك قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، (4 / 73) : "صححه ابن السكن، وفي الباب عن أنس بن مالك: رواه الترمذي وابن ماجه، ورواته ثقات، وعن ابن عباس: رواه أحمد وابن حبان والحاكم، وعن ابن مسعود: ذكره ابن أبي حاتم في العلل، وعن أبي هريرة مرفوعا: "إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه". ورواه أبو داود، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص".

(3/95)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ [وَيَأْكُلُونَ] (1) مِنْ مَالِ الْمَيْسِرِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} وَشَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ وَأَكَلُوا مِنْ مَالِ الْمَيْسِرِ، {إِذَا مَا اتَّقَوْا} الشِّرْكَ، {وَآمَنُوا} وَصَدَّقُوا، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا} الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهِمَا، {وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا} مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَكْلَهُ وَشُرْبَهُ، {وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَقِيلَ: مَعْنَى الْأَوَّلِ إِذْ مَا اتَّقَوُا الشِّرْكَ، وَآمَنُوا وَصَدَّقُوا ثُمَّ اتَّقَوْا، أَيْ: دَاوَمُوا عَلَى ذَلِكَ التَّقْوَى، {وَآمَنُوا} ازْدَادُوا إِيمَانًا، ثُمَّ اتَّقَوُا الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا وَأَحْسَنُوا، وَقِيلَ: أَيِ: اتَّقَوْا بِالْإِحْسَانِ، وَكُلُّ مُحْسِنٍ مُتَّقٍ، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الْآيَةَ، نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالصَّيْدِ، وَكَانَتِ الْوُحُوشُ تَغْشَى رِحَالَهُمْ مِنْ كَثْرَتِهَا فَهَمُّوا بِأَخْذِهَا فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} ليختبركم اللَّهُ، وَفَائِدَةُ الْبَلْوَى إِظْهَارُ الْمُطِيعِ مِنَ الْعَاصِي، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى الْبَلْوَى بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ، وَإِنَّمَا بَعَّضَ، فَقَالَ {بِشَيْءٍ} لِأَنَّهُ ابْتَلَاهُمْ بِصَيْدِ الْبَرِّ خَاصَّةً. {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يَعْنِي: الْفَرْخَ وَالْبَيْضَ وَمَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ صِغَارِ الصَّيْدِ، {وَرِمَاحُكُمْ} يَعْنِي: الْكِبَارَ مِنَ الصَّيْدِ، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} لِيَرَى اللَّهُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ، {مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} أَيْ: يَخَافُ اللَّهَ وَلَمْ يَرَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ" (الْأَنْبِيَاءِ، 49) أَيْ: يَخَافُهُ فَلَا يَصْطَادُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ: صَادَ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: [يُوجَعُ] (2) ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ جَلْدًا، وَيُسْلَبُ ثِيَابُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95))
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أَيْ: مُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهُوَ جَمْعُ حَرَامٍ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَامٌ وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ، وَقَدْ يَكُونُ [مِنْ] (3) دُخُولِ الْحَرَمِ، يُقَالُ:
__________
(1) في "ب": (وأكلوا) .
(2) في "ب": (يوسع) .
(3) في "ب": (بمعنى) .

(3/96)


أَحْرَمَ الرَّجُلُ إِذَا عَقَدَ الْإِحْرَامَ، وَأَحْرَمَ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ. نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْيُسْرِ شَدَّ عَلَى حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْعَمْدِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْعَمْدُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ مَعَ نِسْيَانِ الْإِحْرَامِ، أَمَّا إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَهُوَ ذَاكِرٌ لِإِحْرَامِهِ فَلَا حُكْمَ عَلَيْهِ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَفَّارَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ أَنْ يَعْمِدَ الْمُحْرِمُ قَتْلَ الصَّيْدِ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَتَلَهُ خَطَأً، فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ سَوَاءٌ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَلَى الْمُتَعَمِّدِ بِالْكِتَابِ وَعَلَى الْمُخْطِئِ بِالسُّنَّةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ [جُبَيْرٍ] (1) لَا تَجِبُ كَفَّارَةُ الصَّيْدِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ، بَلْ يَخْتَصُّ بِالْعَمْدِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ " فَجَزَاءٌ " مُنَوَّنٌ، {مِثْلُ} رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْجَزَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْإِضَافَةِ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} {مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّيْدِ مِنَ النَّعَمِ، وَأَرَادَ بِهِ مَا يَقْرُبُ مِنَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ شَبَهًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ.
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أَيْ: يَحْكُمُ بِالْجَزَاءِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا فَقِيهَيْنِ يَنْظُرَانِ إِلَى أَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ النَّعَمِ فَيَحْكُمَانِ بِهِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى إِيجَابِ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَكَمُوا فِي بُلْدَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَزْمَانٍ شَتَّى بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، يَحْكُمُ حَاكِمٌ فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ وَهِيَ لَا تُسَاوِي بَدَنَةً، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بِبَقَرَةٍ [وَهِيَ لَا تُسَاوِي بَقَرَةٍ] (2) وَفِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَهِيَ لَا تُسَاوِي كَبْشًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنَ الصَّيْدِ شَبَهًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةِ [لَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ] (3) وَتَجِبُ فِي الْحَمَامِ شَاةٌ، وَهُوَ كُلُّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ مِنَ الطَّيْرِ، كَالْفَاخِتَةِ وَالْقُمْرِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي حَمَامِ مَكَّةَ بِشَاةٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي
__________
(1) في "ب": المسيب.
(2) زيادة من "ب".
(3) ساقط من "ب".

(3/97)


الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أَيْ: يُهْدِي تِلْكَ الْكَفَّارَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَيَذْبَحُهَا بِمَكَّةَ وَيَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} قَالَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعِدْلُ بِالْكَسْرِ: الْمِثْلُ مِنْ جِنْسِهِ، وَالْعَدْلُ بِالْفَتْحِ: الْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَأَرَادَ بِهِ: أَنَّهُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ، فَيَتَصَدَّقَ بلحمه على المساكين الْحَرَمِ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا، فَيَتَصَدَّقَ بالطعام على المساكين الْحَرَمِ، أَوْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنَ الطَّعَامِ يَوْمًا وَلَهُ أَنْ يَصُومَ حَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ لِلْمَسَاكِينِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ لَمْ يُخْرِجِ الْمِثْلَ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ ثُمَّ يَجْعَلُ الْقِيمَةَ طَعَامًا فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ يَصُومُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَجِبُ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ، بَلْ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ تِلْكَ الْقِيمَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعَمِ، وَإِنْ شَاءَ إِلَى الطَّعَامِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ يَوْمًا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ جَزَاءُ الصَّيْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى التخيير.
قوله 112\أتَعَالَى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أَيْ: جَزَاءَ مَعْصِيَتِهِ، {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} يَعْنِي: قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَنُزُولِ الْآيَةِ، قَالَ السُّدِّيُّ: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} فِي الْآخِرَةِ. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وَإِذَا تَكَرَّرَ مِنَ الْمُحْرِمِ قَتْلُ الصَّيْدِ فَيَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مُتَعَمِّدًا يُسْأَلُ هَلْ قَتَلْتَ قَبْلَهُ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: اذْهَبْ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أَقْتُلْ قَبْلَهُ شَيْئًا حُكِمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُمْلَأُ ظَهْرُهُ وَصَدْرُهُ ضَرْبًا وَجِيعًا، وَكَذَلِكَ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجٍّ وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ (2) .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحج، باب فدية ما أصيب من الطير والوحش: 1 / 414، والشافعي في المسند: 1 / 330-331، والبيهقي في السنن: 5 / 183، وصححه الألباني في إرواء الغليل: 4 / 245، وانظر: تلخيص الحبير: 2 / 278.
(2) قطعة من حديث أخرجه أبو داود في المناسك، باب في مال الكعبة: 2 / 441-442، بلفظ " ... إن صيد وَجّ وعضاهه حرم، محرم لله.."، والإمام أحمد في المسند برقم (1416) طبع الحلبي، وصححه أحمد شاكر. قال المنذري: في إسناده محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي وأبوه، فأما محمد فسئل عنه الرازي فقال: ليس بالقوي، وفي حديثه نظر، وذكره البخاري في تاريخه الكبير ج1 ق1 / 140، وذكر له هذا الحديث، وقال: لم يتابع عليه. وذكر أباه وأشار إلى هذا الحديث، وقال: لم يصح حديثه. وقال البستي: عبد الله بن إنسان، روى عنه ابنه محمد ولم يصح حديثه. وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: 2 / 280 "سكت عليه أبو داود، وحسنه الترمذي وسكت عليه عبد الحق، وذكر الذهبي أن الشافعي صححه، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه". وقال النووي في المجموع: 7 / 449 "رواه البيهقي وإسناده ضعيف".

(3/98)


وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُحْرِمِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ لَحْمِ الصَّيْدِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وهو قول طاووس وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللِّيثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي وَجْهِي، قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ" (1) .
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ إِذَا لَمْ يَصْطَدْ بِنَفْسِهِ وَلَا اصْطِيدَ لِأَجْلِهِ أَوْ بِإِشَارَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَإِنَّمَا رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رَبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ، تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ وَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَى بَعْضُهُمْ فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ تَعَالَى" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ عَنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا لم يقبل: 4 / 31، وفي الهبة، ومسلم في الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، برقم (1193) : 2 / 850، والمصنف في شرح السنة: 7 / 260.
(2) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما جاء في التصيد: 9 / 613، ومسلم في الحج باب تحريم الصيد للمحرم، برقم (1196) : 2 / 852.

(3/99)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الْإِحْرَامِ حَلَالٌ، مَا لَمْ تصيدوه أو يُصاد لَكُمْ" (1) قَالَ أَبُو عِيسَى: الْمُطَّلِبُ لَا نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ مِثْلُ بَيْضٍ أَوْ طَائِرٍ دُونَ الْحَمَامِ فَفِيهِ قِيمَةٌ يَصْرِفُهَا إِلَى الطَّعَامِ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَرَادِ فَرَخَّصَ فِيهِ قَوْمٌ لِلْمُحْرِمِ وَقَالُوا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، قَالَ عُمَرُ: فِي الْجَرَادِ تَمْرَةٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ جَمِيعُ الْمِيَاهِ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ وَطَعَامُهُ مَا رُمِيَ بِهِ" (2) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: طَعَامُهُ مَا قَذَفَهُ الْمَاءُ إِلَى السَّاحِلِ مَيْتًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْمَالِحُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَيْدُهُ: طَرِيُّهُ، وَطَعَامُهُ: مَالِحُهُ، مَتَاعًا لَكُمْ أَيْ: مَنْفَعَةً لَكُمْ، وَلِلسَّيَّارَةِ يَعْنِي: الْمَارَّةَ.
وَجُمْلَةُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: سَمَكٌ وَغَيْرُهُ، أَمَّا السَّمَكُ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ مَعَ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ [وَدَمَانِ: الْمَيْتَتَانِ] الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ: [الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ] (3) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ أَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحِلُّ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ مِنْ وُقُوعٍ عَلَى حَجَرٍ أَوِ انْحِسَارِ الْمَاءِ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في المناسك، باب لحم الصيد للمحرم: 2 / 362، بلفظ "صيد البر لكم حلال.."، والترمذي في الحج، باب ما جاء في أكل لحم الصيد للمحرم: 3 / 584، والنسائي في الحج، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله حلال: 5 / 187، وصححه ابن حبان، ص (243) من الموارد، والحاكم: 1 / 452، والشافعي: 1 / 322-323 (ترتيب المسند) ، والمصنف في شرح السنة: 7 / 263-264. والمطلب بن حنظب المخزومي: صدوق كثير التدليس والإرسال. وعمرو بن أبي عمرو: مختلف فيه وإن كان من رجال الصحيحين. انظر: تلخيص الحبير: 2 / 26.
(2) انظر: تفسير الطبري: 8 / 63 (طبع الحلبي) .
(3) ما بين القوسين من "شرح السنة" ومن نسخة "ب"، والحديث أخرجه الشافعي في ترتيب المسند: 2 / 173، وابن ماجه في الأطعمة، باب الكبد والطحال، برقم (3314) : 2 / 1102، والدارقطني في الصيد والذبائح: 4 / 271-272، والإمام أحمد: 2 / 97 عن ابن عمر مرفوعا. ورواه البيهقي موقوفا وقال: هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، السنن: 1 / 254. وعزاه الزيلعي أيضا لعبد بن حميد وابن حبان في الضعفاء، وأعله بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع الموقوفات وإسناد المراسيل، فاستحق الترك. انظر: نصب الراية: 4 / 201-202. وعزاه أيضا ابن حجر لابن مردويه في التفسير عن أبي سعيد مرفوعا، وقال: ذكره الدارقطني في العلل ... والرواية الموقوفة التي صححها أبو حاتم وغيره هي في حكم المرفوع، لأن قول الصحابي: أحل لنا، وحرم علينا كذا، مثل قوله: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، فيحصل الاستدلال بهذه الرواية، لأنها في معنى المرفوع". تلخيص الحبير: 1 / 26. وأخرجه أيضا: المصنف في شرح السنة: 11 / 244.

(3/100)


أَمَّا غَيْرُ السَّمَكِ فَقِسْمَانِ: قِسْمٌ يَعِيشُ في البر كالضغدع وَالسَّرَطَانِ، فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَقِسْمٌ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَلَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ إِلَّا عَيْشَ الْمَذْبُوحِ، فَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِيهِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا السَّمَكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ [مَيِّتَ الْمَاءِ كُلَّهَا حَلَالٌ] (1) لِأَنَّ كُلَّهَا سَمَكٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا، [كَالْجَرِيثِ] (2) يُقَالُ لَهُ حَيَّةُ الْمَاءِ، وَهُوَ عَلَى شَكْلِ الْحَيَّةِ وَأَكْلُهُ مُبَاحٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَرِّ يُؤْكَلُ، فَمَيْتَتُهُ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ حَلَالٌ، مِثْلُ بَقَرِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ لَا يَحِلُّ مَيْتَتُهُ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، مِثْلُ كَلْبِ الْمَاءِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْحِمَارِ وَنَحْوِهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كُلُّ شَيْءٍ عَيْشُهُ فِي الْمَاءِ فَهُوَ حَلَالٌ، قِيلَ: فَالتِّمْسَاحُ؟ قَالَ نَعَمْ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُمْ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِالسَّرَطَانِ بَأْسًا.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَبَاحَ جَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ [سَلْمَانَ] (3) عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ آلِ بَنِي الْأَزْرَقِ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا به عطشنا، أفتوضأ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" (4) .
__________
(1) هذه العبارة جاءت في "أ" هكذا: (رميت الكل حلال) .
(2) في "ب": (كالحربة) .
(3) في "ب" (سليم) .
(4) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر: 1 / 81، والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور: 1 / 225 وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الطهارة، باب ماء البحر: 1 / 50، وابن ماجه في الطهارة، باب الوضوء بماء البحر: 1 / 50، ومالك في الموطأ: 1 / 22، وصححه الحاكم: 1 / 140-141، وابن حبان برقم (119) ، وأخرجه الشافعي: 1 / 23 (ترتيب المسند) والدارقطني: 1 / 34-35، والمصنف في شرح السنة: 2 / 55. وانظر تلخيص الحبير: 1 / 9-12.

(3/101)


أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: غَزَوْتُ جَيْشَ الْخَبَطِ وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيْتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ، يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ. وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ" فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَأَكَلُوهُ (1) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 112/ب صَيْدُ الْبَحْرِ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِ، كَمَا هُوَ حَلَالٌ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، أَمَّا صَيْدُ الْبَرِّ فَحَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ، وَالصَّيْدُ هُوَ الْحَيَوَانُ الْوَحْشِيُّ الَّذِي يَحِلُّ أَكْلُهُ، أَمَّا مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَلَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ، وَلِلْمُحْرِمِ أَخْذُهُ وَقَتْلُهُ، وَلَا جَزَاءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ إِلَّا الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا يُؤْكَلُ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالظَّبْيِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَيَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ، لِأَنَّ فِيهِ جَزَاءٌ مِنَ الصَّيْدِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة سيف البحر: 8 / 78 واللفظ له، ومسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة ميتات البحر، برقم (1935) : 3 / 1535 والمصنف في شرح السنة: 11 / 246. وقد يعجب بعض الناس من ضخامة هذه الدابة: وقد يظن بعضهم أن في هذا مبالغة، وقد يدفعه ذلك إلى تكذيب الرواية. ونحن هنا أمام نص صحيح ووثيقة صادقة، فالحديث صحيح سندا، إذ اتفق على تخريجه البخاري ومسلم، وهما في أعلى درجات الصحة، والحديث صحيح متنا، وإليك مثلا قريبا من عجائب مخلوقات الله تعالى يدل على ذلك، ذكره المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي في صحيح مسلم، في الجزء الذي خصصه للفهارس: 5 / 586: (1) نشرت جريدة الأهرام القاهرية، في العدد (24419) ، بتاريخ: 27 / 9 / 1953 الصفحة الثانية، عمود 7، تحت عنوان: "حوت يونس": اجتازت شوارع باريس أمس سيارة نقل طولها (30) مترا، يقال إنها أطول سيارة نقل في العالم، وكانت تقل "يونس"، وهو حوت ضخم عمره (18) شهرا، وطوله (20) مترا، ووزنه (8000) كيلو جرام. وقد حنطه أصحابه وقاموا بعرضه على النظارة في النرويج والسويد والدنمارك والنمسا وألمانيا. وسيعرض في باريس هذا الأسبوع لقاء أجر معلوم. وقد أضيء باطنه بالمصابيح الكهربائية ليتسنى للنظارة رؤية جوفه. (2) نشرت جريدة "الأخبار الجديدة" في العدد (396) بتاريخ 27 / 9 / 1953، الصفحة الثانية، عمود 1و2، تحت عنوان: "حوت طوله 20 مترا ووزنه 8 أطنان الناس يدخلون بطنه، (10) كل دفعة: باريس: دخل صباح اليوم "أونا" باريس دخول الفاتحين، يحرسه عشرات من رجال البوليس الراكب والراجل. أما "أونا" هذا: فهو حوت نرويجي ضخم.. ثم تابعت وصف الحوت فقالت: ويسمح للناس بدخول كرشه المضاء بالكهرباء. ويستطيع عشرة أشخاص أن يدخلوا بطنه مرة واحدة.. إلخ.

(3/102)


عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِي" (2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَمْسٌ قَتْلُهُنَّ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ" (3) .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ كُلُّ سَبُعٍ يَعْقِرُ، وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، مِنَ الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا إِلَّا الْأَعْيَانَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْخَبَرِ، وَقَاسُوا عَلَيْهَا الذِّئْبَ فَلَمْ يُوجِبُوا فِيهِ الْكَفَّارَةَ، وَقَاسَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا جَمِيعَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَعْيَانٍ بَعْضُهَا سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ وَبَعْضُهَا هَوَامٌ قَاتِلَةٌ وَبَعْضُهَا طَيْرٌ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى السِّبَاعِ وَلَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ [الْهَوَامِ] (4) وَإِنَّمَا هِيَ حَيَوَانٌ مُسْتَخْبَثُ اللَّحْمِ، وَتَحْرِيمُ الْأَكْلِ يَجْمَعُ الْكُلَّ فَاعْتَبَرَهُ وَرَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب: 4 / 34، وفي بدء الخلق، ومسلم في الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، برقم (1199) : 2 / 857. والمصنف في شرح السنة: 7 / 266.
(2) أخرجه أبو داود في المناسك، باب ما يقتل المحرم من الدواب: 2 / 360 مطولا، والترمذي في الحج، باب ما يقتل المحرم من الدواب: 3 / 577، وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجه في المناسك، باب ما يقتل المحرم: 2 / 1032، والإمام أحمد في المسند: 3 / 3، والمصنف في شرح السنة: 7 / 267. قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير: 2 / 274 "وفي إسناده زيد بن أبي زياد، وهو ضعيف".
(3) أخرجه أبو داود في الموضع السابق نفسه، والترمذي في الموضع السابق عن عائشة، وقال: حديث حسن صحيح وفي إسناد أبي داود: ابن عجلان. ويتقوى بالحديث السابق وغيره.
(4) في "ب": (السباع) .

(3/103)


أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِتَرْبِيعِهَا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ كَعْبَةً، قَالَ مُقَاتِلٌ: سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِانْفِرَادِهَا مِنَ الْبِنَاءِ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِارْتِفَاعِهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْخُرُوجِ وَالِارْتِفَاعِ، وسمي الكعب عكبا لِنُتُوئِهِ، وَخُرُوجِهِ مِنْ جانبي

(3/103)


اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

القدم، ومن قِيلَ لِلْجَارِيَةِ إِذَا قَارَبَتِ الْبُلُوغَ وَخَرَجَ ثَدْيُهَا: تَكَعَّبَتْ. وَسُمِّيَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهُ وَعَظَّمَ حُرْمَتَهُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ" (1) {قِيَامًا لِلنَّاسِ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (قِيَمًا) بِلَا أَلْفٍ وَالْآخَرُونَ: "قِيَامًا" بِالْأَلْفِ، أَيْ: قَوَامًا لَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، أَمَّا الدِّينُ لِأَنَّ بِهِ يَقُومُ الْحَجُّ وَالْمَنَاسِكُ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فِيمَا يُجْبَى إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَكَانُوا يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنَ النَّهَارِ وَالْغَارَةِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ فِي الْحَرَمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (الْعَنْكَبُوتِ-67) {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أَرَادَ بِهِ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وهي ذو العقده وذو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، أَرَادَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ قِيَامًا لِلنَّاسِ يَأْمَنُونَ فِيهَا الْقِتَالَ، {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} أَرَادَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ، فَذَلِكَ الْقَوَامُ فِيهِ.
{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ اتِّصَالٍ لِهَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ؟ قِيلَ: أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ صَلَاحَ الْعِبَادِ كَمَا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَدْ سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِخْبَارُ عَنِ الْغُيُوبِ وَالْكَشْفُ عَنِ الْأَسْرَارِ، مِثْلُ قَوْلِهِ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) ، وَمِثْلُ إِخْبَارِهِ بِتَحْرِيفِهِمُ الْكُتُبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} رَاجِعٌ إِلَيْهِ.
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) }
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [التَّبْلِيغُ] (2) {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}
{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} أَيِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} سَرَّكَ {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب رقم (35) : 8 / 26، ومسلم بنحوه في الحج، باب تحريم مكة وصيدها، برقم (1353) : 2 / 986، والمصنف في شرح السنة: 7 / 294.
(2) ساقط من "ب".

(3/104)


نَزَلَتْ فِي شُرَيْحِ بْنِ [ضُبَيْعَةَ] (1) الْبَكْرِيِّ، وَحَجَّاجِ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ (2) {فَاتَّقُوا اللَّهَ} وَلَا تَتَعَرَّضُوا لِلْحُجَّاجِ وَإِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَقَدْ مَضَتِ الْقِصَّةُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الْآيَةَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ أَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ"، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كَانَ رَجُلٌ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالُ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ "حُذَافَةُ": ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنِّي صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الْحَائِطِ"، وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (3) .
قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أَعَقَّ مِنْكَ، أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أمك قد فارقت بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحَهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَاللَّهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ (4) . وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ فَاعْفُ عَنَّا يَعْفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْكَ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ أَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ أَنَا أَبُو جُوَيْرِيَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ
__________
(1) في "أ": (ضبعة) وهو خطأ.
(2) انظر فيما سلف، سبب نزول الآية الثانية من السورة، ص (7-8) .
(3) أخرجه البخاري في الفتن، باب التعوذ من الفتن: 13 / 43، ومسلم في الفضائل، باب توقيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، برقم (2359) : 4 / 1833-1834. ومعنى أَحْفَوه: أي أكثروا في الإلحاح والمبالغة فيه. يقال: أحفى وألحف وألحَّ، بمعنى. و"لاحى": من الملاحاة وهي المماراة والمجادلة. و"أنشأ": أي ابتدأ.
(4) انظر: صحيح مسلم في الموضع السابق.

(3/105)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا (1) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى عَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَقُولَ نَعَمْ؟ وَاللَّهِ لَوْ قَلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَاتْرُكُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (2) أَيْ: إِنْ تَظْهَرْ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، أَيْ: إِنْ أُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ بِهَا فَإِنَّ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْحَجِّ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ فِي كُلِّ عَامٍ فَيَسُوءُهُ، وَمَنْ سَأَلَ عَنْ نَسَبِهِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ أَنْ يُلْحِقَهُ بِغَيْرِهِ فَيُفْتَضَحُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ (3) نَزَلَتْ حِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، أَلَا تَرَاهُ ذَكَرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} 113\أمَعْنَاهُ صَبَرْتُمْ حَتَّى يَنْزِلَ الْقُرْآنُ بِحُكْمٍ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ حُكْمٍ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ شَرْحُ مَا بِكُمْ إِلَيْهِ حاجة ومست جاحتكم إِلَيْهِ، فَإِذَا سَأَلْتُمْ عنها حينئذ تبد لَكُمْ، {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) }
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} كَمَا سَأَلَتْ ثَمُودُ صَالِحًا النَّاقَةَ وَسَأَلَ قَوْمُ عِيسَى الْمَائِدَةَ، {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} فَأُهْلِكُوا، قَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ: "إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَنَهَى
__________
(1) أخرجه البخاري في تفسير سورة المائدة، باب "لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم": 8 / 280.
(2) أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه في تفسير سورة المائدة: 8 / 420 وقال هذا حديث حسن غريب من حديث علي. وابن ماجه في المناسك، برقم (2884) : 2 / 963، قال في تحفة الأحوذي: "وهو منقطع". وأصل الحديث في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، برقم (1337) : 2 / 975، وعند المصنف في شرح السنة: 7 / 3، وانظر: الدر المنثور: 3 / 206.
(3) قارن بالدر المنثور للسيوطي: 3 / 208 فقد ذكر عن مجاهد أنها نزلت في السؤال عن الحج، كما سبق، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(3/106)


عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا (1) .

(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103))
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} أَيْ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ، {وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَيَانِ هَذِهِ [الْأَوْضَاعِ] (2) الْبَحِيرَةُ هِيَ النَّاقَةُ الَّتِي كَانَتْ إِذَا وَلَدَتْ خَمْسَةَ أَبْطُنٍ بَحَرُوا أُذُنَهَا، أَيْ: شَقُّوهَا وَتَرَكُوا الْحَمْلَ عَلَيْهَا وَرُكُوبَهَا، وَلَمْ يَجُزُّوا وَبَرَهَا وَلَمْ يَمْنَعُوهَا الْمَاءَ وَالْكَلَأَ ثم نظروا إلا خَامِسِ وَلَدِهَا فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا نَحَرُوهُ وَأَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى بَحَرُوا أُذُنَهَا، أَيْ: شَقُّوهَا وَتَرَكُوهَا وَحُرِّمَ عَلَى النِّسَاءِ لَبَنُهَا وَمَنَافِعُهَا، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا خَاصَّةً لِلرِّجَالِ، فَإِذَا مَاتَتْ حَلَّتْ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
وَقِيلَ: كَانَتِ النَّاقَةُ إِذَا تَابَعَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِنَاثًا سُيِّبَتْ فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّ أُذُنُهَا ثُمَّ خُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا فِي الْإِبِلِ، فَلَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرُهَا وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إِلَّا ضَيْفٌ، كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: السَّائِبَةُ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسَيَّبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا مَرِضَ وَغَابَ لَهُ قَرِيبٌ نَذَرَ فَقَالَ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ تَعَالَى أَوْ شُفِيَ مَرِيضِي أَوْ عَادَ غَائِبِي، فَنَاقَتِي هَذِهِ سَائِبَةٌ، ثُمَّ يُسَيِّبُهَا فَلَا تُحْبَسُ عَنْ رَعْيٍ وَلَا مَاءٍ وَلَا يَرْكَبُهَا أَحَدٌ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْبَحِيرَةِ.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الْعَبْدُ يُسَيَّبُ عَلَى أَنْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ وَلَا عَقْلَ وَلَا مِيرَاثَ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (3) .
وَالسَّائِبَةُ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولَةِ، وَهِيَ الْمُسَيَّبَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَاءٍ دَافِقٍ} أَيْ: مَدْفُوقٍ وَ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}
__________
(1) أخرجه الدارقطني مرفوعا عن أبي ثعلبة، وفي السنن: كتاب الرضاع: 4 / 184، وحسنه النووي في الأربعين، وأخرجه أيضا عن أبي سعيد الخدري: 4 / 298 وفيه قصة في سندها: نهشل الخراساني، قال إسحاق بن راهويه: كان كذابا. وقال أبو حاتم: متروك. قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة. وله علتان: إحداهما: أن مكحولا لم يصح له سماع من أبي ثعلبة. والثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة. وقد روي معنى الحديث مرفوعا من وجوه أخر. خرجه البزار في مسنده، والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء، والبزار، وقال: إسناده حسن ورجاله موثقون. وعزا حديث أبي ثعلبة للطبراني في الكبير، وقال: رجاله رجال الصحيح، انظر: جامع العلوم والحكم ص (260-261) ، مجمع الزوائد: 1 / 171.
(2) في "ب": (الأوضاح) .
(3) أخرجه البخاري في الفرائض، باب الولاء لمن أعتق: 12 / 39، وفي العتق، ومسلم في العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، برقم (1504) : 2 / 1141، والمصنف في شرح السنة: 8 / 348.

(3/107)


وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ: فَمِنَ الْغَنَمِ كَانَتِ الشَّاةُ إِذَا وَلَدَتْ سَبْعَةَ أَبْطُنٍ فَإِذَا كَانَ السَّابِعُ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى تَرَكُوهَا فِي الْغَنَمِ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى اسْتَحْيَوُا الذَّكَرَ مِنْ أَجْلِ الْأُنْثَى، وَقَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا فَلَمْ يَذْبَحُوهُ، وَكَانَ لَبَنُ الْأُنْثَى حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، فَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَيْءٌ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ جَمِيعًا.
وَأَمَّا الْحَامُ: فَهُوَ الْفَحْلُ إِذَا رُكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ، وَيُقَالُ: إِذَا نَتَجَ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَةُ أَبْطُنٍ، قَالُوا: حُمِيَ ظَهْرُهُ فَلَا يُرْكَبُ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ كَلَأٍ وَلَا مَاءٍ، فَإِذَا مَاتَ أَكَلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ" (1) .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ] (2) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَكْثَمَ بْنِ جَوْنٍ الْخُزَاعِيِّ: "يَا أَكْثَمُ رَأَيْتَ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ [بْنِ خَنْدَقٍ] (3) يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ فما رأيت رجل أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلَا بِهِ مِنْكَ" وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ وَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِ، "فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِ قُصْبِهِ"، فَقَالَ أَكْثَمُ: أَيَضُرُّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ" (4) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فِي قَوْلِهِمُ اللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام": 8 / 283، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها الجبارون، برقم (2856) : 4 / 2191.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) أخرجه الطبري في التفسير: 11 / 118، وابن إسحاق في السيرة: 1 / 76، ونسبه ابن حجر أيضا لابن أبي عروبة وابن منده من طريق ابن إسحاق، ثم قال: والحديث مخرج عند مسلم من طريق سهيل بن صالح عن أبيه أخصر منه، دون قصة أكثم (وهو يشير إلى الحديث السابق) . انظر: الإصابة: 1 / 107، أسد الغابة: 1 / 133، تفسير ابن كثير: 2 / 108، البداية والنهاية: 2 / 187-189.

(3/108)


مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) }
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} فِي تَحْلِيلِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ، {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} مِنَ الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}

(3/109)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَلَا تَدْرُونَ مَا هِيَ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِقَابِهِ" (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ "لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليكم شراركم فليسومونكم سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَيَدْعُوَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِيَارَكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ [لَكُمْ] (2) " (3) .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: خَافَ الصِّدِّيقُ أَنْ يَتَأَوَّلَ النَّاسُ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ مُتَأَوَّلِهَا فَيَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ [وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ] (4) فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَأَنَّ الَّذِي أُذِنَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَغْيِيرِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ، هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ الْمُعَاهَدُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِهِ، وَقَدْ صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّا
__________
(1) أخرجه أبو داود في الملاحم، باب الأمر والنهي: 6 / 187، وعزاه المنذري للنسائي، وأخرجه الترمذي في الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر: 6 / 388، وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضا في التفسير، وابن ماجه في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (4005) : 2 / 1327، وصححه ابن حبان برقم (1837) ص (455) ، والإمام أحمد في المسند: 1 / 5،7، وأبو بكر المروزي في مسند الصديق ص (128-131) ، والمصنف في شرح السنة: 14 / 344.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد: 13 / 92، ورواه الطبراني في الأوسط والبزار في مسنده. قال الهيثمي: وفيه حبان بن علي، وهو متروك، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها. وقال العراقي: كلا طريقيه ضعيف. انظر: مجمع الزوائد: 7 / 266، فيض القدير: 5 / 261.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(3/109)


الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالرَّيْبُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَعْنِي: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَخُذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَاتْرُكُوهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَزَلَ مِنْهُ آيٌ: قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ، وَمِنْهُ آيٌ: قَدْ وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ آيٌ يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمِنْهُ آيٌ: يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً وَلَمْ تَلْبَسُوا شِيَعًا وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَأْمُرُوا وَانْهَوْا، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فَامْرُؤٌ وَنَفْسُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْزِيُّ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ نَصْرٍ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ حدثني عمرو 113/ب بْنُ جَارِيَةَ اللَّخْمِيُّ أَنَا أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، فَمَنْ صَبَرَ فِيهِنَّ قَبَضَ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ" قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ" (2) .
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: دَخَلَ عَلَى صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ شَابٌّ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَاصَّةِ اللَّهِ الَّتِي خَصَّ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
__________
(1) الطبري: 11 / 143-144.
(2) أخرجه أبو داود في الملاحم، باب الأمر والنهي: 6 / 188،189، والترمذي في تفسير سورة المائدة: 8 / 423-426 وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه في الفتن، باب قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" برقم (4014) : 2 / 1330-1331، وابن حبان برقم (1850) ص (457) وصححه الحاكم: 4 / 322 ووافقه الذهبي. وله شواهد يتقوى بها، وأخرجه أيضا المصنف في شرح السنة: 14 / 347.

(3/110)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

قوله عز وجل: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} الضال والمهتدي، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) }

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} سبب نزول هذه الآية ما روي أن تميم بن أوس الداري وعدي بن [بدّاء] (1) قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام، وهما نصرانيان، ومعهما بُدَيْل مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي، وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة فغيباه، ثم قضيا حاجتهما، فانصرفا إلى المدينة، فدفعا المتاع إلى أهل البيت، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاءوا تميما وعديا فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؛ قالا لا قالوا: فهل اتجر تجارة؟ قالا لا قالوا: هل طال مرضه فأنفق على نفسه قالا لا فقالوا: إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة، قالا ما ندري إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا علم بالإناء، فاختصموا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصرا على الإنكار، وحلفا فأنزل الله عز وجل هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} (2) أي: ليشهد اثنان، لفضه خبر ومعناه أمر.
وقيل: معناه: أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان، واختلفوا في هذين الاثنينُ
__________
(1) في المخطوطتين (زيد) وهو خطأ. والتصويب من الترمذي وغيره.
(2) انظر: الترمذي، تفسير سورة المائدة: 8 / 426-431، فقد ساق الرواية وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح. وأبو النَّضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي: محمد بن السائب الكلبي، وقد تركه أهل العلم بالحديث.. وقد روي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه. وانظر: الطبري: 11 / 185، أسباب النزول للواحدي ص (245) ، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 713-717. وعزاه السيوطي أيضا لابن أبي حاتم والنحاس في الناسخ والمنسوخ وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة. انظر: الدر المنثور: 3 / 220-221.

(3/111)


فَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا الشَّاهِدَانِ اللَّذَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُمَا الْوَصِيَّانِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمَا وَلِأَنَّهُ قَالَ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ} وَلَا يلزم الشاهد يمين، وَجُعِلَ الْوَصِيُّ اثْنَيْنِ تَأْكِيدًا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، كَقَوْلِكَ: شَهِدْتُ وَصِيَّةَ فُلَانٍ، بِمَعْنَى حَضَرْتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النُّورِ -2) يُرِيدُ الْحُضُورَ {ذَوَا عَدْلٍ} أَيْ: أَمَانَةٍ وَعَقْلٍ {مِنْكُمْ} أَيْ: مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَعُبَيْدَةَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ (1) فَقَالَ النَّخَعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَكَانَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةً فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَتْ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهَا ثَابِتَةٌ، وَقَالُوا: إِذَا لَمْ نَجِدْ مُسْلِمَيْنِ فَنُشْهِدُ كَافِرَيْنِ.
وَقَالَ شُرَيْحٌ: مَنْ كَانَ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَأَشْهَدَ كَافِرَيْنِ عَلَى أَيِّ دِينٍ كَانَا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، فَشَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ إِلَّا عَلَى وَصِيَّةٍ فِي سَفَرٍ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَا وَلَمْ يَجِدْ مُسْلِمًا يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ بِتَرِكَتِهِ وَأَتَيَا الْأَشْعَرِيَّ، فَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْلَفَهُمَا، وَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أَيْ: مِنْ حَيِّ الْمُوصِي أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِ حَيِّكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَعِكْرِمَةَ، وَقَالُوا: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كَافِرٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ} أَيْ سِرْتُمْ وَسَافَرْتُمْ، {فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فَأَوْصَيْتُمْ إِلَيْهِمَا وَدَفَعْتُمْ إِلَيْهِمَا مَالَكُمْ فَاتَّهَمَهُمَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَادَّعَوْا عَلَيْهِمَا خِيَانَةً فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ {تَحْبِسُونَهُمَا} أَيْ: تَسْتَوْقِفُونَهُمَا، {مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} أَيْ: بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَ {مِنْ} صِلَةٌ يُرِيدُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، هَذَا
__________
(1) انظر بالتفصيل: أحكام القرآن للجصاص: 4 / 163 وما بعدها، أحكام القرآن للطبري الهراس 3 / 310-314، أحكام القرآن للشافعي، جمع البيهقي: 2 / 147-155.

(3/112)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَعَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ الْوَقْتَ، وَيَجْتَنِبُونَ فِيهِ الْحَلِفَ الْكَاذِبَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ أَهْلِ دِينِهِمَا وَمِلَّتِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ، {فَيُقْسِمَانِ} يَحْلِفَانِ، {بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} أَيْ: شَكَكْتُمْ وَوَقَعَتْ لَكُمُ الرِّيبَةُ فِي قَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ وَصِدْقِهِمَا، أَيْ: فِي قَوْلِ اللَّذَيْنِ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ، فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا، {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} أَيْ: لَا نَحْلِفُ بِاللَّهِ كَاذِبِينَ عَلَى عِوَضٍ نَأْخُذُهُ أَوْ مَالٍ نَذْهَبُ بِهِ أَوْ حَقٍّ نَجْحَدُهُ، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرَابَةٍ مِنَّا، {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أَضَافَ الشَّهَادَةَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِقَامَتِهَا وَنَهَى عَنْ كِتْمَانِهَا، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ " شَهَادَةً " بِتَنْوِينٍ، " اللَّهِ " مَمْدُودٍ، وَجَعَلَ الِاسْتِفْهَامَ عِوَضًا عَنْ حَرْفِ الْقَسَمِ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ " شَهَادَةً " بِتَنْوِينٍ، " اللَّهِ " بِقَطْعِ الْأَلْفِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ عَلَى ابْتِدَاءِ الْيَمِينِ، أَيْ: وَاللَّهِ: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} أَيْ إِنْ كَتَمْنَاهَا كُنَّا مِنَ الْآثِمِينَ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَدَعَا تَمِيمًا وَعَدِيًّا فَاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَنَّهُمَا لَمْ يَخْتَانَا شَيْئًا مِمَّا دُفِعَ إِلَيْهِمَا فَحَلَفَا عَلَى ذَلِكَ، وَخَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلَهُمَا.
ثُمَّ ظَهَرَ الْإِنَاءُ وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ظُهُورِهِ (1) فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ وُجِدَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: إِنَّا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ أَظْهَرُوهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ بَنِي سَهْمٍ فَأَتَوْهُمَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَا إِنَّا كُنَّا قَدِ اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ فَقَالُوا لَهُمَا: أَلَمْ تَزْعُمَا أَنَّ صَاحِبَنَا لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ؟ قَالَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بينة وكرهنأ 114\أأَنَّ نُقِرَّ لَكُمْ بِهِ فَكَتَمْنَاهُ لِذَلِكَ، فَرَفَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ عُثِرَ}

{فَإِنْ عُثِرَ} أَيِ: اطُّلِعَ عَلَى خِيَانَتِهِمَا، وَأَصْلُ الْعُثُورِ: الْوُقُوعُ عَلَى الشَّيْءِ، {عَلَى أَنَّهُمَا} يَعْنِي: الْوَصِيَّيْنِ {اسْتَحَقَّا} اسْتَوْجَبَا، {إِثْمًا} بِخِيَانَتِهِمَا وَبِأَيْمَانِهِمَا
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 3 / 222.

(3/113)


الْكَاذِبَةِ، {فَآخَرَانِ} مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ، {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يَعْنِي: مَقَامَ الْوَصِيَّيْنِ، {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ} بِضَمِّ التَّاءِ على المجهول، هذا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، يَعْنِي: الَّذِينَ اسْتَحَقَّ، {عَلَيْهِمُ} أَيْ فِيهِمْ وَلِأَجْلِهِمُ الْإِثْمَ وَهُمْ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ اسْتَحَقَّ الْحَالِفَانِ بِسَبَبِهِمُ الْإِثْمَ وَ (عَلَى) بِمَعْنَى فِي، كَمَا قَالَ اللَّهُ (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) (الْبَقَرَةِ، 102) أَيْ: فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَقَرَأَ حَفْصٌ (اسْتَحَقَّ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْحَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ، أَيْ: حَقٌّ وَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِثْمُ، يُقَالُ: حَقَّ وَاسْتَحَقَّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، {الْأَوْلَيَانِ} نَعْتٌ لَلْآخَرَانِ، أَيْ: فَآخَرَانِ الْأَوْلَيَانِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ وَ {الْأَوْلَيَانِ} مَعْرِفَةٌ وَالْآخَرَانِ نَكِرَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَ الْـ"آخَرَانِ"، فَقَالَ {مِنَ الَّذِينَ} صَارَ كَالْمَعْرِفَةِ وَ {الْأَوْلَيَانِ} تَثْنِيَةُ الْأَوْلَى، وَالْأَوْلَى هُوَ الْأَقْرَبُ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ " الْأَوْلَيِنَ " بِالْجَمْعِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُمْ أَيْضًا أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْحَالِفِينَ يَقُومُ اثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ أَقَارِبِ الْمَيِّتِ، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يَعْنِي: يَمِينَنَا أَحَقُّ مِنْ يَمِينِهِمَا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي اللِّعَانِ: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ) (النُّورِ -6) . وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَيْمَانُ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَيْ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، {وَمَا اعْتَدَيْنَا} فِي أَيْمَانِنَا، وَقَوْلِنَا أَنَّ شَهَادَتَنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمَطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيَّانِ، فَحَلَفَا بِاللَّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَدَفَعَا الْإِنَاءَ إِلَيْهِمَا وَإِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ، وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ بَعْدَمَا أَسْلَمَ يَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَا أَخَذْتُ الْإِنَاءَ، فَأَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَ الْيَمِينُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْوَصِيَّيْنِ ادَّعَيَا أَنَّهُمَا ابْتَاعَاهُ.
وَالْوَصِيُّ إِذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَقَالَ: إِنَّهُ أَوْصَى لِي بِهِ حَلَفَ الْوَارِثُ، إِذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ سِلْعَةً فِي يَدِ رَجُلٍ فَاعْتَرَفَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْمُدَّعِي، حَلَفَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَبِعْهَا مِنْهُ.
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: كُنَّا بِعْنَا الْإِنَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَسَّمْتُهَا أَنَا وَعَدِيٌّ، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ تَأَثَّمْتُ فَأَتَيْتُ مَوَالِيَ الْمَيِّتِ فَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مَثَلَهَا فَأَتَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَلَفَ عَمْرٌو وَالْمُطَّلِبُ فَنَزَعْتُ الْخَمْسَمِائَةٍ مِنْ عَدِيٍّ، وَرَدَدْتُ أَنَا الْخَمْسَمِائَةَ.
__________
(1) في رواية الترمذي السابقة في السنن: 8 / 426-431.

(3/114)


ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي حَكَمْنَا بِهِ مِنْ رَدِّ الْيَمِينِ أَجْدَرُ وَأَحْرَى أَنْ يَأْتِيَ الْوَصِيَّانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَسَائِرُ النَّاسِ أَمْثَالُهُمْ، أَيْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مَا كَانَتْ، {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أَيْ: أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يخافوا رد اليمن بَعْدَ يَمِينِهِمْ عَلَى [الْمُدَّعِي] (1) فَيَحْلِفُوا عَلَى خِيَانَتِهِمْ وَكَذِبِهِمْ فَيُفْتَضَحُوا وَيَغْرَمُوا فَلَا يَحْلِفُونَ كَاذِبِينَ إِذَا خَافُوا هَذَا الْحُكْمَ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أَنْ تَحْلِفُوا أَيْمَانًا كَاذِبَةً أَوْ تَخُونُوا أَمَانَةً، {وَاسْمَعُوا} الْمَوْعِظَةَ، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
__________
(1) في "ب": (المدعين) .

(3/115)


يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} أَيْ: مَا الَّذِي أَجَابَتْكُمْ أُمَّتُكُمْ؟ وَمَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكُمْ قَوْمُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي وَطَاعَتِي؟ {قَالُوا} أَيْ: فَيَقُولُونَ {لَا عِلْمَ لَنَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا الْعِلْمَ الَّذِي أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، وَقِيلَ: لَا عِلْمَ لَنَا بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ عَنْ سُؤَالِكَ إِيَّانَا عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: لَا عِلْمَ لَنَا بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِمْ وَبِمَا أَحْدَثُوا مِنْ بَعْدُ، دَلِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} أَيْ: أَنْتَ الَّذِي تَعْلَمُ مَا غَابَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ إِلَّا مَا نُشَاهِدُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَا وُهَيْبٌ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمُ اخْتَلَجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ:

(3/115)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّ لِلْقِيَامَةِ أَهْوَالًا وَزَلَازِلَ تَزُولُ فِيهَا الْقُلُوبُ عَنْ مَوَاضِعِهَا، فَيَفْزَعُونَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُذْهَلُونَ عَنِ الْجَوَابِ، ثُمَّ بَعْدَمَا ثَابَتْ إِلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى أُمَمِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} قَالَ الْحَسَنُ: ذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ {نِعْمَتِي} أَيْ: نِعَمِي، [قَالَ الْحَسَنُ] (2) لَفْظُهُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ، {وَعَلَى وَالِدَتِكَ} مَرْيَمَ ثُمَّ ذَكَرَ النِّعَمَ فَقَالَ: {إِذْ أَيَّدْتُكَ} قَوَّيْتُكَ، {بِرُوحِ الْقُدُسِ} يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {تُكَلِّمُ النَّاسَ} يَعْنِي: وَتُكَلِّمُ النَّاسَ، {فِي الْمَهْدِ} صَبِيًّا، {وَكَهْلًا} نَبِيًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرْسَلَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ فِي رِسَالَتِهِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} يَعْنِي الْخَطَّ، {وَالْحِكْمَةَ} يَعْنِي الْعِلْمَ وَالْفَهْمَ، {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ} تَجْعَلُ وَتُصَوِّرُ، {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} كَصُورَةِ الطَّيْرِ، {بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا} حَيًّا يَطِيرُ، {بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ} وَتُصَحِّحُ، {الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً، {بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ} مَنَعْتُ وَصَرَفْتُ، {بَنِي إِسْرَائِيلَ} يَعْنِي الْيَهُودَ، {عَنْكَ} حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِكَ، {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يَعْنِي: الدِّلَالَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا.
{فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} يَعْنِي: مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ " سَاحِرٌ مُبِينٌ " هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ هُودٍ وَالصَّفِّ، فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هُودٍ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} أَلْهَمْتُهُمْ وَقَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَعْنِي أَمَرْتُ
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقائق، باب في الحوض ... 11 / 464، ومسلم في الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته، برقم (2304) : 4 / 1800.
(2) زيادة من "ب".

(3/116)


إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

وَ {إِلَى} صِلَةٌ، وَالْحَوَارِيُّونَ خَوَاصُّ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [عِيسَى] (1) {قَالُوا} حين وافقتهم {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ (115)
قَرَأَ الْكِسَائِيُّ "هَلْ تَسْتَطِيعُ" بِالتَّاءِ "رَبَّكَ" بِنَصْبِ الْبَاءِ وَهُوَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، أَيْ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ وَتَسْأَلَ رَبَّكَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "هَلْ يَسْتَطِيعُ" بِالْيَاءِ وَ"رَبُّكَ" بِرَفْعِ الْبَاءِ، وَلَمْ يَقُولُوهُ شَاكِّينَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ: هَلْ يُنَزِّلُ رَبُّكَ أَمْ لَا؟ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْهَضَ مَعِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَمْ لَا وَقِيلَ: يَسْتَطِيعُ بِمَعْنَى يُطِيعُ، يُقَالُ: أَطَاعَ وَاسْتَطَاعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَقَوْلِهِمْ: أَجَابَ وَاسْتَجَابَ، مَعْنَاهُ: هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ بِإِجَابَةِ سُؤَالِكَ؟ وَفِي الْآثَارِ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَطَاعَهُ اللَّهُ، وَأَجْرَى بَعْضُهُمْ على الظاهر 114/ب فَقَالُوا: غَلَطَ الْقَوْمُ، وَقَالُوهُ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ الْمَعْرِفَةِ وَكَانُوا بَشَرًا، فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْغَلَطِ، اسْتِعْظَامًا لِقَوْلِهِمْ {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ: لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَتِهِ.
{أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} الْمَائِدَةُ الْخِوَانُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ مِنْ: مَادَهُ يُمِيدُهُ إِذَا أَعْطَاهُ وَأَطْعَمَهُ، كَقَوْلِهِ مَارَهُ يُمِيرُهُ، وَامْتَادَ: افْتَعَلَ مِنْهُ، وَالْمَائِدَةُ هِيَ الْمُطْعِمَةُ لِلْآكِلِينَ الطَّعَامَ، وَسُمِّيَ الطَّعَامُ أَيْضًا مَائِدَةً عَلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: سُمِّيَتْ مَائِدَةً لِأَنَّهَا تَمِيدُ بِالْآكِلِينَ، أَيْ: تَمِيلُ. وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ تَمِيدُ بِالْآكِلِينَ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) أَيْ: مَرْضِيَّةٍ، {قَالَ} عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُجِيبًا لَهُمْ: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَلَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَتِهِ، وَقِيلَ: اتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَسْأَلُوهُ شَيْئًا لَمْ يَسْأَلْهُ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، فَنَهَاهُمْ عَنِ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
__________
(1) ساقط من "ب".

(3/117)


قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

{قَالُوا نُرِيدُ} أَيْ: إِنَّمَا سَأَلْنَا لِأَنَّا نُرِيدُ، {أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أَكْلَ تَبَرُّكٍ لَا أَكْلَ حَاجَةٍ فَنَسْتَيْقِنَ

(3/117)


قُدْرَتَهُ، {وَتَطْمَئِنَّ} وَتَسْكُنَ، {قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، أَيْ: نَزْدَادُ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَقِيلَ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَإِذَا أَفْطَرُوا لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُمْ، فَفَعَلُوا وَسَأَلُوا الْمَائِدَةَ، وَقَالُوا: "وَنَعْلَمُ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا" فِي قَوْلِكَ، إِنَّا إِذَا صُمْنَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَانَا، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَلَكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَقِيلَ: وَنَكُونُ مِنَ الشَّاهِدَيْنَ لَكَ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} عِنْدَ ذَلِكَ، {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} وَقِيلَ: إِنَّهُ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ الْمُسُحَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَغَضَّ بَصَرَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ، {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} أَيْ: عَائِدَةً مِنَ اللَّهِ عَلَيْنَا حُجَّةً وَبُرْهَانًا، وَالْعِيدُ: يَوْمُ السُّرُورِ، سُمِّيَ بِهِ لِلْعَوْدِ مِنَ التَّرَحِ إِلَى الْفَرَحِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا اعْتَدْتَهُ وَيَعُودُ إِلَيْكَ، وَسُمِّيَ يَوْمُ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى عِيدًا لِأَنَّهُمَا يَعُودَانِ كُلَّ سَنَةٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ نَتَّخِذُ الْيَوْمَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا، أَيْ: نُعَظِّمُهُ نَحْنُ وَمَنْ بَعْدَنَا، وَقَالَ سُفْيَانُ: نُصَلِّي فِيهِ، قَوْلُهُ {لِأَوَّلِنَا} أَيْ: لِأَهْلِ زَمَانِنَا {وَآخِرِنَا} أَيْ: لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَأْكُلُ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ، {وَآيَةً مِنْكَ} دَلَالَةً وَحُجَّةً، {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
{قَالَ اللَّهُ} تَعَالَى مُجِيبًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} يَعْنِي: الْمَائِدَةَ وقرأ أهل المدنة وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ "مُنَزِّلُهَا" بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّاتٍ، وَالتَّفْعِيلُ يَدُلُّ عَلَى التَّكْرِيرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ لِقَوْلِهِ: أَنْزِلْ عَلَيْنَا، {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدٌ مِنْكُمْ} أَيْ: بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} أَيْ جِنْسَ عَذَابٍ، {لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يَعْنِي: عَالَمِي زَمَانِهِ، فَجَحَدَ الْقَوْمُ وَكَفَرُوا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةَ فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَائِدَةِ وَآلِ فِرْعَوْنَ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَائِدَةِ هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: لَمْ تَنْزِلْ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَوْعَدَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ خَافُوا أَنْ يَكْفُرَ بَعْضُهُمْ فَاسْتَعْفُوا، وَقَالُوا: لَا نُرِيدُهَا، فَلَمْ تَنْزِلْ، وَقَوْلُهُ: "إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ"، يَعْنِي: إِنْ سَأَلْتُمْ (2) .
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري موقوفا على عبد الله بن عمرو: 11 / 233، وصححه الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير. وعزاه السيوطي أيضا لعبد بن حميد وأبي الشيخ موقوفا كذلك. الدر المنثور: 3 / 237.
(2) ما ذهب إليه مجاهد والحسن رحمهما الله - رأي مرجوح، لم يستندا فيه إلى خبر صحيح. وهو مخالف لنص الآية "إني منزلها عليكم". ولذلك رجح البغوي وغيره رأي الجمهور، وهو الصحيح.

(3/118)


وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ"، وَلَا خُلْفَ فِي خَبَرِهِ، لِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهَا فَرَوَى خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا نَزَلَتْ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهَا مُقِيمَةٌ لَكُمْ مَا لَمْ تَخُونُوا [وَتُخَبِّؤُوا] (1) فَمَا مَضَى يَوْمُهُمْ حَتَّى خَانُوا وَخَبَّؤُوا فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: صُومُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ مَا شِئْتُمْ يُعْطِكُمُوهُ، فَصَامُوا فَلَمَّا فَرَغُوا قَالُوا: يَا عِيسَى إِنَّا لَوْ عَمِلْنَا لِأَحَدٍ فَقَضَيْنَا عَمَلَهُ لَأَطْعَمَنَا، وَسَأَلُوا اللَّهَ الْمَائِدَةَ فَأَقْبَلَتِ الْمَلَائِكَةُ بمائدة يحملونها، علها سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ وَسَبْعَةُ أَحْوَاتٍ حَتَّى وَضَعَتْهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَأَكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كَمَا أَكَلَ أَوَّلُهُمْ (3) .
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: نَزَلَتْ [مَائِدَةٌ] مَنْكُوسَةٌ تَطِيرُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، عَلَيْهَا كُلُّ الطَّعَامِ إِلَّا اللَّحْمَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ عَلَى الْمَائِدَةِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ، قَالَ قَتَادَةُ كَانَ عَلَيْهَا ثَمَرٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ سَمَكَةٌ فِيهَا طَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ عَلَيْهَا خُبْزٌ وَرُزٌّ وَبَقْلٌ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ أَقْرِصَةً مِنْ شَعِيرٍ وَحِيتَانًا وَكَانَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ وَيَجِيءُ آخَرُونَ فَيَأْكُلُونَ حَتَّى أَكَلُوا جَمِيعُهُمْ وَفَضَلَ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري في التفسير عن عمار بن ياسر مرفوعا وموقوفا: 11 / 228،229، والترمذي في تفسير سورة المائدة: 8 / 433، وقال: "هذا حديث غريب، ورواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس عن عمار موقوفا، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة ... ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا".
(3) ينبغي أن نذكر هنا بأن أصل القصة ثابت بالقرآن الكريم، ولا يتوقف فهم هذا على شيء من الروايات الكثيرة التي ساقها المفسرون لبيان صفة هذه المائدة وكيفية نزولها ووقت النزول ... إلخ هذه الروايات المنقولة عن وهب بن منبه، وكعب الأحبار، وسلمان، وابن عباس، ومقاتل والكلبي وعطاء، وغيرهم. فإنها غير ثابتة الإسناد، وما قد يكون صحيح النسبة إلى قائله منها، لا يعني أنه صحيح في ذاته، فقد ينقل الخبر عن وهب مثلا بسند ثابت، ولكنه متلقى من أهل الكتاب، فينبغي تنزيه كتب التفسير عن أمثال هذه الروايات، ومنها ما ساقه البغوي هنا في تفسيره. هذا، وقد أشار ابن كثير والقرطبي وابن عطية وغيرهم إلى ضعف هذه الروايات الإسرائيلية. والله أعلم. انظر أيضا: الإسرائيليات والموضوعات د. محمد أبو شهبة ص (266-277) .

(3/119)


وَعَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ خُبْزًا وَسَمَكًا وَخَمْسَةَ أَرْغِفَةٍ، فَأَكَلُوا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالنَّاسُ أَلْفٌ وَنَيِّفٌ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى قُرَاهُمْ، وَنَشَرُوا الْحَدِيثَ ضَحِكَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ، وَقَالُوا: وَيْحَكَمُ إِنَّمَا سَحَرَ أَعْيُنَكُمْ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ الْخَيْرَ ثَبَّتَهُ عَلَى بَصِيرَتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ فِتْنَتَهُ رَجَعَ إِلَى كُفْرِهِ، وَمُسِخُوا خَنَازِيرَ لَيْسَ فِيهِمْ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا، وَلَمْ يَتَوَالَدُوا وَلَمْ يَأْكُلُوا وَلَمْ يَشْرَبُوا، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَمْسُوخٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا حَيْثُ كَانُوا كَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ لما سأل الحوارين الْمَائِدَةَ لَبِسَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ صُوفًا وَبَكَى، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ" الْآيَةَ فَنَزَلَتْ سُفْرَةٌ حَمْرَاءُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٍ مِنْ فَوْقِهَا وَغَمَامَةٍ مِنْ تَحْتِهَا، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَهِيَ تَهْوِي مُنْقَضَّةً حَتَّى سَقَطَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَبَكَى عِيسَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الشَّاكِرِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا عُقُوبَةً، وَالْيَهُودُ يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ وَلَمْ يَجِدُوا رِيحًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِهِ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِيَقُمْ أَحْسَنُكُمْ عَمَلًا فَيَكْشِفُ عَنْهَا وَيَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ شَمْعُونُ الصَّفَّارُ رَأْسُ الْحَوَارِيِّينَ: أَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَّا [فَقَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى صَلَاةً طَوِيلَةً وَبَكَى كَثِيرًا، ثُمَّ كَشَفَ الْمِنْدِيلَ عَنْهَا، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الرَّازِقِينَ فَإِذَا هُوَ سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا فُلُوسُهَا وَلَا شَوْكَ عَلَيْهَا تَسِيلُ مِنَ الدَّسَمِ وَعِنْدَ رَأْسِهَا مِلْحٌ وَعِنْدَ ذَنَبِهَا خَلٌّ، وَحَوْلَهَا مِنْ أَلْوَانِ الْبُقُولِ مَا خَلَا الْكُرَّاثَ، وَإِذَا خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ عَلَى وَاحِدٍ زَيْتُونٌ، وَعَلَى الثَّانِي عَسَلٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ سَمْنٌ، وَعَلَى الرَّابِعِ جُبْنٌ، وَعَلَى الْخَامِسِ قَدِيدٌ، فَقَالَ شَمْعُونُ: يَا رُوحَ اللَّهِ أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا هَذَا أم من 115\أطَعَامِ الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا تَرَوْنَ مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا وَلَا مِنْ طَعَامِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ الْغَالِبَةِ، كُلُوا مِمَّا سَأَلْتُمْ يَمْدُدْكُمْ وَيَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، قَالُوا: يَا رُوحَ اللَّهِ كُنْ أَوَّلَ مَنْ يَأْكُلُ مِنْهَا، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنَّ آكُلَ مِنْهَا وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهَا مَنْ سَأَلَهَا فَخَافُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا، فَدَعَا لَهَا أَهْلَ الْفَاقَةِ وَالْمَرْضَى وَأَهْلَ الْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْمُبْتَلِينَ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَكُمُ الْمَهْنَأُ وَلِغَيْرِكُمُ الْبَلَاءُ، فَأَكَلُوا وَصَدَرَ عَنْهَا أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ فَقِيرٍ وَمَرِيضٍ وَزَمِنٍ وَمُبْتَلًى كُلُّهُمْ شَبْعَانُ، وَإِذَا السَّمَكَةُ بِهَيْئَتِهَا حِينَ نَزَلَتْ، ثُمَّ طَارَتْ سُفْرَةُ الْمَائِدَةِ صُعُدًا وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا حَتَّى تَوَارَتْ، فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا زَمِنٌ وَلَا مَرِيضٌ وَلَا مُبْتَلًى إِلَّا عُوفِيَ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا اسْتَغْنَى، وَنَدِمَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا فَلَبِثَتْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا تَنْزِلُ ضُحًى، فَإِذَا نَزَلَتِ اجْتَمَعَتِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَلَا تَزَالُ مَنْصُوبَةً يُؤَكَلُ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(3/120)


قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

مِنْهَا حَتَّى إِذَا فَاءَ الْفَيْءُ طَارَتْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فِي ظِلِّهَا حَتَّى تَوَارَتْ عَنْهُمْ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ غِبًّا تَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ يَوْمًا كَنَاقَةِ ثَمُودَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى [إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] (1) اجْعَلْ مَائِدَتِي وَرِزْقِي لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ حَتَّى شَكُّوا وَشَكَّكُوا النَّاسَ فِيهَا، وَقَالُوا: أَتَرَوْنَ الْمَائِدَةَ حَقًّا تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي شَرَطْتُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فَمُسِخَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا بَاتُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ عَلَى فَرْشِهِمْ مَعَ نِسَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ يَسْعَوْنَ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْكُنَاسَاتِ، وَيَأْكُلُونَ الْعُذْرَةَ فِي الْحُشُوشِ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ فَزِعُوا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَكَوْا فَلَمَّا أَبْصَرَتِ الْخَنَازِيرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَكَتْ وَجَعَلَتْ تُطِيفُ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ عِيسَى يَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَيُشِيرُونَ بِرُءُوسِهِمْ وَيَبْكُونَ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ، فَعَاشُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُوا.

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَتَى يَكُونُ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ حَرْفَ "إِذْ" يَكُونُ لِلْمَاضِي، وَقَالَ سَائِرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّمَا يَقُولُ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْقَوْلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ [مِنْ قَبْلُ] (2) (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) (الْمَائِدَةِ، 109) . وَقَالَ مِنْ بَعْدِهَا (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) (الْمَائِدَةَ، 119) ، وَأَرَادَ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ تَجِيءُ "إِذْ" بِمَعْنَى "إِذَا" كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) أَيْ: إِذَا فَزِعُوا [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (3) وَالْقِيَامَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَعْدُ وَلَكِنَّهَا كَالْكَائِنَةِ لِأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ.
قَوْلُهُ: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؟ فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ هَذَا السُّؤَالِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْهُ؟
قِيلَ هَذَا السُّؤَالُ عَنْهُ لِتَوْبِيخِ قَوْمِهِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِآخَرَ: أَفَعَلْتَ كَذَا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(3/121)


وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)

وَكَذَا؟ فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، إِعْلَامًا وَاسْتِعْظَامًا لَا اسْتِخْبَارًا وَاسْتِفْهَامًا.
وَأَيْضًا: أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُقِرَّ [عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ] (1) نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَيَسْمَعُ قَوْمُهُ، وَيَظْهَرُ كَذِبُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمْرَهُمْ بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو رَوْقٍ: وَإِذَا سَمِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا الْخِطَابَ أَرْعَدَتْ مَفَاصِلُهُ وَانْفَجَرَتْ مِنْ أَصْلِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ عَيْنٌ مِنْ دَمٍ، ثُمَّ يَقُولُ مُجِيبًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ سُبْحَانَكَ} تَنْزِيهًا وَتَعْظِيمًا لَكَ {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمَ مَا فِي غَيْبِكَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَعْلَمُ سِرِّي وَلَا أَعْلَمُ سِرَّكَ، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ تَعْلَمُ مَا كَانَ مِنِّي فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَا أَعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْكَ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّفْسُ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، يَقُولُ: تَعْلَمُ جَمِيعَ مَا أَعْلَمُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِي وَلَا أَعْلَمُ حَقِيقَةَ أَمْرِكَ، {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ.
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) }
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [وَحِّدُوهُ] (2) وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ} أَقَمْتُ، {فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} قَبَضْتَنِي وَرَفَعْتَنِي إِلَيْكَ، {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} وَالْحَفِيظَ عَلَيْهِمْ، تَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ، {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَكَيْفَ قَالَ: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِسُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ، قِيلَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَعْنَاهُ إِنَّ تُعَذِّبْهُمْ بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهَذَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ: إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: هَذَا فِي فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ، مَعْنَاهُ: إِنْ تُعَذِّبْ مَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ وَإِنْ تَغْفِرْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا عَلَى وَجْهِ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَمْرِ وَتَفْوِيضِهِ إِلَى مُرَادِهِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ساقط من "ب".

(3/122)


إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)

وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أنت الغفور لالرحيم، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَعْرُوفَةِ قِيلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ فِي الْمُلْكِ الْحَكِيمُ فِي الْقَضَاءِ لَا يَنْقُصُ مِنْ عِزِّكَ شَيْءٌ، وَلَا يَخْرُجُ مَنْ حُكْمِكَ شَيْءٌ، وَيُدْخِلُ فِي حِكْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ الْكُفَّارَ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ وَهُوَ لَا يُخْلِفُ خَبَرَهُ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي"، الْآيَةَ. وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيهِ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قال الله، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ" (1) .
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) }
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} 115/ب قَرَأَ نَافِعٌ (يَوْمَ) بِنَصْبِ الْمِيمِ، يَعْنِي: تَكُونُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي يَوْمٍ، فَحَذَفَ فِي فَانْتَصَبَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ (هَذَا) أَيْ: يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ فِي الدُّنْيَا صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَذَبُوا خَتَمَ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَنَطَقَتْ بِهِ جَوَارِحُهُمْ فَافْتُضِحُوا، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِالصَّادِقِينَ النَّبِيِّينَ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، وبكائه شفقة عليهم، برقم (202) ،: 1 / 191، والمصنف في شرح السنة: 15 / 165-166.

(3/123)


لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانُهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: مُتَكَلِّمَانِ لَا يُخْطِئَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ مَا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ"، الْآيَةَ، فَصَدَقَ عَدُوُّ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ كَاذِبًا فَلَمْ يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ، وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَ صَادِقًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَنَفَعَهُ صِدْقُهُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارَ عَمَلٍ، ثُمَّ بَيَّنَ ثَوَابَهَمْ فَقَالَ: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ثُمَّ عَظَّمَ نَفْسَهُ. فَقَالَ: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

(3/124)