تفسير البغوي
طيبة ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
(2)
سُورَةُ ص مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا
فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) }
{ص} قِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ: اسْمُ السُّورَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ
السُّورِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: "ص" مِفْتَاحُ
اسْمِ الصَّمَدِ، وَصَادِقِ الْوَعْدِ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ (3) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} أَيْ ذِي الْبَيَانِ، قَالَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذِي
الشَّرَفِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ" (الزُّخْرُفِ-44) ، وَهُوَ قَسَمٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقِسْمِ، قِيلَ: جَوَابُهُ قَدْ
تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ "ص" أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ صَدَقَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "ص" مَعْنَاهَا: وَجَبَ وَحَقَّ، وَهُوَ
جَوَابُ قَوْلِهِ: "وَالْقُرْآنِ" كَمَا تَقُولُ: نَزَلَ
وَاللَّهِ (4) .
وَقِيلَ: جَوَابُ الْقِسْمِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ:
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ
الْكُفَّارُ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس قال: نزلت سورة "ص" بمكة انظر: الدر المنثور: 7 /
142.
(2) انظر: زاد المسير: 7 / 97.
(3) أخرجه الطبري: 23 / 118.
(4) انظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 396.
(7/67)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
قَالَ قَتَادَةُ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ
قَوْلُهُ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} كَمَا قَالَ:
"وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا" (ق-2) .
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا، {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ [تَعَالَى: إِنْ
كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ" (ص-14) ، كَقَوْلِهِ:
"تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا" (الشُّعَرَاءِ-97) وَقَوْلِهِ:
"وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ -إِنْ كُلُّ نَفْسٍ"
(الطَّارِقِ-1: 3) .
وَقِيلَ:] (1) جَوَابُهُ قَوْلُهُ: "إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا"
(ص-54) .
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ: "إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ
تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ" (ص-64) ، وَهَذَا ضَعِيفٌ
لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ هَذَا الْقِسْمِ وَبَيْنَ هَذَا
الْجَوَابِ أَقَاصِيصُ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: بَلْ لِتَدَارُكِ كَلَامٍ وَنَفْيِ
آخَرَ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِـ ص
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ فِي عِزَّةِ حَمِيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ
وَتَكَبُّرٍ عَنِ الْحَقِّ وَشِقَاقٍ وَخِلَافٍ وَعَدَاوَةٍ
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُجَاهِدُ: "فِي عِزَّةٍ" مُعَازِّينَ (2) .
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا
وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) }
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} يَعْنِي: مِنَ
الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، {فَنَادَوْا} اسْتَغَاثُوا عِنْدَ
نُزُولِ الْعَذَابِ وَحُلُولِ النِّقْمَةِ، {وَلَاتَ حِينَ
مَنَاصٍ} قُوَّةٍ وَلَا فِرَارَ (3) "وَالْمَنَاصُ" مَصْدَرُ
نَاصَ يَنُوصُ، وَهُوَ الْفَوْتُ، وَالتَّأَخُّرُ، يُقَالُ:
نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَأَخَّرَ، وَبَاصَ يَبُوصُ إذا تقدم،
و"لات" بِمَعْنَى لَيْسَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ (4) .
وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: هِيَ "لَا" زِيدَتْ فِيهَا التَّاءُ،
كَقَوْلِهِمْ: رُبَّ وَرُبَّتْ وَثَمَّ وَثَمَّتْ، وَأَصْلُهَا
هَاءٌ وُصِلَتْ بِلَا فَقَالُوا: "لَاهٍ" كَمَا قَالُوا:
ثَمَّةَ، فَجَعَلُوهَا فِي الْوَصْلِ تَاءً، وَالْوَقْفُ
عَلَيْهَا بِالتَّاءِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ، وَعِنْدَ
الْكِسَائِيِّ بِالْهَاءِ: وَلَاةَ. ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى
أَنَّ التَّاءَ زِيدَتْ فِي "حِينَ" وَالْوَقْفُ عَلَى "ولا"
ثم يبتدئ: "تَحِينَ"، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدَةَ،
وَقَالَ: كَذَلِكَ وُجِدَتْ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَهَذَا
كَقَوْلِ أَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ: الْعَاطِفُونَ تَحِينَ
مَا مِنْ عَاطِفٍ ... وَالْمُطْمِعُونَ زَمَانَ مَا مِنْ
مُطْعِمٍ (5)
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) في "ب" متعازين.
(3) في "ب" (ليس حين نزو ولا فرار) .
(4) في هامش "أ": "يقال: ناص، ينوص، نوصا ومناصا، أي: فر وراغ.
وقال تعالى: "ولات حين مناص" أي: ليس وقت تأخر وفرار، والمناص
أيضا: الملجأ والمفر".
(5) البيت من شواهد ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" ص (530)
، والجوهري في الصحاح مادة "حين": 5 / 2106، واللسان: "حين":
13 / 134، والطبري 23 / 123. قال ابن بري: صوابه..: والمطعون
زمان أين المطعم. انظر: "القرطين": 2 / 98 تعليق (1) .
(7/70)
وَعَجِبُوا أَنْ
جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ
رَجُلٌ عَنْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ ثُمَّ قَالَ:
اذْهَبْ بِهَا تَلَانِ إِلَى أَصْحَابِكَ، يُرِيدُ: الْآنَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ
كُفَّارُ مَكَّةَ إِذَا قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا فِي الْحَرْبِ،
قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنَاصَ، أَيْ: اهْرَبُوا وَخُذُوا
حِذْرَكُمْ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمُ الْعَذَابَ
بِبَدْرٍ قَالُوا: مَنَاصَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ" (1) [أَيْ لَيْسَ] (2) حِينَ هَذَا
الْقَوْلِ.
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) }
{وَعَجِبُوا} يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ: "بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا" {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} يَعْنِي:
رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُنْذِرُهُمْ {وَقَالَ
الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} .
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ، فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَفَرِحَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، فَقَالَ
الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِلْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَهُمُ الصَّنَادِيدُ وَالْأَشْرَافُ، وَكَانُوا خَمْسَةً
وَعِشْرِينَ رَجُلًا أَكْبَرُهُمْ سِنًّا الْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ، قَالَ لَهُمْ: امْشُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ،
فَأَتَوْا أَبَا طَالِبٍ، وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ شَيْخُنَا
وَكَبِيرُنَا وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ
السُّفَهَاءُ، وَإِنَّا قَدْ أَتَيْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَأَرْسَلَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ،
فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَسْأَلُونَكَ
السَّوَاءَ، فَلَا تَمِلْ كُلَّ الْمَيْلِ عَلَى قَوْمِكَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا
وَنَدَعْكَ وَإِلَهَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُعْطُونِي كَلِمَةً وَاحِدَةً
تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا
الْعَجَمُ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: لِلَّهِ أَبُوكَ
لَنُعْطِيَكَهَا وَعَشْرًا أَمْثَالَهَا، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، [فَنَفَرُوا] (3) مِنْ ذَلِكَ
وَقَامُوا، وَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟
كَيْفَ يَسَعُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ؟ (4)
{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أَيْ: عَجِيبٌ، وَالْعَجَبُ
وَالْعُجَابُ وَاحِدٌ، كَقَوْلِهِمْ: رَجُلٌ كَرِيمٌ
وَكُرَامٌ، وَكَبِيرٌ وَكُبَارٌ، وَطَوِيلٌ وَطُوَالٌ،
وَعَرِيضٌ وَعُرَاضٌ.
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 384.
(2) زيادة من "ب".
(3) في "ب" فتفرقوا.
(4) قال ابن حجر في الكافي الشاف ص (141) : "ذكره الثعلبي بغير
سند". ورواه الترمذي: 9 / 99-101 وقال: (هذا حديث حسن صحيح)
والنسائي في التفسير: 2 / 216- 217، وابن حبان برقم (1757) ص
(435) من موارد الظمآن، والإمام أحمد: 1 / 227، وإسحاق، وأبو
يعلى، والطبري: 23 / 125، وابن أبي حاتم وغيرهم من طريق يحيى
بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: مرض أبو طالب
فجاءته قريش وجاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-الحديث- نحوه" وليس فيه أوله.
وأخرجه أيضًا: البيهقي في السنن 9 / 188، وصححه الحاكم: 2 /
432، والواحدي في أسباب النزول ص (424) .
وانظر: الدر المنثور: 7 / 142 - 143.
(7/71)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ
مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي
شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
(9)
{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ
إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ
رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) }
{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا
عَلَى آلِهَتِكُمْ} أَيِ: انْطَلَقُوا مِنْ مَجْلِسِهِمُ
الَّذِي كَانُوا فِيهِ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ، يَقُولُ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ،
أَيْ: اثْبُتُوا عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ {إِنَّ هَذَا
لَشَيْءٌ يُرَادُ} أَيْ لَأَمْرٌ يُرَادُ بِنَا، وَذَلِكَ
أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَسْلَمَ وَحَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ
قُوَّةٌ بِمَكَانِهِ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ
مِنْ زِيَادَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَشَيْءٌ يُرَادُ بِنَا.
وَقِيلَ: يُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: يُرَادُ
بِمُحَمَّدٍ أَنْ يُمَلَّكَ عَلَيْنَا.
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أَيْ بِهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ
مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ، {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: يَعْنُونَ النَّصْرَانِيَّةَ،
لِأَنَّهَا آخِرُ الْمَلَلِ وَهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ، بَلْ
يَقُولُونَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ مِلَّةَ قُرَيْشٍ
وَدِينَهُمُ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ.
{إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} كذب وافتعال.
{أَأُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} الْقُرْآنُ {مِنْ بَيْنِنَا}
وَلَيْسَ بِأَكْبَرِنَا وَلَا أَشْرَفِنَا، يَقُولُهُ أَهْلُ
مَكَّةَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} أَيْ وَحْيِي وَمَا
أَنْزَلْتُ، {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} وَلَوْ ذَاقُوهُ
لَمَا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ.
{أَمْ عِنْدَهُمْ} أَعِنْدَهُمْ، {خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ}
أَيْ: نِعْمَةُ رَبِّكَ يَعْنِي: مَفَاتِيحَ النُّبُوَّةِ
يعطونها من شاؤوا، نَظِيرُهُ: "أَهُمْ يقسمون رحمة
100/أرَبِّكَ" (الزُّخْرُفُ -32) أَيْ نُبُوَّةَ رَبِّكَ،
{الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ،
الْوَهَّابِ] (1) وَهَبَ النُّبُوَّةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(7/72)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا
فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ
الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
{أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ
الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) }
{أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا} أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، {فَلْيَرْتَقُوا فِي
الْأَسْبَابِ} أَيْ: إِنِ ادَّعَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي تُوَصِّلُهُمْ إِلَى
السَّمَاءِ، وَلْيَأْتُوا مِنْهَا بِالْوَحْيِ إِلَى مَنْ
يَخْتَارُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَرَادَ
بِالْأَسْبَابِ: أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَطُرُقَهَا مِنْ
سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُكَ إِلَى شَيْءٍ
مِنْ بَابٍ أَوْ طَرِيقٍ فَهُوَ سَبَبُهُ، وَهَذَا أَمْرُ
تَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ.
{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} أَيْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ
هَذَا الْقَوْلَ جند هنالك، و"ما" صِلَةٌ، {مَهْزُومٌ}
مَغْلُوبٌ، {مِنَ الْأَحْزَابِ} أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ
الْأَجْنَادِ، يَعْنِي: قُرَيْشًا.
قَالَ قَتَادَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ
سَيَهْزِمُ جُنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: "سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ" (الْقَمَرُ-45) فَجَاءَ
تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ (1) ، و"هنالك" إِشَارَةٌ إِلَى
بَدْرٍ وَمَصَارِعِهِمْ، "مِنَ الْأَحْزَابِ" أَيْ: مِنْ
جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ، أَيْ: هُمْ مِنَ الْقُرُونِ
الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَتَجَمَّعُوا عَلَى
الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّكْذِيبِ، فَقُهِرُوا وَأُهْلِكُوا.
ثُمَّ قَالَ مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ذُو الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ،
وَقِيلَ: أَرَادَ ذُو الْمُلْكِ الشَّدِيدِ الثَّابِتِ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: هُمْ فِي عِزٍّ
ثَابِتِ الْأَوْتَادِ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ دَائِمٌ شَدِيدٌ.
وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ: وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا
بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ (2)
فَأَصْلُ هَذَا أَنَّ بُيُوتَهُمْ كَانَتْ تُثَبَّتُ
بِالْأَوْتَادِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذُو الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ
عَطِيَّةُ: ذُو الْجُنُودِ وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ،
يَعْنِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَوُّونَ أَمْرَهُ، وَيَشُدُّونَ
مُلْكَهُ، كَمَا يُقَوِّي الْوَتَدُ الشَّيْءَ، وَسُمِّيَتِ
الْأَجْنَادُ أَوْتَادًا لِكَثْرَةِ الْمَضَارِبِ الَّتِي
كَانُوا يَضْرِبُونَهَا وَيُوَتِّدُونَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ،
وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 130 وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 147 أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) البيت في غريب القرآن لابن قتيبة: 2 / 100 من "القرطين"،
معاني القرآن للنحاس: 60 / 85، البحر المحيط: 7 / 367.
(7/73)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ
لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا
مِنْ فَوَاقٍ (15)
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ:
"الْأَوْتَادُ" جَمْعُ الْوَتَدِ، وَكَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ
يُعَذِّبُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى
أَحَدٍ مَدَّهُ مُسْتَلْقِيًا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ،
وَشَدَّ كُلَّ يَدٍ وَرِجْلٍ مِنْهُ إِلَى سَارِيَةٍ،
وَيَتْرُكُهُ كَذَلِكَ فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ حَتَّى يَمُوتَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ يَمُدُّ
الرَّجُلَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْأَرْضِ، يَشُدُّ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ وَرَأْسَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِالْأَوْتَادِ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ يَمُدُّ الرَّجُلَ وَيَشُدُّهُ
بِالْأَوْتَادِ وَيُرْسِلُ عَلَيْهِ الْعَقَارِبَ
وَالْحَيَّاتِ (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ
وَأَرْسَانٌ وَمَلَاعِبُ يُلْعَبُ عَلَيْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ
(2) .
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ
الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ
فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) }
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ
الْأَحْزَابُ} الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ،
فَأَعْلَمَ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ حِزْبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ
الْأَحْزَابِ.
{إِنْ كُلٌّ} مَا كُلٌّ، {إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
عِقَابِ} وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَنَزَلَ بِهِمْ عَذَابِي. {وَمَا
يَنْظُرُ} يَنْتَظِرُ {هَؤُلَاءِ} يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ،
{إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وَهِيَ نَفْخَةُ الصُّورِ، {مَا
لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ:
"فُوَاقٍ" بِضَمِّ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا
وَهُمَا لُغَتَانِ، فَالْفَتْحُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَالضَّمُّ
لُغَةُ تَمِيمٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مِنْ رُجُوعٍ، أَيْ: مَا
يُرَدُّ ذَلِكَ الصَّوْتُ فَيَكُونَ لَهُ رُجُوعٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَظْرَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
مَثْنَوِيَّةٌ، أَيْ صَرْفٌ وَرَدٌّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ مِيعَادُ
عَذَابِهِمْ إِذَا جَاءَتْ لَمْ تُرَدَّ وَلَمْ تُصْرَفْ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالضَّمِّ، فَقَالَ
الْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَتْحُ بِمَعْنَى
الرَّاحَةِ وَالْإِفَاقَةِ، كَالْجَوَابِ مِنَ الْإِجَابَةِ،
ذَهَبَا بِهَا إِلَى إِفَاقَةِ الْمَرِيضِ مَنْ عِلَّتِهِ،
وَالْفُوَاقُ بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَهُوَ
أَنْ تُحْلَبَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُتْرَكَ سَاعَةً حَتَّى
يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ، فَمَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ فُوَاقٌ،
أَيْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يُمْهِلُهُمْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ
(3) .
وَقِيلَ: هَمَا أَيْضًا مُسْتَعَارَتَانِ مِنَ الرُّجُوعِ،
لِأَنَّ اللَّبَنَ يَعُودُ إِلَى الضِّرْعِ بَيْنَ
الْحَلْبَتَيْنِ، وَإِفَاقَةُ الْمَرِيضِ:
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 386.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 130.
(3) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 400، مجاز القرآن لأبي
عبيدة: 2 / 179.
(7/74)
وَقَالُوا رَبَّنَا
عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
رُجُوعُهُ إِلَى الصِّحَّةِ.
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسَابِ (16) }
(7/75)
اصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ
إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) }
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ
الْحِسَابِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ [عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ] (1) : يَعْنِي كِتَابَنَا، و"القط" الصَّحِيفَةُ
الَّتِي أَحْصَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ فِي الْحَاقَّةِ:
"فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ" (الْحَاقَّةُ
-19) ، "وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ"
(الْحَاقَّةُ-25) قَالُوا اسْتِهْزَاءً: عَجِّلْ لَنَا
كِتَابَنَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ. [وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ] (2) : يَعْنُونَ حَظَّنَا وَنَصِيبَنَا
مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي تَقُولُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ:
يَعْنِي عُقُوبَتَنَا وَنَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ.
[وَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَهُ] (3) النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ،
وَهُوَ قَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ
السَّمَاءِ" (4) (الْأَنْفَالُ: 32) .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "قِطَّنَا" حِسَابَنَا، وَيُقَالُ
لِكِتَابِ الْحِسَابِ قِطٌّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: "الْقِطُّ":
الْكِتَابُ بِالْجَوَائِزِ (5) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [أَيْ
عَلَى مَا يَقُولُهُ] (6) الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِكَ
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَيِ الْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ،
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ
أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَأَحَبَّ
الصَّلَاةِ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 148 لعبد بن حميد.
(5) ذكر الطبري أكثرهذه الأقوال: 23 / 134-135 ثم قال مرجحا:
"وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن القوم سألوا
ربهم تعجيل صكاكهم بحظوظهم من الخير أو الشر-الذي وعد الله
عباده أن يؤتيهموها في الآخرة-قبل يوم القيامة في الدنيا
استهزاء بوعيد الله".
(6) ساقط من "أ".
(7/75)
إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
(18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الْخِطَابِ (20)
إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كَانَ
يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ
اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ" (1) .
وَقِيلَ: ذُو الْقُوَّةِ فِي الْمُلْكِ.
{إِنَّهُ أَوَّابٌ} رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِالتَّوْبَةِ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مُطِيعٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسَبِّحٌ بِلُغَةِ
الْحَبَشِ.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً
كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) }
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} كَمَا قَالَ:
"وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ" (الْأَنْبِيَاءُ-79)
{يُسَبِّحْنَ} بِتَسْبِيحِهِ، {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}
قَالَ الْكَلْبِيُّ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. وَالْإِشْرَاقُ:
هُوَ أَنْ تُشْرِقَ الشمس ويتناهى ضوؤها وَفَسَّرَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بِصَلَاةِ الضُّحَى.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ
نُصَيْرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْلِهِ: "بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ" قَالَ: كُنْتُ
أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا أَدْرِي ما هي 100/ب حَتَّى
حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ
عَلَيْهَا فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى
الضُّحَى، فَقَالَ: "يَا أَمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلَاةُ
الْإِشْرَاقِ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالطَّيْرَ} أَيْ: وَسَخَّرْنَا
لَهُ الطَّيْرَ، {مَحْشُورَةً} مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ تُسَبِّحُ
مَعَهُ، {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} مُطِيعٌ رَجَّاعٌ إِلَى
طَاعَتِهِ بِالتَّسْبِيحِ، وَقِيلَ: أَوَّابٌ مَعَهُ أَيْ
مُسَبِّحٌ.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أَيْ: قَوَّيْنَاهُ بِالْحَرَسِ
وَالْجُنُودِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ
الْأَرْضِ سُلْطَانًا، كَانَ يَحْرُسُ مِحْرَابَهُ كُلَّ
لَيْلَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التهجد، باب: من نام عند السحر: 3 / 16،
ومسلم في الصيام، باب النهي عن صوم الدهر برقم: (1159) 2 /
816، والمصنف في شرح السنة: 4 / 60.
(2) رواه ابن مردويه، والثعلبي، والواحدي، والطبراني، كلهم من
رواية أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس، حدثتني أم هانئ
ورواه الحاكم من وجه آخر عن عبد الله بن الحارث موقوفا على ابن
عباس: 4 / 35 وفيه: ثم قال ابن عباس: هذه صلاة الإشراق. قال
ابن حجر: "هذا موقوف وهو أصح". قال الهيثمي: فيه حجاج بن نصير،
ضعفه ابن المديني وجماعة، ووثقه ابن معين وابن حبان. انظر:
الكافي الشاف ص (142) ، مجمع الزوائد: 2 / 238.
(7/76)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
خَالِدِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ (1) أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
اسْتَعْدَى (2) عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ عِنْدَ
دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ -أَنَّ هَذَا غَصَبَنِي بَقَرًا،
فَسَأَلَهُ دَاوُدُ فَجَحَدَ، فَقَالَ لِلْآخَرِ:
الْبَيِّنَةُ؟ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا
دَاوُدُ: قُومَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا، فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَ الَّذِي
اسْتَعْدَى (3) عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذِهِ رُؤْيَا وَلَسْتُ
أَعْجَلُ حَتَّى أَتَثَبَّتَ، فَأَوْحَى إِلَيْهِ مَرَّةً
أُخْرَى فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ
الثَّالِثَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ تَأْتِيَهُ الْعُقُوبَةُ،
فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى
إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرٍ
بَيِّنَةٍ؟ قَالَ دَاوُدُ: نَعَمْ وَاللَّهِ لِأُنْفِذَنَّ
أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، فَلَمَّا عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ
قَاتِلُهُ، قَالَ: لَا تَعْجَلْ حَتَّى أُخْبِرَكَ، إِنِّي
وَاللَّهِ مَا أُخِذْتُ بِهَذَا الذَّنْبِ وَلَكِنِّي كُنْتُ
اغْتَلْتُ وَالِدَ هَذَا فَقَتَلْتُهُ، فَلِذَلِكَ أُخِذْتُ،
فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ، فَاشْتَدَّتْ هَيْبَةُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ، وَاشْتَدَّ بِهِ
مُلْكُهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَشَدَدْنَا
مُلْكَهُ" (4) .
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} يَعْنِي: النُّبُوَّةَ
وَالْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ، {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَانَ الْكَلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ،
وَمُقَاتِلٌ: عُلِّمَ الْحُكْمَ وَالتَّبَصُّرَ فِي
الْقَضَاءِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ
عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لِأَنَّ
كَلَامَ الْخُصُومِ يَنْقَطِعُ وَيَنْفَصِلُ بِهِ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: "فَصْلُ
الْخِطَابِ": الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ (5) . وَهُوَ قَوْلُ
مُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: 3 / 32 "ذكر المفسرون
هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن
المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم حديثا لا يصح
سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد
وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن
يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل
فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا". راجع "الإسرائيليات
والموضوعات في كتب التفسير" لأبي شهبة ص (264-270) وهو في
الصحيح بغير هذا السياق، انظر: البخاري، كتاب التهجد: 3 / 51،
ومسلم، كتاب صلاة المسافرين: 1 / 498.
(2) في "ب" ادعى.
(3) في "ب" ادعى.
(4) أخرجه الطبري: 23 / 138-139 وعزاه السيوطي في الدر
المنثور: 7 / 153 أيضا لعبد بن حميد والحاكم.
(5) انظر الطبري: 23 / 140 معاني القرآن: 2 / 401.
(7/77)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ فَصْلَ
الْخِطَابِ: هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ
وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: "أَمَّا بَعْدُ" (1) إِذَا أَرَادَ
الشُّرُوعَ فِي كَلَامٍ آخَرَ، وَأَوَّلُ [مَنْ قَالَهُ
دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرَابَ (21) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} ] (2) هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ
قِصَّةِ امْتِحَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ بِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ فِي سَبَبِهِ:
فَقَالَ قَوْمٌ: سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
تَمَنَّى يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ مَنْزِلَةَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَمْتَحِنَهُ
كَمَا امْتَحَنَهُمْ، وَيُعْطِيَهُ مِنَ الْفَضْلِ مِثْلَ مَا
أَعْطَاهُمْ.
فَرَوَى السُّدِّيُّ، وَالْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: عَنْ
أَشْيَاخِهِمْ قَدْ دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ،
قَالُوا: كَانَ دَاوُدُ قَدْ قَسَّمَ الدَّهْرَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ يَوْمًا يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَوْمًا
يَخْلُو فِيهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمًا لِنِسَائِهِ
وَأَشْغَالِهِ، وَكَانَ يَجِدُ فِيمَا يَقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ
فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَقَالَ: يَا
رَبِّ أَرَى الْخَيْرَ كُلَّهُ وَقَدْ ذَهَبَ بِهِ آبَائِي
الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
إِنَّهُمُ ابْتُلُوا بِبَلَايَا لَمْ تُبْتَلَ بِهَا
فَصَبَرُوا عَلَيْهَا، ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ بِنُمْرُودَ
وَبِذَبْحِ ابْنِهِ، وَابْتُلِيَ إِسْحَاقُ (3) بِالذَّبْحِ
وَبِذَهَابِ بَصَرِهِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوبُ بِالْحُزْنِ
عَلَى يُوسُفَ، فَقَالَ: رَبِّ لَوِ ابْتَلَيْتَنِي بِمِثْلِ
مَا ابْتَلَيْتَهُمْ صَبَرْتُ أَيْضًا. فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ إِنَّكَ مُبْتَلًى فِي شَهْرِ كَذَا وَفِي يَوْمِ
كَذَا فَاحْتَرِسْ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي
وَعَدَهُ اللَّهُ دَخَلَ دَاوُدُ مِحْرَابَهُ وَأَغْلَقَ
بَابَهُ، وَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ الزَّبُورَ، فَبَيْنَا
هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ قَدْ تَمَثَّلَ فِي
صُورَةِ حَمَامَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ
حَسَنٍ -وَقِيلَ: كَانَ جَنَاحَاهَا مِنَ الدُّرِّ
وَالزَّبَرْجَدِ -فَوَقَعَتْ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ
حُسْنُهَا، فَمَدَّ يَدَهُ لِيَأْخُذَهَا وَيُرِيَهَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَيَنْظُرُوا إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَلَمَّا قَصَدَ أَخْذَهَا طَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ غَيْرِ
أَنْ تُؤَيِّسَهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَامْتَدَّ إِلَيْهَا
لِيَأْخُذَهَا، فَتَنَحَّتْ، فَتَبِعَهَا فَطَارَتْ حَتَّى
وَقَعَتْ فِي كُوَّةٍ، فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهَا، فَطَارَتْ مِنَ
الْكُوَّةِ، فَنَظَرَ دَاوُدُ أَيْنَ تَقَعُ فَيَبْعَثُ مَنْ
يَصِيدُهَا، فَأَبْصَرَ امْرَأَةً فِي بُسْتَانٍ عَلَى شَطِّ
بِرْكَةٍ لَهَا تَغْتَسِلُ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. (4)
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: رَآهَا تَغْتَسِلُ عَلَى سَطْحٍ لَهَا
فَرَأَى امْرَأَةً مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ خَلْقًا، فَعَجِبَ
دَاوُدُ مِنْ حُسْنِهَا وَحَانَتْ مِنْهَا الْتِفَاتَةٌ
فَأَبْصَرَتْ ظِلَّهُ فَنَقَضَتْ شَعْرَهَا فَغَطَّى
بَدَنَهَا، فَزَادَهُ ذَلِكَ إِعْجَابًا بِهَا فَسَأَلَ
عَنْهَا، فَقِيلَ هِيَ تَيْشَايِعُ بِنْتُ شَايِعَ امْرَأَةُ
أُورِيَّا بْنِ حَنَانَا، وَزَوْجُهَا فِي غَزَاةٍ
بِالْبَلْقَاءِ مَعَ أَيُّوبَ بْنِ صُورِيَا ابْنِ أُخْتِ
دَاوُدَ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 140 وانظر: معاني القرآن: 2 / 401.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) تقدم أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام.
(4) هذه الروايات ضعيفة، راجع ما نقله السيوطي عن ابن حجر في
الدر المنثور: 8 / 700 - 701.
(7/78)
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ
يَقْتُلَ أُورِيَّا وَيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، فَكَانَ
ذَنْبُهُ هَذَا الْقَدْرَ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَتَبَ دَاوُدُ إِلَى ابْنِ
أُخْتِهِ أَيُّوبَ أَنِ ابْعَثْ أُورِيَّا إِلَى مَوْضِعِ
كَذَا، وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوتِ، وَكَانَ مَنْ قُدِّمَ
عَلَى التَّابُوتِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَرَاءَهُ
حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ يَسْتَشْهِدَ،
فَبَعَثَهُ وَقَدَّمَهُ فَفُتِحَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ
بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَى
عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَهُ فَفُتِحَ لَهُ، فَكَتَبَ
إِلَى دَاوُدَ بِذَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَبْعَثَهُ
إِلَى عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا أَشَدَّ مِنْهُ بَأْسًا،
فَبَعَثَهُ فَقُتِلَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا
انْقَضَتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ، فَهِيَ
أُمُّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: كَانَ ذَلِكَ ذَنْبَ دَاوُدَ أَنَّهُ الْتَمَسَ مِنَ
الرَّجُلِ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُمْ
غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ لَهُ ذَلِكَ
لِأَنَّهُ كَانَ ذَا رَغْبَةٍ في الدنيا، وازديادًا
لِلنِّسَاءِ، وَقَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا
أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ فِي سَبَبِ امْتِحَانِ دَاوُدَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ كَانَ قَدْ جَزَّأَ الدَّهْرَ
أَجْزَاءً، يَوْمًا لِنِسَائِهِ، وَيَوْمًا لِلْعِبَادَةِ،
وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَوْمًا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، يُذَاكِرُهُمْ وَيُذَاكِرُونَهُ
وَيُبْكِيهِمْ وَيُبْكُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ ذَكَّرُوهُ فَقَالُوا: هَلْ يَأْتِي عَلَى
الْإِنْسَانِ يَوْمٌ لَا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا، فَأَضْمَرَ
دَاوُدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيُطِيقُ ذَلِكَ (2) .
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِتْنَةَ النِّسَاءِ فَأَضْمَرَ
دَاوُدُ في نفسه 101/أأَنَّهُ إِنِ ابْتُلِيَ اعْتَصَمَ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِبَادَتِهِ أَغْلَقَ أَبْوَابَهُ
وَأَمَرَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَكَبَّ عَلَى
التَّوْرَاةِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ إِذْ دَخَلَتْ
عَلَيْهِ حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ كَمَا ذَكَرْنَا، قَالَ:
وَكَانَ قَدْ بَعَثَ زَوْجَهَا عَلَى بَعْضِ جُيُوشِهِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا
إِذَا سَارَ إِلَيْهِ قُتِلَ، فَفَعَلَ فَأُصِيبَ فَتَزَوَّجَ
امْرَأَتَهُ.
قَالُوا: فَلَمَّا دَخَلَ دَاوُدُ بِامْرَأَةِ أُورِيَّا لَمْ
يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ
مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ رَجُلَيْنِ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ،
فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُمَا الْحَرَسُ
فَتَسَوَّرَا الْمِحْرَابَ عَلَيْهِ، فَمَا شَعَرَ وَهُوَ
يُصَلِّي إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَيْنِ،
يُقَالُ: كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} خَبَرُ
الْخَصْمِ، {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} صَعَدُوا
وَعَلَوْا، يُقَالُ: تَسَوَّرْتُ الْحَائِطَ وَالسُّورَ إِذَا
عَلَوْتَهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْفِعْلَ وَهُمَا اثْنَانِ
لِأَنَّ الْخَصْمَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
وَالْجَمْعِ
__________
(1) انظر الطبري: 23 / 147.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 148، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 158 - 159 أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر.
(7/79)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى
دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ
وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ (23)
وَالْمُذَكِّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمَعْنَى
الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ، لِأَنَّ مَعْنَى
الْجَمْعِ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ هَذَا كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: "فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا" (التَّحْرِيمُ
-4) .
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا
تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ
بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ
الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) }
{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} خَافَ
مِنْهُمَا حِينَ هَجَمَا عَلَيْهِ فِي مِحْرَابِهِ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ، {قَالُوا لَا
تَخَفْ خَصْمَانِ} [أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ] (1) {بَغَى
بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} جِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا،
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَا "بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ"
وَهُمَا مَلَكَانِ لَا يَبْغِيَانِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ:
أَرَأَيْتَ خَصْمَيْنِ بَغَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ،
وَهَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَحْقِيقِ
الْبَغْيِ مِنْ أَحَدِهِمَا.
{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} أَيْ لَا
تَجُرْ، يُقَالُ: شَطَّ الرَّجُلُ شَطَطًا وَأَشَطَّ
إِشْطَاطًا (2) إِذَا جَارَ فِي حُكْمِهِ، وَمَعْنَاهُ
مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ شَطَّتِ
الدَّارُ وَأَشَطَّتْ، إِذَا بَعُدَتْ {وَاهْدِنَا إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أَرْشِدْنَا إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ
وَالْعَدْلِ، فَقَالَ دَاوُدُ لَهُمَا: تَكَلَّمَا.
فَقَالَ أَحَدُهُمَا: {إِنَّ هَذَا أَخِي} أَيْ: عَلَى دِينِي
وَطَرِيقَتِي، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [يَعْنِي
امْرَأَةً] {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} أَيِ امْرَأَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي بِالنَّعْجَةِ عَنِ
الْمَرْأَةِ (3) ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا
تَعْرِيضٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّفْهِيمِ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ نِعَاجٌ وَلَا بَغْيٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ:
ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، أَوِ اشْتَرَى بَكْرٌ دَارًا، وَلَا
ضَرْبَ هُنَالِكَ وَلَا شِرَاءَ.
{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ: انْزِلْ لِي عَنْهَا. وَحَقِيقَتُهُ:
ضُمَّهَا إِلَيَّ فَاجْعَلْنِي كَافِلَهَا، وَهُوَ الَّذِي
يَعُولُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى: طَلِّقْهَا
لِأَتَزَوَّجَهَا،.
{وَعَزَّنِي} وَغَلَبَنِي {فِي الْخِطَابِ} أَيْ: فِي
الْقَوْلِ. وَقِيلَ: قَهَرَنِي لِقُوَّةِ مُلْكِهِ. قَالَ
الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي،
وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْغَلَبَةَ كَانَتْ لَهُ
لِضَعْفِي فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي وَهَذَا
كُلُّهُ تَمْثِيلٌ لِأَمْرِ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) في أ: شطاطا.
(3) راجع "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" لأبي شهبة:
ص (266 - 270) .
(7/80)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
دَاوُدَ مَعَ أُورِيَّا زَوْجِ الْمَرْأَةِ
الَّتِي تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ حَيْثُ كَانَ لِدَاوُدَ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلِأُورِيَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ
فَضَمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ
(24) }
{قَالَ} دَاوُدُ {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى
نِعَاجِهِ} أَيْ: بِسُؤَالِهِ نَعْجَتَكَ لِيَضُمَّهَا إِلَى
نِعَاجِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ وَلَمْ يَكُنْ
سَمِعَ قَوْلَ صَاحِبِهِ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَقَدْ
ظَلَمَكَ، وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ اعْتِرَافِ صَاحِبِهِ
بِمَا يَقُولُ.
{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} الشُّرَكَاءِ،
{لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
فَإِنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا. {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}
أَيْ: قَلِيلٌ هُمْ، و"ما" صِلَةٌ يَعْنِي: الصَّالِحِينَ
الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ قَلِيلٌ.
قَالُوا: فَلَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا دَاوُدُ نَظَرَ
أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَضَحِكَ وَصَعِدَ إِلَى
السَّمَاءِ، فَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
ابْتَلَاهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ:
{وَظَنَّ دَاوُدُ} أَيْقَنَ وَعَلِمَ، {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ}
أَنَّمَا ابْتَلَيْنَاهُ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ: إِنَّ أَحَدَهُمَا لَمَّا
قَالَ: "هَذَا أَخِي" الْآيَةَ، قَالَ دَاوُدُ لِلْآخَرِ: مَا
تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّ لِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَعْجَةً
وَلِأَخِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَهَا
مِنْهُ فَأُكْمِلَ نِعَاجِي مِائَةً، قَالَ: وَهُوَ كَارِهٌ،
إذًا لَا نَدَعُكَ وَإِنْ رُمْتَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ مِنْكَ هَذَا
وَهَذَا وَهَذَا، يَعْنِي: طَرَفَ الْأَنْفِ وَأَصْلَهُ
وَالْجَبْهَةَ، فَقَالَ: يَا دَاوُدُ أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ
حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِأُورِيَّا إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ
وَلَكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، فَلَمْ تَزَلْ
تُعَرِّضُهُ لِلْقَتْلِ حَتَّى قُتِلَ وَتَزَوَّجْتَ
امْرَأَتَهَ، فَنَظَرَ دَاوُدُ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا فَعَرَفَ
مَا وَقَعَ فِيهِ (1) .
وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِتَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ
الْقِصَّةِ: إِنَّ ذَنْبَ دَاوُدَ إِنَّمَا كَانَ أَنَّهُ
تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ امْرَأَةُ أُورِيَّا حَلَالًا لَهُ،
فَاتَّفَقَ غَزْوُ أُورِيَّا وَتَقَدُّمُهُ فِي الْحَرْبِ
وَهَلَاكُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلُهُ دَاوُدَ لَمْ يَجْزَعْ
عَلَيْهِ كَمَا جَزِعَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ جُنْدِهِ إِذَا
هَلَكَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ
عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ
__________
(1) انظر الطبري: 23 / 147.
(7/81)
وَإِنْ صَغُرَتْ فَهِيَ عَظِيمَةٌ عِنْدَ
اللَّهِ.
وَقِيلَ: كَانَ ذَنْبُ دَاوُدَ أَنَّ أُورِيَّا كَانَ خَطَبَ
تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا
غَابَ فِي غَزَاتِهِ خَطَبَهَا دَاوُدُ فَتَزَوَّجَتْ مِنْهُ
لِجَلَالَتِهِ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ أُورِيَّا، فَعَاتَبَهُ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ هَذِهِ
الْوَاحِدَةَ لِخَاطِبِهَا وَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
امْرَأَةً.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ قَالَ: وَمِمَّا يُصَدِّقُ مَا
ذَكَرْنَا عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَا أَخْبَرَنِي عَقِيلُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ أَنَّ الْمُعَافَى
بْنَ زَكَرِيَّا الْقَاضِيَ بِبَغْدَادَ أَخْبَرَهُ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي
يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصيرفي، أَخْبَرَنَا ابْنُ
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ
يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ دَاوُدَ
النَّبِيَّ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-حِينَ نَظَرَ إِلَى
الْمَرْأَةِ فَهَمَّ أَنْ يُجْمِعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ
فَقَرِّبْ فُلَانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ
التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ وَبِمَنْ
قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى
يُقْتَلَ أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْشُ فَقُتِلَ زَوْجُ
الْمَرْأَةِ، وَنَزَلَ الْمَلِكَانِ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ
قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ
عَلَى رَأْسِهِ وَأَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ جَبِينِهِ وهو يقول
101/ب فِي سُجُودِهِ: رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ زَلَّةً أَبْعَدَ
مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، رَبِّ إِنْ لَمْ
تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ، وَلَمْ تَغْفِرْ ذَنْبَهُ جَعَلْتَ
ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ، فَجَاءَهُ
جِبْرِيلُ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ: يَا
دَاوُدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي
هَمَمْتَ بِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: إِنَّ الرَّبَّ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يَغْفِرَ لِي الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ
عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَمِيلُ، فَكَيْفَ
بِفُلَانٍ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: يَا
رَبِّ دَمِي الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَا
سَأَلْتُ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ شِئْتَ لَأَفْعَلَنَّ،
فَقَالَ: نَعَمْ، فَعَرَجَ جِبْرِيلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ،
فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ:
سَأَلْتُ اللَّهَ يَا دَاوُدُ عَنِ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي
فِيهِ، فَقَالَ: قُلْ لِدَاوُدَ إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي
عِنْدَ دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ:
إِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَا شِئْتَ وَمَا اشْتَهَيْتَ
عِوَضًا عَنْهُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ،
وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالُوا جَمِيعًا: إِنَّ دَاوُدَ
لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكَانِ فَقَضَى عَلَى نَفْسِهِ،
فَتَحَوَّلَا فِي صُورَتَيْهِمَا فَعَرَجَا وَهُمَا
يَقُولَانِ: قَضَى الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلِمَ دَاوُدُ
أَنَّمَا عُنِيَ بِهِ فَخَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ وَلِوَقْتِ صَلَاةٍ
مَكْتُوبَةٍ،
__________
(1) أخرجه الطبري: 23 / 150- 151 وعزاه السيوطي للحكيم الترمذي
وابن أبي حاتم بسند ضعيف، وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وابن
لهيعة اختلط. وراجع: تفسير ابن كثير: 4 / 32، والإسرائيليات
والموضوعات لأبي شهبة: (265 - 268) .
(7/82)
ثُمَّ يَعُودُ سَاجِدًا تَمَامَ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَهُوَ
يَبْكِي حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ حَوْلَ رَأْسِهِ وَهُوَ
يُنَادِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْأَلُهُ التَّوْبَةَ،
وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ
الْأَعْظَمِ الَّذِي يَبْتَلِي الْخَلْقَ بِمَا يَشَاءُ،
سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، سُبْحَانَ الْحَائِلِ بَيْنَ
الْقُلُوبِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنْتَ
خَلَّيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوِّي إِبْلِيسَ فَلَمْ أَقُمْ
لِفِتْنَتِهِ إِذْ نَزَلَتْ بِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ،
إِلَهِي أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَكَانَ مِنْ سَابَقِ عِلْمِكَ مَا
أَنَا إِلَيْهِ صَائِرٌ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي
الْوَيْلُ لِدَاوُدَ إِذَا كُشِفَ عَنْهُ الْغِطَاءُ،
فَيُقَالُ: هَذَا دَاوُدُ الْخَاطِئُ، سُبْحَانَ خَالِقِ
النُّورِ، إِلَهِي بِأَيِّ عَيْنٍ أَنْظُرُ إِلَيْكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الظَّالِمُونَ مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ، [سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ] (1) إِلَهِي بِأَيِّ
قَدَمٍ أَمْشِي أَمَامَكَ وَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْكَ يَوْمَ
تَزُولُ أَقْدَامُ الْخَاطِئِينَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ،
إِلَهِي مِنْ أَيْنَ يَطْلُبُ الْعَبْدُ الْمَغْفِرَةَ إِلَّا
مِنْ عِنْدِ سَيِّدِهِ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي
أَنَا الَّذِي لَا أُطِيقُ حَرَّ شَمْسِكَ، فَكَيْفَ أُطِيقُ
حَرَّ نَارِكَ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي أَنَا
الَّذِي لَا أُطِيقُ صَوْتَ رَعْدِكَ، فَكَيْفَ أُطِيقُ سَوْطَ
جَهَنَّمَ؟ سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي الْوَيْلُ
لِدَاوُدَ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَصَابَ،
سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، إِلَهِي قَدْ تَعْلَمُ سِرِّي
وَعَلَانِيَتِي فَاقْبَلْ عُذْرِي، سُبْحَانَ خَالِقِ
النُّورِ، إِلَهِي بِرَحْمَتِكَ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَلَا
تُبَاعِدْنِي مِنْ رَحْمَتِكَ لِهَوَايَ، سُبْحَانَ خَالِقِ
النُّورِ، إِلَهِي أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مِنْ
ذُنُوبِي الَّتِي أَوْبَقَتْنِي، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ،
فَرَرْتُ إِلَيْكَ بِذُنُوبِي وَاعْتَرَفْتُ بِخَطِيئَتِي
فَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الْقَانِطِينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ
الدِّينِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ. (2)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَكَثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا سَاجِدًا لَا
يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى نَبَتَ الْمَرْعَى مِنْ دُمُوعِ
عَيْنِهِ حَتَّى غَطَّى رَأْسَهُ، فَنُودِيَ: يَا دَاوُدُ
أَجَائِعٌ فَتُطْعَمُ؟ أَوْ ظَمْآنٌ فَتُسْقَى؟ أَوْ عَارٍ
فَتُكْسَى؟ فَأُجِيبُ فِي غَيْرِ مَا طَلَبَ، قَالَ: فَنَحَبَ
نَحْبَةً هَاجَ لَهَا الْعُودُ فَاحْتَرَقَ مِنْ حَرِّ
جَوْفِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ لَهُ التَّوْبَةَ
وَالْمَغْفِرَةَ. (3)
قَالَ وَهْبٌ: إِنَّ دَاوُدَ أَتَاهُ نِدَاءٌ: إِنِّي قَدْ
غَفَرْتُ لَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ وَأَنْتَ لَا تَظْلِمُ
أَحَدًا؟ قَالَ: اذْهَبْ إِلَى قَبْرِ أُورِيَّا فَنَادِهِ،
فَأَنَا أُسْمِعُهُ نِدَاءَكَ فَتَحَلَّلَ مِنْهُ، قَالَ:
فَانْطَلَقَ وَقَدْ لَبِسَ الْمُسُوحَ حَتَّى جَلَسَ عِنْدَ
قَبْرِهِ، ثُمَّ نَادَى يَا أُورِيَّا فَقَالَ: لَبَّيْكَ مَنْ
هَذَا الَّذِي قَطَعَ عَنِّي لَذَّتِي وَأَيْقَظَنِي؟ قَالَ:
أَنَا دَاوُدُ، قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ،
قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي حَلٍّ مِمَّا كَانَ
مِنِّي إِلَيْكَ، قَالَ: وَمَا كَانَ مِنْكَ إِلَيَّ؟ قَالَ:
عَرَّضْتُكَ لِلْقَتْلِ: قَالَ: عَرَّضْتَنِي لِلْجَنَّةِ
فَأَنْتَ فِي حَلٍّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا دَاوُدُ
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنِّي حَكَمٌ عَدْلٌ لَا أَقْضِي
بِالْعَنَتِ، أَلَا أَعْلَمْتَهُ أَنَّكَ قَدْ تَزَوَّجْتَ
امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَنَادَاهُ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ليس في الآيات الكريمة شيء من هذه الروايات، ولا في شيء من
كتب الحديث المعتمدة، وهي التي عليها المعول.
(3) انظر: الطبري: 23 / 150.
(7/83)
فَغَفَرْنَا لَهُ
ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
فَأَجَابَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي
قَطَعَ عَلَيَّ لَذَّتِي؟ قَالَ: أَنَا دَاوُدُ، قَالَ: يَا
نَبِيَّ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ عَفَوْتُ عَنْكَ؟ قال: نَعَمْ
وَلَكِنْ إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ لِمَكَانِ امْرَأَتِكَ
وَقَدْ تَزَوَّجْتُهَا، قَالَ: فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْهُ،
وَدَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَعَاوَدَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ،
فَقَامَ عَلَى قَبْرِهِ وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ،
ثُمَّ نَادَى: الْوَيْلُ لِدَاوُدَ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ
لِدَاوُدَ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، وَالْوَيْلُ لِدَاوُدَ
إِذَا نُصِبَتِ الْمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ، سُبْحَانَ خَالِقِ
النُّورِ، الْوَيْلُ لِدَاوُدَ ثُمَّ الْوَيْلُ الطَّوِيلُ
لَهُ حِينَ يُؤْخَذُ بِذَقَنِهِ فَيُدْفَعُ إِلَى
الْمَظْلُومِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ، الْوَيْلُ ثُمَّ
الْوَيْلُ الطَّوِيلُ لَهُ حِينَ يُسْحَبُ عل وَجْهِهِ مَعَ
الْخَاطِئِينَ إِلَى النَّارِ، سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ،
فَأَتَاهُ نِدَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ: يَا دَاوُدُ قَدْ غَفَرْتُ
لَكَ ذَنْبَكَ وَرَحِمْتُ بُكَاءَكَ وَاسْتَجَبْتُ دُعَاءَكَ
وَأَقَلْتُ عَثْرَتَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ وَصَاحِبِي
لَمْ يَعْفُ عَنِّي؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ أُعْطِيهِ مِنَ
الثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا لَمْ تَرَ عَيْنَاهُ
وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنَاهُ، فَأَقُولُ لَهُ: رَضِيَ عَبْدِي؟
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ
عَمَلِي؟ فَأَقُولُ: هَذَا عِوَضٌ مِنْ عَبْدِي دَاوُدَ
فَأَسْتَوْهِبُكَ مِنْهُ فَيَهَبُكَ لِي، قَالَ: يَا رَبِّ
الْآنَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي (1) .
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا} أَيْ سَاجِدًا،
عَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
فِيهِ انْحِنَاءٌ.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ طَاهِرٍ عَنْ قَوْلِهِ: "وَخَرَّ رَاكِعًا" هَلْ يُقَالُ
لِلرَّاكِعِ: خَرَّ؟ قُلْتُ: لَا وَمَعْنَاهُ، فَخَرَّ
بَعْدَمَا كَانَ رَاكِعًا، أَيْ: سَجَدَ {وَأَنَابَ} أَيْ:
رَجَعَ وَتَابَ.
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى
وَحُسْنَ مَآبٍ (25) }
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} يَعْنِي: ذَلِكَ الذَّنْبَ،
{وَإِنَّ لَهُ} بَعْدَ الْمَغْفِرَةِ {عِنْدَنَا} يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، {لَزُلْفَى} لقربة ومكانة، {وَحُسْنَ مَآبٍ}
أَيْ: حُسْنُ مَرْجِعٍ وَمُنْقَلَبٍ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ (2) : إِنَّ دَاوُدَ لَمَّا
تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ثَلَاثِينَ
سَنَةً لَا يَرْقَأُ دَمْعُهُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَكَانَ
أَصَابَ الْخَطِيئَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِينَ سَنَةً،
فَقَسَّمَ الدَّهْرَ بَعْدَ الْخَطِيئَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ: يَوْمٌ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَيَوْمٌ لِنِسَائِهِ، وَيَوْمٌ يَسْبَحُ فِي الْفَيَافِي
وَالْجِبَالِ وَالسَّوَاحِلِ، وَيَوْمٌ يَخْلُو فِي دَارٍ لَهُ
فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِحْرَابٍ، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ
الرُّهْبَانُ فَيَنُوحُ مَعَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ،
فَيُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ
نِيَاحَتِهِ يخرج في 102/أالْفَيَافِي فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ
بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَيَبْكِي مَعَهُ [الشَّجَرُ
وَالرِّمَالُ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ
دُمُوعِهِمْ مِثْلَ الْأَنْهَارِ، ثُمَّ يَجِيءُ إِلَى
الْجِبَالِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي
وَيَبْكِي مَعَهُ] (3) الْجِبَالُ وَالْحِجَارَةُ
وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ، حَتَّى تَسِيلَ مِنْ بُكَائِهِمُ
الْأَوْدِيَةُ، ثُمَّ يَجِيءُ
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 7 / 160- 161.
(2) وخبر وهب أيضًا من الإسرائيليات في هذه القصة كما سبق.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(7/84)
إِلَى السَّاحِلِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ
بِالْمَزَامِيرِ فَيَبْكِي وَتَبْكِي مَعَهُ الْحِيتَانُ
وَدَوَابُّ الْبَحْرِ وَطَيْرُ الْمَاءِ وَالسِّبَاعُ، فَإِذَا
أَمْسَى رَجَعَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ نَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ
نَادَى مُنَادِيهِ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ نَوْحِ دَاوُدَ
عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَحْضُرْ مَنْ يُسَاعِدُهُ، فَيَدْخُلُ
الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْمَحَارِيبُ، فَيُبْسَطُ لَهُ
ثَلَاثَةُ فُرُشٍ مُسُوحٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَيَجْلِسُ
عَلَيْهَا وَيَجِيءُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَاهِبٍ عَلَيْهِمُ
الْبَرَانِسُ وَفِي أَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ، فَيَجْلِسُونَ فِي
تِلْكَ الْمَحَارِيبِ ثُمَّ يَرْفَعُ دَاوُدُ صَوْتَهُ
بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَرْفَعُ
الرُّهْبَانُ مَعَهُ أَصْوَاتَهُمْ، فَلَا يَزَالُ يَبْكِي
حَتَّى تَغْرَقَ الْفُرُشُ مِنْ دُمُوعِهِ، وَيَقَعَ دَاوُدُ
فِيهَا مِثْلَ الْفَرْخِ يَضْطَرِبُ، فَيَجِيءُ ابْنُهُ
سُلَيْمَانُ فَيَحْمِلُهُ فَيَأْخُذُ دَاوُدُ مِنْ تِلْكَ
الدُّمُوعِ بِكَفَّيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ،
وَيَقُولُ: يَا رَبِّ اغْفِرْ لِي مَا تَرَى، فَلَوْ عُدِلَ
بُكَاءُ دَاوُدَ بِبُكَاءِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَعَدَلَهُ.
وَقَالَ وَهْبٌ: مَا رَفَعَ دَاوُدُ رَأْسَهُ حَتَّى قَالَ
لَهُ الْمَلَكُ: أَوَّلُ أَمْرِكَ ذَنْبٌ وَآخِرُهُ
مَعْصِيَةٌ، ارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَمَكَثَ
حَيَاتَهُ لَا يَشْرَبُ مَاءً إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِهِ،
وَلَا يَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بَلَّهُ بِدُمُوعِهِ.
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِثْلَ عَيْنَيْ
دَاوُدَ كَقِرْبَتَيْنِ تَنْطِفَانِ مَاءً، وَلَقَدْ خَدَّتِ
الدُّمُوعُ فِي وَجْهِهِ كَخَدِيدِ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ"
(1) .
قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى دَاوُدَ قَالَ: يَا
رَبِّ غَفَرْتَ لِي فَكَيْفَ لِي أَنْ لَا أَنْسَى خَطِيئَتِي
فَأَسْتَغْفِرَ مِنْهَا وَلِلْخَاطِئِينَ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: فَوَسَمَ اللَّهُ خَطِيئَتَهُ فِي يَدِهِ
الْيُمْنَى، فَمَا رَفَعَ فِيهَا طَعَامًا وَلَا شَرَابًا
إِلَّا بَكَى إِذَا رَآهَا، وَمَا قَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ
إِلَّا بَسَطَ رَاحَتَهُ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ لِيَرَوْا
وَسْمَ خَطِيئَتِهِ، وَكَانَ يَبْدَأُ إِذَا دَعَا
فَاسْتَغْفَرَ لِلْخَاطِئِينَ قَبْلَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ: كَانَ دَاوُدُ بَعْدَ
الْخَطِيئَةِ لَا يُجَالِسُ إِلَّا الْخَاطِئِينَ، يَقُولُ:
تَعَالَوْا إِلَى دَاوُدَ الْخَاطِئِ فَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا
إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ يَجْعَلُ
خُبْزَ الشَّعِيرِ الْيَابِسِ فِي قَصْعَةٍ فَلَا يَزَالُ
يَبْكِي عَلَيْهِ حَتَّى يَبْتَلَّ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ،
وَكَانَ يَذَرُ عَلَيْهِ الْمِلْحَ وَالرَّمَادَ فَيَأْكُلُ
وَيَقُولُ: هَذَا أَكْلُ الْخَاطِئِينَ، قَالَ: وَكَانَ
دَاوُدُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ
وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ خَطِيئَتِهِ
مَا كَانَ، صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ وَقَامَ اللَّيْلَ
كُلَّهُ.
وَقَالَ ثَابِتٌ: كَانَ دَاوُدُ إذ ذَكَرَ عِقَابَ اللَّهِ
تَخَلَّعَتْ أَوْصَالُهُ، فَلَا يَشُدُّهَا إِلَّا الْأَسْرُ،
وَإِذَا ذَكَرَ رَحْمَةَ اللَّهِ تَرَاجَعَتْ.
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ الْوُحُوشَ وَالطَّيْرَ كَانَتْ
تَسْتَمِعُ إِلَى قِرَاءَتِهِ، فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ
كَانَتْ لَا تُصْغِي
__________
(1) ضعيف أخرجه الإمام أحمد في الزهد، والحكيم الترمذي في
نوادر الأصول. انظر: الدر المنثور: 7 / 163.
(7/85)
إِلَى قِرَاءَتِهِ، فَرُوِيَ أَنَّهَا
قَالَتْ: يَا دَاوُدُ ذَهَبَتْ خَطِيئَتُكَ بِحَلَاوَةِ
صَوْتِكَ (1) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو
النُّعْمَانِ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: "سَجْدَةُ ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ
السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا" (2) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبِيدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنِ
الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص
فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ؟
قَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: "وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ" إِلَى "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ" (الْأَنْعَامِ: 84 -90) وَكَانَ
دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ،
فَسَجَدَهَا دَاوُدُ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ خُنَيْسٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ
قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبِيدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي
رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ وَأَنَا نَائِمٌ كَأَنِّي أُصَلِّي
خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدْتُ فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ
لِسُجُودِي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ
لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا،
وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي
كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُدَ. قَالَ الْحَسَنُ:
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ لِي جَدُّكَ: قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: فَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَجْدَةً ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ
[مِثْلَ ذَلِكَ] (4) مَا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قول
الشجرة" (5)
__________
(1) قال القاضي عياض في كتابه "الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى"
2 / 827 - 828 "لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب
الذين بدلوا وغيروا ونقله المفسرون، ولم ينص الله تعالى على
شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص الله
عليه في قصة داود: قوله (وظن داود أنما فتناه) وليس في قصة
داود وأوريا خبر ثابت.. وقال الداوودي: ليس في قصة داود وأوريا
خبر يثبت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم".
(2) أخرجه البخاري في سجود القرآن، باب: سجدة (ص) 2 / 553.
(3) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة (ص) 8 / 544.
(4) ساقط من "ب".
(5) أخرجه الترمذي في الجمعة، أبواب السفر، باب: ما جاء في ما
يقول في سجود القرآن: 3 / 181، قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب
من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وابن ماجه في
إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: سجود القرآن برقم (1053) 1 /
334، والحاكم: 1 / 219 - 220 وصححه ووافقه الذهبي. قال الحافظ
ابن حجر في التلخيص 2 / 8: "رواه الشافعي في الأم عن ابن عيينة
عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا. ورواه في القديم عن
سفيان عن عمر بن ذر عن أبيه قال: سجدها داود، قال البيهقي:
وروي من وجه آخر عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس موصولا وليس بالقوي. قلت: - ابن حجر - رواه النسائي من
حديث حجاج بن محمد عن عمر بن ذر موصولا، ورواه الدارقطني من
حديث عبد الله بن بزيع عن عمر بن ذر بنحوه، وأعله ابن الجوزي
به، وقد توبع، وصححه ابن السكن، وفي البخاري عن عكرمة عن ابن
عباس (ص) ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد فيها". وانظر: سلسلة الأحاديث
الصحيحة برقم (2710) .
(7/86)
يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ
الْحِسَابِ (26)
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) }
(7/87)
وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ
ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ (28) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ} تُدَبِّرُ أُمُورَ الْعِبَادِ بِأَمْرِنَا،
{فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} بِالْعَدْلِ، {وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ
الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أَيْ بِأَنْ تَرَكُوا
الْإِيمَانَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
بِتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ
وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ
الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا، أَيْ: تَرَكُوا الْقَضَاءَ
بِالْعَدْلِ.
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا
بَاطِلًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا لِثَوَابٍ وَلَا
لِعِقَابٍ. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي: أَهْلَ
مَكَّةَ هُمُ الذين ظنوا أنهما خلقا لِغَيْرِ شَيْءٍ،
وَأَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} .
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ
كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّا نُعْطَى فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُعْطَوْنَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ (1) {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}
[أَيِ الْمُؤْمِنِينَ كَالْكُفَّارِ] (2) وَقِيلَ: أَرَادَ
بِالْمُتَّقِينَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَيْ: لَا نَجْعَلُ ذَلِكَ.
__________
(1) انظر البحر المحيط: 7 / 395.
(2) زيادة من "ب".
(7/87)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
(29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) }
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، {مُبَارَكٌ} كَثِيرٌ خَيْرُهُ
وَنَفْعُهُ، {لِيَدَّبَّرُوا} أَيْ: لِيَتَدَبَّرُوا،
{آيَاتِهِ} وَلِيَتَفَكَّرُوا فِيهَا، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
"لِتَدَبَّرُوا" بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ،
قَالَ الْحَسَنُ: تَدَبُّرُ آيَاتِهِ: اتِّبَاعُهُ
{وَلِيَتَذَكَّرَ} لِيَتَّعِظَ، {أُولُو الْأَلْبَابِ} .
قَوْلُهُ عز وجل: 102/ب {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: غَزَا سُلَيْمَانُ أَهْلَ دِمَشْقَ
وَنَصِيبِينَ، فَأَصَابَ مِنْهُمْ أَلْفَ فَرَسٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ دَاوُدَ أَلْفَ فَرَسٍ
(1) .
وَقَالَ عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ
خَيْلًا أُخْرِجَتْ مِنَ الْبَحْرِ لَهَا أَجْنِحَةٌ (2) .
[قَالُوا:] (3) فَصَلَّى سُلَيْمَانُ الصَّلَاةَ الْأُولَى،
وَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَهِيَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ،
فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ تِسْعُمِائَةٍ، فَتَنَبَّهَ لِصَلَاةِ
الْعَصْرِ فَإِذَا الشَّمْسُ قَدْ غَرَبَتْ، وَفَاتَتْهُ
الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ
هَيْبَةً لِلَّهِ، فَقَالَ: رُدُّوهَا عَلَيَّ، فَرَدُّوهَا
عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا
بِالسَّيْفِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَطَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، حَيْثُ اشْتَغَلَ بِهَا عَنْ
طَاعَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَإِنْ كَانَ
حَرَامًا عَلَيْنَا، كَمَا أُبِيحَ لَنَا ذَبْحُ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ، وَبَقِيَ مِنْهَا مِائَةُ فَرَسٍ، فَمَا بَقِيَ
فِي أَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ مِنَ الْخَيْلِ يُقَالُ مِنْ
نَسْلِ تِلْكَ الْمِائَةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَلَمَّا عَقَرَ الْخَيْلَ أَبْدَلَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا وَأَسْرَعَ، وَهِيَ
الرِّيحُ تَجْرِي بِأَمْرِهِ كَيْفَ يَشَاءُ.
[وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: كَانَتْ عِشْرِينَ
فَرَسًا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ،
لَهَا أَجْنِحَةٌ] (4) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} و"الصَّافِنَاتُ": هِيَ الْخَيْلُ
الْقَائِمَةُ
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 7 / 396.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 177 لعبد بن حميد وابن
المنذر.
(3) زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(7/88)
فَقَالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ
مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَأَقَامَتْ
وَاحِدَةً عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ،
يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ يَصْفِنُ صُفُونًا: إِذَا قَامَ
عَلَى ثَلَاثَةِ قَوَائِمَ، وَقَلَبَ أَحَدَ حَوَافِرِهِ.
وَقِيلَ: الصَّافِنُ فِي اللُّغَةِ الْقَائِمُ. وَجَاءَ فِي
الْحَدِيثِ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ الرِّجَالُ
صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (1) .
أَيْ قِيَامًا وَالْجِيَادُ: الْخِيَارُ السِّرَاعُ،
وَاحِدُهَا جَوَادٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ
الْخَيْلَ السَّوَابِقَ.
{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) }
{فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أَيْ: آثَرْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ، وَأَرَادَ بِالْخَيْرِ الْخَيْلَ،
وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ، فَتَقُولُ:
خَتَلْتُ الرَّجُلَ وَخَتَرْتُهُ، أَيْ: خَدَعْتُهُ،
وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْرًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ
بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ (2) ، قَالَ
مُقَاتِلٌ: حُبُّ الْخَيْرِ يَعْنِي: الْمَالَ، فَهِيَ
الْخَيْلُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ. {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}
يَعْنِي: عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ {حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أَيْ: تَوَارَتِ الشَّمْسُ
بِالْحِجَابِ (3) اسْتَتَرَتْ بِمَا يَحْجُبُهَا عَنِ
الْأَبْصَارِ، يُقَالُ: الْحَاجِبُ جَبَلٌ دُونَ قَافٍ،
بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ مِنْ وَرَائِهِ.
{رُدُّوهَا عَلَيَّ} أَيْ: رُدُّوا الْخَيْلَ عَلَيَّ،
فَرَدُّوهَا، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَفِقَ يَفْعَلُ، مِثْلُ: مَا زَالَ
يَفْعَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْحِ: الْقَطْعُ، فَجَعَلَ
يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ، هَذَا قَوْلُ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٍ،
وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ (4) وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ،
لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَقْدَمُ عَلَى
مُحَرَّمٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَتُوبُ عَنْ ذَنْبٍ بِذَنْبٍ آخَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُعَنِّفْهُ اللَّهُ
عَلَى عَقْرِ الْخَيْلِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسَفًا عَلَى مَا
فَاتَهُ مِنْ فَرِيضَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في قيام الرجل للرجل: 8 / 92
- 93، والترمذي في الأدب، باب: ما جاء في كراهية قيام الرجل
للرجل: 8 / 30 وقال: "هذا حديث حسن" والإمام أحمد: 4 / 100
والطبراني في الكبير: 19 / 351 - 352 وابن أبي شيبة في المصنف:
8 / 586، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1332.
(2) أخرج البخاري: 6 / 54، ومسلم: 3 / 1494 عن أنس قال: قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البركة في
نواصي الخيل" وأخرج مسلم: 3 / 1943 عن جرير رضي الله عنه -
مرفوعا -: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلي يوم القيامة: الأجر
والغنيمة".
(3) قال الحافظ ابن حجر: الثابت عن جمهور أهل العلم بالتفسير
من الصحابة ومن بعدهم أن الضمير المؤنث في قوله: (ردوها عليَّ)
للخيل والله أعلم.
(4) انظر: الطبري: 23 / 156 وزاد المسير: 7 / 131، معاني
القرآن للفراء: 2 / 405، القرطين لابن مطرف: 2 / 102، معاني
القرآن للنحاس: 6 / 112، تفسير ابن كثير: 4 / 35.
(7/89)
وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ
أَنَابَ (34)
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَبَحَهَا
ذَبْحًا وَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا، وَكَانَ الذَّبْحُ عَلَى
ذَلِكَ الْوَجْهِ مُبَاحًا فِي شَرِيعَتِهِ (1) .
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَبَسَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَكَوَى سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِكَيِّ الصَّدَقَةِ
(2) .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ كَانَ
يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِيَدِهِ، يَكْشِفُ
الْغُبَارَ عَنْهَا حُبًّا لَهَا وَشَفَقَةً عَلَيْهَا،
وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ (3) وَالْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:
"رُدُّوهَا عَلَيَّ" يَقُولُ سُلَيْمَانُ بِأَمْرِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالشَّمْسِ:
"رُدُّوهَا عَلَيَّ" يَعْنِي: الشَّمْسَ، فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ
حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْخَيْلُ لِجِهَادِ عَدُوٍّ، حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}
اخْتَبَرْنَاهُ وَابْتَلَيْنَاهُ بِسَلْبِ مُلْكِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعَ سُلَيْمَانُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَدِينَةٍ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ
الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا صَيْدُونَ، بِهَا مَلِكٌ عَظِيمُ
الشَّأْنِ، لَمْ يَكُنْ للناس إليه سبيلا لِمَكَانِهِ فِي
الْبَحْرِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَى سُلَيْمَانَ فِي
مُلْكِهِ سُلْطَانًا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي بَرٍّ
وَلَا بَحْرٍ، إِنَّمَا يَرْكَبُ إِلَيْهِ الرِّيحَ، فَخَرَجَ
إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ عَلَى ظَهْرِ
الْمَاءِ، حَتَّى نَزَلَ بِهَا بِجُنُودِهِ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَاسْتَوْلَى وَاسْتَفَاءَ
وَسَبَى مَا فِيهَا، وَأَصَابَ فِيمَا أَصَابَ بِنْتًا
لِذَلِكَ الْمَلِكِ، يُقَالُ لَهَا: جَرَادَةُ، لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ،
وَدَعَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَتْ عَلَى جَفَاءٍ
مِنْهَا وَقِلَّةِ فِقْهٍ، وَأَحَبَّهَا حُبًّا لَمْ يُحِبَّهُ
شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتْ عَلَى مَنْزِلَتِهَا
عِنْدَهُ لَا يَذْهَبُ حُزْنُهَا وَلَا يَرْقَأُ دَمْعُهَا،
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ مَا
هَذَا الْحُزْنُ الَّذِي لَا يَذْهَبُ، وَالدَّمْعُ الَّذِي
لَا يَرْقَأُ؟ قَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَذْكُرُهُ وَأَذْكُرُ
مُلْكَهُ وَمَا كَانَ فِيهِ وَمَا أَصَابَهُ فَيُحْزِنُنِي
ذَلِكَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَدْ أَبْدَلَكِ اللَّهُ بِهِ
مُلْكًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِهِ، وَسُلْطَانًا هُوَ
أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَهَدَاكِ لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ
خَيْرٌ مِنْ
__________
(1) انظر: معاني القرآن للنحاس: 6 / 113.
(2) رجحه أبو حيان في البحر المحيط: 7 / 396 وقال: هذا القول
هو الذي يناسب مناصب الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن
في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء.
(3) رواه الطبري 23 / 156 عن ابن عباس ورجحه قائلا: وهذا القول
أشبه بتأويل الآية، لأن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لم يكن- إن شاء الله - ليعذب حيوانًا بالعرقبة ويهلك
مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها،
ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها.
(7/90)
ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ
كَذَلِكَ، وَلَكِنِّي إِذَا ذَكَرْتُهُ أَصَابَنِي مَا تَرَى
مِنَ الْحُزْنِ، فَلَوْ أَنَّكَ أَمَرْتَ الشَّيَاطِينَ
فَصَوَّرُوا صُورَتَهُ فِي دَارِي الَّتِي أَنَا فِيهَا
أَرَاهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا لَرَجَوْتُ أَنْ يُذْهِبَ ذَلِكَ
حُزْنِي، وَأَنْ يُسَلِّيَ عَنِّي بَعْضَ مَا أَجِدُ فِي
نَفْسِي، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ، فَقَالَ:
مَثِّلُوا لَهَا صُورَةَ أَبِيهَا فِي دَارِهَا حَتَّى لَا
تُنْكِرَ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَثَّلُوهُ لَهَا حَتَّى نَظَرَتْ
إِلَى أَبِيهَا بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهِ،
فَعَمَدَتْ إِلَيْهِ حِينَ صَنَعُوهُ فَأَزَّرَتْهُ
وَقَمَّصَتْهُ وَعَمَّمَتْهُ وَرَدَّتْهُ بِمِثْلِ ثِيَابِهِ
الَّتِي كَانَ يَلْبَسُ، ثُمَّ كَانَ إِذَا خَرَجَ سُلَيْمَانُ
[مِنْ دَارِهَا] (1) تَغْدُو عَلَيْهِ فِي وَلَائِدِهَا حَتَّى
تَسْجُدَ لَهُ، وَيَسْجُدْنَ لَهُ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ بِهِ
فِي مُلْكِهِ، وَتَرُوحُ كُلَّ عَشِيَّةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ
وَسُلَيْمَانُ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ
صَبَاحًا، وَبَلَغَ ذَلِكَ آصَفَ بْنَ بَرَخْيَا، وَكَانَ
صِدِّيقًا، وَكَانَ لَا يُرَدُّ عَنْ أَبْوَابِ سُلَيْمَانَ،
أَيَّ سَاعَةٍ أَرَادَ دُخُولَ شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ دَخَلَ،
حَاضِرًا كَانَ سُلَيْمَانُ أَوْ غَائِبًا، فَأَتَاهُ فَقَالَ:
يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَبُرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَنَفِدَ
عُمْرِي، وَقَدْ حَانَ مِنِّي الذَّهَابُ، فَقَدْ أَحْبَبْتُ
أَنْ أَقُومَ مَقَامًا قَبْلَ الْمَوْتِ أَذْكُرُ فِيهِ مَنْ
مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأُثْنِي عَلَيْهِمْ
بِعِلْمِي فِيهِمْ، وَأُعَلِّمُ النَّاسَ بَعْضَ مَا كَانُوا
يَجْهَلُونَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَقَالَ: افْعَلْ،
فَجَمْعَ لَهُ سُلَيْمَانُ النَّاسَ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا
فَذَكَرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَأَثْنَى عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا فِيهِ، فَذَكَرَ مَا
فَضَّلَهُ اللَّهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سُلَيْمَانَ،
فَقَالَ: مَا أَحْلَمَكَ في صغرك، 103/أوَأَوْرَعَكَ فِي
صِغَرِكَ، وَأَفْضَلَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَحْكَمَ أَمْرِكَ فِي
صِغَرِكَ، وَأَبْعَدَكَ مِنْ كُلِّ مَا تَكْرَهُ فِي صِغَرِكَ،
ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَلَأَهُ غَضَبًا، فَلَمَّا
دَخَلَ سُلَيْمَانُ دَارَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا
آصَفُ ذَكَرْتَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ،
فَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِمْ خَيْرًا فِي كُلِّ زَمَانِهِمْ،
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا ذَكَرْتَنِي
جَعَلْتَ تُثْنِي عَلَيَّ بِخَيْرٍ فِي صِغَرِي، وَسَكَتَّ
عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي فِي كِبَرِي؟ فَمَا الَّذِي
أَحْدَثْتُ فِي آخِرِ أَمْرِي؟ فَقَالَ: إِنَّ غَيْرَ اللَّهِ
لَيُعْبَدُ فِي دَارِكَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فِي هَوَى
امْرَأَةٍ، فَقَالَ: فِي دَارِي؟ فَقَالَ: فِي دَارِكَ، قَالَ:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَقَدْ عَرَفْتُ
أَنَّكَ مَا قُلْتَ الَّذِي قَلْتَ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ
بَلَغَكَ، ثُمَّ رَجَعَ سُلَيْمَانُ إِلَى دَارِهِ وَكَسَرَ
ذَلِكَ الصَّنَمَ، وَعَاقَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ
وَوَلَائِدَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِثِيَابِ الطُّهْرَةِ فَأُتِيَ
بِهَا وَهِيَ ثِيَابٌ لَا يَغْزِلُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ،
وَلَا يَنْسِجُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، وَلَا يَغْسِلُهَا
إِلَّا الْأَبْكَارُ، لَمْ تَمْسَسْهَا امْرَأَةٌ قَدْ رَأَتِ
الدَّمَ، فَلَبِسَهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى فَلَاةٍ مِنَ
الْأَرْضِ وَحْدَهُ، فَأَمَرَ بِرَمَادٍ فَفُرِشَ لَهُ، ثُمَّ
أَقْبَلَ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى جَلَسَ
عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ وَتَمَعَّكَ فِيهِ بِثِيَابِهِ
تَذَلُّلًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَضَرُّعًا إِلَيْهِ يَبْكِي
وَيَدْعُو، وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا كَانَ فِي دَارِهِ، فَلَمْ
يَزَلْ كَذَلِكَ يَوْمَهُ حَتَّى أَمْسَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
دَارِهِ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا
الْأَمِينَةُ، كَانَ إِذَا دَخَلَ مَذْهَبَهُ أَوْ أَرَادَ
إِصَابَةَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَضَعَ خَاتَمَهُ
عِنْدَهَا حَتَّى يَتَطَهَّرَ، وَكَانَ لَا يَمَسُّ خَاتَمَهُ
إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ
فَوَضَعَهُ يَوْمًا عِنْدَهَا، ثُمَّ دَخَلَ مَذْهَبَهُ
فَأَتَاهَا الشَّيْطَانُ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَاسْمُهُ صَخْرٌ،
عَلَى صُورَةِ سُلَيْمَانَ لَا تُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئًا،
فَقَالَ: خَاتَمِي أَمِينَةُ! فَنَاوَلَتْهُ إِيَّاهُ،
فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى
سَرِيرِ سُلَيْمَانَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ
وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَأَتَى
الْأَمِينَةَ وَقَدْ غُيِّرَتْ حَالُهُ، وَهَيْئَتُهُ عِنْدَ
كُلِّ مَنْ رَآهُ، فَقَالَ: يَا أَمِينَةُ خَاتَمِي، قَالَتْ:
مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَتْ:
كَذَبْتَ فَقَدْ جَاءَ سُلَيْمَانُ فَأَخَذَ خَاتَمَهُ وَهُوَ
جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّ
خَطِيئَتَهُ قَدْ أَدْرَكَتْهُ، فَخَرَجَ فَجَعَلَ يَقِفُ
عَلَى الدَّارِ مِنْ دُوْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ:
أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، فَيَحْثُونَ عَلَيْهِ
التُّرَابَ وَيَسُبُّونَهُ، وَيَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى
هَذَا الْمَجْنُونِ أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ يَزْعُمُ أَنَّهُ
سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى سُلَيْمَانُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى
الْبَحْرِ، فَكَانَ يَنْقُلُ الْحِيتَانَ لِأَصْحَابِ
الْبَحْرِ إِلَى السُّوقِ فَيُعْطُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ
سَمَكَتَيْنِ، فَإِذَا أَمْسَى بَاعَ إِحْدَى سَمَكَتَيْهِ
بِأَرْغِفَةٍ وَشَوَى الْأُخْرَى فَأَكَلَهَا، فَمَكَثَ
بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عِدَّةَ مَا كَانَ عُبِدَ
الْوَثَنُ فِي دَارِهِ، فَأَنْكَرَ آصَفُ وَعُظَمَاءُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ حُكْمَ عَدُوِّ اللَّهِ الشَّيْطَانِ فِي تِلْكَ
الْأَرْبَعِينَ، فَقَالَ آصَفُ: يَا مَعْشَرَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ هَلْ رَأَيْتُمُ اخْتِلَافَ حُكْمِ ابْنِ دَاوُدَ
مَا رَأَيْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى
أَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ فَأَسْأَلُهُنَّ فَهَلْ
أَنْكَرْتُنَّ مِنْهُ فِي خَاصَّةِ أَمْرِهِ مَا أَنْكَرْنَاهُ
فِي عَامَّةِ أَمْرِ النَّاسِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَى
نِسَائِهِ، فَقَالَ: وَيَحَكُنَّ هَلْ أَنْكَرْتُنَّ مِنْ
أَمْرِ ابْنِ دَاوُدَ مَا أَنْكَرْنَا؟ فَقُلْنَ: أَشَدُّهُ
مَا يَدَعُ مِنَّا امْرَأَةً فِي دَمِهَا وَلَا يَغْتَسِلُ
مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ثُمَّ
خَرَجَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَا فِي الْخَاصَّةِ
أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْعَامَّةِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُونَ
صَبَاحًا طَارَ الشَّيْطَانُ عَنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ مَرَّ
بِالْبَحْرِ فَقَذَفَ الْخَاتَمَ فِيهِ، فَبَلَعَتْهُ سَمَكَةٌ
فَأَخَذَهَا بَعْضُ الصَّيَّادِينَ، وَقَدْ عَمِلَ لَهُ
سُلَيْمَانُ صَدْرَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ
الْعَشِيُّ أَعْطَاهُ سَمَكَتَيْهِ وَأَعْطَاهُ السَّمَكَةَ
الَّتِي أَخَذَتِ الْخَاتَمَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ
بِسَمَكَتَيْهِ، فَبَاعَ الَّتِي لَيْسَ فِي بَطْنِهَا
الْخَاتَمُ بِالْأَرْغِفَةِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى السَّمَكَةِ
الْأُخْرَى فَبَقَرَهَا لِيَشْوِيَهَا فَاسْتَقْبَلَهُ
خَاتَمُهُ فِي جَوْفِهَا، فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ،
وَوَقَعَ سَاجِدًا، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ،
وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَعَرَفَ الَّذِي كَانَ قَدْ
دَخَلَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِهِ،
فَرَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ
ذَنْبِهِ، وَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَقَالَ: ائْتُونِي بِصَخْرٍ
فَطَلَبَتْهُ الشَّيَاطِينُ حَتَّى أَخَذَتْهُ، فأتي به وجاؤوا
لَهُ بِصَخْرَةٍ فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَهُ فِيهَا ثُمَّ شَدَّ
عَلَيْهِ بِأُخْرَى، ثُمَّ أَوْثَقَهَا بِالْحَدِيدِ
وَالرَّصَاصِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي الْبَحْرِ.
هَذَا حَدِيثُ وَهْبٍ (2) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَ
الشَّيْطَانَ عَلَى نِسَائِهِ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ سَبَبُ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ
أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ
مِنْهُنَّ يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ هِيَ آثَرُ نِسَائِهِ
وَآمَنُهُنَّ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَأْتَمِنُهَا عَلَى خَاتَمِهِ
إِذَا أَتَى حَاجَتَهُ، فَقَالَتْ لَهُ يَوْمًا: إِنَّ أَخِي
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ خُصُومَةٌ، وَأَنَا أُحِبُّ
أَنْ تَقْضِيَ لَهُ إِذَا جَاءَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ
يَفْعَلْ فَابْتُلِيَ بِقَوْلِهِ، فَأَعْطَاهَا خَاتَمَهُ
وَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ (3)
فَأَخَذَهُ وَجَلَسَ عَلَى مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ، وَخَرَجَ
سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَهَا خَاتَمَهُ
فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ؟ قَالَ: لَا وَخَرَجَ مَكَانَهُ
وَمَكَثَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، فَأَنْكَرَ النَّاسُ حُكْمَهُ، فَاجْتَمَعَ قُرَّاءُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعُلَمَاؤُهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى
نِسَائِهِ، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا، فَإِنْ
كَانَ سُلَيْمَانُ فَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، فَبَكَى النِّسَاءُ
عِنْدَ ذَلِكَ فَأَقْبَلُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِ، ونشروا
التوراة فقرؤوها فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى
وَقَعَ عَلَى شُرْفَةٍ، وَالْخَاتَمُ مَعَهُ، ثُمَّ طَارَ
حَتَّى ذَهَبَ إِلَى الْبَحْرِ، فَوَقَعَ الْخَاتَمُ مِنْهُ
فِي الْبَحْرِ، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ، وَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ
حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَيَّادٍ مِنْ صَيَّادِي الْبَحْرِ
وَهُوَ جَائِعٌ قَدِ اشْتَدَّ جُوعُهُ، فَاسْتَطْعَمَهُ مِنْ
صَيْدِهِ، وَقَالَ: إِنِّي أَنَا سُلَيْمَانُ، فَقَامَ
إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ
يَغْسِلُ دَمَهُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَلَامَ
الصَّيَّادُونَ صَاحِبَهُمُ الَّذِي ضَرَبَهُ، وَأَعْطَوْهُ
سَمَكَتَيْنِ مِمَّا قَدْ مَذِرَ (4) عِنْدَهُمْ، فَشَقَّ
بُطُونَهُمَا وَجَعَلَ يَغْسِلُهُمَا، فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي
بَطْنِ إِحْدَاهُمَا، فَلَبِسَهُ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
مُلْكَهُ وَبَهَاءَهُ.
وَحَامَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهُ
سُلَيْمَانُ، فَقَامُوا يَعْتَذِرُونَ مِمَّا صَنَعُوا،
فَقَالَ: مَا أَحْمَدُكُمْ عَلَى عُذْرِكُمْ وَلَا أَلُومُكُمْ
عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ، هَذَا أَمْرٌ كَائِنٌ لَا بُدَّ
مِنْهُ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى أَتَى مَمْلَكَتَهُ وَأَمَرَ
حَتَّى أُتِيَ بِالشَّيْطَانِ الَّذِي أَخَذَ خَاتَمَهُ
وَجَعَلَهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ
بِقُفْلٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ، وَأَمَرَ بِهِ
فَأُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ حَيٌّ كَذَلِكَ حَتَّى
السَّاعَةِ. (5)
وفي بعض 103/ب الرِّوَايَاتِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا
افْتُتِنَ سَقَطَ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ، وَكَانَ فِيهِ
مُلْكُهُ فَأَعَادَهُ سُلَيْمَانُ إِلَى يَدِهِ فَسَقَطَ
فَأَيْقَنَ سُلَيْمَانُ بِالْفِتْنَةِ، فَأَتَى آصَفُ فَقَالَ
لِسُلَيْمَانَ: إِنَّكَ مَفْتُونٌ بِذَنْبِكَ، وَالْخَاتَمُ
لَا يَتَمَاسَكُ فِي يَدِكَ [أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا]
فَفِرَّ إِلَى اللَّهِ تَائِبًا، فَإِنِّي أَقُومُ مَقَامَكَ،
وَأَسِيرُ بِسِيرَتِكَ إِلَى أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْكَ،
فَفَرَّ سُلَيْمَانُ هَارِبًا إِلَى رَبِّهِ، وَأَخَذَ آصَفُ
الْخَاتَمَ، فَوَضَعَهُ فِي أُصْبُعِهِ فَثَبَتَ فَهُوَ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) قال الحافظ ابن كثير: 4 / 37 بعد أن أورد عدة روايات ومنها
عن ابن عباس رضي الله عنهما: "ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن
عباس رضي الله عنهما - إن صح عنه - من أهل الكتاب، وفيهم طائفة
لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة السلام، فالظاهر أنهم
يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر
النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك
الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عز وجل منه
تشريفا وتكريما لنبيه عليه السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة
عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم
وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب".
(3) وقال القاضي عياض في "الشفاء": (2 / 836) : "ولا يصح ما
نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به، وتسلطه على ملكه، وتصرفه
في أمته بالجور في حكمه، لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا؛
وقد عصم الأنبياء من مثله".
(4) في القاموس: مذرت البيضة فهي مذرة: فسدت، والمذرة: القذرة.
وفي "أ" جاءت الكلمة هكذا (مذلي) .
(5) راجع التعليق السابق.
(7/91)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
الْجَسَدُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا" فَأَقَامَ آصَفُ
فِي مُلْكِهِ يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا
إِلَى أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ،
فَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَأَعَادَ الْخَاتَمَ فِي يَدِهِ
فَثَبَتَ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: احْتَجَبَ
سُلَيْمَانُ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَيْهِ احْتَجَبْتَ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ؟ فَلَمْ تَنْظُرْ فِي أُمُورِ عِبَادِي؟ فَابْتَلَاهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَذَكَرَ حَدِيثَ الْخَاتَمِ وَأَخْذَ
الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ كَمَا رَوَيْنَا.
وَقِيلَ: قَالَ سُلَيْمَانُ يَوْمًا لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ
عَلَى نِسَائِي كُلِّهِنَّ، فَتَأْتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ بِابْنٍ
يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ،
فَجَامَعَهُنَّ فَمَا خَرَجَ لَهُ مِنْهُنَّ إِلَّا شِقُّ
مَوْلُودٍ، فَجَاءَتْ بِهِ الْقَابِلَةُ فَأَلْقَتْهُ عَلَى
كُرْسِيِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَلْقَيْنَا
عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قَالَ سُلَيْمَانُ: لَأَطُوفَنَّ
اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَأْتِي
بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ
صَاحِبُهُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقِلْ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ
إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشَقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ
اللَّهِ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا
أجمعون" (2)
وقال طاووس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ
بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ. وَأَشْهَرُ الْأَقَاوِيلِ
أَنَّ الْجَسَدَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ هُوَ
صَخْرٌ الْجِنِّيُّ (3) ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} أَيْ
رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَمَّا
رَجَعَ.
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) }
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ:
لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي
رَبَاحٍ: يُرِيدُ هَبْ لِي مُلْكًا لَا تَسْلُبْنِيهِ فِي آخر
عمري، وتعطيه غَيْرِي كما استلبته في ما مَضَى مِنْ عُمُرِي.
{إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} قِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ
آيَةً لِنُبُوَّتِهِ، وَدَلَالَةً عَلَى رِسَالَتِهِ،
وَمُعْجِزَةً.
__________
(1) قال ابن الجوزي في زاد المسير: 7 / 133: وهذا لا يصح، ولا
ذكره من يوثق به.
(2) أخرجه البخاري في الأيمان، باب: كيف كانت يمين النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 11 / 524، ومسلم في
الأيمان، باب الاستثناء برقم (1654) 3 / 1276، والمصنف في شرح
السنة: 1 / 147.
(3) راجع تعليق (1) المتقدم وما قاله ابن الجوزي فيه.
(7/94)
فَسَخَّرْنَا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
وَقِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَمًا
عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ حَيْثُ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ
وَرَدَّ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وَزَادَ فِيهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ مُلْكًا
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِ: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِي" تَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالطَّيْرِ وَالشَّيَاطِينِ،
بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ
الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي،
فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ
أَرْبُطَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى
تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي
سُلَيْمَانَ "رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
مِنْ بَعْدِي" فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا" (1) .
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً
حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ
(38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ (39) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
بِأَمْرِهِ رُخَاءً} لَيِّنَةً لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، {حَيْثُ
أَصَابَ} [حَيْثُ أَرَادَ] (2) تَقُولُ الْعَرَبُ: أَصَابَ
الصَّوَابَ [فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ، تُرِيدُ أَرَادَ
الصَّوَابَ] (3) .
{وَالشَّيَاطِينَ} أَيْ: وَسَخَّرَنَا لَهُ الشَّيَاطِينَ،
{كُلَّ بَنَّاءٍ} يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ
وَتَمَاثِيلَ، {وَغَوَّاصٍ} يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ اللَّآلِئَ
مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ اللُّؤْلُؤَ
مِنَ الْبَحْرِ.
{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} مَشْدُودِينَ فِي
الْقُيُودِ، أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ آخَرِينَ، يَعْنِي:
مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ، سُخِّرُوا لَهُ حَتَّى قَرَّنَهُمْ
فِي الْأَصْفَادِ.
{هَذَا عَطَاؤُنَا} [أَيْ قُلْنَا لَهُ هَذَا عَطَاؤُنَا] (4)
{فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الْمَنُّ: هُوَ
الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ لَا يَسْتَثْنِيهِ، مَعْنَاهُ: أَعْطِ
مَنْ شِئْتَ وَأَمْسِكْ عَمَّنْ شِئْتَ، بِغَيْرِ حِسَابٍ لَا
حَرَجَ عَلَيْكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ.
قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ نِعْمَةً
إِلَّا عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، إِلَّا سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ
أَعْطَى أُجَرُ، وَإِنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قوله تعالى: "ووهبنا لداود
سليمان نعم العبد إنه أواب" 6 / 457 - 458، ومسلم في المساجد،
باب: جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة والتعوذ منه، وجواز
العمل القليل برقم: (541) 1 / 384 والمصنف في شرح السنة: 3 /
269.
(2) ساقط من "ب".
(3) زيادة من "ب".
(4) ساقط من "ب".
(7/95)
وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا
أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ
بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ
بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
لَمْ يُعْطِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
تَبِعَةٌ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ، يَعْنِي:
خَلِّ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَأَمْسِكْ مَنْ شِئْتَ فِي
وِثَاقِكَ، لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِيمَا تَتَعَاطَاهُ.
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) }
(7/96)
وَوَهَبْنَا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ
بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ
الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ
(43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ (44) }
{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ
نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ
وَعَذَابٍ} بِمَشَقَّةٍ وَضُرٍّ.
قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "بِنُصُبٍ" بِضَمِّ النُّونِ
وَالصَّادِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَمَعْنَى
الْكُلِّ وَاحِدٌ.
قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: بِنُصْبٍ فِي الْجَسَدِ،
وَعَذَابٍ فِي الْمَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ أَيُّوبَ
وَمُدَّةَ بَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ (1) .
فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ بَلَائِهِ قِيلَ لَهُ: {ارْكُضْ
بِرِجْلِكَ} اضْرِبْ بِرِجْلِكَ الْأَرْضَ فَفَعَلَ فَنَبَعَتْ
عَيْنُ مَاءٍ، {هَذَا مُغْتَسَلٌ} فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ
يَغْتَسِلَ مِنْهَا، فَفَعَلَ فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ
بِظَاهِرِهِ، ثُمَّ مَشَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً، فَرَكَضَ
الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ الْأُخْرَى، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى،
مَاءٌ عَذْبٌ بَارِدٌ، فَشَرِبَ مِنْهُ، فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ
كَانَ بِبَاطِنِهِ، فَقَوْلُهُ: "هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ"
يَعْنِي: الَّذِي اغْتَسَلَ مِنْهُ، {وَشَرَابٌ} أَرَادَ
الَّذِي شَرِبَ مِنْهُ.
{وَوَهْبنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً
مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثًا} وَهُوَ مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ
الْحَشِيشِ، {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} فِي يَمِينِكَ،
وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ
سَوْطٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ
عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ، وَيَضْرِبَهَا بِهِ ضَرْبَةً
__________
(1) راجع فيما سبق تفسير الآيتين (83 - 84) من سورة الأنبياء.
5 / 338 وما بعدها.
(7/96)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي
وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ
ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
وَاحِدَةً، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا
لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ
إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ
الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
لَحُسْنَ مَآبٍ (49) }
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "عَبْدَنَا"
عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "عِبَادَنَا"
بِالْجَمْعِ، {إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي
الْأَيْدِي} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولِي الْقُوَّةِ فِي
طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى (1) {وَالْأَبْصَارِ} فِي
الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، أَيِ: الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ،
قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُعْطَوْا قُوَّةً فِي
الْعِبَادَةِ، وَبَصَرًا فِي الدِّينِ (2) .
{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} اصْطَفَيْنَاهُمْ {بِخَالِصَةٍ
ذِكْرَى الدَّارِ} قرأ 104/أأَهْلُ الْمَدِينَةِ:
"بِخَالِصَةِ" مُضَافًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّنْوِينِ،
فَمَنْ أَضَافَ فَمَعْنَاهُ: أَخْلَصْنَاهُمْ بِذِكْرِ
الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَعْمَلُوا لَهَا، وَالذِّكْرَى:
بِمَعْنَى الذِّكْرِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعْنَا
مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا،
وَأَخْلَصْنَاهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وَذِكْرِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ
وَإِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: أُخْلَصُوا بِخَوْفِ الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَفْضَلِ مَا فِي
الْآخِرَةِ (3) .
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ
فَمَعْنَاهُ: بِخُلَّةٍ خَالِصَةٍ، وَهِيَ ذِكْرَى الدَّارِ،
فَيَكُونُ "ذِكْرَى" الدَّارِ بَدَلًا عَنِ الْخَالِصَةِ.
وَقِيلَ: "أَخْلَصْنَاهُمْ": جَعَلْنَاهُمْ مُخْلَصِينَ، بِمَا
أَخْبَرْنَا عَنْهُمْ مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ.
__________
(1) انظر: الطبري: 23 / 170.
(2) أخرجه االطبري: 23 / 170، وعزاه السيوطي في الدر المنثور:
7 / 198 أيضا لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
(3) ذكرهذه الأقوال ابن كثير في تفسيره: 4 / 41.
(7/97)
جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا
يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا
تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا
مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ
الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
{وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ
وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا
ذِكْرٌ} أَيْ: هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرٌ، أَيْ:
شَرَفٌ، وَذِكْرٌ جَمِيلٌ تُذْكَرُونَ بِهِ {وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} .
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ
(52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ
هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا
فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ
وَغَسَّاقٌ (57) }
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} أَيْ
أَبْوَابُهَا [مُفَتَّحَةً لَهُمْ] (1) .
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}
مُسْتَوَيَاتُ الْأَسْنَانِ، بَنَاتُ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ
سَنَةً، وَاحِدُهَا تَرْبٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يَتَبَاغَضْنَ وَلَا يَتَغَايَرْنَ (2) .
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يُوعَدُونَ"
بِالْيَاءِ هَاهُنَا، وَفِي "ق" أَيْ: مَا يُوعَدُ
الْمُتَّقُونَ، وَافَقَ أَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا، وَقَرَأَ
الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا، أَيْ: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ:
هَذَا مَا تُوعَدُونَ، {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [أَيْ فِي يَوْمِ
الْحِسَابِ] (3) .
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} فَنَاءٍ
وَانْقِطَاعٍ.
{هَذَا} أَيِ الْأَمْرُ هَذَا {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ}
لِلْكَافِرِينَ {لَشَرَّ مَآبٍ} مَرْجِعٍ.
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} يَدْخُلُونَهَا (4) {فَبِئْسَ
الْمِهَادُ} .
{هَذَا} أَيْ هَذَا الْعَذَابُ، {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ
وَغَسَّاقٌ} قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
فَلْيَذُوقُوهُ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي
انْتَهَى حَرُّهُ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ذكره الطبري: 23 / 175 دون إسناد.
(3) زيادة من "ب".
(4) زيادة من "ب".
(7/98)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ
أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا
مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ
أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا
فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
"وَغَسَّاقٌ": قَرَأَ حَمْزَةُ،
وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: "وَغَسَّاقٌ" (1) حَيْثُ كَانَ
بِالتَّشْدِيدِ، وَخَفَّفَهَا الْآخَرُونَ، فَمَنْ شَدَّدَ
جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعَّالٍ، نَحْوَ: الْخَبَّازِ
وَالطَّبَّاخِ، وَمَنْ خَفَّفَ جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعَالٍ
نَحْوَ الْعَذَابِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْغَسَّاقِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هُوَ الزَّمْهَرِيرُ يَحْرُقُهُمْ بِبَرْدِهِ، كَمَا
تَحْرُقُهُمُ النَّارُ بَحَرِّهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي انْتَهَى
بَرْدُهُ.
وَقِيلَ: هُوَ الْمُنْتِنُ بِلُغَةِ التُّرْكِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يَغْسِقُ أَيْ: مَا يَسِيلُ مِنَ
الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ،
وَلُحُومِهِمْ، وَفُرُوجِ الزُّنَاةِ، مِنْ قَوْلِهِ: غَسَقَتْ
عَيْنُهُ إِذَا انْصَبَّتْ، وَالْغَسَقَانُ الِانْصِبَابُ.
{وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا
النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ
أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) }
{وَآخَرُ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: "وَأُخَرُ" بِضَمِّ
الْأَلِفِ عَلَى جَمْعِ أُخْرَى، مِثْلَ: الْكُبْرَى
وَالْكُبَرِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ
نَعَتَهُ بِالْجَمْعِ، فَقَالَ: أَزْوَاجٌ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُشْبَعَةً عَلَى
الْوَاحِدِ، {مِنْ شَكْلِهِ} مِثْلِهِ أَيْ: مِثْلُ الْحَمِيمِ
وَالْغَسَّاقِ، {أَزْوَاجٌ} أَيْ: أَصْنَافٌ أُخَرُ مِنَ
الْعَذَابِ.
{هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
"هَذَا" هُوَ أَنَّ الْقَادَةَ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ ثُمَّ
دَخَلَ بَعْدَهُمُ الْأَتْبَاعُ قَالَتِ الْخَزَنَةُ
لِلْقَادَةِ (2) هَذَا يَعْنِي: الْأَتْبَاعُ، فَوْجٌ:
جَمَاعَةٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمُ النَّارَ، أَيْ: دَاخِلُوهَا
كَمَا أَنْتُمْ دَخَلْتُمُوهَا: وَالْفَوْجُ: الْقَطِيعُ مِنَ
النَّاسِ وَجَمْعُهُ أَفْوَاجٌ، وَالِاقْتِحَامُ الدُّخُولُ
فِي الشَّيْءِ رَمْيًا بِنَفْسِهِ فِيهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ:
إِنَّهُمْ يُضْرَبُونَ بِالْمَقَامِعِ حَتَّى يُوقِعُوا
أَنْفُسَهُمْ فِي النَّارِ، خَوْفًا مِنْ تِلْكَ الْمَقَامِعِ،
فَقَالَتِ الْقَادَةُ: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} يَعْنِي:
بِالْأَتْبَاعِ، {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} أَيْ:
دَاخِلُوهَا كَمَا صَلَيْنَا.
{قَالُوا} فَقَالَ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: {بَلْ أَنْتُمْ
لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} وَالْمَرْحَبُ، وَالرَّحْبُ: السَّعَةُ،
تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا أَيْ:
أَتَيْتَ رَحْبًا وَسِعَةً، وَتَقُولُ: لَا مَرْحَبًا بِكَ،
أَيْ: لَا رَحُبَتْ عَلَيْكَ الْأَرْضُ. {أَنْتُمْ
قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} يَقُولُ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ:
أَنْتُمْ بَدَأْتُمْ بِالْكُفْرِ قَبْلَنَا، وَشَرَعْتُمْ
وَسَنَنْتُمُوهُ لَنَا. وَقِيلَ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمْ هَذَا
الْعَذَابَ لَنَا، بِدُعَائِكُمْ إِيَّانَا إِلَى الْكُفْرِ،
{فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أَيْ: فَبِئْسَ دَارُ الْقَرَارِ
جَهَنَّمُ (3) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب" للكفار.
(3) زيادة من "ب".
(7/99)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ
قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ
(61)
{قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا
هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) }
(7/100)
وَقَالُوا مَا لَنَا
لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ
الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ
النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ
إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)
{وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا
كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَأَتَّخَذْنَاهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ
ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا
أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ (65) }
{قَالُوا} يَعْنِي: الْأَتْبَاعُ {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا
هَذَا} أَيْ: شَرَعَهُ وَسَنَّهُ لَنَا، {فَزِدْهُ عَذَابًا
ضِعْفًا فِي النَّارِ} أَيْ: ضَعِّفْ عَلَيْهِ الْعَذَابَ فِي
النَّارِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَعْنِي حَيَّاتٍ
وَأَفَاعِي.
{وَقَالُوا} يَعْنِي صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي النَّارِ،
{مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ} فِي
الدُّنْيَا، {مِنَ الْأَشْرَارِ} يَعْنُونَ فُقَرَاءَ
الْمُؤْمِنِينَ: عَمَّارًا، وَخَبَّابًا، وَصُهَيْبًا،
وَبِلَالًا وَسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ
ذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ،
فَقَالُوا:
{أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيَّا} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ،
وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: "مِنَ الْأَشْرَارِ
اتَّخَذْنَاهُمْ" وَصْلٌ، وَيَكْسِرُونَ الْأَلِفَ عِنْدَ
الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ
وَفَتْحِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ (1) .
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى أُولَى؛
لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا
فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِفْهَامُ، وَتَكُونُ "أَمْ" عَلَى
هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى "بَلْ" وَمَنْ فَتَحَ الْأَلِفَ
قَالَ: هُوَ عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى لِيُعَادِلَ
"أَمْ" فِي قَوْلِهِ {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ}
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي
مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّعَجُّبُ "أَمْ زَاغَتْ" أَيْ،
مَالَتْ "عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ" وَمَجَازُ الْآيَةِ: مَا
لَنَا لَا نَرَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْنَاهُمْ
سِخْرِيًّا لَمْ يَدْخُلُوا مَعَنَا النَّارَ؟ أَمْ دَخَلُوهَا
فَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُنَا، فَلَمْ نَرَهُمْ حِينَ
دَخَلُوهَا.
وَقِيلَ: أَمْ هُمْ فِي النَّارِ وَلَكِنِ احْتَجَبُوا عَنْ
أَبْصَارِنَا؟
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَمْ كَانُوا خَيْرًا مَنَّا
وَلَكِنْ نَحْنُ لَا نَعْلَمُ، فَكَانَتْ أَبْصَارُنَا تَزِيغُ
عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَا نَعُدُّهُمْ شَيْئًا. {إِنَّ
ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْتُ {لَحَقٌّ} ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ:
{تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} أَيْ: تُخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
فِي النَّارِ لَحَقٌّ.
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، {إِنَّمَا أَنَا
مُنْذِرٌ} مُخَوِّفٌ (2) {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .
__________
(1) تتمة العبارة في معاني القرآن (2 / 411) فهو يجوز
بالاستفهام وبطرحه.
(2) زيادة من "ب".
(7/100)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
(68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ
يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا
نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ
مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
(70) }
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} .
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ، {هُوَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {نَبَأٌ
عَظِيمٌ} قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ،
وَقِيلَ: يَعْنِي: الْقِيَامَةَ كَقَوْلِهِ: "عَمَّ
يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ" (النَّبَأِ: 1 -2)
.
{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى أَنْتُمْ
عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ، {إِذْ
يَخْتَصِمُونَ} يَعْنِي: فِي شَأْنِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا" (الْبَقَرَةِ: 30) .
{إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}
قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ "أَنَّمَا" فِي
مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا
الْإِنْذَارُ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْمَعْنَى: مَا يُوحَى
إِلَيَّ إِلَّا أَنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ (1) .
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "إِنَّمَا" بِكَسْرِ الْأَلِفِ،
لِأَنَّ الْوَحْيَ قَوْلٌ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانَيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجُوَيْهِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا
صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عبد الرحمن بْنُ يَزِيدَ
بْنِ جَابِرٍ، قَالَ مَرَّ بِنَا خَالِدُ بْنُ اللَّجْلَاجِ،
فدعاه مكحول 104/ب فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ حَدِّثْنَا
حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَائِشٍ الْحَضْرَمِيَّ يَقُولُ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ،
فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى يَا
مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ أَيْ رَبِّ، مَرَّتَيْنِ،
قَالَ: فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيْ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا
بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْتُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"
قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ "وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم
ملكوت السموات وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ"
(الْأَنْعَامِ:75) ثُمَّ قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ
الْأَعْلَى يَا مُحَمَّدُ؟ قُلْتُ: فِي الْكَفَّارَاتِ، قَالَ:
وَمَا هُنَّ؟ قُلْتُ: الْمَشْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ إِلَى
الْجَمَاعَاتِ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ خَلْفَ
الصَّلَوَاتِ، وَإِبْلَاغُ الْوُضُوءِ أَمَاكِنَهُ فِي
الْمَكَارِهِ، قَالَ: وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ
وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، وَيَكُنْ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ
وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَمِنَ الدَّرَجَاتِ إِطْعَامُ
الطَّعَامِ،
__________
(1) في "معاني القرآن" للفراء: (2 / 412) إلا لأني نذير ونبي.
(7/101)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا
لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي
مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ
مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
(80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَأَنْ يَقُومَ
بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ،
وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي،
وَتَتُوبَ عَلَيَّ، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ
فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَلَّمُوهُنَّ،
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّهُنَّ لَحَقٌّ"
(1) .
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا
مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ
رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا
مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ
طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ
فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ
الْمَعْلُومِ (81) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أَتْمَمْتُ خَلْقَهُ، {وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ
مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسٌ مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ} . أَلِفُ
اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ {أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْعَالِينَ} الْمُتَكَبِّرِينَ. اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ
وَإِنْكَارٍ، يَقُولُ: أَسْتَكْبَرْتَ بِنَفْسِكَ حَتَّى
أَبَيْتَ السُّجُودَ؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فَتَكَبَّرْتَ عَنِ السُّجُودِ لِكَوْنِكَ
مِنْهُمْ؟.
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} أَيْ: مِنَ
الْجَنَّةِ، وقيل: من السموات. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ: أَيْ مِنَ الْخِلْقَةِ الَّتِي أَنْتِ فِيهَا.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ
لِأَنَّ إِبْلِيسَ تَجَبَّرَ وَافْتَخَرَ بِالْخِلْقَةِ،
فَغَيَّرَ اللَّهُ خِلْقَتَهُ، فَاسْوَدَّ وَقَبُحَ بَعْدَ
حُسْنِهِ، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مَطْرُودٌ.
{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} ،
وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى.
__________
(1) أخرجه الدارمي: 2 / 126، والمصنف في شرح السنة: 4 / 35
و37، وأشار إليه الترمذي: 9 / 106. وانظر: مجمع الزوائد: 1 /
238، اختيار الأولى في حديث اختصام الملأ الأعلى ص (5-7) مسند
الإمام أحمد: 1 / 368.
(7/102)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ (83)
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
(83) }
(7/103)
قَالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
(88)
{قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ (88) }
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ} قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ:
"فَالْحَقُّ" بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الِابْتِدَاءِ،
وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْحَقُّ مِنِّي، وَنَصْبُ
الثَّانِيَةِ أَيْ: وَأَنَا أَقُولُ الْحَقَّ، قَالَهُ
مُجَاهِدٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا
فِي وَجْهِهِمَا، قِيلَ: نَصْبُ الْأُولَى عَلَى الْإِغْرَاءِ
كَأَنَّهُ قَالَ: الْزَمِ الْحَقَّ، وَالثَّانِي بِإِيقَاعِ
الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَيْ: أَقُولُ الْحَقَّ. وَقِيلَ:
الْأَوَّلُ قَسَمٌ، أَيْ: فَبِالْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، فَانْتُصِبَ بِنَزْعِ [الْخَافِضِ، وَهُوَ] (1)
حَرْفُ الصِّفَةِ، وَانْتِصَابُ الثَّانِي بِإِيقَاعِ
الْقَوْلِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الثَّانِي تَكْرَارُ الْقَسَمِ،
أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ.
{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
أَجْمَعِينَ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} عَلَى تَبْلِيغِ
الرِّسَالَةِ {مِنْ أَجْرٍ} جُعْلٍ، {وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ} الْمُتَقَوِّلِينَ الْقُرْآنَ مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَكُلُّ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ
نَفْسِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ لَهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ
عَلِمَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ
فَلْيَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ
يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: "قل ما أسئلكم عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ" (2) .
قَوْلُهُ {إِنْ هُوَ} مَا هُوَ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ {إِلَّا
ذِكْرٌ} مَوْعِظَةٌ، {لِلْعَالَمِينَ} لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
{وَلَتَعْلَمُنَّ} أَنْتُمْ يَا كُفَّارَ مَكَّةَ، {نَبَأَهُ}
خَبَرَ صِدْقِهِ، {بَعْدَ حِينٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَقَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَنْ بَقِيَ
عَلِمَ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ وَعَلَا وَمَنْ مَاتَ
عَلِمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: ابْنَ آدَمَ
عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ (3) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة (ص) - باب: (ما أنا
من المتكلفين) 8 / 547، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم باب
الدخان برقم (2798) 4 / 2156 - 2157.
(3) أخرجه الطبري: 23 / 189، وذكره السيوطي في الدر المنثور، 7
/ 209.
(7/103)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا
لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَفَّارٌ (3)
سُورَةُ الزُّمَرِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قوله {قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ (1) . بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ
اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَفَّارٌ (3) }
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [أَيْ: هَذَا تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ. وَقِيلَ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ] (2)
مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ: {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
أَيْ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} قَالَ
مُقَاتِلٌ: لَمْ نُنْزِلْهُ بَاطِلًا لِغَيْرِ شَيْءٍ،
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} الطَّاعَةَ.
{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} قَالَ قَتَادَةُ:
شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: [لَا
يَسْتَحِقُّ الدِّينَ الْخَالِصَ إِلَّا اللَّهُ وَقِيلَ:
الدِّينُ الْخَالِصُ مِنَ الشَّرَكِ هُوَ لِلَّهِ] (3) .
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مِنْ دُونِ
اللَّهِ، {أَوْلِيَاءَ} يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، {مَا
نَعْبُدُهُمْ} أَيْ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ، {إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وَكَذَلِكَ قَرَأَ
ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
__________
(1) أخرج النحاس في تاريخه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:
نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي
قاتل حمزة "قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم" إلى ثلاث
آيات. وانظر: زاد المسير: 7 / 160.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) في "أ": (لا يستحق الدين الخالص من الشرك سوى الله) .
(7/104)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى
اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قَالَ قَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا
قِيلَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّكُمْ، وَمَنْ خَلَقَكُمْ، ومن خلق
السموات وَالْأَرْضَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ:
فَمَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمُ الْأَوْثَانَ؟ قَالُوا:
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، أَيْ: قُرْبَى، وَهُوَ
اسْمٌ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الْمَصْدَرِ: كَأَنَّهُ قَالَ:
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ تَقْرِيبًا وَيَشْفَعُوا
لَنَا عِنْدَ اللَّهِ، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}
يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} مِنْ
أَمْرِ الدِّينِ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ
كَفَّارٌ} لَا يُرْشِدُ لِدِينِهِ مَنْ كَذَبَ فَقَالَ: إِنَّ
الْآلِهَةَ تَشْفَعُ وَكَفَى بِاتِّخَاذِ الْآلِهَةِ دُونَهُ
كَذِبًا [وَكُفْرًا] (1)
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى
مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفَّارُ (5) }
__________
(1) ساقط من "ب".
(7/108)
خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ
لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ
فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي
ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ
جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ
ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) }
{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى}
لَاخْتَارَ، {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يَعْنِي:
الْمَلَائِكَةَ، كَمَا قَالَ: "لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ
لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا" (الْأَنْبِيَاءِ -17)
ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ} تَنْزِيهًا
لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِطَهَارَتِهِ، {هُوَ
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى
اللَّيْلِ} قَالَ قَتَادَةُ: يُغْشِي هَذَا هَذَا، كَمَا
قَالَ: "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ" (الْأَعْرَافِ-54)
وَقِيلَ: يُدْخِلُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَالَ:
"يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ" (الْحَجِّ-61) .
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ: يُنْقِصُ مِنَ اللَّيْلِ
فَيَزِيدُ فِي النَّهَارِ، وَيُنْقِصُ مِنَ النَّهَارِ
فَيَزِيدُ فِي اللَّيْلِ، فَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ دَخَلَ
فِي النَّهَارِ، وَمَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ دَخَلَ فِي
اللَّيْلِ، وَمُنْتَهَى النُّقْصَانِ تِسْعُ سَاعَاتٍ،
وَمُنْتَهَى الزِّيَادَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَأَصْلُ
التَّكْوِيرِ اللَّفُّ وَالْجَمْعُ، وَمِنْهُ: كَوَّرَ
الْعِمَامَةَ. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} .
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 105/أيَعْنِي: آدَمَ،
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يَعْنِي حَوَّاءَ،
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} مَعْنَى الْإِنْزَالِ
هَاهُنَا: الْإِحْدَاثُ وَالْإِنْشَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ"
(الْأَعْرَافِ-26) .
(7/108)
إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ
دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ
قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ (8)
وَقِيلَ: إِنَّهُ أَنْزَلَ الْمَاءَ
الَّذِي هُوَ سَبَبُ نَبَاتِ الْقُطْنِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ
اللِّبَاسُ، وَسَبَبُ النَّبَاتِ الَّذِي تَبْقَى بِهِ
الْأَنْعَامُ.
وَقِيلَ: "وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ" جَعَلَهَا
لَكُمْ نُزُلًا وَرِزْقًا. {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أَصْنَافٍ،
تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (1) {يَخْلُقُكُمْ فِي
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} نُطْفَةً
ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا" (نُوحٍ-14) {فِي ظُلُمَاتٍ
ثَلَاثٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظُلْمَةُ الْبَطْنِ،
وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ (2) {ذَلِكُمُ
اللَّهُ} الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، {رَبُّكُمْ لَهُ
الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} عَنْ
طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ.
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا
يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ
لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا
مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ
ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ
يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا
إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) }
{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا
يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالسُّدِّيُّ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
الْكُفْرَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ" (الْحِجْرِ-42)
فَيَكُونُ عَامًّا فِي اللَّفْظِ خَاصًّا فِي الْمَعْنَى،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ
اللَّهِ" (الْإِنْسَانِ-6) يُرِيدُ بَعْضَ الْعِبَادِ،
وَأَجْرَاهُ قَوْمٌ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالُوا: لَا يَرْضَى
لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الْكُفْرَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ أَنْ يَكْفُرُوا
بِهِ. يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ
السَّلَفِ، قَالُوا: كُفْرُ الْكَافِرِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ بِإِرَادَتِهِ. {وَإِنْ
تَشْكُرُوا} تُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَتُطِيعُوهُ، {يَرْضَهُ
لَكُمْ} فَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو:
"يَرْضَهْ لَكُمْ" سَاكِنَةُ الْهَاءِ، وَيَخْتَلِسُهَا أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْبَاقُونَ
بِالْإِشْبَاعِ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ
إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا
إِلَيْهِ} رَاجِعًا إِلَيْهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ، {ثُمَّ إِذَا
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أَعْطَاهُ نِعْمَةً مِنْهُ،
{نَسِيَ} تَرَكَ {مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ}
أَيْ: نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي
__________
(1) انظر فيما سبق: 3 / 196-197.
(2) انظر: الطبري: 23 / 196، الدر المنثور: 7 / 212.
(7/109)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ
آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَى كَشْفِهِ،
{وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} يَعْنِي: الْأَوْثَانَ،
{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} لِيَزِلَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ.
{قُلْ} لِهَذَا الْكَافِرِ: {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا}
فِي الدُّنْيَا إِلَى أَجَلِكَ، {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ} قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ،
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: [نَزَلَتْ] (1) فِي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. وَقِيلَ: عَامٌّ فِي كُلِّ
كَافِرٍ (2) .
{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) }
{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ
وَحَمْزَةُ: "أَمَنْ" بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا، فَمَنْ شَدَّدَ فَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ فِي "أَمْ" صِلَةً،
فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ اسْتِفْهَامًا وَجَوَابُهُ
مَحْذُوفًا مَجَازُهُ: أَمَّنَ هُوَ قَانِتٌ كَمَنْ هُوَ
غَيْرُ قَانِتٍ؟ كَقَوْلِهِ: "أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ" (الزُّمَرِ-22) يَعْنِي كَمَنْ لَمْ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ،
مَجَازُهُ: الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا خَيْرٌ أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ؟ وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ أَلِفُ
اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى مَنْ، مَعْنَاهُ: أَهَذَا
كَالَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا؟
وَقِيلَ: الْأَلِفُ فِي "أَمَنْ" بِمَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ،
تَقْدِيرُهُ: يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ، وَالْعَرَبُ تُنَادِي
بِالْأَلِفِ كَمَا تُنَادِي بِالْيَاءِ، فَتَقُولُ: أَبَنِي
فَلَانٍ وَيَا بَنِي فُلَانٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ:
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ، يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ {آنَاءَ اللَّيْلِ} إِنَّكَ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ
الصَّدِيقِ (3) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمْرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (4) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: زاد المسير: 7 / 165.
(3) ذكره الواحدي في أسباب النزول، ص 426.
(4) انظر: البحر المحيط: 7 / 419.
(7/110)
قُلْ يَا عِبَادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(10)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
عُثْمَانَ (1) .
وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ
وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ.
وَالْقَانِتُ: الْمُقِيمُ عَلَى الطَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: "الْقُنُوتُ": قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَطُولُ
الْقِيَامِ، و"آناء اللَّيْلِ": سَاعَاتُهُ، {سَاجِدًا
وَقَائِمًا} يَعْنِي: فِي الصَّلَاةِ، {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ}
يَخَافُ الْآخِرَةَ، {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} يَعْنِي:
كَمَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، {قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}
قِيلَ: "الَّذِينَ يعلمون" عمار، و"الذين لَا يَعْلَمُونَ":
أَبُو حُذَيْفَةَ الْمَخْزُومِيُّ، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ
أُولُو الألْبَابِ} .
{قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ
وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) }
{قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ}
بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، {لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} أَيْ: آمَنُوا وَأَحْسَنُوا
الْعَمَلَ، {حَسَنَةٌ} يَعْنِي: الْجَنَّةَ، قَالَهُ
مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا
حَسَنَةٌ يَعْنِي: الصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ، {وَأَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي ارْتَحِلُوا
مِنْ مَكَّةَ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ
الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعَاصِي.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ أُمِرَ بِالْمَعَاصِي
فَلْيَهْرَبْ. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ} الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى دِينِهِمْ فَلَمْ
يَتْرُكُوهُ لِلْأَذَى.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَأَصْحَابِهِ، حَيْثُ لَمْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ لَمَّا
اشْتَدَّ بِهِمُ الْبَلَاءُ وَصَبَرُوا وَهَاجَرُوا (2) .
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ مُطِيعٍ يُكَالُ
لَهُ كَيْلًا وَيُوزَنُ لَهُ وَزْنًا إِلَّا الصَّابِرُونَ،
فَإِنَّهُ يُحْثَى لَهُمْ حَثْيًا (3) .
وَيُرْوَى: "يُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ
لَهُمْ مِيزَانٌ وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ، وَيُصَبُّ
عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ صَبًّا بِغَيْرِ حِسَابٍ" (4) . قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ
الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ
بِالْمَقَارِيضِ مِمَّا يَذْهَبُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنَ
الْفَضْلِ.
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 426.
(2) انظر: البحر المحيط: 7 / 419.
(3) انظر: القرطبي: 15 / 241.
(4) قطعة من حديث عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 215 لابن
مردويه.
(7/111)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ
وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ
عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى
اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا
غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ
أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ
مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ
هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ
(16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا
وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ
عِبَادِي (17) }
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ
الدِّينَ} مُخْلِصًا لَهُ التَّوْحِيدَ لَا أُشْرِكُ بِهِ
شَيْئًا.
{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وَعَبَدْتُ
غَيْرَهُ، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وَهَذَا حِينَ دُعِيَ
إِلَى دِينِ آبَائِهِ.
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ،
كَقَوْلِهِ: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ" (فُصِّلَتْ-40) {قُلْ
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ} أَزْوَاجَهُمْ وَخَدَمَهُمْ، {يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
جَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلًا
فَمَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَانَ ذَلِكَ الْمَنْزِلُ
وَالْأَهْلُ لَهُ، وَمَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ دَخَلَ
النَّارَ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْزِلُ وَالْأَهْلُ لِغَيْرِهِ
مِمَّنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ (1) . وَقِيلَ: خُسْرَانُ
النَّفْسِ بِدُخُولِ النَّارِ، وَخُسْرَانُ الْأَهْلِ بِأَنْ
يُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، {أَلَا ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} أَطْبَاقُ
سُرَادِقَاتٍ مِنَ النَّارِ وَدُخَّانِهَا، {وَمِنْ تَحْتِهِمْ
ظُلَلٌ} فِرَاشٌ وَمِهَادٌ مِنْ نَارٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ
إِلَى الْقَعْرِ، وَسَمَّى الْأَسْفَلَ ظُلَلًا لِأَنَّهَا
ظُلَلٌ لِمَنْ تَحْتِهُمْ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ"
(الْأَعْرَافِ-41) .
{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ
فَاتَّقُونِ} .
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} الأوثان 105/ب {أَنْ
يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} رَجَعُوا إِلَى
عِبَادَةِ اللَّهِ، {لَهُمُ الْبُشْرَى} فِي الدُّنْيَا
وَالْجَنَّةُ فِي الْعُقْبَى {فَبَشِّرْ عِبَادِ} .
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ
أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا
غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) }
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} الْقُرْآنَ،
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 242.
(7/112)
{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} قَالَ
الْسُّدِّيُّ: أَحْسُنُ مَا يُؤْمَرُونَ فَيَعْمَلُونَ بِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ
الِانْتِصَارَ مِنَ الظَّالِمِ وَذَكَرَ الْعَفْوَ،
وَالْعَفْوُ أَحْسَنُ الْأَمْرَيْنِ. وَقِيلَ: ذَكَرَ
الْعَزَائِمَ وَالرُّخَصَ فَيَتَّبِعُونَ الْأَحْسَنَ وَهُوَ
الْعَزَائِمُ. وَقِيلَ: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَغَيْرَ
الْقُرْآنِ فَيَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: آمَنَ أَبُو بَكْرٍ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ
عُثْمَانُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ،
وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ
زَيْدٍ، فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِإِيمَانِهِ فَآمَنُوا،
فَنَزَلَتْ فيهم (1) : "فبشر عباد الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" وَكُلُّهُ حَسَنٌ.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ
أُولُو الْأَلْبَابِ} .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا
الطَّاغُوتَ" الْآيَتَانِ، فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَانُوا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ:
زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بن نفيل، وأبو ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ،
وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ (2) . وَالْأَحْسَنُ: قَوْلُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ
اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ
الْعَذَابِ [قَوْلُهُ: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ"، وَقِيلَ:]
(3) قَوْلُهُ: "هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي" (4) .
{أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} أَيْ: لَا تَقْدِرُ
عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا لَهَبٍ
وَوَلَدَهُ.
{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ
فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} أَيْ: مَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ
رَفِيعَةٌ، وَفَوْقَهَا مَنَازِلُ أَرْفَعُ مِنْهَا، {تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ
اللَّهُ الْمِيعَادَ} أَيْ: وَعَدَهُمُ اللَّهُ تِلْكَ
الْغُرَفَ وَالْمَنَازِلَ وَعْدًا لَا يُخْلِفُهُ.
__________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص 426.
(2) أخرجه الطبري: 23 / 207، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 217 نسبته لابن أبي حاتم.
(3) ساقط من "ب".
(4) أخرج الإمام أحمد في مسنده: 5 / 239 عن معاذ بن جبل: "أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا هذه الآية
أصحاب اليمين وأصحاب الشمال فقبض بيده قبضتين فقال: هذه في
الجنة ولا أبالي، وهذه في النار ولا أبالي"، وانظر: مجمع
الزوائد: 7 / 185-186.
(7/113)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا
أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ
يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي
الْأَلْبَابِ (21)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ
يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا
تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي
الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِتُفَاضُلِ مَا
بَيْنَهُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ
الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: "بَلَى،
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ" (1) .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ
زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ
مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) }
__________
(1) أخرجه البخاري: في بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة: 6
/ 320، ومسلم: في الجنة باب: ترائي أهل الجنة الغرف كما يرى
الكوكب في السماء، برقم: (2831) ، 4 / 2177، والمصنف في شرح
السنة: 15 / 215.
(7/114)
أَفَمَنْ شَرَحَ
اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ
رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ
اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ} أَدْخَلَ ذَلِكَ الْمَاءَ،
{يَنَابِيعَ} عُيُونًا وَرَكَايَا (1) {فِي الْأَرْضِ} قَالَ
الشَّعْبِيُّ: كُلُّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ فَمِنَ السَّمَاءِ
نَزَلَ، {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} أَيْ: بِالْمَاءِ {زَرْعًا
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ،
{ثُمَّ يَهِيجُ} يَيْبَسُ {فَتَرَاهُ} بُعْدَ خُضْرَتِهِ
وَنَضْرَتِهِ، {مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا}
فُتَاتًا مُتَكَسِّرًا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي
الْأَلْبَابِ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ} وَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ، {فَهُوَ عَلَى
نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} لَيْسَ كَمَنْ أَقْسَى اللَّهُ قَلْبَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الْمَوْصِلِيُّ بِبَغْدَادَ،
حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي
أُنَيْسَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى
نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
انْشِرَاحُ صَدْرِهِ؟
__________
(1) جمع، مفرده (ركية) وهي البئر.
(7/114)
اللَّهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قَالَ: "إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ
انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا
عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ
الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ،
وَالتَّأَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ" (1) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ
مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قَالَ
مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ
أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، وَمَا غَضِبَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا نَزَعَ مِنْهُمُ الرَّحْمَةَ (2)
.
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا
مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَابًا مُتَشَابِهًا} يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي
الْحُسْنِ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَيْسَ فِيهِ
تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ. {مَثَانِيَ} يُثَنَّى فِيهِ
ذِكْرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ،
وَالْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، {تَقْشَعِرُّ} تَضْطَرِبُ
وَتَشْمَئِزُّ، {مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ} وَالِاقْشِعْرَارُ تَغَيُّرٌ فِي جَلْدِ
الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ، وَقِيلَ:
الْمُرَادُ مِنَ الْجُلُودِ الْقُلُوبُ، أَيْ: قُلُوبُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: لِذِكْرِ اللَّهِ،
أَيْ: إِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الْعَذَابِ اقْشَعَرَّتْ جُلُودُ
الْخَائِفِينَ لِلَّهِ، وَإِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ
لَانَتْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"
(الرَّعْدِ-28) .
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَهُمْ تَقْشَعِرُّ مِنَ
الْخَوْفِ، وَتَلِينَ عِنْدَ الرَّجَاءِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبُدُوسِ بْنِ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أُمِّ
كُلْثُومٍ بِنْتِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ
الْمَطْلَبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا
يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا" (3) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 219 لابن مردويه، وعزاه
الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص 143 للثعلبي والحاكم
والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود. وقال: "وفيه أبو فروة
الرهاوي فيه كلام. ورواه الحكيم الترمذي في النوادر في الأصل
السادس والثمانين".
(2) ذكره القرطبي: 15 / 248.
(3) قال الهيثمي: (10 / 310) "رواه البزار، وفيه أم كلثوم بنت
العباس، ولم أعرفها، وبقية رجاله ثقات" وأشار المنذري إلى
تضعيفه وعزاه في الترغيب (4 / 266) لأبي الشيخ في كتاب الثواب
والبيهقي. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 222، للحكيم
الترمذي في نوادر الأصول وفيه الحماني: اتهموه بسرقة الحديث
(التقريب) وانظر: الجرح والتعديل: 9 / 168-169.
(7/115)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ
الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ:
"إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" (1) .
قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ نَعَتَهُمُ
اللَّهُ بِأَنَّ تَقَشْعُرَ جُلُودِهِمْ وَتَطَمْئُنَ
قُلُوبِهِمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ
عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا ذَلِكَ فِي
أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، ثَنَا ابْنُ شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ بِنْتِ
أَبِي بَكْرٍ: كيف كان 106/أأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُونَ إِذَا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ
جُلُودُهُمْ، قَالَ فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ نَاسًا الْيَوْمَ
إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ خَرَّ أَحَدُهُمْ
مُغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (2) .
وَبِهِ عَنْ [سُلَيْمَانَ بْنِ] (3) سَلَمَةَ ثَنَا يَحْيَى
بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْجُمَحِيُّ أَنَا ابْنُ عُمَرَ: مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ سَاقِطًا فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا:
إِنَّهُ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَ
اللَّهِ سَقَطَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّا لِنَخْشَى اللَّهَ
وَمَا نَسْقُطُ!
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَدْخُلُ فِي
جَوْفِ أَحَدِهِمْ، مَا كَانَ هَذَا صَنِيعَ أَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: الَّذِينَ يُصْرَعُونَ إِذْ
قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ؟ [فَقَالَ: بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ أَنْ يَقْعُدَ أَحَدُهُمْ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ
بَاسِطًا رِجْلَيْهِ ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ] (5)
مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ رَمَى بِنَفْسِهِ فَهُوَ
صَادِقٌ (6) .
{ذَلِكَ} يَعْنِي: أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، {هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ
مِنْ هَادٍ} .
__________
(1) ذكره القرطبي: 15 / 250، وانظر التعليق السابق.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 222 لسعيد بن منصور،
وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، وابن عساكر. وذكره
القرطبي: 15 / 249.
(3) ساقط من "ب".
(4) ذكره صاحب البحر المحيط: 7 / 423، والقرطبي: 15 / 249.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6) ذكره صاحب البحر المحيط: 7 / 423، والقرطبي: 15 / 249.
(7/116)
أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ
لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ
ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) }
{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} أَيْ:
شِدَّتَهُ، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَرُّ
عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرْمَى بِهِ
فِي النَّارِ مَنْكُوسًا فَأَوَّلُ شَيْءٍ مِنْهُ تَمَسُّهُ
النَّارُ وَجْهُهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنَّ الْكَافِرَ
يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى
عُنُقِهِ، وَفِي عُنُقِهِ صَخْرَةٌ مِثْلُ جَبَلٍ عَظِيمٍ مِنَ
الْكِبْرِيتِ، فَتَشْتَعِلُ النَّارُ فِي الْحَجَرِ، وَهُوَ
مُعَلَّقٌ فِي عُنُقِهِ فَخَرَّ وَوَهَجُهَا عَلَى وَجْهِهِ
لَا يَطِيقُ دَفْعَهَا عَنْ وَجْهِهِ، لِلْأَغْلَالِ الَّتِي
فِي عُنُقِهِ وَيَدِهِ (1) .
وَمَجَازُ الْآيَةِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذَابِ كَمَنْ هُوَ آمِنٌ مِنَ الْعَذَابِ؟
{وَقِيلَ} يَعْنِي: تَقُولُ الْخَزَنَةُ، {لِلظَّالِمِينَ
ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أَيْ: وَبَالَهُ.
{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ
مَكَّةَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ
حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} يَعْنِي: وَهُمْ آمِنُونَ غَافِلُونَ
مِنَ الْعَذَابِ.
{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ،
{فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ
كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يَتَّعِظُونَ.
{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، {غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مُخْتَلِفٍ. قَالَ
مُجَاهِدٌ: غَيْرُ ذِي لَبْسٍ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: غَيْرُ
مَخْلُوقٍ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ،
وَحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سَبْعِينَ مِنَ
التَّابِعَيْنِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا
مَخْلُوقٍ (2) {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الْكَفْرَ
وَالتَّكْذِيبَ بِهِ.
__________
(1) ذكر هذه الأقوال القرطبي: 15 / 251.
(2) ذكر هذه الأقوال السيوطي في الدر المنثور: 7 / 223-224.
(7/117)
ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا
سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ
مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ
شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ
(30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ (31) }
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} قَالَ الْكِسَائِيُّ: نُصِبَ
رَجُلًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ، {فِيهِ شُرَكَاءُ
مُتَشَاكِسُونَ} مُتَنَازِعُونَ مُخْتَلِفُونَ سَيِّئَةٌ
أَخْلَاقُهُمْ، يُقَالُ: رَجُلٌ شَكِسٌ شَرِسٌ، إذا كان سيء
الْخُلُقِ، مُخَالِفًا لِلنَّاسِ، لَا يَرْضَى بِالْإِنْصَافِ،
{وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ
وَالْبَصْرَةِ: "سَالِمًا" بِالْأَلِفِ أَيْ: خَالِصًا لَهُ
لَا شَرِيكَ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، [وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "سَلَمًا" بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ،
وَهُوَ الَّذِي لَا يُنَازَعُ فِيهِ] (1) مِنْ قَوْلِهِمْ:
هُوَ لَكَ سَلَمٌ، أَيْ: مُسَلَّمٌ لَا مُنَازِعَ لَكَ فِيهِ.
{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ لِلْكَافِرِ الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى،
وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ
الْوَاحِدَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ: لَا
يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أَيْ:
لِلَّهِ الْحَمْدُ كُلُّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ
الْمَعْبُودِينَ. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} مَا
يَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ الْكُلُّ.
{إِنَّكَ مَيِّتٌ} أَيْ: سَتَمُوتُ، {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}
أَيْ: سَيَمُوتُونَ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ:
الْمَيِّتُ -بِالتَّشْدِيدِ-مَنْ لَمْ يَمُتْ وَسَيَمُوتُ،
الْمَيْتُ -بِالتَّخْفِيفِ-مَنْ فَارَقَهُ الرُّوحُ،
وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَفَّفْ هَاهُنَا.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: الْمُحِقَّ
وَالْمُبْطِلَ، وَالظَّالِمَ وَالْمَظْلُومَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فَنْجَوَيْهِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ حَنْبَلٍ،
حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" قَالَ الزُّبَيْرُ: أَيْ رَسُولَ
اللَّهِ أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي
الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: "نَعَمْ
لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُؤَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي
حَقِّ حَقَّهِ" قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ
لَشَدِيدٌ (2)
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الزمر: 9 / 110-111، وقال:
"هذا حديث حسن صحيح"، والإمام أحمد: 1 / 167، والحاكم: 4 / 572
وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي. قال
الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 100: " رواه الطبراني ورجاله
ثقات"، وزاد السيوطي في الدر االمنثور: 7 / 226 نسبته لابن
منيع، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية،
والبيهقي في البعث.
(7/118)
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عِشْنَا بُرْهَةً
مِنَ الدَّهْرِ وَكُنَّا نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ "ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ" قُلْنَا: كَيْفَ نَخْتَصِمُ وَدِينُنَا
وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ؟ حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَنَا يَضْرِبُ
وُجُوهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهَا نَزَلَتْ
فِينَا (1) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ:
كُنَّا نَقُولُ رَبُّنَا وَاحِدٌ وَدِينُنَا وَاحِدٌ
وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ فَمَا هَذِهِ الْخُصُومَةُ؟ فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ وَشَدَّ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
بِالسُّيُوفِ قُلْنَا: نَعَمْ هُوَ هَذَا (2) .
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: "ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" قَالُوا:
كَيْفَ نَخْتَصِمُ وَنَحْنُ إِخْوَانٌ؟ فَلَمَّا قُتِلَ
عُثْمَانُ قَالُوا: هَذِهِ خُصُومَتُنَا (3) ?
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ
سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ
كَانَتْ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ عِرْضٍ أَوْ مَالٍ
فَلْيَتَحَلَّلَهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ
يَوْمَ لَا دِينَارَ وَلَا دِرْهَمَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ
صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ"
(4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ
الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِهِينِيُّ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتُدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ"؟ قَالُوا:
الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ،
قَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَكَانَ قَدْ
شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ
دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْضِي هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ
وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، [قَالَ: فَإِنْ فَنِيَتْ
حَسَنَاتُهُ] (5) قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ
مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي
النَّارِ" (6) .
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 225 لابن أبي حاتم،
والطبراني، وابن مردويه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 100
"رواه الطبراني ورجاله ثقات".
(2) عزاه السيوطي في الدر اللمنثور: 7 / 226-227 لسعيد بن
منصور.
(3) أخرجه الطبري: 24 / 2، وانظر: الكافي الشاف ص 143.
(4) أخرجه البخاري في المظالم، باب: من كانت له مظلمة عند رجل
فحللها له هل يبين مظلمته: 5 / 11، والمصنف في شرح السنة: 14 /
359.
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6) أخرجه مسلم: في البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم،
برقم: (2581) 4 / 1997.
(7/119)
فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ
جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ
بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى
اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ
الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ
عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ
عَلَى اللَّهِ} فَزَعْمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا،
{وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} بِالْقُرْآنِ، {إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} مَنْزِلٌ وَمَقَامٌ، {لِلْكَافِرِينَ}
اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ.
{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} 106/ب قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" يَعْنِي
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ
بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "وَصَدَّقَ بِهِ" الرَّسُولُ
أَيْضًا بَلَّغَهُ إِلَى الْخَلْقِ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ:
"وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" جِبْرِيلُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ،
"وَصَدَّقَ بِهِ" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو
الْعَالِيَةِ: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَصَدَّقَ بِهِ" أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ:
"وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ" رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَصَدَّقَ بِهِ" هُمُ الْمُؤْمِنُونَ،
لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
وَقَالَ عَطَاءٌ: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ"
الْأَنْبِيَاءُ "وَصَدَّقَ بِهِ" الْأَتْبَاعُ، وَحِينَئِذٍ
يَكُونُ الَّذِي بِمَعْنَى: الَّذِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
"مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا"
(الْبَقَرَةِ-17) ثُمَّ قَالَ: "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ"
(الْبَقَرَةِ-17) وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ
صَدَّقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَجَاءُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَالَّذِينَ
جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ. {أُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ} .
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
عَمِلُوا} يَسْتُرُهَا عَلَيْهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ،
{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ
مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالْمَسَاوِئِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
؟ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
"عِبَادَهُ" بِالْجَمْعِ يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ، قَصَدَهُمْ قَوْمُهُمْ بِالسُّوءِ كَمَا قَالَ:
"وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ"
(غَافِرٍ-5) فَكَفَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ مَنْ عَادَاهُمْ،
{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ خَوَّفُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَرَّةَ الْأَوْثَانِ. وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ
عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَوْ لَيُصِيبَنَّكَ مِنْهُمْ خَبَلٌ
أَوْ جُنُونٌ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
.
(7/120)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي
انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ
أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ
قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ
(38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ
يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ
كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ
مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ
يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا
عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ
مُقِيمٌ (40) }
(7/121)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ
وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ
الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (42) }
{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ
اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} مَنِيعٌ فِي مُلْكِهِ،
مُنْتَقِمٌ مِنْ أَعْدَائِهِ. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ من خلق
السموات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
بِضُرٍّ} بِشِدَّةٍ وَبَلَاءٍ، {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ
أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} بِنِعْمَةٍ وَبَرَكَةٍ، {هَلْ
هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ:
"كَاشِفَاتٌ" وَ"مُمْسِكَاتٌ" بِالتَّنْوِينِ، "ضُرَّهُ"
"وَرَحْمَتَهُ" بِنَصْبِ الرَّاءِ وَالتَّاءِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ وَجَرِّ الرَّاءِ وَالتَّاءِ
عَلَى الْإِضَافَةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَسَكَتُوا،
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} (1) ، ثِقَتِي بِهِ
وَاعْتِمَادِي عَلَيْهِ، {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ} يَثِقُ بِهِ الْوَاثِقُونَ.
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي
عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ
يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أَيْ: يَنْزِلُ
عَلَيْهِ عَذَابٌ دَائِمٌ.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ
فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيْهَا} وَبَالُ ضَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، {وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} بِحَفِيظٍ وَرَقِيبٍ لَمْ تُوَكَّلْ
بِهِمْ وَلَا تُؤَاخَذُ بِهِمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ}
أَيِ: الْأَرْوَاحَ، {حِينَ مَوْتِهَا} فَيَقْبِضُهَا عِنْدَ
فَنَاءِ أَكْلِهَا وَانْقِضَاءِ أَجَلِهَا، وَقَوْلُهُ: {حِينَ
مَوْتِهَا} يُرِيدُ مَوْتَ أَجْسَادِهَا. {وَالَّتِي لَمْ
تَمُتْ} يُرِيدُ يَتَوَفَّى
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 259.
(7/121)
الْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ، {فِي
مَنَامِهَا} وَالَّتِي تُتَوَفَّى عِنْدَ النَّوْمِ هِيَ
النَّفْسُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ،
وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ نَفْسَانِ: إِحْدَاهُمَا نَفْسُ
الْحَيَاةِ وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ
فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا النَّفْسُ، وَالْأُخْرَى نَفْسُ
التَّمْيِيزِ وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُهُ إِذَا نَامَ، وَهُوَ
بَعْدَ النَّوْمِ يَتَنَفَّسُ {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى
عَلَيْهَا الْمَوْتَ} فَلَا يَرُدُّهَا إِلَى الْجَسَدِ.
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "قُضِيَ" بِضَمِّ الْقَافِ
وَكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، "الْمَوْتُ" رُفِعَ
عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ، "الْمَوْتَ" نُصِبَ لِقَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ: "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ" {وَيُرْسِلُ
الْأُخْرَى} وَيَرُدُّ الْأُخْرَى وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَقْضِ
عَلَيْهَا الْمَوْتَ إِلَى الْجَسَدِ، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}
إِلَى أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ مَوْتِهِ.
وَيُقَالُ: لِلْإِنْسَانِ نَفْسٌ وَرُوحٌ، فَعِنْدَ النَّوْمِ
تَخْرُجُ النَّفْسُ وَتَبْقَى الرُّوحُ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
تَخْرُجُ الرُّوحُ عِنْدَ النَّوْمِ وَيَبْقَى شُعَاعُهُ فِي
الْجَسَدِ، فَبِذَلِكَ يَرَى الرُّؤْيَا، فَإِذَا انْتَبَهَ
مِنَ النَّوْمِ عَادَ الرُّوحُ إِلَى جَسَدِهِ بِأَسْرَعَ مِنْ
لَحْظَةٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ
وَالْأَمْوَاتِ تَلْتَقِي فِي الْمَنَامِ فَتَتَعَارَفُ مَا
شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا أَرَادَتِ الرُّجُوعَ إِلَى
أَجْسَادِهَا أَمْسَكَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ
عِنْدَهُ، وَأَرْسَلَ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ حَتَّى تَرْجِعَ
إِلَى أَجْسَادِهَا إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ حَيَّاتِهَا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى
فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ
فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَّفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ:
بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ
أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا
فَاحْفَظْهَا بِمَا تُحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ"
(1)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
لَدَلَالَاتٍ عَلَى قُدْرَتِهِ حَيْثُ لَمْ يَغْلَطْ فِي
إِمْسَاكِ مَا يُمْسِكُ مِنَ الْأَرْوَاحِ، وَإِرْسَالِ مَا
يُرْسِلُ مِنْهَا.
قَالَ مُقَاتِلٌ: لَعَلَامَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي
أَمْرِ الْبَعْثِ، يَعْنِي: إِنَّ تَوَفِّيَ نَفْسِ النَّائِمِ
وَإِرْسَالَهَا بَعْدَ التَّوَفِّي دَلِيلٌ عَلَى الْبَعْثِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات، باب: التعوذ والقراءة عند
المنام: 11 / 125-126، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة
والاستغفار، برقم: (2714) ، 4 / 2084، والمصنف في شرح السنة: 5
/ 99.
(7/122)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا
يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ
الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا
هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ (46)
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا
وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ
بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) }
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ} يَا
مُحَمَّدُ، {أَوَلَوْ كَانُوا} وَإِنْ كَانُوا يَعْنِي
الْآلِهَةَ، {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} مِنَ الشَّفَاعَةِ،
{وَلَا يَعْقِلُونَ} أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهُمْ. وَجَوَابُ
هَذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ
الصِّفَةِ تَتَّخِذُونَهُمْ.
{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا
يَشْفَعُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، {لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} نَفَرَتْ،
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: انْقَبَضَتْ
عَنِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَكْبَرَتْ.
وَأَصْلُ الِاشْمِئْزَازِ النُّفُورُ وَالِاسْتِكْبَارُ،
{قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} .
{وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يَعْنِي:
الْأَصْنَامَ {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} يَفْرَحُونَ، قَالَ
مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ حِينَ قَرَأَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ وَالنَّجْمِ
فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: تِلْكَ
الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، فَفَرِحَ بِهِ الْكُفَّارُ (1) .
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ
فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، أَخْبَرَنَا
الْإِمَامُ أَبُو علي الحسين 107/أبْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي،
أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا
النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ
عَمَّارٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا بِمَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ:
كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ
وإسرافيل، فاطر السموات وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (2) .
__________
(1) راجع فيما سبق تفسير سورة الحج، الآية (52) : 5 / 394
تعليق (1) .
(2) أخرجه مسلم: في صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل
وقيامه، برقم: (770) 1 / 534، والمصنف في شرح السنة: 4 / 71.
(7/123)
وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ
مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا
يَحْتَسِبُونَ (47)
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ
سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) }
(7/124)
وَبَدَا لَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ
دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (50)
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا
مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ
نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ
هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قَالَ
مُقَاتِلٌ: ظَهَرَ لَهُمْ حِينَ بُعِثُوا مَا لَمْ
يَحْتَسِبُوا فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ فِي
الْآخِرَةِ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: ظَنُّوا أَنَّهَا حَسَنَاتٌ
فَبَدَتْ لَهُمْ سَيِّئَاتٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا
يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ،
فَلَمَّا عُوقِبُوا عَلَيْهَا بَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا
لَمْ يَحْتَسِبُوا. وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
الْمُنْكَدِرِ جَزِعَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقِيلَ لَهُ فِي
ذَلِكَ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَبْدُوَ لِي مَا لَمْ
أَحْتَسِبْ (1) .
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أَيْ: مَسَاوِئُ
أَعْمَالِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ بِأَوْلِيَاءِ
اللَّهِ. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} .
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} شِدَّةٌ، {دَعَانَا ثُمَّ
إِذَا خَوَّلْنَاهُ} أَعْطَيْنَاهُ {نِعْمَةً مِنَّا قَالَ
إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أَيْ: عَلَى عِلْمٍ مِنَ
اللَّهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى خَيْرٍ
عَلِمَهُ اللَّهُ عِنْدِي، وَذَكَرَ الْكِنَايَةَ لِأَنَّ
الْمُرَادَ مِنَ النِّعْمَةِ الْإِنْعَامُ، {بَلْ هِيَ
فِتْنَةٌ} [يَعْنِي: تِلْكَ النِّعْمَةُ فِتْنَةُ] (2)
اسْتِدْرَاجٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِحَانٍ وَبَلِيَّةٍ.
وَقِيلَ: بَلْ كَلِمَتُهُ الَّتِي قَالَهَا فِتْنَةٌ.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أَنَّهُ
اسْتِدْرَاجٌ وَامْتِحَانٌ.
{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قَالَ مُقَاتِلٌ:
يَعْنِي قَارُونَ فَإِنَّهُ قَالَ: "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِنْدِي" (الْقَصَصِ-78) {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ} فَمَا أَغْنَى عَنْهُمُ الْكُفْرُ مِنَ
الْعَذَابِ شَيْئًا.
__________
(1) انظر: القرطبي: 15 / 265-266.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(7/124)
فَأَصَابَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ
سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ
بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ
مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (53) }
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أَيْ: جَزَاؤُهَا
يَعْنِي الْعَذَابَ. ثُمَّ أَوْعَدَ كُفَّارَ مَكَّةَ فَقَالَ:
{وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}
بِفَائِتِينَ لِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ} أَيْ: يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ،
{وَيَقْدِرُ} أَيْ: يُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، {إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}
رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا،
وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ
لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَحْشِيٍّ يَدْعُوهُ إِلَى
الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: كَيْفَ تَدْعُونِي إِلَى
دِينِكَ وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ مَنْ قَتَلَ أَوْ أَشْرَكَ
أَوْ زَنَى يَلْقَ أثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ،
وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا"
(مَرْيَمَ-60) فَقَالَ وَحْشِيٌّ: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ
لَعَلِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَهَلْ غَيْرُ ذَلِكَ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ" (النِّسَاءِ: 48، 116) فَقَالَ وَحْشِيٌّ: أَرَانِي
بَعْدُ فِي شُبْهَةٍ، فَلَا أَدْرِي يَغْفِرُ لِي أَمْ لَا؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى: "قل يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ"،
فَقَالَ وَحْشِيٌّ: نَعَمْ هَذَا، فَجَاءَ وَأَسْلَمَ، فَقَالَ
الْمُسْلِمُونَ: هَذَا لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ
عَامَّةً؟ فَقَالَ: بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب:
"ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم." الآية: 8 / 549.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 235 للطبراني، وابن
مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان بسند لين، قال الهيثمي في
مجمع الزوائد: 7 / 101 "رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبين بن
سيفان، ضعفه الذهبي" وضعفه ابن عدي وابن حبان وغيرهما.
(7/125)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ
وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَنَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا ثُمَّ فُتِنُوا وَعُذِّبُوا،
فَافْتَتَنُوا فَكُنَّا نَقُولُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ
هَؤُلَاءِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا أَبَدًا، قَوْمٌ أَسْلَمُوا
ثُمَّ تَرَكُوا دِينَهُمْ لِعَذَابٍ عُذِّبُوا فِيهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَاتِ، فَكَتَبَهَا
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِيَدِهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى
عَيَّاشِ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَإِلَى
أُولَئِكَ النَّفَرِ فَأَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا (1) .
وَرَوَى مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: كُنَّا مُعَاشِرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَرَى أَوْ نَقُولُ: لَيْسَ
بِشَيْءٍ مِنْ حَسَنَاتِنَا إِلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ حَتَّى
نَزَلَتْ: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ" (مُحَمَّدٍ-33) فَلَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ قُلْنَا: مَا هَذَا الَّذِي يُبْطِلُ
أَعْمَالَنَا؟ فَقُلْنَا: الْكَبَائِرُ وَالْفَوَاحِشُ، قَالَ:
فَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا مَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْهَا
قُلْنَا قَدْ هَلَكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَفَفْنَا
عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، فَكُنَّا إِذَا رَأَيْنَا أَحَدًا
أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا خِفْنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ
مِنْهَا شَيْئًا رَجَوْنَا لَهُ، وَأَرَادَ بِالْإِسْرَافِ
ارْتِكَابَ الْكَبَائِرِ (2) .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ
فَإِذَا قَاصٌّ يَقُصُّ وَهُوَ يَذْكُرُ النَّارَ
وَالْأَغْلَالَ، فَقَامَ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: يَا
مُذَكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ النَّاسَ؟ ثم قرأ: "يا عبادي
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ
التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَحْمَدَ الْحَمَوِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا [عَبْدُ
اللَّهِ] (4) بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ هِلَالٍ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ وَحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالُوا:
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ شَهْرِ
بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ:
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقول: {يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وَلَا يُبَالِي" (5) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ ابن أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ
عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ
تِسْعَةً
__________
(1) أخرجه الطبري: 24 / 15، وانظر: أسباب النزول للوحداي ص
427-428.
(2) أخرجه الطبري: 24 / 16.
(3) أخرجه الطبري: 24 / 16، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7
/ 237 لابن ابي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن أبي
حاتم، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) في "ب" (عبد الرحمن) .
(5) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الزمر: 9/111-112، وقال: "هذا
حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث ثابت عن شهر بن حوشب"،
والمصنف في شرح السنة: 14 / 384.
(7/126)
وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ
يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَلْ لِي مِنْ
تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ الْمِائَةَ،
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا،
فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَأَى بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا،
فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ
الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ أَنَّ
تَقَرَّبِي وَأَوْحَى إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ:
قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ
بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ" (1) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُثَنَّى العنبري عن 107/ب مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ:
"فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ
تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَقَالَ لَهُ: لَا فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ
سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ
عَالِمٍ، فَقَالَ لَهُ: قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لِي
مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا
فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ
مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ
سُوءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ الطَّرِيقِ
أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ
الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فأتاهم ملك من صُورَةِ
آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ
الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ
لَهُ، فَقَاسَوْا فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا
زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ -لِأَهْلِهِ إِذَا
مَاتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ
وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ
عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا
مِنَ الْعَالَمِينَ، قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا مَا
أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ
وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لِمَ
فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ
أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا
ضَمْضَمُ بْنُ جَوْسٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ
فَنَادَانِي شَيْخٌ، فَقَالَ: يَا يَمَانِيُّ تَعَالَ، وَمَا
أَعْرِفُهُ، فَقَالَ: لَا تَقُولَنَّ لِرَجُلٍ: وَاللَّهِ لَا
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَبَدًا، وَلَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ
الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ:
أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ فَقُلْتُ:
__________
(1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء: 6 / 512.
(2) أخرجه مسلم في التوبة، باب: قبول توبة القاتل وإن كثر
قتله، برقم: (2766) 4 / 2118.
(3) أخرجه مالك في الموطأ: 1 / 240، والبخاري في التوحيد، باب:
(يريدون أن يبدلوا كلام الله) 13 / 466، ومسلم في التوبة، باب
في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه، برقم: (2756) 4 / 2109-
2110، والمصنف في شرح السنة: 14 / 380.
(7/127)
وَأَنِيبُوا إِلَى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ
مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
(55)
إِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ [يَقُولُهَا] (1)
أَحَدُنَا لِبَعْضِ أَهْلِهِ إِذَا غَضِبَ أَوْ لِزَوْجَتِهِ
أَوْ لِخَادِمِهِ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ رَجُلَيْنِ
كَانَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَحَابَّيْنِ أَحَدُهُمَا
مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ وَالْآخَرُ يَقُولُ كَأَنَّهُ
مُذْنِبٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَقْصِرْ أَقْصِرْ عَمَّا أَنْتَ
فِيهِ، قَالَ فَيَقُولُ: خِلْنِي وَرَبِّي، قَالَ: حَتَّى
وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ:
أَقْصِرْ، فَقَالَ: خِلْنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ
رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ
أَبَدًا، وَلَا يُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ أَبَدًا. قَالَ:
فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا
فَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ
الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَتَسْتَطِيعُ
أَنْ تَحْظُرَ عَلَى عَبْدِي رَحْمَتِي؟ فَقَالَ: لَا يَا
رَبِّ، فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ" قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ
بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
الْقَفَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْعُودٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ الْخَطِيبُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِلَّا اللَّمَمَ" (النَّجْمِ-32) قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ
تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ
لَا أَلَمَّا (3)
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ
لَا تَشْعُرُونَ (55) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}
أَقْبِلُوا وَارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، {وَأَسْلِمُوا
لَهُ} أَخْلِصُوا لَهُ التَّوْحِيدَ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} .
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ،
وَمَعْنَى الْآيَةِ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: الْتَزِمُوا
طَاعَتَهُ وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَتَهُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ
ذَكَرَ الْقَبِيحَ لِتَجْتَنِبَهُ، وَذَكَرَ الْأَدْوَنَ
لِئَلَّا تَرْغَبَ فِيهِ، وَذَكَرَ الْأَحْسَنَ لِتُؤْثِرَهُ.
قَالَ الْسُّدِّيُّ: "الْأَحْسَنُ" مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
فِي الْكِتَابِ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ
بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}
__________
(1) في "أ" يذكرها.
(2) أخرجه ابن المبارك في االزهد برقم (900) وأبو داود في
الأدب، باب في النهي عن البغي: 7 / 224-225، والإمام أحمد: 2 /
323، والمصنف في شرح السنة: 14 / 384-385.
(3) أخرجه الترمذي في التفسير-تفسير سورة النجم- 9 / 172 وقال:
"هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن
إسحاق" والمصنف في شرح السنة: 14 / 387.
(7/128)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ
كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى
مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ (56) }
(7/129)
أَوْ تَقُولَ لَوْ
أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ
تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ
آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي
لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى
الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ
بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ
وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى
لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ
اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ (61) }
{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} يَعْنِي: لِئَلَّا تَقُولَ نَفْسٌ،
كَقَوْلِهِ: "وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ
بِكُمْ" (النَّحْلِ-15) أَيْ: لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ، قَالَ
الْمُبَرِّدُ: أَيْ بَادِرُوا وَاحْذَرُوا أَنْ تَقُولَ
نَفْسٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَوْفَ أَنْ تَصِيرُوا إِلَى
حَالٍ تَقُولُونَ هَذَا القول، {يَا حَسْرَتَا} يَا
نَدَامَتَا، وَالتَّحَسُّرُ الِاغْتِمَامُ عَلَى مَا فَاتَ،
وَأَرَادَ: يَا حَسْرَتِي، عَلَى الْإِضَافَةِ، لَكِنَّ
الْعَرَبَ تُحَوِّلُ يَاءَ الْكِنَايَةِ أَلِفًا فِي
الِاسْتِغَاثَةِ، فَتَقُولُ: يَا حَسْرَتَا (1) وَيَا
نَدَامَتَا، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا الْيَاءَ بَعْدَ
الْأَلِفِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ {يَا حَسْرَتَايَ} ، وَقِيلَ: مَعْنَى قوله:
"يا حسرتا" يَا أَيَّتُهَا الْحَسْرَةُ هَذَا وَقْتُكَ، {عَلَى
مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} قَالَ الْحَسَنُ: قَصَّرْتُ
فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَمْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فِي حَقِّ اللَّهِ. وَقِيلَ:
ضَيَّعْتُ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قَصَّرْتُ
فِي الْجَانِبِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رِضَاءِ اللَّهِ.
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجَنْبَ جَانِبًا {وَإِنْ كُنْتُ
لَمِنَ السَّاخِرِينَ} الْمُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِ اللَّهِ
وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ قَالَ قَتَادَةُ:
لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَةَ اللَّهِ حَتَّى جَعَلَ
يَسْخَرُ بِأَهْلِ طَاعَتِهِ.
{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} عَيَانًا،
{لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا،
{فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الْمُوَحِّدِينَ.
ثُمَّ يُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ
آيَاتِي} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {فَكَذَّبْتَ بِهَا} وَقُلْتَ
إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، {وَاسْتَكْبَرْتَ}
تَكَبَّرْتَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، {وَكُنْتَ مِنَ
الْكَافِرِينَ} .
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
اللَّهِ} فَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا،
{وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى
لِلْمُتَكَبِّرِينَ} عَنِ الْإِيمَانِ.
{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ}
قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ:
"بِمَفَازَاتِهِمْ" بِالْأَلِفِ عَلَى
__________
(1) في "ب": يا ويلتي.
(7/129)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ
أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
(65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (67)
الْجَمْعِ أَيْ: بِالطُّرُقِ الَّتِي
تُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ: "بِمَفَازَتِهِمْ" عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ
الْمَفَازَةَ بِمَعْنَى الْفَوْزِ، أَيْ: يُنَجِّيهِمْ
بِفَوْزِهِمْ مِنَ النَّارِ بِأَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ،
قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ
الْفَوْزِ، وَالْجَمْعُ حَسَنٌ كَالسَّعَادَةِ
وَالسَّعَادَاتِ {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} لَا
يُصِيبُهُمُ الْمَكْرُوهُ، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) }
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ} أَيِ: الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَوْكُولَةٌ
إِلَيْهِ فَهُوَ الْقَائِمُ بِحِفْظِهَا. {لَهُ مَقَالِيدُ
السموات وَالْأَرْضِ} مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ السموات والأرض
واحدها 108/أمِقْلَادٌ، مِثْلُ مِفْتَاحٌ، وَمِقْلِيدٌ
مِثْلُ مِنْدِيلٌ وَمَنَادِيلَ. وَقَالَ قَتَادَةُ
وَمُقَاتِلٌ: مَفَاتِيحُ السموات وَالْأَرْضِ بِالرِّزْقِ
وَالرَّحْمَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزَائِنُ الْمَطَرِ
وَخَزَائِنُ النَّبَاتِ. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ
اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ
تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ؟ قَالَ
مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ دَعَوْهُ
إِلَى دِينِ آبَائِهِ. قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ
"تَأْمُرُونَنِي" بِنُونَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ عَلَى
الْأَصْلِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِنُونٍ
وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى الْحَذْفِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى
الْإِدْغَامِ.
{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
الَّذِي عَمِلْتَهُ قَبْلَ الشِّرْكِ وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: هَذَا أَدَبٌ مِنَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ وَتَهْدِيدٌ
لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى عَصَمَهُ مِنَ
الشِّرْكِ. {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}
لِإِنْعَامِهِ عَلَيْكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ} مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِينَ
أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَظَمَتِهِ
فَقَالَ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(7/130)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا
شَيْبَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا
مُحَمَّدُ إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السموات
عَلَى إِصْبَعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ،
وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى
إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ:
أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا
لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ: "وَمَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ
عَنْ مَنْصُورٍ، وَقَالَ: "وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ عَلَى
إِصْبَعٍ، وَقَالَ: ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ هَزًّا، فَيَقُولُ:
(أَنَا الْمَلِكُ أَنَا اللَّهُ) " (2) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ
فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "يَطْوِي اللَّهُ السموات يَوْمَ الْقِيَامَةِ
ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ:
أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ
الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ ثُمَّ
يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا
الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ
الْمُتَكَبِّرُونَ"، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أُخْرِجُهُ
مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي تَوْبَةَ الْكُشْمِيهِنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ عَنِ
الزَّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ
يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب:
"وما قدروا الله حق قدره" 8 / 550-551.
(2) أخرجه مسلم في صفة القيامة والجنة والنار برقم (2786)
: 4 / 2147.
(3) أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم برقم (2788) :
4 / 2148.
(4) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب:
"وما قدروا الله حق قدره" 5 / 551، ومسلم في صفة القيامة
والجنة والنار. برقم (2787) 4 / 2148، والمصنف في شرح
السنة: 15 / 110-111.
(7/131)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى
فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ
اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنْظُرُونَ (68) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} مَاتُوا
مِنَ الْفَزَعِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى، {إِلَّا
مَنْ شَاءَ اللَّهُ} اخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ
اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُمْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ (1) ، قَالَ
الْحَسَنُ: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنِي اللَّهَ
وَحْدَهُ، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} أَيْ: فِي الصُّوَرِ،
{أُخْرَى} أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنْظُرُونَ} [مِنْ قُبُورِهِمْ] (2) يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ
اللَّهِ فِيهِمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
__________
(1) 6 / 181.
(2) زيادة من "ب".
(7/131)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ
بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ
(70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا
حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ
لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ
أَرْبَعُونَ" قَالُوا: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قال: "أبيت"،
قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: "أبيت"، قالوا: أربعون سنة؟
قَالَ: "أَبَيْتُ"، قَالَ: "ثُمَّ يَنْزِلُ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ
لَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا
عَظْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ
يَتَرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ
الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
(69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ
رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (71) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ}
أَضَاءَتْ، {بِنُورِ رَبِّهَا} بِنُورِ خَالِقِهَا،
وَذَلِكَ حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ
بَيْنَ خَلْقِهِ، فَمَا يَتَضَارُّونَ فِي نُورِهِ كَمَا
لَا يَتَضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الصَّحْوِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: بِعَدْلِ رَبِّهَا،
وَأَرَادَ بِالْأَرْضِ عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، {وَوُضِعَ
الْكِتَابُ} أَيْ: كِتَابُ الْأَعْمَالِ، {وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِتَبْلِيغِ
الرِّسَالَةِ، وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي
الْحَفَظَةَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
"وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ"
(ق-21) {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أَيْ:
بِالْعَدْلِ، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} أَيْ: لَا يُزَادُ
فِي سَيِّئَاتِهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ.
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أَيْ: ثَوَابَ
مَا عَمِلَتْ، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} قَالَ
عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنِّي عَالِمٌ بِأَفْعَالِهِمْ لَا
أَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ وَلَا إِلَى شَاهِدٍ.
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} سَوْقًا
عَنِيفًا، {زُمُرًا} أَفْوَاجًا بَعْضُهَا عَلَى إِثْرِ
بَعْضٍ، كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى حِدَةٍ قَالَ أَبُو
عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: "زُمُرًا" أَيْ: جَمَاعَاتٍ فِي
تَفْرِقَةٍ، وَاحِدَتُهَا زُمْرَةٌ {حَتَّى إِذَا
جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} السَّبْعَةُ وَكَانَتْ
مُغْلَقَةً قَبْلَ ذَلِكَ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ
"فُتِحَتْ، وَفُتِحَتْ" بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ {وَقَالَ
لَهُمْ خَزَنَتُهَا} تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا لَهُمْ،
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} مِنْ أَنْفُسِكُمْ
{يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ}
وَجَبَتْ، {كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}
وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هُودٍ-119)
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الزمر- باب:
"ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض": 8 /
551، ومسلم في الفتن، باب: ما بين النفختين. برقم (2955) 4
/ 2270-2271، والمصنف في شرح السنة: 15 / 104.
(7/132)
قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا
جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ
خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا
خَالِدِينَ (73)
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
(72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) }
{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى
إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} قَالَ
الْكُوفِيُّونَ: هَذِهِ الْوَاوُ زَائِدَةٌ حَتَّى تَكُونَ
جَوَابًا لِقَوْلِهِ: "حَتَّى إذا جاءوها" 108/ب كَمَا فِي
سَوْقِ الْكُفَّارِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ
الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً" (الْأَنْبِيَاءِ-48) [أَيْ:
ضِيَاءً] (1) وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ.
وَقِيلَ: الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، مَجَازُهُ: وَقَدْ
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، فَأَدْخَلَ الْوَاوَ لِبَيَانِ
أَنَّهَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً قَبْلَ مَجِيئِهِمْ،
وَحَذْفُهَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى لِبَيَانِ أَنَّهَا
كَانَتْ مُغْلَقَةً قَبْلَ مَجِيئِهِمْ.
فَإِذَا لَمْ تُجْعَلِ الْوَاوُ زَائِدَةً فِي قَوْلِهِ:
"وَفُتِحَتْ" اخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: "وَقَالَ
لَهُمْ خَزَنَتُهَا" وَالْوَاوُ فِيهِ مُلْغَاةٌ
تَقْدِيرُهُ: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا. وَقَالَ
الزَّجَّاجُ: الْقَوْلُ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ
مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: "حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا
وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ"
دَخَلُوهَا، فَحَذَفَ "دَخَلُوهَا" لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ
عَلَيْهِ.
{وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ}
يُرِيدُ أَنَّ خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يُسَلِّمُونَ
عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ: طِبْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
طَابَ لَكُمُ الْمَقَامُ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ إِذَا
قَطَعُوا النَّارَ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقْتَصُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ
حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَطُيِّبُوا أُدْخِلُوا
الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُمْ رِضْوَانُ وَأَصْحَابُهُ:
"سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ"
(2) .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: سِيقُوا
إِلَى الْجَنَّةِ فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَيْهَا وَجَدُوا
عِنْدَ بَابِهَا شَجَرَةً يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ سَاقِهَا
عَيْنَانِ فَيَغْتَسِلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ إِحْدَاهُمَا
فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ، وَيَشْرَبُ مِنَ الْأُخْرَى
فَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ، وَتَلَقِّيهُمُ الْمَلَائِكَةُ
عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَقُولُونَ: {سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . (3)
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: القرطبي: 15 / 286.
(3) انظر: الدر المنثور: 7 / 263، القرطبي: 15 / 286.
(7/133)
وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا
الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ
مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ
الْعَامِلِينَ (74) }
(7/134)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) }
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أَيْ: أَرْضَ الْجَنَّةِ. وَهُوَ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الْأَنْبِيَاءِ-105)
{نَتَبَوَّأُ} نَنْزِلُ، {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ}
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ.
{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}
أَيْ: مُحْدِقِينَ مُحِيطِينَ بِالْعَرْشِ، مُطِيفِينَ
بِحَوَافِيهِ أَيْ: بِجَوَانِبِهِ، {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ} قِيلَ: هَذَا تَسْبِيحُ تَلَذُّذٍ لَا
تَسْبِيحُ تَعَبُّدٍ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ [يَزُولُ] (1)
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}
أَيْ: قُضِيَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ
بِالْعَدْلِ، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: شُكْرًا
لِلَّهِ، حِينَ تَمَّ وَعْدُ اللَّهِ لَهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ
الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ مَثَلَ
الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ
لِأَهْلِهِ مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ فَبَيْنَمَا
هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ إِذْ هَبَطَ
عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ (2) ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنَ
الْغَيْثِ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَعْجَبُ مِنْهُ وَأَعْجَبُ،
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ
عِظَمِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ الرَّوْضَاتِ
الدَّمِثَاتِ مَثَلُ الْـ حم فِي الْقُرْآنِ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ الرُّومِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ
لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ
الْجَرَّاحَ بْنَ أَبِي الْجَرَّاحِ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابٌ وَلُبَابُ والقرآن
الْحَوَامِيمُ (4) . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا
وَقَعْتُ فِي آلِ حم وَقَعْتُ فِي رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ
أَتَأَنَّقُ فِيهِنَّ (5) . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ: كُنَّ -آلَ حم-يُسَمَّيْنَ الْعَرَائِسَ (6)
.
__________
(1) في "ب": متروك.
(2) في تربتها لين وسهولة، نقول: رجل دمث: سهل خلقه.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 268-269 لمحمد بن
نصر، وحميد بن زنجويه.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 268 لأبي عبيد في
فضائله.
(5) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 268 لأبي عبيد،
ومحمد بن نصر، وابن المنذر. وانظر: البحر المحيط: 7 / 447.
(6) أخرجه الدارمي: 2 / 328، وزاد السيوطي في الدر
المنثور: 7 / 269 نسبته لمحمد بن نصر.
(7/134)
|