تفسير البغوي طيبة

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)

سُورَةُ النَّبَأِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) }
{عَمَّ} أَصْلُهُ: "عَنْ مَا" فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْمِيمِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ "مَا" [كَقَوْلِهِ] (2) "فِيمَ" وَ"بِمَ"؟ {يَتَسَاءَلُونَ} أَيْ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ؟ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَخْبَرَهُمْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ: مَاذَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ: اللَّفْظُ لَفْظُ اسْتِفْهَامٍ وَمَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ، كَمَا تَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ زَيْدٌ؟ إِذَا عَظَّمْتَ [أَمْرَهُ] (3) وَشَأْنَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ تَسَاؤُلَهُمْ عَمَّاذَا فَقَالَ: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْقُرْآنُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ: "قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ" (ص-67) وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْبَعْثُ. {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} فَمُصَدِّقٌ وَمُكَذِّبٌ {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} "كَلَّا" نَفْيٌ لِقَوْلِهِمْ، "سَيَعْلَمُونَ" عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ حِينَ تَنْكَشِفُ الْأُمُورُ. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى إِثْرِ وَعِيدٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "كَلَّا سَيَعْلَمُونَ" يَعْنِي الْكَافِرِينَ، "ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ" يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، ثم ذكر صنعائه لِيَعْلَمُوا تَوْحِيدَهُ فَقَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا}
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) }
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} فِرَاشًا.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة (عم يتساءلون) بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 389.
(2) في "ب" كقولهم.
(3) ساقط من "ب".

(8/309)


{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} لِلْأَرْضِ حَتَّى لَا تَمِيدَ. {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} أَصْنَافًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا. {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أَيْ رَاحَةً لِأَبْدَانِكُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: "السُّبَاتُ" أَنْ يَنْقَطِعَ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالرُّوحُ فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ قَطْعًا لِأَعْمَالِكُمْ، لِأَنَّ أَصْلَ السَّبْتِ: الْقَطْعُ. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} غِطَاءً وَغِشَاءً يَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ بِظُلْمَتِهِ. {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} الْمَعَاشُ: الْعَيْشُ، وَكُلُّ مَا يُعَاشُ فِيهِ فَهُوَ مَعَاشٌ، أَيْ جَعَلْنَا النَّهَارَ سَبَبًا لِلْمَعَاشِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَصَالِحِ. قَالَ [ابْنُ عَبَّاسٍ] (1) يُرِيدُ: تَبْتَغُونَ فِيهِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَمَا قَسَّمَ لَكُمْ مِنْ رِزْقِهِ. {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} يُرِيدُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا} [يَعْنِي الشَّمْسَ] (2) {وَهَّاجًا} مُضِيئًا مُنِيرًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَهَّاجُ: الْوَقَّادُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: جَعَلَ فِيهِ نُورًا وَحَرَارَةً، وَالْوَهَجُ يَجْمَعُ النُّورَ وَالْحَرَارَةَ. {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الرِّيَاحَ الَّتِي تَعْصِرُ السَّحَابَ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ الرياح ذوات 183/أالْأَعَاصِيرِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ "مِنْ" بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بِالْمُعْصِرَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّيحَ تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: الْمُعْصِرَاتُ هِيَ السَّحَابُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
__________
(1) في "ب" ابن مسعود.
(2) ساقط من "ب".

(8/312)


لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)

قَالَ الْفَرَّاءُ: [الْمُعْصِرَاتُ السَّحَائِبُ] (1) [الَّتِي] (2) تَتَحَلَّبُ بِالْمَطَرِ وَلَا تُمْطِرُ، كَالْمَرْأَةِ الْمُعْصِرِ هِيَ الَّتِي دَنَا حَيْضُهَا وَلَمْ تَحِضْ (3) .
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ الْمُغِيثَاتُ مِنْ قَوْلِهِ " [فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ] وَفِيهِ يَعْصِرُونَ".
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: "مِنَ الْمُعْصِرَاتِ" أَيْ مِنَ السَّمَاوَاتِ.
{مَاءً ثَجَّاجًا} أَيْ صَبَّابًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِدْرَارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُتَتَابِعًا يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَثِيرًا.
{لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) }
{لِنُخْرِجَ بِهِ} أَيْ بِذَلِكَ الْمَاءِ {حَبًّا} وَهُوَ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ {وَنَبَاتًا} مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ. {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} مُلْتَفَّةً بِالشَّجَرِ، واحدها لَفٌ وليف، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ، يُقَالُ: جَنَّةٌ لَفًّا، وَجَمْعُهَا لُفٌ، بِضَمِّ اللَّامِ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَلْفَافٌ. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} يَوْمَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ {كَانَ مِيقَاتًا} لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} زُمَرًا [زُمَرًا] (4) مِنْ كُلِّ مَكَانٍ لِلْحِسَابِ. {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: "فُتِحَتْ" بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ شُقَّتْ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ {فَكَانَتْ أَبْوَابًا} أَيْ ذَاتَ أَبْوَابٍ. وَقِيلَ: تَنْحَلُّ، وَتَتَنَاثَرُ حَتَّى تَصِيرَ فِيهَا أَبْوَابٌ وَطُرُقٌ.
__________
(1) في "ب" المعصر السحابة.
(2) زيادة من "ب".
(3) انظر: "القرطين" لابن مطرف: 2 / 200.
(4) ساقط من "ب".

(8/313)


وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)

{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) }
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ {فَكَانَتْ سَرَابًا} أَيْ هَبَاءً مُنْبَثًّا لِعَيْنِ النَّاظِرِ كَالسَّرَابِ. {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} طَرِيقًا وَمَمَرًّا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى يَقْطَعَ النَّارَ.
وَقِيلَ: "كَانَتْ مِرْصَادًا" أَيْ: مُعَدَّةً لَهُمْ، يُقَالُ: أَرْصَدْتُ لَهُ [الشَّيْءَ] (1) إِذَا أَعْدَدْتُهُ لَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ مَنْ رَصَدْتُ الشَّيْءَ أَرْصُدُهُ إِذَا تَرَقَّبْتُهُ. "وَالْمِرْصَادُ" الْمَكَانُ الَّذِي يَرْصُدُ الرَّاصِدُ فِيهِ الْعَدُوَّ. وَقَوْلُهُ: "إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا" أَيْ تَرْصُدُ الْكُفَّارَ.
وَرَوَى مُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ عَلَى جسر جهنم سبع مَحَابِسَ يُسْأَلُ الْعَبْدُ عِنْدَ أَوَّلِهَا عَنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ [أَجَابَهَا] (2) تَامَّةً جَازَ إِلَى الثَّانِي، فَيُسْأَلُ عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ [أَجَابَهَا] (3) تَامَّةً جَازَ إِلَى الثَّالِثِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ [أَجَابَهَا] (4) تَامَّةً جَازَ إِلَى الرَّابِعِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الصَّوْمِ فَإِنْ جَاءَ بِهِ تَامًّا جَازَ إِلَى الْخَامِسِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الْحَجِّ فَإِنْ جَاءَ بِهِ تَامًّا جَازَ إِلَى السَّادِسِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ [أَجَابَهَا] (5) تَامَّةً جَازَ إِلَى السَّابِعِ، فَيُسْأَلُ عَنِ الْمَظَالِمِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا وَإِلَّا يُقَالُ: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَ بِهِ أَعْمَالُهُ، فَإِذَا فُرِغَ مِنْهُ انْطُلِقَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ. {َّ لِلطَّاغِينَ} لِلْكَافِرِينَ {مَآبًا} مَرْجِعًا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ. {لَابِثِينَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: "لَبِثِينَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ "لَابِثِينَ" [بِالْأَلِفِ] (6) وَهُمَا لُغَتَانِ. {فِيهَا أَحْقَابًا} جَمْعُ حِقْبٍ، وَالْحِقْبُ الْوَاحِدُ: ثَمَانُونَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ (7) . رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الْأَحْقَابُ" ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ حِقْبًا كُلُّ حِقْبٍ سَبْعُونَ خَرِيفًا، كُلُّ خَرِيفٍ سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب" جاء بها.
(3) في "ب" جاء بها.
(4) في "ب" جاء بها.
(5) في "ب" جاء بها.
(6) ساقط من "ب".
(7) انظر: الطبري: 30 / 11.

(8/314)


لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)

قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَهْلِ النَّارِ مُدَّةً، بَلْ قَالَ: "لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا" فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا [إِذَا] (1) مَضَى حِقَبٌ دَخْلَ آخَرُ ثُمَّ آخَرُ إِلَى الْأَبَدِ، فَلَيْسَ لِلْأَحْقَابِ عِدَّةٌ إِلَّا الْخُلُودُ (2) .
وَرَوَى السُّدِّيُّ عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَوْ عَلِمَ أَهْلُ النَّارِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي النَّارِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَفَرِحُوا، وَلَوْ عَلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي الْجَنَّةِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَحَزِنُوا.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الْحِقْبُ الْوَاحِدُ سَبْعَ عَشْرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ. قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا "فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا" يَعْنِي أَنَّ الْعَدَدَ قَدِ ارْتَفَعَ وَالْخُلُودَ قَدْ حَصَلَ (3) .
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) }
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْبَرْدَ النَّوْمُ، وَمِثْلُهُ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَ [قَالَ] (4) أَبُو عُبَيْدَةَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنَعَ الْبَرْدُ، الْبَرْدَ أَيْ أَذْهَبَ الْبَرْدُ النَّوْمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: "لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا" أَيْ: رَوْحًا وَرَاحَةً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا" يَنْفَعُهُمْ مِنْ حَرٍّ، "وَلَا شَرَابًا" يَنْفَعُهُمْ مِنْ عَطَشٍ. {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْغَسَّاقُ" الزَّمْهَرِيرُ يَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهِ. وَقِيلَ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ "ص" (5) {جَزَاءً وِفَاقًا} أَيْ جَزَيْنَاهُمْ جَزَاءً وَافَقَ أَعْمَالَهُمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَافَقَ الْعَذَابُ الذَّنْبَ، فَلَا ذَنْبَ أَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا عَذَابَ أَعْظَمَ مِنَ النَّارِ. {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} لَا يَخَافُونَ أَنْ يُحَاسَبُوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَلَا بِأَنَّهُمْ مُحَاسَبُونَ. {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أَيْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ {كِذَّابًا} تَكْذِيبًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ فَصِيحَةٌ، يَقُولُونَ فِي مَصْدَرِ التَّفْعِيلِ فِعَّالٌ وَقَالَ: قَالَ لِي أَعْرَابِيٌّ مِنْهُمْ عَلَى الْمَرْوَةِ يَسْتَفْتِينِي: الْحَلْقُ أَحَبُّ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: الطبري: 30 / 11-12.
(3) قال الطبري: 30 / 12: "ولا معنى لهذا القول لأن قوله (لابثين فيها أحقابا) خبر، والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي".
(4) ساقط من "أ".
(5) "وغساق": قرأ حمزة، والكسائي وحفص: "وغسَّاق" حيث كان بالتشديد، وخففها الآخرون، فمن شدد جعله اسمًا على فَعَّال، نحو: الخباز والطباخ، ومن خفف جعله اسمًا على فَعَال نحو العذاب.
واختلفوا في معنى الغساق، قال ابن عباس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده، كما تحرقهم النار بحرّها.
وقال مقاتل ومجاهد: هو الذي انتهى برده.
وقيل: هو المنتن بلغة الترك.
وقال قتادة: هو ما يغسق أي: ما يسيل من القيح والصديد من جلود أهل النار، ولحومهم، وفروج الزناة، من قوله: غَسِقَتْ عينه إذا انصبَّت، والغسقان الانصباب.

(8/315)


فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)

إِلَيْكَ أَمِ القِصَّارُ؟ (1) . {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} أَيْ وَكُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ بَيَّنَّاهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كَقَوْلِهِ: "وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ" (يس-12) .
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) }
__________
(1) معاني القرآن للفراء: 3 / 229.

(8/316)


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) }
{فَذُوقُوا} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ: فَذُوقُوا، {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} فَوْزًا وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُتَنَزَّهًا. {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} يُرِيدُ أَشْجَارَ الْجَنَّةِ وَثِمَارَهَا. {وَكَوَاعِبَ} جَوَارِيَ نَوَاهِدَ قَدْ تَكَعَّبَتْ ثُدِيُّهُنَّ، وَاحِدَتُهَا كَاعِبٌ، {أَتْرَابًا} مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ. {وَكَأْسًا دِهَاقًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةَ وَابْنُ زَيْدٍ: مُتْرَعَةً مَمْلُوءَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مُتَتَابِعَةً. قَالَ عِكْرِمَةُ: صَافِيَةً. {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} بَاطِلًا مِنَ الْكَلَامِ {وَلَا كِذَّابًا} تَكْذِيبًا، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ "كِذَّابًا" بِالتَّخْفِيفِ مَصْدَرُ [كَاذِبٌ] (1) كَالْمُكَاذَبَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الْكَذِبُ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى التَّكْذِيبِ كَالْمُشَدَّدِ. {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} أَيْ جَازَاهُمْ جَزَاءً وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءً "حِسَابًا" أَيْ: كَافِيًا وَافِيًا، يُقَالُ: أَحْسَبْتُ فُلَانًا، أَيْ أَعْطَيْتُهُ مَا يَكْفِيهِ حَتَّى قَالَ حَسْبِي. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: "عَطَاءً حِسَابًا" أَيْ كَثِيرًا (2) وَقِيلَ: هُوَ جَزَاءٌ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ. {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَبُو عَمْرٍو: "رَبُّ" رَفْعٌ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَ"الرَّحْمَنُ" خَبَرُهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَرِّ إِتْبَاعًا لِقَوْلِهِ: "مِنْ رَبِّكَ" وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ،
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: القرطين: 2 / 201.

(8/316)


يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)

وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ: "الرَّحْمَنِ" جَرًّا إِتْبَاعًا لِقَوْلِهِ: "رب السماوات 183/ب " وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ، فَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَقْرَآنِ "رَبِّ" بِالْخَفْضِ لِقُرْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ: "جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ" وَيَقْرَآنِ "الرَّحْمَنُ" بِالرَّفْعِ لِبُعْدِهِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَوْلُهُ: {لَا يَمْلِكُونَ} فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، خَبَرُهُ.
وَمَعْنَى {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً إِلَّا بِإِذْنِهِ.
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) }
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ {وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الرُّوحِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ جِبْرِيلُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الرُّوحُ" مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مَخْلُوقًا أَعْظَمَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَامَ وَحْدَهُ صَفَّا وَقَامَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ صَفًّا وَاحِدًا، فَيَكُونُ عِظَمُ خَلْقِهِ مِثْلُهُمْ (1) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الرُّوحُ مَلَكٌ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَمِنَ الْجِبَالِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ [أَلْفَ] (2) تَسْبِيحَةٍ، يُخْلَقُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكٌ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَّا وَحْدَهُ (3) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ: "الرُّوحُ" خُلِقَ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ لَيْسُوا بِنَاسٍ يَقُومُونَ صَفًّا وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا، هَؤُلَاءِ جُنْدٌ وَهَؤُلَاءِ جُنْدٌ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمْ خَلْقٌ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكٌ إِلَّا مَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ (4) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو آدَمَ (5) . وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: هَذَا مِمَّا كَانَ يَكْتُمُهُ ابْنُ عَبَّاسٍ (6) .
__________
(1) انظر: الطبري: 30 / 22.
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه الطبري: 30 / 22. واستغربه ابن كثير: 4 / 466 فقال: "وهذا قول غريب جدا". وانظر: الدر المنثور: 8 / 400.
(4) انظر: الطبري 30 / 23.
(5) أخرجه الطبري: 30 / 23.
(6) الراجح الجمع بين هذه الأقوال كما بين ابن جرير: 30 / 23 فقال: "والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطابا، يوم يقوم الروح، والروح خلق من خلقه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذكرت، والله أعلم أي ذلك هو، ولا خبر بشيء من ذلك أنه المعني به دون غيره يجب التسليم له، ولا حجة تدل عليه، وغير ضائر الجهل به". وراجع ابن كثير: 4 / 466 -467 فقد رجح أنهم بنو آدم.

(8/317)


ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

"وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا" قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُمَا سِمَاطَا (1) رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَوْمَ يَقُومُ سِمَاطٌ مِنَ الرُّوحِ وَسِمَاطٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
{لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} فِي الدُّنْيَا، أَيْ حَقًّا. وَقِيلَ: قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (2) .
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) }
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} الْكَائِنُ الْوَاقِعُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} مَرْجِعًا وَسَبِيلًا بِطَاعَتِهِ، أَيْ: فَمَنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ. {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} يَعْنِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ كُلُّ امْرِئٍ يَرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا قَدَّمَ مِنَ الْعَمَلِ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِهِ، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: (3) إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مُدَّتِ الْأَرْضُ مَدَّ الْأَدِيمِ، وَحُشِرَتِ الدَّوَابُّ وَالْبَهَائِمُ وَالْوُحُوشُ، ثُمَّ يُجْعَلُ الْقِصَاصُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقِصَاصِ قِيلَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وَمِثْلُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْوُحُوشَ وَالْهَوَامَّ وَالطَّيْرَ فَيَقْضِي بَيْنَهُمْ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ: أَنَا خَلَقْتُكُمْ وَسَخَّرْتُكُمْ لِبَنِي آدَمَ وَكُنْتُمْ مُطِيعِينَ إِيَّاهُمْ أَيْامَ حَيَاتِكُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى الَّذِي
__________
(1) والسماط: الصف.
(2) رواه الطبري: 30 / 24 عن عكرمة ثم قال: "والصواب من القول في ذلك أن يقال: "إن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه أنهم لا يتكلمون يوم يقوم الروح والملائكة صفا إلا من أذن له منهم في الكلام الرحمن، وقال صوابا فالواجب أن يقال كما أخبر إذ لم يخبرنا في كتابه، ولا على لسان رسوله، أنه عنى بذلك نوعا من أنواع الصواب، والظاهر محتمل جميعه".
(3) في المخطوطتين: عبد الله بن عمر، أما في الطبري: 30 / 26 فعبد الله بن عمرو. وكذلك عند ابن كثير: 4 / 467. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 402 لعبد بن حميد وابن شاهين في كتاب "العجائب والغرائب".

(8/318)


كُنْتُمْ، كُونُوا تُرَابًا، فَإِذَا الْتَفَتَ الْكَافِرُ إِلَى شَيْءٍ صَارَ تُرَابًا، يَتَمَنَّى فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ فِي الدُّنْيَا فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ، وَكُنْتُ الْيَوْمَ تُرَابًا.
وَعَنْ [أَبِي الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ] (1) قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ وَأَمَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَقِيلَ لِسَائِرِ الْأُمَمِ وَلِمُؤْمِنِي الْجِنِّ عُودُوا تُرَابًا فَيَعُودُونَ تُرَابًا، فَحِينَئِذٍ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وَبِهِ قَالَ لَيْثُ بْنُ [أَبِي] (2) سُلَيْمٍ، مُؤْمِنُو الْجِنِّ يَعُودُونَ تُرَابًا (3)
وَقِيلَ: إِنَّ الْكَافِرَ هَاهُنَا إِبْلِيسُ (4) وَذَلِكَ أَنَّهُ عَابَ آدَمَ وَأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ وَافْتَخَرَ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، فَإِذَا عَايَنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا فِيهِ آدَمُ وَبَنُوهُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الثَّوَابِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْعَذَابِ، قَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: التُّرَابُ لَا وَلَا كَرَامَةَ لَكَ، مَنْ جَعَلَكَ مِثْلِي؟.
__________
(1) في نسخة "أ" أبي الزناد عن عبد الله بن ذكوان، والصواب أنه اسم واحد.
(2) ساقط من "ب" والصحيح ما أثبتناه كما في "تهذيب التهذيب".
(3) انظر الطبري: 30 / 26.
(4) حكى الثعلبي عن بعض أشياخه أنه رأى ذلك في بعض التفاسير، انظر: زاد المسير: 8 / 13. والصحيح أنها عامة في كل كافر لأنه لم يخص كافرا معينا فيدخل إبليس وغيره ...

(8/319)


وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)

سُورَةُ النَّازِعَاتِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) }
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، كَمَا يُغْرِقُ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ فَيَبْلُغُ بِهَا غَايَةَ الْمَدِّ بَعْدَ ما نزعها حنى إِذَا كَادَتْ تَخْرُجُ رَدَّهَا فِي جَسَدِهِ فَهَذَا عَمَلُهُ بِالْكُفَّارِ، وَ"الْغَرْقُ" اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِغْرَاقِ، أَيْ: وَالنَّازِعَاتِ إِغْرَاقًا، وَالْمُرَادُ بِالْإِغْرَاقِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدِّ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَنْزِعُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ [وَأَعْوَانُهُ] (2) مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ وَمِنَ الْأَظَافِيرِ وَأُصُولِ الْقَدَمَيْنِ (3) [وَيُرَدِّدُهَا فِي جَسَدِهِ بَعْدَمَا يَنْزِعُهَا] (4) حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَخْرُجُ ردها في سجده بَعْدَمَا يَنْزِعُهَا، فَهَذَا عَمَلُهُ بِالْكُفَّارِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ يَنْزِعُونَ [أَرْوَاحَ] (5) الْكُفَّارِ كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ الْكَثِيرُ الشُّعَبِ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ، فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ كَالْغَرِيقِ فِي الْمَاءِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَوْتُ يَنْزِعُ النُّفُوسَ (6) .
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة النازعات بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 403.
(2) ساقط من "ب".
(3) انظر: الطبري: 30 / 27.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) في "ب" روح.
(6) انظر الطبري: 30 / 27.

(8/320)


وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)

وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ النَّفْسُ حِينَ تَغْرَقُ فِي الصَّدْرِ (1)
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ النُّجُومُ تُنْزَعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ تَطْلُعُ ثُمَّ تَغِيبُ (2) . وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ الْقِسِيُّ (3) . وَقِيلَ: الْغُزَاةُ الرُّمَاةُ (4) .
{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) }
{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [هِيَ] (5) الْمَلَائِكَةُ تُنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ، أَيْ تَحِلُّ حَلًّا رَفِيقًا فَتَقْبِضُهَا، كَمَا يُنْشَطُ الْعِقَالُ مِنْ يَدِ الْبَعِيرِ، أَيْ يُحَلُّ بِرِفْقٍ، حَكَى الفَّراءُ هَذَا الْقَوْلَ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي سَمِعْتُ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا: أَنْشَطْتُ الْعِقَالَ، إِذَا حَلَلْتُهُ، وَأَنْشَطْتُهُ: إِذَا عَقَدْتُهُ بِأُنْشُوطَةٍ (6) . وَفِي الْحَدِيثِ: "كَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ" (7) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ تَنْشَطُ لِلْخُرُوجِ عِنْدَ الْمَوْتِ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ لِأَنَّهُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَنْشَطُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ مِمَّا بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْأَظْفَارِ حَتَّى تُخْرِجَهَا مِنْ أَفْوَاهِهِمْ بِالْكَرْبِ وَالْغَمِّ، وَالنَّشْطُ: الْجَذْبُ وَالنَّزْعُ، يُقَالُ: نَشَطْتُ الدَّلْوَ نَشْطًا إِذَا نَزَعْتُهَا قَالَ الْخَلِيلُ: النَّشْطُ وَالْإِنْشَاطُ مَدُّكَ الشَّيْءَ إِلَى نَفْسِكَ، حَتَّى يَنْحَلَّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَوْتُ يُنَشِّطُ النُّفُوسَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ النَّفْسُ تَنْشَطُ مِنَ الْقَدَمَيْنِ أَيْ تُجْذَبُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ تَنْشَطُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ، أَيْ تَذْهَبُ، يُقَالُ: نَشِطَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، إِذَا خَرَجَ فِي سُرْعَةٍ، وَيُقَالُ: حِمَارٌ نَاشِطٌ، يَنْشَطُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ: هِيَ [الْأَوْهَاقُ] (8) . {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} هَمُ الْمَلَائِكَةُ يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَ المؤمنين يسلونها 184/أسُلًّا رَفِيقًا، ثُمَّ يَدَعُونَهَا حَتَّى تَسْتَرِيحَ كَالسَّابِحِ بِالشَّيْءِ فِي الْمَاءِ يَرْفُقُ بِهِ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 30 / 28.
(2) انظر الطبري: 30 / 28.
(3) انظر الطبري: 30 / 28.
(4) قال صاحب زاد المسير: 9 / 15 "حكاه الثعلبي".
(5) في "ب" هم.
(6) معاني القرآن للفراء: 3 / 230 وقد تصرف في العبارة.
(7) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الإجارة، باب ما يعطى في الرقية.. 4 / 453، عن أبي سعيد الخدري. وانظر: فتح الباري: 4 / 456.
(8) في "ب" الإزهاق. والأوهاق: جمع وهق - بسكون الهاء أو تحريكها - وهي الحبل المغارير في طرفه أنشوطة فتؤخذ فيه الدابة والإنسان. وقد ساق الطبري: 30 / 28-29، أكثر الأقوال المذكورة ثم قال مرجحا: "والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أقسم بالناشطات نشطا، وهي التي تنشط من موضع إلى موضع فتذهب إليه، ولم يخصص الله بذلك شيئا دون شيء، بل عم القسم بجميع الناشطات والملائكة تنشط من موضع إلى موضع، وكذلك الموت وكذلك النجوم والأوهاق وبقر الوحش أيضا تنشط". ويلاحظ أن الأكثرية على أنها الملائكة كما قال ابن كثير وابن الجوزي وهو أقرب.

(8/324)


فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ يُنَزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ يُقَالُ لَهُ سَابِحٌ إِذَا أَسْرَعَ فِي جَرْيِهِ.
وَقِيلَ: هِيَ خَيْلُ الْغُزَاةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ [وَالْقَمَرُ] (1) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (الْأَنْبِيَاءِ-33) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ السُّفُنُ.
{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) }
{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ [تَسْبِقُ] (2) ابْنَ آدَمَ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِقُ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: هِيَ أَنْفُسُ الْمُؤْمِنِينَ تَسْبِقُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَقْبِضُونَهَا شَوْقًا إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، وَقَدْ عَايَنَتِ السُّرُورَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي السَّيْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْخَيْلُ (3) . {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ وُكِّلُوا بِأُمُورٍ عَرَّفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَمَلَ بِهَا.
قَالَ [عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (4) بْنُ سَابِطٍ: يُدَبِّرُ [الْأُمُورَ] (5) فِي الدُّنْيَا أَرْبَعَةٌ: جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ، وَإِسْرَافِيلُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، أَمَّا جِبْرِيلُ: فَمُوَكَّلٌ بِالرِّيحِ وَالْجُنُودِ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ: فَمُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ، وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ: فَمُوَكَّلٌ بِقَبْضِ [الْأَرْوَاحِ] (6) وَأَمَّا إِسْرَافِيلُ: فَهُوَ يَنْزِلُ بِالْأَمْرِ عَلَيْهِمْ.
وَجَوَابُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَحْذُوفٌ، عَلَى تَقْدِيرِ: لَتُبْعَثُنَّ وَلَتُحَاسَبُنَّ (7) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب" سبقت.
(3) راجع في هذه الأقوال: الطبري: 30 / 30-31، زاد المسير: 9 / 17، والتعليق السابق على الناشطات.
(4) في "ب" عبد الله، والصحيح ما أثبتناه من "أ" كما في "تهذيب التهذيب".
(5) في "ب" الأمر.
(6) في "ب" الأمر.
(7) انظر: زاد المسير: 9 / 18.

(8/325)


يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)

وَقِيلَ: جَوَابُهُ [قَوْلُهُ] (1) "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى".
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ [وَتَأْخِيرٌ] (2) تَقْدِيرُهُ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (3) .
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} يَعْنِي النَّفْخَةَ الْأُولَى، يَتَزَلْزَلُ وَيَتَحَرَّكُ لَهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَيَمُوتُ مِنْهَا جَمِيعُ [الْخَلَائِقِ] (4) . {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ رَدَفَتِ الْأُولَى وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.
قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا صَيْحَتَانِ فَالْأُولَى تُمِيتُ كُلَّ شَيْءٍ، وَالْأُخْرَى تُحْيِي كُلَّ شَيْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (5) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتَزَلْزَلُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ حِينَ تَنْشَقُّ السَّمَاءُ، وَتُحْمَلُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدَكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (6) وَقَالَ عَطَاءٌ: "الرَّاجِفَةُ" الْقِيَامَةُ وَ"الرَّادِفَةُ" الْبَعْثُ. وَأَصْلُ الرَّجْفَةِ: الصَّوْتُ وَالْحَرَكَةُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ (7) الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ رُبْعُ اللَّيْلِ قَامَ، وَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُذْكُرُوا اللَّهَ، [اُذْكُرُوا اللَّهَ] (8) جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تُتْبِعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ،
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(3) قال أبو حيان في البحر المحيط: 8 / 420: "وقيل التقدير يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة والنازعات على التقديم والتأخير أيضا وليس بشيء".
(4) في "ب" الخلق.
(5) أخرجه الطبري: 30 / 31.
(6) انظر الطبري: 30 / 32.
(7) في "أ" محمد بن إبراهيم ولعله سقط اسم أبيه هارون فهو محمد بن هارون بن إبراهيم كما في "تهذيب التهذيب".
(8) ساقط من "أ". والحديث أخرجه الترمذي في صفة القيامة: 7 / 152-153 وقال: "هذا حديث حسن" وصححه الحاكم: 2 / 421 ووافقه الذهبي. وأخرج بعضه الإمام أحمد: 5 / 136، وأبو نعيم في الحلية: 1 / 256، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث برقم: (954) 2 / 675.

(8/326)


قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

[جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ] " (1) .
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) }
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} خَائِفَةٌ قَلِقَةٌ مُضْطَرِبَةٌ، وَسُمِّيَ "الْوَجِيفُ" فِي السَّيْرِ، لِشِدَّةِ اضْطِرَابِهِ، يُقَالُ: وَجَفَ الْقَلْبُ وَوَجَبَ وُجُوفًا وَوَجِيفًا وَوُجُوبًا وَوَجِيبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَجِلَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: زَائِلَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا، نَظِيرُهُ "إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ" (غَافِرٍ-18) . {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ذَلِيلَةٌ، كَقَوْلِهِ: "خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ" (الشُّورَى-45) الْآيَةَ. {يَقُولُونَ} يَعْنِي الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ إِذَا قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} أَيْ: إِلَى أَوَّلِ الْحَالِ وَابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَنُصَيَّرُ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا كُنَّا؟ تَقُولُ الْعَرَبُ: رَجَعَ فَلَانٌ فِي حَافِرَتِهِ، أَيْ رَجَعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَالْحَافِرَةُ عِنْدَهُمُ اسْمٌ لِابْتِدَاءِ الشَّيْءِ، [وَأَوَّلُ الشَّيْءِ] (2) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "الْحَافِرَةُ" وَجْهُ الْأَرْضِ الَّتِي تُحْفَرُ فِيهَا قُبُورُهُمْ، سُمِّيَتْ حَافِرَةٌ بِمَعْنَى الْمَحْفُورَةِ، كَقَوْلِهِ: "عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ" أَيْ مَرَضِيَّةٍ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ حَافِرَةٌ لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّ [الْحَوَافِرِ] (3) أَيْ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ إِلَى الْأَرْضِ فَنُبْعَثُ خَلْقًا جَدِيدًا نَمْشِي عَلَيْهَا؟ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الْحَافِرَةُ" النَّارُ. {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَعْقُوبُ: "أَئِنَّا"؟ مُسْتَفْهِمًا، "إِذَا" بِتَرْكِهِ، ضِدُّهُ أَبُو جَعْفَرٍ، [الْبَاقُونَ] بِاسْتِفْهَامِهِمَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو عَمْرٍو: "عِظَامًا نَاخِرَةً"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "نَخِرَةً" وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلُ الطَّمِعِ وَالطَّامِعِ وَالْحَذِرِ وَالْحَاذِرِ، وَمَعْنَاهُمَا الْبَالِيَةُ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: النَّخِرَةُ: الْبَالِيَةُ، وَالنَّاخِرَةُ: الْمُجَوَّفَةُ الَّتِي تَمُرُّ فِيهَا الرِّيحُ فَتَنْخُرُ، أَيْ: تُصَوِّتُ. {قَالُوا} يَعْنِي الْمُنْكِرِينَ {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} رَجْعَةٌ خَائِبَةٌ، يَعْنِي إِنْ رُدِدْنَا بَعْدَ الْمَوْتِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من"ب".
(3) في "ب" الحافر.

(8/327)


ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

لَنَخْسَرَنَّ بِمَا يُصِيبُنَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) }

(8/328)


إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)

{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) }
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنَّمَا هِيَ} يَعْنِي النَّفْخَةَ الْأَخِيرَةَ {زَجْرَةٌ} صَيْحَةٌ {وَاحِدَةٌ} يَسْمَعُونَهَا. {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} يَعْنِي: وَجْهَ الْأَرْضِ، أَيْ صَارُوا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَعْدَمَا كَانُوا فِي جَوْفِهَا (1) وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْفَلَاةَ وَوَجْهَ الْأَرْضِ: سَاهِرَةٌ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ (2) تَرَاهُمْ سَمَّوْهَا سَاهِرَةً لِأَنَّ فِيهَا نَوْمُ الْحَيَوَانِ وَسَهَرِهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ (3) وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ جَهَنَّمُ (4) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} يَقُولُ: قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ حَدِيثُ مُوسَى. {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} (5) فَقَالَ يَا مُوسَى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} عَلَا وَتَكَبَّرَ وَكَفَرَ بِاللَّهِ. {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَيَعْقُوبُ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ: أَيْ تَتَزَكَّى وَتَتَطَهَّرَ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ [بِالتَّخْفِيفِ] [وَأَصْلُهُ تَتَزَكَّى فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ الثانية في الزاء فِي الْقِرَاءَةِ الْأُولَى وَحُذِفَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَمَعْنَاهُ تَتَطَهَّرَ مِنَ الشِّرْكِ] (6) أَيْ: تُسْلِمَ وَتُصْلِحَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} أَيْ: أَدْعُوكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَتَوْحِيدِهِ فَتَخْشَى عِقَابَهُ. {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدَ الْبَيْضَاءُ.
__________
(1) وهذا ما رجحه ابن كثير: 4 / 468.
(2) انظر الطبري: 30 / 35.
(3) انظر الطبري: 30 / 37.
(4) انظر الطبري: 30 / 38.
(5) قال ابن جرير عند تفسير هذه الآية: 30 / 38 "وهل سمعت خبره حين ناجاه ربه بالواد المقدس، يعني بالمقدس: المطهر المبارك" ثم ذكر أقوالا كثيرة في معنى طوى.
(6) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/328)


فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)

{فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) }
{فَكَذَّبَ} بِأَنَّهُمَا مِنَ اللَّهِ {وَعَصَى} {ثُمَّ أَدْبَرَ} تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ {يَسْعَى} يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. {فَحَشَرَ} فَجَمَعَ قَوْمَهُ وَجُنُودَهُ {فَنَادَى} لَمَّا اجْتَمَعُوا. {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فَلَا رَبَّ فَوْقِي. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الْأَصْنَامَ أَرْبَابٌ وَأَنَا رَبُّكُمْ وَرَبُّهَا. {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: عَاقَبَهُ اللَّهُ فَجَعَلَهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأَوْلَى، أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ بِالْآخِرَةِ وَالْأُولَى كَلِمَتَيْ فِرْعَوْنَ قَوْلَهُ: "مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي" (الْقَصَصِ-38) وَقَوْلُهُ: "أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى" وكان بينهما 184/ب أَرْبَعُونَ سَنَةً (2) . {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الَّذِي فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ حِينَ كَذَّبَ وَعَصَى {لَعِبْرَةٌ} لَعِظَةٌ {لِمَنْ يَخْشَى} اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ خَاطَبَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} يَعْنِي أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَشَدُّ عِنْدَكُمْ وَفِي تَقْدِيرِكُمْ أَمِ السَّمَاءُ؟ وَهُمَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَاحِدٌ، كَقَوْلِهِ "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ" (غَافِرٍ-57) ثُمَّ وَصَفَ خَلْقَ السَّمَاءِ فَقَالَ: {بَنَاهَا} {رَفَعَ سَمْكَهَا} سَقْفَهَا {فَسَوَّاهَا} بِلَا شُطُورٍ [وَلَا شُقُوقٍ] (3) وَلَا فُطُورٍ. {وَأَغْطَشَ} أَظْلَمَ {لَيْلَهَا} وَالْغَطْشُ وَالْغَبْشُ الظُّلْمَةُ {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ نَهَارَهَا وَنُورَهَا، وَأَضَافَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ كِلَاهُمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ. {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ {دَحَاهَا} بَسَطَهَا، وَالدَّحْوُ الْبَسْطُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوَهَا قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ
__________
(1) انظر الطبري: 30 / 42.
(2) انظر الطبري: 30 / 41.
(3) ساقط من "ب".

(8/329)


أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)

سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَالْأَرْضَ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ" (الْقَلَمِ-13) أَيْ مَعَ ذَلِكَ.
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيْانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) }
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} يَعْنِي النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي فِيهَا الْبَعْثُ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ، وَسُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ: "طَامَّةً" لِأَنَّهَا تَطُمُّ عَلَى كُلِّ هَائِلَةٍ مِنَ الْأُمُورِ، فَتَعْلُو فَوْقَهَا وَتَغْمُرُ مَا سِوَاهَا، وَ"الطَّامَّةُ" عِنْدَ الْعَرَبِ: الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ. {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} مَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} قَالَ مُقَاتِلٌ يُكْشَفُ عَنْهَا الْغِطَاءُ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا الْخَلْقُ. {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} فِي كُفْرِهِ. {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} عَلَى الْآخِرَةِ. {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} عَنِ الْمَحَارِمِ الَّتِي تَشْتَهِيهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ لِلْحِسَابِ فَيَتْرُكُهَا. {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيْانَ مُرْسَاهَا} مَتَى ظُهُورُهَا وَثُبُوتُهَا. {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} لَسْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهَا وَذِكْرِهَا، أَيْ لَا تَعْلَمُهَا. {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} أَيْ مُنْتَهَى عِلْمِهَا عِنْدَ اللَّهِ.

(8/330)


إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) }
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "مُنْذِرٌ" بِالتَّنْوِينِ أَيْ [إِنَّمَا أَنْتَ] (1) مُخَوِّفٌ مَنْ يَخَافُ قِيَامَهَا، أَيْ: إِنَّمَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكَ مَنْ يَخَافُهَا. {كَأَنَّهُمْ} يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ {يَوْمَ يَرَوْنَهَا} يُعَايِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَمْ يَلْبَثُوا} فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: فِي قُبُورِهِمْ {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} قَالَ الْفَرَّاءُ: (2) لَيْسَ لِلْعَشِيَّةِ ضُحًى، إِنَّمَا الضُّحَى لِصَدْرِ النَّهَارِ، وَلَكِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا: آتِيكَ الْعَشِيَّةَ أَوْ غَدَاتَهَا، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: آخِرَ يَوْمٍ أَوْ أَوَّلَهُ، نَظِيرُهُ: قَوْلُهُ "كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" (الْأَحْقَافِ-35) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 234.

(8/331)


عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)

سُورَةُ عَبَسَ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) }
{عَبَسَ} كَلَحَ {وَتَوَلَّى} أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ. {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [أَيْ: لِأَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى] (2) وَهُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ مِنْ بني عامر بَنِي لُؤَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، وَأَخَاهُ أُمَيَّةَ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، يَرْجُو إِسْلَامَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: [يَا رَسُولَ اللَّهِ] (3) أَقْرِئْنِي وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِ وَيُكَرِّرُ النِّدَاءَ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى غَيْرِهِ حَتَّى ظَهَرَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَطْعِهِ كَلَامَهُ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: يَقُولُ هَؤُلَاءِ الصَّنَادِيدُ: إِنَّمَا أَتْبَاعُهُ الْعِمْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالسَّفَلَةُ، فَعَبَسَ وَجْهُهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَلِّمُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ، وَإِذَا رَآهُ قَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي، وَيَقُولُ لَهُ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ؟ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ (4) فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَرَأَيْتُهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ عَلَيْهِ دِرْعٌ وَمَعَهُ
__________
(1) أخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: نزلت سورة عبس بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 415.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(4) انظر: الواحدي في أسباب النزول صفحة (517) . وقال ابن حجر في "الكافي الشاف" صفحة (181) : "ذكره الثعلبي بلا إسناد، وأخرجه ابن أبي حاتم من رواية العوفي عن ابن عباس نحوه دون قوله: (صناديد قريش) ودون سياق نسب ابن أم مكتوم، وكذا أخرجه الطبري من رواية سعيد عن قتادة. قال: ذكر لنا.." فذكره. وانظر الروايات في الصحيح المسند من أسباب النزول للوادعي صفحة (169) .

(8/332)


وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)

رَايَةٌ سَوْدَاءُ (1) .
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) }
{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} يَتَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَمَا يَتَعَلَّمُهُ مِنْكَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يُسْلِمُ. {أَوْ يَذَّكَّرُ} يَتَّعِظُ {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} الْمَوْعِظَةُ قَرَأَ عَاصِمٌ: "فَتَنْفَعَهُ" بِنَصْبِ الْعَيْنِ عَلَى جَوَابِ "لَعَلَّ" بِالْفَاءِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالرَّفْعِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "يَذَّكَّرُ". {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنِ اللَّهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِمَا لَهُ مِنَ الْمَالِ. {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} تَتَعَرَّضُ لَهُ وَتُقْبِلُ عَلَيْهِ وَتُصْغِي إِلَى كَلَامِهِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ: "تَصَّدَّى" بِتَشْدِيدِ الصَّادِ عَلَى الْإِدْغَامِ، أَيْ: تَتَصَدَّى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ عَلَى الْحَذْفِ. {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} لَا يُؤْمِنُ وَلَا يَهْتَدِي، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ. {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} يَمْشِي يَعْنِي: ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ. {وَهُوَ يَخْشَى} اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} تَتَشَاغَلُ وَتُعْرِضُ [عَنْهُ] (2) {كَلَّا} زَجْرٌ، أَيْ لَا تَفْعَلْ بَعْدَهَا مِثْلَهَا، {إِنَّهَا} يَعْنِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: آيَاتِ الْقُرْآنِ {تَذْكِرَةٌ} مَوْعِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ لِلْخَلْقِ. {فَمَنْ شَاءَ} مِنْ عِبَادِ اللَّهِ {ذَكَرَهُ} أَيِ اتَّعَظَ بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ، ذَكَرَهُ وَفَهِمَهُ، وَاتَّعَظَ بِمَشِيئَتِهِ وَتَفْهِيمِهِ، وَالْهَاءُ فِي "ذَكَرَهُ" رَاجِعَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَالتَّنْزِيلِ وَالْوَعْظِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ جَلَالَتِهِ عِنْدَهُ فَقَالَ {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} يَعْنِي اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَقِيلَ: كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 348.
(2) ساقط من "ب".

(8/336)


مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)

تَعَالَى: "إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى" (الْأَعْلَى18 -19) .
{مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) }
{مَرْفُوعَةٍ} رَفِيعَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقِيلَ: مَرْفُوعَةٍ يَعْنِي فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. {مُطَهَّرَةٍ} لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَتَبَةٌ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ، وَاحِدُهُمْ سَافِرٌ، يُقَالُ: سَفَّرْتُ أَيْ كَتَبْتُ. وَمِنْهُ قِيلَ [لِلْكَاتِبِ: سَافِرٌ، وَ] (1) لِلْكِتَابِ: سِفْرٌ وَجَمْعُهُ: أَسْفَارٌ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمُ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَاحِدُهُمْ سَفِيرٌ، وَهُوَ الرَّسُولُ، وَسَفِيرُ الْقَوْمِ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمْ لِلصُّلْحِ، وَسَفَرْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ إِذَا أَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أَيْ: كِرَامٍ عَلَى الله، بررة 185/أمُطِيعِينَ، جَمْعُ بَارٍّ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ} أَيْ لُعِنَ الْكَافِرُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ (2) {مَا أَكْفَرَهُ} مَا أَشَدَّ كُفْرُهُ بِاللَّهِ مَعَ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ وَأَيَادِيهِ عِنْدَهُ، عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: اعْجَبُوا أَنْتُمْ مِنْ كُفْرِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ "مَا" الِاسْتِفْهَامُ، يَعْنِي: أَيُّ شَيْءٍ حَمَلَهُ عَلَى الْكُفْرِ؟ ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ يَنْبَغِي مَعَهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ فَقَالَ: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} لظفه اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ. ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أَطْوَارًا: نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى آخِرِ خَلْقِهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَدَّرَ خَلْقَهُ، رَأْسَهُ وَعَيْنَيْهِ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أَيْ طَرِيقَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ، وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي طَرِيقَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، سَهَّلَ لَهُ الْعِلْمَ بِهِ، كَمَا قَالَ: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ" (الْإِنْسَانِ-3) "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" (الْبَلَدِ-10) وَقِيلَ: يَسَّرَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا خَلَقَهُ لَهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ. {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} جَعَلَ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: جَعَلَهُ مَقْبُورًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِمَّنْ يُلْقَى كَالسِّبَاعِ وَالطُّيُورِ. يُقَالُ: قَبَرْتُ الْمَيِّتَ إِذَا دَفَنْتُهُ، وَأَقْبَرَهُ اللَّهُ: أَيْ صَيَّرَهُ بِحَيْثُ يُقْبَرُ، وَجَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ،
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) انظر: زاد المسير، 9 / 30، وعزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 419 لعكرمة.

(8/337)


ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)

كَمَا يُقَالُ: طَرَدْتُ فُلَانًا وَاللَّهُ أَطْرَدَهُ أَيْ صَيَّرَهُ طَرِيدًا (1) .
{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) }
{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} أَحْيَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. {كَلَّا} رَدًّا عَلَيْهِ، أَيْ: لَيْسَ كَمَا يَقُولُ وَيَظُنُّ هَذَا الْكَافِرُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: حَقًا. {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} أَيْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ [اللَّهُ بِهِ] (2) وَلَمْ يُؤَدِّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ ابْنِ آدَمَ ذَكَرَ رِزْقَهُ لِيَعْتَبِرَ فَقَالَ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} كَيْفَ قَدَّرَهُ رَبُّهُ وَدَبَّرَهُ لَهُ وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاتِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَى مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: {أَنَّا} قَرَأَ أَهْلُ [الْكُوفَةِ] (3) "أَنَّا" [بِالْفَتْحِ] (4) عَلَى تَكْرِيرِ الْخَافِضِ، مَجَازُهُ: فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَنَّا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. {صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} يَعْنِي الْمَطَرَ. {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} بِالنَّبَاتِ. {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} يَعْنِي الْحُبُوبَ الَّتِي يُتَغَذَّى بِهَا. {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} وَهُوَ الْقَتُّ الرَّطْبُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ أَيْ يُقْطَعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْقَضْبُ: الْعَلَفُ لِلدَّوَابِّ. {وَزَيْتُونًا} وَهُوَ مَا يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ {وَنَخْلًا} جَمْعُ نَخْلَةٍ. {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} غِلَاظُ الْأَشْجَارِ، وَاحِدُهَا أَغْلَبُ، ومنه قيل الغليظ الرَّقَبَةِ: أَغْلَبُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: الْغُلْبُ: الْمُلْتَفَّةُ الشَّجَرِ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طِوَالًا. {وَفَاكِهَةً} يُرِيدُ أَلْوَانَ الْفَوَاكِهِ {وَأَبًّا} يَعْنِي الْكَلَأَ وَالْمَرْعَى الَّذِي لَمْ يَزْرَعْهُ النَّاسُ، مِمَّا يَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ.
__________
(1) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 237.
(2) في "ب" به ربه.
(3) في "ب" المدينة.
(4) في "أ" بفتح الألف.

(8/338)


مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)

قَالَ عِكْرِمَةُ: "الْفَاكِهَةُ" مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، وَ"الْأَبُّ" مَا يَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ. وَمِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْفَاكِهَةُ لَكُمْ وَالْأَبُّ لِأَنْعَامِكُمْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَنْبَتَتِ [الْأَرْضُ] (1) مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ.
وَرُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: "وَفَاكِهَةً وَأَبًّا" فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ (2) .
وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَفَضَ عَصًا كَانَتْ بِيَدِهِ وَقَالَ: هَذَا [وَاللَّهِ] (3) لَعَمْرُ اللَّهِ التَّكَلُّفُ، وَمَا عَلَيْكَ يَا ابْنَ [أَمِّ] (4) عُمَرَ أَنْ لَا تَدْرِيَ مَا الْأَبُّ، ثُمَّ قَالَ: اتَّبِعُوا مَا تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَا لَا [تَبَيَّنَ] (5) فَدَعُوهُ (6) .
{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) }
{مَتَاعًا لَكُمْ} مَنْفَعَةً لَكُمْ يَعْنِي الْفَاكِهَةَ {وَلِأَنْعَامِكُمْ} يَعْنِي الْعُشْبَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْقِيَامَةَ فَقَالَ: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} يَعْنِي صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ، أَيْ تُبَالِغُ فِي الْأَسْمَاعِ حَتَّى تَكَادَ تُصِمُّهَا. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} لَا يَلْتَفِتُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِشَغْلِهِ بِنَفْسِهِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) قال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف" صفحة (182) "رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي، أن أبا بكر - رضي الله عنه - سئل عنه، فذكره - ورواه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد من هذا الوجه. وهذا منقطع. ورواه يحيى الحماني وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" صـ (353) من طريقه من رواية إبراهيم النخعي عن أبي معمر عن أبي بكر فذكره". وانظر: الدر المنثور: 8 / 421، تفسير ابن كثير: 4 / 474.
(3) زيادة من "ب".
(4) ساقط من "أ".
(5) زيادة من "ب".
(6) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 349، وابن سعد في الطبقات: 3 / 327، والطبري: 30 / 59،61، وصححه الحاكم: 2 / 514. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 421-422 عزوه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" والخطيب وانظر: الكافي الشاف، صفحة (182) . قال ابن كثير بعد أن ساق رواية الطبري: 4 / 474: "وهذا إسناد صحيح وقد رواه غير واحد عن أنس به، وهو محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض كقوله: (فأنبتنا.. الآية) .

(8/339)


لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)

حُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ "يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ] (1) " قَالَ: يَفِرُّ هَابِيلُ مِنْ قَابِيلَ، وَيَفِرُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمِّهِ، وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَبِيهِ، وَلُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ صَاحِبَتِهِ، وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنِ ابْنِهِ (2) .
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) }
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} يَشْغَلُهُ عَنْ شَأْنِ غَيْرِهِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ وَبَلَغَ شُحُومَ الْآذَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاسَوْأَتَاهُ يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: قَدْ شُغِلَ النَّاسُ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ" (3) . {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} مُشْرِقَةٌ مُضِيئَةٌ. {ضَاحِكَةٌ} بِالسُّرُورِ {مُسْتَبْشِرَةٌ} فَرِحَةٌ بِمَا نَالَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} سَوَادُ وَكَآبَةُ الْهَمِّ [وَالْحُزْنِ] (4) {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تَعْلُوهَا وَتَغْشَاهَا ظُلْمَةٌ وَكُسُوفٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَغْشَاهَا ذِلَّةٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَبَرَةِ وَالْقَتَرَةِ: أَنَّ الْقَتَرَةَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْغُبَارِ فَلَحِقَ بِالسَّمَاءِ، وَالْغَبَرَةَ مَا كَانَ أَسْفَلَ فِي الْأَرْضِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: ابن كثير: 4 / 474.
(3) أخرجه الحاكم: 2 / 514-515، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم". وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 423 عزوه للطبراني وابن مردويه والبيهقي. قال الهيثمي في المجمع: 10 / 333: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عياش وهو ثقة، وذكره الهيثمي في المجمع من رواية الطبراني وقال: رواته ثقات. وزاد في الكنز عزوه لابن مردويه في "البعث" 14 / 363.
(4) ساقط من "ب".

(8/340)


أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

{أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) }
{أُولَئِكَ} الَّذِينَ يُصْنَعُ بِهِمْ هَذَا، {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} جَمْعُ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ.

(8/341)