تفسير البغوي
طيبة إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (1)
سُورَةُ التَّكْوِيرِ مَكِّيَّةٌ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) }
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الثَّعْلَبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ سهل السرخسي إملاءرأخبرنا أَبُو الْوَفَاءِ
الْمُؤَمِّلُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى الْمَاسَرْجِسِيُّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
بُحَيْرٍ الْقَاضِي قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
زَيْدٍ الصَّنْعَانِيَّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ
فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (2)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَظْلَمَتْ،
وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: ذَهَبَ
ضَوْءُهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: غُوِّرَتْ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: اضْمَحَلَّتْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: لُفَّتْ كَمَا
تُلَفُّ الْعِمَامَةُ، يُقَالُ: كَوَّرْتُ الْعِمَامَةَ عَلَى
رَأْسِي، أُكَوِّرُهَا كُوَرًا وَكَوَّرْتُهَا تَكْوِيرًا، إذا
لففتها 185/ب وَأَصْلُ التَّكْوِيرِ جَمْعُ بَعْضِ الشَّيْءِ
إِلَى بَعْضٍ، فَمَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّمْسَ يُجْمَعُ
بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تُلَفُّ، فَإِذَا فُعِلَ بِهَا
ذَلِكَ ذَهَبَ ضَوْءُهَا (3) .
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس
- رضي الله عنهما - قال: نزلت سورة (إذا الشمس كورت) بمكة.
انظر: الدر المنثور 8 / 425.
(2) أخرجه الترمذي في التفسير - سورة التكوير - 9 / 252-253،
والإمام أحمد 2 / 37، وصححه الحاكم: 2 / 515 ووافقه الذهبي.
وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 426 عزوه لابن المنذر وابن
مردويه.
(3) ذكر هذه الأقوال ابن جرير: 30 / 94-95 ثم قال مرجحا:
"والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: (كورت) كما قال الله
جل ثناؤه، والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض،
وذلك كتكوير العمامة، وهو لفها على الرأس، وكتكوير الكارة، وهو
جمع الثياب بعضها إلى بعض، لفها، وكذلك قوله: (إذا الشمس كرت)
إنما معناه: جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت فرمي بها، وإذا فعل ذلك
بها ذهب ضوءها فعلى التأويل الذي تأولناه وبيناه لكلا القولين
اللذين ذكرت عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كورت ورمي
بها ذهب ضوءها".
(8/342)
وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا
الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكَوِّرُ اللَّهُ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ [الْقِيَامَةِ] (1)
فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَبْعَثُ عَلَيْهَا رِيحًا دَبُورًا
فَتَضْرِبُهَا فَتَصِيرُ نَارًا (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
الدَّانَاجُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (3) .
{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ
سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا
الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) }
{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} أَيْ تَنَاثَرَتْ مِنَ
السَّمَاءِ وَتَسَاقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ، يُقَالُ: انْكَدَرَ
الطَّائِرُ أَيْ سَقَطَ عَنْ عُشِّهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ
وَعَطَاءٌ: تُمْطِرُ السَّمَاءُ يَوْمَئِذٍ نُجُومًا فَلَا
يَبْقَى نَجْمٌ إِلَّا وَقَعَ. {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}
[قُلِعَتْ] (4) عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَصَارَتْ هَبَاءً
[مَنْثُورًا] (5) . {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} وَهِيَ
النُّوقُ الْحَوَامِلُ الَّتِي أَتَى عَلَى حَمْلِهَا عَشَرَةُ
أَشْهُرٍ، وَاحِدَتُهَا عُشَرَاءُ، ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ
اسْمُهَا حَتَّى تَضَعَ لِتَمَامِ سَنَةٍ، وَهِيَ أَنْفَسُ
مَالٍ عِنْدَ الْعَرَبِ، "عُطِّلَتْ" تُرِكَتْ [مُهْمَلَةً]
(6) بِلَا رَاعٍ أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا، وَكَانُوا لَازِمِينَ
لِأَذْنَابِهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ أَعْجَبَ
إِلَيْهِمْ مِنْهَا، لِمَا جَاءَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. {وَإِذَا الْوُحُوشُ} يَعْنِي دَوَابَّ الْبَرِّ
{حُشِرَتْ} جُمِعَتْ بَعْدَ الْبَعْثِ لِيُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا
مِنْ بَعْضٍ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
حَشْرُهَا: مَوْتُهَا. وَقَالَ: حَشْرُ كُلِّ شَيْءٍ
الْمَوْتُ، غَيْرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَإِنَّهُمَا
يُوقَفَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ:
اخْتَلَطَتْ. {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قَرَأَ أَهْلُ
مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ بِالتَّخْفِيفِ، وقرأ الباقون بالشديد،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا تَضْطَرِمُ،
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي
بَعْضٍ، الْعَذْبُ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 426 لابن أبي الدنيا
في"الأهوال" وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة".
(3) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر: 6 /
297، والمصنف في شرح السنة:15 / 115-116.
(4) زيادة من "ب".
(5) في "ب" منبثا.
(6) في "ب" هملا.
(8/346)
وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ (7)
وَالْمِلْحُ، فَصَارَتِ الْبُحُورُ
كُلُّهَا بَحْرًا وَاحِدًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُلِئَتْ،
وَهَذَا أَيْضًا مَعْنَاهُ: "وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ"
(الطُّورِ-6) وَالْمَسْجُورُ: الْمَمْلُوءُ، وَقِيلَ: صَارَتْ
مِيَاهُهَا بَحْرًا وَاحِدًا مِنَ الْحَمِيمِ لِأَهْلِ
النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَبِسَتْ، وَهُوَ قَوْلُ
قَتَادَةَ، قَالَ: ذَهَبَ مَاؤُهَا فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا
قَطْرَةٌ.
وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ
سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: بَيْنَمَا النَّاسُ
فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، [فَبَيْنَمَا
هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ] (1) فَبَيْنَمَا
هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ، وَفَزِعَتِ الْجِنُّ
إِلَى الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ
الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ، وَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي
بَعْضٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}
[اخْتَلَطَتْ] (2) {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا
الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قَالَ: قَالَتِ الْجِنُّ لِلْإِنْسِ
نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ: فَانْطَلَقُوا إِلَى
الْبَحْرِ فَإِذَا هُوَ نَارٌ تَأَجَّجُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا
هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً
إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى [وَانْشَقَّتِ
السَّمَاءُ إِنْشِقَاقَةً وَاحِدَةً] (3) وَإِلَى السَّمَاءِ
السَّابِعَةِ الْعُلْيَا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ
جَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَمَاتَتْهُمْ (4) .
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) }
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: هِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ
خَصْلَةً، سِتَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَسِتَّةٌ فِي الْآخِرَةِ،
وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ؟
فَقَالَ: يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مَعَ الرَّجُلِ
الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، وَيُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ
السُّوءِ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ فِي النَّارِ (5) وَهَذَا
[مَعْنَى] (6) قَوْلِ عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ
بِشِيعَتِهِ، الْيَهُودِيُّ بِالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيُّ
بِالنَّصْرَانِيِّ.
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: يُحْشَرُ الرَّجُلُ مَعَ
صَاحِبِ عَمَلِهِ. وَقِيلَ: زُوِّجَتِ النُّفُوسُ
بِأَعْمَالِهَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ
الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ
الْكَافِرِينَ بِالشَّيَاطِينِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) أخرجه الطبري: 30 / 63-64 موقوفا على أُبَيٍّ. وعزاه
السيوطي في الدر المنثور: 8 / 427 لابن أبي الدنيا في
"الأهوال" وابن أبي حاتم.
(5) أخرجه الطبري: 30 / 69، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 8 /
429 لابن مردويه.
(6) ساقط من "ب".
(8/347)
وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ
(11)
وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَإِذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ رُدَّتِ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ
(1) .
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
(9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ
كُشِطَتْ (11) }
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} وَهِيَ الْجَارِيَةُ
الْمَدْفُونَةُ حَيَّةً، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَا يُطْرَحُ
عَلَيْهَا من التراب فيؤدها، أَيْ يُثْقِلُهَا حَتَّى تَمُوتَ،
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَدْفِنُ الْبَنَاتَ حَيَّةً مَخَافَةَ
الْعَارِ وَالْحَاجَةِ، يُقَالُ: [أَوَدُ هَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ البناء لأن الموؤدة مِنَ الْوَأْدِ لَا
مِنَ الْأَوْدِ يُقَالُ] (2) وَأَدَ يَئِدُ وَأْدًا، فَهُوَ
وائد، والمفعول مؤود.
رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَمَلَتْ وَكَانَ أَوَانُ
وِلَادَتِهَا حَفَرَتْ حُفْرَةً فَتَمَخَّضَتْ عَلَى رَأْسِ
الْحُفْرَةِ، فَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً رَمَتْ بِهَا فِي
الْحُفْرَةِ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا حَبَسَتْهُ (3) .
{بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} قَرَأَ الْعَامَّةُ عَلَى الْفِعْلِ
الْمَجْهُولِ فِيهِمَا، وَأَبُو جَعْفَرٍ يَقْرَأُ:
"قُتِّلَتْ" بِالتَّشْدِيدِ ومعناه تُسْأل المؤودة، فَيُقَالُ
لَهَا: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِّلَتْ؟ وَمَعْنَى سُؤَالِهَا
تَوْبِيخُ قَاتِلِهَا، لِأَنَّهَا تَقُولُ: قُتِلْتُ بِغَيْرِ
ذَنْبٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ كان يقرأ: "وإذ المؤودة
سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ" وَمِثْلُهُ قَرَأَ أَبُو
الضُّحَى. {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} قَرَأَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ: "نُشِرَتْ"
بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ،
كَقَوْلِهِ: "يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً" (الْمُدَّثِّرِ-52)
يَعْنِي صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ تُنْتَشَرُ لِلْحِسَابِ.
{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} قَالَ الْفَرَّاءُ: نُزِعَتْ
فَطُوِيَتْ (4) . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قُلِعَتْ كَمَا
يُقْلَعُ السَّقْفُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَكْشِفُ عَمَّنْ
فِيهَا. وَمَعْنَى "الْكَشْطِ" رَفْعُكَ شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ
قَدْ غَطَّاهُ، كَمَا يُكْشَطُ الْجِلْدُ عَنِ السَّنَامِ.
__________
(1) ساق ابن جرير 30 / 70-71 أقوالا في الآية ثم قال: "وأولى
التأولين في ذلك بالصحة الذي تأوله عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - للعلة التي اعتل بها، وذلك قول الله تعالى ذكره: (وكنتم
أزواجا ثلاثة) وقوله (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) وذلك لا شك
الأمثال والأشكال في الخير والشر، وكذلك قوله (وإذا النفوس
زوجت) بالقرناء والأمثال في الخير والشر".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) انظر: الدر المنثور: 8 / 428.
(4) معاني القرآن للفراء: 3 / 241.
(8/348)
وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ
نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ (19)
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا
أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِي
الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) }
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وَالشَّامِ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: "سُعِّرَتْ"
بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ:
أُوقِدَتْ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ. {وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ} قُرِّبَتْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ. {عَلِمَتْ}
عِنْدَ ذَلِكَ {نَفْسٌ} أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ {مَا أَحْضَرَتْ}
مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: "إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" وَمَا بَعْدَهَا. قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} "لَا" زَائِدَةٌ،
مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}
قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ تَبْدُو بِاللَّيْلِ
وَتَخْنَسُ بِالنَّهَارِ، فَتُخْفَى فَلَا تُرَى.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: أَنَّهَا الْكَوَاكِبُ تَخْنَسُ
بِالنَّهَارِ فَلَا تُرَى، وَتَكْنَسُ تَأْوِي إِلَى
مَجَارِيهَا.
وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ: زُحَلُ،
وَالْمُشْتَرَي، وَالْمِرِّيخُ، وَالزُّهَرَةُ، وَعُطَارِدُ،
تَخْنَسُ فِي مَجْرَاهَا، أَيْ: تَرْجِعُ وَرَاءَهَا
وَتَكْنَسُ: تَسْتَتِرُ وَقْتَ اخْتِفَائِهَا وَغُرُوبِهَا،
كَمَا تَكْنَسُ الظِّبَاءُ فِي مُغَارِهَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى "الْخُنَّسِ" أَنَّهَا تَخْنَسُ
أَيْ: تَتَأَخَّرُ عَنْ مَطَالِعِهَا فِي كُلِّ عَامٍ
تَأَخُّرًا تَتَأَخَّرُهُ عَنْ تَعْجِيلِ ذَلِكَ الطُّلُوعِ،
تَخْنَسُ عَنْهُ. و"الكُنَّس" 186/أأَيْ تَكْنَسُ بِالنَّهَارِ
فَلَا تُرَى. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا هِيَ الْوَحْشُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الظِّبَاءُ. وَهِيَ
رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَأَصْلُ الْخُنُوسِ: الرُّجُوعُ إِلَى وَرَاءُ، وَالْكُنُوسُ:
أَنْ تَأْوِيَ إِلَى مَكَانِسِهَا، وَهِيَ الْمَوَاضِعُ
الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا الْوُحُوشُ. {وَاللَّيْلِ إِذَا
عَسْعَسَ} قَالَ الْحَسَنُ: أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ. وَقَالَ
الْآخَرُونَ: أَدْبَرَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ
وَسَعْسَعَ: إِذَا أَدْبَرَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا
الْيَسِيرُ. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أَقْبَلَ وَبَدَا
أَوَّلُهُ، وَقِيلَ: امْتَدَّ ضَوْءُهُ وَارْتَفَعَ. {إِنَّهُ}
يَعْنِي الْقُرْآنَ {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي
جِبْرِيلَ أَيْ: نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
(8/349)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا
صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ
الْمُبِينِ (23)
{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ
(20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
}
{ذِي قُوَّةٍ} وَكَانَ مِنْ قُوَّتِهِ أَنَّهُ اقْتَلَعَ
قَرْيَاتِ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الْمَاءِ الْأَسْوَدِ وَحَمَلَهَا
عَلَى جَنَاحِهِ فَرَفَعَهَا إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ
قَلَبَهَا، وَأَنَّهُ أَبْصَرَ إِبْلِيسَ يُكَلِّمُ عِيسَى
عَلَى بَعْضِ عُقَابِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَنَفَخَهُ
بِجَنَاحِهِ نَفْخَةً أَلْقَاهُ إِلَى [أَقْصَى] (1) جَبَلٍ
بِالْهِنْدِ، وَأَنَّهُ صَاحَ صَيْحَةً بِثَمُودَ فَأَصْبَحُوا
جَاثِمِينَ، وَأَنَّهُ يَهْبِطُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الْأَرْضِ وَيَصْعَدُ فِي أَسْرَعَ مِنَ [الطَّيْرِ] (2)
{عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} فِي الْمَنْزِلَةِ. {مُطَاعٍ
ثَمَّ} أَيْ فِي [السَّمَاوَاتِ] (3) تُطِيعُهُ
الْمَلَائِكَةُ، وَمِنْ طَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ
أَنَّهُمْ فَتَحُوا أَبْوَابَ السَّمَاوَاتِ لَيْلَةَ
الْمِعْرَاجِ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَتَحَ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ
أَبْوَابَهَا بِقَوْلِهِ، {أَمِينٍ} عَلَى وَحْيِ اللَّهِ
وَرِسَالَتِهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ. {وَمَا صَاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ} يَقُولُ لِأَهْلِ مَكَّةَ: وَمَا صَاحِبُكُمْ
يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَجْنُونٍ. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ،
أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ،
وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ مَكَّةَ،
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَمَا يَقُولُ
يَقُولُهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. {وَلَقَدْ رَآهُ} يَعْنِي
رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}
وَهُوَ الْأُفُقُ الْأَعْلَى مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ،
قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ
عُلَيْوَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ [وَمُقَاتِلٍ] (4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِجِبْرِيلَ: "إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَرَاكَ فِي صُورَتِكَ
الَّتِي تَكُونُ فِيهَا فِي السَّمَاءِ" قَالَ لَنْ تَقْوَى
عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَأَيْنَ تَشَاءُ أَنْ
أَتَخَيَّلَ لَكَ؟ قَالَ: بِالْأَبْطَحِ، قَالَ: لَا
يَسَعُنِي، قَالَ فَهَاهُنَا، قَالَ: لَا يَسَعُنِي، قَالَ:
فَبِعَرَفَاتٍ، قَالَ: ذَلِكَ بِالْحَرَى أَنْ يَسَعَنِي
فَوَاعَدَهُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْوَقْتِ فَإِذَا هُوَ بِجِبْرِيلَ قَدْ
أَقْبَلَ مِنْ جِبَالِ عَرَفَاتٍ بِخَشْخَشَةٍ وَكَلْكَلَةٍ،
قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَرَأْسُهُ
فِي السَّمَاءِ وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا رَآهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ وَخَرَّ
مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. قَالَ: فَتَحَوَّلَ جِبْرِيلُ فِي
صُورَتِهِ فَضَمَّهُ إِلَى
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) في "ب" من الطرف.
(3) في "ب" السماء.
(4) ساقط من "ب".
(8/350)
وَمَا هُوَ عَلَى
الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ
رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
صَدْرِهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَا
تَخَفْ فَكَيْفَ لَكَ لَوْ رَأَيْتَ إِسْرَافِيلَ وَرَأْسُهُ
مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ وَرِجْلَاهُ فِي تُخُومِ الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ، وَإِنَّ الْعَرْشَ لَعَلَى كَاهِلِهِ، وَإِنَّهُ
لَيَتَضَاءَلُ أَحْيَانًا مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ [الصَّعْوِ] (1) يَعْنِي
الْعُصْفُورَ، حَتَّى مَا يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ إِلَّا
عَظَمَتُهُ (2) .
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ
بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ
مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) }
{وَمَا هُوَ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ {عَلَى الْغَيْبِ} أَيِ الْوَحْيِ، وَخَبَرِ
السَّمَاءِ وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ غَائِبًا
عَنْهُ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ، {بِضَنِينٍ} قَرَأَ
أَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ بِالظَّاءِ أَيْ
بِمُتَّهَمٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَظِنُّ بِمَالٍ وَيَزِنُّ أَيْ
يُتَّهَمُ بِهِ: وَالظِّنَّةُ: التُّهْمَةُ، وَقَرَأَ
الْآخَرُونَ بِالضَّادِ أَيْ يَبْخَلُ، يَقُولُ إِنَّهُ
يَأْتِيهِ عِلْمُ الْغَيْبِ فَلَا يَبْخَلُ بِهِ عَلَيْكُمْ
بَلْ يُعَلِّمُكُمْ وَيُخْبِرُكُمْ بِهِ، وَلَا يَكْتُمُهُ
كَمَا يَكْتُمُ الْكَاهِنُ مَا عِنْدَهُ حَتَّى يَأْخُذَ
عَلَيْهِ حُلْوَانًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَنِنْتُ بِالشَّيْءِ
بِكَسْرِ النُّونِ أَضِنُّ بِهِ ضَنًّا وَضِنَانَةً فَأَنَا
بِهِ ضَنِينٌ أَيْ بَخِيلٌ. {وَمَا هُوَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ
{بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ
إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ كَمَا
قَالَتْ قُرَيْشٌ. {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أَيْ أَيْنَ
تَعْدِلُونَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَفِيهِ الشِّفَاءُ
وَالْبَيَانُ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيُّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ
أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ
لَكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: {إِنْ هُوَ} أَيْ مَا
الْقُرْآنُ {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} مَوْعِظَةٌ
لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَسْتَقِيمَ} أَيْ يَتْبَعَ الْحَقَّ وَيُقِيمَ عَلَيْهِ.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ} أَيْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي
التَّوْفِيقِ إِلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى
ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَفِيهِ إِعْلَامٌ أَنَّ
أَحَدًا لَا يَعْمَلُ خَيْرًا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ
وَلَا شَرًّا إِلَّا بِخِذْلَانِهِ.
__________
(1) في "ب" الوضغ ولعله وقع تصحيف في النسختين للا سم الصحيح
للعصفور الصغير (الوصع) بمهملتين كما في المصباح.
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد: عن ابن شهاب أن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل جبريل.. وهذا منقطع.
وذكره السيوطي في "الحبائك في أخبار الملائك" صفحة (22) . وفيه
إسماعيل بن عيسى ضعيف، وكذلك إسحاق بن بشر. قال فيه ابن حبان:
لا يحل حديثه إلا على جهة التعجب، وقال الدارقطني: متروك، وقال
الذهبي: يروي العظائم عن ابن إسحاق وابن جريج انظر: الضعفاء
لابن حبان: 1 / 37، الميزان 1 / 184.
(8/351)
إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا
الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
سُورَةُ الِانْفِطَارِ مَكِّيَّةٌ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ
انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا
الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) }
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} انْشَقَّتْ. {وَإِذَا
الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} تَسَاقَطَتْ. {وَإِذَا الْبِحَارُ
فُجِّرَتْ} فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَاخْتَلَطَ
الْعَذْبُ بِالْمِلْحُ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا وَقَالَ
الرَّبِيعُ: "فُجِّرَتْ" فَاضَتْ. {وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ} بُحِثَتْ وَقُلِبَ تُرَابُهَا وَبُعِثَ مَا فِيهَا
مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً يُقَالُ: بَعْثَرْتُ الْحَوْضَ
وَبَحْثَرْتُهُ إِذَا قَلَبْتُهُ فَجَعَلْتُ أَسْفَلَهُ
أَعْلَاهُ. {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}
قِيلَ: "مَا قَدَّمَتْ" مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ
وَ"أَخَّرَتْ" مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ. وَقِيلَ:
"مَا قَدَّمَتْ" مِنَ الصَّدَقَاتِ وَ"أَخَّرَتْ" مِنَ
التَّرِكَاتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ: "يُنَبَّأُ
الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ"
(الْقِيَامَةِ-13) . {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} مَا خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ الْبَاطِلَ
حَتَّى أَضَعْتَ مَا وَجَبَ عَلَيْكَ. وَالْمَعْنَى: مَاذَا
أَمَّنَكَ مِنْ [عَذَابِهِ] (2) قَالَ عَطَاءٌ: نَزَلَتْ فِي
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وبن مردويه والبيهقي عن ابن عباس
قال: نزلت: (إذا السماء انفطرت) بمكة. انظر: الدر المنثور: 4 /
437.
(2) في "ب" عقابه.
(8/352)
الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ
رَكَّبَكَ (8)
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ:
نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ شُرَيْقٍ ضَرَبَ النَّبِيَّ
فَلَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ الْآيَةَ (1) يَقُولُ: مَا الَّذِي غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ الْمُتَجَاوِزِ عَنْكَ إِذْ لَمْ يُعَاقِبْكَ
عَاجِلًا بِكُفْرِكَ؟ قَالَ قَتَادَةُ: غَرَّهُ عَدُوُّهُ
الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَعْنِي الشَّيْطَانَ قَالَ مُقَاتِلٌ:
غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ حِينَ لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي أَوَّلِ
[مَرَّةٍ] (2) . وَقَالَ السُّدِّيُّ: غَرَّهُ رِفْقُ اللَّهِ
بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا منكم من 186/ب أَحَدٍ إِلَّا
سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَقُولُ: يَا
ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ
فِيمَا [عَلِمْتَ] (3) ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ
الْمُرْسَلِينَ؟.
وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: لَوْ أَقَامَكَ اللَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ؟ مَاذَا كُنْتَ تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ غَرَّنِي
سُتُورُكَ الْمُرَخَّاةُ (4) .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَوْ أَقَامَنِي بَيْنَ
يَدَيْهِ فَقَالَ مَا غَرَّكَ بِي؟ [فَأَقُولُ] (5) غَرَّنِي
بِكَ بِرُّكَ بِي سَالِفًا وَآنِفًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لَوْ قَالَ لِي: مَا
غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟ لَقُلْتُ: غَرَّنِي كَرَمُ
الْكَرِيمِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ: إِنَّمَا قَالَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَأَنَّهُ
لَقَّنَهُ الْإِجَابَةَ حَتَّى يَقُولَ: غَرَّنِي كَرَمُ
الْكَرِيمِ.
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ
صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) }
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} قَرَأَ أَهْلُ
الْكُوفَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ "فَعَدَلَكَ" بِالتَّخْفِيفِ أَيْ
صَرَفَكَ وَأَمَالَكَ إِلَى أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ حَسَنًا
وَقَبِيحًا وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَوَّمَكَ وَجَعَلَكَ مُعْتَدِلَ
الْخَلْقِ وَالْأَعْضَاءِ. {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ
رَكَّبَكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: فِي
أَيِّ شَبَهٍ مِنْ أَبٍ أَوْ أَمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ
فِي الرَّحِمِ أُحْضِرَ كُلُّ عِرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ
ثُمَّ قَرَأَ "فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ" (6) .
__________
(1) عزاه ابن كثير في تفسيره: 4 / 482 للبغوي.
(2) في "ب" أمره.
(3) في "أ" عملت.
(4) انظر: ابن كثير (4 / 484) .
(5) في "ب" قلت.
(6) أخرجه الطبري: 30 / 87.
(8/356)
كَلَّا بَلْ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
(10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
(12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ
(15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ
مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ قَوْلًا آخَرَ: "فِي
أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ" إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ
إِنْسَانٍ وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ
آخَرَ.
{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا
تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ
الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا
يَوْمُ الدِّينِ (18) }
{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالْيَاءِ
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ: "وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ" {بِالدِّينِ} بِالْجَزَاءِ
وَالْحِسَابِ. {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} رُقَبَاءَ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَ عَلَيْكُمْ أَعْمَالَكُمْ.
{كِرَامًا} عَلَى اللَّهِ {كَاتِبِينَ} يَكْتُبُونَ
أَقْوَالَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ. {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}
مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ
الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} الْأَبْرَارُ الَّذِينَ بَرُّوا
وَصَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِأَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. {وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ} رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ قَالَ لِأَبِي حَازِمٍ الْمَدَنِيِّ: لَيْتَ شِعْرِي
مَا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: اعْرِضْ عَمَلَكَ عَلَى
كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لَكَ عِنْدَ اللَّهِ.
قَالَ: فَأَيْنَ أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ عِنْدَ
قَوْلِهِ: "إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ" قَالَ سُلَيْمَانُ: فَأَيْنَ
رَحْمَةُ اللَّهِ؟ قَالَ: "قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"
(الْأَعْرَافِ-56) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَصْلَوْنَهَا
يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}
يَدْخُلُونَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ عَظَّمَ ذَلِكَ
الْيَوْمَ فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}
ثُمَّ كَرَّرَ تَعَجُّبًا لِشَأْنِهِ فَقَالَ {ثُمَّ مَا
أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}
{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) }
{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ
وَالْبَصْرَةِ: "يَوْمُ"
(8/357)
وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
بِرَفْعِ الْمِيمِ رَدًّا عَلَى الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهَا أَيْ: فِي يَوْمٍ
يَعْنِي: هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي يَوْمٍ لَا تَمْلِكُ {نَفْسٌ
لِنَفْسٍ شَيْئًا} قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي لِنَفْسٍ
كَافِرَةٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ} أَيْ لَمْ يُمَلِّكِ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
أَحَدًا شَيْئًا كَمَا مَلَّكَهُمْ فِي الدُّنْيَا. سُورَةُ
الْمُطَفِّفِينَ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) }
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} يَعْنِي الَّذِينَ يَنْقُصُونَ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَيَبْخَسُونَ حُقُوقَ النَّاسِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي يَنْقُصُ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ: مُطَفِّفٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ
يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ
الْيَسِيرَ الطَّفِيفَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَلِيِّ الصَّيْرَفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو
حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي
يَزِيدُ النَّحْوِيُّ أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ
النَّاسِ كَيْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ" فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ (2) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
أَبُو جُهَيْنَةَ وَمَعَهُ صَاعَانِ يَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا
وَيَكْتَالُ بِالْآخَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
(3) .
__________
(1) أخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة
المطففين بمكة وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن
الضريس عن ابن عباس قال: آخر ما أنزل بمكة سورة المطففين.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: أول
ما نزل بالمدينة: "ويل للمطففين". انظر: الدر المنثور: 8 /
441.
(2) أخرجه النسائي في التفسير: 2 / 502، وابن ماجه في
التجارات، باب التوقي في الكيل والوزن برقم: (2223) : 2 / 748،
والطبري: 30 / 91، والواحدي في أسباب النزول صفحة: (520) وصححه
الحاكم في المستدرك: 2 / 33 ووافقه الذهبي، وابن حبان في موارد
الظمآن برقم: (1770) صفحة (438) . وانظر: الدر المنثور: 8 /
441، وقد زاد عزوه للطبراني وابن مردويه والبيهقي في "الشعب".
وانظر: الكافي الشاف صفحة: (182) الصحيح المسند من أسباب
النزول صفحة (170) .
(3) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (521) مجمع الزوائد: 7 /
135.
(8/358)
الَّذِينَ إِذَا
اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا
كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ
أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَيْلَ
لِلْمُطَفِّفِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مَنْ
هُمْ فَقَالَ:
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا
يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ
عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(6) }
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}
وَأَرَادَ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ أَيْ أَخَذُوا
مِنْهُمُ وَ"مِنْ" وَ"عَلَى" مُتَعَاقِبَانِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ
اسْتَوْفَوْا عَلَيْهِمُ الْكَيْلَ [الْوَزْنَ] (1)
[وَأَرَادَ: الَّذِينَ إِذَا اشْتَرَوْا لِأَنْفُسِهِمُ
اسْتَوْفَوْا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ] (2) .
{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أَيْ
كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ أَيْ لِلنَّاسُ يُقَالُ:
وَزَنْتُكَ حَقَّكَ وَكِلْتُكَ طَعَامَكَ أَيْ وَزَنْتُ لَكَ
وَكِلْتُ لَكَ كَمَا يُقَالُ: نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ
وَكَسَبْتُكَ وَكَسَبْتُ لَكَ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَكَانَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ
يَجْعَلُهُمَا حَرْفَيْنِ يَقِفُ عَلَى "كَالُوا وَوَزَنُوا"
وَيَبْتَدِئُ "هُمْ يُخْسِرُونَ" وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
وَالِاخْتِيَارُ الْأَوَّلُ (3) يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ
وَاحِدَةٍ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بِغَيْرِ
أَلِفٍ وَلَوْ كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ لَكَانَتْ: "كَالُوا
[وَ] (4) وَزَنُوا" بِالْأَلِفِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ مِثْلُ
جَاءُوا وَقَالُوا: وَاتَّفَقَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى إِسْقَاطِ
الْأَلِفِ وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: كِلْتُكَ
وَوَزَنْتُكَ كَمَا يُقَالُ: كِلْتُ لَكَ وَوَزَنْتُ لَكَ.
"يُخْسِرُونَ" أَيْ يُنْقِصُونُ قَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ
عُمَرَ يَمُرُّ بِالْبَائِعِ فَيَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ
وَأَوْفِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فَإِنَّ الْمُطَفِّفِينَ
يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ
لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ.
{أَلَا يَظُنُّ} يَسْتَيْقِنُ {أُولَئِكَ} الَّذِينَ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}
يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [مِنْ قُبُورِهِمْ] (5) {لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} أَيْ لِأَمْرِهِ وَلِجَزَائِهِ وَلِحِسَابِهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ
أَخْبَرَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى
أَنْصَافِ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) في "أ" الأولى.
(4) في "ب" أو.
(5) ساقط من "ب".
(8/362)
أُذُنَيْهِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي تَوْبَةَ الْكُشْمِيهَنِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَحْمُودٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَلَّالُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ:
[حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ] (2) حَدَّثَنِي
الْمِقْدَادُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تكون [قدر] (3)
187/أمِيلٍ أَوِ اثْنَيْنِ" -قَالَ سُلَيْمٌ: لَا أَدْرِي
أَيُّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي مَسَافَةَ الْأَرْضِ أَوِ الْمِيلَ
الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ؟ -قَالَ: "فَتَصْهَرُهُمُ
الشَّمْسُ فَيَكُونُ فِي الْعَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ
إِلَى حِقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا"
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَُ وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ يَقُولُ:
"أَلْجَمَهُ إِلْجَامًا" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة المطففين- 8 / 696،
ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب صفة يوم القيامة
أعاذنا الله من أهوالها برقم: (2862) : 4 / 2195.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة المطففين - 8 /
696، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب صفة يوم القيامة
أعاذنا الله من أهوالها برقم (2862) 4 / 2195.
(3) في "ب" قيد.
(4) أخرجه مسلم في الجنة، باب صفة يوم القيامة برقم: (2864) 4
/ 2194، والمصنف في شرح السنة: 15 / 128-129.
(8/363)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي
سِجِّينٍ (7) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا} رَدْعٌ، أَيْ لَيْسَ
الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَلْيَرْتَدِعُوا،
وَتَمَامُ الْكَلَامِ هَاهُنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: "كَلَّا"
ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى حَقًّا
{إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} الَّذِي كُتِبَتْ فِيهِ
أَعْمَالُهُمْ {لَفِي سِجِّينٍ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: {سِجِّينٌ}
هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى فِيهَا أَرْوَاحُ
الْكُفَّارِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا الْمُسَيِّبُ،
حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ زَاذَانَ،
عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَجِّينٌ" أَسْفَلَ سَبْعِ أَرْضِينَ،
وَ"عِلِّيُّونَ" فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ
(1) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد مطولا: 4 / 287-288، وفيه ".. فيقول
الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى.."
والطيالسي في مسنده ص102. وأخرجه مختصرا: أبو داود في الجنائز،
باب الجلوس عند القبر: 4 / 337، والنسائي في الجنائز، باب
الوقوف للجنائز: 4 / 78، وصححه الحاكم مطولا في المستدرك: 1 /
37-38 وساق له شواهد. وقال ابن القيم في "تهذيب السنن" (4 /
337) وقد أعله أبو حاتم بن حبان بأن قال: زاذان لم يسمعه من
البراء. وهذه العلة فاسدة، فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب
يقول - فذكره - ذكره أبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه" وأعله
ابن حزم بضعف المنهال بن عمرو. وهذه علة فاسدة، فإن المنهال
ثقة صدوق. وقد صححه أبو نعيم وغيره".
(8/363)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَقَالَ شَمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ: جَاءَ
ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَقَالَ:
أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّ
كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ" قَالَ: إِنْ رُوحَ
الْفَاجِرِ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَتَأْبَى
السَّمَاءُ أَنْ تَقْبَلَهَا ثُمَّ يُهْبَطُ بِهَا إِلَى
الْأَرْضِ، فَتَأْبَى الأرض أن تقبل فَتَدْخُلُ تَحْتَ سَبْعِ
أَرْضِينَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى سِجِّينٍ، وَهُوَ
مَوْضِعُ جُنْدِ إِبْلِيسَ، فَيَخْرُجُ لَهَا مِنْ سِجِّينٍ
رَقٌّ، فَيُرْقَمُ وَيُخْتَمُ، وَيُوضَعُ تَحْتَ جُنْدِ
إِبْلِيسَ، لِمَعْرِفَتِهَا الْهَلَاكَ بِحِسَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ (1) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
قَالَ: سَجِينٌ تَحْتَ جُنْدِ إِبْلِيسَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هِيَ الْأَرْضُ السُّفْلَى،
وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ السُّفْلَى خَضْرَاءُ، خُضْرَةُ السَّمَاوَاتِ
مِنْهَا يُجْعَلُ كِتَابُ الْفُجَّارِ فِيهَا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا قَالَ:
"سَجِينٌ" صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ السُّفْلَى، تُقْلَبُ،
فَيُجْعَلُ كِتَابُ الْفُجَّارِ فِيهَا. وَقَالَ وَهْبٌ: هِيَ
آخِرُ سُلْطَانِ إِبْلِيسَ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "الْفَلَقُ جُبٌّ، فِي جَهَنَّمَ
مغطى، وسجين حب فِي جَهَنَّمَ مَفْتُوحٌ" (2) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "لَفِي سِجِّينٍ" أَيْ: لَفِي خَسَارٍ
وَضَلَالٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ فِعِّيلٌ مِنَ
السِّجْنِ، كَمَا يُقَالُ: فِسِّيقٌ وَشِرِّيبٌ، مَعْنَاهُ:
لَفِي حَبْسٍ وَضِيقٍ شَدِيدٍ.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) }
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [قَالَ الزَّجَّاجُ] (3) أَيْ
لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا
قَوْمُكَ.
{كِتَابٌ مَرْقُومٌ} لَيْسَ هَذَا تَفْسِيرُ السَّجِينِ، بَلْ
هُوَ بَيَانُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ
كِتَابَ الْفُجَّارِ" أَيْ هُوَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، أَيْ
مَكْتُوبٌ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ مُثْبَتَةٌ عَلَيْهِمْ
كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ، لَا يُنْسَى وَلَا يُمْحَى حَتَّى
يُجَازَوْا بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: رُقِمَ
عَلَيْهِ بِشُرَكَائِهِ كَأَنَّهُ أُعْلِمَ بِعَلَامَةٍ
يُعْرَفَ بِهَا أَنَّهُ
__________
(1) أخرجه الطبري: 30 / 95 وشيخ الطبري فيه ضعف وعزاه السيوطي
في الدر المنثور 8 / 443 لابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد،
وابن المنذر.
(2) أخرجه الطبري: 30 / 96. قال الحافظ ابن كثير: 4 / 486:
"حديث غريب منكر لا يصح.. والصحيح أن سجينا مأخوذ من السجن وهو
الضيق فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها
اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي
دونه وكذلك الأرضون، كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي
السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة
ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين كما قال
تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات) وقال هاهنا: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك
ما سجين) وهو يجمع بين الضيق والسفول".
(3) ساقط من "أ".
(8/364)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ
الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ
أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
كَافِرٌ. وَقِيلَ: مَخْتُومٌ، بِلُغَةِ
حِمْيَرَ.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ
إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ
رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا
إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) }
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ
أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ كَلَّا} قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ،
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ}
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ
التُّرَابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حِزْيَمٍ الشَّاشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ (1) بْنُ حُمَيْدٍ الكَشِّيُّ، حَدَّثَنَا
صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنِ
الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ
كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ
وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا، وَإِنْ زَادَ
زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ" فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي
ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (2) .
وَأَصْلُ "الرَّيْنِ" الْغَلَبَةُ، يُقَالُ: رَانَتِ
الْخَمْرُ، عَلَى عَقْلِهِ تَرِينُ، رَيْنًا وَرُيُونًا إِذَا
غَلَبَتْ عَلَيْهِ فَسَكِرَ. وَمَعْنَى الْآيَةِ، غَلَبَتْ
عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَعَاصِي وَأَحَاطَتْ بِهَا. قَالَ
الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَمُوتَ
الْقَلْبُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ"
طَبَعَ عَلَيْهَا.
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} يَوْمَ
الْقِيَامَةِ {لَمَحْجُوبُونَ} [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كلَّا"
يُرِيدُ: لَا يُصَدِّقُونَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ:
"إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"] (3)
قَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ كَرَامَتِهِ وَرَحْمَتِهِ
[مَمْنُوعُونَ] (4) وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَلَّا يَنْظُرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيَهُمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: عَنْ رُؤْيَتِهِ
__________
(1) في الأصل: عبد الله.
(2) أخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة المطففين: 9 /
253-254 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي في التفسير: 2 /
505 وفي عمل اليوم الليلة صفحة (317) برقم (418) وابن ماجه في
الزهد، باب ذكر الذنوب برقم (4244) 2 / 1418، والإمام أحمد: 2
/ 297، والطبري: 30 / 98، وصححه الحاكم: 2 / 517 ووافقه
الذهبي، وابن حبان برقم (1771) صفحة (439) والمصنف في شرح
السنة: 5 / 89.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) في "ب" ممنوعون.
(8/365)
ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
قَالَ الْحَسَنُ: لَوْ عَلِمَ
الزَّاهِدُونَ الْعَابِدُونَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ
فِي الْمَعَادِ لَزَهَقَتْ أَنْفُسُهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: كَمَا حَجَبَهُمْ فِي
الدُّنْيَا عَنْ تَوْحِيدِهِ حَجَبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَنْ
رُؤْيَتِهِ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: لَمَّا حَجَبَ
[اللَّهُ] (1) أَعْدَاءَهُ فَلَمْ يَرَوْهُ تَجَلَّى
لِأَوْلِيَائِهِ حَتَّى رَأَوْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي قَوْلِهِ:
"كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ"
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَرَوْنَ اللَّهَ
(2) .
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ
هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ
كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) }
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ كَوْنِهِمْ
مَحْجُوبِينَ عَنِ اللَّهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَقَالَ:
{ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} لَدَاخِلُو النَّارِ.
{ثُمَّ يُقَالُ} أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ {هَذَا} أَيْ
هَذَا الْعَذَابُ {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}
{كَلَّا} قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُؤْمِنُ بِالْعَذَابِ الَّذِي
يَصْلَاهُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَحَلَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ
فَقَالَ: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}
رُوِّينَا عَنِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا: "إِنَّ عِلِّيِّينَ فِي
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ" (3) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ لَوْحٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ
خَضْرَاءَ مُعَلَّقٌ تَحْتَ الْعَرْشِ أَعْمَالُهُمْ
مَكْتُوبَةٌ فِيهِ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ قَائِمَةُ الْعَرْشِ
الْيُمْنَى.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْجَنَّةُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: عُلُوٌّ بَعْدَ عُلُوٍّ
وَشَرَفٌ بَعْدَ شَرَفٍ، وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ بِالْيَاءِ
وَالنُّونِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى صِيغَةِ
الْجَمْعِ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، مِثْلُ عِشْرِينَ
وَثَلَاثِينَ (4) .
__________
(1) لفظ الجلالة ساقط من "ب".
(2) قال الحافظ ابن كثير: 4 / 487: "وهذا الذي قاله الإمام
الشافعي - رحمه الله - في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم هذه
الآية. كما دل عليه منطوق قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى
ربها ناظرة) وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في
رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في
عرصات القيامة وفي روضات الجنان الفاخرة".
(3) انظر فيما سبق تخريج حديث البراء عند الآية السابعة من
السورة ص 363.
(4) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 247.
(8/366)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ
نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ
(25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ (26)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ
الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ
يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ (26) }
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} لَيْسَ
بِتَفْسِيرِ عِلِّيِّينَ، أَيْ مَكْتُوبٌ أَعْمَالُهُمْ، كَمَا
ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْفُجَّارِ. وَقِيلَ: كَتَبَ هُنَاكَ
مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِ مُقَاتِلٍ: وَقَوْلُهُمْ: رَقْمٌ لَهُمْ يُخْبِرُ.
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ [عَلَى] (1) التَّقْدِيمِ
وَالتَّأْخِيرِ، مَجَازُهَا: إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ
[كِتَابٌ] (2) مَرْقُومٌ فِي عِلِّيِّينَ، وَهُوَ مَحَلُّ
الْمَلَائِكَةِ، وَمِثْلُهُ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ كِتَابٌ
مَرْقُومٌ فِي سِجِّينٍ، وَهُوَ مَحَلُّ إِبْلِيسَ وَجُنْدِهِ.
{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ
الَّذِينَ هُمْ فِي عِلِّيِّينَ، يَشْهَدُونَ وَيَحْضُرُونَ
ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ أَوْ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِذَا صُعِدَ بِهِ
إِلَى عِلِّيِّينَ. {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى
الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} إِلَى ما أعطاهم 187/ب اللَّهُ مِنَ
الْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ
إِلَى عَدُوِّهِمْ كَيْفَ يُعَذَّبُونَ.
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} إِذَا
رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ
مِمَّا تَرَى فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْحُسْنِ
وَالْبَيَاضِ، قَالَ الْحَسَنُ: النَّضْرَةُ فِي الْوَجْهِ
وَالسُّرُورُ فِي الْقَلْبِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ
وَيَعْقُوبُ: "تُعْرَفُ" بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ
عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ "نَضْرَةُ" رَفْعٌ،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ
"نَضْرَةَ" نَصْبٌ.
{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} خَمْرٍ صَافِيَةٍ طَيِّبَةٍ. قَالَ
مُقَاتِلٌ: الْخَمْرُ الْبَيْضَاءُ. {مَخْتُومٌ} خُتِمَ
وَمُنِعَ مِنْ أَنْ تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يَفُكَّ
خَتْمَهُ الْأَبْرَارُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "مَخْتُومٌ" أَيْ
مُطَيَّنٌ.
{خِتَامُهُ} أَيْ طِينُهُ {مِسْكٌ} كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى
هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خِتَامُهُ عِنْدَ
اللَّهِ مِسْكٌ، وَخِتَامُ [خَمْرِ] (3) الدُّنْيَا طِينٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مَخْتُومٌ" أَيْ مَمْزُوجٌ
خِتَامُهُ أَيْ: آخِرُ طَعْمِهِ
__________
(1) ليست في النسختين، والسياق يقتضيها.
(2) زيادة من "ب".
(3) ساقط من "أ".
(8/367)
وَمِزَاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
يَضْحَكُونَ (29)
وَعَاقِبَتُهُ مِسْكٌ، فَالْمَخْتُومُ
الَّذِي لَهُ خِتَامٌ، أَيْ آخِرٌ، وَخَتْمُ كُلِّ شَيْءٍ
الْفَرَاغُ مِنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُمْزَجُ لَهُمْ
بِالْكَافُورِ وَيُخْتَمُ بِالْمِسْكِ.
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "خِتَامُهُ مِسْكٌ" بِتَقْدِيمِ
التَّاءِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ "خَاتَمُهُ" وَهِيَ
قِرَاءَةُ عَلِيٍّ وَعَلْقَمَةَ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ،
كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ كَرِيمُ [الطَّابَعِ وَالطِّبَاعِ] (1)
وَالْخِتَامُ وَالْخَاتَمُ، آخِرُ كُلِّ شَيْءٍ.
{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}
فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَلْيَعْمَلِ
الْعَامِلُونَ، [نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "لِمِثْلِ هَذَا
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ" (الصَّافَّاتِ-61) ] (2) وَقَالَ
مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: فَلْيَتَنَازَعِ
الْمُتَنَازِعُونَ وَقَالَ عَطَاءٌ: فَلْيَسْتَبْقِ
الْمُسْتَبِقُونَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ
الَّذِي تَحْرِصُ عَلَيْهِ نُفُوسُ النَّاسِ، وَيُرِيدُهُ
كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ وَيُنْفَسُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، أَيْ
يُضَنُّ.
{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا
الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) }
{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} شُرْبٌ يَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ
مِنْ عُلْوٍ فِي غُرَفِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَقِيلَ: يَجْرِي
[فِي الْهَوَاءِ مُتَسَنَّمًا فَيَنْصَبُّ] (3) فِي أَوَانِي
أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى قَدْرِ مِلْئِهَا، فَإِذَا
امْتَلَأَتْ أَمْسَكَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قتادة.
وأصل كلمة مِنَ الْعُلُوِّ، يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ:
سَنَامٌ، وَمِنْهُ: سَنَامُ الْبَعِيرِ. قَالَ الضحاك: هو شرار
اسْمُهُ تَسْنِيمٌ، وَهُوَ أَشْرَفُ الشَّرَابِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَالِصٌ
[لِلْمُؤْمِنِينَ] (4) الْمُقَرَّبِينَ يَشْرَبُونَهَا صِرْفًا
وَيُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَهُوَ قَوْلُهُ:
"وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا
الْمُقَرَّبُونَ".
وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: "مِنْ
تَسْنِيمٍ"؟ قَالَ: هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ
أَعْيُنٍ" (5) (السَّجْدَةِ-17) .
{عَيْنًا} نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ {يَشْرَبُ بِهَا} أَيْ
مِنْهَا وَقِيلَ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}
أَشْرَكُوا، يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ: أَبَا جَهْلٍ،
وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ،
وَأَصْحَابَهُمْ مِنْ مُتْرَفِي مَكَّةَ {كَانُوا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا} عَمَّارٍ، وَخِبَابٍ،
__________
(1) في "أ" الطبع والطابع والصواب ما أثبتناه من "ب" وهوعند
الفراء كذلك: 3 / 248.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) ساقط من "ب".
(5) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 452 لعبد بن حميد وابن
المنذر.
(8/368)
وَإِذَا مَرُّوا
بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى
أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ
قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا
عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَأَصْحَابِهِمْ
مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ. {يَضْحَكُونَ} وبهم يستهزؤن.
{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) }
(8/369)
عَلَى الْأَرَائِكِ
يَنْظُرُونَ (35)
{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) }
{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ} يَعْنِي مِنْ فُقَرَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ بِالْكُفَّارِ {يَتَغَامَزُونَ} وَالْغَمْزُ
الْإِشَارَةُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ، أَيْ يُشِيرُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْأَعْيُنِ اسْتِهْزَاءً.
{وَإِذَا انْقَلَبُوا} يَعْنِي الْكُفَّارَ {إِلَى أَهْلِهِمُ
انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ
يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِهِمْ.
{وَإِذَا رَأَوْهُمْ} رَأَوْا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ
لَضَالُّونَ} يَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.
{وَمَا أُرْسِلُوا} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {عَلَيْهِمْ}
يَعْنِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {حَافِظِينَ} أَعْمَالَهُمْ،
أَيْ لَمْ يُوَكَّلُوا بِحِفْظِ أَعْمَالِهِمْ.
{فَالْيَوْمَ} يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ
الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَذَلِكَ
أَنَّهُ يُفْتَحُ لِلْكُفَّارِ فِي النَّارِ أَبْوَابُهَا،
وَيُقَالُ لَهُمُ: اخْرُجُوا، فَإِذَا رَأَوْهَا مَفْتُوحَةً
أَقْبَلُوا إِلَيْهَا لِيَخْرُجُوا، وَالْمُؤْمِنُونَ
يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَبْوَابِهَا
غُلِّقَتْ دُونَهُمْ، يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ مِرَارًا
وَالْمُؤْمِنُونَ يَضْحَكُونَ.
وَقَالَ كَعْبٌ: بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كُوًى، فَإِذَا
أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَدُوٍّ لَهُ، كَانَ
فِي الدُّنْيَا، اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْكُوَى (1) ،
كَمَا قَالَ: "فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ"
(الصَّافَّاتِ-55) فَإِذَا اطَّلَعُوا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى
أَعْدَائِهِمْ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ ضَحِكُوا،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَالْيَوْمَ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ" {عَلَى الْأَرَائِكِ}
[مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ] (2) {يَنْظُرُونَ} إِلَيْهِمْ
فِي النَّارِ.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 357، وزاد السيوطي في
الدر المنثور 8 / 453 عزوه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(8/369)
هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا
يَفْعَلُونَ (36) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ ثُوِّبَ} هَلْ جُوزِيَ
{الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أَيْ جَزَاءَ
اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ
هَاهُنَا: التَّقْرِيرُ. وَثُوِّبَ [وَأُثِيبَ] (1) وَأَثَابَ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(8/370)
إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا
الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
سُورَةُ الِانْشِقَاقِ مَكِّيَّةٌ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا
فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) }
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} انْشِقَاقُهَا مِنْ عَلَامَاتِ
الْقِيَامَةِ.
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أَيْ سَمِعَتْ أَمْرَ رَبِّهَا
بِالِانْشِقَاقِ وَأَطَاعَتْهُ، مِنَ الْأُذُنِ وَهُوَ
الِاسْتِمَاعُ، {وَحُقَّتْ} أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ
رَبَّهَا.
{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ،
وَزِيدَ فِي سِعَتِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سُوِّيَتْ كَمَدِّ
الْأَدِيمِ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا بِنَاءٌ وَلَا جَبَلٌ.
{وَأَلْقَتْ} أَخْرَجَتْ {مَا فِيهَا} مِنَ الْمَوْتَى
وَالْكُنُوزِ {وَتَخَلَّتْ} [خَلَتْ] (2) مِنْهَا.
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ
"إِذَا" قِيلَ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا
كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَرَى الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ
وَالْعِقَابَ.
وَقِيلَ جَوَابُهُ: "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ
كَادِحٌ" وَمَجَازُهُ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ لَقِيَ
كُلُّ كَادِحٍ [مَا] (3) عَمِلَهُ.
وَقِيلَ: جَوَابُهُ: "وَأَذِنَتْ" وَحِينَئِذٍ تَكُونُ
"الْوَاوُ" زَائِدَةٌ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس
قال: نزلت سورة (إذا السماء انشقت) بمكة. انظر: الدر المنثور:
8 / 454.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(8/371)
يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
(7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ
إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا
(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ
حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا
(9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) }
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} أَيْ
سَاعٍ إِلَيْهِ فِي عَمَلِكَ، وَالْكَدْحُ: عَمَلُ
الْإِنْسَانِ وَجُهْدُهُ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْخَيْرِ
وَالشَّرِّ حَتَّى يَكْدَحَ ذَلِكَ فِيهِ، أَيْ يُؤَثِّرَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: عَامِلٌ
لِرَبِّكَ عَمَلًا {فَمُلَاقِيهِ} أَيْ مُلَاقِي جَزَاءَ
عَمَلِكَ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا.
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} دِيوَانَ [أَعْمَالِهِ] (1)
{بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ
عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا
رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ"
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ: يَا رسول
الله أو ليس يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَسَوْفَ
يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا"؟ قَالَتْ: فَقَالَ: "إِنَّمَا
ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ [فِي الْحِسَابِ
هَلَكَ] (2) (3) .
{وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ
الْحُورِ الْعِينِ والآدميات {مَسْرُورًا} 188/أبِمَا أُوتِيَ
مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} فَتُغَلُّ
يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ وَتُجْعَلُ يَدُهُ
الشِّمَالُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ
مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تُخْلَعُ يَدُهُ
الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ.
{فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} يُنَادِي بِالْوَيْلِ
وَالْهَلَاكِ إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ يَقُولُ: يَا وَيْلَاهُ
يَا ثُبُورَاهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "دَعَوْا هُنَالِكَ
ثُبُورًا" (الْفُرْقَانِ-13) .
{وَيَصْلَى سَعِيرًا} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَهْلُ
الْبَصْرَةِ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: وَ"يَصْلَى" بِفَتْحِ
الْيَاءِ
__________
(1) في "ب" عمله.
(2) في "ب" الحساب يهلك.
(3) أخرجه البخاري في العلم، باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه:
1 / 196-197 وفي تفسير سورة الانشقاق، وفي الرقاق. ومسلم في
الجنة وصفة نعيمها، باب إثبات الحساب برقم: (2876) 4 / 2204،
والمصنف في شرح السنة: 15 / 131.
(8/374)
إِنَّهُ كَانَ فِي
أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ
(14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا
أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ
طَبَقٍ (19)
خَفِيفًا كَقَوْلِهِ: "يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرَى" (الْأَعْلَى-12) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ
الْيَاءِ [وَفَتْحِ الصَّادِ] (1) وَتَشْدِيدِ اللَّامِ
كَقَوْلِهِ: "وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ" (الْوَاقِعَةِ-94) "ثُمَّ
الْجَحِيمَ صَلُّوهُ" (الْحَاقَّةِ-31) .
{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ
أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ
بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ
وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) }
{إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} يَعْنِي فِي
الدُّنْيَا، بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ وَرُكُوبِ شَهْوَتِهِ.
{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أَنْ لَنْ يَرْجِعَ
إِلَيْنَا وَلَنْ يُبْعَثَ ثُمَّ قَالَ: {بَلَى} {بَلَى} أَيْ:
لَيْسَ كَمَا ظَنَّ، بَلْ يَحُورُ إِلَيْنَا وَيُبْعَثُ {إِنَّ
رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُ إِلَى أَنْ
بَعْثَهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} قَالَ
مُجَاهِدٌ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَا
بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْحُمْرَةُ الَّتِي تَبْقَى فِي
الْأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ
الْبَيَاضُ الَّذِي يَعْقُبُ تِلْكَ الْحُمْرَةَ.
{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أَيْ جَمَعَ وَضَمَّ، يُقَالُ:
وَسَقْتُهُ أَسِقُهُ وَسْقَا، أَيْ: جَمَعْتُهُ،
وَاسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ: إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ.
وَالْمَعْنَى: وَاللَّيْلِ وَمَا جَمَعَ وَضَمَّ مَا كَانَ
بِالنَّهَارِ مُنْتَشِرًا مِنَ الدَّوَابِّ، وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ أَوَى كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ.
رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا لَفَّ وَأَظْلَمَ
عَلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أَقْبَلَ مِنْ
ظُلْمَةٍ أَوْ كَوْكَبٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَمَا
عُمِلَ فِيهِ. {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} اجْتَمَعَ
وَاسْتَوَى وَتَمَّ نُورُهُ وَهُوَ فِي الْأَيْامِ الْبِيضِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَدَارَ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ
الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ.
{لَتَرْكَبُنَّ} قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَمْزَةُ
وَالْكِسَائِيُّ: "لَتَرْكَبَنَّ" بِفَتْحِ الْبَاءِ يَعْنِي
لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ
الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ. قَالَ
الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي تُصْعَدُ فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ
فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرِّفْعَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ، أَخْبَرَنَا
هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
__________
(1) ساقط من "أ".
(8/375)
فَمَا لَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا
يَسْجُدُونَ (21)
"لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ"
حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ هَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ السَّمَاءَ تَتَغَيَّرُ لَوْنًا بَعْدَ
لَوْنٍ، فَتَصِيرُ تَارَةً كَالدِّهَانِ وَتَارَةً
كَالْمُهْلِ، وَتَنْشَقُّ بِالْغَمَامِ مَرَّةً وَتُطْوَى
أُخْرَى. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْبَاءِ، لِأَنَّ
الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَهُ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ
قَبْلُ: "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ"
"وَشَمَالِهِ" وَذَكَرَ مِنْ بَعْدُ: "فَمَا لَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ" وَأَرَادَ: لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ،
وَأَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي:
الْأَحْوَالَ تَنْقَلِبُ بِهِمْ، فَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ
عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي
الدُّنْيَا. وَ"عَنْ" بِمَعْنَى بَعْدَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ [ثُمَّ
الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ] (2) .
وَقَالَ عَطَاءٌ: مَرَّةً فَقِيرًا وَمُرَّةً غَنِيًا. وَقَالَ
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي
الشَّدَائِدَ وَأَهْوَالَ الْمَوْتِ، ثُمَّ الْبَعْثَ ثُمَّ
الْعَرْضَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ، رَضِيعٌ
ثُمَّ فَطِيمٌ ثُمَّ غُلَامٌ ثُمَّ شَابٌ ثُمَّ شَيْخٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَتَرْكَبْنَ سَنَنَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ وَأَحْوَالَهُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الصَّنْعَانِيُّ مِنَ الْيَمَنِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مِنْ [كَانَ] (3)
قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا، حَتَّى لَوْ
دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍ لَتَبِعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟ (4) .
{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}
اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.
{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} قَالَ
الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لَا يُصَلُّونَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيْوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ
عَطَاءِ بْنِ مِينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الانشقاق: 8 / 698.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) زيادة من "ب".
(4) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لتتبعن سنن من كان قبلكم) 13 / 300، وفي
الأنبياء، ومسلم في العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى
برقم: (2669) 4 / 2054، والمصنف في شرح السنة: 14 / 392.
(8/376)
بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
(23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ (25)
فِي "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" "وَإِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرٌ، عَنْ أَبِي
رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ
فَقَرَأَ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، فَسَجَدَ فَقُلْتُ: مَا
هَذَا؟ قَالَ: سَجَدْتُ بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا
حَتَّى أَلْقَاهُ (2) .
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) }
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} بِالْقُرْآنِ
وَالْبَعْثِ.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} فِي صُدُورِهِمْ مِنَ
التَّكْذِيبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَكْتُمُونَ. {فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} غَيْرُ
مَقْطُوعٍ وَلَا مَنْقُوصٍ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب في السجدة: 3 / 165، ومسلم
في المساجد، باب سجود التلاوة برقم: (578) 1 / 406، وأبو داود
في الصلاة، باب السجود في (إذا السماء انشقت) 2 / 118،
والنسائي في سجود القرآن، باب السجود في (اقرأ باسم ربك) : 2 /
161، والمصنف في شرح السنة: 3 / 301.
(2) أخرجه البخاري في سجود التلاوة، باب (من قرأ السجدة في
الصلاة فسجد بها) 2 / 559، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة،
باب سجود التلاوة برقم (578) 1 / 407.
(8/377)
|