تفسير البغوي
طيبة وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ (3)
سُورَةُ الْبُرُوجِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ
(2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) }
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}
هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ،
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ
زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ
عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيْوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَوْمُ
الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ
عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، مَا طَلَعَتْ
شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ
يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ
لَهُ، أَوْ يَسْتَعِيذُ [بِهِ] (2) مِنْ شَرٍّ إِلَّا
أَعَاذَهُ مِنْهُ" (3) ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس
قال: نزلت (والسماء ذات البروج) بمكة. انظر الدر المنثور: 8 /
461.
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه الترمذي في التفسير، تفسير سورة البروج: 9 / 258
وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن
عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن معين من قبل حفظه"
والطبري: 30 / 128. وذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 492، وقال:
"هكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة من طرق عن موسى بن عبيدة
الربذي وهو ضعيف الحديث. وقد روي موقوفا على أبي هريرة وهو
أشبه" وأخرجه المصنف في شرح السنة: 4 / 204.
(8/378)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "الشَّاهِدُ"
يَوْمُ الْجُمُعَةِ، "وَالْمَشْهُودُ" يَوْمُ [النَّحْرِ] (1)
(2)
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: "الشَّاهِدُ" يَوْمُ
التَّرْوِيَةِ، "وَالْمَشْهُودُ" يَوْمُ عَرَفَةَ.
وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"الشَّاهِدُ" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَ"الْمَشْهُودُ": يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا "فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ
عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النِّسَاءِ-41) ، وَقَالَ: ذَلِكَ
يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: "الشَّاهِدُ":
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَ"الْمَشْهُودُ": اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَيَانُهُ: قَوْلُهُ
"وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
"الشَّاهِدُ" آدَمُ، وَ"الْمَشْهُودُ" يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ "الشَّاهِدُ" الْإِنْسَانُ
وَ"الْمَشْهُودُ" يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا:
الشَّاهِدُ الْمَلَكُ يَشْهَدُ عَلَى ابْنِ آدَمَ،
وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَتَلَا "وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ" (ق-21) و"وَذَلِكَ يَوْمٌ
مَشْهُودٌ" (هُودٍ-103) وَقِيلَ: الشَّاهِدُ [الْحَفَظَةُ
وَالْمَشْهُودُ بَنُو آدَمَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ:
الشَّاهِدُ] (3) آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ.
وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ هُوَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: الشَّاهِدُ هَذِهِ
الْأُمَّةُ وَالْمَشْهُودُ سَائِرُ الْأُمَمِ. بَيَانُهُ:
"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" (الْبَقَرَةِ-143) .
وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلَتُ سَعِيدَ بْنَ
جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ: "وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ" فَقَالَ:
الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمَشْهُودُ: نَحْنُ، بَيَانُهُ:
"وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا" (النِّسَاءِ-79) وَقِيلَ:
الشَّاهِدُ أَعْضَاءُ بَنِي آدَمَ، وَالْمَشْهُودُ ابْنُ
آدَمَ، بَيَانُهُ: "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ
وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ" الْآيَةَ (النُّورِ-24)
وَقِيلَ:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ" والأثر ذكره صاحب زاد المسير:
9 / 71. وفي "ب" عرفة.
(2) أخرجه الطبري: 30 / 130 عن ابن عباس، وفيه علي بن زيد.
ورواه أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنه، في الموضع نفسه.
وأخرجه النسائي في التفسير: 2 / 514. قال الهيثمي في المجمع: 7
/ 136: "رواه البزار ورجاله ثقات". قال الطبري مرجحا: 30 /
131: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أقسم
بشاهد شهد، ومشهود شهد، ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أي شاهد وأي
مشهود أراد، وكل الذي ذكرنا أن العلماء قالوا: هو المعني مما
يستحق أن يقال له (شاهد ومشهود) .
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(8/382)
قُتِلَ أَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ (4)
الشَّاهِدُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَشْهُودُ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بيانه: قوله:
"وإذا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ" إِلَى قَوْلِهِ
"فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ" (آلِ
عِمْرَانَ-81) .
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) }
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} أَيْ: لُعِنَ،
وَ"الْأُخْدُودُ" الشَّقُّ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ
كَالنَّهْرِ، وَجَمْعُهُ: أَخَادِيدُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِمْ:
أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدَانَ الْخَطِيبُ،
أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ نُوحِ بْنِ رُسْتُمَ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ
الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى،
عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ قَالَ لِلْمَلِكِ:
إِنِّي قَدْ كَبُرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ
السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا، وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ
إِذَا سَلَكَ إِلَيْهِ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ
كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ
بِالرَّاهِبِ، وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ
ضَرَبَهُ، وَإِذَا رَجَعَ مِنْ عِنْدِ السَّاحِرِ قَعَدَ إِلَى
الرَّاهِبِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ
ضَرَبُوهُ، فَشَكَا [ذَلِكَ] (1) إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ:
إِذَا [جِئْتَ] السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا
[جِئْتَ] (2) أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ،
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ
عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ
أَعْلَمُ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ أَمِ السَّاحِرُ؟ فَأَخَذَ
حَجَرًا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ: إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ
أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ
الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا
فَقَتَلَهَا، فَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ
فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ
الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا
أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيَتْ [فَاصْبِرْ]
(3) فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، فَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ
الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ وَكَانَ قَدْ
عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هُنَا
لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتِنِي، قَالَ: إِنِّي لَا
أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَإِنْ أَنْتَ
آمَنَتْ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ لَكَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ
بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ
إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ
رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي عَزَّ وجل، قال أَوَ
لَك رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ،
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى
الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:
أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبَرِئُ بِهِ
الْأَكَمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، قَالَ:
إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ،
فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى
الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ
دِينِكَ، فَأَبَى [فَدَعَا
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) في "ب" خشيت.
(3) زيادة من "ب".
(8/383)
بِالْمِنْشَارِ] (1) فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ
فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ
[شِقَّاهُ] (2) ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ:
ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي
مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شَقَّاهُ،
ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ
فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ:
اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ
فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذِرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ
وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، [فَذَهَبُوا بِهِ] (3) فَصَعِدُوا بِهِ
الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ،
فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، فَجَاءَ يَمْشِي إِلَى
الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟
فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي
قُرْقُورٍ [إِلَى لُجَّةِ بِحَرِ كَذَا] (4) فَإِنْ رَجَعَ
عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا [فَاطْرَحُوهُ فِي الْبَحْرِ] (5)
فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا
شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا فَجَاءَ
يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ
أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَقَالَ
لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا
آمُرُكَ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي
صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ
سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ
الْقَوْسِ وَقُلْ: بِسْمَ [اللَّهِ] (6) رَبِّ الْغُلَامِ،
ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي.
فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى
جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ
[السَّهْمَ] (7) فِي كَبِدِ قَوْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: بِسْمَ
[اللَّهِ] (8) رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ
السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضْعَ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ فِي
مَوْضِعِ السَّهْمِ، فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا
بِرَبِّ الْغُلَامِ ثَلَاثًا فَأُتِيَ الْمَلِكُ، فَقِيلَ
لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ
بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ
بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ بِهَا
النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ
فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ، قَالَ:
فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا،
فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ:
يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ".
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ
عَنْ [هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ] (9) حَمَّادِ بن سلمة. (10)
حماد بْنِ سَلَمَةَ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهَبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَى دِينِ
عِيسَى فَوَقَعَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ [فَدَعَاهُمْ] (11)
فَأَجَابُوهُ فَسَارَ إِلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ الْيَهُودِيُّ
بِجُنُودِهِ مِنْ حِمْيَرَ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ النَّارِ
وَالْيَهُودِيَّةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَخَدَّ الْأَخَادِيدَ
وَأَحْرَقَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ [لَمَّا] (12)
غَلَبَ أَرْيَاطُ عَلَى الْيَمَنِ فَخَرَجَ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "ب".
(3) ساقط من "ب".
(4) في "ب" فتوسطوا به البحر.
(5) في "ب" فاقذفوه.
(6) زيادة من "ب".
(7) ساقط من "أ".
(8) زيادة من "ب".
(9) ساقط من "ب".
(10) أخرجه مسلم في كتاب الزهد، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر
والراهب والغلام برقم (3005 (4 / 2299.
(11) ساقط من "ب".
(12) ساقط من "ب".
(8/384)
ذُو نُوَاسٍ هَارِبًا فَاقْتَحَمَ
الْبَحْرَ بِفَرَسِهِ فَغَرِقَ (1) قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذُو
نُوَاسٍ قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ التَّامِرِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ: أن خربة احتقرت فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ التَّامِرِ
وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ إِذَا أُمِيطَتْ
يَدُهُ عَنْهَا انْبَعَثَتْ دَمًا وَإِذَا تُرِكَتِ ارْتَدَّتْ
مَكَانَهَا، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فِيهِ: رَبِّيَ
اللَّهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عمر فكتب 189/أأَنْ أُعِيدُوا
عَلَيْهِ الَّذِي وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ (2)
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا -قَالَ: كَانَ بِنَجْرَانَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ
حَمِيرَ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ ذُو نُوَاسِ بْنِ شُرَحْبِيلَ
بْنِ شَرَحِيلَ فِي الْفَتْرَةِ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بِسَبْعِينَ سَنَةٍ] (3)
وَكَانَ فِي بِلَادِهِ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ تَامِرٍ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ سَلَّمَهُ إِلَى مُعَلِّمٍ
يَعْلَمُهُ السِّحْرَ فَكَرِهَ ذَلِكَ الْغُلَامُ وَلَمْ
يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ فَجَعَلَ يَخْتَلِفُ إِلَى
الْمُعَلِّمِ [وَكَانَ] (4) فِي طَرِيقِهِ رَاهِبٌ حَسَنُ
الْقِرَاءَةِ حَسَنُ الصَّوْتِ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَذَكَرَ
قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى حَدِيثِ صُهَيْبٍ إِلَى أَنْ قَالَ
الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِي
إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ مَا أَقُولُ لَكَ، قَالَ: فَكَيْفَ
أَقْتُلُكَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ أَهْلَ مَمْلَكَتِكَ وَأَنْتَ
عَلَى سَرِيرِكَ فَتَرْمِينِي بِسَهْمٍ بِاسْمِ إِلَهِي،
فَفَعَلَ الْمَلِكُ [ذَلِكَ] (5) فَقَتَلَهُ، فَقَالَ
النَّاسُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
تَامِرٍ لَا دِينَ إِلَّا دِينَهُ، فَغَضِبَ الْمَلِكُ
وَأَغْلَقَ بَابَ الْمَدِينَةِ وَأَخَذَ أَفْوَاهَ السِّكَكِ
وَخَدَّ أُخْدُودًا وَمَلَأَهُ نَارًا ثُمَّ عَرَضَهُمْ
رَجُلًا رَجُلًا فَمَنْ رَجَعَ عَنِ الْإِسْلَامِ تَرَكَهُ،
وَمَنْ قَالَ: دِينِي دِينُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَامِرٍ
أَلْقَاهُ فِي الْأُخْدُودِ فَأَحْرَقَهُ، وَكَانَ فِي
مَمْلَكَتِهِ امْرَأَةٌ أَسْلَمَتْ فِيمَنْ أَسَلَمَ ولها
أولاد ثلاث أَحَدُهُمْ رَضِيعٌ، فَقَالَ لَهَا الْمَلِكُ:
ارْجِعِي عَنْ دِينِكِ وَإِلَّا أَلْقَيْتُكِ وَأَوْلَادَكِ
فِي النَّارِ، فَأَبَتْ فَأَخَذَ ابْنَهَا الْأَكْبَرَ
فَأَلْقَاهُ فِي النَّارِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: ارْجِعِي عَنْ
دِينِكِ، فَأَبَتْ فَأَلْقَى الثَّانِيَ فِي النَّارِ، ثُمَّ
قَالَ لَهَا: ارْجِعِي، فَأَبَتْ فَأَخَذُوا الصَّبِيَّ
مِنْهَا لِيُلْقُوهُ فِي النَّارِ فَهَمَّتِ الْمَرْأَةُ
بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّاهُ لَا تَرْجِعِي
[عَنِ الْإِسْلَامِ] (6) فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، وَلَا
بَأْسَ عَلَيْكِ، فَأُلْقِيَ الصَّبِيُّ فِي النَّارِ،
وَأُلْقِيَتْ أُمُّهُ عَلَى أَثَرِهِ (7) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبْزَى: لَمَّا
انْهَزَمَ أَهْلُ اسْفِنْدِهَارَ قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْرِي عَلَى الْمَجُوسِ مِنَ
الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ؟ فَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلَى قَدْ
كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، وَكَانَتِ الْخَمْرُ أُحِلَّتْ لَهُمْ
فَتَنَاوَلَهَا مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ فَغَلَبَتْهُ عَلَى
عَقْلِهِ، فَتَنَاوَلَ أُخْتَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمَّا
ذَهَبَ عَنْهُ السُّكْرُ نَدِمَ، وَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ مَا
هَذَا الَّذِي أَتَيْتُ، وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهُ
__________
(1) سيرة ابن هشام: 1 / 32-37. وانظر: البداية والنهاية لابن
كثير: 2 / 119-121 الكافي الشاف ص (183) .
(2) انظر: سيرة ابن هشام: 1 / 37-38.
(3) ساقط من "ب".
(4) ساقط من "ب".
(5) ساقط من "ب".
(6) ساقط من "ب".
(7) انظر: البداية والنهاية لابن كثير: 2 / 121.
(8/385)
قَالَتِ: الْمَخْرَجُ مِنْهُ أَنْ تَخْطُبَ
النَّاسَ، وَتَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ نِكَاحَ
الْأَخَوَاتِ فَإِذَا ذَهَبَ فِي النَّاسِ وَتَنَاسَوْهُ
خَطَبْتَهُمْ فَحَرَّمْتَهُ، فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ
اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ لَكُمْ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ، فَقَالَ
النَّاسُ بِأَجْمَعِهِمْ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُؤْمِنَ
بِهَذَا، أَوْ نُقِرَّ بِهِ، مَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيٌّ وَلَا
أُنْزِلَ عَلَيْنَا فِيهِ كِتَابٌ، فَبَسَطَ فِيهِمُ السَّوْطَ
فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا فَجَرَّدَ فِيهِمُ السَّيْفَ.
فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا [فَخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودًا] (1)
وَأَوْقَدَ فِيهِ النِّيرَانَ وَعَرَضَهُمْ عَلَيْهَا فَمَنْ
أَبَى وَلَمْ يُطِعْهُ قَذَفَهُ فِي النَّارِ وَمَنْ أَجَابَ
خَلَّى سَبِيلَهُ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، أَخَذُوا رِجَالًا وَنِسَاءً فَخَدُّوا لَهُمْ
أُخْدُودًا ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ النِّيرَانَ فَأَقَامُوا
الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهَا، فَقَالُوا: أَتَكْفُرُونَ أَمْ
نَقْذِفُكُمْ فِي النَّارِ؟ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَانْيَالُ
وَأَصْحَابُهُ. وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) .
وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: كَانَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ نَبِيُّهُمْ حَبَشِيٌّ،
بُعِثَ [نَبِيٌّ] (4) مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ
قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ}
الْآيَةَ (غَافِرٍ-78) فَدَعَاهُمْ فَتَابَعَهُ أُنَاسٌ
فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ أَصْحَابُهُ وَأُخِذُوا وَأُوثِقَ مَا
أَفْلَتَ مِنْهُمْ فخدوا أخدودًا فملؤها نَارًا فَمَنْ تَبِعَ
النَّبِيَّ رُمِيَ فِيهَا، وَمَنْ تَابَعَهُمْ تَرَكُوهُ،
فَجَاءُوا بِامْرَأَةٍ وَمَعَهَا صَبِيٌّ رَضِيعٌ فَجَزِعَتْ،
فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّاهُ مُرِّي وَلَا تُنَافِقِي.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانُوا مِنَ النَّبَطِ [أُحْرِقُوا
بِالنَّارِ] (5) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ
ثَلَاثَةً: وَاحِدَةً بِنَجْرَانَ بِالْيَمَنِ، وَوَاحِدَةً
بِالشَّامِ، وَالْأُخْرَى بِفَارِسَ، حُرِّقُوا [بِالنَّارِ]
(6) أَمَّا الَّتِي بِالشَّامِ فَهُوَ أَبْطَامُوسُ
الرُّومِيُّ، وَأَمَّا الَّتِي بِفَارِسَ فَبُخْتَنَصَّرَ،
وَأُمَّا الَّتِي بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَهُوَ ذُو نُوَاسٍ
يُوسُفُ، فَأَمَّا الَّتِي بِالشَّامِ وَفَارِسَ فَلَمْ
يُنْزِلِ اللَّهُ فِيهِمَا قُرْآنًا وَأَنْزَلَ فِي الَّتِي
كَانَتْ بِنَجْرَانَ (7) ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا
مِمَّنْ يَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ آجَرَ نَفْسَهُ فِي عَمَلٍ،
وَجَعَلَ يَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ فَرَأَتْ بِنْتُ
الْمُسْتَأْجِرِ النُّورَ يُضِيءُ مِنْ قِرَاءَةِ
الْإِنْجِيلِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَبِيهَا فَرَمَقَهُ حَتَّى
رَآهُ [فَسَأَلَهُ فَلَمْ يُخْبِرْهُ] (8) فَلَمْ يَزَلْ بِهِ
حَتَّى أَخْبِرَهُ بِالدِّينِ وَالْإِسْلَامِ، فَتَابَعَهُ
هُوَ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ إِنْسَانًا مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ
وَامْرَأَةٍ وَهَذَا بَعْدَمَا رُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ إِلَى السَّمَاءِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ يُوسُفُ ذُو
نُوَاسٍ فَخَدَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَأَوْقَدَ فِيهَا
نَارًا فَعَرَضَهُمْ عَلَى الْكَفْرِ، فَمَنْ أَبَى
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه الطبري: 30 / 132.
(3) أخرجه الطبري: 30 / 133. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8
/ 65 لابن المنذر.
(4) ساقط من "ب".
(5) انظر: ابن كثير: 4 / 469.
(6) ساقط من "أ".
(7) ساقط من "ب".
(8) ساقط من "ب".
(8/386)
النَّارِ ذَاتِ
الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى
مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
أَنْ يَكْفُرَ قَذَفَهُ فِي النَّارِ
وَمَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِ عِيسَى لَمْ يَقْذِفْهُ، وَإِنَّ
امْرَأَةً جَاءَتْ وَمَعَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ لَا يَتَكَلَّمُ،
فَلَمَّا قَامَتْ عَلَى شَفِيرِ الْخَنْدَقِ نَظَرَتْ إِلَى
ابْنِهَا فَرَجَعَتْ عَنِ النَّارِ، فَضُرِبَتْ حَتَّى
تَقَدَّمَتْ فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ ثلاث مرات، فرلما كَانَتْ
فِي الثَّالِثَةِ ذَهَبَتْ تَرْجِعُ فَقَالَ لَهَا ابْنُهَا:
يَا أُمَّاهُ إِنِّي أَرَى أَمَامَكِ نَارًا لَا تُطْفَأُ،
فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ قَذَفَا جَمِيعًا أَنْفُسَهُمَا فِي
النَّارِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ وَابْنَهَا فِي الْجَنَّةِ،
فَقُذِفَ فِي النَّارِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعَةٌ
وَسَبْعُونَ إِنْسَانًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
"قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ".
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
(6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
(7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) }
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} بَدَلٌ مِنَ الْأُخْدُودِ، قَالَ
الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ أُلْقُوا فِي النَّارِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ
قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ، وَخَرَجَتِ النَّارُ إِلَى
مَنْ عَلَى شَفِيرِ الْأُخْدُودِ مِنَ الْكُفَّارِ
فَأَحْرَقَتْهُمْ (1) . {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أَيْ:
عِنْدَ النَّارِ جُلُوسٌ [لِتَعْذِيبِ] (2) الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا قُعُودًا عَلَى الْكَرَاسِيِّ
[عِنْدَ الْأُخْدُودِ] (3) . {وَهُمْ} يَعْنِي الْمَلِكَ
وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ خَدُّوا [الْأُخْدُودَ] (4) {عَلَى
مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} مِنْ عَرْضِهِمْ عَلَى
النَّارِ وَإِرَادَتِهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ
{شُهُودٌ} حُضُورٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي يَشْهَدُونَ
أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَلَالٍ حِينَ تَرَكُوا عِبَادَةَ
الصَّنَمِ. {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا كَرِهُوا مِنْهُمْ {إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} قَالَ مُقَاتِلٌ مَا عَابُوا مِنْهُمْ.
وَقِيلَ: مَا عَلِمُوا فِيهِمْ عَيْبًا. قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ذَنْبًا إِلَّا إِيمَانَهُمْ
بِاللَّهِ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} مِنْ
أَفْعَالِهِمْ {شَهِيدٌ}
__________
(1) أخرجه الطبري: 30 / 134-135. وانظر ابن كثير: 4 / 497.
(2) في "ب" يعذبون.
(3) زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(8/387)
إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ
الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ
رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ
(15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْجُنُودِ (17)
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ
جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) }
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} عَذَّبُوا وَأَحْرَقُوا
{الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يُقَالُ: فَتَنْتَ
الشَّيْءَ إِذَا أَحْرَقَتَهُ، نَظِيرُهُ "يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ" (الذَّارِيَاتِ-13) {ثُمَّ لَمْ
يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} بكفرهم 189/ب {وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ} بِمَا أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [فِي الدُّنْيَا،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ الَّتِي] (1)
أَحْرَقُوا بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، ارْتَفَعَتْ إِلَيْهِمْ مِنَ
الْأُخْدُودِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْكَلْبِيُّ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْكَبِيرُ} وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ: فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: جَوَابُهُ: "قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ"
يَعْنِي لَقَدْ قُتِلَ.
وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: قُتِلَ
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَوَابُهُ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ
إِذَا أَخَذَ الظَّلَمَةَ لَشَدِيدٌ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" (هُودٍ-102) . {إِنَّهُ هُوَ
يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} أَيْ يَخْلُقُهُمْ أَوَّلًا فِي
الدُّنْيَا ثُمَّ يُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ.
{وَهُوَ الْغَفُورُ} لِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ {الْوَدُودُ}
الْمُحِبُّ لَهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمَوْدُودُ،
كَالْحَلُوبِ وَالرَّكُوبِ، بِمَعْنَى الْمَحْلُوبِ
وَالْمَرْكُوبِ. وَقِيلَ: يَغْفِرُ وَيَوَدُّ أَنْ يَغْفِرَ،
وَقِيلَ: الْمُتَوَدِّدُ إِلَى أَوْلِيَائِهِ بِالْمَغْفِرَةِ.
{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:
"الْمَجِيدِ" بِالْجَرِّ، عَلَى صِفَةِ الْعَرْشِ أَيِ
السَّرِيرِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ حُسْنَهُ فَوَصَفَهُ
بِالْمَجْدِ كَمَا وَصَفَهُ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ: "رَبُّ
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" (الْمُؤْمِنُونَ-116) وَمَعْنَاهُ
الْكَمَالُ، وَالْعَرْشُ: أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ
وَأَكْمَلُهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى صِفَةِ
ذُو الْعَرْشِ. {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} لَا يُعْجِزُهُ
شَيْءٌ يُرِيدُهُ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ}
قَدْ أَتَاكَ خَبَرُ الْجُمُوعِ الْكَافِرَةِ الَّذِينَ
تَجَنَّدُوا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(8/388)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
(18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ
مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ
{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ
هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) }
ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُمْ فَقَالَ: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا} مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ {فِي
تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ بَلْ هُوَ
قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} لَكَ وَلِلْقُرْآنِ
كَدَأْبِ [آلِ فِرْعَوْنَ] (1) مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَمْ
يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.
{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} ، عَالِمٌ بِهِمْ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، يَقْدِرُ أَنْ
يُنْزِلَ بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. {بَلْ
هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} ، كَرِيمٌ شَرِيفٌ كَثِيرُ الْخَيْرِ،
لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ شِعْرٌ
وَكِهَانَةٌ. {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، قَرَأَ نَافِعٌ:
"مَحْفُوظٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى نَعْتِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ
الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ
وَالتَّحْرِيفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّا نَحْنُ،
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، وَهُوَ
أُمُّ الْكِتَابِ، وَمِنْهُ نُسِخَ الْكُتُبُ، مَحْفُوظٌ مِنَ
الشَّيَاطِينِ، وَمِنَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ ابن مُحَمَّدِ بْنِ
فَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ عَلَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عِيسَى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، أَخْبَرَنِي
مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ، قَالَ:
وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ
الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَحَافَّتَاهُ الدُّرُّ
وَالْيَاقُوتُ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَلَمُهُ
نُورٌ، وَكَلَامُهُ مَعْقُودٌ بِالْعَرْشِ، وَأَصْلُهُ فِي
حِجْرِ مَلَكٍ. (2)
قَالَ مُقَاتِلٌ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ عَنْ يَمِينِ
الْعَرْشِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) موقوف على ابن عباس وفيه إسحاق بن بشر، قال ابن حبان: لا
يحل حديثه إلا على جهة التعجب وقال الدارقطني: متروك. وقال
الذهبي: يروي العظائم عن ابن إسحاق وابن جريج والثوري. انظر:
الضعفاء لابن حبان: 1\37، الميزان للذهبي: 1\184. وراجع ابن
كثير: 4\498.
(8/389)
14
(8/390)
وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ (4)
سُورَةُ الطَّارِقِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) }
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي
أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتْحَفَهُ بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ،
فَبَيْنَمَا هُوَ جالس يأكل إذا انْحَطَّ نَجْمٌ فَامْتَلَأَ
مَاءً ثُمَّ نَارًا، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ وَقَالَ: أَيُّ
شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ، وَهُوَ آيَةٌ
مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَجِبَ أَبُو طَالِبٍ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ" (2) وَهَذَا قَسَمٌ، وَ"الطَّارِقُ" النَّجْمُ
يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ، وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ
{النَّجْمُ الثَّاقِبُ} أَيِ الْمُضِيءُ الْمُنِيرُ، قَالَ
مُجَاهِدٌ: الْمُتَوَهِّجُ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ بِهِ
الثُّرَيَّا، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ النَّجْمُ. وَقِيلَ: هُوَ
زُحَلُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ
لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا:
قَدْ ثَقَبَ.
{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ} جَوَابُ الْقَسَمِ {لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ،
وَحَمْزَةُ: "لَمَّا" بِالتَّشْدِيدِ، يَعْنُونَ: مَا كُلُّ
نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ
يَجْعَلُونَ "لَمَّا" بِمَعْنَى "إِلَّا" يَقُولُونَ:
نَشَدْتُكَ اللَّهَ لَمَّا قُمْتَ، أَيْ إِلَّا قُمْتَ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، جَعَلُوا "مَا" صِلَةً،
مَجَازُهُ: إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ [مِنْ
رَبِّهَا] (3)
__________
(1) أخرجه ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال:
نزلت (والسماء والطارق) بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 473.
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول، صفحة (522) . قال الحافظ
ابن حجر في الكافي الشاف صفحة: (183) "ذكره الثعلبي والواحدي
بغير إسناد".
(3) ساقط من "ب".
(8/391)
فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ
عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
[وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: كُلُّ نَفْسٍ
عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنْ رَبِّهَا] (1) يَحْفَظُ عَمَلَهَا
وَيُحْصِي عَلَيْهَا مَا تَكْتَسِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ يَحْفَظُهَا
وَيَحْفَظُ قَوْلَهَا وَفِعْلَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا
وَيُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَادِيرِ، ثُمَّ يُخَلِّي عَنْهَا.
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ
مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) }
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} أَيْ مِنْ أَيِّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ رَبُّهُ، أَيْ فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ
الْمُتَفَكِّرِ.
ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} مَدْفُوقٍ
أَيْ مَصْبُوبٍ فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، فَاعِلٌ
بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ: "عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ"
(الْحَاقَّةِ-21) أَيْ مَرَضِيَّةٍ، وَالدَّفْقُ: الصَّبُّ،
وَأَرَادَ مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ
الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا، وَجَعَلَهُ وَاحِدًا
لِامْتِزَاجِهِمَا.
{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يَعْنِي
صُلْبَ الرَّجُلِ وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ، وَ"الترائب" جمع
التربية، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ. وَرَوَى
الْوَالِبِيُّ عَنْهُ: بَيْنَ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: النَّحْرُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الصَّدْرُ.
{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى
رَدِّ النُّطْفَةِ فِي الْإِحْلِيلِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
عَلَى رَدِّ الْمَاءِ فِي الصُّلْبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً
كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ لِقَادِرٌ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ
حَيَّانَ: [إِنْ شَاءَ رَدَّهُ] (2) مِنَ الْكِبَرِ إِلَى
الشَّبَابِ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا، وَمِنَ
الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ
عَلَى حَبْسِ ذَلِكَ الْمَاءِ لِقَادِرٌ حَتَّى لَا يَخْرُجَ
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ
الْإِنْسَانِ وَإِعَادَتِهِ قَادِرٌ وَهَذَا أَوْلَى
الْأَقَاوِيلِ لِقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}
{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
تُبْلَى السَّرَائِرُ، تُظْهَرُ الْخَفَايَا قَالَ قَتَادَةُ
وَمُقَاتِلٌ: تُخْتَبَرُ [الْأَعْمَالُ] (3) قَالَ عَطَاءُ
بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: السَّرَائِرُ فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ،
كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ [وَالْوُضُوءِ] (4) وَالِاغْتِسَالِ
مِنَ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهَا سَرَائِرُ بَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ، فَلَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لقال:
صمت 190/أوَلَمْ يَصُمْ، وَصَلَّيْتُ، وَلَمْ يُصَلِّ،
وَاغْتَسَلْتُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، فَيُخْتَبَرُ حَتَّى
يَظْهَرَ مَنْ أَدَّاهَا مِمَّنْ ضَيَّعَهَا.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: بِيَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كُلُّ سِرٍّ، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي وُجُوهٍ
وَشَيْنًا فِي وُجُوهٍ،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) في "ب" إن شئت رددته.
(3) في "ب" إن شئت رددته.
(4) في "ب" إن شئت رددته.
(8/394)
فَمَا لَهُ مِنْ
قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
(13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
يَعْنِي: مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ
مُشْرِقًا، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ.
{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) }
{فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} أَيْ مَا لِهَذَا
الْإِنْسَانِ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ مِنْ قُوَّةٍ يَمْتَنِعُ
بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا نَاصِرَ يَنْصُرُهُ مِنَ
اللَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ قِسْمًا آخَرَ فَقَالَ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ} أَيْ ذَاتِ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ كُلَّ
عَامٍ وَيَتَكَرَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّحَابُ
يَرْجِعُ بِالْمَطَرِ.
{وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أَيْ تَتَصَدَّعُ وَتَنَشَقُّ
عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ.
وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: {إِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ
{لَقَوْلٌ فَصْلٌ} حَقٌّ وَجِدٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ.
{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} بِاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْدًا} يَخَافُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُظْهِرُونَ مَا هُمْ عَلَى خِلَافِهِ.
{وَأَكِيدُ كَيْدًا} وَكَيْدُ اللَّهِ اسْتِدْرَاجُهُ
إِيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا
وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ {أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْدًا} قَلِيلًا وَمَعْنَى مَهِّلْ وَأَمْهِلْ: أَنْظِرْ
وَلَا تَعْجَلْ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَنُسِخَ
الْإِمْهَالُ بِآيَةِ السَّيْفِ.
(8/395)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى (1)
سُورَةُ الْأَعْلَى مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) }
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [يَعْنِي] (2) قُلْ
سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ
مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ
"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" فَقَالَ: "سُبْحَانَ
رَبِّيَ الْأَعْلَى" (3) .
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ نَزِّهْ رَبَّكَ الْأَعْلَى عَمَّا
يَصِفُهُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ، وَجَعَلُوا الِاسْمَ صِلَةً.
وَيَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَجْعَلُ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى
وَاحِدًا، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ: سُبْحَانَ اسْمِ
اللَّهِ، وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا، إِنَّمَا يَقُولُ:
سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا، فَكَانَ مَعْنَى
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى: سَبِّحْ رَبَّكَ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس
قال: نزلت (سبح) بمكة. وأخرجه ابن مردويه عن عائشة وابن
الزبير. انظر: الدر المنثور: 8 / 479.
(2) زيادة من "ب".
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء في الصلاة: 1 / 422،
ومن طريق وكيع رواه البيهقي في السنن: 2 / 311 وصححه الحاكم: 1
/ 263-264 على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد
في المسند: 1 / 232. قال أبو داود: خولف وكيع في هذا الحديث،
رواه أبو وكيع - وهو الجراح بن مليح - وشعبة عن أبي إسحاق عن
سعيد ابن جبير. وانظر: الكافي الشاف ص184، والدر المنثور: 8 /
482.
(8/396)
الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي
أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
وَقَالَ آخَرُونَ: نَزِّهْ تَسْمِيَةَ
رَبِّكَ، بِأَنْ تَذْكُرَهُ وَأَنْتَ لَهُ مُعَظِّمٌ،
وَلِذِكْرِهِ مُحْتَرِمٌ [وَلِأَوَامِرِهِ مُطَاوِعٌ] (1)
وَجَعَلُوا الِاسْمَ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبِّحِ [اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى]
(2) أَيْ: صَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ الْأَعْلَى.
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى
(5) }
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} قَالَ الْكَلْبِيُّ: خَلَقَ كُلَّ
ذِي رُوحٍ، فَسَوَّى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ
وَالْعَيْنَيْنِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ
مُسْتَوِيًا، وَمَعْنَى "سَوَّى" عَدَلَ قَامَتَهُ.
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قَرَأَ الْكِسَائِيُّ: "قَدَرَ"
بِتَخْفِيفِ الدَّالِ، وَشَدَّدَهَا الْآخَرُونَ، وَهُمَا
بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِسَبِيلِ الْخَيْرِ
وَالشَّرِّ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَهَدَى
الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: قَدَّرَ لِكُلِّ شَيْءٍ
مَسْلَكَهُ، "فَهَدَى" عَرَّفَهَا كَيْفَ يَأْتِي الذَّكَرُ
الْأُنْثَى.
وَقِيلَ: قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ وَهَدَى لِاكْتِسَابِ
الْأَرْزَاقِ وَالْمَعَاشِ.
وَقِيلَ: خَلَقَ الْمَنَافِعَ فِي الْأَشْيَاءِ، وَهَدَى
الْإِنْسَانَ لِوَجْهِ اسْتِخْرَاجِهَا مِنْهَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي
الرَّحِمِ ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الرَّحِمِ.
قَالَ الْوَاسِطِيُّ: قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَسَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ سُلُوكَ [سَبِيلِ] (3) مَا قَدَّرَ عَلَيْهِ.
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أَنْبَتَ الْعُشْبَ وَمَا
تَرْعَاهُ [النَّعَمُ] (4) مِنْ بَيْنِ أَخْضَرَ وَأَصْفَرَ
وَأَحْمَرَ وَأَبْيَضَ.
{فَجَعَلَهُ} بَعْدَ الْخُضْرَةِ {غُثَاءً} هَشِيمًا بَالِيًا،
كَالْغُثَاءِ الَّذِي تَرَاهُ فَوْقَ السَّيْلِ. {أَحْوَى}
أَسْوَدَ بَعْدَ الْخُضْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَأَ إِذَا
جَفَّ وَيَبِسَ اسْوَدَّ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ساقط من "أ".
(4) في "أ" الغنم.
(8/400)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا
تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي
يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى
(7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ
الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرَى (12) }
{سَنُقْرِئُكَ} سَنُعَلِّمُكَ بِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ
[عَلَيْكَ] (1) {فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أَنْ
تَنْسَاهُ، وَمَا نَسَخَ اللَّهُ تِلَاوَتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ،
كَمَا قَالَ: "مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا"
(الْبَقَرَةِ -106) وَالْإِنْسَاءُ نَوْعٌ مِنَ النَّسْخِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْكَلْبِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَفْرُغْ مِنْ آخِرِ الْآيَةِ
حَتَّى يَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأَوَّلِهَا، مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهَا،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى"
[فَلَمْ يَنْسَ بَعْدَ] (2) ذَلِكَ شَيْئًا (3) . {إِنَّهُ
يَعْلَمُ الْجَهْرَ} مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ {وَمَا
يَخْفَى} مِنْهُمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ
وَالْعَلَانِيَةَ.
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} قَالَ مُقَاتِلٌ: نُهَوِّنُ
عَلَيْكَ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ -وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -وَنُيَسِّرُكَ لِأَنْ تَعْمَلَ خَيْرًا.
وَ"الْيُسْرَى" عَمَلُ الْخَيْرِ.
وَقِيلَ: نُوَفِّقُكَ لِلشَّرِيعَةِ الْيُسْرَى وَهِيَ
الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ.
وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ مَعْنَاهُ:
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِمَّا تَقْرَؤُهُ عَلَى جِبْرِيلَ
إِذَا فَرَغَ مِنَ التِّلَاوَةِ، "وَمَا يَخْفَى" مَا تَقْرَأُ
فِي نَفْسِكَ مَخَافَةَ النِّسْيَانِ، ثُمَّ وَعَدَهُ فَقَالَ:
{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أَيْ نُهَوِّنُ عَلَيْكَ
الْوَحْيَ حَتَّى تَحْفَظَهُ وَتَعْلَمَهُ.
{فَذَكِّرْ} عِظْ بِالْقُرْآنِ {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}
الْمَوْعِظَةُ وَالتَّذْكِيرُ. وَالْمَعْنَى: نَفَعَتْ أَوْ
لَمْ تَنْفَعْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَالَةَ
الثَّانِيَةَ، كَقَوْلِهِ: "سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ"
وَأَرَادَ: الْحَرَّ وَالْبَرْدَ جَمِيعًا.
{سَيَذَّكَّرُ} يَتَّعِظُ {مَنْ يَخْشَى} اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ.
{وَيَتَجَنَّبُهَا} أَيْ يَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى وَيَتَبَاعَدُ
عَنْهَا {الْأَشْقَى} الشَّقِيُّ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} الْعَظِيمَةَ
وَالْفَظِيعَةَ، لِأَنَّهَا أَعْظَمُ وَأَشَدُّ حَرًّا مِنْ
نَارِ الدُّنْيَا.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) انظر: الدر المنثور: 8 / 483.
(8/401)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ
فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا
(13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى (15) }
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فَيَسْتَرِيحُ {وَلَا يَحْيَا}
حَيَاةً تَنْفَعُهُ.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} تَطَهَّرَ مِنَ الشِّرْكِ
وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ
وَعِكْرِمَةَ، وَرِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ
كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا (2) .
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى" قَالَ: أَعْطَى صَدَقَةَ الْفِطْرِ (3) .
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قَالَ خَرَجَ إِلَى
الْعِيدِ فَصَلَّى، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: رَحِمَ
اللَّهُ امْرَءًا تَصَدَّقَ ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ يَقْرَأُ
هَذِهِ الْآيَةَ (4) . وَرَوَى نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ
إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ -يَعْنِي مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ
-قَالَ: يَا نَافِعُ أَخْرَجْتَ الصَّدَقَةَ؟ فَإِنْ قُلْتُ:
نَعَمْ، مَضَى إِلَى الْمُصَلَّى، وَإِنْ قُلْتُ: لَا قَالَ:
فَالْآنَ فَأَخْرِجْ، فَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي
هَذَا "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ سِيرِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَدْرِي مَا وَجْهُ هَذَا
التَّأْوِيلِ؟ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ
يَكُنْ بِمَكَّةَ عِيدٌ وَلَا زَكَاةُ فِطْرٍ (5) .
[قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُحْيِي السَّنَةِ رحمه الله] (6)
190/ب يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ سَابِقًا عَلَى
الْحُكْمِ كَمَا قَالَ: "وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ"
فَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَظَهَرَ أَثَرُ الْحِلِّ يَوْمَ
الْفَتْحِ حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
"أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ" (7) وَكَذَلِكَ نَزَلَ
بِمَكَّةَ: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ"
(الْقَمَرِ-45) قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كُنْتُ لَا
أَدْرِي أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) انظر: الطبري: 30 / 156، الدر المنثور: 8 / 484.
(2) أخرجه الطبري: 30 / 156.
(3) انظر: الدر المنثور: 8 / 485.
(4) ذكره صاحب الدر المنثور: 8 / 486 عن أبي الأحوص، وعزاه
لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير.
(5) قال صاحب زاد المسير: 9 / 92 "القول قول ابن عباس في
الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة ولا
عيد.
(6) في "أ" (قال الشيخ الإمام الأجل السيد محيي السنة، ناصر
الحديث، قدوة الأئمة، مظهر الإسلام، مفتي الشرق، الحسين بن
مسعود رحمة الله عليه) .
(7) قطعة من حديث "أخرجه مسلم في الحج، باب تحريم مكة وصيدها
وخلاها وشجرها ولقطتها برقم (1354) 2 / 988، والمصنف في شرح
السنة: 7 / 300-301.
(8/402)
يَثِبُ، فِي الدِّرْعِ وَيَقُولُ:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (1) "وَذَكَرَ
اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى" أَيْ: وَذَكَرَ رَبَّهُ فَصَلَّى،
قِيلَ: الذِّكْرُ: تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ، وَالصَّلَاةُ:
صَلَاةُ الْعِيدِ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ هَاهُنَا الدُّعَاءُ.
__________
(1) سبق في سورة القمر: 7 / 434.
(8/403)
بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
(17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) }
{بَلْ تُؤْثِرُونَ} قرأ أبو عمرو، وَيَعْقُوبُ: [يُؤْثِرُونَ]
(1) بِالْيَاءِ، يَعْنِي: الْأَشْقَيْنَ الَّذِينَ ذُكِرُوا،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، دَلِيلُهُ: قِرَاءَةُ
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا" [وَالْمُرَادُ بِـ"الْأَشْقَى" الْجَمْعُ، وَإِنْ
كَانَ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا
دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ صَارَ
مُسْتَغْرِقًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيَتَجَنَّبُهُ
الْأَشْقَوْنَ، ثُمَّ قَالَ: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا"] (2)
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} قَالَ عَرْفَجَةُ
الْأَشْجَعِيُّ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَرَأَ
هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ لَنَا: أَتَدْرُونَ لِمَ آثَرْنَا
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟ قُلْنَا: لَا قَالَ:
لِأَنَّ الدُّنْيَا أُحْضِرَتْ، وَعُجِّلَ لَنَا طَعَامُهَا
وَشَرَابُهَا وَنِسَاؤُهَا وَلَذَّاتُهَا وَبَهْجَتُهَا،
وَأَنَّ الْآخِرَةَ نُعِتَتْ لَنَا، وَزُوِيَتْ عَنَّا
فَأَحْبَبْنَا الْعَاجِلَ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ (3) .
{إِنَّ هَذَا} يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ: "قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى" [إِلَى تَمَامِ] (4) أَرْبَعِ آيَاتٍ،
{لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} أَيْ فِي الْكُتُبِ الْأُولَى
الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ، ذَكَرَ فِيهَا فَلَاحَ
الْمُتَزَكِّي وَالْمُصَلِّي، وَإِيثَارَ الْخَلْقِ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ
وَأَبْقَى.
ثُمَّ بَيَّنَ الصُّحُفَ فَقَالَ: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى} قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: هَذِهِ السُّورَةُ
فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى.
أخبرنا الإمام أبو علي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ
أَخْبَرَنَا
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) أخرجه الطبري: 30 / 157. وزاد صاحب الدر المنثور: 8 / 487
عزوه لابن المنذر والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان. وذكره
ابن كثير في تفسيره: 4 / 502 وقال: "وهذه منه على وجه التواضع
والهضم، أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو والله أعلم".
(4) ساقط من "ب".
(8/403)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ (3)
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْقِلٍ
الْمَيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى [بْنِ
أَيْوبَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا] (1)
يَحْيَى بْنُ أَيْوبَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ
بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُوتِرُ
بَعْدَهُمَا بِـ"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" وَ"قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" وَفِي الْوَتْرِ بِـ"قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ" وَ"قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" وَ"قُلْ
أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ" (2) . سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
مَكِّيَّةٌ (3) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) }
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} يَعْنِي: قَدْ أَتَاكَ
حَدِيثُ الْقِيَامَةِ، تَغْشَى كُلَّ شَيْءٍ بِالْأَهْوَالِ.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ
{خَاشِعَةٌ} ذَلِيلَةٌ.
{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي الَّذِينَ عَمِلُوا وَنَصَبُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى
غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ
وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِثْلَ الرُّهْبَانِ
وَغَيْرِهِمْ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا فِي
ضَلَالَةٍ، يَدْخُلُونَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ
قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَمَعْنَى النَّصَبِ: الدَّأْبُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّعَبِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا
بِالْمَعَاصِي، نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ (4) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَامِلَةٌ فِي النَّارِ نَاصِبَةٌ فِيهَا.
قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ تَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا،
فَأَعْمَلَهَا وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ بِمُعَالَجَةِ
السَّلَاسِلِ، وَالْأَغْلَالِ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ، وَهِيَ
رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (5) .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَخُوضُ فِي النَّارِ كَمَا تَخُوضُ
الْإِبِلُ فِي الْوَحْلِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَجْرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي
النَّارِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار: 1 / 285، والدارقطني
في السنن 1 / 24، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، 1 / 305
ووافقه الذهبي، وابن حبان، صفحة (175) من موارد الظمآن،
والبيهقي في السنن 2 / 37، والمصنف في شرح السنة: 3 / 99-100.
وأعله ابن الجوزي بيحيى بن أيوب، قال أبو حاتم: لا يحتج به،
وقد أنكر الإمام أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين، وروى ابن
السكن في "صحيحه" له شاهدا من حديث عبد الله بن سرجس بإسناد
غريب. انظر: تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي: 2 / 1060-1061،
تلخيص الحبير 2 / 18-19.
(3) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس
- رضي الله عنهما - قال: نزلت سورة الغاشية بمكة. وأخرج ابن
مردويه عن الزبير مثله. انظر: الدر المنثور: 8 / 490.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 491 لابن أبي حاتم.
(5) انظر: الطبري: 30 / 160.
(8/404)
تَصْلَى نَارًا
حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ
طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
[وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُكَلَّفُونَ
ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي النَّارِ] (1)
وَالْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى "الْوُجُوهِ" وَالْمُرَادُ مِنْهَا
أَصْحَابُهَا.
{تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ
(5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) }
{تَصْلَى نَارًا} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَبُو بَكْرٍ:
"تُصْلَى" بِضَمِّ التَّاءِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: "تُسْقَى
مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ" [وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ
{نَارًا حَامِيَةً} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ حَمِيَتْ
فَهِيَ تَتَلَظَّى عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ.
{تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْحَرَارَةِ
قَدْ أُوقِدَتْ عَلَيْهَا جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ،
فَدُفِعُوا إِلَيْهَا [وِرْدًا] (2) عِطَاشًا. قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا قَطْرَةٌ عَلَى
جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ. هَذَا شَرَابُهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ
طَعَامَهُمْ فَقَالَ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ
ضَرِيعٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هُوَ
نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لَاطِئٍ بِالْأَرْضِ، تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ
الشَّبْرَقَ فَإِذَا هَاجَ سُمَّوْهَا الضَّرِيعَ، (3) وَهُوَ
أَخْبَثُ طَعَامٍ وَأَبْشَعُهُ. وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَقْرَبُهُ
دَابَّةٌ إِذَا يَبِسَ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ
"الضَّرِيعَ" الشَّوْكُ الْيَابِسُ الَّذِي يَبِسَ لَهُ
وَرَقٌ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ شَوْكٌ مِنْ نَارٍ (4) وَجَاءَ
فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الضَّرِيعُ: شَيْءٌ فِي
النَّارِ [شِبْهُ] (5) الشَّوْكِ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ،
وَأَنْتُنُّ مِنَ الْجِيفَةِ، وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ"
(6) .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَالْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعَ حَتَّى
يَعْدِلَ عِنْدَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ،
فَيَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِالضَّرِيعِ، ثُمَّ
يَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ،
فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ الْغُصَصَ فِي
الدُّنْيَا بِالْمَاءِ، فَيَسْتَسْقُونَ، فَيُعْطِشُهُمْ
أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُسْقُونَ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ شَرْبَةً
لَا هَنِيئَةَ وَلَا مَرِيئَةَ، فَلَمَّا أَدْنَوْهُ مِنْ
وُجُوهِهِمْ، سَلَخَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ وَشَوَاهَا، فَإِذَا
وَصَلَ إِلَى بُطُونِهِمْ قَطَعَهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ
جَلَّ: "وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ" (7)
(مُحَمَّدٍ-15) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) في "أ" وردوا.
(3) أخرجه الطبري: 30 / 161-162.
(4) أخرجه الطبري: 30 / 162.
(5) في "ب" يشبه.
(6) عزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 492-493 لابن مردويه بسند
واه.
(7) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 492 لابن مرديه.
(8/408)
لَا يُسْمِنُ وَلَا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا
تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
{لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
(7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ
(9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً
(11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ
(13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ
(15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) }
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ إِبِلَنَا لَتَسْمَنُ عَلَى
الضَّرِيعِ، وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِبِلَ
إِنَّمَا تَرْعَاهُ مَا دَامَ رَطْبًا، وَتُسَمَّى "شَبْرَقًا"
فَإِذَا يَبِسَ لَا يَأْكُلُهُ شَيْءٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
{لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}
ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فَقَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاعِمَةٌ} قَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ.
{لِسَعْيِهَا} فِي الدُّنْيَا {رَاضِيَةٌ} فِي الْآخِرَةِ
حِينَ أُعْطِيَتِ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهَا. {فِي جَنَّةٍ
عَالِيَةٍ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} لَغْوٌ وَبَاطِلٌ،
قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ: "لَا يُسْمَعُ"
بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا، "لَاغِيَةٌ" رَفْعٌ. وَقَرَأَ نَافِعٌ
"لَا تُسْمَعُ" بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا، "لَاغِيَةٌ" رَفْعٌ،
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ وَفَتَحِهَا "لَاغِيَةً"
[بِالنَّصْبِ] (1) عَلَى الْخِطَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا
سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْوَاحُهَا مِنْ
ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ،
مُرْتَفِعَةٌ مَا لَمْ يَجِيءْ أَهْلُهَا، فَإِذَا أَرَادَ
أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا تَوَاضَعَتْ لَهُ حَتَّى يَجْلِسَ
عَلَيْهَا، ثُمَّ تَرْتَفِعُ إِلَى مَوَاضِعِهَا.
{وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} عِنْدَهُمْ، جَمْعُ كُوبٍ، وَهُوَ
الإبريق الذي 191/ألَا عُرْوَةَ لَهُ.
{وَنَمَارِقُ} وَسَائِدُ وَمَرَافِقُ {مَصْفُوفَةٌ} بَعْضُهَا
بِجَنْبِ بَعْضٍ، وَاحِدَتُهَا "نُمْرُقَةٌ" بِضَمِّ النُّونِ.
{وَزَرَابِيُّ} يَعْنِي الْبُسُطَ الْعَرِيضَةَ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: هِيَ الطَّنَافِسُ الَّتِي لَهَا خُمُلٌ
وَاحِدَتُهَا زَرْبِيَّةٌ، {مَبْثُوثَةٌ} مَبْسُوطَةٌ، وَقِيلَ
مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْمَجَالِسِ.
{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} قَالَ
أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا نَعَتَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِي الْجَنَّةِ عَجِبَ مِنْ ذَلِكَ
أَهْلُ الْكُفْرِ وَكَذَّبُوهُ، فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى صُنْعَهُ فَقَالَ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى
الْإِبِلِ} [مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ] (2) {كَيْفَ
خُلِقَتْ} وَكَانَتِ الْإِبِلُ مِنْ عَيْشِ الْعَرَبِ (3)
__________
(1) في "ب" نصب.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) انظر: الطبري: 30 / 165، الدر المنثور: 8 / 494.
(8/409)
وَإِلَى السَّمَاءِ
كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ،
فَلَمَّا صَنَعَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا صَنَعَ لِأَهْلِ
الْجَنَّةِ فِيهَا مَا صَنَعَ.
وَتَكَلَّمَتِ الْحُكَمَاءُ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْإِبِلِ
مِنْ بَيْنٍ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ؛ فَقَالَ مُقَاتِلٌ:
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بَهِيمَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا،
وَلَمْ [يُشَاهِدِ] (1) الْفِيلَ إِلَّا الشَّاذُّ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لِأَنَّهَا تَنْهَضُ بِحِمْلِهَا وَهِيَ
بَارِكَةٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ارْتِفَاعَ سُرُرِ
الْجَنَّةِ وَفُرُشِهَا، فَقَالُوا: كَيْفَ نَصْعَدُهَا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ لَهُ:
الْفِيلُ أَعْظَمُ فِي الْأُعْجُوبَةِ؟ فَقَالَ: أَمَّا
الْفِيلُ فَالْعَرَبُ بَعِيدَةُ الْعَهْدِ بِهَا. ثُمَّ هُوَ
[لَا خَيْرَ فِيهِ] (2) لَا يُرْكَبُ ظَهْرُهَا وَلَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهَا وَلَا يُحْلَبُ دَرُّهَا، وَالْإِبِلُ أَعَزُّ مَالٍ
لِلْعَرَبِ وَأَنْفَسُهَا تَأْكُلُ النَّوَى وَالْقَتَّ
وَتُخْرِجُ اللَّبَنَ.
وَقِيلَ: [إِنَّهَا] (3) مَعَ عِظَمِهَا تَلِينُ لِلْحِمْلِ
الثَّقِيلِ وَتَنْقَادُ لِلْقَائِدِ الضَّعِيفِ، حَتَّى إِنَّ
الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ يَأْخُذُ بِزِمَامِهَا فَيَذْهَبُ بِهَا
حَيْثُ شَاءَ، وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ: اخْرُجُوا
بِنَا إلى [كناسة اسطبل] (4) حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ (5) .
{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
}
{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى
لَا يَنَالَهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ عَمْدٍ.
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
[مُرْسَاةً] (6) لَا تَزُولُ.
{وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [بُسِطَتْ] (7) قَالَ
عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَ الْإِبِلِ، أَوْ يَرْفَعَ مِثْلَ السَّمَاءِ،
أَوْ يَنْصِبَ مِثْلَ الْجِبَالِ، أَوْ يَسْطَحَ مِثْلَ
الْأَرْضِ غَيْرِي؟.
__________
(1) في "ب" يشاهدوا.
(2) في "ب" خنزير لأنه.
(3) في "ب" لأنها.
(4) في "ب" الكناسة.
(5) أخرجه الطبري: 30 / 165.
(6) في "ب" مرسلة.
(7) ساقط من "ب".
(8/410)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا
أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ
الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى
وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ
(24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا
حِسَابَهُمْ (26) }
{فَذَكِّرْ} [أَيْ: عِظْ يَا مُحَمَّدُ] (1) {إِنَّمَا أَنْتَ
مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} بِمُسَلَّطٍ
فَتَقْتُلَهُمْ وَتُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. نَسَخَتْهَا
آيَةُ الْقِتَالِ (2) .
{إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ
عَمَّا قَبْلَهُ، مَعْنَاهُ: لَكِنَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ
بَعْدَ التَّذْكِيرِ.
{فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} وَهُوَ أَنْ
يُدْخِلَهُ النَّارَ وَإِنَّمَا قَالَ "الْأَكْبَرَ"
لِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ
وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.
{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} رُجُوعَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ،
يقال آب يؤب أَوْبًا وإِيَابًا، وقرأ أبو جعفر: "إِيَّابَهُمْ"
بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهُوَ شَاذٌّ لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ
غَيْرُ الزَّجَّاجِ فَإِنَّهُ قَالَ يُقَالُ: أَيَبَ
إِيَّابَا، عَلَى: فَعَلَ فِيعَالًا.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} يَعْنِي جَزَاءَهُمْ
بَعْدَ الْمَرْجِعِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) نقل هذا عن قتادة: الطبري في التفسير: 10 / 135. ثم رد
القول بالنسخ بكلام نفيس قال فيه: "والذي قاله قتادة غير مدفوع
إمكانه، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان
نافيا كل معاني خلافه، الذي كان قبله.
فأما ما كان غير ناف جميعه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا
بخبر من الله جلّ وعزّ، أو من رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وليس في قوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون" (التوبة) دلالة على الأمر بنفي معاني الصفح والعفو عن
اليهود، وإن كان ذلك كذلك - وكان جائزا مع إقرارهم بالصغار
وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمر بالعفو عنهم في غدرة هموا
بها، أو نكثة عزموا عليها، ما لم يصيبوا حربا دون أداء الجزية،
ويمتنعوا من الأحكام اللازمة منهم - لم يكن واجبا أن يحكم
لقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... "
الآية، بأنه ناسخ قوله: "فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب
المحسنين".
وقال الزركشي، رحمه الله، في كتابه "البرهان في علوم القرآن":
"ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف من
أنها منسوخة بآية السيف قول ضعيف، فهو من المُنْسأ - بضم الميم
- بمعنى: أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما، لعلة توجب ذلك
الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، ليس بنسخ،
إنما النسخ: الإزالة، حتى لا يجوز امتثاله أبدا.. فليس حكم
المسايفة ناسخا لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في
وقته". انظر: البرهان للزركشي: 2 / 43-44، علوم القرآن للدكتور
عدنان محمد زرزور ص (210-212) .
(8/411)
وَالْفَجْرِ (1)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
سُورَةُ الْفَجْرَ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ (3) }
{وَالْفَجْرِ} أَقْسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْفَجْرِ،
رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ
انْفِجَارُ الصُّبْحِ كُلَّ يَوْمٍ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ،
وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنْهُ: صَلَاةُ الْفَجْرِ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: هُوَ فَجْرُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
تَنْفَجِرُ مِنْهُ السَّنَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَجْرُ ذِي
الْحِجَّةِ لِأَنَّهُ [قُرِنَتْ] (2) بِهِ اللَّيَالِي
الْعَشْرُ.
{وَلَيَالٍ عَشْرٍ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا
الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ
مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ،
والكلبي.
وقال أبو روق عَنِ الضَّحَّاكِ: هِيَ الْعَشْرُ [الْأَوَاخِرُ]
(3) مِنْ شَهْرِ رمضان.
وروى أبو ظبيان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ الْعَشْرُ
[الْأَوَائِلُ] (4) مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رَبَابٍ: هِيَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنَ
الْمُحَرَّمِ الَّتِي عَاشِرُهَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ (5) .
{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ:
"الْوِتْرُ" بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِفَتْحِهَا،
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس في "ناسخه" وابن مردويه والبيهقي
من طرق عن ابن عباس قال: نزلت (والفجر) بمكة. انظر: الدر
المنثور: 8 / 497.
(2) في "ب" قرن.
(3) في "ب" الأول.
(4) في "ب" الأواخر.
(5) ساق أبو جعفر بعض هذه الأقوال: 30 / 169 ثم قال مرجحا:
"والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة
من أهل التأويل عليه، وأن عبد الله بن أبي زياد القطواني حدثني
قال: حدثني زيد بن حباب، قال: أخبرن عباس بن عقبة، قال: حدثني
جبير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر، أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (والفجر وليال عشر) قال: عشر
الأضحى".
(8/412)
وَاخْتَلَفُوا فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ.
قِيلَ: "الشَّفْعُ: الْخَلْقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
"وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا" وَ"الْوَتْرُ" هُوَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ [ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ]
(1) أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَطِيَّةَ
الْعَوْفِيِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ: "الشَّفْعُ" الْخَلْقُ
كُلُّهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ" (الذَّارِيَاتِ-49) الْكَفْرَ
وَالْإِيمَانَ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةَ، وَالسَّعَادَةَ
وَالشَّقَاوَةَ، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالسَّمَاءَ
وَالْأَرْضَ، وَالْبَرَّ وَالْبَحْرَ، وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ، وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَالْوَتْرُ هُوَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ" (الْإِخْلَاصِ-1) .
قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: "الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ"
الْخَلْقُ كُلُّهُ، مِنْهُ شَفْعٌ، وَمِنْهُ وَتْرٌ.
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ الْعَدَدُ
مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وَتْرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَمَا
الصَّلَوَاتُ مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ. وَرَوَى ذَلِكَ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَى عَطِيَّةُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّفْعُ صَلَاةُ الْغَدَاةِ،
وَالْوَتْرُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ.
وعن عبد الله بن الزُّبَيْرِ قَالَ: "الشَّفْعُ" يَوْمُ
النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَ"الْوَتَرُ" يَوْمُ النَّفْرِ
الْأَخِيرِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنِ الشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ وَاللَّيَالِيَ الْعَشْرَ؟ فَقَالَ: أَمَّا
الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ: فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
"فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ" (الْبَقَرَةِ-203)
فَهُمَا الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ، وَأَمَّا اللَّيَالِي
الْعَشْرُ: فَالثَّمَانِ وَعَرَفَةُ وَالنَّحْرُ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: "الشَّفْعُ" الْأَيْامُ
وَاللَّيَالِي، وَ"الْوَتَرُ" الْيَوْمُ الَّذِي لَا لَيْلَةَ
بَعْدَهُ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: "الشَّفْعُ" دَرَجَاتُ
الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا ثَمَانٍ، وَ"الْوَتَرُ" دِرْكَاتُ
النَّارِ لِأَنَّهَا سَبْعٌ، كَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالْجَنَّةِ
والنار.
وسئل أبو بكر الْوَرَّاقُ عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فَقَالَ:
"الشَّفْعُ" تَضَادُّ [أَخْلَاقِ] (2) الْمَخْلُوقِينَ مِنَ
الْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ، وَالْقُوَّةِ
وَالضَّعْفِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالْبَصَرِ
وَالْعَمَى، وَ"الْوَتْرُ" انْفِرَادُ صِفَاتِ اللَّهِ عِزٌ
بِلَا ذُلٍّ، وَقُدْرَةٌ بِلَا عَجْزٍ، وَقُوَّةٌ بِلَا
ضَعْفٍ، وَعِلْمٌ بِلَا جَهْلٍ، وَحَيَاةٌ بِلَا مَمَاتٍ (3) .
__________
(1) زيادة من "أ".
(2) في "ب" أوصاف.
(3) ذكر الطبري بعض هذه الأقوال: 30 / 169-172 ثم قال:
"والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم
بالشفع والوتر، ولم يخصص نوعا من الشفع ولا من الوتر دون نوع
بخبر ولا عقل، وكل شفع ووتر فهو مما أقسم به مما قال أهل
التأويل أنه داخل في قسمه هذا لعموم قسمه بذلك".
(8/416)
وَاللَّيْلِ إِذَا
يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ (7)
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي (4) هَلْ فِي
ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) }
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} أَيْ إِذَا سَارَ وَذَهَبَ كَمَا
قَالَ تَعَالَى "وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ"
(الْمُدَّثِّرِ-33) وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا جَاءَ
وَأَقْبَلَ، وَأَرَادَ كُلَّ لَيْلَةٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ لَيْلَةُ
الْمُزْدَلِفَةِ.
قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ، وَالْبَصْرَةِ: "يَسْرِي"
بِالْيَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَيَقِفُ ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ
بِالْيَاءِ أَيْضًا، وَالْبَاقُونَ يَحْذِفُونَهَا فِي
الْحَالَيْنِ، فَمَنْ حَذَفَ فَلِوِفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ،
وَمَنْ أَثْبَتَ فَلِأَنَّهَا لَامُ الْفِعْلِ، وَالْفِعْلُ
لَا يُحْذَفُ مِنْهُ فِي الْوَقْفِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: هُوَ
يَقْضِي وَأَنَا أَقْضِي. وَسُئِلَ الْأَخْفَشُ عن العلة 191/ب
فِي سُقُوطِ الْيَاءِ؟ فَقَالَ: اللَّيْلُ لَا يَسْرِي،
وَلَكِنْ يُسْرَى فِيهِ، فَهُوَ مَصْرُوفٌ، فَلَمَّا صَرَفَهُ
بَخَسَهُ حَقَّهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، كَقَوْلِهِ: "وَمَا
كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" وَلَمْ يَقُلْ: "بَغِيَّةٌ"
لِأَنَّهَا صُرِّفَتْ مِنْ بَاغِيَةٍ.
{هَلْ فِي ذَلِكَ} أَيْ فِيمَا ذَكَرْتُ {قَسَمٌ} أَيْ:
مَقْنَعٌ وَمُكْتَفًى فِي الْقَسَمِ {لِذِي حِجْرٍ} لِذِي
عَقْلٍ (1) سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ
عَمًّا لَا يَحِلُّ وَلَا يَنْبَغِي، [كَمَا يُسَمَّى عَقْلًا
لِأَنَّهُ يَعْقِلُهُ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَنُهًى لِأَنَّهُ
يَنْهَى عَمَّا لَا يَنْبَغِي] (2) وَأَصْلُ "الْحَجْرِ"
الْمَنْعُ: وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: "إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ" وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ} قَالَ الفَرَّاءُ:
أَلَمْ تُخْبَرْ؟ وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَلَمْ تَعْلَمْ؟
وَمَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ. {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
إِرَمَ} يُخَوِّفُ أَهْلَ مَكَّةَ، يَعْنِي: كَيْفَ
أَهْلَكَهُمْ، وَهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ أَعْمَارًا وَأَشَدَّ
قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: "إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ" دِمَشْقُ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: هِيَ أُمَّةٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا: الْقَدِيمَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ: هُمْ قَبِيلَةٌ مِنْ عَادٍ
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ فِيهِمُ الْمُلْكُ، وَكَانُوا
[بِمَهَرَةَ] (3) وَكَانَ عَادٌ أَبَاهُمْ، فَنَسَبَهُمْ
إِلَيْهِ، وَهُوَ إِرَمُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ
بْنِ نُوحٍ.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري 30 / 174، شعب الإيمان للبيهقي: 8 /
528.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) مهرة: بالتحريك وقد تسكن الهاء - وهي قبيلة مهرة بن حيدان
بن عمرو من قضاعة، وباليمن لهم مخلاف ينسب إليهم. معجم
البلدان: 5 / 230.
(8/417)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا
الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ
جَدٌّ عَادٍ، وَهُوَ عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ
بْنِ نُوحٍ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: "إِرَمَ" هُوَ الَّذِي يَجْتَمِعُ
إِلَيْهِ نَسَبُ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَهْلِ الْجَزِيرَةِ، كَانَ
يُقَالُ: عَادُ إِرَمَ، وَثَمُودُ إِرَمَ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ
عَادًا ثُمَّ ثَمُودَ، وَبَقِيَ أَهْلُ السَّوَادِ
وَالْجَزِيرَةِ، وَكَانُوا أَهْلَ عُمُدٍ وَخِيَامٍ
وَمَاشِيَةٍ سَيَّارَةٍ فِي الرَّبِيعِ، فَإِذَا هَاجَ
الْعُودُ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ
جِنَانِ وَزُرُوعٍ، وَمَنَازِلُهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، وَهِيَ
الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ فِيهَا:
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) }
{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} وَسُمُّوا
ذَاتَ الْعِمَادِ [لِهَذَا] (2) لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ
عُمُدٍ سَيَّارَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ
وَالْكَلْبِيِّ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمُّوا ذَاتَ الْعِمَادِ لِطُولِ
قَامَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي طُولَهُمْ مِثْلَ
الْعِمَادِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُ أَحَدِهِمُ
اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا. وَقَوْلُهُ {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا
فِي الْبِلَادِ} أَيْ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ
الْقَبِيلَةِ فِي الطُّولِ وَالْقُوَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ
قَالُوا: "مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً".
وَقِيلَ: سُمُّوا ذَاتَ الْعِمَادِ لِبِنَاءٍ بَنَاهُ
بَعْضُهُمْ فَشَيَّدَ [عِنْدَهُ] (3) وَرَفَعَ بِنَاءَهُ،
يُقَالُ: بَنَاهُ شَدَّادُ بْنُ عَادٍ عَلَى صِفَةٍ لَمْ
يُخْلَقْ فِي الدُّنْيَا مِثْلُهُ، وَسَارَ إِلَيْهِ فِي
قَوْمِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ مَعَهُ
صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا.
{وَثَمُودَ} أَيْ: وَبِثَمُودَ، {الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ}
قَطَّعُوا الْحَجَرَ، وَاحِدَتُهَا: صَخْرَةٌ، {بِالْوَادِ}
يَعْنِي [وَادِي الْقُرَى] (4) كَانُوا يَقْطَعُونَ الْجِبَالَ
فَيَجْعَلُونَ فِيهَا بُيُوتًا. وَأَثْبَتَ ابْنُ كَثِيرٍ
وَيَعْقُوبُ الْيَاءَ فِي الْوَادِي وَصْلًا وَوَقْفًا عَلَى
الْأَصْلِ، وَأَثْبَتَهَا وَرْشٌ وَصْلًا وَالْآخَرُونَ
بِحَذْفِهَا فِي الْحَالَيْنِ عَلَى وَفْقِ رُءُوسِ الْآيِ.
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} سُمِّي بِذَلِكَ لِأَنَّهُ
كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ، وَقَدْ
__________
(1) سيرة ابن هشام: 1 / 8.
(2) زيادة من "ب".
(3) في "ب" عنده.
(4) وهو واد بين المدينة والشام. معجم البلدان: 5 / 345.
(8/418)
ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ (ص) (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق
الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا
مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلَوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنِ ابْنِ سَمْعَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا سُمِّيَ "ذِي
الْأَوْتَادِ" لِأَنَّهُ كَانَتِ امْرَأَةٌ، وَهِيَ امْرَأَةُ
خَازِنِ فِرْعَوْنَ حِزْبِيلَ، وَكَانَ مُؤْمِنًا كَتَمَ
إِيمَانَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ مَاشِطَةُ
بِنْتِ فِرْعَوْنَ، فَبَيْنَمَا هِيَ ذَاتَ يَوْمٍ تُمَشِّطُ
رَأْسَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ إِذْ سَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا،
فَقَالَتْ: تَعِسَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، فَقَالَتْ بِنْتُ
فِرْعَوْنَ: وَهَلْ لَكِ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُ أَبِي؟ فَقَالَتْ:
إِلَهِي وَإِلَهُ أَبِيكِ وَإِلَهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَامَتْ فَدَخَلَتْ عَلَى
أَبِيهَا وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ:
الْمَاشِطَةُ امْرَأَةُ خَازِنِكَ تَزْعُمُ أَنَّ إِلَهَكَ
وَإِلَهَهَا وَإِلَهَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاحِدٌ لَا
شَرِيكَ لَهُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ،
فَقَالَتْ: صَدَقَتْ، فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ اكْفُرِي
بِإِلَهِكِ وَأَقِرِّي بِأَنِّي إِلَهُكِ، قَالَتْ: لَا
أَفْعَلُ فَمَدَّهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، ثُمَّ
أَرْسَلَ عَلَيْهَا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ، وَقَالَ
لَهَا: اُكْفُرِي بِإِلَهِكِ وَإِلَّا عَذَّبْتُكِ بِهَذَا
الْعَذَابِ شَهْرَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ: وَلَوْ عَذَّبَتْنِي
سَبْعِينَ شَهْرًا مَا كَفَرْتُ بِاللَّهِ. وَكَانَ لَهَا
ابْنَتَانِ فَجَاءَ بِابْنَتِهَا الْكُبْرَى فَذَبَحَهَا عَلَى
قُرْبٍ مِنْهَا. وَقَالَ لَهَا: اُكْفُرِي بِاللَّهِ وَإِلَّا
ذَبَحْتُ الصُّغْرَى عَلَى قَلْبِكِ، وَكَانَتْ رَضِيعًا،
فَقَالَتْ: لَوْ ذَبَحْتَ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَلَى
فِيِّ مَا كَفَرْتُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَتَى
بِابْنَتِهَا الصُّغْرَى فَلَمَّا أُضْجِعَتْ عَلَى صَدْرِهَا
وَأَرَادُوا ذَبْحَهَا جَزِعَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَطْلَقَ
اللَّهُ لِسَانَ ابْنَتِهَا فَتَكَلَّمَتْ، وَهِيَ مِنَ
الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا أَطْفَالًا وَقَالَتْ:
يَا أُمَّاهُ لَا تَجْزَعِي فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَنَى لَكِ
بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. اصْبِرِي فَإِنَّكِ تُفْضِينَ إِلَى
رَحْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَذُبِحَتْ فَلَمْ تَلْبَثْ
أَنْ مَاتَتْ فَأَسْكَنَهَا اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ:
وَبَعَثَ فِي طَلَبِ زَوْجِهَا حِزْبِيلَ فَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِفِرْعَوْنَ: إِنَّهُ قَدْ رُئِيَ فِي
مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فِي جَبَلِ كَذَا، فَبَعَثَ رَجُلَيْنِ
فِي طَلَبِهِ فَانْتَهَيَا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي وَيَلِيهِ
صُفُوفٌ مِنَ الْوُحُوشِ خَلْفَهُ يُصَلُّونَ، فَلَمَّا
رَأَيَا ذَلِكَ انْصَرَفَا، فَقَالَ حِزْبِيلُ: اللَّهُمَّ
إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كَتَمْتُ إِيمَانِي مِائَةَ سَنَةٍ،
وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيَّ أحد، فأيما هذان الرَّجُلَيْنِ كَتَمَ
عَلَيَّ فَاهْدِهِ إِلَى دِينِكَ وَأَعْطِهِ مِنَ الدُّنْيَا
سُؤْلَهُ، وَأَيُّمَا هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَظْهَرَ عَلَيَّ
فَعَجِّلْ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَاجْعَلْ مَصِيرَهُ فِي
الْآخِرَةِ إِلَى النَّارِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلَانِ إِلَى
فِرْعَوْنَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَاعْتَبَرَ وَآمَنَ،
وَأَمَّا الْآخَرَ فَأَخْبَرَ فِرْعَوْنَ بِالْقِصَّةِ عَلَى
رُءُوسِ الْمَلَأِ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: وَهَلْ كَانَ
مَعَكَ غَيْرُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فُلَانٌ، فَدَعَا بِهِ
فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: لَا مَا رَأَيْتُ
مِمَّا قَالَ شَيْئًا فَأَعْطَاهُ فِرْعَوْنُ وَأَجْزَلَ،
وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ صَلَبَهُ.
__________
(1) راجع فيما سبق: 7 / 74.
(8/419)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي
الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ (14)
قَالَ: وَكَانَ فِرْعَوْنُ قَدْ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهَا
"آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ" فَرَأَتْ مَا صَنَعَ فِرْعَوْنُ
بِالْمَاشِطَةِ، فَقَالَتْ: وَكَيْفَ يَسَعُنِي أَنْ أَصْبِرَ
عَلَى مَا يَأْتِي بِهِ فِرْعَوْنُ، وَأَنَا مُسْلِمَةٌ وَهُوَ
كَافِرٌ؟ فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ تُؤَامِرُ نَفْسَهَا إِذْ
دَخَلَ عَلَيْهَا فِرْعَوْنُ فَجَلَسَ قَرِيبًا مِنْهَا،
فَقَالَتْ: يَا فِرْعَوْنُ أَنْتَ شَرُّ، الْخَلْقِ
وَأَخْبَثُهُمْ عَمَدْتَ إِلَى الْمَاشِطَةِ فَقَتَلْتَهَا،
قَالَ: فَلَعَلَّ بِكِ الْجُنُونَ الَّذِي كَانَ بِهَا
قَالَتْ: مَا بِي مِنْ جُنُونٍ، وَإِنَّ إِلَهِي وإلهها وإلهك
192/أوَإِلَهَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ
لَهُ، فَمَزَّقَ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا وَضَرَبَهَا وَأَرْسَلَ
إِلَى أَبَوَيْهَا فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَلَّا
تَرَيَانِ أَنَّ الْجُنُونَ الَّذِي كَانَ بِالْمَاشِطَةِ
أَصَابَهَا؟ قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِنِّي
أَشْهَدُ أَنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ وَرَبَّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ لَهَا
أَبُوهَا: يَا آسِيَةُ أَلَسْتِ مِنْ خَيْرِ نِسَاءِ
[الْعَمَالِيقِ] (1) وَزَوْجُكِ إِلَهُ الْعَمَالِيقِ؟ قَالَتْ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ حَقًّا
فَقُولَا لَهُ أَنْ يُتَوِّجَنِي تَاجًا تَكُونُ الشَّمْسُ
أَمَامَهُ وَالْقَمَرُ خَلْفَهُ وَالْكَوَاكِبُ حَوْلَهُ،
فَقَالَ لَهُمَا فِرْعَوْنُ: اخْرُجَا عَنِّي، فَمَدَّهَا
بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ يُعَذِّبُهَا، فَفَتَحَ اللَّهُ
لَهَا بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ لِيُهَوِّنَ عَلَيْهَا مَا
يَصْنَعُ بِهَا فِرْعَوْنُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتْ: "رَبِّ
ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ
فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ" (التَّحْرِيمِ-11) فَقَبَضَ اللَّهُ رُوحَهَا
وَأَسْكَنَهَا الْجَنَّةَ (2) .
{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ
(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) }
{الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} يَعْنِي عَادًا وَثَمُودَ
وَفِرْعَوْنَ، عَمِلُوا فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي
وَتَجَبَّرُوا. {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي
لَوْنًا مِنَ الْعَذَابِ صَبَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ أَهْلُ
الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ السَّوْطَ
عِنْدَهُمْ غَايَةُ الْعَذَابِ، فَجَرَى ذَلِكَ لِكُلِّ نَوْعٍ
مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلَ سَوْطَهُ
الَّذِي ضَرَبَهُمْ بِهِ الْعَذَابَ.
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي بِحَيْثُ يَرَى وَيَسْمَعُ وَيُبْصِرُ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَلَيْهِ طَرِيقُ الْعِبَادِ لَا
يَفُوتُهُ أَحَدٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَمَرُّ النَّاسِ
عَلَيْهِ، وَالْمِرْصَادُ، وَالْمَرْصَدُ: الطَّرِيقُ.
وَقِيلَ: مَرْجِعُ الْخَلْقِ إِلَى حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ
وَإِلَيْهِ مَصِيرُهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: يَرْصُدُ أَعْمَالَ بَنِي
آدَمَ.
__________
(1) في "ب" العالمين.
(2) أثر موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه إسحاق بن
بشر، كذبه ابن أبي شيبة وأبو زرعة. وكأن هذا الأثر متلقى عن
أهل الكتاب، والله أعلم.
(8/420)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ
إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ
شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، كَمَا لَا يَفُوتُ مَنْ
هُوَ بِالْمِرْصَادِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرْصَدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى
طَرِيقِهِمْ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ.
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي (15)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ
الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
(18) }
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} امْتَحَنَهُ
{رَبُّهُ} بِالنِّعْمَةِ {فَأَكْرَمَهُ} بِالْمَالِ
{وَنَعَّمَهُ} بِمَا وَسَّعَ عَلَيْهِ {فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ} بِمَا أَعْطَانِي.
{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} بِالْفَقْرِ {فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ} قرأ أبو جعفر وَابْنُ عَامِرٍ "فَقَدَّرَ"
بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ،
وَهُمَا لُغَتَانِ، أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ. وَقِيلَ:
"قَدَّرَ" بِمَعْنَى قَتَّرَ وَأَعْطَاهُ قَدْرَ مَا
يَكْفِيهِ. {فَيَقُولُ، رَبِّي أَهَانَنِ} أَذَلَّنِي
بِالْفَقْرِ. وَهَذَا يَعْنِي بِهِ الْكَافِرَ، تَكُونُ
الْكَرَامَةُ وَالْهَوَانُ عِنْدَهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ
وَالْحَظِّ فِي الدُّنْيَا وَقِلَّتِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ
وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ
الْكَافِرِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ سَعَةَ
الرِّزْقِ إِكْرَامٌ وَأَنَّ الْفَقْرَ إِهَانَةٌ، فَقَالَ
{كَلَّا} لَمْ أَبْتَلِهِ بِالْغِنَى لِكَرَامَتِهِ، وَلَمْ
أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ
الْإِكْرَامَ وَالْإِهَانَةَ لَا تَدُورُ عَلَى الْمَالِ
وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَلَكِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى
بِتَقْدِيرِهِ، فَيُوَسِّعُ عَلَى الْكَافِرِ لَا
لِكَرَامَتِهِ، وَيُقَدِّرُ عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا
لِهَوَانِهِ، إِنَّمَا يُكْرِمُ الْمَرْءَ بِطَاعَتِهِ
وَيُهِينُهُ بِمَعْصِيَتِهِ.
قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ "أَكْرَمَنِي
وَأَهَانَنِي" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَيَقِفُ
ابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ أَيْضًا، وَالْآخَرُونَ
يَحْذِفُونَهَا وَصْلًا وَوَقْفًا.
{بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ:
"يُكْرِمُونَ، وَيَحُضُّونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيُحِبُّونَ"
بِالْيَاءِ فِيهِنَّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، "لَا
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ" لَا تُحْسِنُونَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ:
لَا تُعْطُونَهُ حَقَّهُ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ يَتِيمًا فِي
حِجْرِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَكَانَ يَدْفَعُهُ عَنْ
حَقِّهِ.
{وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أَيْ لَا
تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ
الْكُوفَةِ: "تَحَاضُّونَ" بِفَتْحِ الْحَاءِ وَأَلِفٍ
بَعْدَهَا، أَيْ لَا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ (1)
.
__________
(1) في الأصل اختار المؤلف قراءة (يحضون) .
(8/421)
وَتَأْكُلُونَ
التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا
جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا
(21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ
يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا
(19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا
دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى
لَهُ الذِّكْرَى (23) }
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} أَيِ الْمِيرَاثَ {أَكْلًا لَمًّا}
شَدِيدًا وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ غَيْرِهِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا
الصِّبْيَانَ، وَيَأْكُلُونَ نَصِيبَهُمْ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَكْلُ اللَّمُّ: الَّذِي يَأْكُلُ
كُلَّ شَيْءٍ يَجِدُهُ، لَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَحَلَالٌ هُوَ
أَمْ حَرَامٌ؟ وَيَأْكُلُ الَّذِي لَهُ وَلِغَيْرِهِ، يُقَالُ:
لَمَمْتُ مَا عَلَى الْخِوَانِ إِذَا أَتَيْتُ مَا عَلَيْهِ
فَأَكَلْتُهُ.
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أَيْ كَثِيرًا،
يَعْنِي: تُحِبُّونَ جَمْعَ الْمَالِ وَتُولَعُونَ بِهِ،
يُقَالُ: جَمَّ الْمَاءُ فِي الْحَوْضِ، إِذَا كَثُرَ
وَاجْتَمَعَ.
{كَلَّا} مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ لَا يَفْعَلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ
فِي الْيَتِيمِ، وَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، ثُمَّ أَخْبَرَ
عَنْ تَلَهُّفِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ حِينَ لَا
يَنْفَعُهُمْ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِذَا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَكُسِرَ
كُلُّ شَيْءٍ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ وَشَجَرٍ،
فَلَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا شَيْءٌ.
{وَجَاءَ رَبُّكَ} قَالَ الْحَسَنُ: جَاءَ أَمْرُهُ
وَقَضَاؤُهُ (1) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَنْزِلُ {وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا} قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ صُفُوفَ
الْمَلَائِكَةِ، وَأَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ صَفٌّ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ إِذَا نَزَلُوا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا صَفًا مُخْتَلِطِينَ بِالْأَرْضِ
وَمَنْ فِيهَا فَيَكُونُ سَبْعَ صُفُوفٍ (2) .
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قال عبد الله بن مَسْعُودٍ،
وَمُقَاتِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: [جِيءَ بِهَا تُقَادُ
بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ
أَلْفَ مَلَكٍ يَقُودُونَهَا] (3) لَهَا تَغَيُّظٌ وَزَفِيرٌ
حَتَّى تُنْصَبَ عَلَى يَسَارِ الْعَرْشِ {يَوْمَئِذٍ} يَعْنِي
يَوْمَ يُجَاءُ بِجَهَنَّمَ {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ}
يَتَّعِظُ وَيَتُوبُ الْكَافِرُ {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}
قَالَ الزَّجَّاجُ: يُظْهِرُ التَّوْبَةَ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ
التَّوْبَةُ؟
__________
(1) هذا تأويل والصواب حمل الآية على الحقيقة وعلى مراد الله
تعالى. راجع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 5 / 402-409، 16 /
416-420.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 511 لابن أبي حاتم.
(3) العبارة المثبتة من الطبري: 30 / 188 لأن العبارة في
المخطوطتين غير مستقيمة وهي: "تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل
زمام بيد كل زمام سبعين ألف ملك".
(8/422)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ
عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) }
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أَيْ قَدَّمُتُ
الْخَيْرَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ لِحَيَاتِي فِي الْآخِرَةِ،
أَيْ لِآخِرَتِي الَّتِي لَا مَوْتَ فِيهَا.
{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ
وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ "لَا
يُعَذَّبُ" "وَلَا يُوثَقَ" بِفَتْحِ الذَّالِ وَالثَّاءِ
عَلَى مَعْنَى لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ [فِي الدُّنْيَا] (1)
كَعَذَابِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثَقُ كَوَثَاقِهِ
[أَحَدٌ] (2) يَوْمَئِذٍ.
وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ
خَلَفٍ، يَعْنِي لَا يُعَذَّبُ كَعَذَابِ هَذَا الْكَافِرِ
أَحَدٌ، وَلَا يُوثَقُ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الذَّالِ وَالثَّاءِ، أَيْ: لَا
يُعَذِّبُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا كَعَذَابِ اللَّهِ الْكَافِرَ
يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثَقُ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ، يَعْنِي لَا
يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ كَبَلَاغِ اللَّهِ فِي
الْعَذَابِ، وَالْوَثَاقِ: هُوَ الْإِسَارُ فِي السَّلَاسِلِ
وَالْأَغْلَالِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ} إِلَى مَا وَعَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
الْمُصَدِّقَةُ بِمَا قَالَ اللَّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
"الْمُطْمَئِنَّةُ" الَّتِي أَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
رَبُّهَا وَصَبَرَتْ جَأْشًا لِأَمْرِهِ وَطَاعَتِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنَةُ الْمُوقِنَةُ، وَقَالَ
عَطِيَّةُ: الرَّاضِيَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ
الْكَلْبِيُّ: الْآمِنَةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُطَمْئِنَةُ بِذِكْرِ اللَّهِ، بَيَانُهُ:
"قَوْلُهُ "وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ".
وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَقَالَ
قَوْمٌ: يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُقَالُ
لَهَا: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} 192/ب إِلَى اللَّهِ
{رَاضِيَةً} بِالثَّوَابِ {مَرْضِيَّةً} عَنْكِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَهَا
اطْمَأَنَّتْ إِلَى اللَّهِ وَرَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(8/423)
فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي (29)
قال عبد الله بن عَمْرٍو: (1) إِذَا
تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَرْسَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مَلَكَيْنِ إِلَيْهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتُحْفَةٍ
مِنَ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهَا: اخْرُجِي يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إِلَى رَوْحٍ
وَرَيْحَانٍ وَرَبُّكِ عَنْكِ رَاضٍ، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ
رِيحِ مِسْكٍ وَجَدَهُ أَحَدٌ فِي أَنْفِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ
عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَ مِنَ
الْأَرْضِ رُوحٌ طَيِّبَةٌ وَنَسَمَةٌ طَيِّبَةٌ. فَلَا
تَمُرُّ بِبَابٍ إِلَّا فُتِحَ لَهَا وَلَا بِمَلَكٍ إِلَّا
صَلَّى عَلَيْهَا، حَتَّى يُؤْتَى بِهَا الرَّحْمَنُ
فَتَسْجُدُ، ثُمَّ يُقَالُ لِمِيكَائِيلَ: اذْهَبْ بِهَذِهِ
فَاجْعَلْهَا مَعَ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُؤْمَرُ
فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، سَبْعُونَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ،
وَسَبْعُونَ ذِرَاعًا طُولُهُ، وَيُنْبَذُ لَهُ فِيهِ
الرَّيْحَانُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ
كَفَاهُ نُورُهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ لَهُ نُورُهُ مِثْلَ الشَّمْسِ فِي
قَبْرِهِ، وَيَكُونُ مِثْلُهُ مِثْلَ الْعَرُوسِ، يَنَامُ
فَلَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ. وَإِذَا
تُوُفِّيَ الْكَافِرُ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ
وَأَرْسَلَ قِطْعَةً مِنْ بِجَادٍ أَنْتَنُ مِنْ كُلِّ نَتَنٍ
وَأَخْشَنُ مِنْ كُلِّ خَشِنٍ، فَيُقَالُ: يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى جَهَنَّمَ وَعَذَابٍ
أَلِيمٍ وَرَبُّكِ عَلَيْكِ غَضْبَانُ (2) .
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: "ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً" قَالَ: هَذَا عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنَ
الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قيل: "ادخلي
فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي".
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ
الْبَعْثِ يُقَالُ: ارْجِعِي [إِلَى رَبِّكِ] (3) أَيْ إِلَى
صَاحِبِكِ وَجَسَدِكِ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ أَنْ
تَرْجِعَ إِلَى الْأَجْسَادِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ،
وَعَطَاءٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ: ارْجِعِي إِلَى ثَوَابِ رَبِّكِ
وَكَرَامَتِهِ، رَاضِيَةً عَنِ اللَّهِ بِمَا أَعَدَّ لَكِ،
مَرْضِيَّةً، رَضِيَ عَنْكِ رَبُّكِ.
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) }
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ مَعَ عِبَادِي فِي جَنَّتِي.
وَقِيلَ: فِي جُمْلَةِ عِبَادِي الصَّالِحِينَ الْمُطِيعِينَ
الْمُصْطَفَيْنَ، نَظِيرُهُ: "وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي
عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ".
__________
(1) في "أ" عمر. وهو خطأ.
(2) قطعة من موقوف عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرجه عبد
الرزاق في "المصنف": 3 / 564-566، وهناد في "الزهد" 1 /
252-253، قال الهيثمي: 2 / 328 "رواه الطبراني في "الكبير"
ورجاله ثقات" وعزاه السيوطي لهناد وعبد بن حميد في "التفسير"
والطبراني في "الكبير" بسند رجاله ثقات. انظر: شرح الصدور بشرح
حال الموتى والقبور ص (88) وفيه عبد الرحمن بن البيلماني وهو
ضعيف، له ترجمة في "الميزان" و"التهذيب".
(3) ساقط من "أ".
(8/424)
وَادْخُلِي جَنَّتِي
(30)
{وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }
{وَادْخُلِي جَنَّتِي} وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إِلَى الدُّنْيَا
ارْجِعِي إِلَى اللَّهِ بِتَرْكِهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَى
اللَّهِ هُوَ سُلُوكُ سَبِيلِ الْآخِرَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيَرٍ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا بِالطَّائِفِ فَشَهِدْتُ جِنَازَتَهُ،
فَجَاءَ طَائِرٌ لَمْ [نَرَ] (1) عَلَى صُورَةِ خَلْقِهِ
فَدَخَلَ نَعْشَهُ، ثُمَّ لَمْ [نَرَ] (2) خَارِجًا مِنْهُ،
فَلَمَّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى شَفِيرِ
الْقَبْرِ، وَلَمْ نَدْرِ مَنْ قَرَأَهَا: "يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" (3)
.
__________
(1) في "ب" لم ير.
(2) في "ب" لم ير.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 515 لابن أبي حاتم
والطبراني.
(8/425)
|