تفسير البغوي طيبة

وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)

سُورَةُ الْعَادِيَاتِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) }
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْمُقَاتِلَانِ (2) ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ: هِيَ الْخَيْلُ الْعَادِيَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَضْبَحُ، وَالضَّبْحُ: صَوْتُ أَجْوَافِهَا إِذَا عَدَتْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ تَضْبَحُ غَيْرُ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالثَّعْلَبِ، وَإِنَّمَا تَضْبَحُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهَا مِنْ تَعَبٍ أَوْ فَزَعٍ، وَهُوَ مِنْ [قَوْلِهِمْ] (3) ضَبَحَتْهُ النَّارُ، إِذَا غَيَّرَتْ لَوْنَهُ.
[وَقَوْلُهُ: "ضَبْحًا" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، مَجَازُهُ: وَالْعَادِيَّاتُ تَضْبَحُ ضَبْحًا] (4) .
وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ، تَعْدُو مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، وَقَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، [كَانَتْ أَوَّلُ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرًا] (5) وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْخَيْلُ الْعَادِيَاتُ؟ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالسُّدَّيُّ.
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ: هِيَ الْإِبِلُ: قَوْلُهُ "ضَبْحًا" يَعْنِي ضِبَاحًا تَمُدُّ أَعْنَاقَهَا فِي السَّيْرِ (6) .
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت والعاديات بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 599.
(2) يعني: مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان.
(3) في "ب" قول العرب.
(4) ما بين القوسين جاء في "أ" متأخرا لآخر معنى (والعاديات ضبحا) .
(5) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(6) ساق الطبري: 30 / 271 - 273 هذه الأقوال - التي ترجع إلى رأيين - ثم قال مرجحا: "وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بالعاديات: الخيل، وذلك أن الإبل لا تضبح وإنما تضبح الخيل، وقد أخبر الله تعالى أنها تعدو ضبحا".

(8/505)


فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)

{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) }
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} قَالَ عِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ،:هِيَ الْخَيْلُ تُورِي النَّارَ بِحَوَافِرِهَا إِذَا سَارَتْ فِي الْحِجَارَةِ. يَعْنِي: وَالْقَادِحَاتِ قَدْحًا يَقْدَحْنَ بِحَوَافِرِهِنَّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ الْخَيْلُ تُهَيِّجُ الْحَرْبَ وَنَارَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ فُرْسَانِهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَأْوِي بِاللَّيْلِ [إِلَى مَأْوَاهَا] (1) فَيُوَرُّونَ نَارَهُمْ، وَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ مَكْرُ الرِّجَالِ، يَعْنِي رِجَالَ الْحَرْبِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْكُرَ بِصَاحِبِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْدَحَنَّ لَكَ ثُمَّ لْأُوَرِّيَنَّ لَكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هِيَ النِّيرَانُ تَجْتَمِعُ (2) . {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} هِيَ الْخَيْلُ تُغِيرُ بِفُرْسَانِهَا، عَلَى الْعَدُوِّ عِنْدَ الصَّبَاحِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: هِيَ الْإِبِلُ تَدْفَعُ بِرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ جَمْعٍ (3) إِلَى مِنًى، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا تَدْفَعُ [بَرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ] (4) حَتَّى تُصْبِحَ وَالْإِغَارَةُ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَشْرَقَ ثَبِيرٌ كَيْمَا نُغِيرُ. {فَأَثَرْنَ بِهِ} أَيْ هَيَّجْنَ بِمَكَانِ [سَيْرِهِنَّ] (5) كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ، {نَقْعًا} غُبَارًا، وَالنَّقْعُ: الْغُبَارُ. {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أَيْ دَخَلْنَ بِهِ وَسَطَ جَمْعِ الْعَدُوِّ، وَهُمُ الْكَتِيبَةُ يُقَالُ: وَسَطْتُ، الْقَوْمَ بِالتَّخْفِيفِ، وَوَسَّطْتُهُمْ، بِالتَّشْدِيدِ، وَتَوَسَّطُّهُمْ بِالتَّشْدِيدِ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَالَ الْقُرَظِيُّ: [هِيَ الْإِبِلُ تَوَسَّطُ بِالْقَوْمِ] (6) يَعْنِي جَمْعَ مِنًى، [هَذَا مَوْضِعُ الْقَسَمِ] ، (7) أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
__________
(1) ساقط من"ب".
(2) ذكر الطبري: 30 / 273 - 274، هذه الأقوال ثم قال مرجحا: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالموريات التي توري النيران قدحا، فالخيل توري بحوافرها، والناس يورونها بالزند، واللسان مثلا يوري بالمنطق، والرجال يورون بالمكر مثلا، وكذلك الخيل تهيج الحرب بين أهلها إذا التقت في الحرب، ولم يضع الله دلالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فكل ما أورت النار قدحا، فداخلة فيما أقسم به لعموم ذلك بالظاهر".
(3) مزدلفة.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(5) في "ب" سيرها.
(6) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(7) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/508)


إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)

{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) }

(8/509)


وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)

{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) }
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: "لَكَنُودٌ": لِكَفُورٌ جَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ بِلِسَانِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ الْكَفُورُ، وَبِلِسَانِ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ الْعَاصِي (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ (2) . وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْطِي فِي النَّائِبَةِ مَعَ قَوْمِهِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ قَلِيلُ الْخَيْرِ، وَالْأَرْضُ الْكَنُودُ: الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: "الْكَنُودُ" الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ، الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِسَاءَةِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَ"الشَّكُورُ": الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِحْسَانِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِسَاءَةِ. {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قَالَ [أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ] : (3) وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِنْسَانِ أَيْ: إِنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَصْنَعُ. {وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْإِنْسَانَ، {لِحُبِّ الْخَيْرِ} أي لحب لمال، {لَشَدِيدٌ} أَيْ: لَبَخِيلٌ، أَيْ إِنَّهُ مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ. يُقَالُ لِلْبَخِيلِ: شَدِيدٌ وَمُتَشَدِّدٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَقَوِيٌّ، أَيْ شَدِيدٌ الْحُبِّ لِلْخَيْرِ أَيِ الْمَالِ. {أَفَلَا يَعْلَمُ} أَيْ: أَفَلَا يَعْلَمُ هَذَا الْإِنْسَانُ، {إِذَا بُعْثِرَ} أَيْ: أُثِيرَ وَأُخْرِجَ، {مَا فِي الْقُبُورِ} [مِنَ الْمَوْتَى] (4) . {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أَيْ: مُيِّزَ وَأُبْرِزَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
__________
(1) انظر: شعب الإيمان للبيهقي: 8 / 507.
(2) أخرجه البيهقي في "الشعب": 8 / 508 وعزاه السيوطي لابن جرير وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الشعب".
(3) في "ب" المفسرون.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/509)


إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) }
{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} ، [جَمَعَ] (1) الْكِنَايَةَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لِجِنْسِ، {يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} عَالِمٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي ذَلِكَ [الْيَوْمِ] (2) .
__________
(1) في "ب" يجمع.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/510)


الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)

سُورَةُ الْقَارِعَةِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) }
{الْقَارِعَةُ} [اسْمٌ] (2) مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِالْفَزَعِ. {مَا الْقَارِعَةُ} تَهْوِيلٌ وَتَعْظِيمٌ. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} هَذَا الْفَرَاشُ: الطَّيْرُ [الصِّغَارُ الْبَقُّ، وَاحِدُهَا فَرَاشَةٌ، أَيْ: كَالطَّيْرِ] (3) الَّتِي تَرَاهَا تَتَهَافَتُ فِي النَّارِ، وَالْمَبْثُوثُ: الْمُتَفَرِّقُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَغَوْغَاءِ الجراد، شبه 199/أالنَّاسَ عِنْدَ الْبَعْثِ بِهَا [لِأَنَّ الْخَلْقَ] (4) يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْهَوْلِ كَمَا قَالَ: "كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ" (الْقَمَرِ -7) . {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} كَالصُّوفِ الْمَنْدُوفِ. {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ [عَلَى سَيِّئَاتِهِ] (5) . {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} مَرْضِيَّةٍ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ ذَاتِ رِضًا يَرْضَاهَا صَاحِبُهَا.
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت سورة القارعة بمكة. انظر الدر المنثور: 8 / 605. وقال ابن الجوزي في زاد المسير: 9 / 213 "وهي مكة بإجماعهم". وعبارة المصنف - رحمه الله - توحي بضعف كونها مدنية.
(2) زيادة من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/511)


وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)

{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) }
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} مَسْكَنُهُ النَّارُ، سُمِّيَ الْمَسْكَنُ أُمًّا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السُّكُونِ إِلَى الْأُمَّهَاتِ، وَالْهَاوِيَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْمِهْوَاةُ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ شَدِيدٍ، يُقَالُ: هَوَتْ أُمُّهُ. وَقِيلَ: ["فَأَمَّهُ هَاوِيَةٌ"] أَرَادَ أَمَّ رَأْسِهِ ["مُنْحَدِرَةٌ مَنْكُوسَةٌ"] يَعْنِي أَنَّهُمْ يَهْوُونَ فِي النَّارِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ قَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} يَعْنِي الْهَاوِيَةَ، وَأَصْلُهَا: مَا هِيَ، أَدْخَلَ الْهَاءَ فِيهَا لِلْوَقْفِ وَالِاسْتِرَاحَةِ ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أَيْ حَارَّةٌ قَدِ انْتَهَى حَرُّهَا.

(8/514)


أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)

سُورَةُ التَّكَاثُرِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) }
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} شَغَلَتْكُمُ الْمُبَاهَاةُ وَالْمُفَاخَرَةُ وَالْمُكَاثَرَةُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ وَمَا يُنْجِيكُمْ مِنْ سُخْطِهِ. {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} حَتَّى [مُتُّمْ] (2) وَدُفِنْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ.
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَبَنُو فُلَانٍ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، شَغَلَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضُلَّالًا (3) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ؛ بَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وَبَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، كَانَ بَيْنَهُمْ تَفَاخُرٌ، [فَتَعَادَّ] (4) السَّادَةُ وَالْأَشْرَافُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا؟ فَقَالَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ: نَحْنُ أَكْثَرُ سَيِّدًا وَأَعَزُّ عَزِيزًا وَأَعْظَمُ نَفَرًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَقَالَ بَنُو سَهْمٍ مِثْلَ ذَلِكَ، فَكَثَرَهُمْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، ثُمَّ قَالُوا: نَعُدُّ، مَوْتَانَا، حَتَّى زَارُوا الْقُبُورَ فَعَدُّوهُمْ، فَقَالُوا: هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ وَهَذَا قَبْرُ فُلَانٍ فَكَثَرَهُمْ بَنُو سَهْمٍ بِثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرَ عَدَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (5) .
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: نزلت بمكة سورة (ألهاكم التكاثر) . انظر: الدر المنثور: 8 / 609.
(2) زيادة من "ب".
(3) أخرجه الواحدي في أسباب النزول صفحة: (537) . وانظر الطبري: 30 / 283، ابن كثير: 4 / 546، الدر المنثور: 8 / 610.
(4) في "ب" فتعادوا والصواب ما أثبتناه.
(5) أخرجه الواحدي في أسباب النزول صفحة (537) . وانظر: ابن كثير: 4 / 544.

(8/515)


كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّخِيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ"، قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ، إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتْبَعُ، الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ" (2) .
ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) }
{كَلَّا} لَيْسَ الْأَمْرُ بِالتَّكَاثُرِ، {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وَعِيدٌ لَهُمْ، ثُمَّ كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا فَقَالَ: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قَالَ الْحَسَنُ، وَمُقَاتِلٌ: هُوَ وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، وَالْمَعْنَى: سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ تَكَاثُرِكُمْ وَتَفَاخُرِكُمْ إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْمَوْتُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: "كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ"، يَعْنِي الْكُفَّارَ، "ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ" يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْأَوْلَى بِالْيَاءِ وَالثَّانِيَةَ بِالتَّاءِ. {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أَيْ: عِلْمًا يَقِينًا، فَأَضَافَ الْعِلْمَ إِلَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ: "لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ"، وَجَوَابُ "لَوْ" مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا لَشَغَلَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ عَنِ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ.
قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ (3) . {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ: "لُتُرَوُنَّ" بِضَمِّ التَّاءِ مَنْ أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ: تَرَوْنَهَا بِأَبْصَارِكُمْ مِنْ بَعِيدٍ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الزهد برقم: (2958) : 4 / 2273، والمصنف في شرح السنة: 14 / 258.
(2) أخرجه البخاري في الرقاق، باب سكرات الموت: 11 / 362، ومسلم في أول كتاب الزهد برقم: (2960) 4 / 2273، والمصنف في شرح السنة: 14 / 259.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 611 للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(8/518)


ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) }
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} مُشَاهَدَةً، {عَيْنَ الْيَقِينِ} {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ، فَيُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ شُكْرِ مَا كَانُوا فِيهِ، وَلَمْ يَشْكُرُوا رَبَّ النَّعِيمِ حَيْثُ عَبَدُوا غَيْرَهُ، ثُمَّ يُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ، هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رفعه قال: "لتسئلن يَوْمئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ" قَالَ: "الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ" (1) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ عَمَّا أَنْعَمَ عَلَيْهِ (2)
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ، بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا شَبَّابَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنِ الضحاك بن عرزم الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ جِسْمَكَ؟ وَنَرْوِكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَاعَةٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا وَلَا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: خَرَجَتُ لِأَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ وَلِلتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: الْجُوعُ
__________
(1) أخرجه مرفوعا عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد صفحة: (157 و390) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" 2 / 157، وفيه محمد بن سليمان: صدوق يخطئ، وابن أبي ليلى: صدوق سيئ الحفظ. وأخرجه هناد في الزهد موقوفا على ابن مسعود: 2 / 102، والطبري في التفسير: 30 / 285 والبيهقي في "شعب الإيمان" 8 / 494، وزاد السيوطي نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه. وانظر: الزهد لهناد مع تعليق المحقق.
(2) وروي عنه قال: الأمن والصحة. انظر شعب الإيمان للبيهقي: 8 / 495.
(3) أخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة التكاثر:- 9 / 290 وقال: "هذا حديث غريب". وابن حبان برقم (2585) صفحة (640) ، وصححه الحاكم: 4 / 138 ووافقه الذهبي والبيهقي في "الشعب" 8 / 489، وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد صفحة: (31) والطبري: 3 / 288، والخطيب في تاريخ بغداد: 7 / 224، والمصنف في شرح السنة: 4 / 311. وزاد السيوطي نسبته في الدر المنثور: 8 / 613 لعبد بن حميد. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (539) : 2 / 66 - 67.

(8/519)


يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] : (1) "وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ، بَعْضَ ذَلِكَ"، فَانْطَلِقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ النَّخْلِ وَالشَّاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالُوا لِامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ فَقَالَتْ: انْطَلَقَ لِيَسْتَعْذِبَ لَنَا الْمَاءَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أن جاء 199/ب أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا مَاءً فَوَضَعَهَا، ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَفْدِيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ فَجَاءَ بِقِنْوٍ فَوَضَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفَلَا تَنَقَّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخَيَّرُوا [أَوْ قَالَ: أَنْ تَخْتَارُوا] (2) مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ"، فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ لِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَذْبَحَنَّ ذَاتَ دَرٍّ"، فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَأَتَاهُمْ بِهَا، فَأَكَلُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَكَ خَادِمٌ؟ قَالَ: لَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا"، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اخْتَرْ مِنْهُمَا"، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، خُذْ هَذَا، فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي، وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا" فَانْطَلَقَ بِهِ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ فِيهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ تَعْتِقَهُ، قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا خَلِيفَةً إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ خَبَالًا وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ" (3) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّعِيمُ: صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، يَسْأَلُ اللَّهُ الْعَبِيدَ فِيمَ اسْتَعْمَلُوهَا؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ (4) ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كان عنه مسؤلا" (الْإِسْرَاءِ -36) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَنِ الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: عَنِ الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ وَالْمَالِ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) زيادة من "أ".
(3) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 7 / 34 - 39. وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وصححه الحاكم 4 / 131 والبيهقي في "شعب الإيمان": 8 / 483، 484 والطحاوي في "مشكل الآثار": 1 / 195، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (6948) وأخرجه مسلم بنحوه من طريق آخر في الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك رقم (2038) : 3 / 1610.
(4) أخرجه الطبري: 30 / 289، والبيهقي في "الشعب": 8 / 493 وإسناده حسن، لكن فيه انقطاع وزاد السيوطي في الدر: 8 / 612 عزوه لابن أبي حاتم وابن مردويه. وانظر التعليق على شعب الإيمان.

(8/520)


أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" (1) .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَعْنِي عَمَّا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَنِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَنِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: تَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ وَتَيْسِيرُ الْقُرْآنِ.
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد صفحة (2) ، والبخاري في الرقاق، باب ما جاء في الرقاق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة: 11 / 229، والمصنف في شرح السنة: 14 / 223.

(8/521)


وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

سُورَةُ الْعَصْرِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }
{وَالْعَصْرِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالدَّهْرِ. قِيلَ: أَقْسَمَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَرَبِّ الْعَصْرِ، وَكَذَلِكَ في أمثاله. واقل ابْنُ كَيْسَانَ: أَرَادَ بِالْعَصْرِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، يُقَالُ لَهُمَا الْعَصْرَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا (2) . وَقَالَ قَتَادَةُ: آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ (3) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} أَيْ خُسْرَانٍ وَنُقْصَانٍ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ [الْكَافِرَ] (4) بِدَلِيلِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ، وَ"الْخُسْرَانُ": ذَهَابُ رَأْسِ مَالِ الْإِنْسَانِ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ وَعُمُرِهِ [بِالْمَعَاصِي] (5) ، وَهُمَا أَكْبَرُ رَأْسِ مَالِهِ. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي خُسْرٍ، {وَتَوَاصَوْا} أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، {بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ. {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَإِقَامَةِ أَمْرِ اللَّهِ. وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَرَادَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عُمِّرَ فِي
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة (والعصر) بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 621.
(2) انظر: عبد الرزاق في التفسير: 2 / 394، فتح الباري: 8 / 729.
(3) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 394 دون قوله آخر.
(4) في "ب" الكافر.
(5) زيادة من "ب".

(8/522)


وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)

الدُّنْيَا وَهَرِمَ، لَفِي نَقْصٍ وَتَرَاجُعٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ أُجُورُهُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي شَبَابِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ، وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ". سُورَةُ الْهُمَزَةِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) }
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ (2) ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيَّابُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "الْهُمَزَةُ": الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْغَيْبِ، وَ"اللُّمَزَةُ": الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ بِضِدِّهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: "الْهَمْزَةُ" الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ، وَ"اللُّمَزَةُ": الطَّعَّانُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "الْهُمَزَةُ" الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ وَيَضْرِبُهُمْ، وَ"اللُّمَزَةُ": الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَيَهْمِزُ بِلِسَانِهِ وَيَلْمِزُ بِعَيْنِهِ. وَمِثْلُهُ قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "الْهُمَزَةُ" الَّذِي يُؤْذِي جَلِيسَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ وَ"اللُّمَزَةُ" الَّذِي يُومِضُ بِعَيْنِهِ وَيُشِيرُ بِرَأْسِهِ، وَيَرْمُزُ بِحَاجِبِهِ وَهُمَا نَعْتَانِ لِلْفَاعِلِ، نَحْوُ سُخَرَةٍ وَضُحَكَةٍ: لِلَّذِي يَسْخَرُ وَيَضْحَكُ مِنَ النَّاسِ [وَالْهُمْزَةُ وَاللُّمْزَةُ، سَاكِنَةُ الْمِيمِ، الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ] (3) .
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت (ويل لكل همزة) بمكة. انظر الدر المنثور: 8 / 623.
(2) أخرجه سعيد بن منصور. انظر: فتح الباري 8 / 729.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/526)


الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)

وَأَصْلُ الْهَمْزِ: الْكَسْرُ وَالْعَضُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالْعُنْفِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقِ بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ كَانَ يَقَعُ فِي النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ (1) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ سُورَةَ الْهُمَزَةِ [نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ] (2) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَائِهِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ.
{الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) }
ثُمَّ وَصَفَهُ فَقَالَ: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: "جَمَّعَ" بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ. {وَعَدَّدَهُ} أَحْصَاهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَعَدَّهُ وَادَّخَرَهُ وَجَعَلَهُ عَتَادًا لَهُ، يُقَالُ: أَعْدَدْتُ [الشَّيْءَ] (3) وَعَدَّدْتُهُ إِذَا أَمْسَكْتُهُ. {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} فِي الدُّنْيَا، يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَعَ يَسَارِهِ. {كَلَّا} رَدًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَلِّدَهُ مَالُهُ، {لَيُنْبَذَنَّ} لَيُطْرَحَنَّ، {فِي الْحُطَمَةِ} فِي جَهَنَّمَ، وَالْحَطْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، مِثْلُ: سَقَرَ، وَلَظَى (4) سُمِّيَتْ "حُطَمَةَ" لِأَنَّهَا تَحْطِمُ الْعِظَامَ وَتَكْسِرُهَا. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} أَيِ الَّتِي يَبْلُغُ أَلَمُهَا وَوَجَعُهَا إِلَى الْقُلُوبِ، وَالِاطِّلَاعُ وَالْبُلُوغُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ: مَتَى طَلَعْتَ أَرْضَنَا؟ أَيْ بَلَغْتَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى فُؤَادِهِ قَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 623 لابن أبي حاتم عن السدي.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ" وانظر: ابن هشام: 1 / 382.
(3) ساقط من "أ".
(4) وهو قول الفراء وذكره البخاري في ترجمة: 8 / 729.

(8/530)


إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) }
{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ. {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: {فِي عُمُدٍ} بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهِمَا، كَقَوْلِهِ تعالى: "رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا" (الرَّعْدِ -2) وَهْمًا جَمِيعًا جَمْعُ عَمُودٍ، مِثْلُ: أَدِيمٍ وَأَدَمٍ [وَأُدُمٍ] (1) ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ (2) .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمْعُ عِمَادٍ، مِثْلُ: إِهَابٍ وَأَهَبٍ وَأُهُبٍ (3) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَدْخَلَهُمْ فِي عَمَدٍ فَمُدَّتْ عَلَيْهِمْ بِعِمَادٍ.
[وَقِيلَ: "فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] : (4) فِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ السَّلَاسِلُ.
[وَقِيلَ: "هِيَ عَمَدٌ مُمَدَّدَةٌ": عَلَى بَابِ جَهَنَّمَ] (5) ، سُدَّتْ عَلَيْهِمْ بِهَا الْأَبْوَابُ [لَا يُمْكِنُهُمُ الْخُرُوجُ] (6) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهَا عُمُدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي النَّارِ.
وَقِيلَ: هِيَ أَوْتَادُ الْأَطْبَاقِ الَّتِي تُطْبِقُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَيْ أَنَّهَا مُطْبِقَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْتَادٍ مُمَدَّدَةٍ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ "بِعُمُدٍ" بِالْبَاءِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: أَطْبَقَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ سُدَّتْ بِأَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِمْ غَمُّهَا وَحَرُّهَا، فَلَا يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابٌ وَلَا يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ رَوْحٌ، وَالْمُمَدَّدَةُ مِنْ صِفَةِ الْعَمَدِ، أَيْ مُطَوَّلَةٍ فَتَكُونُ أَرْسَخُ مِنَ الْقَصِيرَةِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 291.
(3) قال الفيومي في "المصباح المنير" 1 / 28: "الإهاب: الجلد. . والجمع: أهب" بضمتين على القياس مثل: كتاب وكتب، وبفتحتين على غير قياس. قال بعضهم: وليس في كلام العرب فعال يجمع على فعل بفتحتين إلا إهاب وأهب، وعماد وعمد.
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(6) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(8/531)