تفسير البغوي
طيبة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
سُورَةُ الْفِيلِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ؟
وَكَانَتْ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ -عَلَى مَا ذَكَرَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ -:
أَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ كَانَ قَدْ بَعَثَ
"أَرْيَاطَ" إِلَى أَرْضِ الْيَمَنِ فَغَلَبَ عَلَيْهَا،
فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهُ: "أَبْرَهَةُ
بْنُ الصَّبَاحِ" [أَبُو يَكْسُومَ] ، (2) ، فَسَاخَطَ
"أَرْيَاطَ" فِي أَمْرِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى انْصَدَعُوا
صَدْعَيْنِ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ أَرْيَاطَ، وَطَائِفَةٌ
مَعَ أَبْرَهَةَ، فَتَزَاحَفَا فَقَتَلَ أَبْرَهَةُ،
أَرْيَاطَ، وَاجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ لِأَبْرَهَةَ، وَغَلَبَ
عَلَى الْيَمَنِ وَأَقَرَّهُ النَّجَاشِيُّ، عَلَى عَمَلِهِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ رَأَى النَّاسَ يَتَجَهَّزُونَ
أَيَّامَ الْمَوْسِمِ إِلَى مَكَّةَ لِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ،
فَبَنَى كَنِيسَةً بِصَنْعَاءَ وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ:
إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بِصَنْعَاءَ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ
لِمَلِكٍ مَثَلُهَا، وَلَسْتُ مُنْتَهِيًا حَتَّى أَصْرِفَ
إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ، فَسَمِعَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ [فَخَرَجَ إِلَيْهَا مُسْتَخْفِيًا]
(3) فَدَخَلَهَا لَيْلًا فَقَعَدَ فِيهَا وَتَغَوَّطَ بِهَا،
وَلَطَّخَ بِالْعُذْرَةِ قِبْلَتَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ
أَبْرَهَةَ فَقَالَ: مَنِ اجْتَرَأَ عَلَيَّ وَلَطَّخَ
كَنِيسَتِي بِالْعُذْرَةِ؟ فَقِيلَ لَهُ: صَنَعَ ذَلِكَ رَجُلٌ
مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ سَمِعَ بِالَّذِي
قُلْتَ، فَحَلَفَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: لِيَسِيرَنَّ
إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى يَهْدِمَهَا، فَكَتَبَ إِلَى
النَّجَاشِيِّ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ
إِلَيْهِ بِفِيلِهِ، وَكَانَ لَهُ فِيلٌ يُقَالُ لَهُ
مَحْمُودٌ، وَكَانَ فِيلًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ عِظَمًا
وَجِسْمًا وَقُوَّةً، فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَخَرَجَ
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزل (ألم تر كيف فعل
ربك) بمكة انظر: الدر المنثور: 8 / 627.
(2) ما بين القوسين زيادة من "أ".
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(8/532)
أَبْرَهَةُ مِنَ الْحَبَشَةِ سَائِرًا
إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْفِيلُ، فَسَمِعَتِ
الْعَرَبُ بِذَلِكَ فَأَعْظَمُوهُ وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًا
عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، يُقَالُ
لَهُ: ذُو نَفَرٍ، بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ قَوْمِهِ،
فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأَخَذَ ذَا نَفَرٍ،
فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلَنِي فَإِنَّ
اسْتِبْقَائِيَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ قَتْلِي، فَاسْتَحْيَاهُ
وَأَوْثَقَهُ. وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا.
ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ بِلَادِ خَثْعَمَ، خَرَجَ
نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي خَثْعَمَ وَمَنِ
اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ، فَقَاتَلُوهُ
فَهَزَمَهُمْ وَأَخَذَ نُفَيْلًا فَقَالَ نُفَيْلٌ: أَيُّهَا
الْمَلِكُ إِنِّي دَلِيلٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَهَاتَانِ
يَدَايَ عَلَى قَوْمِي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ،
فَاسْتَبْقَاهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ يَدُلُّهُ حَتَّى إِذَا مَرَّ
بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ فِي
رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ نَحْنُ
عَبِيدُكَ، لَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا خِلَافٌ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ
الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ، نَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ
يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ، مَوْلًى
لَهُمْ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ [بِالْمُغَمَّسِ] (1)
مَاتَ أَبُو رِغَالٍ وَهُوَ الَّذِي يُرْجَمُ قَبْرُهُ،
وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ مِنَ الْمُغَمَّسِ رَجُلًا مِنَ
الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْأَسْوَدُ بْنُ مَسْعُودٍ، عَلَى
مُقَدِّمَةِ خَيْلِهِ، وَأَمْرَهُ بِالْغَارَةِ عَلَى نَعَمِ
النَّاسِ، فَجَمَعَ الْأَسْوَدُ إِلَيْهِ أَمْوَالَ الْحَرَمِ،
وَأَصَابَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِائَتَيْ بَعِيرٍ.
ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ بَعَثَ حَبَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى
أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالَ: سَلْ عَنْ شَرِيفِهَا ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَا أُرْسِلُكَ بِهِ إِلَيْهِ، أَخْبِرْهُ أَنِّي
لَمْ آتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جِئْتُ لِأَهْدِمَ هَذَا
الْبَيْتَ. فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فِلَقِيَ عَبْدَ
الْمُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ
أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِأُخْبِرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ
لِقِتَالٍ إِلَّا أَنْ تُقَاتِلُوهُ، إِنَّمَا جَاءَ لِهَدْمِ
هَذَا الْبَيْتِ ثُمَّ الِانْصِرَافِ عَنْكُمْ.
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: مَا لَهُ عِنْدَنَا قِتَالٌ
وَلَا لَنَا بِهِ يَدٌ إِلَّا أَنْ نُخَلِّيَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ
الْحَرَامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ،
وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ مَا
لَنَا بِهِ قُوَّةٌ.
قَالَ: فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ، فَزَعَمَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرْدَفَهُ عَلَى بَغْلَةٍ كَانَ
عَلَيْهَا وَرَكِبَ مَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتَّى قَدِمَ
الْمُعَسْكَرَ، وَكَانَ ذُو نَفَرٍ صَدِيقًا لِعَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا ذَا نَفَرٍ، هَلْ
عِنْدَكَ مِنْ [غَنَاءٍ] (2) فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ:
مَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُقْتَلَ
بُكْرَةً أَوْ عَشِيًّا، وَلَكِنْ سَأَبْعَثُ إِلَى أُنَيْسٍ،
سَائِسِ الْفِيلِ، فَإِنَّهُ لِي صَدِيقٌ فَأَسْأَلُهُ أَنْ
يَصْنَعَ لَكَ عِنْدَ الْمَلِكِ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ خَيْرٍ
وَيُعَظِّمُ خَطَرَكَ وَمَنْزِلَتَكَ عِنْدَهُ، قَالَ:
فَأَرْسَلَ إِلَى أُنَيْسٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ
هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ صَاحِبُ
__________
(1) موضع قرب مكة في طريق الطائف: انظر معجم البلدان.
(2) في "أ" غنى وما أثبت موافق لما ورد في السيرة.
(8/536)
عِيرِ مَكَّةَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ
فِي السَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَقَدْ
أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ
أَنْ تَنْفَعَهُ عِنْدَهُ فَانْفَعْهُ فَإِنَّهُ صَدِيقٌ لِي،
أُحِبُّ، مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَدَخَلَ
أُنَيْسٌ عَلَى أَبْرَهَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ هَذَا
سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ الَّذِي يُطْعِمُ
النَّاسَ فِي السَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ،
يَسْتَأْذِنُ إِلَيْكَ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ
فَيُكَلِّمَكَ، وَقَدْ جَاءَ غَيْرَ نَاصِبٍ لَكَ وَلَا
مُخَالِفٍ عَلَيْكَ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكَانَ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ رَجُلًا جَسِيمًا وَسِيمًا، فَلَمَّا رَآهُ
أَبْرَهَةُ أَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَجْلِسَ
مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَأَنْ يَجْلِسَ تَحْتَهُ، فهبط إلى
200/ب الْبِسَاطِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُ
فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ:
مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْمَلِكِ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرْجُمَانُ
ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: حَاجَتِي إِلَى
الْمَلِكِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا
لِي، فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ: لَقَدْ
كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، وَقَدْ زَهِدْتُ
فِيكَ، قَالَ [عَبْدُ الْمُطَّلِبِ] : (1) لِمَ؟ قَالَ: جِئْتُ
إِلَى بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ وَهُوَ شَرَفُكُمْ
وَعِصْمَتُكُمْ لِأَهْدِمَهُ لَمْ تُكَلِّمْنِي فِيهِ
وَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا؟ قَالَ
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَنَا رَبُّ هَذِهِ الْإِبِلِ وَإِنَّ
لِهَذَا الْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ، قَالَ مَا كَانَ
لِيَمْنَعَهُ مِنِّي، قَالَ فَأَنْتَ وَذَاكَ، فَأَمَرَ
بِإِبِلِهِ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا رُدَّتِ الْإِبِلُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَرَجَ
فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا الْخَبَرَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَيَتَحَرَّزُوا فِي رُءُوسِ
الْجِبَالِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ،
فَفَعَلُوا، وَأَتَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْكَعْبَةَ،
وَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا
أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ
حِمَاكَا
إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... امْنَعْهُمْ أَنْ
يُخَرِّبُوا قُرَاكَا
وَقَالَ أَيْضًا: لَا هُمَّ (2) إِنَّ العَبْدَ يَمْنَعُ ...
رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكَ (3)
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا (4)
مِحَالُكْ (5)
جَرُّوا جُمُوعَ بِلَادِهِمْ ... وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا
عِيَالَكْ
عَمَدُوا حِمَاكَ بِكَيْدِهِمْ ... جَهْلًا وَمَا رَقَبُوا
جَلَالَكَ
__________
(1) زيادة من "أ".
(2) أصلها اللهم، والعرب تحذف الألف واللام منها وتكتفي بما
بقي، تقول لاه أبوك، وهي تريد لله أبوك.
(3) جمع حلة، وهي جماعة البيوت، ويريد هنا القوم الحلول.
والحلال أيضا: متاع البيوت.
(4) غدوا: غدا، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، فحذف لامه، ولم
يستعمل تاما إلا في الشعر.
(5) القوة والشدة.
(8/537)
إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَعْبَتَنَا ...
فأمْرٌ ما بدَالَكْ
فَلَمْ أَسْمَعْ بِأَرْجَسَ مِنْ رِجَالٍ ... أَرَادُوا
الْغَزْوَ يَنْتَهِكُوا حَرَامَكَ (1)
ثُمَّ تَرَكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْحَلْقَةَ وَتَوَجَّهَ فِي
بَعْضِ تِلْكَ الْوُجُوهِ مَعَ قَوْمِهِ، وَأَصْبَحَ
أَبْرَهَةُ بِالْمُغَمَّسِ قَدْ تَهَيَّأَ لِلدُّخُولِ
وَعَبَّأَ جَيْشَهُ وَهَيَّأَ فِيلَهُ، وَكَانَ فِيلًا لَمْ
يُرَ مِثْلُهُ فِي الْعِظَمِ وَالْقُوَّةِ وَيُقَالُ كَانَ
مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ فِيلًا.
فَأَقْبَلَ نُفَيْلٌ إِلَى الْفِيلِ الْأَعْظَمِ ثُمَّ أَخَذَ
بِأُذُنِهِ فَقَالَ: اُبْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا
مِنْ حَيْثُ جِئْتَ [فَإِنَّكَ] (2) فِي بَلَدِ اللَّهِ
الْحَرَامِ، فَبَرَكَ الْفِيلُ فَبَعَثُوهُ فَأَبَى،
فَضَرَبُوهُ بِالْمِعْوَلِ فِي رَأْسِهِ فَأَبَى، فَأَدْخَلُوا
مَحَاجِنَهُمْ تَحْتَ مِرَاقِهِ وَمَرَافِقِهِ فَنَزَعُوهُ
لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ
فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ
مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ
مِثْلَ ذَلِكَ، فَصَرَفُوهُ إِلَى الْحَرَمِ فَبَرَكَ وَأَبَى
أَنْ يَقُومَ.
وَخَرَجَ نُفَيْلٌ يَشْتَدُّ حَتَّى [صَعِدَ] (3) فِي
الْجَبَلِ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ
الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ مَعَ كُلِّ [طَائِرٍ] (4)
مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ: حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ،
وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، أَمْثَالُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ،
فَلَمَّا غَشَيْنَ الْقَوْمَ أَرْسَلْنَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ
تُصِبْ تِلْكَ الْحِجَارَةُ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ
كُلُّ الْقَوْمِ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ لَا
يَهْتَدُونَ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ،
يَتَسَاءَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ
عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ، وَنُفَيْلٌ يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْجِبَالِ، فَصَرَخَ الْقَوْمُ
وَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ
وَيَهْلِكُونَ عَلَى كُلِّ [مَهْلِكٍ] (5) .
وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى أَبْرَهَةَ دَاءً فِي جَسَدِهِ
فَجَعَلَ يَتَسَاقَطُ أَنَامِلُهُ كُلَّمَا سَقَطَتْ
أُنْمُلَةٌ اتَّبَعَتْهَا [مِدَّةٌ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ] (6) ،
فَانْتَهَى إِلَى صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّيْرِ
فِيمَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَا مَاتَ حَتَّى
انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ ثُمَّ هَلَكَ (7) .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَمَّا مَحْمُودٌ، فِيلُ
النَّجَاشِيِّ، فَرَبَضَ وَلَمْ [يَسِرْ] (8) عَلَى الْحَرَمِ
فَنَجَا، وَالْفِيلُ
__________
(1) هذا البيت زيادة من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب" أصعد.
(4) في "ب" طير.
(5) في "ب" مهل.
(6) وهي الغليظه من القيح، أما الرقيقة فهي صديد.
(7) أخرجه ابن هشام: 1 / 44 - 56. وأخرجه الطبري في التاريخ: 2
/ 128 - 139، من طريق ابن إسحاق.
(8) في "ب" يشجع.
(8/538)
الْآخَرُ شَجَّعَ فَحُصِبَ.
وَزَعَمَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي
جَرَّأَ أَصْحَابَ الْفِيلِ: أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ
خَرَجُوا تُجَّارًا إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ فَدَنَوْا مِنْ
سَاحِلِ الْبَحْرِ وَثَمَّ بَيْعَةٌ لِلنَّصَارَى تُسَمِّيهَا
قُرَيْشٌ "الْهَيْكَلَ"، فَنَزَلُوا فَأَجَّجُوا نَارًا
وَاشْتَوُوا فَلَمَّا ارْتَحَلُوا تَرَكُوا النَّارَ كَمَا
هِيَ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَعَجَّتِ الرِّيحُ فَاضْطَرَمَ
الْهَيْكَلُ نَارًا فَانْطَلَقَ الصَّرِيخُ إِلَى
النَّجَاشِيِّ فَأَسِفَ غَضَبًا لِلْبَيْعَةِ، فَبَعَثَ
أَبْرَهَةَ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَبُو
مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَكَانَ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ يُصَيِّفُ
بِالطَّائِفِ وَيَشْتُو بِمَكَّةَ؛ وَكَانَ رَجُلًا نَبِيهًا
نَبِيلًا تَسْتَقِيمُ الْأُمُورُ بِرَأْيهِ، وَكَانَ خَلِيلًا
لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ:
مَاذَا عِنْدَكَ هَذَا يَوْمٌ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ
رَأْيِكَ؟ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: اصْعَدْ بِنَا إِلَى
حِرَاءَ فَصَعِدَ الْجَبَلَ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ لِعَبْدِ
الْمُطَّلِبِ: اعْمَدْ إِلَى مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ
فَاجْعَلْهَا لِلَّهِ وَقَلِّدْهَا نَعْلًا ثُمَّ أَرْسِلْهَا
فِي الْحَرَمِ لَعَلَّ بَعْضَ هَذِهِ السُّودَانِ يَعْقِرُ
مِنْهَا شَيْئًا، فَيَغْضَبَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ
فَيَأْخُذَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَعَمَدَ
الْقَوْمُ إِلَى تِلْكَ الْإِبِلِ فَحَمَلُوا عَلَيْهَا
وَعَقَرُوا بَعْضَهَا وَجَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو،
فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: إِنْ لِهَذَا الْبَيْتِ رَبًّا
يَمْنَعُهُ، فَقَدْ نَزَلَ تُبَّعُ، مَلِكُ الْيَمَنِ صَحْنَ
هَذَا الْبَيْتِ وَأَرَادَ هَدْمَهُ فَمَنَعَهُ اللَّهُ
وَابْتَلَاهُ، وَأَظْلَمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
فَلَمَّا رَأَى تُبَّعُ ذَلِكَ كَسَاهُ الْقَبَاطِيَّ
الْبِيضَ، وَعَظَّمَهُ وَنَحَرَ لَهُ جَزُورًا.
[ثُمَّ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ] (1) فَانْظُرْ نَحْوَ
الْبَحْرِ، فَنَظَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: أَرَى
طَيْرًا بَيْضَاءَ نَشَأَتْ مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَقَالَ:
اُرْمُقْهَا بِبَصَرِكَ أَيْنَ قَرَارُهَا؟ قَالَ أَرَاهَا
قَدْ دَارَتْ عَلَى رُءُوسِنَا، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُهَا؟
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَعْرِفُهَا مَا هِيَ بِنَجْدِيَّةٍ
وَلَا تِهَامِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ وَلَا شَامِيَّةٍ،
قَالَ: مَا قَدُّهَا؟ قَالَ: أَشْبَاهُ [الْيَعَاسِيبِ] (2) ،
فِي مِنْقَارِهَا حَصًى كَأَنَّهَا حَصَى الْحَذْفِ، قَدْ
أَقْبَلَتْ كَاللَّيْلِ يَكْسَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَمَامَ
كُلِّ رُفْقَةٍ طَيْرٌ يَقُودُهَا أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ
أَسْوَدُ الرَّأْسِ طَوِيلُ الْعُنُقِ، فَجَاءَتْ حَتَّى إِذَا
حَاذَتْ بِعَسْكَرِ الْقَوْمِ [وَكَدَتْ] (3) فَوْقَ
رُءُوسِهِمْ، فَلَمَّا تَوَافَتِ الرِّجَالُ كُلُّهَا
أَهَالَتِ الطَّيْرُ مَا فِي مَنَاقِيرِهِا عَلَى مَنْ
تَحْتَهَا، مَكْتُوبٌ فِي كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ، ثُمَّ
إِنَّهَا انْصَاعَتْ رَاجِعَةً مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ، فَلَمَّا
أَصْبَحَا انْحَطَّا مِنْ ذُرْوَةِ الْجَبَلِ فَمَشَيَا
رَبْوَةً فَلَمْ يُؤْنِسَا أَحَدًا ثُمَّ دَنَوْا رَبْوَةً
فَلَمْ يَسْمَعَا حِسًّا فَقَالَا بَاتَ الْقَوْمُ
[سَاهِرِينَ] (4) ، فَأَصْبَحُوا نِيَامًا، فَلَمَّا دَنَوْا
مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ، وَكَانَ
يَقَعُ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من المطبوع وهي لازمة لتمام المعنى.
(2) الجراد.
(3) أقامت وقصدت ووأصابت.
(4) في "ب" سامدين.
(8/539)
أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ (3)
الْحَجَرُ عَلَى بَيْضَةِ (1) أَحَدِهِمْ
فَيَخْرِقَهَا حَتَّى يَقَعَ فِي دِمَاغِهِ وَيَخْرِقَ
الْفِيلَ وَالدَّابَّةَ وَيَغِيبَ الْحَجَرُ فِي الْأَرْضِ
مِنْ شِدَّةِ وَقْعِهِ، فَعَمَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فأخذ
فأسًا 201/أمن فؤسهم فَحَفَرَ حَتَّى أَعْمَقَ فِي الْأَرْضِ
فَمَلَأَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ
وَالْجَوْهَرِ، وَحَفَرَ لِصَاحِبِهِ حُفْرَةً فَمَلَأَهَا
كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ: هَاتِ فَاخْتَرْ
إِنْ شِئْتَ حُفْرَتِي وَإِنْ شِئْتَ حُفْرَتَكَ، وَإِنْ
شِئْتَ فَهُمَا لَكَ مَعًا، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: اخْتَرْ
لِي عَلَى نَفْسِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِنِّي لَمْ
آلُ أَنْ أَجْعَلَ أَجْوَدَ الْمَتَاعِ فِي حُفْرَتِي فَهُوَ
لَكَ، وَجَلَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُفْرَتِهِ،
وَنَادَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي النَّاسِ، فَتَرَاجَعُوا
وَأَصَابُوا مِنْ فَضْلِهِمَا حَتَّى ضَاقُوا بِهِ ذَرْعًا،
وَسَادَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِذَلِكَ قُرَيْشًا وَأَعْطَتْهُ
الْمُقَادَةَ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو
مَسْعُودٍ فِي أَهْلِيهِمَا فِي غِنًى مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ،
وَدَفَعَ اللَّهُ عَنْ كَعْبَتِهِ وَبَيْتِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِ عَامِ الْفِيلِ؛ فَقَالَ
مُقَاتِلٌ: كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي
وُلِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} ؟ قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ مَعَهُمْ
فِيلٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتِ الْفِيَلَةُ
ثَمَانِيَةٌ. وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ، سِوَى الْفِيلِ
الْأَعْظَمِ، وَإِنَّمَا وُحِّدَ لِأَنَّهُ نَسَبَهُمْ إِلَى
الْفِيلِ الْأَعْظَمِ. وَقِيلَ: لِوِفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) }
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} "كَيْدَهُمْ"
يَعْنِي مَكْرَهُمْ وَسَعْيَهُمْ فِي تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ.
وَقَوْلُهُ: "فِي تَضْلِيلٍ" عَمَّا أَرَادُوا، وَأَضَلَّ
كَيْدَهُمْ حَتَّى لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَإِلَى
مَا أَرَادُوهُ بِكَيْدِهِمْ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فِي خَسَارَةٍ،
وَقِيلَ: فِي بُطْلَانٍ. {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ} كَثِيرَةً مُتَفَرِّقَةً يَتْبَعُ بَعْضُهَا
بَعْضًا. وَقِيلَ: أَقَاطِيعَ كَالْإِبِلِ الْمُؤَبَّلَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. أَبَابِيلُ جَمَاعَاتٌ فِي
تَفْرِقَةٍ، يُقَالُ: جَاءَتِ الْخَيْلُ أَبَابِيلُ مِنْ
هَاهُنَا وَهَاهُنَا.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا.
وَقِيلَ: وَاحِدُهَا إِبَالَةٌ (2) . وَقَالَ الْكِسَائِيُّ:
إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ
__________
(1) ما يلبس على الرأس لوقايته في القتال.
(2) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 292.
(8/540)
تَرْمِيهِمْ
بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَأْكُولٍ (5)
النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ: وَاحِدُهَا
أَبُولُ، مِثْلُ عَجُولٌ وَعَجَاجِيلُ (1) .
وَقِيلَ: وَاحِدُهَا مِنْ [لَفْظِهَا] (2) إِبِّيلٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ طَيْرًا لَهَا خَرَاطِيمُ
كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ (3) .
وَقَالَ عكرمة: لها رءوس كرءوس السِّبَاعِ. قَالَ الرَّبِيعُ:
لَهَا أَنْيَابٌ كَأَنْيَابِ السِّبَاعِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: خُضْرٌ لَهَا مَنَاقِيرُ
صُفْرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: طَيْرٌ سُودٌ جَاءَتْ مِنْ قَبْلِ
الْبَحْرِ فَوْجًا فَوْجًا مَعَ كُلِّ طَائِرٍ ثَلَاثَةُ
أَحْجَارٍ؛ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرٌ فِي
مِنْقَارِهِ، لَا تُصِيبُ شَيْئًا إِلَّا هَشَمَتْهُ.
{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) }
{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} قَالَ [ابْنُ
عَبَّاسٍ] (4) وَابْنُ مَسْعُودٍ: صَاحَتِ الطَّيْرُ
وَرَمَتْهُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا
فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَمَا وَقَعَ
مِنْهَا حَجَرٌ عَلَى رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ
الْآخَرِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ.
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} كَزَرْعٍ وَتِبْنٍ
أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ فُرَاثَتْهُ فَيَبِسَ وَتَفَرَّقَتْ
أَجْزَاؤُهُ. شَبَّهَ تَقَطُّعَ، أَوْصَالِهِمْ بِتَفَرُّقِ
أَجْزَاءِ الرَّوْثِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: "الْعَصْفُ" وَرَقُ
الْحِنْطَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ التِّبْنُ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: كَالْحَبِّ إِذَا أُكِلَ فَصَارَ أَجْوَفَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقِشْرُ الْخَارِجُ الَّذِي
يَكُونُ عَلَى حَبِّ الْحِنْطَةِ كَهَيْئَةِ الْغِلَافِ لَهُ.
__________
(1) ذكر الفراء العبارة في الموضع السابق على النحو التالي:
"وقد قال بعض النحويين وهو الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون:
أبوك مثل العجول والعجاجيل".
(2) ساقط من"أ".
(3) أخرجه الطبري: 30 / 297. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8
/ 630 عزوه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
مردويه والبيهقي في الدلائل.
(4) ساقط من "ب".
(8/541)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
(1)
سُورَةُ قُرَيْشٍ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) }
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "لِيلَافِ"
بِغَيْرِ هَمْزٍ "إِلَافِهِمْ" طَلَبًا لِلْخِفَّةِ، وَقَرَأَ
ابن عامر " لالآف " بِهَمْزَةٍ مُخْتَلَسَةٍ مِنْ غَيْرِ يَاءٍ
بَعْدَهَا [عَلَى وَزْنِ لِغِلَافِ] (2) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
بِهَمْزَةٍ مُشْبَعَةٍ وَيَاءٍ بَعْدَهَا، وَاتَّفَقُوا
-غَيْرَ أَبِي جَعْفَرٍ -فِي "إِيلَافِهِمْ" أَنَّهَا بِيَاءٍ
بَعْدَ الْهَمْزَةِ، إِلَّا عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ فُلَيْحٍ
عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ قَرَأَ: "إِلْفِهِمْ" سَاكِنَةَ
اللَّامِ بِغَيْرِ يَاءٍ.
وَعَدَّ بَعْضُهُمْ سُورَةَ الْفِيلِ وَهَذِهِ السُّورَةَ
وَاحِدَةً؛ مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ لَا فَصْلَ
بَيْنَهُمَا فِي مُصْحَفِهِ، وَقَالُوا: اللَّامُ فِي
"لِإِيلَافِ" تَتَعَلَّقُ بِالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَّرَ أَهْلَ مَكَّةَ
عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا صَنَعَ بِالْحَبَشَةِ،
وَقَالَ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (3) .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى: جَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَأْكُولٍ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، أَيْ [يُرِيدُ إِهْلَاكَ
أَهْلِ] (4) الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ [وَمَا أَلِفُوا
مِنْ] (5) رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَلِفُوا ذَلِكَ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ
فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (6) .
وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَتَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي
الْعِلَّةِ الْجَالِبَةِ لِلَّامِ فِي قَوْلِهِ "لِإِيلَافِ"،
قَالَ الْكِسَائِيُّ
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت (لإيلاف قريش)
بمكة. انظر الدر المنثور: 8 / 634.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) انظر: فتح الباري: 8 / 730.
(4) في "ب" أهلك أصحاب.
(5) في "أ" قال الفراء:. .وبالرجوع إلى الفراء: 3 / 293 تجد
قوله: "كأنه قال: ذلك إلى نعمته عليهم في رحلة الشتاء والصيف".
(6) انظر: فتح الباري: 8 / 730.
(8/542)
وَالْأَخْفَشُ: هِيَ لَامُ التَّعَجُّبِ،
يَقُولُ: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ
وَالصَّيْفِ، وَتَرَكِهِمْ عِبَادَةَ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ،
ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ
لِزَيْدٍ وَإِكْرَامِنَا إِيَّاهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ:
اعْجَبُوا لِذَلِكَ: وَالْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بِهَذِهِ
اللَّامِ اكْتَفَوْا بِهَا دَلِيلًا عَلَى التَّعَجُّبِ مِنْ
إِظْهَارِ الْفِعْلِ مِنْهُ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مَرْدُودَةٌ إِلَى مَا بَعْدَهَا
تَقْدِيرُهُ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ
لِإِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
وَقَالَ [ابْنُ عُيَيْنَةَ] : (1) لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ.
وَقُرَيْشٌ هُمْ وَلَدُ النَّضِرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكُلُّ
مَنْ وَلَدَهُ النَّضْرُ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ
يَلِدْهُ النَّضْرُ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ
الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ،
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو بَكْرٍ
الْجَوْرَبَذِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى
الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ،
حَدَّثَنَا وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ
كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ،
وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ" (2) .
وَسُمُوا قُرَيْشًا مِنَ الْقَرْشِ، وَالتَّقَرُّشِ وَهُوَ
التَّكَسُّبُ وَالْجَمْعُ، يُقَالُ: فَلَانٌ يَقْرِشُ
لِعِيَالِهِ وَيَقْتَرِشُ أَيْ يَكْتَسِبُ، وَهُمْ كَانُوا
تُجَّارًا حُرَّاصًا عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَالْإِفْضَالِ.
وَقَالَ أَبُو رَيْحَانَةَ: (3) سَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟
قَالَ: لِدَابَّةٍ تَكُونُ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَعْظَمِ
دَوَابِّهِ يُقَالُ لَهَا الْقِرْشُ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنَ
الْغَثِّ وَالسَّمِينِ إِلَّا أَكَلَتْهُ، وَهِيَ تَأْكُلُ
وَلَا تُؤْكَلُ، وَتَعْلُو وَلَا تُعْلَى، قَالَ: وَهَلْ
تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا؟ قَالَ: نعم،
فأنشده 201/ب شِعْرَ الْجُمَحِيِّ: وقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي
تَسْكُنُ الْبَحْرَ ... بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
سُلِّطَتْ بالعُلُوِّ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ ... عَلَى سَائِرِ
الْبُحُورِ جُيُوشَا
تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْرُكْ ... فِيهِ
لِذِي الْجَنَاحَيْنِ رِيشَا
__________
(1) في "ب" أبو عبيدة.
(2) أخرجه مسلم في الفضائل، باب فضل نسب النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (2276) : 4 / 1782، والمصنف في شرح
السنة: 13 / 194.
(3) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية: 2 / 202 وعزاه
البيهقي. وانظر: الدر المنثور: 8 / 638.
(8/546)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ
الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا
الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
مِنْ خَوْفٍ (4)
هَكَذَا فِي الْكِتَابِ حَيُّ قُرَيْشٍ ...
يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا [كَمِيشَا] (1)
وَلَهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ
فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا
{إِيْلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيلَافِهِمْ} بَدَلٌ مِنَ الْإِيلَافِ
الْأَوَّلِ {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} "رِحْلَةَ"
نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ ارْتِحَالَهُمْ رِحْلَةَ
الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.
رَوَى عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانُوا يُشْتُونَ
بِمَكَّةَ وَيُصِيفُونَ بِالطَّائِفِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى أَنْ يُقِيمُوا بِالْحَرَمِ وَيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا
الْبَيْتِ (2) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَتْ لَهُمْ رِحْلَتَانِ فِي كُلِّ
عَامٍ لِلتِّجَارَةِ، إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ إِلَى
الْيَمَنِ لِأَنَّهَا أَدْفَأُ وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ
إِلَى الشَّامِ.
وَكَانَ الْحَرَمُ وَادِيًا جَدْبًا لَا زَرْعَ فِيهِ وَلَا
ضَرْعَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَعِيشُ بِتِجَارَتِهِمْ
وَرِحْلَتِهِمْ، وَكَانَ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ
بِسُوءٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: قُرَيْشٌ سُكَّانُ حَرَمِ
اللَّهِ وَوُلَاةُ بَيْتِهِ فَلَوْلَا الرِّحْلَتَانِ لَمْ
يَكُنْ لَهُمْ بِمَكَّةَ مَقَامٌ، وَلَوْلَا الْأَمْنُ
بِجِوَارِ الْبَيْتِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّصَرُّفِ،
وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الِاخْتِلَافُ إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ
فَأَخْصَبَتْ تَبَالَةُ وَجَرَشُ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ،
فَحَمَلُوا الطَّعَامَ إِلَى مَكَّةَ، أَهْلُ السَّاحِلِ مِنَ
الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ وَأَهْلُ الْبِرِّ عَلَى الْإِبِلِ
وَالْحَمِيرِ فَأَلْقَى أَهْلُ السَّاحِلِ بِجَدَّةَ، وَأَهْلُ
الْبَرِّ بِالْمُحَصَّبِ، وَأَخْصَبَ الشَّامُ فَحَمَلُوا
الطَّعَامَ إِلَى مَكَّةَ فَأَلْقَوْا بِالْأَبْطَحِ،
فَامْتَارُوا مِنْ قَرِيبٍ وَكَفَاهُمُ اللَّهُ مُؤْنَةَ
الرِّحْلَتَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ رَبِّ الْبَيْتِ
فَقَالَ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أَيِ
الْكَعْبَةِ. {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أَيْ مِنْ
بَعْدِ جُوعٍ بِحَمْلِ الْمِيرَةِ إِلَى مَكَّةَ {وَآمَنَهُمْ
مِنْ خَوْفٍ} بِالْحَرَمِ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ [مَكَّةَ]
(3) حَتَّى لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ [فِي رِحْلَتِهِمْ] (4)
__________
(1) في "ب" نكيشا، وما أثبت هو الصواب والمعنى: سريعا.
(2) أخرجه الطبري: 30 / 308، والنسائي في التفسير 2 / 552
بإسناد حسن. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 635 لابن أبي
حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة.
(3) ساقط من "ب".
(4) ساقط من "أ".
(8/547)
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
إِنَّهُمْ كَانُوا فِي ضُرٍّ وَمَجَاعَةٍ حَتَّى جَمَعَهُمْ
هَاشِمٌ عَلَى الرِّحْلَتَيْنِ، وَكَانُوا يُقَسِّمُونَ
رِبْحَهُمْ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ حَتَّى كَانَ
فَقِيرُهُمْ كَغَنِيِّهِمْ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: (1) وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ حَمَلَ
[السَّمْرَاءَ] (2) مِنَ الشَّامِ وَرَحَلَ إِلَيْهَا
الْإِبِلَ: هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مُنَافٍ وَفِيهِ يَقُولُ
الشَّاعِرُ (3) . قُلْ لِلَّذِي طَلَبَ السَّمَاحَةَ
وَالنَّدَى ... هَلَّا مَرَرْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنَافٍ
هَلَّا مَرَرْتَ بِهِمْ تُرِيدُ قُرَاهُمُ ... مَنَعُوكَ مِنْ
ضُرٍّ وَمِنْ إِكْفَافِ
الرَّائِشِينَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ ... وَالْقَائِلِينَ
هَلُمَّ لِلْأَضْيَافِ
وَالْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيِّهِمْ ... حَتَّى يَكُونَ
فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِي
وَالْقَائِمِينَ بِكُلِّ وَعْدٍ صَادِقٍ ... وَالرَّاحِلِينَ
بِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
عَمْرُو [الْعُلَا] (4) هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ...
وَرِجَالُ مَكَّةَ [مُسْنِتُونَ] (5) عِجَافُ
سَفَرَيْنِ سَنَّهَمُا لَهُ وَلِقَوْمِهِ ... سَفَرُ
الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الْأَصْيَافِ
وَقَالَ الضَّحَّاكُ والربيع وسفيان: "وآمتهم مِنْ خَوْفٍ"
مِنْ خَوْفِ الْجُذَامِ، فَلَا يُصِيبُهُمْ بِبَلَدِهِمُ
الْجُذَامُ.
__________
(1) انظر: الطبري: 2 / 252، البداية والنهاية: 2 / 253.
(2) في "أ" السمن.
(3) هو ابن الزبعري. كما في البداية والنهاية والطبري.
(4) في"أ" العالي. وفي البداية والنهاية والطبري: الذي.
(5) مجدبون.
(8/548)
أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
(5)
سُورَةُ الْمَاعُونِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ
الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ
عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) }
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} قَالَ مُقَاتِلٌ:
نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ (2) وَقَالَ
السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَابْنُ كَيْسَانَ: فِي
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فِي
[عَمْرِو] (3) بْنِ عَائِذٍ الْمَخْزُومِيِّ. وَقَالَ عَطَاءٌ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ (4) .
وَمَعْنَى "يُكَذِّبُ بِالدِّينِ" أَيْ بِالْجَزَاءِ
وَالْحِسَابِ. {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}
يَقْهَرُهُ وَيَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ وَالدَّعُّ: الدَّفْعُ
بِالْعُنْفِ وَالْجَفْوَةِ. {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ} لَا يَطْعَمُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِإِطْعَامِهِ
لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ. {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [أَيْ: عَنْ
مَوَاقِيتِهَا غَافِلُونَ] (5) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى
الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت (أرأيت الذي يكذب)
بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 641.
(2) انظر: أسباب النزول للواحدي صفحة (504) .
(3) في "أ" عمر والصحيح ما أثبت.
(4) انظر: زاد المسير: 9 / 243 - 244.
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(8/549)
الَّذِينَ هُمْ
يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الصَّفَّارُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
غَالِبِ بْنِ تَمَّامٍ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ
حَفْصٍ [القَسْمَلِيُّ] (1) حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا [عَبْدُ الْمَلِكِ] (2)
بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ [سَعْدٍ] (3) عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ "الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ
سَاهُونَ"، قَالَ: "إِضَاعَةُ الْوَقْتِ" (4) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ
الصَّلَاةَ إِذَا غَابُوا عَنِ النَّاسِ، وَيُصَلُّونَهَا فِي
الْعَلَانِيَةِ إِذَا حَضَرُوا (5) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}
{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
}
{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} وَقَالَ فِي وَصْفِ
الْمُنَافِقِينَ: "وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ" (النِّسَاءِ -142) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: سَاهٍ عَنْهَا لَا يُبَالِي صَلَّى أَمْ
لَمْ يُصَلِّ.
وَقِيلَ: لَا يَرْجُونَ لَهَا ثَوَابًا إِنْ صَلَّوْا وَلَا
يَخَافُونَ عِقَابًا إِنْ تَرَكُوا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَافِلُونَ عَنْهَا يَتَهَاوَنُونَ بِهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي إِنْ صَلَّاهَا صَلَّاهَا
رِيَاءً، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُصَلُّونَهَا
لِمَوَاقِيتِهَا وَلَا يُتِمُّونَ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا.
{وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الزَّكَاةُ، وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "الْمَاعُونُ":
الْفَأْسُ وَالدَّلْوُ وَالْقِدْرُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ (6)
وَهِيَ رِوَايَةُ
__________
(1) في "أ" القاسم، والصحيح ما أثبت كما في التهذيب.
(2) في "ب" عبد الكريم، والصحيح ما أثبت كما في التهذيب وشرح
السنة.
(3) في "أ" والصحيح ما أثبت كما في التهذيب وشرح السنة.
(4) أخرجه البيهقي في السنن: 2 / 214، 215 مرفوعا وموقوفا،
وأبو يعلى في المسند: موقوفا 1 / 336 والطبري: 30 / 311،
والمصنف في شرح السنة: 2 / 246. قال البيهقي في السنن: وهذا
الحديث إنما يصح موقوفا، وعكرمة بن إبراهيم قد ضعفه يحيى بن
معين وغيره من أئمة الحديث. وقال الهيثمي في المجمع: 1 / 325:
رواه البزار وأبو يعلى مرفوعا وموقوفا. . . وقال البزار: رواه
الحفاظ موقوفا ولم يرفعه غير عكرمة. وراجع الدر المنثور: 8 /
642.
(5) أخرجه الطبري: 30 / 31. وزاد السيوطي في الدر: 8 / 642
عزوه لابن مردويه.
(6) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 8 / 731: "وقال بعض
العرب: الماعون الماء وقال عكرمة: أعلاها الزكاة المفروضة
وأدناها عارية المتاع، أما القول الأول فقال الفراء: قال
بعضهم: إن الماعون المعروف كله، حتى ذكر القصعة والدلو والفأس،
ولعله أراد ابن مسعود فإن الطبري أخرج من طريق سلمة بن كهيل عن
أبي المغيرة: سأل رجل ابن عمر عن الماعون قال: المال الذي لا
يؤدي حقه، قال قلت: إن ابن مسعود يقول هو المتاع الذي يتعاطاه
الناس بينهم، قال هو ما أقول لك، وأخرجه الحاكم أيضا وزاد في
رواية أخرى عن ابن مسعود هو الدلو والقدر والفأس. وكذا أخرجه
أبو داود والنسائي عن ابن مسعود بلفظ (كنا نعد الماعون على عهد
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عارية الدلو
والقدر) وإسناده صحيح إلى ابن مسعود. وأخرجه البزار والطبراني
من حديث ابن مسعود مرفوعا صريحا".
(8/552)
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: "الْمَاعُونُ" [الْعَارِيَةُ. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ] (1) أَعْلَاهَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ
[وَأَدْنَاهَا عَارِيَةُ الْمَتَاعِ (2) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْكَلْبِيُّ: "الْمَاعُونُ":
الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ.
قَالَ قُطْرُبٌ: أَصْلُ الْمَاعُونِ مِنَ الْقِلَّةِ، تَقُولُ
الْعَرَبُ: مَا لَهُ: سَعَةٌ وَلَا مَنَعَةٌ، أَيْ شَيْءٌ
قَلِيلٌ فَسَمَّى الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْمَعْرُوفَ
مَاعُونًا لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ.
وَقِيلَ: "الْمَاعُونُ": مَا لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ مِثْلُ:
الْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالنَّارِ] (3) (4) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 8 / 731: "وأما قول
عكرمة فوصله سعيد بن منصور بإسناد إليه باللفظ المذكور، وأخرج
الطبري والحاكم من طريق مجاهد عن علي مثله".
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(4) قال صاحب البحر المحيط: 8 / 518: "يعني بالماعون الزكاة
وهذا القول يناسبه ما ذكره قطرب من أن أصله من المعن، وهو
الشيء القليل فسميت الزكاة ماعونا لأنها قليل من كثير، وكذلك
الصدقة وغيرها".
(8/553)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ (1)
سورة الكوثر سُورَةُ الْكَوْثَرِ (1)
مَكِّيَّةٌ (2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) }
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بن عيسى الحلودي، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بن محمد 202/أبْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ
الْمُخْتَارِ -يَعْنِي ابْنَ فُلْفُلٍ -عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا
سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
"إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ"، ثُمَّ قَالَ:
"أَتُدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ"؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهُ نَهَرَ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ
وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ
أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ
فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ
مِنِّي، فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"الْكَوْثَرُ": الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ
اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي
الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي
الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ
(4) .
__________
(1) في "أ" سورة إنا أعطيناك.
(2) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة (إنا أعطيناك
الكوثر) بمكة. انظر الدر المنثور: 8 / 646.
(3) أخرجه مسلم في الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول
كل سورة سوى براءة برقم: (400) : 1 / 300.
(4) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الكوثر - 8 / 731،
وفي الرقاق والمصنف في شرح السنة: 15 / 167 - 168.
(8/554)
قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْقُرْآنُ
الْعَظِيمُ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: النُّبُوَّةُ وَالْكِتَابُ (1) .
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْكَوْثَرُ: فَوْعَلٌ [مِنَ
الْكَثْرَةِ، كَنَوْفَلٍ: فَوْعَلٌ] (2) مِنَ النَّفْلِ
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ [كَثِيرٍ فِي الْعَدَدِ
أَوْ] (3) كَثِيرٍ فِي الْقَدْرِ وَالْخَطَرِ: كَوْثَرًا.
وَالْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أَعْطَاهُ
اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ
الْخِرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
[عَلِيٍّ] (4) الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرَ، حَدَّثَنَا
حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا
أَنَا بِنَهْرٍ يَجْرِي بَيَاضُهُ [بَيَاضُ] (5) اللَّبَنِ
وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَحَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ
فَضَرَبْتُ بِيَدِي فَإِذَا الثَّرَى مِسْكٌ أَذْفَرُ فَقُلْتُ
لِجِبْرِيلَ: مَا هَذَا؟ قَالَ الْكَوْثَرُ الَّذِي
أَعْطَاكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (6) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن محمد الداوودي، أَخْبَرَنَا
أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى
الصَّلْتُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ
الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ السَّائِبِ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ
الذَّهَبُ مَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ تُرْبَتُهُ
أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَأَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ".
(7) .
__________
(1) أخرجه هناد في الزهد: 1 / 221، وابن أبي شيبة في المصنف:
11 / 508، والطبري: 30 / 322، وإسناده صحيح.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) في "أ" عبد الله والصحيح ما أثبت.
(5) ساقط من "أ".
(6) حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند: 3 / 103، 115، من
طريق حميد عن أنس، وهناد في الزهد: 1 / 211، والنسائي في
التفسير: 2 / 559، والطبري: 30 / 323 - 324، وابن أبي شيبة في
المصنف: 13 / 147، والآجري في الشريعة صفحة 396 والمصنف في شرح
السنة: 15 / 170. وأخرجه البخاري من طريق قتادة عن أنس بنحوه،
في الرقاق باب في الحوض: 11 / 464.
(7) حديث صحيح أخرجه أبو داود في الرقاق: 2 / 337، والترمذي في
التفسير - تفسير سورة الكوثر -: 9 / 294 وقال: "هذا حديث حسن
صحيح"، وابن ماجه في الزهد برقم: (4334) : 2 / 1450، من طرق عن
عطاء بن أبي السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر، والدارمي في
الرقاق، باب في الكوثر: 2 / 338، والحاكم: 3 / 171، وهناد في
الزهد: 1 / 208، والإمام أحمد: 2 / 67، 158، والطبري: 30 /
324، والمصنف في شرح السنة: 15 / 168 - 169، وقال الشيخ
الأرناؤوط:. . وعطاء سمع من محارب قبل الاختلاط. وانظر: فتح
الباري: 8 / 732، والزهد لهناد: 1 / 209 مع تعليق المحقق.
(8/558)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ
بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ [بْنُ عُمَرَ، عَنِ]
(1) ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ
اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ
كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ يَشْرَبْ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ
أَبَدًا" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
زَكَرِيَّا الْعَذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ مُعَدَّانِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ
ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " [أناعند عُقْرِ حَوْضِي] (3) أَذُودُ النَّاسَ
عَنْهُ لِأَهْلِ الْيَمَنِ" إِنِّي لَأَضْرِبُهُمْ بِعَصَايَ
حَتَّى يَرْفَضُّوا عَنْهُ "وَإِنَّهُ [لَيَغُتُّ] (4) فِيهِ
مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ وَرِقٍ
وَالْآخَرُ مِنْ ذَهَبَ طُولُهُ مَا بَيْنَ بُصْرَى
وَصَنْعَاءَ، أَوْ مَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَمَكَّةَ أَوْ مِنْ
مَقَامِي هَذَا إِلَى عُمَانَ" (5) .
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنْ أُنَاسًا كَانُوا يُصَلُّونَ
لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَنْحَرُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَأَمَرَ
اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يُصَلِّيَ وَيَنْحَرَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (6) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ
صَلَاةَ الْعِيدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَانْحَرْ نَسُكَكَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: فَصَلِّ
الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ بِجَمْعٍ وَانْحَرَ الْبُدْنَ
بِمِنًى (7) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ" قَالَ: وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى
الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ النَّحْرِ (8) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه مسلم في الرقاق، باب في الحوض: 11 / 463، ومسلم في
الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ برقم: (2292) : 4 / 1794، والمصنف في شرح السنة: 15
/ 168.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ" وعقر الحوض: مؤخره.
(4) يدفق الماء فيه دفقا متتابعا.
(5) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 11 / 406، ومسلم في الفضائل،
باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته
برقم: (2301) : 4 / 1799، والمصنف في شرح السنة: 15 / 169.
(6) انظر الطبري: 30 / 327.
(7) انظر: الدر المنثور: 8 / 651.
(8) يروى هذا أيضا عن علي كما هو عند الطبري: 30 / 325 وعن
الشعبي مثله ولا يصح. وقد ساق الطبري: 30 / 325 - 328 ثم قال:
"وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: فاجعل
صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة، وكذلك
نحرك اجعله له دون الأوثان، شكرا له على ما أعطاك من الكرامة
والخير الذي لا كفء له، وخصك به من إعطائه إياك الكوثر". وقد
استحسنه ابن كثير في تفسيره: 4 / 560.
(8/559)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ (3)
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ شَانِئَكَ} عَدُوَّكَ (1)
وَمُبْغِضُكَ {هُوَ الْأَبْتَرُ} هُوَ الْأَقَلُّ الْأَذَلُّ
الْمُنْقَطِعُ دَابِرُهُ (2) .
نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ؛ وَذَلِكَ
أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَخْرُجُ مِنْ [بَابِ] (3) الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَدْخُلُ
فَالْتَقَيَا عِنْدَ بَابِ بَنِي سَهْمٍ وَتَحَدَّثَا
وَأُنَاسٌ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ
فَلَمَّا دَخَلَ الْعَاصُ قَالُوا لَهُ: مَنِ الَّذِي كُنْتَ
تَتَحَدَّثُ مَعَهُ؟ قَالَ: ذَلِكَ الْأَبْتَرُ يَعْنِي
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ
تُوُفِّيَ ابْنٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (4) .
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ
قَالَ: كَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا ذُكِرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دَعَوْهُ
فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ فَإِذَا هَلَكَ
انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ
السُّورَةَ (5) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ
بْنِ الْأَشْرَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَمَّا قَدِمَ كَعْبٌ مَكَّةَ قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: نَحْنُ
أَهْلُ السِّقَايَةِ وَالسَّدَانَةِ وَأَنْتَ سِّيدُ أَهَّلَ
الْمَدِينَةِ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هَذَا [الصُّنْبُورُ] (6)
الْمُنْبَتِرُ مِنْ قَوْمِهِ؟ فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ
مِنْهُ، فَنَزَلَتْ: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ" (النِّسَاءِ -51) . الْآيَةَ، وَنَزَلَ فِي
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ أَبْتَرُ: "إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ" (7) أَيِ الْمُنْقَطِعُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.
__________
(1) ذكره البخاري تعليقا عن ابن عباس في الفتح: (8 / 731)
ووصله ابن مردويه.
(2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: 4 / 560: "فتوهموا لجهلهم
أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره ومات وحاشا وكلا بل قد أبقى الله
ذكره على رءوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرا
على دوام الآباد، إلى يوم المحشر والمعاد، صلوات الله وسلامه
عليه دائما إلى يوم التناد".
(3) ساقط من "أ".
(4) أخرجه الطبري، 30 / 329، والواحدي في أسباب النزول صفحة
(541) وانظر: ابن كثير: 4 / 560، الدر المنثور: 8 / 653. قال
الحافظ ابن حجر في فتح الباري: 8 / 732: "اختلف الناقلون في
تعيين الشانئ المذكور فقيل: هو العاص بن وائل وقيل: هو أبو
جهل، وقيل: عقبة بن أبي معيط". وانظر: ابن كثير: 4 / 560 فقد
ذكر أقوالا أخر.
(5) أخرجه ابن إسحاق بلاغا: 1 / 393 من سيرة ابن هشام. وانظر
الطبري: 30 / 329، وابن كثير: 4 / 560، والواحدي في أسباب
النزول صفحة: (541 - 542) ، والدر المنثور: 8 / 652.
(6) في "أ" الصنو.
(7) أخرجه النسائي في التفسير: 2 / 560، والطبري: 30 / 330،
وصححه ابن حبان برقم: (1731) من موارد الظمآن. وذكره ابن كثير:
4 / 560 من رواية البزار (وليس عنده ذكر آية سورة النساء) وصحح
إسناده. وزاد السيوطي في الدر: 8 / 652 عزوه لابن أبي حاتم
وابن مردويه.
(8/560)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
سُورَةُ الْكَافِرُونَ مَكِّيَّةٌ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) }
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إِلَى آخَرِ السُّورَةِ.
نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمُ: الْحَارِثُ بْنُ
قَيْسٍ السَّهْمِيُّ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْوَلِيدُ
بْنُ الْمُغِيرَةِ، [وَالْأَسْوَدُ] (2) بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ،
وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمَطْلَبِ بن أسد، 202/ب وَأُمِّيَّةُ
بْنُ خَلَفٍ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ [هَلُمَّ فَاتَّبِعْ] (3)
دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ وَنُشْرِكُكَ فِي أَمْرِنَا
كُلِّهِ، تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ
سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا كُنَّا قَدْ
شَرَكْنَاكَ فِيهِ وَأَخَذْنَا حَظَّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ
الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْرًا كُنْتَ قَدْ شَرَكْتَنَا فِي
أَمْرِنَا وَأَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ، فَقَالَ: مَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ، قَالُوا: فَاسْتَلِمْ
بَعْضَ آلِهَتِنَا نُصَدِّقُكَ وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ، فَقَالَ:
حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ"
إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الحرام وفيه
الملاء مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ثُمَّ
قَرَأَهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَغَ مِنَ السُّورَةِ،
فَأَيِسُوا مِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَآذَوْهُ وَأَصْحَابَهُ (4)
. وَمَعْنَى الْآيَةِ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فِي
الْحَالِ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فِي
الْحَالِ،
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت
سورة (قل يا أيها الكافرون) بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 /
654.
(2) في "أ" الأسد، والصحيح ما أثبت.
(3) في "أ" هل تتبع.
(4) أخرجه ابن إسحاق، سيرة ابن هشام: 1 / 362. وانظر الطبري:
30 / 331، ابن كثير: 4 / 561، أسباب النزول للواحدي صفحة (543)
. قال الحافظ في الفتح: 8 / 333 وقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث
ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كف عن آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فاعبد
آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فنزلت. وفي إسناده أبو خلف عبد
الله بن عيسى، وهو ضعيف.
(8/561)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ
مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ
(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ (6) }
{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} فِي الِاسْتِقْبَالِ،
{وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فِي الِاسْتِقْبَالِ
(1) .
وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ
لَا يُؤْمِنُونَ.
وَقَوْلُهُ: [مَا] (2) أَعْبُدُ" أَيْ: مَنْ أَعْبُدُ،
لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ لِمُقَابَلَةِ: "مَا تَعْبُدُونَ".
وَوَجْهُ التَّكْرَارِ: قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي:
هُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَعَلَى
مَجَازِ خِطَابِهِمْ، وَمِنْ مَذَاهِبِهِمُ التَّكْرَارُ،
إِرَادَةَ التَّوْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ كَمَا أَنَّ مِنْ
مَذَاهِبِهِمُ الِاخْتِصَارُ إِرَادَةَ التَّخْفِيفِ
وَالْإِيجَازِ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: تَكْرَارُ الْكَلَامِ لِتَكْرَارِ
الْوَقْتِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ سَرَّكَ أَنْ
نَدْخُلَ فِي دِينِكَ عَامًا فَادْخُلْ فِي دِينِنَا عَامًا،
فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ. {لَكُمْ دِينُكُمْ} الشَّرَكُ
{وَلِيَ دِينِ} (3) الْإِسْلَامُ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ،
وَنَافِعٌ، وَحَفْصٌ: "وَلِيَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، قَرَأَ
الْآخَرُونَ بِإِسْكَانِهَا. [وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ
بِآيَةِ السَّيْفِ] (4) .
__________
(1) انظر: البخاري 8 / 733 ترجمة الباب.
(2) في "ب" لا.
(3) قال الفراء في معاني القرآن: 3 / 297 "ولم يقل ديني" لأن
الآيات بالنون فحذفت الياء، كما قال: "يهدين" و"يشفين".
(4) ما بين القوسين ساقط من "ب". وقوله: وهذه الآية منسوخة
بآية السيف: نقل ذلك عن ابن عباس، وهذه الآية لا تعارض بينها
وبين آية السيف، فلا مجال للقول فيها بالنسخ، لأن الجمع بينهما
ممكن، ولا يصار إلى القول بالنسخ إلا بعد تعذر الجمع بين
الآيتين. ومعنى الآية (لكم دينكم) فلا تتركونه أبدا، لأنه ختم
على قلوبكم (ولي دين) الذي لا أتركه أبدا، وذلك أن المشركين -
كما تقدم - طلبوا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة فنزلت السورة بيانا
لحالهم وتيئيسا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من
إيمان أشخاص بأعيانهم وعدم الطمع في إيمانهم. انظر: تفسير
الطبري: 30 / 330 - 331، الناسخ والمنسوخ للبغدادي، صفحة: (161
- 162) مع التعليق. وراجع فيما سبق: 3 / 32 تعليق (1) .
(8/564)
|