تفسير التستري

السورة التي يذكر فيها التكوير
قال سهل: حكى محمد بن سوار عن ابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
«من أراد أن ينظر إلى القيامة رأي العين فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [1] ، وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] ، وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] » .

[سورة التكوير (81) : آية 14]
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ (14)
قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ [14] أيقنت كل نفس أن ما اجتهدت فيه لا يصلح لذلك المشهد، وأن من أكرم بخلع الفضل نجا، ومن قرن بجزاء أعماله خاب.
قوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [7] قيل: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وزوجت نفوس الكفار بالشياطين، قد قرن بين الكافر والشيطان في سلسلة واحدة. وفي الآية تحذير من قرناء السوء. قال سهل: قرن بين نفس الطبع ونفس الروح، فامتزجا في نعيم الجنة، كما كانا في الدنيا مؤتلفين على إدامة الذكر وإقامة الشكر.

[سورة التكوير (81) : الآيات 26 الى 28]
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
قوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [26] عن كتابه بعد البيان الذي أتاكم. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [27] قال: ذكر هذا خصوص لمن كان من العالمين عالماً بالذكر منقاداً للشريعة، ألا ترى كيف قال الله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [28] على الطرق إليه بالإيمان به، ولا تصح لكم تلك الاستقامة في الأصل والفرع إلا بمشيئتي السابقة فيكم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/187)


عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)

السورة التي يذكر فيها الانفطار

[سورة الانفطار (82) : الآيات 5 الى 6]
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [5] أي ما قدمت من خير أو شر، وأخرت من سيئة سنتها واقتدى بها فيها.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [6] قال: أي ما غرك بدونه فقطعك عنه مع لطفه وكرمه.
قيل له: ما القاطع؟ قال: العبد لله والله لعبده، وليس شيء أقرب إليه من قلب المؤمن، فإذا حضر الغير فيه فهو الحجاب، ومن نظر إلى الله بقلبه بَعُدَ عن كل شيء دونه، ومن طلب مرضاته أرضاه بحلمه، ومن أسلم إلى الله تعالى قلبه تولى جوارحه فاستقامت، وإنما شهدت قلوبهم على قدر ما حفظوا من الجوارح.
ثم قال: ألزموا قلوبكم، نحن مخلوقون وخالقنا معنا، ولا تملوا من أعمالكم، فإن الله شاهدكم حيثما كنتم، وأنزلوا به حاجاتكم، وموتوا على بابه، وقولوا: نحن جهال وعالمنا معنا، ونحن ضعفاء ومقوينا معنا، ونحن عاجزون وقادرنا معنا، فإن من لزمها كان الهواء والفضاء والأرض والسماء عنده سواء.
وقال عمر بن واصل تلميذ سهل: إذا قرأ هذه الآية قال: غرني الجهل بترك العصمة منك.

[سورة الانفطار (82) : آية 13]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
قوله عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [13] قال: نعيم الخاص من عباده، وهم الأبرار، لقاؤه ومشاهدته، كما كان نعيمهم في الدنيا مشاهدته وقربه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/188)


وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)

السورة التي يذكر فيها المطففون

[سورة المطففين (83) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [1] قال: هم المنافقون ومن تخلق بأخلاقهم، يطففون في صلاتهم، كما قال سليمان رضي الله عنه: الصلاة مكيال، فمن وفى وفي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله تعالى في حق المطففين: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] وتغمزونهم على ما عثروا عليه من عيوب الناس، وترتكبون مثلها وأفظع منها «1» . ولا يطلع على عثرات الخلق إلا مخطئ جاهل، ولا يهتك سر ما اطلع عليه إلا ملعون «2» . ولقد حكي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: أشكو إليك عبادي يا داود. فقال: ولم يا رب؟ قال: لأنهم يذنبون في السر ويتوبون في العلانية، وإني لا أريد أن يطلع غيري على ذنب عبدي.

[سورة المطففين (83) : آية 15]
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
وقال عمر ابن واصل: سألت سهلاً عن قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [15] قال:
هم في الدنيا محجوبون عن الآمر والزاجر، كما روي في الخبر: طوبى لمن كان له من قلبه واعظ، ومن قلبه زاجر، فإذا أراد الله فيه أمراً غيب معناه عنه، وهم في الآخرة محجوبون عن الرحمة، والنظر إلى الله عزَّ وجلَّ، وعن نظره إليهم بالرضا والرضوان عند مناقشته إياهم، كما قال:
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] عن الدنيا فتلزمهم الحجة فيدخلهم النار، ثم يفتح للمؤمنين مناظر إليهم فينظرون إليهم وهم يحرقون بالنار، ويعذبون بألوان عذابها، فتقر أعينهم فيضحكون منهم، كما ضحكوا في الدنيا من المؤمنين، ثم تسد المناظر، وتطبق عليهم، فعند ذلك بمحو الله أسماءهم، ويخرج ذكرهم من قلوب المؤمنين ويقول: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ [36] وفيها دلالة بينة على إثبات الرؤية للمؤمنين خاصة.

[سورة المطففين (83) : آية 18]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [18] قال: الكتاب ظاهره في الآيتين جميعاً أعمال الخير والشر، وباطنه أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين، تجمع أرواح المؤمنين عند سدرة المنتهى، في حواصل طير خضر ترتع في الجنة إلى يوم القيامة، مرقوم بالرضا والرضوان، وتجمع أرواح الكفار في سجّين تحت الأرض السفلى، تحت خد إبليس لعنه الله، مرقوم بالعداوة والبغضاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى 2/ 291 (رقم 3401) ومصنف ابن أبي شيبة 1/ 259 (رقم 2979) وشعب الإيمان 3/ 147 (3150) .
(2) الحلية 10/ 199. [.....]

(1/189)


وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)

السورة التي يذكر فيها الانشقاق

[سورة الانشقاق (84) : آية 2]
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2)
قوله تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ [2] أي سمعت لربها وأجابت بالامتثال بأمره وحق لها أن تفعل.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً [6] أي ساعٍ بعملك إلى ربك سعياً فَمُلاقِيهِ [6] بسعيك فانظر في سعيك يصلح للجنة ولقربه أم للنار وبعده. وقد قال عمارة ابن زاذان «1» : قال لي كهمس: يا أبا سلمة أذنبت ذنباً فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة. قلت: ما هو يا أبا عبد الله؟ قال: زارني أخ لي فاشتريت له سمكاً مشوياً بدانق، فلما أكل قمت إلى حائط جاري، فأخذت منه قطعة، فغسل بها يده، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة «2» .
قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً [7- 8] أي نغفر ذنوبه فلا نحاسبه بها، كما روي في الخبر أن الله تعالى إذا أراد أن يستر على عبد يوم القيامة أراه ذنوبه فيما بينه وبينه، ثم غفرها له.
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً [9] في الجنة بتحقيق ميعاد اللقاء، وبما نال من الرضا.
واعلم أن الله له عباد لا يوقفون مواقفة، ولا يحسون بهول من أهوال يوم القيامة من الحساب والسؤال والصراط، لأنهم له وبه، لا يعرفون شيئاً سواه، ولا لهم دونه اختيار.

[سورة الانشقاق (84) : آية 19]
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
قوله عزَّ وجلَّ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [19] قال: باطنها لترفعن درجة فوق درجة في الجنة، ولتحولن من حال إلى حال أشرف منها وأسر، كما كنتم في الدنيا ترفعون من درجة إلى درجة أعلى منها، من طمع وخوف وشوق ومحبة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) عمارة بن زاذان الصيدلاني، أبو سلمة البصري: روى عن الحسن البصري ومكحول. (تهذيب التهذيب 7/ 365) .
(2) الحلية 6/ 211.

(1/190)