تفسير الراغب
الأصفهاني الم (1)
(سورة البقرة)
قوله - عز وجل - {الم}: الآية (1) - سورة البقرة.
اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور، فقالوا فيها
أقوالاً جلها مراد باللفظ وغير متناف على السير، لكن بعضها
مفهوم بلا واسطة، وبعضخا مفهوم بواسطة، فنقول وبالله التوفيق:
إن المفهوم من هذه الحروف الأظهر بلا واسطة ما ذهب إليه
المحققون من أهل اللغو كالفراء وقطرب، وهو قول ابن عباس - رضي
الله عنهما - وكثير من التابعين على ما بين من بعد، وهو أن هذه
الحروف لما كانت هي عنصر الكلام ومادته التي تركب منها بين
تعالى أن هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم تنبيهاً
لهم على إعجازهم، وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم مع
تظاهركم عن معارضته، وأما اختصاص هذه الحروف وهذا العدد
المخصوص وكونها في سور معدودة وجعل بعضها مفرداً، وبعضها
ثنائياً وثلاثياً ورباعياً وخماسياً، ثم لم يتجاوز ذلك
واختصاصها ببعض الحروف دون بعض، ففيها عجائب وبدائع إذا اطلع
عليها علم أنه كما وصفه تعالى بقوله: {لَا يَأْتِيهِ
الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، والقول
في ذلك إن حروف التهجي قد قيل: ثمانية وعشرون.
وقيل: تسعة وعشرون، وهذا الخلاف من حيث أن " الألف " حرف لا
صورة له في اللفظ حتى قال بعض الناس: الألف - في حروف التهجي:
حرف لا ساكن ولا متحرك، وإنما هو مدلاً اعتماد له وقيل: إن
الله تعالى جعل هذه الحروف طبقاً للعدد الذي هو أصل العلوم،
ولو توهم ارتفاعه سائر العلوم، لأن عقود الأعداد ثمانية
وعشرون: آحاد: وهي تسعة, وعشرات، وهي تسعة، ومائات، وهي تسعة
وألف: وهو واحد، ثم الباقي مكررات، وجعلها أيضاً لمنازل القمر،
وهي ثمانية وعشرون إلى غير ذلك من العجائب، وأما " لام الألف
": فمركب من حرفين، ولا اعتداد به في حصر المفردات، وقد قال
بعض النحويين: إن ذلك أن يقال: " لا "، ذاك أنهم لما أرادوا
تعريف صورة لفظ الألف مفردة: ولم يكن سبيل إلى التفوه به
مفرداً، إذ لا يكون إلا مدة ضم إليها اللام ليمكن النطق به.
وخص بذلك اللام لعله مذكورة في موضعها.
فإذا ثبت ذلك فقد قيل: إن السور التي ذكر في أزائلها هذه
الحروف تسع وعشرون، وجعل ذلك تنبيهاً على عدد حروف التهجي -
إذا عد فيها الألف.
وقد ذكر هذه الحروف مفردة وتنائية إلى الخمسية تنبيهاً أن
الكتاب المنزل على رسوله مركب من كلماتهم التي هي أصولها:
(1/70)
إما مفردا وإما ثنائياً - إلى الخماسي -
وإن أصول أبنية كلامهم لا يتجاز ذلك.
وجاء ثلاث سور مفتتحة بمفردات، وتسع سور بالثنائيات.
وثلاث عشرة سورة ثلاثيات، وسورتان برباعيات، وسورتان بخماسيات،
وذلك " صّ " و " قّ " و " نّ " و " طّه " و " يسّ " و " طسّ "
وست من الحواميم، و " المّ " في ست سور.
و" الرّ " في خمس سور، و " طسّم " في سورتين، و " المرّ "، و "
المصّ "، و " كهيعصّ " و " حمّ عسق "، فجعل عدد الثلاثي أكثر
تنبيهاً أن أكثر تراكيب كلامهم الثلاثي.
وباقيها أقل.
وإنما جعل الثلاثي ثلاثة عشر تنبيهاً أن أصول الثلاثي
المستعملة: ثلاثة عشر: عشرة منها للأسماء المستعملة وذلك "
فّعْل " " كعْاس "، و " فُعْل " كقُفُل، و " فِعْل " كقِرْد،
وفَعَلِ كجعل، و " فَعُل " كعضُد، و " فَعِل " ككتف وفعل كابل
وفعل كعنق، وفعل كعنب، و (فعل) كصرد، وثلاثة للأفعل: " فَعَل "
و " فَعُل " و " فَعِل " ولم يعتد بـ " فُعِلَ ": أما في
الأسماء، فلأنه لم يوجد ما يعتد به، أما في الأفعل: فإن الفعل
في الأصل يجب أن يبنى للفاعل ويسند إليه دون المفعول.
وأما التسعة الثنائية، فتنبيهاً أن ما جاء من الكلم على حرفين
تسعة اضرب ثلاثة للحروف: " إن " و " مّن " ومذ إذا جر به -
وثلاثة للأسماء: " من " و " إذ " وهذا إذا رفع به.
وثلاثة للأفعال في الاسعمال، نحو " قل "، و " بع " و " خف "
وأما الثلاثة المفردة: فتنبيهاً أن الحروف ثلاثة أضرب مفتوح
ومكسور وساكن، نحو: له، وبه، ولام التعريف، وأما الرباعيان
والخماسيان، فتنبيهاً أن لكل واحد منهما ساكن أصلاً وملحقاً
به، أما الأصل: فكجعفر وسفرجل، وأما الملحق بهما: فكقرد
وحجنكل، واقتصر من حروف التهجي على النصف منها - وهو أربعة عشر
حرفاً من غير تكرير - لتدل على حكم عجيبة.
ولما خص نصفها بالذكر أورد فيها من الحروف المجهورة والمهموسة
والشديدة، وما ليس بشديدة، واللينة والمطبقة وحروف البدل وما
لا يصح فيه الإدغام، وما لا يدغم فيما قاربه، ولا يدغم ما
قاربه فيه، وما لا يدغم فيما قاربه، ويدغم ما قاربه فيه، ومن
حروف اللقلقة ومن الحروف التي للعرب دون العجم، من كل ذلك ما
هو زوج، واحتمل التنصيف فإنه أخرج نصفه، ومن كل ما هو فرد لا
يحتمل التنصيف نصفه بإسقاط حرف أو زيادة حرف، وأما الحروف
الذلقية والحلقية، والزوائد، فقد زيد فيها على النصف بخاصية
فيها: من ذلك: الحروف المجهورة: وهي ما أشبع للاعتماد على
منبعه،
(1/71)
ولم يجر معه النفس، وهي تسعة عشر حرفاً
يجمعها: (زاد ظبي غنج لي ضموراً إذ قطع) أسقط منها الألف
الزائدة التي قيل فيها: إنه لم يعتد بها من حيث لا تكون إلا
مدة، وذكر نصفها في هذه الأربعة عشر، وهي تسعة يجمعها: " لن
يقطع أمر ".
والمهموسة: وهي: ما ضعف الاعتماد على منبعه، وذلك عشرة يجمعها:
" (ستشحثك خصفه) ذكر منها في هذه الأربعة عشر نصفها، وهي ما
يجمعها: (صه حسك) والشديدة: وهي ثمانية يجمعها: " أجدت طبقك "
ذكر نصفها، ويجمعها " أقطك " وباقيها [رخوة] وهو: أحد وعشرون،
إذا سقط منها الألف فنصفها عشرة يجمعك " حمس على نصره ".
واللينة حرفان - سوى الألف: الواو والياء، وفي هذه الأربعة عشر
أحدهما: وهو الياء، والمطبقة أربعة: ص، ض، ط، ظ.
ذكر اثنان منها، وهي: الصاد والطاء.
وحروف البدل اثنا عشر حرفاً - فيما ذكر سيبويه - يجمعها: (أجد
طويت منها): ذكر منها ستة يجمعها " أهطمين " وترك باقيها.
وإنما لم يجر مجرى غيرها في أن ترك منها الألف ثم نصف، بل زيد
لأمر اختص به باب البدل، وهو أن الألف في باب البدل أكثر من
سائر الحروف، فلم يجز الإخلال بها في باب الإبدال وأما على غير
طريقة سيبويه، فقد بلغ حروف البدل ثمانية عشر، فعد فيها اللام
بدلاً من النون في " أصيلان " والصاد تبدل من " السين " في "
الصراط " و " الثاء " من " الفاء " في " فروع الدلو " والفاء
من التاء في " جدث " و " جدف " و " ثوم " و " فوم " والعين من
الهمزة في عنعنة تميم، نحو قوله:
أأن ترسمت من خرقاء منزلة.
في " أأن ترسمت " والباء من الميم " باسمك " في " ما اسمك "
والزاي من السين في قولهم: " زقر " أي " سقر " - فعلى هذا - في
الحروف من الثمانية عشر تسعة، وهي الستة المذكورة واللام،
والصاد، والعين.
وما لا يصح فيه الإغام: اثنان: الهمزة والألف.
وذكر أحدهما.
وما لا يدغم ولا يدغم فيه: فالواو والياء - إذا انفتح ما
قبلهما - وقد ذكر أحدهما.
وأما الحروف التي لا يدغم فيما قاربها، ويدغم ما قاربها فيها:
فهي الميم، والراء، والشين، والفاء، وقد ذكر من هذه الحروف
اثنان، وأما حروف اللقلقة: فخمسة: القاف، والجيم، والطاء،
والدال، والباء، وذكر منها اثنان: الطاء والقاف وهما
(1/72)
أقوى الخمسة.
وأما الحروف التي للعرب دون العجم: فالضاد والحاء، وقد ذكر
أحدهما.
وأما الحروف الذلقية: وهي التي ذلقت وسهلت على اللسان، فستة
يجمعها " رمل فنب ".
وحروف الحلق وهي ستة: الحاء، والخاء، والعين، والغين، والهاء،
والهمزة، فقد ذكر من النوعين أكثر من النصف للتنبيه على كثرة
وقوعهما في الكلام، إذ قل ما ينفك رباعي وخماسي من حرف أو
حرفين وثلاثة من هذه الحروف، فلما كثر وقوعها في الكلام أيد
المذكور منهما على النصف تنبيهاً على ذلك.
وأما الزوائد: فعشرة يجمعها (اليوم تنساه) وقع في هذه الحروف
منها سبعة لخاصية فيها، وهي التنبيه على أن البناء من الكلمة
قد يبلغ سبعة أحرف بالزيادة، فهذه هي التي زاد المذكور منها
على النصف لفائدة تختصه وحكمة تقتضيه.
وما روي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن هذه الحروف
اختصار من كلمات، فمعنى " الم ": أنا الله أعلم، ومعنى " المر
" أنا الله أعلم وأرى، فإشارة منه إلى ما تقدم.
وبيان ذلك ما ذكره بعض المفسرين أن قصده بهذا التفسير ليس أن
هذه الحروف مختصة بهذه المعاني دون غيرها، وإنما أشار بذلك إلى
ما فيه الألف واللام والميم من الكلمات تنبيهاً أن هذه الحروف
منبع هذه الأسماء، ولو قال: إن اللام يدل على " اللعن "،
والميم على " المكر " لكان يحمل، ولكن تحرى في المثال اللفظ
الأحسن، كأنه قال: هذه الحروف هي أجزاء ذلك الكتاب.
ومثل هذا في ذكر نبذ تنبيها على نوعه قول ابن عباس - رضي الله
عنهما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ} أنه الماء الحار في الشتاء، ولم يرد به أن النعيم
ليس إلا هذا، بل أشار إلى بعض ما هو نعيم تنبيها على سائره،
فكذلك أشار بهذه الحروف على ما يكتب منها، وعلى ذلك ما رواه
السدي عنه أن ذلك حروف إذا ركبت يحصل منها اسم الله.
وكذا ما روي عنه أنه قال: هي أقسام غير مخالف لهذا القول، وذلك
أن الأقسام الواردة في فواتح السور إنما هي بقسم وأجوبتها
تنبيه عليها.
فيكون قوله: " ألم ذلك الكتاب جملة في تقدير مقسم بها.
وقوله: " لا ريب فيه " جوابها، ويكن إقسامه بها تنبيهاً على
عظم موقعها، وعلى عجزنا عن معارضة كتابه المؤلف منها.
فإن قيل: لو كان قسماً لكان فيه حرف القسم.
قيل: إن حرف القسم يحتاج إليه إذا كان المقسم به مجروراً.
فأما إذا
(1/73)
كان مرفوعاً نحو و " أيم الله، أو منصوباً،
نحو يمين الله فليس بمحتاج إلى ذلك وما قاله زيد بن أسلم
والحسن، ومجاهد، وابن جريج أنها أسماء للسور فليس بمناف للأول،
فكل سورة سميت بلفظ متلو منها، فله (معنى) في السورة معلوم.
وعلى هذا القصائد والخطب المسماة بلفظ منه يفيد معنى فيها،
وكذلك ما قاله أبو عبيدة، وروي أيضاً عن مجاهد، وحكاه قطرب
والأخفش.
أن هذه الفواتح دلائل على انتهاء السورة التي قبلها، وافتتاح
ما بعدها، فإن ذلك يقتضي من حيث إنها لم تقع إلا في أوائل
السور ولا يقتضي أن لا معنى لها سواه، كما أن بسم الله في
أوائل السور يقتضي ما قالوه ولا يوجب ذلك أن لا معنى سواه.
وما ذكر من أن هذه الحروف قصد بها الرد على من قال: إن النبي -
صلى الله عليه وسلم - كان يتلقن ما يودعه القرآن من بعض
الأعجمين، وذلك في قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ} فذلك شبيه أن هذه الصورة المخصوص بها القرآن، هي من
النظم الذس أصوله عندكم، وذاك أن القوم لم يدعوا أن لفظ هذا
القرآن أعجمي، وإنما ادعوا أن معناه مأخوذ عنهم ولهذا قال
تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}
فإذا: المعنى يرجع إلى ما تقدم بأنه تنبيه على إعجازه.
وما قاله قطرب إنه قصد بها صرف أسماع المشركين إلى الاستماع
إليه لما تواصلوا بأن لا يستعموا له حتى قال تعالى: {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فإنما يشير به
أيضاً إلى المعنى المتقدم، لأنه تعالى قصج بصرف أسماعهم
تنبيههم على عجزهم عن معارضته، وأن من حقكم إذا عجزتم عن مثله
أن تتدبروا آياته، وأن تعرفوا أنه حق فلا تلغوا فيه.
وما روي عن اين عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الألف من "
الم " على " الله "، اللام على " جبرائيل "، والميم على " محمد
"، فدل بذلك على أن القرآن (من الله) - عز وجل - مبدؤه، وأن
الواسطة: " جبريل ".
ومنتهاه إلى محمد.
فهذا صحيح ودال على ما تقدم، وفيه نبه بمخرج " الألف " الذي هو
مبدأ مخارج الحروف على المبدأ، وهو الله تعالى، وبمخرج اللم
الذي هو أوسط المخارج على جبريل، وبمخرج الميم الذي هو منتهى
المخارج على المنتهى الذي هو النبي - عليه السلام -.
(1/74)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
فكأنه قال: من هذه الحروف الدالة على
الأسباب الثلاثة حصول الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بمثله.
وما قاله الربيع بن أنس أن هذه الحروف حروف الجمل، وأن ذلك من
علوم خاصتهم، وقد نبه بها على مدد، فذلك غير ممتنع أن يكون مع
المعنى الأول مراداً، بدلالة أن النبي - عليه السلام - لما
أتاه اليهود فسألوه عما أنزل عليه، تلا عليهم " الم "، فحسبوه،
وقالوا: إن ملكاً يبقى إحدى وسبعين سنة لقصير المدة فعل غيره؟
فقال: " آلر "، و " آلمر " و " آلمص " فقالوا: خلطت علينا،
فإنا لا ندري بأيها نأخذ.
فتلاوة النبي - عليه السلام - ذلك عليهم، وتقريرهم على
استنباطهم دلالة أنه لا يمتنع أن يكون في كل واحدة دلالة على
مدة لأمر ما.
وأما ما حكي عنالزبيري أن هذه الحروف ذكرت علماً منه تعالى أن
يكون في هذه الامة من يزعم أن القرآن ليس بكلام الله، وإنما هو
حكاية كلامه، فأراد أن يبين أن القرآن مما يكتب ويخبر عن
أبعاضه وأجزائه بالحروف التي هي معلومة إنها محدثة، فإن هذا
القول من الوهي بحيث يستغنى عن إظهار بطلانه، إذ لا يقول أحد
إن الكتاب بما هو كتاب ليس بمؤلف من هذه الحروف وإن كانوا قد
اختلفوا في القرآن.
بل هو مقصور على الكتاب، أو المراد به هو غيره.
قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} الآية (2) - سورة البقرة.
قال أبو عبيدة: عنى به هذا الكتاب.
وقال غيره: عنى هو الكتاب، فظن بعض من لم يتقو في الحقائق أن
قولهم: " ذلك " قد يجئ بمعنى " هذا " و " هو " ليس الأمر على
ما ظنوه.
وإنما قصد هذا المفسر أن يبين أن الاسم الذي فيه الألف واللام
هو الخبر، لا لأنه وصف والخبر منتظر، كقوله تعالى: {إِنْ كَانَ
هَذَا هُوَ الْحَقَّ} والفصل كما يقع بالمضمرات فإنه يقع
بالمبهمات
فإن قيل: إذا كان هذا المعنى ما قدمت في " الم ذلك الكتاب "
فهلا قيل: " ذلك الكتاب ألم " فإنه قد علم أن حروف التهجي -
كما يكون الكتاب المشار إليه - قد يكون شعراً وخطبةً ورسالةً.
وقد تقرر أن العام إذا أخبر عنه بالخاص كان كذباً، نحو قولهم:
الحيوان إنسان وإذا أخبر عن الخاص بالعام كان صدقاً، نحو
قولهم: الإنسان حيوان، فيحصل من ذلك أنه إذا قيل: " الم
(1/75)
ذلك الكتاب - كان كذباً على هذا - وإذا
قيل: " ذلك الكتاب الم " كان صدقاً؟ قيل: في ذلك الكتاب جوابان
أحدهما: أن يجعل " ذلك الكتاب ": مبتدأ.
و" الم ": خبراً له مقدماً، وتقديمه على كون العناية به أصدق
كما تقدم.
والثاني: أنه قد يقال: الإنسان زيد.
بمعنى غير معنى " زيد إنسان " وهو أن يراد أن كما الإنسانية
موجود في زيد.
فكأنه قيل: كمال حروف التهجي موجود في هذا الكتاب والمكتوب في
التعارف اسم للمكتوب، أي: المنظوم كتابة، وقد يعبر عن المنظوم
عبارة قبل أن يكتب بالكتاب.
قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} الآية: (2) - سورة البقرة.
قال المفسرون: معناه لا شك فيه،
فإن قيل: كيف نفى الريب عنه، وقد علم تشكك كثير من الناس فيه؟
قيل: في ذلك أجوبة: الأول: إن ذلك نفي على معنى النهي نحو
قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ}، بدلالة قوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ} وقوله: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ
مِنْهُ}
فإن قيل: الشك لا يقصده الإنسان، فكيف ينهى عنه؟ قيل: اللفظ
لذلك، والمعنى حث على التدبر والتفكر النافيين للشك.
والثاني: أنه يقال: رابني كذا، إذا تحققت منه الريبة، وأرابني:
أوهمني الريبة.
قال الشاعر:
أخوك الذي إن ربته قال إنما. . . أربت وإن عاتبته لان جانبه
فالقرآن لا ريب فيه، وإن كان فيه ارتياب من بعض الكفار،
والثالث أنه يقال: هذا لا ريب فيه، والقصد إلى أنه حق، تنبيهاً
أن الريب يرتفع عن عند التدبير والتأمل، والرابع: أنه لا ريب
في كونه مؤلفاً من حروف التهجي وقد عجزتم عن معارضته، والخامس
لا ريب فيه للمتقين، ويكون خبر (لا ريب فيه) قوله تعالى:
(للمتقين) وهدى نصب على الحال أو خبر ابتداء مضمر في موضع
الحال.
قوله عز وجل -: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} الآية: (2) - سورة
البقرة.
قد تقدم الكلام في الهداية.
أما اختصاص المتقين، فلأن الهداية: نصب العلم ليهتدي به الناس
فله موضوع هو المبدأ: وذلك نصب العلم للكافة.
وغاية: وهو الاهتداء به، فيقال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} لما لم
يهتد به غيرهم.
ومثاله: من بنى مسجداً مباحاً للكافة.
يصح أن يقول: " بنيت هذا المسجد للناس كافة "، اعتباراً
بالمبدأ.
ويصح أن يقول: بنيته للمصلين فيه، اعتباراً بالغاية.
وطريقة أخرى: وهي أن
(1/76)
" اللام " في قوله القائل " خرجت لأظفر "
يقال على وجهين: أحدهما أن المقصود بالخروج: الظفر والثاني: أن
الحاصل منه الظفر، لا أنه قصد به، وعلى ذلك قوله تعالى:
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا} فقوله: هدى للمتقين: تنبيه على حصول الهدى لهم، وإن
كان القصد لهم ولغيرهم.
وطرقة ثالثة - إذا تؤملت تصور عنها جواب مسائل كثيرة في القرآن
- وهو أن الله تعالى جعل لنا طبين طبا بدنياً، وطباً دينياً.
وكل واحدٍ منهما ضربان: أحدهما: إعادة الصحة.
والآخر: حفظ الصحة.
قد أجرى العادة أن الذي يحفظ به الصحة غير الذي يعاد به الصحة
أما في الطب البدني: فالذي يعاد به الصحة العقاقير والأدوية.
والذي يحفظ به الصحة فالغذاء والأطعمة، وأما في الطب الديني
فالذي يعاد به الصحة صقل العقل واستعماله في تدبر الدلالات،
وتعرف المعجزات، ومعرفة النبوات.
والذي يحفظ به الصحة: تدبر الكتاب المنزل، وتتبع سنن النبي
المرسل.
فكما أن من لم يستفد الصحة في الطب البدني، إذا تغذى، كان ذلك
ضرراً عليه، ومتى أعاد صحته كان تناول الغداء عائداً بنفع
إليه، كذا من لم يستفد صحة عقله بتدبر الدلالات كان القرآن
ضرراً عليه، ومتى استعمل ذلك وتهذب فيه، جلب بالاستماع إلى
القرآن نفعاً إليه.
وعلى ذلك قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًاء} وقوله: {وَإِذَا مَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ
زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} إلى قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا
إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} وأما [التقوى]
فهو: جعل النفس في وقاية مما يخاف.
هذا حقيقته.
ثم يسمى تارة " الخوف " التقوى.
والتقى: خوفاً على تسمية المقتضي باسم المقتضي والمقتضي باسم
المقتضي وفي التعارف: حفظ النفس عن كل ما يؤثم.
ولها منازل: الأول: ترك المحظور.
وذلك لا يتم إلا بترك بعض المباح مما يليه.
ولذلك قال عليه السلام " من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه "
وقيل: من
(1/77)
لم يجعل بينه وبين محارم الله ستراً من
حلال، فحقيق به أن يقع فيها.
فقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ} أي: التاركين للمحظورات.
وقال {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} فجعل " المتقي " - في
الآيتين - غير المصلح والمحسن.
والثاني: من منازل التقوى - أن يتعاطى الخير من تجنب الشر،
وإياه عنى الله تعالى بقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} والثالث منها: التبرؤ من
كل شيء سوى الله - عز وجل - فلا سكون إلى النفس ولا إلى شيء من
القنيات والجاه والأعراض.
وهو المعنى بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
وما وعدناه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ
هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} ورجاناه بقوله: {وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}
إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فهذه المنازل مرتب بعضها
على بعض.
وقد فسر قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} على الوجوه
الثلاثة، فقيل: عني به التاركين لمحارم الله.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما: عني به الخائفين عقوبته
الراجين رحمته، وقال بعض المتقدمين: معنى {هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ} أي وصلة للمنقطعين إليه عن الأغيار الذين نزع
عن قلوبهم حب الشهوات.
فهذا نظر منهم إلى الغاية.
(1/78)
قوله - عز وجل: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ} الآية: (3) سورة البقرة.
الإيمان: التصديق بالشيء، ولا يكون التصديق إلا عن علم.
ولذلك قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} فالإيمان: اسم لثلاثة أشياء: علم بالشيء وإقرار
به، وعمل بمقتضاه، إن كان لذلك المعلوم عمل، كالصلاة والزكاة.
وهذا هو الأضل، ثم قد يستعمل في كل واحد من هذه الثلاثة، فقال:
" فلان مؤمن "، ويعني به أنه مقر بما يحصن دمه وماله وإياه عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها "، وبذلك حكم - عليه السلام - على الجارية
التي عرضت عليه فسألها ما سألها.
ثم قال: " اعتقها فإنها مؤمنة " ويقال: " مؤمن " ويراده: أنه
يعرف الأدلة الإقناعية التي يحصل معها سكون النفس، وإياه عنى
النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " من قال لا إله إلا الله
مخلصاً دخل الجنة "، ويقال: " مؤمن "، ويعني به: أنه يسكن قلبه
إلى الله من غير تلفت إلى شيء من عوارض الدنيا وإياه عنى الله
تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية، وبقوله: {أُولَئِكَ
كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} و " الغيب ": ما لا يقع
تحت الحواس، ولا تقتضيه بداية العقول، وإنما يعلم إما بواسطة
علم ما أو الاستشهاد به عليه، وإما بخبر الصادق، وهو الذي دفعه
قوم، فلزمهم اسم الإلحاد، لأن الإلحاد: دفع أخبار الغيب، وقول:
" زر بأن ": الغيب: هو القرآن.
وقول عطاء: إنه القدر: تمثيل لبعض ما هو غيب.
وليس ذلك بخلاف بينهم، بل كل أشار إلى الغيب بمثال وكذا ما روى
أبو جمعة " إنا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا
يا رسول الله: هل قوم أعظم أجرا منا، آمنا بك واتبعناك.
قال: ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من
السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين،
(1/79)
فيؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم
أجراً منكم " فتبين منه - عليه السلام - أن من بعده يحتاج إلى
نظر أكثر من نظر الذين شاهدوه فقد كفوا كثيراً من أخبار الغيب.
وقوله: " بالغيب " في موضع المفعول.
كقوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وقال بعضهم: معناه:
يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا كالمنافقين الذين {وَإِذَا
خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
وقوى ما قاله بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ} وقوله {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}، قول
الشاعر:
وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
ويكون " بالغيب " على هذا في موضع الحال.
ومفعول: " يؤمنون ": محذوف.
وقال بعض المتأخرين من المتكلمين: يحمل قوله تعالى " بالغيب "
على المعنيين وخفي عليه أن ذلك لا يصح، فإن وبالغيب في القول
الأول: مفعول: في القول الثاني: حال لا يصح أن يقال ضربت
راكباً، و " راكب " يكون مفعولاً: لـ " لضربت " و " حالاً "
للفاعل.
والوجه: هو القول الأول، لأنه مستوعب لمعنى الثاني وزائد عليه،
إذ كل من آمن - على الوجه الأول - فلا شك أنه بخلاف من يقول:
{إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} وقيل: معنى قوله:
{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} يعني بالقلب، والنور الذي آتاهم
الله وهو العقل، ومعناه: آمنوا بقلوبهم، بخلاف من أخبر الله
تعالى عنهم بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}
ومن حكى عنهم: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ} وهذا أيضاً يرجع إلى الأول عند التحقيق، وقيل: "
يؤمنون " من: " آمن فلان " - أي: صار ذا أمنٍ نحو أحال وأجرب.
ومعناه: صاروا ذوي أمن بظهر الغيب بأن ما أخبروا به حق، فتطمئن
قلوبهم بذكر الله.
(1/80)
قوله (عز وجل): {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}:
إقامة الصلاة: توفية حدودها وإدامتها، وتخصيص " الإقامة "
تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط.
ولهذا لم يأمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة نحو:
{أَقِمِ الصَّلَاةَ} وقوله: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} و
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} ولم يقل المصلي إلا في
المنافقين {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وذلك تنبيه أن المصلين كثير والمقيمين
لها قليل، كما قال عمر - رضي الله عنه [الحاج قليل والركب
كثير]، ولهذا قال عليه السلام:
" من صلى ركعتين مقبلاً بقلبه على الله خرج من ذنوبه كيوم
ولدته أمه " فذكر مع قوله - صلى الله عليه وسلم - الإقبال
بقلبه على الله تنبيهاً على معنى الإقامة، وبذلك عظم ثوابه
وكثير من الأفعال التي حث تعالى على توفية حقه ذكره بلفظ
الإقامة نحو: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ} ونحو: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ}
تنبيهاً على المحافظة على تعديله.
وقال أبو علي الجبائي: الصلاة لما جاورها القيام صح أن يعبر عن
المصلى بالقيام وهذا بعيد، لأن المجاور للصلاة القيام لا
الإقامة، ثم مع القول المتقدم لا يعرج على هذا، وقوله - عز وجل
- {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الرزق: لفظ مشترك،
يقال للعطاء الجاري تارة، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف
ويتغذى به تارة.
فقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ} يعني نصيبكم من النعمة.
وقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} تنبيه على ان الحظوظ
بالمقادير.
وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} {وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ} محمول على المباح دون الحظور لأمرين: أحدهما:
[أنه] حث
(1/81)
وعلى الإنفاق، ومدح لفاعل، ولا يحث ولا
يمدح بانفاق المحظورات.
والثاني: باضافته إليه وتمكينه منه، حيث قال: {وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ} من شرط ما يضاف إليه من الأفعال مفصلاً أن يخص
الأفضل، فالأفضل، وإن كان قد يضاف إليه الأفعال كلها على سبيل
العموم بمعنى: أنه هو السبب الذي لولاه - تعالى - لم يحصل ولم
يكن بوجه والظاهر - من إنفاق ما رزقه الله - المال، وذلك عام
فيما يخرج من الزكاة المفروضة، ومن العطايا النافلة، بدلالة أن
ذلك مدح منه.
والمدح قد يستحق بالفرض والنفل، وما روي عن ابن عباس - رضي
الله عنهما - أنه عنى " الصلوات المفروضة " والزكوات
[المحدودة] فإنه، ذكر أوكد ما يستحق به المدح، إذ لا يعتد
بالنفل ما لم يؤت بالفرض، لقوله عليه السلام: " إن الله لا
يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة " وروي عن ابن مسعود - رضي الله
عنه - " إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى اللقمة يضعها في في
امرأته " فالإنفاق من الرزق بالنظر العامي من المال كما تقدم.
وأما بالنظر الخاصي:
فقد يكون الإنفاق من جميع المعاون التي أتانا الله - عز وجل -
من النعم الباطنة والظاهرة، كالعلم والقوة والجاه والمال.
ألا ترى إلى قوله - عليه السلام - " إن علماً لا يقال به ككنز
لا ينفق منه " وبهذا النظر عد الشجاعة وبذل الجاه وبذل العلم
من الجود حتى قال الشاعر:
والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
وقال آخر:
بحر يجود بماله وبجاهه. . . والجود كل الجود بذل الجاه
وقال حكيم: الجود التام: بذل العلم.
فمتاع الدنيا عرض زائل ينقصه الإنفاق.
وإذا تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض.
والعلم بالضد 0 فهو باق دائم.
ويزكو على النفقة، ولا يثلم تناول البعض حال الباقين، وإلى هذا
ذهب بعض المحققين فقال: (ومما رزقناهم ينفقون) أي: مما خصصناهم
به
(1/82)
وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
من أنوار المعرفة يفيضون " فعلى هذا عام في
كل ذلك.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ}.
سورة البقرة: الآية (4) ..
الإنزال، والوحي متقاربان، لكن استعمال " الإنزال " على اعتبار
حال المنزل والمنزل إليه بالشرف والمنزلة، لا بالمكان، والوحي:
هو الإشارة والإبقاء.
وذلك على ثلاثة أضرب بينها الله تعالى في قوله {وَمَا كَانَ
لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ
مَا يَشَاءُ إِنَّهُ} الأول - من ذلك الوحي: والإنزال الذي
بينه تعالى وبين أولي العزم من الرسل بسفير يرونه.
والثاني: بسماعٍ من غير رؤية، كحال موسى - عليه السلام - في
ابتداء بعثته.
والثالث: بالإلهام والإلقاء في الروع.
وذلك ضربان: إما الإلقاء في الروع في حال اليقظة، وهو المعبر
عنه بالمحدث و " المروع "، وعليه نبه عليه السلام بقوله: (إن
في أمتي لمروعين) وقوله: (إن يك في هذه الأمة محدث فعمر بن
الخطاب) وقوله (إن روح القدس نفث في روعي) وإما إلقاء إليه في
المنام، وذلك ضربان: إما ظاهر من المنام لا يحتاج إلى تعبير
...
وإما تلويح ورمز يحتاج إلى تعبيره، ولهذا قال عليه السلام:
" الرؤيا الصادقة [الصالحة] جزء من خمس وأربعين جزءاً من
النبوة " فالذي يكون في المنام بالإلقاء في الروع، قد يكون
لغير الأنبياء - عليهم السلام - والذي يكون بالسماع من غير
رؤية قد يكون لغير أولي العزم من الرسل.
والذي يكون بالسفير المرئي لا يكون إلا لأولي العزم.
وعلى هذا
(1/83)
حال الإنزال، فقد ذكر تعالى: {اللَّهُ
الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ}، وقال:
{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}
ومعلوم أن ذلك بالتمكين والإلقاء في الروع: بالهداية إليه.
واليقين أقوى إدراكات العقل، ولهذا قيل: هو مشاهدة الغيوب بعين
القلوب تنبيه أنه أقوى إدراكات العقل، كما أن رؤية البصر أقوى
إدراكات الحواس، ولصعوبة إدراكه، قال - عليه السلام -: " أخوف
ما أخاف على أمتي ضعف اليقين " ولذلك قالوا: اليقين هو اطمئنان
القلب اعتباراً بثمرته.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}
واستعمل فيه " الرؤية تنبيهاً على ما تقدم، والكلام في ترتيب
الآيتين ونظمها صعب.
وذاك أنه إن كانت تفصيلاً للمتقين، فالوجه أن يفصل ذلك بفصل لا
يدخل أحد القسمين في الآخر، نحو أن يقال: العرب بدوي وحضري،
وشاعر وغير شاعر.
أو تميمي وغير تميمي، فأما أن يقال: شاعر وتميمي، فلا يصح،
ومعلوم أن بعض ما ينطوي عليه أحد الآيتين داخل في جملة الأخرى.
وإن كان ذلك ليس بتفصيل، وإنما هي صفات للمتقين، ويكون ذكر بعض
ذلك مخصصاً عن الجملة كذكر جبرائيل وميكائيل بعد الملائكة على
سبيل التخصيص، فالوجه: أن لا يعاد " الذين " ثانياً، [ثم]
قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} الآية: (5) - سورة البقرة.
[يجب أن يعلم هل هما صفتان لموصوفين أو لموصوف واحد] فيقال -
وبالله التوفيق: إنه قد قيل: الآيتان - وإن كانتا عامتين
فمعناهما خاص.
فالأولى أشير بها إلى الذين آمنوا عن الشرك، والثانية إلى
الذين آمنوا من أهل الكتاب - وهو قول ابن عباس - واستدل على
تقوية ذلك بأنه كما صنف الكفار - بعد
(1/84)
ذلك - فجعلهم " مجاهداً " و " منافقاً "،
كذلك صنف المؤمنين، فجعلهم مؤمناً عن شرك، ومؤمناً عن غير
مخالف في النبوة.
فعلى هذا قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ} كأنه قيل: هذا الكتاب هدى للمسلمين الذين هذا وصفهم.
ولأهل الكتاب الذين جمعوا بين الإيمان بك وبمن تقدمك.
وقد قيل فيه قول ثان: وهو أن الإيمان ضربان: ضرب يمكن أن يدرك
جملتها بالعقل، وإن لم يكن إدراك تفاصيله إلا بالشرع.
وذلك ثلاثة أشياء.
ذكرها في الآية المتقدمة: وهي أفضل ما يؤدي بالجوارح وهي
الصلاة.
وأفضل ما يؤدي من الأملاك، وهو الزكاة.
وذلك صفات المتقين.
ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة أشياء.
ذكرها في الآية المتقدمة: وهي أفضل ما يؤدي بالجوارح وهو
الصلاة.
وأفضل ما يؤدى من الأملاك، وهو الزكاة.
وذلك صفات المتقين.
ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة أحوال من أسرار الإيمان مما لا سبيل إلى
معرفته إلا بالسمع وهو الإيمان بالقرآن والإيمان بالكتب
المنزلة على الرسل المتقدمة الإيقان بيوم القيامة قال: وإنما
أعاد " الذين " تنبيهاً أن هذه الثلاثة سبيلها غير سبيل الأول،
وقد قيل فيه قول ثالث: وهو أن الإيمان ضربان، ضرب هو معرفة
سبيل الحق، وطلب الوسيلة إليه وهو المشار إليه بقوله: {ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ} وبقوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}
وضرب هو مزاولة السلوك إليه المشار [إليه] بقوله تعالى: {قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وبقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ
جِهَادِهِ} فالمعنيون بالآية الأولى هم الموطئون السبيل إليه
بالإيمان به والعبادات البدنية والمالية، وبالثانية المجتهدون
في التوصل إليه وهم الذين يعرفون حقائق مراد الله بما أنزله
على أنبيائه وعناهم الله تعالى بقوله: {وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}
وبقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ
فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} وبقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ
فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} وهم المزيد لهم بقوله: {وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} فعلى
(1/85)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى
مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
هذا يرجع قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} إلى الصنف الأول، {وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} إلى الصنف الثاني، قوله تعالى: {أُولَئِكَ
عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
(5)
قد تقدم القول في ذكر الهداية بما أغنى عن الإعادة.
فأما " الفلح " فأصله: الشق ومنه قيل: " الحديد بالحديد يفلح "
وسمى " الأكار " فلاحاً، اعتباراً بمبدأ فعله، وهو شق الأرض،
ومن قال: يسمى " المكارى " فلاحاً لقول الشاعر " وفلاح يسوق
لها حماراً " فهذا سوء نظر منه، فإنه أراد أكاراً يسوق حماراً،
فكما أنه لو قال: أكاراً يسوق حماراً، لم يكن يجب أن يقال:
الاكار: هو المكاري، كذلك هذا.
وسمي " الظفر " فلاحاً اعتباراً بكشف الكربة.
ثم " الفلاح " تارة يعتبر بأعراض الدنيا، فيقال: أفلح فلان:
إذا ظفر بما يريده.
وقول من قال: الفلاح: البقاء، لقول الشاعر: وترجو والفلاح بعد
عاد وحميرا فإنما عني الفرج.
والبقاء: بعض الفرج.
فإذا ذلك عام موضوع موضع خاص.
وقد استعمل " الفلاح " في الآية لما هو في الحقيقة ظفر وفرج،
كما قال عليه السلام: " لا عيش إلا عيش الآخرة " وهو قوله
تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}.
(1/86)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
قوله - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ
لَا يُؤْمِنُونَ} الآية: (6) - سورة البقرة
الكفر في اللغة الستر، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص
والزارع لستره البذر في الأرض وليس لهما باسم كما ظن بعض أهل
اللغة لما سمع قول الشاعر: ألقت ذكاء يمينها في كافر فإن ذلك
على إقامة الوصف تمام المصوف، وقول الشاعر: كالكرم إذ نادى من
الكافور، أي: الأكمام منه، وسمى القرية كفراً لذلك، وكفر
النعمة: سترها، يقال: كفر كفراً وكفوراً، نحو شكر شكراً
وشكوراً وهو كافر وكفور، وشاكر وشكور.
وحقيقة الكفر ستر نعم الله تعالى، ولما كانت نعمه تعالى بالقول
المجمل ثلاثاً، نعمة خارجة: كالمال والجاه، ونعمة بدنية:
كالصحة والقوة، ونعمة نفسية: كالعقل والفطنة، صار الشكر والفكر
ثلاثة أنواع بحسبها، وأعظم الكفر ما كان مقابلاً للنعمة
[النفسية] فيها يتوصل إلى الإيمان واستحقاق الثواب، ومن قابل
تلك النعم بالكفران فهو الكافر المطلق، ولذلك صار الكفر في
الإطلاق جحود الوحدانية والنبوة والشريعة ..
، وقوله تعالى: {سَوَاءٌ} في الأصل مصدر كالعلاء والنماء، وفي
المتعارف يستعمل في وسط الشيء المعتبر استواؤه بطرفيه، ومنه
سواء الدار، وأما السيان: ففي الشيئين المعتبر أحدهما بالآخر
في المساواة، فالشيء هو المساوي كالقتل والمثل في معنى المقاتل
والمماثل، فإذا قيل: " سيان زيد وعمر "، فمعناه: " كل واحد
منهما مساوٍ للآخر "، وإنما جاز قولهم: ([سواء] على أقمت أم
قعدت) منه بإبهام الأمر على استواء الحالين لديه، وإن كان
القصد الأول بهذا الكلام إلى الاستفهام دون المساواة، فلما صار
فيه معنى الاستواء، جاز أن يقال ذلك بمعنى أن ما اقتضاه هذا
السؤال سوى عندي، وأكثر النحويين جعلوا " سواء " مبتدأ وما
بعده خبره، وقالوا: " كل جملة حصلت خبرا لمبتدأ فلابد من أن
يكون فيها ضمير منطوق به، أو مقدر إلا هذه الجملة، فإنه لا
ضمير فيها بوجه، وذكر بعضهم أن المبتدأ ههنا مقدر، وقد دل عليه
لفظ الاستفهام وسواء: خبره فالجملة قد تدل على المخبر عنه نحو
من كذب
(1/87)
كان شراً له أي كان الكذب شراً له، وهذا
التقدير أجود لأمور منها: أنه لا ينكسر الباب على هذا، لأن
الباب مقرر في أن الجملة إذا كانت خبراً فلابد لها من ضمير
يرجع إلى المخبر عنه، والثاني: أنا إذا قلنا: " سواء عليهم
القيام والقعود " يخبر عن القيام والقعود بالسواء لا عن السواء
بالقيام والقعود والثالث: إن سواء نكرة غير موصوفة ولا محدودة،
فيقبح الابتداء به، وقال أبو على الغنوي في نصرة المذهب الأول:
" إنك إذا قلت سواء هو خبر، بقى الكلام بلا مبتدأ فالجملة بعده
خبر ساقط على التقدير المتقدم ويشهد لصحة ما قلنا قولهم: "
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فإن قولهم: " تسمع " يدل على
مبتدأ، وقولهم: " خير " خبره، كأنه قيل: " تسمع وسماعك
بالمعيدي خير "، والإنذار إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير
إخبار فيه سرور، وقولهم: نذرت يقتضي معنى خشيت وخفت، وأما
قولهم: " أنذرت "، فذلك تقديم قول يقتضي خوفاً من محذور أو
رجاء لسرور.
إن قيل: كيف قال {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الآية وقد علم أنه قد
آمن من الذين كفروا قوم قيل: إيمان من آمن لا ينافي مقتضى
الآية، وذلك أنه تعالى نفى أنهم ينتفعون بالإنذار مع حصول
الكفر، فأما إذا زال الكفر وهو الجحود، فإنه لا يمتنع أن
ينتفعوا بالإنذار، كقولك: " المريض سواء أطعمته أم لم تطعمه لا
ينفعه الطعام " - تنبيهاً أنه ما دام مرضه حاصلاً لم ينفعه
ذلك، ولا تقتضي أنه لا ينتفع بذلك إذا زال مرضه، وقد تقدم أن
الطب ضربان: إزالة المرض، وحفظ الصحة، وأن الإنذار يجري مجرى
الغداء الحافظ للصحة، وأن النظر في الأدلة المقتضية للتوحيد
وإثبات الرسل جار مجرى الدواء المعيد للصحة، والمريض لا ينتفع
بالغذاء ما لم يزل مرضه، فتبين أن الذي في قلبه مرض من الكفر
لا ينتفع بما يجري مجرى الغذاء ما دام به المرض، وقد روى عن
ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ما دل على هذا، وهو أنه
قال: " عنى به الجاحدين لنعمه " وأن الإنذار لا ينفعهم مع
كفرهم "، وقيل: إن ذلك حكم على جميعهم، لأن النبي - عليه
السلام - كان يحب أن يؤمنوا بأجمعهم، وإيمان بعضهم ليس يقتضي
أن الحكم على الكل كاذب، وقيل: الآية نزلت في اليهود الذين
حجدوا نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ظهور المعجزات
لهم، ولم يؤمن أحد منهم، وقال الربيع: " نزلت في قادة الأحزاب
الذين نزلت فيهم.
(1/88)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ
دَارَ الْبَوَارِ} وقيل: لم يدخل في الإسلام منهم إلا نفر لا
يدري هل حصل لهم الإيمان الموصوف في قوله تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا}
فإن قيل: إذا علم أنه لا ينجع فيهم الإنذار، فما فائدة حث
النبي - صلى الله عليه وسلم - على إنذارهم؟
قيل: قد بين الله تعالى في الآية ما هو تنبيه على الجواب عن
ذلك، لأنه قال: " سواء عليهم "، ولم يقل: عليك، ليبقى للنبي
فضل الإنذار والسعي، ففي إبلاغه فائدتان: فائدة له في استحقاق
الثواب لما تكلفه من المشاق، وفائدة لهم أن قبلوا، فهم وإن
حرموا فائدة القبول، فإنه - عليه السلام - لم يحرم فائدة
الإبلاغ، وعلى ذلك قال: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ} تنبيهاً على هذا المعنى، وقال فيما خاطب به الكفار
وذمهم لعبادتهم الأصنام {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ
أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} فقال عليكم لما كان ذلك راجعاً إلى
الداعين دون المدعوين وخبر أن يصح أن يكون قوله: {لَا
يُؤْمِنُونَ} وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} مع خبره اعتراض في
موضع الحال، ويصح أن يكون الجملة التي هي سواء عليهم مع خبره
خبر " إن " وقوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} حال مؤكدة، أو تفسير
لذلك، لأنه إذا قيل: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} لا يعلم من ظاهره أن هذا الاستواء هل
هو في: " أن يؤمنوا " أو في " أن لا يؤمنوا " فبين ذلك
قوله - عز وجل -: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} الآية (7) سورة البقرة.
الختم، والطبع الأثر الحاصل على نقش، وتجوز به في أمور، يقال:
" ختمت كذا " في الاستيثاق من الشيء والمنع منه - نظراً إلى ما
يحصل من المنبع بالختم على الكتب والأبواب، ويقال ذلك، ونعني
به تحصل أثر نظر إلى النقش الحاصل عن الطابع إذا طبع، ويقال
ذلك ونعني به بلوغ أخر الشيء - نظراً إلى أنه أخر فعل يفعل في
إحراز الشيء منه، ومنه قيل: " ختمت القرآن " ويقال ذلك لما
يستدل به إلى الشيء نظراً إلى ختم المناشر المستدل به على
منشيها، وأما المراد من الآية، فقد قيل: " للإنسان بالقول
المجمل ثلاثة
(1/89)
أنواع من الذنوب يقابلها في الدنيا ثلاث
عقوبات.
الأول: الغفلة عن العبارات، وذلك يورث صاحبها جسارة على ارتكاب
الذنوب، وهي المشار إليها بقوله عليه السلام: " إن المؤمن إذا
أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل
قلبه، وإن زاد زادت حتى يغلق قلبه " " والثاني: الجسارة على
ارتكاب المحارم، إما الشهوة تدعوه إليه أو وشرارة تحسنه في
عينه، وذلك يورثه وقاحة، وهي المعبر عنها بالرين في قوله
تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ} والثالث: الضلال، وهو أن يسبق إلى اعتقاد مذهب
باطل، وأعظمه الكفر، فلا يكون منه تلفت بوجه إلى الحق، وذلك
يورثه هيئة تمرنه على استحسانه للمعاصي واستقباحه للطاعات، وهو
المعبر عنه بالختم والطبع، وكما عبر عنه بذلك في قوله تعالى:
{وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وقوله: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ} فقد عبر عنه بالإقفال في قوله تعالى: {أَمْ
عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} وبالإغفال في قوله: {وَلَا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} وبقساوة القلب في
قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وبجعل أكنةٍ عليها
في قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ} وبعدم العقل في آيات كثيرة.
ويجب أن يتصور ههنا نكتة تزيل الشبهة فيها وفيما أشبهها من
الآيات، وهي أن الهداية من الله تعالى ضربان، أحدهما: بالعقل
الذي هو فطرته التي فطر الناس عليها، ومتى توهم نفياً مرتفعاً
ارتفع التكليف، والثاني: العلم المحصل للإنسان بالفكر والروية
بواسطة ما أعطى من نور الهداية الأولى، وهو الذي أشار إليه
النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قال لعلي - رضي الله تعالى
عنه - " إذا تقرب الناس إلى خالقهم بالصلاة والصيام، فتقرب أنت
إليه بالعقل تسبقهم بالدرجات " فإذا كان كذلك، وجب أن يكون
متصوراً أن هذه الهداية الثانية مباحة للكافة.
(1/90)
كان لا سبيل إلى لقائها وتناولها والانتفاع
بها إلا لمن جلى بصيرته لرؤيتها، وطهر قلبه بقبولها، وقد نبه
تعالى على ذلك بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} والكافر
من حيث لم يجل البصيرة لم يرها، وإذا لم يرها لم يتناولها،
وإذا لم يتناولها، صح أن يقال: " هو ممنوع منها ومصروف عنها "،
كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ
يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا
سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} ثم بين سببه فقال:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
غَافِلِينَ} وتصور بعض الناس أن ذلك الختم منع من الله تعالى
للكافر عن الإيمان، واستدل به على جواز تكليف ما لا يستطاع،
وهذا تصور فاسد، فالإنسان في هذه الحالة، وإن كان لا سبيل له
إلى الإيمان في الحال، فذلك بما كسبت يداه من إهمال نفسه، فما
فسد بينهما من يده، فإنه وإن كان لا يقدر على رده، فقد كان من
قبل سهلاً عليه أن يضبطه فلا يرمي به، ألا ترى أنه تعالى قال:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى
قُلُوبِهِمْ} فجعل الكفر علة للطبع على قلوبهم، وقال بعض
المتكلمين: إن الختم والكن لو كان مانعاً من الإيمان، لما أنكر
الله تعالى على الكفار حيث قالوا {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا
يُؤْمِنُونَ} {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا
وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} وليس بصحيح استدلاله، وذاك أن هذا المنع
حاصل، لكن هو من جهتهم على ما تقدم، والقوم لم يتصوروا ذلك،
فلذلك أنكر الله عليهم ما قالوه، وأما ما قاله أبو علي الجبائي
في أن " الختم " سمة جعلها الله تعالى في قلوب الكفار دلالة
للملك على كفرهم كالكتابة في قلوب المؤمنين ليعرفوا بها
الاعتقادات التي لا تظهر بالجوارح، فإن هذا كما قال الشاعر:
تخرصا وأحاديثا ملفقة. . . ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
وذاك أن هذا الحكم لا سبيل إلى إثباته إلا بسمع غير محتمل،
وأيضا فإن هذه الكتابة إن كانت
(1/91)
محسوسة، فمن حقها أن يدركها ذو الحاسة وإن
كانت معقولة، والاعتقاد أيضاً معقول، فالملائكة غير مفتقرة في
شيء من المعقولات إلى الأدلة والبراهين كما يحتاج إليها البشر،
وقال أبو القاسم البلخي: " إن ختم الله عليها شهادته على
صاحبها بأنه لا يؤمن " قال: وتخصيص القلب بذلك لاختصاصه
بالاعتقادات، كتخصيص الرجل بالمشي، واليد بالبطش إذا قيل: "
مشت رجله "، و " بطشت يده " وقد جعل الله تعالى في قوله:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ثلاثتها مطبوعاً عليها، وفي هذه
الآية، وفي قوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}.
البصر مغشي عليع مفرداً عن القلب، والسمع، فقد قيل: إن ذلك
لاختصاص البصر بمعنى، وهو أنه لما كان يحتاج في إدراك مدركاته
إلة نور من خارج كما يحتاج إلى نور من داخل، والقلب والسمع
يستوي حالهما في إدراك مدركاتها في الضوء والظلمة، خص البصر
بالغشاوة - تنبيهاً على أن النور ممنوع منه، فلا يحصل به
الانتفاع وأيضاً، فإن ما يدركه القلب والسمع لا يختص بجهة دون
جهة، وما يدركه البصر يختص بجهة المقابلة، فجعل ما يمنعهما من
خاص، فعليهما الختم الذي يمنع من جميع الجهات، وجعل ما يمنع
البصر من خاص الغشاوة المختصة بجهة دون جهة، وأكثر ما ذكر الله
القلب، فالمقصود به " العقل والمعرفة "، وكان ذلك عباة عن
الموعي بالوعاء، وعلى هذا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}، وقوله تعالى: {فَتَكُونَ
لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، وقوله عليه السلام: "
استفت قلبك وإن افتاك المفتون "، وأما إفراد السمع مع جمع
القلب والبصر، فقد قيل: إن السمع في الأصل مصدر، فأجرى مجرى
أصله، وقيل: أراد موضع سمعهم، وقيل: المضاف إلى الجمع يصح جمعه
على الأصل، وإفراده على الإيجاز - اعتماداً على المضاف إليه،
كقول الشاعر:
أمَّا عِظَمامُهَا فَبِيضٌ ...
وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
(1/92)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ (8)
والغشاوة: ما يغشى به كالعلاقة، وغشي منه،
لكن قلب واوه ياء لنكسار ما قبله، وكذلك: غشيان، كغليان.
ومن نصب غشاوة فعلى تقديره جعل على أبصارهم غشاوة، ومن رفع
فعلى القطع والاستئناف، والعذاب: اسم من التعذيب، وكان الأصل
من قولهم ما عذب والتعذيب إزالة ذلك العذاب كقولهم مرضته فديته
في إزالة المرض والقذى بين العذاب والعقاب أن العقاب لا يقال
إلا فيما كان مجازة، وكأنه هو المتعقب للجرم المتقدم، والعذاب
يقال فيه وفي غيره، ووصفه بالعظيم: تنبيه أنه إذا قويس بسائر
ما يجانسه قصر جميعه عنه.
قوله - عز وجل - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}
الآية: (8) - سورة البقرة.
الناس: جماعة حيوان ذي فكر ورويةٍ، واختلف في لفظه، فقيل: هو
من قولهم: أناس، وحذف همزته وتقديره بعد الحذف عال، وقيل: بل
هو من: " ناس " - ينوس - أي اضطرب، وتسميته بذلك لكونه ذا
اضطراب زائد على غيره، إما ببدنه وفكره معاً، فللإنسان بالفكر
حركة زائدة على سائر الحيوان، وقيل: هو ومقلوب من: نسى، نحو: "
جذب "، و " جبذ " ولاه أبوك ولهي أبوك، وكذا قال ابن عباس -
رضي الله تعالى عنهما - في الإنسان: إنه سمى بذلك لأنه عهد
إليه فنسى، فإنسان: على ذلك: " أفعلان " أصله " إنسيان "
بدلالة تصغيرهم على أنيسان وقيل: سمي إنسا وإنساناً لانه خلق
خلقه لا قوام له في حياته بجميع أسبابه، فيحتاج البعض إلى بعض
ليتسبب لهم أمورهم ولأنه إذا لم يكن له مسكون إليه من جنسه لم
تطب حياته، وعلى ذلك قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} وهذا المعنى رمقه الشاعر حيث قال:
من كان في الدنيا بغير حبيب. . . فحياته فيها حياة غريب
ما كان في حور الجنان لا دم. . . لو لم يكن حواء من مرغوب
قد كان في الفردوس يشكو وحشة. . . فيها فلم يأنس بغير حبيب
(1/93)
وقد روى أنه سمي إنسانا لأنه نسى العهد،
وهذا من حيث اللفظ لا يصح، لكن من حيث المعنى يصح أن يقال: عنى
أنه أنس بالشجرة، فنسى العهد والله أعلم، وأما القول: فيقال
على أوجه: الأول: اللفظ المبرز بالعبادة، والثاني: للمعنى
المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ والثالث: للمذهب نحو: "
فلان يذهب إلى قول أبي حنيفة " - رحمه الله تعالى -.
والرابع: للعناية الصادقة بالشيء نحو: فلان يقول بكذا، والخامس
للدلالة المنبئة عن الشيء نحو: امتلأ الحوض، وقال قطني
والسادس: في استعمال المنطقيين عبارة عن الحد، يقولون قول
الجوهر كذا، وقول العرض كذا، أي حدهما، ولاستعمال القول على
أوجه مختلفة، قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ} وقال:
{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} والأصل في ذلك العبارة، لكن
عبر عن نسبة تارة به كتسمية العنب خمراً في قوله تعالى:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} والفرق بين القول والكلام
أن الكلام لا يطلق إلا لجملة مفيدة لفظاً أو تقديراً، والقول
قد يقال لبعض الجملة، فإذا كل كلام قول، وليس كل قول كلاماً،
ولذلك قال سيبويه:
" قلت: في كلامهم: يحكى به ما كان كلاماً لا قول " فأورد ذلك
مورد المقرر في النفس أن الكلام موضوع لجملة مفيدة، وقد بين
الله تعالى في هذه الآية أن في الناس من يدعي الإيمان بالله
والمعاد، وهو كاذب في قوله ودعاه وذلك كقوله: {وَإِذَا
جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا} وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا
لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} كل ذلك تنبيه على أن الإيمان غير نافع
ولا مقبول إلا بتقديم النية والإخلاص ومطابقة المقال والفعال،
وقال أبو علي الجبائي: هذه الآية تدل على أن إقرار من أقر
بالله إذا لم يكن عارفاً بالله لا يكون بهذا القول مؤمناً بل
مدعياً له.
والمخالف لا يخالف في ذلك وإنما يقول: إنه يصير مؤمنا إذا تفوه
بالشهادتين، وقال أبو علي أيضا: " إن الآية
(1/94)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
تدل على بطلان قول من زعم أن جميع المكلفين
عارفون بالله " قال: لأن هؤلاء المنافقين لو كانوا بالله
عارفين، وكانوا بحضرة النبي - عليه السلام - مقرين، لكان يجب
أن يكون إقرارهم بذلك إيماناً منهم، لأن من عرف الله وأقر به
لم يكن إقراره غير إيمان، فلما بين تعالى أنهم غير مؤمنين بما
أخبروا به، علمنا أنهم لم يكونوا يعرفونه وليس في الآية دلالة
على ما قال، أو لأن الله تعالى قال: يقولون آمنا بالله وباليوم
الآخر، ثم نفى عنهم الإيمان بهما، واحد لا يقول: إن معرفة
الإنسان بالله وباليوم الآخر ضرورة وإن ادعوا معرفة الله
وحدها، وثانياً: أن أحداً لا يقول: " الإقرار بالله على وجه
الخداع إيمان، والله تعالى قد أخبر أنهم يخادعون الله بهذا
القول، وثالثا: أن الإيمان المنفي عنهم ليس هو الإقرار، بل هو
سكون النفس المذكور في قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}.
ورابعاً: أن من يقول: معرفة الله ضرورة، يذكر أن ذلك لا يحصل
إلا عن سبب يتقدمه كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة لا يحصل إلا
بتقديم سماع المخصوص فكذلك معرفة الله ضرورة [لكن لابد فيها من
سبب يتقدمها، وخامسها: أن عند كثير ممن يدعي] أن معرفة الله
ضرورة أن ذلك موجود في الإنسان بالقوة، كوجود النار في الحجر،
فلابد لها من انقداح به يخرج، ومتى لم يحصل السبب لم تكن
النار، كذلك المعرفة بالله تعالى.
قوله عز وجل: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}
الآية (9) - سورة البقرة.
الخداع: إنزال الغير عما هو بصدده بأمر تبديه على خلاف ما
تخفيه، ومنه: قيل: خدع الضب.
إذا استتر في جحره، واستعمال ذلك فيه لما اعتقدوا في الضب، أنه
يعد عقربا يلدغ من يدخل يده في حجره حتى قالوا العقرب بواب
الضب، ولاعتقاد الخديعة فيه قالوا: " أخدع من ضب " وطريق خادع
مخالف لما يقتضيه ظاهره، والمخدع كأنك جعلته خادعاً لمن رام
تناول ما فيه لأنه بيت في بيت، وقولهم: " خدع الطريق " إذا قل،
فتغير متصور منه هذا المعنى.
والاخدعان: تصور منهما الخداع، لاستنادهما تارة، وظهورهما
أخرى، وفي الحديث:
" بين يدي الساعة سنون خداعة " أي مغتالة، لتلونها بالجدب
تارة، والخصب أخرى.
إن قيل:
(1/95)
لم قال (يخادعون الله) وهم لم يقصدوا
بفعلهم خديعته؟ قيل: ذكر بعض النحويين أنه أراد تعالى "
يخادعون رسول الله "، فحذف المضاف، وهذا باعتبار حكم اللفظ دون
المعنى فأما باعتبار المعنى فإنهم لما قصدوا خديعة النبي -
عليه السلام - وقد أنبأ تعالى أن معاملة الله تعالى، حتى قال:
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال: {إِنَّ
الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}
جعلهم مخادعين له بخديعتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -،
فإن قيل: المخادعة من بين اثنين، وقد علم أن ذلك لم يكن من
الله تعالى ولا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكيف قال
يخادعون؟ قيل: قد قال أهل اللغة وكثير من المفسرين: أن الخديعة
من الله هي مجازاته إياهم بمثل فعلهم، فسمي مجازاة الشيء
باسمه، وكذلك قالوا في المكر والهزؤ ونحوهما مما وصف به نفسه،
ولا يليق به، وعلى ذلك قول الشاعر:
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ووجه أخر وهو أنه قد تقدم أن مخادعتهم لله - عز وجل - في
الحقيقة مخادعة الرسول، ولما كانوا يراؤون ليزيل عنهم حكم
المشركين ويجريهم في الأحكام مجرى المؤمنين، ويطلعهم على
الأسرار، وهو لا يجريهم في كثير من الأمور مجراهم تصوروا أن
ذلك لهم خداع، كما أن الأول منهم له خداع، فأخرج اللفظ على حسب
وهمهم وجسبانهم فهمهم، لا على ما عليه حقيقة الأمر.
وقد يطلق الحكم على المعنى عبارة على حسب اعتقاد المخاطب
والمخبر عنه لأعلى ما عليه حقيقة الأمر كقوله تعالى: {ذُقْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أي على زعمك، وقول
الشاعر:
خذها خذيف فأنت السيد الصمد ..
(1/96)
وما حكى الله تعالى عن موسى - عليه السلام
- في قوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفًا}
فإن قيل: كيف وصف تعالى نفسه بأنه خادعهم في قوله:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}؟ قيل هو على ما
تقدم، ووجه آخر في هذا اللفظ، وإخوانه مما وصف الله تعالى نفسه
به من الصفات التي تنزه تعالى عما يتصور من ظواهر معانيها نحو
قوله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}، وقوله: {وَمَكَرُوا
مَكْرًا} وقوله: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ} كل ذلك قد قيل فيه قيول، من تصوره متحرياً به الحقى
ثلج قلبه، واستقرب ما كان من قبل يستبعده، وهو أن المكر
والخديعة، وإنما هو استنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبدي منه
خلاف ما تخفيه ويتحراه مستعمله على وجهين: أحدهما: قاصداً به
استنزال الغير عن ضلال إلى الرشد وذلك جميل، وهو كما يفعله
الأب البار بابنه من تحذير يستجره به إلى ترك شراً أو تعاطي
خير، فيقول: " خدعت ابني عما كان يتعاطاه من القبيح "، و "
مكرت به حتى قبحته في عينه "، وقد علم أن هذا الفعل وإن أطلق
عليه لفظ الخديعة والمكر فهو فعل حسن، فإذا المكر والخديعة وإن
كان لفظهما مستبشعاً فقد يقصد به وجه محمود، وبالعكس من ذلك
فعل العدالة، فقد يتحراه الإنسان لاستغواء غيره وإضلاله مما
يعد فساداً وجوراً وخديعة ومكراً، قد يكون صلاحاً ورشداً
وعدلاً، وما يعد صلاحاً وعدلاً ورشداً قد يكون فساداً وجوراً
ومكراً، وبهذا النظر قال بعض التابعين: " كل قبيح من العبد فهو
حسن من الله تعالى " ويعني بذلك أن الفعل يقبح ويحسن المقاصد،
ولهذا قال عليه السلام: " الأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى "،
وقال: " نية المؤمن خير من عمله "، وبهذا النظر قال بعض
المحققين وقد سئل عن شيء يقبح إطلاقة
(1/97)
فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
في الله تعالى مع ورود الشرع به، فأنشد:
ويقبح من سؤال الشيء عندي ...
فتفعله فيحسن منك ذاكا
فهذا ظاهر لمن جلى بصيرته وتأمل حقيقته، ونبه بقوله: {وَمَا
يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أن وبال خديعتهم راجع على
أنفسهم لا على الله تعالى وعلى المؤمنين، كقولك: " ظلمت فلاناً
وما ظلمت إلا نفسك "، وذلك في الحقيقة أعظم خديعة وظلم وجور،
فإن الله تعالى لما قيض لهم النعيم الأبدي والخير السرمدي،
وسهل لهم السبيل إليه، ثم غفلوا عنه، ومالوا إلى زهرات الدنيا،
صاروا في الحقيقة خادعين لأنفسهم ظالمين لها، ولذلك وصفهم في
القرآن بطلم أنفسهم في غير موضع وبأنهم خسروا أنفسهم وما
يمركون إلا بأنفسهم، ولأنه قيل: " من خدعك وقد عرفت خديعته فقد
خدع نفسه "، ومعلوم أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فمن خادعه
فقد خدع نفسه، وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} أصل هذا الشعر ومنه
الشعار للثوب الذي يلي الجسد، فيقال: أشعرته ثوباً، ثم يقال
على التشبيه بذلك أشعرهما، واستشعر سروراً، و " شعرت كذا ":
يستعمل على وجهين، تارة يؤخذ من مس الشعر، ويعبر به عن اللمس،
وعنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: " فلان لا يشعر " فذلك
أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر، لأن حس اللمس أعم من حس
السمع والبصر، وتارة يقال: " شعرت كذا ": أي أدركت شيئاً
دقيقاً من قولهم: شعرته أي أصبت شعره نحو: قادته وراسته، وكأن
ذلك إشارة إلى نحو قولهم: " فلان يشق الشعر في كذا " إذا دقق
النظر فيه ومنه أخذ الشاعر لإدراكه دقائق المعاني ...
قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ
مَرَضًا} الآية: (10) - سورة البقرة.
المرض ضربان: جسمي ونفسي، وكلاهما خروج عن الاعتدال الخاص
بهما، فالجسمي: معروف، والنفسي: كالجهل والجبن والبخل الوحسد
والحرص وسائر الرذايل الخلقية وتسميتها بالمرض إما لكونها
مانعة عن إدراك الفضائل، كالمرض الملنع للبدن عن التصرف
الكامل، وأما لكونها ذريعة إلى سلب الحياة الحقيقة التي هي في
الدنيا لسان صدق، وفي الآخرة بقاء الأبد، كما وصفه تعالى في
قوله:
(1/98)
{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوَانُ}، وأما الميل النفي به إلى الاعتقادات الرديئة
ميل البدن المريض إلى الأشياء المضرة، ويكون هذه الأشياء بصورة
المرض قيل: ذوي صدر فلان، ونقل قلبه، وقال عليه السلام: " وأي
داء أدوأ من البخل "، وقوله تعالى: {في قلوبهم مرض} عبارة عن
نفاقهم وشكهم وعداوتهم، وقول ابن مسعود - رضي الله عنه والحسن
وقتادة رحمهما الله تعالى: " إنه شك، وقول غيرهم: إنه حب
الدنيا واتباع الهوى، وقول آخر: إنه غم وآخر: إنه حسد، وآخر:
إنه السكون إلى الدنيا، وكلها إشارات على سبيل المثال إلى
أبغاض ما ينطوي عليه معنى المرض ولا خلاف بينهم فيه، فمعنى
قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} على أوجه، الأول كما
تقدم: أن ما أنزله الله يجري من النفس مجرى الغذاء الحافظ
للصحة، ومتى تناوله المريض الذي لم يزل مرضه لم ينفعه بل يضره،
والثاني: أن هذه الزيادة في المرض هي ما كان الله تعالى يؤتيه
نبيه والمؤنين من إنعامه ويصير زيادة في مرض المنافقين وذلك
كقولك لمن أعطاك شيئاً: " قد أكمدت عدوي وهو لم يقصج إكماده،
ولكن لما تولد من فعله بك ذلك صح نسبته إليه، وعلى ذلك قوله
الشاعر:
يا مرسل الريح جنوباً وصباً ...
إن غضبت قيس فزدها غضباً
أي زدنا إيلاً ليزدادوا غضباً، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا}،
وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، ولا يختلف
المعنى في قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أي جعل
مورده مورد خير أو مورد دعاء، فإن الدعاء من الله واجب، وإن
كان منا رغبة وطلباً، ويجوز أن يكون ذلك رجعاً إلى حال الآخرة،
ومعناه من في قلبه مرض، فإن الله يزيده في الآخرة مرضاً نحو
قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} وهذا والأول يرجعان إلى معنى،
لأنهم إذا زيدوا في الدنيا عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -
ما ازدادوا إلا شكاً في الآخرة استحقاق عذاب، قوله تعالى:
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}
(1/99)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ (11)
- أليم: بمعنى مؤلم نحو سميع وخصيب بمعنى
مسمع ومخصب، وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}، أي بسبب
كذبهم أو بدل كذبهم، كقولهم: هذا بذاك، وحجة من قرأ بالتخفيف
أن ما قيله كذب، وهو قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وهو به
أشبه، لأنه في صفة المنافقين، وقد قال الله تعالى فيهم
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}، ومن
قرأ " يكذبون "، فقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ}، ولأن التكذيب أبلغ، إذ كل مكذب بشيء كاذب وليس كل
كاذب مكذباً،
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} الآية (11) -
سورة البقرة.
الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال، والصلاح على الضد منه،
والافساد: إخراجه عن الاعتدال، والفساد عام في الكفر والضلال
وكل ما هو ضار، والصلاح عام في الإيمان والرشد وكل نافع،
فقوله: {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} عام في كل ذلك، وقول
ربيعة وقتادة أن معناه " لاتسالموا الكفار "، ومثله: {وَلَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، ومن قال: عنى
بذلك كنز الدراهم، فإنه تمثيل بأدنى ما يكون فساداً - تنبيهاً
أن ذلك عام، فإنه إذا كان ذلك فساداً، فما فوقه من قتل النفس
الزكية بغير حق ونحوه أولى بذلك، والخطاب في الآية للمنافقين،
وما روي عن سلمان أ، أهل هذه الآية لم يأتوا بعد، فيجوز أن
يكون معنى قوله: " أنه سيكون من بعد حاله من له في ذلك شبيهه
بحال المنافقين، فإن الآية متصلة بما قبلها، والضمير فيها ليس
إلا لمن تقدم ذكره، وقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فيه
تنبيه أنهم يتصورون إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من
المرض، كما قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
فَرَآهُ حَسَنًا}، وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقوله: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قال الحسن: من ذلك الإفساد: بناؤهم مسجد
قباء ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وقوله - عز وجل -
{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} " ألا ": تقرير للإثبات
لأن " لا " للنفي، والألف
(1/100)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ
السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا
يَعْلَمُونَ (13)
للاستفهام، واجتماعهما يقتضي إثباتاً نحو:
" أليس " و " الم "،
إن قيل: ما الذي يفيد تعريف قوله المفسدون وإدخال لفظه هم
عليه؟.
قيل: أما التعريف: فيقتضي كون الكلام جواباً أو كالجواب، وأما
إدخال لفظ هم، فيقتضي إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمن عداه نحو
أن يقال: " زيد منطلق "، فتقول: أنت يا عمرو هو المنطق، ولما
كان في قولهم: {نَحْنُ مُصْلِحُونَ} تعريض إنكم المفسدون رد
الله تعالى عليهم بقوله: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ} وقد تقدم أن " شعرت " يستعمل على وجهين أحدهما
بمعنى: أحسست والثاني: بمعنى فطنت، فقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ}
في الآية الأولى نفي الإحساس عنهم، وفي هذه الآية نفي الفطنة
عنهم، لأن معرفة الصلاح والفساد تدرك بالفطنة، وفي الآية التي
بعدهما نفي العلم عنهم،
فإن قيل: كيف نفي أولاً الحس ثم الفطنة ثم العلم ومعلوم أن ما
لا حس له فلا فطنة له ولا علم؟، قيل: إن في نفي هذه الثلاثة
على هذا الوجه تنبيهاً لطيفاً ومعنى دقيقاً وذلك أنه يبين في
الأول أن في استعمالهم الخديعة نهاية للجمل الدالة على عدم
الحس، ثم بين في الثاني أنهم لا يفطنون - تنبيهاً على أن ذلك
لازم لهم، لأن من لا حس له لا فطنة له، ومن لا فطنة له لا علم
له، ثم بين في الثالث أنهم " لا يعلمون " - تنبيهاً أن ذلك
أيضاً لازم لهم، لأن من لا فطنة له فلا علم له فإذا: من
الألفاظ الثلاث إشارة إلى قياس ظاهر وإلزام واجب لمن تأملها
وتدبرها.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ
النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا
إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} الآية:
(13) - سورة البقرة.
قولهم: الناس، بل كل اسم نوع، ف، هـ يستعمل على وجهين، أحدهما:
دلالة على المسمى وفصلاً بينه وبين غيره، والثانيك وجود المعنى
المختص به وذلك هو الذي يمدح به في نحو:
" إذ الناس ناس والزمان زمان "
ونحو ذلك: " زيد رجل "، و " هذا الفرس فرس "، ومثال ذلك أن كل
ما أوجده الله في هذا العالم يصلح لفعل خاص به لا يصلح لذلك
العمل سواه، فإن الفرس للعدو الشديد، والبعير لقطع الفلاة
البعيدة، والمنجر لنجر الخشب والمنحت لنحته، وعلى ذلك الجوارح
كاليد والرجل والعين.
والإنسان أوجد لأن يعلم ويعمل بحسبه، وكل شيء لو يوجد كاملاً
لما قد خلق له لا يستحق اسمه مطلقاً، بل قد ينفي عنه نحو
قولهم: " فلان ليس بانسان "، أي لا يوجد فيه المعنى الذي خلق
من أجله، فإذ ثبت ذلك، فقوله
(1/101)
وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ
مُسْتَهْزِئُونَ (14)
تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ
آمَنَّا بِاللَّهِ} هو اسم جنس لا غير، وقوله: {كَمَا آمَنَ
النَّاسُ} معناه كما يفعل من وجد فيه تمام فعل الإنسانية الذي
يقتضيه العقل والتمييز فإذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما:
إنه عنى كما آمن أصحاب النبي عليه السلام وقول غيره أنه عنى
كما آمن أصحاب النبي عليه السلام وقول غيره أنه عنى كما أمن
الذين أسلموا من اليهود مثل " عبد الله بن سلام ".
وأصحابه كلاهما صحيح، لأن الفريقين يجري على ما اقتضاه فعل
الإنسانية، وقوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ} استعلام على جهة
النفي نحو {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}
ومعناه: لا نؤمن إيمان السفهاء تعريضاً بأصحاب النبي - عليه
السلام - والسفيه: خفة في البدن وفي المقال يقتضيها نقصان
العقل، والحلم رزانة في البدن يقتضيها زيادة العقل، وعنه
استعير " زمام سفيه "، و " رمح سفيه "،
إن قيل: كيف عذرهم بأهم لا يعلمون؟ قيل لهم: ليس عذراً لهم، بل
تعظيم أمر عليهم وأنهم مع جهلهم يجهلون جهلهم كما قال:
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ...
وذاك لعمري من تمام الجهالة
وكل ما ذم به الكفار من أنهم لا يعلمون ولا يبصرون ولا يسمعون
فتنبيه أنهم لم يستعملوا هذه الآلات ولم يتفكروا.
وقوله - عز وجل -: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} الآية (14) - سورة
البقرة.
قال الخليل: كل شيء استقبلته وصادفته فقد لقيته، وأما ألقيته
أي طرحته، فأصله جعلته بحيث يلقي أي يصادف، ثم جعل عبارة عن
الطرح واللقي المطروح الذي لا يحجزه شيء عن لقاء المارة به.
ولقي من اللقوة كناية بذلك عنها، ثم كثر حتى صار معروفاً
بالداء.
و" خلا الإناء " صار خالياً، و " خلا فلان بفلان " صار معه في
خلاء والخلي: من خلاه الهم، نحو المطلق في قوله: يطلقه ".
طوراً وطوراً
(1/102)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
يراجع، والشياطين: جمع الشيطان، فقيل هو "
غعلان " من شاط إذا احترق غضباًن وذلك لما قال تعالى:
{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}، وذلك لما خص به
من فضل القوة الغضبية، وقيل هو فيعال من شطن، أي تباعد، ومنه
بين شطوان، وقيل للحبل الطويل شطن، والشيطان كل عارم من الجن
والإنس والحيوانات، وعلى ذلك قال الشاعر شياطين تنزوا بعضهم
على بعض [وقال: " إن شطان الذئاب العسل "، وقال آخر: " ما ليلة
الفقير إلا شيطان "، وسمي الحية شيطاناًَ لذلك، وقيل هو فعلان
من قولهم: وقد شط على أرماحنا البطل، ومعنى الآية، أنهم يراؤن
للمؤمنين، فإذا عادوا إلى مردتهم ادعوا أنهم معهم وعلى دينهم،
وأنهم يستهزؤن بالمؤمنين.
وقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية: (15) - سورة البقرة -.
الهزء: إظهار جد يراد به مزح أو ما هو في الظاهر كالمزح يقال:
هزأت واستهزأت، نحو أجبت، واستجبت، والصحيح أن الاستهزاء
إرتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عنه، وكذا الاستجابة في الأصل
معناها مخالف للإجابة وإن كان قد يجري مجراها، والهزؤ إذا أريد
به المزح لا يصح منه تعالى، كما لا يصح منه اللعب واللهو
وإطلاقه عليه، إما لأنه يراد به المجازاة، فسماه به إما
لمقابلة اللفظ باللفظ إما مع مقابلة اللفظ مراعاة مطابقة ما
لكونه مماثلاً له في القدر، فسماه لذلك باسمه نحو قوله تعالى:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وقوله تعالى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ
مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ولأنه تعالى لما أمهلهم لتطول المدة
التي يمكنهم أن يتوبوا فيها فلم يحصل ذلك منهم سمي إمهاله
هزؤاً، ولأنه لما استدرجهم من حيث لا يعلمون صار ذلك كالهزؤ،
وإما لأن الهزؤ لما لم يخل
(1/103)
من العيب أطلق على العيب لفظ الهزؤ ونحو
قوله: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} أي
تعاب، فالآيات لا يستهزؤ بهما في الحقيقة، أو لما تقدم في
المخادعة وهو أنهم لما قدروا أنهم يهزؤن وقد عرف منهم الهزؤ
كأنه يهزؤ بهم كما قيل: من خدعك وقد عرفت خديعته فقد خدعته "
أو لما روي في الخبر " إن المستهزئين بالناس في الدنيا يفتح
لهم وهم في النار باب إلى الجنة فيرسعون نحوه، فإذا صاروا إليه
سد عليهم " وذلك قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ
الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} وعلى هذه الوجوه قوله: {سَخِرَ
اللَّهُ مِنْهُمْ} وأصل المد الجر ومنه المدة، ومدة الجرح، ومد
النهر، ومده نهر آخر، وإمداد الجيش، وإمداد الإنسان بالطعام،
وقال بعضهم:
أكثر ما جاء من الإمداد في القرآن فبالخبر، نحو قوله تعالى:
{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} وقوله {نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ
مَالٍ وَبَنِينَ} وقال: وما كان من المد فبالشر نحو قوله
تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} وقال
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} والطغيان في
المصادر كالعدوان والكفران، يقال: طغي يطغوا ويطغى، نحو صفا،
وحكى: طغيت، والفرق بين عدا، وطغي، وبغي أن العدو أن العدو أن
تجاوز المقدار المأمور بالانتهاء إليه والوقوف عنده وعلى ذلك
قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} أي من
تجاوز معكم المقدار المأمور بالانتهاء إليه، فتجاوزوا معه
بقدره، لتكون العدالة محفوظة في المجازاة بالتعدي وأما
الطغيان: فتجاوز المكان الذي وقعت فيه، وكأن من أخل بما فطر
عليه من المعارف العقلية والمواقف الشرعية فلم يراعها فيما
يتحراه ويتعاطاه، فقد طغى، وعلى ذلك قوله: {إِنَّا لَمَّا
طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي تجاوز الحد
الذي كان عليه من قبل، والبغي: طلب تجاوز
(1/104)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قدر الاستحقاق تجاوزه أم لم يتجاوزه، وأصله
الطلب، واستعمل في التكبر، لأن المتكبر طالب منزلة ليس لها
بأهل، والعمة في البصيرة كالعمي في البصر، وهو التردد في
الضلالة، يقال رجل عامة وعمه، فقوله تعالى: {فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ} يصح أن يتعلق بقوله: نمدهم فيكون ذلك عبارة عن
خذلانهم عن توفيقه لهم، لا لبخله عليهم، بل لسدهم طريقه على
أنفسهم بإعراضهم عنه، ويصح أن يتعلق بقوله: {يَعْمَهُونَ}،
ومعناه: يمدهم استصلاحاً لهم، وهم مع ذلك يعمهون [في طغيانهم
ومثله معنى وتقديراً قوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ}]
* * *
قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ
بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ} الآية (16) - سورة البقرة.
المبايعة ضربان: مبايعة سلعة بناض، فيقال لدافع السلعة: بايع،
ولدافع الناض مشنري، ومبايعة سلعة بسلعة أو ناض بناض، ويصح أن
يقال لكل واحد منهما بائع ومشتري، ولذك بحسب ما يتصور في الثمن
والمثمن فأي السلعتين تصورتها بصورة الثمن فأخذه بايع، والآخر
مشتري، ولهاذ الشأن صار البائع والمشتري من الأسماء المشتركة
المعدودة في باب الأضداد والمشاراة وإن كانت موضوعة لمعاملة في
أعيان على وجه مخصوص فقد يتحرز بها في كثير من المعارضات فيقال
لمن أفرح عن شيء في يده مخصلاً به غيره قد باعه به، وقد يقال
لمن رغب عن شيء طمعاً في غيره.
وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية - ومعناه: أراد منهم أن
يبذلوا مهجهم وأموالهم في سبيله، فيجعل لهم بذلك الجنة، فسمي
ذلك شري، وقد تقدم أن الهدي يقال على أربعة أوجة: الأول: لما
جعله الله للإنسان بالفطرة، والثاني: لما جعله له بالوحي،
والثالث: لما يكتسبه الإنسان بالفكر والنظر والعمل والرابع:
زيادة الهدي في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة، فكذلك.
الضلال على أربعة أوجه مقابل للهداية، فالأول: إضاعة الإنسان
ما جعله الله له بالفطرة من العقل الغزيزي، وذلك بأن لا يزكيه
كما قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
والثاني: إضاعته لما أنزل الله تعالى على ألسنة الأنبياء.
والثالث: لما يكتسبه الإنسان بالفكر والنظر والعمل.
والرابع: أن يترك ما يستحق به زيادة الهدي في الدنيا والثواب
في الآخرة، وقد علم من هذا أن من الضلال ما هو
(1/105)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا
يُبْصِرُونَ (17)
كفر، ومنه ما ذنب صغير، وكذلك الهدي منه ما
هو الإسلام، ومنه ما هو الإسلام، ومنه ما هو رفيق الورع، فكل
من رغب عن منزلة من الهدى إلى ضدها من الضلال، فقد اشترى ذلك
الضلال بما يقابله من الهدي لكن منه ما يستحق به النار كالشرك،
وكالكبائر، ومنه ما هو كتجاف عنه كالصغائر، فإذا ثبت ذلك، فقول
من قال: عنى به الذين أخلوا بالهدي الذي جعله الله لهم
بالفطرة، وقول مجاهد، إنه عنى به الذين آمنوا ثم كفروا، وقول
قتادة: استحبوا الضلالة على الهجى، وقول من قال: اشتروا النار
بالجنة لا اختلاف بينهم إلا باختلاف النظرات فقط.
وكذا قول من قال: من التزم فعلاً من الخيرات ثم أخل به فقد
اشترى الضلالة بالهدى، ولما استعمل في ذلك المشاراة قال تعالى:
{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} والربح والخسران ينسبان مرة
إلى صاحب السلعة، ومرة إلى السلعة، ومرة إلى الصفقة، إذ لا
اشتباه فيه، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ونفي أنهم كانوا مهتدين أي طالبين
للهدى تنبيهاً أنهم لو طلبوع لوجدوه.
قوله - عز وجل - {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ}
الآية: (17) - سورة البقرة.
التمثيل: تصوير الخفي بالظاهر، وأصله من مثل إذا انتصب،
والتمثال للشيء المصور، وسمي الوصف مثلاً، إذ هو مثال للموصوف
يدل عليه كالمثال في دلالته على ما هو مثال له، والمستوقد:
طالب الوقود وأخذه، وقد يقال للموقد للمجيب مستجب، والنار
حرارة مخصوصة والنور والضياء وأحدهما مشتق من الآخر من حيث إنه
قل ما ينفك أحدهما عن الآخر، ولهاذ قال: {نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ} فاستعمل فيه الاقتباس الذي هو للنار، ويقال: أضاءت
الشيء فضاء وأضاء والأظهر في الآية أن يكون متعدياً لإدخال حرف
التأنيث فيه والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهداية
والمعارف النفسية أو البدنية أو الخارجة، فأضاعه ولم يتوصل به
إلى النعيم الأبد فإذا قول من قال ذلك هو فيمن آثر الضلالة على
الهدى المجعول له بالفطرة، وقول من قال: هو في الذين آمنوا ثم
كفروا، وقول من قال: هو فيمن أظهر الإيمان نفاقاً منه وحقناً
لدمه، كل ذلك داخل في عمومه، وكذا قول من قال إنه يعني من لم
تصح له أحوال الإرادة، فارتقى منها بالدعوى إلى أحوال المحبة،
فأذهب الله عنه ما جعل له من النور عبد الإرادة، فبقي متحيراً
في حال الدعوى، وقد نبه تعالى بتشبيههم بمستوقد نار أضيع نورها
على حيرتهم أو نكسهم فيما أضاءه من الهدى، وقوله: {ذَهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ} الأظهر أن يكون ذلك راجعاً إلى المشبه
الذي هو في قوله: " مثلهم " دون المشبه به الذي هو
(1/106)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
قوله استوقد ناراً، واختصر، ولو بسط
الكلام، لقيل: " فلما اضاءت ما حوله ذهب الله بنارهم ذهابه
بنورهم وقد قيل: إن ذلك يرجع إلى المشبه به، وأن الذي قد
يستعمل في الجميع كاستعماله في الواحد - استدلالاً بقول
الشاعر:
فإت الذي خانت بفلج دماءهم هم القوم، هم فقال: استوقد رداً إلى
لفظ الذي ثم قال بنورهم رداً إلى معنى الجمع، وإنما قال على
هذا " بنورهم " ولم يقل " بنارهم "، لأن المراد من النار ههنا
النور الذي يضئ لهم الطريق فتركه إياهم في ظلمات إنما هو
لتركهم إياه في قبول التوفيق منه، فلما تركوه تركهم كما قال
تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}، وإنما قال: في " ظلمات
" لأنه عنى ظلمة ضلال لهم، وظلمة همومهم في الدنيا، وظلمة يوم
القيامة التي تنزه عنها الموصوفون بقوله تعالى {يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}، وقوله - عز وجل - {صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} والصم صلابة من اكتناز
الأجزاء، ومنه قيل: حجر أصم، وصخرة صماء، أو قناة صماء، وقيل
لرأس القارورة " الصمام " والبكم: اعتقال اللسان وأصله فيمن
يولد أخرس والعمي يقال في عدم البصيرة والبصر، جميعاً، فمن ترك
الإصغاء إلى الحكمة وأعرض عن طريق الآخرة واشتغل عن تعرف حالها
ولم ينعم تدبرها صح أن يستعمل هذه الألفاظ فيه، فيقال: هو أصم
عن سماعه، وأبكم عن تعرفه، وأعمى عن إدراكه، ومالآية مبنية على
الآية الأولى، ومفسرة بحسب تفسيرها، وقوله {لَا يَرْجِعُونَ}
أي لا يعودون إلى طريقة الرشد، وقيل معناه: " لا يرجعون جواباً
" أي لا يردونه.
* * *
قوله تعالى {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ
وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ
مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الآيتان (19، 20) - سورة البقرة.
الصيب: فيعل من " صاب " يصوب، وذلك يقال للسحاب والمطر وإن كان
الصيب في السحاب أكثر، والصوب يقال في المطر، وكأن المطر تسمي
صوباً لمجيئه على الصواب إما اعتباراً بالوقت المحتاج إليه
فيه، وإما بالقدر المعتدل على حسب قوله تعالى: {وَالَّذِي
نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} وعلى طريقه نظر من
وصف المطلر بقوله ..
(1/107)
فسقى ديارك غير مفسدها ...
صوب الربيع وديمة تهمى
وأصاب السهم إذا توجه نحو الرمية على الصواب، وقد شبه العقل
والقرآن بل العلوم كلها بالمطر والماء من حيث أنه سبب الحياة
الأبدية، كما أن الماء سبب الحياة الدنيوية والسماء في هذا
الموضوع يجوز أن يكون السحاب وأن يكون المطر، من فيه للتبغيض،
وقوله " فيه ظلمات " يقتضي معنى اللصطحاب، فلا فرق بين أن
يقال: صيب فيه ظلمة ورعد - وأما الكلام في مائية الرعد والبرق
فليس يليق بهذا الموضع، والصاعقة يستعمل في كل هائل عظيم من
مرئي ومسموع، وإنما قال: " أو كصيب "، لأنه من حيث أنه يدل على
أحد الشيئين، ويستعمل في الإباحة والتخيير، وفيه تنبيه على أنه
إن شبه بأحدهما فصواب، وإن شبه بهما فصواب، وهذا المعنى في
لفظه أو دون الواو، فإن قيل كيف وجه العطف في ذلك وقد قال في
الأول {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ولا
يليق أن يقال بعده.
" أو كصيب "؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بانه أريد أو كاهل صيب من
السماء، وقيل: إن ذلك عطف على المعنى وذاك أن التشبيه تارة
يؤتي به مطابقاً للمشبه في اللفظ، وتارة يؤتي به على ما يقتضيه
المعنى دون اللفظ وعلى ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ مَا
يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ
فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}
ومعناه كحرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح، فروعي فيه المعنى
دون اللفظ، وعلى ذلك قول الشاعر:
فلابنة حطان بن عوف منازل ...
كما رقش العنوان في الرق كاتب
وتقديره: كعنوان رقشه الكاتب، وهذا النوع من التشبيه يقال له:
التشبيه الملقف، والآية تأولت على وجهين: أحدهما أنه شبه حال
المتحرين الذين اشتروا الضلالة بالهدى بمن حصل في ليلة مطيرة
ومظلمة راعدة بارقة يخاف من أهوالها وصاعقتها ويسد أذنه خوفاً
من أن يصعق ويكون هذا في شغل الكلام بالمشبه به ووصفه بما يعظم
من غير أن يكون في تفاصيل صفة المشبه به ما يرجع إلى المشبه
طريقة العرب على ذلك قول لبيد.
أفتلك أم وحشية مسبوعة ...
خذلت وهادية الصوار قوامها
(1/108)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
فشبه الناقة بالوحشية ثم ذكر أنها مسبوعة
مخذولة، ولا اختصاص للناقة بهذا الوصف.
والثاني: أنه شبه ما أتى الله الإنسان من المعاون التي هي سبب
الحياة الأبدية بالصيب الذي فيه خياة كل ذي حياة، وما فيه من
المشاق المبهمة والعوارض المشكلة بظلمات، وجمع الظلمات تنبيهاً
على كثرة العوارض، وشبه ما فيه من الوعيد بالرعد، وما فيه من
الآيات الباهرة بالبرق، ثم ذكر كل واحد من هذه الأشياء فقال:
إذا سمعوا وعيداً تصاموا عنه كحال من تهوله الرعد فيخاف من
صواعقه، فيسد أذنه عنها مع أنه لا خلاص لهم منها وهذا معنى
قوله: " الله محيط بالكافرين "، ثم ذكر أنه إذا رأوا لامعاً
لهم إما راشد تدركه بصائرهم وإما رفداً ينفعهم اهتزوا له،
فمضوا بنوره وذلك قوله " كلما أضاء لهم مشوا فيه "، ثم بين أنه
إن اعترض لهم شبهة أو عن لهم مصيبة تحيروا، فوقفوا، وذلك معنى
قوله {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} وقوله {وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} تنبيهاً
على أنهم يصرفون أسماعهم وأبصارهم عما فيه نجاتهم وتأمل ما فيه
صلاحهم وإنما جعل الله لهم السمع والأبصار لينفعهم ولو شاء
الله لجعلهم بالحالة التي أنفسهم عليها يسدهما وتعطيلهما، وذلك
تنبيه على أنه إنما أعطاهم هذه الآلات لينتفعوا بها.
قوله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} الآية (21) - سورة البقرة.
قد تقدم أن " الناس " يستعمل على وجهين أحدهما المشار به إلى
الصورة المخصوصة، وذلك عام في الصغير والكبير، والعاقل وغير
العاقل، والثاني المشار به إلى المختص بقوى العلم والعمل
المحكم وهو المستعمل على طريق المدح، ولذلك يقال: فلان أكثر
إنسانية من فلان، لاختصاص هذا المعنى بقبول الزيادة والنقصان،
وهذا المعنى هو المراد في هذا الموضع، والعبادة نهاية التذلل
في الخدمة وبذل الطاعة وذلك في مقابلة أعظم النعم، ولا يستحقها
غير الله تعالى، فهو الذي له أعظم النهم، و " العبادة " تقال
في ثلاثة أشياء: اعتقاد الحق، وتحري الصدق، وعمل الخير، وعبادة
الله قد يكون في فعل المباحات كما يكون في أداء الواجبات وذلك
إذا قصد بالفعل وجه الله وتحرى به مرضاته.
وقد قال بعض الحكماء: " مباحات أولياء الله كلها واجبات "
وواجباتهم نوافل " فقيل كيف يكون ذلك؟ قال: لأنهم لا يقومون
على تناول مباح لهم كالأكل والشرب حتى يضطروا إليه، فيصير
تناولها متحتماً ويلتزمون من الفرائض فوق ما يلزمهم حتى يصير
فرضهم متنفلاً، وبهذا النظر قيل
(1/109)
عن أكل الصالحين تنزل الرحمة تنبيهاً أنه
لا يتناول إلا إذا اشتد به الأمر، ووجب عليه الأكل إمساكاً
لرمقه.
ألا ترى أن كثيراً من المحظورات يصير مباحاً عند الضرورات بل
ربما يصير عليه من الواجبات.
إن قيل: ما الفرق بين قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وبين قوله
{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} قيل في قوله {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}
إيجاب العبادة بواسطة رؤية نعمه التي بها تربيتهم وقوامهم، وفي
قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} إيجاب عبادته بمراعاته عز وجل من
غير واسطة وعلى ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمُ} وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ} فحيث ذكر الناس ذكر معه الرب، وحيث ذكر الإيمان ذكر
الله - لما تقدم وأما الخلق فتقدير الأعراض الجسمانية
وإيجادها، وقد يقال مفيداً للتقدير من غير إيجاد نحو قوله
الشاعر:
وأراك تفري ما خلقت ....
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
واستعمل الخلق في الأجسام والخلق في القوى والأفعال، وجعل "
خلقت " للتكوين، وأخلقت للإفساد، نحو فريت، وأفريت، وذلك نحو "
أخلقت الثوب " فخلق وأخلق، ولما كان الشيء الحلق كثيراً ما
يلين قبل حجر أخلق و " الصخرة خلقاء " أي " ملساء "، ومن أجل
أن " الخلق لا يستعمل إلا في إيجاد الأجسام وأعراضها امتنع قوم
من إطلاق الخلق على القرآن، فراعوا فيه هذا الوجه دون الوجه
الآخر، قالوا: ولا يكاد يقال في وصف الكلام مخلوق ومختلق إلا
إذا أريد به المنقول المفتعل.
وعلى هذا قال تعالى حكاية عن الكفار في وصفه {إِنْ هَذَا
إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} ولا يكاد يستعمل الخالق مطلقاً
إلا في وصف الله تعالى.
وقيل في الجملة: يستعمل في المتقدم لكن ذلك على أربعة أوجه
تقدم بالزمان نحو آدم قبل نوح عليهما السلام، وتقدم بالذات وهو
في كل شيئين متى توهمت ارتفاع أحدهما ارتفع معه الآخر، وإذا
توهمت ارتفاع الآخر لم يرتفع معه الأول، كالحياة مع العلم،
وتقدم بالشرف، نحو تقدم الأمير للحاجب، وبهذا النظر استعمل
العتيق في الشريف وإن كان موضوعه لما تقدم زمانه، نحو
(1/110)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (22)
قولنا: تمر عتيق.
وتقدم بالرتبة الوضيعة نحو قولنا: الواحد قبل الاثنين، وقوله:
" الذين " ها هنا يتناول نوع العقلاء وغيرهم من جميع الأشياء.
وفي ذلك تنبيه أن الله تعالى خالقنا وخالق كل ما تقدمنا، وكل
ما هو سبب في وجودنا وحصولنا من الآباء والأمكنة والأزمنة
والسماء والأرض وسائر ما لو توهمناه مرتفعاً لم يحصل، وأخرج
الكلام مخرج المقرر عند المخاطبين أنه تعالى خالق الكل ومبدع
الجميع، فعلم ذلك عندهم إما موجود وإما ممكن وجوده، ولهذا قال
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}
ولعل ذكر بعضهم أن معنى ما في غاية القرآن، قال: لأن " لعل "
للشك، والشك لا يصح على الله تعالى، فكما لا يصح أن يقول أرجو،
وأشك وأظن، فكذلك لا يصح منه أن يقول " لعل " و " عسى " بمعنى
ذلك فثبت أن معناه إذا أورده معنى ما وهذا تصور بعيد، وذاك أن
القائل إذا قال: " إفعل كذا لعلك تفلح يصح أن يكون " لعلك "
حال للمخاطب بمعنى أنا طامع راج لفلاحك ويصح أن يكون للمخاطب
بمعنى " وأنت طامع في فلاحك "، ولما دلت الدلالة أن الطمع إنما
يكون لمن يخفى عليه العواقب، علم أنه لا يصح أن يكون لله تعالى
إذا ورد في كلامه، فصار ذلك حال للمخاطب كأنه قال: " اعبدوا
ربكم راجين تقاكم "، وإخراج الكلام على ذلك لأن من شرط المكلف
أن يكون واقفا بين الرجاء والخوف ولذلك قال في مدح المؤمنين
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} وقال: {يَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وكذلك التقوى فقد تقدم أن
لها ثلاث منازل: الأولى: ترك الكفر، والثانية: ترك المحارم
التي تحظرها الشريعة.
والثالث: حفظ الخواطر والنيات، والآخران اللذان رجانا هما الله
تعالى ها هنا دون الأولى، إذ لا يصح فعل العبادة مع وجود
الكفر، وحقيقة التقوى جعل النفس في وقاية من كل ما يبعد عن
الله تعالى ولهذا قال بعض المحققين التقوى أن يتجنب الإنسان
بغاية جهده الأخلاق الحيوانية، ويتخصص بالأخلاق الملكية، فلا
يكون متكبراً كالنمر، ولا معيناً كالكلب، ولا حقوداً كالجمل،
ولا غمراً كالثور، ولا جاهلاً كالحمار - وقد نبه بالآية أن
العبادة لله تعالى هي المبلغة بنا إلى نهاية التقوى التي يستحق
بها حوار الله تعالى، نحو قوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
قوله - عز وجل -: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} الآية (22)
- سورة البقرة.
جعل: لفظ عام في الافعال كلها، ويتصرف على ثلاثة أوجه: تارة
تجري مجرى صار، و " طفق "
(1/111)
فلا يتعدى مثل قولك جعل زيد يقول كذا، قال
الشاعر:
وقد جعلت قلوص بني سهيل ....
من الأكوار مرتعها قريب
وتارة تجري مجرى " أوجد، فيتعدى إلى مفعول واحد، نحو قوله
تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وتارة تجري نجرى
صير وكون فيتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى {جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا} وتقول جعلته خارجاً إذا جملته على الخروج
وإذا أخبرت عنه بالخروج أو حكمت له سواء كان خارجاً أو لم يكن
والفراش والبساط متقاربان وهو كل ما فرش من ثوب أو غيره
والبناء لكل مرتفع وحائط وغيره والقصد بالآية إلى ما جعله الله
تعالى لنا من الآية الواصلة إلينا من السماء والأرض وما بينهما
ودل على ذلك بأظهر الآلاء وأقربها من الحواس وقد بسط ذلك
المعنى بأبلغ من هذا في قوله {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ} وهذا المعنى على مقتضى ظاهر اللفظ.
وقد قال بعض المفسرين إن الله تعالى مع إرادته لهذا المعنى جعل
ذلك مثلاً فذلك أنه جعل الأرض فراشاً أي مركباً من قوله: "
افترشت البعير " إذا ركبته، (والسماء بناء) أي الجنة مقراً أو
منزلاً، وجعل ما يصل إلينا من الوحي والعلم ماء، وما يثمره من
الأعمال الصالحة التي هي سبب الحياة الأبدية ثمرات، وهذا إذا
جعل مثلاً فليس ببعيد، إذ قد علم أن السماء تجعل مثلاً لكل
منزلة رفيعة كقول الشاعر:
نالوا السماء فأمسكوا بعنانها ...
حتى إذا كانوا هناك استمسكوا
ولا منزلة أرفع من الجنة، ثم لما كانت الجنة في السماء على ما
روي في الخبر صح أن يعبر به عنها وقد جعل الأرض مركباً لنا لما
روى في الخبر: " اجعلوا الدنيا مطية تبلغكم إلى الآخرة،
واجعلوا الآخرة دار مقركم ومحط رحالكم، وجعل المساء مثلاً
للعلم والحكمة حتى قيل في قوله تعالى {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أنه عنى
بالماء القرآن بدلالة أنه علقه بالسماع، وليس الماء مما يسمع،
وفي قوله - عز وجل - {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أنه عنى به القرآن، فذلك
روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ويروى أن رجلاً قال لابن
سيرين:
(1/112)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (22)
رأيت في منامي كأن ماء يتبعني وأنا أهرب
منه وكنت عطشان "، فقال إنه يعرض عليك علم أنت محتاج إلهي
وتأبى أن تتعلمه "، وجعل الثمر مثلاً لما يتحصل من الأفعال
الصالحة عن ذلك البيان، وقد جعل الله تعالى الماء والثمر مثلاً
في قوله {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ} الآية ..
، وجعل بعضهم ذلك مثلاً على وجه آخر، فقال: الأرض مثل للأبدان،
والسماء مثل للعقل، والماء مثل لما أفاض الله به علينا من
العلوم المكتسبة التي تحصل بواسطة العقل.
والثمرات التي جعلها الله رزقاً لنا مثل لما يحصل من الأفعال
التي تقتضيها العلوم والله أعلم.
وهذا يكون أبلغ في المعنى، لأنه يحصل مع المعنى المحسوس معنى
معقول.
والله أعلم.
قوله - عز وجل -: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية: (22) - سورة البقرة.
الند والشبه والمساوي والشكل والمثل متقاربة المعنى، لكن بيناه
فروق - فند الشيء هو المشارك له في الجوهر وإن خالفه في الكمية
والكيفية وشبهه مماثله في الكيفية، وإن خالفه في غيرها ومساويه
مماثله في الكمية كلها وإن خالفه في غيرها، وشكله مماثله في
القدر والمساحة ويدل على هذا الفرقان إنه إذا قيل ما هذا؟
فيقال: ند كذا، أو يقال كم هذا؟ فيقال مساو لكذا، أو يقال: كيف
هذا؟ فيقال: شبه كذا قنع المخاطب متى عرف المشبه به، ولو قال
كم هذا؟ فيقال: شبه هذا أو قال كيف هذا؟ فيقال مساو لهذا لم
يقنع به، والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى
نفي الشبيه من كل وجه خصه بالذكر، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ} وقال أبو عبيد: الند " هو الضد، وهذا نظر منه إلى بعض
الأنداد،
(1/113)
وذلك أن الشيئين قد يشتركان في الجوهر، ثم
يختلفان في فصل ما، كالإنسان والفرس فإنهما مشتركان في
الحيوانية، ومنفصلان في كثير من المعاني فمن اعتبر في مثل ذلك
ما بينهما من الفصل قال: الند: هو الضد أو المخالف لأن أهل
اللغة يطلقون الضد على المتقابلين، وعلى المختلفين كثيراً على
ما يدل عليه كلامهم في الأضداد، وقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْدَادًا} عام في النهي عن الشرك المطلق وعن الدقائق
المؤدية إلى الشرك المنبأ عنه بقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ولهذا قال
ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في هذه الآية هو قول الرجل:
(لولا نباح الكلب لدخل علي اللص) وقيل: هو نهي لقوم كانوا
يقولون: إن شاء الله وشاء رسول الله - عليه السلام: " أمثلان
أمثلان؟ قولوا إن شاء الله " فأنزل الله هذه الآية.
إن قيل: ما وجه قوله: " وأنتم تعلمون "؟ فإن ذلك إن جعلته
خبراً مستأنفاً، فلابد له من ذكر معلم يقترن به حتى يحصل به
تمام الخبر، إن جعلته حالاً يصير تقديره: " لا تجعلوا له
أنداداً في حال علمكم "، وذلك غير صحيح، لأن جعل الأنداد محظور
في كل حال، قيل إن ذلك حال للمنتهي، وليس الاتيان به شرطاً
لقصر الحكم على هذه الحال، وإنما هو تنبيه على قبح فعلهم، لأن
مرتكب القبيح مع علمه بقبحه أعظم جرماً، وإذا قيل: " لا تكفر
معانداً " فذلك نهي عن الكفر وعن العناد، فكذلك هذا، وعلى هذا
قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا
بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ثم قوله: (وأنتم تعلمون) عام فيمن حصل له
العلم بذلك، وفيمن له التمكن مع العلم به، فقد
(1/114)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
يصف من حصل له التمكن من الشيء الترشح له
بذلك الشيء كتميتهم العصير خمراً، الصبي ناطقاً، والنائم
عالماً قد تقرر في عقل كل عاقل إذا تأمل أدنى نظر أنه لابد
للموجودات من موجد لها يخالفها، يصح أن يقال لهم: " أنتم تعلمن
" وبهذا الوجه قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ومعلوم أنهم لا يقولون ذلك
إلا بأدنى تأمل واعتبار.
قوله - عز وجل - {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}
الآية (23) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الريب، وأما الفرق بين الشك والمرية، والريب
والأرابة، والتخمين والحدس، والوهم والخيال، والحسبان والظن،
فإنه يذكرها هنا إذا كانت معرفته نافعة، فنقول: وبالله
التوفيق: إن الشك هو وقوف النفس بين الشيئين المتقابلين بحيث
لا يترجع أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية هي التردد في
المتقابلين، وطلب الإمارة مأخوذ من بري الضرع، أي منحه للدر،
فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي عليه الظن.
والريب أن تتوهم في الشيء أمراً ما، ثم ينكشف عما توهمت فيه،
والأرابة أن تتوهمه، فينكشف بخلاف ما توهمت، ولهذا قيل: "
القرآن فيه أرابة وليس فيه ريب "، والتخمين توهم لا عن إمارة.
والحدس إسراع الحكم بما لا يأتي به الهاجس من غير توقف فيه
مأخوذ من حدس في سيره، أي أسرع والوهم صورة تتصورها في نفسك
سواء كان لها وجود من خارج كصورة إنسان ما، أم لم يكن له وجود
كعنقاء مغرب، وغزائل، والخيال تصور ما أدركه الحاسة في النفس.
والحسبان: اعتقاد عن أمارة اعتددت به، سواء كان له وجود في
الحقيقة، أو ولم يكن وهو مشتق من حسبت الحساب، والظن: أعم معنى
من ذلك كله فإنه اعتقاد عن أمارة ما مما قد ثبت، فمتى كانت تلك
الأمارة ضعيفة جرى مجرى " خلت
(1/115)
وحسبت "، ومتى كانت الامارة قوية جرى مجرى
" علمت " وكتردده بين هذين.
قال أهل اللغة: " ظننت " قد يكون بمعنى: " خلت " وبمعنى: "
تيقنت "، ومتى كانت الأمارة قوية، ولحق بباب العلم استعمل معه
" أن " الثقيلة والخفيفة منه نحو: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} وقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ
مِنْكُمْ مَرْضَى} ومتى كانت ضعيفة، استعمل معه " أن " المختصة
بالمعدومين من الفعل، نحو قوله: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا
فَاقِرَةٌ} وقد تقدم الكلام في الإنزال والتنزيل وفي معنى
العبد.
وأما تخصيص إضافة العبد إلى الله في كثير من المواضع، فتنبيه
على مدحه في كونه مطيعاً له متصرفاً عن أمره، وأنه غير متعرج
على غيره، ولا مؤتمر لسواه كمن سماهم " عبدة الطاغوت "، و "
عبد الدرهم والدينار " وتنبيه أنهم ممن وصفهم الله بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} وتنبيه أنه يجري
مجرى الملك الموصوف في قوله {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ثم إضافته بنون
الملكية مبالغة في الاختصاص، وكل إضافة إليه تعالى على هذه
الوجه، فالمبالغة والسورة المنزلة في نحو:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ويقال للمحيط بالمدينة " سور " لحياطته بجملتها، وتسمية القطعة
من القرآن بذلك لكونه كالمحاط بها إحاطة السور بالمدينة، أو
لكونها منزلة ما من القرآن كما تقدم، ومن قال سؤرة بالهمز،
فمن: أسارت أي: أبقيت قطعة، فكان ذلك قطعة مفرزة من جملته،
وقوله:
(1/116)
" من مثله "، قيل: من مثل القرآن، وقيل: من
مثل النبي [عليه السلام] من البشر - تنبيهاً أن مثله ليس في
طرق البشر، ومن على الوجه الأول: للتبغيض، وعلى الثاني:
للابتداء.
قوله - عز وجل -: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
الآية: (23) - سورة البقرة.
الشهادة: تبين الشيء الحاضر، فقولهم: " شهد زيد " في المعنى من
قولهم: " حضر " وإن كان قد يفسر به، ولما كان تبين الشيء على
ضربين: تبين بالبصر، وتنبين بالبصيرة، والحضور على ضربين: حضور
بالذات، وحضور بالتصور، صارت الشهادة تستعمل على أوجه بحسب
ذلك، فيقال ذلك لحصول قربة ومنزلة، ومنه قليل: استشهد فلان "،
" وهو شهيد "، كأنه حضر وتبين ما كان يرجوه، واستعمال ذلك فيه
كاستعمال القريب نحو قوله: {الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}
ولهذه العنى قال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}، وقال في
الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}،
وقالوا: " أنا شاهد لهذا الأمر "، أي عارف به متصور له - إشارة
إلي قولهم " لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي ".
وقالوا: " شاهده " أي: ناصره، وعلى نحوه قال [تعالى]: {إِنَّ
اللَّهَ مَعَنَا} وقالوا: " صحبك الله، وأما الشهادة
المتعارفة: فأصلها الحضور بالقلب والتبين، ثم يقال ذلك إذا عبر
عنه باللسان، ولذلك متى أطلق لفظ الشهادة على ما يظهر من
اللسان دون حصوله في القلب عد كذباً، كقوله تعالى في المنافقين
حيث قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}، فكذبهم
وقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ثم يقال لكل ما
يدل على شيء شهادة وإن لم يكن قولاً فقوله: {وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُمْ} قد فسر على ما يقتضيه لفظ
(1/117)
الشهادة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -
معناه: أعوانكم، وقال مجاهد: معناه الذين يشهدون لكم، وقال
غيرهما: أئمتكم نحو: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ}، وكأنما
عنى بذلك الكبير الذي لا يبرم أمراً من دونهم كقولهم: " فلان
يحضر به النوادي وهو من أهل النجوى " وبضده هجى من قبيل فيه
بيت:
مخلفون، ويقضي الناس أمرهم ...
وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
وأما الصدق: فإنه يُحد بأنه مطابقة الخبر المخبر عنه، لكن
حقيقته وتمامه أن يتطابق في ذلك أشياء، وجود المخبر عنه على ما
أخبر عنه، واعتقاد المخبر فيه ذلك عن والاعتقاد وبخلافه، صح أن
يوصف بالكذب ...
ألا ترى أن الله تعالى كذب المنافقين في إخبارهم " إنك لرسول
الله " لما كان اعتقادهم غير مطابق لقولهم؟ وإذا قال لك من
أعتقد كون زيد في الدار، ولم يكن فيها صح أن يقال كذب، وإن كان
قوله مطابقاً لاعتقاده، ولما كان اللسان ترجمان القلب، صح أن
يقال: " صح في اعتقاده أو كذب "، وقد يتجوز أيضاً بذلك في جميع
الأفعال، فيقال لكل فعل جميل على ما يجب صدق، ولما كان بخلافه
[قيل] كذب، ويقال أيضاً لكل شيء يعتقد فيه اعتقاداً ما فوجد
مطابقاً لذلك صدق، وإن وجد بخلافه كذب، ووجه الآية أن الله
تعالى تحداهم بأن قال: " ادعوا أعوانكم وأنصاركم " وأستعينوا
بكل ناصر لكم غير الله الذي هو مفزع الكل، وانظروا هل فب طوقكم
الإتيان بمثله - تنبيهاً على أن ذلك لو أتى به محمد من قبله
لقدرتم أنتم مع تظاهركم على الإتيان بمثله، ويحوز أن يكون
قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ذماً لهم أي: ادعوا أعوانكم التي
من عادتكم الاستعانة بهم الذين هو غير
(1/118)
فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
(24)
الله، ويجوز أن يكون معناه (وادعوا شهداءكم
الذين لكم من دون الله)، فإن الاستعانة به ليس بكم، وعلقه
بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} - تنبيهاًَ أن إقامة
الدلالة على الشيء الصدق ليس يقصر، فعجزكم عنه دلالة على أنكم
كاذبون في دعواكم.
قوله - عز وجل -: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.
الآية: (24) - سورة البقرة.
لفظ الفعل أعم من معنى سائر أخواته، نحو: العمل، والصنع،
والإبداع، والإحداث، والخلق والكسب وذاك أن الإبداع أكثر ما
يقال في إيجاد عين عن عدم، وليس حقيقة ذلك إلا الله تعالى،
والأحداث يقال في إيجاد الأعيان والأعراض معاً، والعمل لا يقال
إلا ما كان عن فكر وروية، ولهذا قرن بالعلم، فقيل: علم وعمل،
حتى قال بعض الأدباء: " قلب لفظ " العمل عن لفظ " العلم "
تنبيهاً أنه من مقتضاه، والصنع يقال لإيجاد الصورة في المواد
كالصياغة والبناء فإن الصائغ يوجد صورة الخاتم والخلخال في
الذهب والفضة، والبناء يوجد صورة البناء في الطين، والكسب أكثر
ما يقال في اجتلاب المنافع، وقد يقال أيضاً في اجتلاب المضار
مقيداً، والخلق قد تقدم القول فيه، وقد أمر الله بالتقوى على
ثلاثة أوجه، وخص بكل وجه عصابة من الناس وذلك بحسب اختلاف
مراتبهم من العلم ومكانهم من الإيمان، فالأول: حث الإنسان على
اتقاء عقوبة الله برؤية ذنوبه، وذلك في قوله: {وَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، {وَاتَّقُوا
يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} والثاني: حث على
(1/119)
اتقائه بروية آلائه ونعمه لقوله: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} والثالث: حث على تقواه
برؤية وحدانيته دون الوسائط وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}.
وجعلها على ثلاثة مراتب حسب ما سنه تعالى في سياسة الأصناف
الثلاثة من الناس الخاصة والعامة، وبهذا الاعتبار قسمهم تعالى
ثلاثة أقسام في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}
وأشرف هذه المنازل " تقوى الله " تعالى من غير رؤية الوسايط
بلا مخالفة ولا رجاء، ولذلك عظم ثوابه بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ} وهم الاتقون المعنيون بقوله تعالى: {إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} والمعبر عنهم بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ
هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} والوقود: الحطب الذي يوقد به، ولذلك
فسر بأنه دقاق الحطب، لأنه الدقاق الذي يوقد به، ولما كانت نار
الدنيا محتاجة إلى دقاق توقد به، ونار جهنم مستغنية عن ذلك، بل
يكتفي في إيقادها بالناس وبالحجارة التي ليست من عادة النيران
المشاهدة أن يتقدبها عظم أمرها ومن قال: أراد بذلك حجارة "
الكبريت " فإنما عنى أن الحجارة لتلك النار كحجارة الكبريت
لنار الدنيا، وقوله: أعدت أصله في العدد وهو الإحصاء، لكن العد
يتجوز به على أوجه فيقال: شيء معدود ومحصور للقليل مقابلة بما
لا يحصى كثرة، ويقال على الضد من ذلك، وجيش عديد، وإنهم لذو
عدد، أي: كثيرة، وذلك مقابلة بما لا يحتاج إلى حصره وتعداده
لقلته، ولهذا قيل: أعددت هذا لكذا، أي جعلته معادا للمعد له،
يتناول منه بحسب حاجته إليه وقد ألزمهم الله تعالى بهذه الآية
الحجة بأنكم إن أتيتم بمثله، فقد أدخصتم حجته،
(1/120)
وإن لم تأتوا به لزمتكم الحجة، ووجب عليكم
أن تتقوا عقابه.
وفصل بين الشرط والجزاء بحكم جزم أن لا تأتوا بمثله، وذلك
زيادة في إعجازه لوجود مخبره على ما أخبر به وذلك مثل قوله:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}
الآية، فإن قيل كيف خص الكافرين بالنار دون الفاسقين؟ قيل:
يجوز أن يكون أراد أن هذا الضرب من النار يختص به الكفار، وهي
المخصوصة أيضاً بقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ} وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ثم إذا قيل: " أعد هذا لزيد " لا
يقتضي أن لا يكون معداً لغيره، بل قد يكتفي بأعظم الشيئين عن
الآخر نحو قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} لم يذكر معه
البرد، فيكون النار على هذا الوجه للجنس، وعلى الأول للنوع ..
(1/121)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا
مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي
رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
قوله - عز وجل - {وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا
مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي
رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}
الآية: (25) - سورة البقرة.
أصل بشرته تلقيته مني ببشرة ووجه طلق، وذاك أن من شأن من أتى
بخبر سار أن يكون طلق الوجه، ومن أتى بخبر بخلافه يكون عابس
الوجه وقيل معنى بشرته: أطلقت بشرته بما أخبرته فإن من ناله
سرور، طار دمه منتشراً في صفحة وجهه، ومن ناله سوء يقيض دمه
فاصفر أو اسود وقيل: بشرتهك أظهرت له خبراً دلت بشرته على
المسرة به، أي ظاهره فاستعير لظاهر الخبر البشرة وذلك لكثرة ما
يدل وجه الشيء على باطنه
فإن قيل: فإن كانت البشارة للأخبار السارة، فما وجه قوله
تعالى:
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ قيل إن مثل ذلك قد يستعمل
على سبيل التهكم نحو:
" تحية بينهم ضرب وجيع "
تنبيهاً أن السار لهم الإخبار بالعذاب الآليم، فما الظن بما
وراءه؟ والإيمان لما كان في الأصل للتحقيق والتصديق، قيل: ما
ذكره الله تعالى إلا قرن به الأعمال الصالحة، تنبيهاً أن
الاعتقاد لا يغني من دون العمل، فالعلم أس والعمل بناء، ولا
غناء للأس ما لم يكن بناء كما لا بناء ما لم يكن له أس ولذلك
قيل: " لولا العمل لم يطلب علم "، ولولا العلم لم يكن عمل،
فإذا حقهما أن يتلازما والجن: أصله المستر عن حس البصر وسمى
الجن لاستتاره عنه، ثم اشتق من الجن، فقيل جن فلان، وبنى على
فعل نبأ " عامة الأدواء نحو:
(1/122)
" زكم " و " حم " ولقي والجنان: القلب،
لكونه مستوراً عن البصر، و " جن الليل " والمجن لذلك وقيل
للبستان ذي الأشجار جنة، لاستتاره بها، والجنة قيل: [تسمى
تشبيهاً] بجنة الأرض وإن كان بينهما بون، وقيل: سميت بذلك،
لأنه ستر في الدنيا حقيقة ما أعد الناس فيها من عظم الآلاء
وبذلك أخبر تعالى في قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا
أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وإنما قال: " جنات "
بلفظ الجمع لما قال ابن عباس - - رضي الله تعالى عنهما - " إن
الجنان سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة المأوى،
ودار الخلد، ودار السلام، وعليون " والجري: المر السريع، ويقال
ذلك في الماء والرياح والسحاب والفرس، ويقال للرسول والوكيل
المتحققين في الحال جري، والاتيان: عام في المجيء والذهاب
وفيما كان طبعاً وقهرياً، والآتي: يقال للماء الجاري، ولما وقع
فيه من خشب ونحوه ولمجرى الماء القريب أيضاً
إن قيل: لم قال: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وقد
علم أن الماء في البساتين إذا كان جارياً على وجع الأرض أحسن
منها إذا كان جارياً تحتها؟ قيل: عنى أنهاراً جارية تحت
الأشجار، لا تحت الأرض، وقد روي عن مسروق ما يدل على ذلك، وهو
أن كل أنهار الجنة تجري في غير أخاديد،
إن قيل: كيف قالوا:
{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} وما كان من قبل قد فنى
وعدم؟ قيل: لفظة " هذا " وأخواته يشار بها إلى العين الموجودة
طوراً، وإلى النوع والجنس طوراً.
والنوع من حيث ما هو نوع ليس يفنى، وإنما الذي يفنى هو
الجزئيات وعلى ذلك تقول في الإشارة إلى نهر جار: " هذا الماء
(1/123)
لا يفنى " وأنت لا تعني بذلك الجزئيات
المشاعدة منه، وإنما تعني به النوع المعلوم وقوله: (من قبل) هو
للمتقدم، فقيل: عنى بذلك ما أتوا به قبل ذلك في الجنة، وإليه
ذهب الحسن ويحيى بن أبي كثير، فقال: " إذا أوتي أحدهم بصحفة
فيأكل منها ثم يؤتى بآخر، فيقول: هذا الذي رزقنا من قبل، فيقول
له الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف "، وقال ابن عباس - رضي
الله تعالى عنهما - (رزقنا من قبل) أي في الدنيا شبهه.
وابن جرير رجح هذا الوجه، وقال: إن قوله: (كلما) عام يقتضي
أنهم قالوا ذلك في كل مرة من غير تخصيص، ومتى جعل ذلك الأولى،
اقتضى أن يكون مخصوصاً خلاف ما يقتضيه عموم الآية، وقال بعض
المفسرين قول ابن عباس -[رضي الله عنهما]- في قوله: {هَذَا
الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: في الدنيا، يعني ثواب ما
رزقنا من المعارف كقوله: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}،
قال: ويدل على صحة هذا أن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -
قال: " ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء "،
والمتشابه: المتماثل في الكيفية، ولهذا يقال فيكا لا يتميز
أحدهما عن الآخر متشابه، وكذلك للواقع من الكلام بين معنيين
فصاعداً ومتشابه والشبهة في الشيء ما يقع فيه من مشابهة الغير،
فقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، قيل: هو تفسير لقوله:
{هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} أي يشبهه اسماً ولوناً
لا طعماً وحقيقة وقيل: عنى به متماثلاً في الكمال وأن لا
تقارب، فيه كأطعمة الدنيا، وقال بعض المفسرين: إن الآية مثل لا
على الحقيقة، وقد نبه على كونه مثلاً بقوله بعده: {إِنَّ
اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
فَمَا فَوْقَهَا} والأنهار مثل لمجاري الخيرات، كقولك: ينابيع
الحكم، وأنهار الفعل والرزق لم يعن به ما يؤكل فقط، وإنما هو
كقولك: " رزقت فهماً وعلماً " والثمرة: اسم
(1/124)
لما يتحصل عن الشيء، كقولهم: " ثمرة العلم
العمل الصالح، وثمرة العمل الصالح الجنة " ومعناه: كلما اعطوا
في الجنة جزاء لما رزقوا من المعارف والأعمال، (قالوا هذا الذي
رزقنا من قبل) أي: هذا ثواب الذي وفقنا له في الدنيا.
وهذا القول وإن كان لمجازه مساغ في اللغة، فهو ترك لما روي عن
السلف في تفسير الآية، وقد طعن في هذه الآية وأمثالها من
الآيات قوم من المتفلسفين والطبيعيين، وقالوا: " إن الجنة لا
يصح فيها الأكل والشرب، فإن الأكل لا يطيب إلا عن جوع، والجوع
مرض وأذى، والأكل مداواة له، ولا مرض ولا أذى بوجه في الجنة،
ثم إن الطعام يصير بعضه ثقلاً بعد طبخ المعدة إياه فيخرج من
البدن، وبعضه يصير غذاء يزيد في البدن بقدر ما يتحلل منه، وإلا
خرج به البدن عن الاعتدال.
وكل ذلك لا يصح إلا في دار الكون.
والفساد دون دار الخلد والبقاء ".
وهذا كلام من نظر إلى الأجساد في الآخرة نظره إليها في هذه
الدنيا، وهي مركبة تركيباً معرضاً للاستحالات، ولم يعلم أن
الله تعالى [قادر على أن] يعيدها إعادة لا تعتورها الاستحالات،
ويجعل لها أطعمة يتلذذ بها، فلا يكون لها ثقل ولا تغير منكر،
وقد دل على ذلك تعريضاً وتصريحاً، أما إعادتها على وجه معرى من
الاستحالات، فقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا
تَعْلَمُونَ}، وبقوله عليه السلام في أهل الجنة: (جرد مرد
مكحول)، وأم إن أطعمتها لا يستحيل فبقوله عليه السلام: (إن أهل
الجنة لا يبولون ولا يتغوطون إنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل
المسك).
(1/125)
ويقول ابن عباس " رضي الله عنهما " " ليس
في الجنة شيء ما في الدنيا إلا أسماوها "، فإن الله تعالى سمي
الماء واللبن والخمر والعسل والسندس والحرير والمسك والزنجبيل،
ووصف لكم ما في أيديكم ليحلو عندكم، ولكي تهتدي، إليه قلوبكم،
زليس لهذا القول منه وجه إلا التوقيف، إذ لا مدخل للاجتهاد
فيه، وروي أن يهودياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - "
أتزعم أن في الجنة نكاحاً وأكلاً وشرباً، ومن أكل وشرب كانت له
عذرة؟ فقال النبي - عليه السلام -: " والذي نفسي بيده إن فيها
أكلاً، وشرباً، ونكاحاً، ويخرج منهم عرق أطيب من ريح المسك "،
فقال رجل: صدق رسول الله، خلق الله دوداً يأكل مما تأكلون،
ويشرب مما تشربون، فيخلف غسلاً سائغاً " فقال عليه السلام: "
هذا مثل طعام الجنة أهل الجنة " وفي هذا إشارة عجيبة، فإنه إذا
أمكن أن يأكل دود أطعمة مستحلية، فتخلف جنساً طيباً يبقى أطول
مدة، فلا يلحقه فساد، فكيف ينكر أن يتناول أهل الجنة طعاماً
معرى من العفونات والاستحالات، فيخلف منه مسك؟ والذي يستبعده
بعض الناس من ذلك هو أنهم يريدون أم يتصوروا أبداناً متناولة
لأطعمة لا استحالة فيها ولا تغير لها، ولا يكون منها فضولات،
وتصور ذلك محال، وذاك أن التصور: هو إدراك الوهم خيال ما أدركه
من الحس وما لا يدرك الحس جزءه ولا كله، كيف يمكنه، تصوره؟ ولو
كان للإنسان سبيل إلى تصور لك، لما قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ
نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، ولما قال
" عليه السلام " مخبراً عن الله تعالى: (أعدت لعبادي الصالحين
ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، وجملة
الأمر: يجب أن يكون معلوماً أن النقصانات منفية عن الجنة،
لأنها من الأعدام، وليس في الجنة أعدام، إذ الجنة في غاية
الكمال والتمام ..
(1/126)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا
مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي
رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ
فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
قوله - عز وجل -: {وَلَهُمْ فِيهَا
أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية: (25)
سورة البقرة.
الزوج: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوان
المتزواجة، ومن القرينين في غيرهما، كزوج الخف والنعل، ولكل ما
معه آخر مقارن له - مماثلاً كان أو مضاداً، مركباً معه أو
مفرداً، فقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ} أي.
أشكالهم وموافقيهم في الدين، ولم يرج الرجل وحليلته، فقد تكون
تحت المؤمن الكافرة وتحت الكافر المؤمنة، وقوله تعالى: {وَمِنْ
كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي اثنين، إما من حيث
الأعداد، أو من حيث التركيب - تنبيهاً أنه تعالى هو الفرد من
كل وجه، وما سواه زوج من وجه ما، والزوجية: أي أنثوية يقتضي
كونها محدثة، والتطهير يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال
جميعاً، وقيل في قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}.
أي نفسك نقها من الأوساخ، وذلك مخاطبة لككافة وإن كان لفظه
للنبي - عليه السلام - وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، ومعلوم أنه تعالى لم يرد تطهيراً
عن نجاسة في ثوب وبدن، وإنما أراد تطهير النفس الذي يستحق به
المدح والخلود والبقاء الدائم وأصله لما يطول مكثه، ومنه قيل
للأثافي والأحجار " خوالدٌ "، والخُلْدُ: اسم للجزء يبقى من
الإنسان على حالته مادام حياً ...
(1/127)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
قوله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ لَا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ}.
الآية (26) سورة البقرة.
الحياءُ: عارض للفرع من النقيصة، وذلك بين الوقاحة والخجل، فإن
الوقاحة هي الجرأة على الإعال القبيحة من غير مبالاة، والخجل
انحصار النفس عن الفعل، والحياء مأخوذة من لفظ (الحياة) التر
يراد بها العلم والعقل، ووجه ذلك أن الحياء أسُّ العقل، إذ هو
أول أمارة منه تظهر من الصبي، ولهذا قال عليه السلام: " من لا
حياء له لا إيمان له "، لأن الحياء أول منزلة من العقل،
والإيمان آخر منزلة له، ومحال أن يحصل آخر المنزلة لمن لم يحصل
له الأولى، وأما الحياء الذي هو الفرح، فسمي بذلك لكونه
مستحباً من ظهورة، ومن أجل ذلك قيل: " شورتُ لفلان " أي
خَجَّلتُهُ خجل من يظهر شوارهُ أي فرحُةُ والضربُ أصله وقع شيء
على شيء ثم تجوز به على أنظار مختلفة، ولما قيل: " ضربتُ
الدرهم "، و " درهمٌ ضربٌ " أي مصوغ، استعير منه: " ضربت المثل
" والكلام في المثل، والمثل قد تقدم، وما في قوله: " مثلاً ما
" للمبالغة في التنكير، فإن " ما " في الخبر إما أن تكون
معرفة، فتكون موصلة، أو نكرة، وذلك على ثلاثة أوجة: إما موصوفة
نحو قوله:
رُب ما تجزعُ النُّفوسُ منَ الأمـ ....
ـرِ فُرْجةٌ كحلٌ العقال
أو مبتدأ بلا صفة وذلك في قولهم: " ما أحسن زيداً " على مذهب "
سيبويه "، وإما تابعاً
(1/128)
لاسم منكور - تنبيهاً أنه لم يقصد به معين،
نحو: " رأيتُ رجُلاً ما "، وقوله: " فَمَاَ فَوْقها "، قيل
معناه: ما دونها، وإنما عنى ما فوقها في الصغر، ففسره بدون،
فظن بعض أهل اللغة أن فوق يكون بمعنى " دون " فأخرجه في جملة
ما صنف من الأضداد والحق: لفظ عام لصدق المقال وصواب الفعال،
يقال: قول حق، كقولك صواب، وقيل: الحق هو الذي لا يزاحمه في
ذاته ضد، ولهذا وصف الله تعالى به في قوله: {وَيَعْلَمُونَ
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} والإرادة منا تقتضي
نزوع النفس إلى الشيء مع الحكم بأنه ينبغي أن يفعل وأن لا يفعل
وإذا وصف الباري تعالى، فلا يصح أن يكون فيه النزاع، إذ هو
منزه عن ذلك، والاختيار أخص من الإرادة، فإن فيه مع الإرادة
دلالة من اللفظ على تفضيل أحد الشيئين على الآخر، والإيمان
ههنا: الاعتقاد الصادر عن العلم وإن كان في التعارف يقتضي مع
الاعتقاد قولاً وعملاً بحسب مقتضاه والكفر ههنا: الاعتقاد
الكاذب عن تخمين، ومعنى الآية: أن الكفار لما سمعوا النبي -
صلى الله عليه وسلم - وقد تلا عليهم قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} وقوله {وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}
قالوا: لا يستحي ربك عن ذكر الذباب والعنكبوت؟ فأنزل الله
تعالى ذلك - تنبيهاً - أن الاعتبار بالحكمة لا بصغر الجثة
وكبرها،
إن قيل: من حق مطابقة قوله [تعالى]: {فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي
يقول: (وأما الذين كفروا فلا يعلمون)؟ قيل: لما كان الإيمان
صادراً عن العلم، والعلم يقتضي سكون النفس وطمأنينة القلب،
وذلك لا يقتضي مراجعة ومساءلة ذكر مقتضاه ولما كان الكفر منبع
الجهل التام وتمام الجهل والاعتراض على الحق على
(1/129)
سبيل الإنكار، نبه بإنكارهم لما لا يعرفونه
على تمام جهلهم وقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} -[قد تقدم]
الكلام في الإضلال والهداية، فأما الفاسق: فهو الخارج عن حجر
الإيمان من قولهم: " فسق الرطب عن قشرة "، وكل كفر فسق، وليس
كل فسق كفراً، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم فسق حكم الإسلام
وأقر به أو ببعضه ثم أخل به، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق،
فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضاه الفطرة، وللفاسق في
انحلاله عن الإسلام ثلاث درجات: التغابي، والانهماك والجحود
فبالتغابي: يرتكب بعض الذنوب مع استقباحه من نفسه، وبالانهاك:
يرتكبها غير مبال بها، وبالجحود: يرتكبها مستصوباً لها.
[والكبير والكثير يتقاربان، إلا أن الكبير والكثير أكثر ما
يقال في أخر الشيء المتصل] فالكثير في الأعداد والمعدودات
المنفصلة:
إن قيل: كيف قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيرًا} والكثير والقليل إنما يقالان في شيئين يعتبر أحدهما
بالآخر، والناس إذا فرقوا فرقتين فحكمت على إحديهما بالكثير،
فالأحرى لا محالة قليلة، فكيف جعلهما كثيرين؟ قيل: إن ذلك
باعتبارين، فقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيرًا} يعني من حيث العدد، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} يعني
من حيث الفضل والشرف.
وعلى هذا قول الشاعر:
" قليل إذا عدوا كثير إذا شدوا "
أو يحكم عليهما بالكثرة - اعتباراً بالإضافة إلى غيرهما -.
(1/130)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا
أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}
الآية: (27) - سورة البقرة.
النقض: فسخ المبرم، وأصله في طاقات الحبل، والنكث: مثله، لكنه
يقال في المتبلد كالأكسية، والأخبية، والعهد: كل أمرٍ شأنه أن
يراعي كاليمين، والمشاركة، والمبايعة، ويقال العهد للدار
المراعاة بالرجوع إليها، والتاريخ المراعي، وللمطر المتعهد،
والميثاق: اسم لما يقع به الوثاقة، والعهد المأمور بحفظه
ضربان: عهد مأخوذ بالعقل، وعهد مأخوذ بالرسل، والمأخوذ بالرسل
مبني على المأخوذ بالعقل، ولا يصح إلا بعده أو معه، وقد حملت
الآية عليهما، وذلك هو المذكور في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}
الآية، وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ} وقد عظم الله تعالى أمر العهد وتوعد على
الإخلال به في أي كثيرة، كقوله: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا
يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} الآية وقال: {فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا} وأما ذمهم بقطع ما أمر الله به أن يوصل، فذم بقطع
الخيرات وتعاطي السيئات، وذلك أن التقاطع بين الناس يحصل من
رفض المحبة والعداية ورفضهما سبب كل فساد، فإن القوم إذا أحبوا
وعدلوا تواصلوا، وإذا تواصلوا تعاونوا، وإذا تعاونوا عمروا
وإذا عمروا عمروا وأمروا وبالعكس إذا تباغضوا وظلموا تدابروا
وإذا تدابروا تخاذلوا وإذا تخاذلوا، لم يعمل بعضهم لبعض
(1/131)
فهلكوا ولهذا قال عليه السلام:
(لا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم
الله) وقال: (المؤمن مألف، ولا خير فيمن لا يؤلف ولا يألف)،
ولذلك حثنا على الاجتماعات في الجماعات والجمعات، لكون ذلك
سبباً للألفة، بل لذلك عظم الله تعالى المنة على المؤمنين
بإيقاع الألفة بين المؤمنين، فقال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} وقال: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وليس ذلك في
الإنسان فقط، بل لولا أن الله تعالى الف بين الأركان المتضادة،
لما استقام العالم، ولذلك قال عليه السلام: " بالعدل قامت
السماوات والأرض " ومتى تصور هذه الجملة، علم أن الآية في
نهاية الذم
(1/132)
لهم، وقول قتادة: " إنه أمر بصلة الأرحام
"، وقول غيره: " إنه ذم لهم بقطعهم النبي - صلى الله عليه وسلم
- إشارة منهم إلى أبعاض ما يقتضيه عموم الآية، والخاسر في خسر
إحدى المقتنيات الثلاثة من المال والبدن والعقل، وكما أن
الفاسق بالقول المجمل على ثلاث طبقات بعضها فوق بعض، فكذلك
ناقضوا العهد على ثلاث طبقات: ناقض عهده في أوامره المفروضة،
وناقض عهده في أوامر النافلة، وناقض عهده في أركان الدين، وذلك
أعظم الثلاثة، وكذلك قاطعو ما أمر الله به أن يوصل، قاطع لبعض
ما يشير إليه عقله تابعاً لهواه، وقاطع لبعض ما يأمر به العلم
وبنوه، وقاطع للعصمة بينه وبين الله، وكذلك الخاسر: خاسر ماله
في ابتغائه غير الدار الآخرة، وخاسر بدنه في غير خدمة الله،
وخاسر عقله في إهماله عن اقتباس ما يفيده الحياة الأبدية، وذلك
أعظم الخسران المنبأ عنه بقوله تعالى: {قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} وقوله تعالى:
{إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}.
فلكل منزلة من الفسق منزلة من نقض العهد، ومنزلة من القطع،
ومنزلة من الخسران تلازمه، فالأول في كل ذلك مخطئ، والثاني
فاسق، والثالث كافر، ثم منزل كل واحد منهم يتفاوت.
(1/133)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(28)
وقوله - عز وجل - {كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
الآية: (28) - سورة البقرة.
كيف: ههنا استخبار لا استفهام، والفرق بينهما أن الاستخبار قد
يكون تنبيهاً للمخاطب وتوبيخاً ولا يقتضي جهل المستخبر،
والاستفهام بخلاف ذلك، فكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار
استفهاماً، والحياة: يستعمل على أوجه، يقال للقوة النامية في
النبات والحيوان حياة: ومنه قيل نبات حي إذا كان نامياً، وعلى
ذلك قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا} وقوله عز وجل: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا} والثاني: للقوة الحساسة الحاسة، وبه سمي الحيوان
حيواناً، والثالث: للقوة المختصة بالإنسان من العقل والعلم
والإيمان، وذلك لكونها سبباً للحياة الأبدية، وعلى ذلك قوله
تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا} وقوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وعلى نحوه
قوله:
وقد أسمعت لو ناديت حيا ...
ولكن لا حياة لمن تنادي
والموت: يستعمل في فقد كل واحدٍ مما تقدم، وأما وصف الباري -
جل ثناؤه - بالحي، فليس يتصور منه مقابله الموت، فإنه تعالى
الدائم الباقي الذي به حياة كل حي، ومعنى الآية: قبل " كنتم
أمواتاً " أي: تراباً ونطفة، فأحياكم، بأن أنشأكم وخلقكم ثم
يميتكم الموت المعروف، ثم يحييكم يوم ينفخ
(1/134)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
في الصور، " ثم إليه ترجعون أي تردون إلى
دار الثواب والعقاب، وذلك نحو قوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ونبه بمثل هذه
الآيات على أن القادر على الابداء، قادر على الإعادة، كما قال:
{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقال بعض أهل الحقائق: الآية خطاب
للمؤمنين، ولا على الإنكار بل على تعظيم المنة عليهم وتبعيد
الكفر منهم بعد تحققهم بالإيمان، فقد قيل: " ما رجع من رجع إلا
من الطريق، أي: لا ينكر الله أحد بعد تخصصه بالمعرفة الحقيقية،
وإنما يرتد ويتشكك من لم يبلغها، فمحال أن يصير العارف جاهلاً،
وليس بمحال أن يصير الجاهل عالماً، فيقول: " كنتم أمواتاً " أي
جهالاً فأحياكم بما أفادكم من العقل ورشحكم له من العلم، كما
قال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} وهذا أعظم
أعجوبة، وأولى بالاعتبار به والتنبيه عليه لمن ألقى السمع وهو
شهيد، ثم قال: (يميتكم) الموت المعروف الذي لا يجب أن يتكادكم
ثم يحييكم الحياة الحقيقية، ثم تثابون الثواب الذي لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قوله - عز وجل -:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية (29) - سورة البقرة.
الاستواء: طلب السواء، أي المساواة، وسمي وسط الشيء سواء،
لتساوي مساحة الجوانب كلها إليه، وقيل للعدل سواء لكونه وسطأً
للظلم والانظلام،
إن قيل: قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) يقتضي أن كل
ما في الأرض خلق لأجل الإنسان، والانتفاع به، ومعلوم أن في
الأرض كثيراً مما لا ينفع للإنسان فيه، بل فيه المضار كالحيات
والعقارب، (والسموم) والأشرار من الناس، قيل: الأشياء الضارة
في الظاهر لكل نوع منها خاصة فيها نفع للإنسان أو نفع لما فيه
نفع للإنسان،
(1/135)
فأجزاء العالم إذا تأملتها إما أن تكون
قراراً للإنسان، أو غذاء له، أو غذاء لما هو غذاء له، أو دواء
له، أو ما ينتفع به نفعاً نا على وجه.
وذلك بين في أنواع الأشياء وأجناسها.
فأما نفع جزيئاتها في أن يقال: ما نفع هذه الحية بعينها فلا
سبيل لنا إليه، وأجزاء العالم شيء ضار بالإضلاق، وإنما الضار
بالاعتبار إلى جزيئاته،
إن قيل: كيف ذكر ههنا أنه خلق ما في الأرض قبل السماء وقد قال:
{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، معلوم أن ما في الأرض
محال وجوده قبل وجودها؟ قيل: قد ذكر في هذا جوابان: أحدهما:
أنه تعالى خلق جوهر الأرض، ثم دحاها وبسطها بعد خلق السماء،
والثاني: أنه خلق السماء بعد خلق الأرض ووجودها، وإنما وقعت
الشبهة من قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، لأن
بعض الناس تصور له من جهة القرآن قوله: (بعد ذلك) ظرف لقوله:
(دَحَاهَا) واعتبر في (بعد) الزمان وليس كذلك، فإن تقدير
الآية: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ}، ثم قال: {دَحَاهَا (30)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}.
كقوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} ثم قال:
{بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}، وليس " بناها "
وصفاً للسماء، بل تقديره: (أم السماء أشد خلقاً)، ثم استوؤنف
فقيل: بناها - تنبيهاً أن من قدر على ذلك [فهو على] إعادتكم
قادر، ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي الأرض بعد
السماء أشد خلقاً من إعادة خلقكم، وذلك لأن السماء بما فيها من
عجائب الصنعة أعظم خلقاً من الأرض، ثم الأرض أعظم من الإنسان،
وليس يريد بقوله بعد التوقيت، وإنما يريد الترتيب في الشرف
والرفعة،
فإن قيل: ولم نصب الأرض ولم يرفعها كما رفع السماء؟
(1/136)
قيل: لأن القول استحبار، وقوله: " والأرض "
ليس بداخل في الاستخبار، لأنه لو كان استخباراً لقال: أم
الأرض، لكنه استأنفه، فأضمر له فعلاً نحو: {يُدْخِلُ مَنْ
يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ}، ذلك
الفعل ما دل عليه (أنتم أشد) من التعرف، وقوله: {ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} فالاستواء وإن كان في الأصل
للإقبال الدال على الانتقال، فقد يراد به التوفر على إصلاح
الشيء، وهو المراد ههنا، وعلى ذلك الاتيان في نحو قوله:
{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}، ويكون
اللفظ متجوزاً [به] ههنا، قال بعضهم: معناه: استولى وقال
الحسن: أقبل على خلقه، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - استوى
أمره عليه، وقيل معنى: (سَوَّاهُنَّ) أي تحرى السواء، أي
العدالة وذلك لما جعل فيها من التركيب المتعادل المشار إليه
بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بالعدل قامت السماوات "،
إن قيل: لم ذكر السماء ثم قال: (فَسوَاهُنَّ).
قيل: لما عنى بالسماء السموات رد الضمير إلى المعنى، ومجاز ذلك
أن الأسماء على ضربين: اسم موضوع لأجزاء الرجل والمرأة
متشابهة، نحو: الدم، واللحم، والماء، والأرض، واسم موضوع
لأجزاء غير متشابهة، نحو: اليد، والرجل، فما كان من الأول،
فإنه يقع على بعضه اسم كله، فلا فرق بين أن يذكر بلفظ واحد، أو
بلفظ الجمع.
والسماء من هذا الباب، لأنه يقال لأقطاع اللحم لحم، ولكل قطعة
منها منفصلة كانت أو متصلة لحم كذلك السماء، والله أعلم.
(1/137)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قوله - عز وجل -: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية (30) - سورة
البقرة.
إذ: يتعلق بمضمر في موضع المفعول به، لأن تقديره: اذكر لا أذكر
فيه، وقول أبي عبيد: إن " إذ " في مثل هذه المواضع زائدة، فإنه
تقصير منه في النظر، والملك أصله " ملاك " مقلوباً عن مالك،
والألوك: الرسالة المحفوظة في الفم من " ألك الفرس اللجام "،
إذ لاكه، وروي أن الملائكة على أضرب خواص يتميزن تمييزاً
مبانياً في الفضيلة، منهم وأدون ألو أجنحة، وجماعة يقال لهم
الجن، وهم أقرب إلى النسا، وقد يقال للصالح من الناس " مَلَك "
على ذلك قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}
وقال الشاعر:
فلَسْتَ لإ نسى ولكن لملاك
والخليفة والخلف يتقاربان من قولك: خلف فلان فلاناً إذا قام
مقامه، والخلف والسلف يتناقضان كخلف وقدام،
فإن قيل: ما وجه استخلاف الله تعالى، والخلافة إنما تكون
للنيابة عن الغري؟ إما لغيبته أو موته أو عجزه، وذلك لا يجوز
على الله تعالى قيل: بل قد يكون على غير ذلك، وهو أن يستخلف
المستخلف غيره امتحاناً للمستخلف، أو تهذيباً له، أو يستخلفه
لقصور المستخلف عليع من قبول التأثير من المستخلف لا لعجز
المستخلف وذلك ظاهر في الأشياء المهينة والطبيعية، فإن السلطان
(1/138)
جعل الوزير بينه وبين رعيته، إذ هو يقبلون
من الواعظ ماله قرب إلى قبولهم منه، وكذا الواعظ جعل بين
العامة والحكماء، فإن العامة لا يقبلونه من الحكيم، وليس ذلك
لعجز الحكيم، بل لعجز العامة عن القبول منه، وعلى هذا اللحم
والعظم لما تباعد ما بينهما عجز العظم عن قبول الغذاء من
اللحم، فجعل الله تعالى بحكمته بينهما الغضاريف التي بينهما،
ولها مناسبة إليهما لتأخذ ذلك من اللحم وتعطيه العظم، وكذلك
جعل تعالى الرسل بين الملك الذي هو من قبله تعالى وبين العباد
لفضل قوة أعطاهو ليأخذوا منه الحكمة ويوصلوها إلى الناس، وبهذا
الوجه قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ
رَجُلًا}، والخليفة يقال للواحد والجمع، وهاهنا [هو] جمع، فإن
الخليفة لم يرد به آدم عليه السلام فقط، بل أريد هو وصالحو
أولاده، فهم خلفاؤه وحزبه لقوله تعالى: {حزب الله}، وأنصاره
لقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ}،
وعباده لقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ}، وعمارة في الأرض لقوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا}، والمقصود واحد بهذه العبارات وإن اختلفت بحسب
الاعتبارات، وقيل سماهم خليفة لكونهم بعد جان سكنوا الأرض، فإن
كل من تولى شيئاً بعد آخر يقال له هو خليفة، وعلى ذلك قوله
تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ
قَوْمِ نُوحٍ} وقوله تعال: {خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ}،
وأما السفك، والسبك، والسفح، والسن، والشن، والصب، فمتقاربة،
وبينهما فروق، فالصب: أعم من هذه الألفاظ، السفك: يقال في الدم
والدمع، والسبك يقال للجواهر المذابة، والسفح: في الصب من
أعلى، كسفح الجبل، وعنه استعير السفاح، والشن للصب عن القربة
ونحوها، والسن يقاربه، لكن استعير السن في إماهة الحديد، وعنه
بني المس والشن
(1/139)
للصب عن القربة ونحوها، والسن يقاربه، لكن
استعير السن في إماهة الحديد، وعنه بني المس والشن استعمل في
الغارة، وفي لبس الدرع، وذلك لتشبيه الدرع بالماء، وأجزاء
الكتيبة بأجزاء السيل، وأما التسبيح فأصله السبح أي سرعة
الذهاب في الماء، واستعير لمر النجوم في الفلك، ولجري الفرس،
قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} أي:
سعة ذهاب.
وسبحته عن كذا: أي نزهته، وتسبيح الله: تنزيهه بالقول والحكم و
" سبحان " مصدر، ككفران، وجعل السبحة للتسبيح، وسمى الصلاة بها
لكونها تسبيحاً والحرزات: سمى سبحة، ومعنى: (نسبح بحمدك) أي:
نسبحك والحمد لك، أو نسبحك بأن نحمدك والتقديس: التطهير،
وقوله: (نقدس لك) قيل معناه نطهر أنفسنا لك - إشارة إلى نحو
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ} وليس ذلك إظهاراً للمنة، بل هو على حسب ما
نقول مجتهد محب أن يفوض صاحبه إليه خدمة ما، فيقول: أتستعين
بغيري وأنا مجتهد في خدمتك؟ وعلى ذلك قولهم: {وَإِنَّا
لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ} ولي قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً} على سبيل الاستشارة، فالاستشار استمداد علم من
المستشار، والله تعالى منزه عن ذلك، وإنما ذلك إعلام، كإعلامه
إيانا كثيراً من الكائنات لمصلحة ما،
إن قيل: فمن أين حكمت الملائكة على الإنسان بالإفساد في الأرض
وسفك الدماء، وذلك إما ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن
والتخمين، وهم منزهون عن ذلك؟ قيل: قد قيل إنهم قاسوهم على من
كان يسكن الأرض قبل من الجان، فأفسدوا فيها، وقيل: وهو أصح أن
الله تعالى كان قد أخبرهم بذلك، لكن لم يقص علينا فيما حكى
عنهم تنبيهاً عليه بما ذكر في الجواب وذلك عادة القرآن في كثير
من الأقاصيص المذكورة، كقوله تعالى في قصو يوسف عليه السلام:
{أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} وقولهم: {أَتَجْعَلُ
فِيهَا} ليس بانكار إنما هو استخبار مجرد ليعرفهم ما تسكن
نفوسهم إليه ويرشدهم إلى ما يزيل شبهتهم وليسألوا عن ذلك ألا
وقد أذن لهم في السؤال
(1/140)
أما جملة وتفصيلاً، إن قيل كيف أدخل عليهم
الشبهة حتى سألوا عن ذلك واستنكروه؟ قيل: إن الله تعالى لما
خلق الإنسان جسمانياً وروحانياً وجعله مركباً من قوى ثلاث، قوة
شهوية، وقوة غضبية وقوة ملكية فبقوته الشهوية يفسد في الأرض،
وبقوته الغضبية يسفك الدماء متى لم تكونا مهذبتين ويتولى خلافة
الله تعالى بقوته الملكية التي هي العقل، وعلى ذلك دل النبي -
عليه السلام - بقوله " لما خلق الله العقل، قال له: أقبل،
فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت
خلقا أكرم علي منك، بك أخذ، وبك أعطي "، فلما سمعت الملائكة أن
الإنسان مركب من هذا التركيب ورأوا القوة التي بها تصلح
لخلافته القوة التي خصوا بها ونظروا إلى رذيلة القوتين
الأخريين ولم يعرفوا فضيلتهما استنكروا فراجعوا الله تعالى
وقالوا: أما العبادة التي هي التسبيح والتقديس المختصة بالقوة
الملكية، فنحن نقيمها، فما معنى الإنسان المركب تركيباً لا
ينفك من فساد وقتل؟ فقال تعالى في جوابهم: {إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ} فعرض ولم يصرح ها هنا ليريهم فضيلة
الإنسان وما خصوا به من العلم والعمل اللذين يفضلان الملك
عنهما عياناً ومشاهدة والإجمال في هذه الآية بقوله: {إِنِّي
أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} هم المبين بما بعده من الآية
التي [تليها] ..
(1/141)
وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (31)
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا
سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ
وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}
الآيات: (31، 32، 33) سورة البقرة.
الإنباء: إخبار فيه إعلام، وهو متضمن لهما ولذلك كل إنباء
أخبار، وليس كل إخبار إنباء، وكل نبأ علماً وليس كل علم نبأ
ولكونه متضمناً لهما، ومشتملاً عليهما أجري مجرى كل واحد منهما
فقيل أنبأته بكذا كقولك أخبرته وأنبأته بكذا، كقولك أعلمته
كذا، ولا يقال: " نبأ " إلا لكل خبر يقتضي العلم كالمتواتر،
وخبر الله تعالى، وخبر الأنبياء [عليهم السلام] وما جرى
مجراها، وسمى النبي لكونه منبئاً بما تسكن نفسه إليه، ومنبأ
بما سكن المؤمنون إليه فهو أصح من أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل
وبمعنى مفعول، أما بمعنى الفاعل، فلقوله: {نَبِّئْ عِبَادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وقوله {أَؤُنَبِّئُكُمْ
بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} وأما بمعنى المفعول فلقوله:
{نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} وشرح هذه الآية لابد أن
يبين فيه كيف كان تعليم الله آدم الأسماء، وهل فيه دلالة على
أن اللغات توقيف أو أوائلها إصطلاح؟ وأنه هل علمه الأسماء دون
المعاني؟ أو علمه إياها جميعاً؟ وما في ذلك مما تنبه الملائكة
على خطئهم فيما توهموه وقالوه حتى رجعوا عن دعواهم واعتقادهم
وأذعنوا للاستسلام؟ فنقول وبالله التوفيق: إن الناس اختلفوا في
اللغات، فذهب بعض المتكلمين إلى أن أوائلها اصطلاح، والباقي
يصح أن يكون توقيفاً، واستدل على ذلك بأنه لا سبيل إلى معرفة
مراد الله تعالى إلا بالخطاب، ولا يصح أن يكون العلم بمراده
ضرورة والعلم بذاته مكتسباً لأن ذلك مؤد إلى أن تعلمه ضرورة أن
العلم بمراده فرع على العلم بذاته فلا يصح أن يكون العلم الخفي
ضرورياً والجلي
(1/142)
مكتسباً، وذلك فاسد، هذا ما قاله، والصحيح
- إن شاء الله - ما ذهب إليه الجمهور إنه توقيف وقيل: الدلالة
على المسألة إن تعليم الله عباده على أي وجه يكون، فذلك يسهل
الكلام في المسألة، والقول في ذلك - إن شاء الله تعالى - قد
أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ
أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ
إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} فذكر أن مكالمته للبشر على أحد هذه
الوجوه الثلاثة، وأشرفها ما كان بإرسال رسول يرى ذاته، ويسمع
كلامه كحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع جبرائيل - عليه
السلام - والثاني: ما كان بإلقاء الكلام في السمع من غير رؤية،
كحال موسى - عليه السلام - في ابتداء أمره، والثالث: ما كان
بوحي والوحي - ههنا - مخصوص بالإلقاء في الروع، والإلهام،
والتسخير، والمنامات فتعليم الله تعالى آدم [عليه السلام]
الأسماء على أحد هذه الوجوه، ومحال أن يكون الاصطلاح على
الألفاظ متقدماً على التعليم فإن الاصطلاح لابد له من كلام
يتواطؤون عليه، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون اصطلاح ولا لغة،
فإن قيل: فما ينكر أن يتواضعوا بإشارات وتصويت، فإن الأخرس
يقدر على ذلك، وله مخارج الحروف، لأنا نجد الذين لا يتكلمون
يفهمون ويفهمون ولا لغة لهم! قيل: الإشارات يفهم عنها
بالاستدلال كسائر الاستدلالات التي لو توهمنا الكلام مرتفعاً
لصح حصوله وليس للأخرس إلا الاستدلال فقط، ولا قدرة له على
الألفاظ يؤلفها، وإنما صوته كصوت الطفل الذي لم يتلقن الألفاظ
واللغة إنما تكون لغة بحصول تركيب المفردات الثلاث ولو كان إلى
ذلك سبيل من غير تعليم، لكان من شرط البكم أن يتواضعوا فيما
بينهم كلاماً لأن آفة البكم من السمع، وإنما عجز عن الكلام
لعجزه عن التلقن بالسمع، فثبت أن ابتداء تعليم الكلام لا يكون
إلا من معلم، وذلك قد كان من الله تعالى لآدم بأحد هذه الوجوه
المتقدمة
إن قيل: كيف علمه الأسامي كلها وقد علمنا أنه ما من زمن إلا
وبنوه يضعون
(1/143)
أسامي لمعاني وأعيان إما مخترعة وإما
منقولاً إليها عن غيرها؟ قيل: قد قال بعض الناس: " إن كل تلك
بجزئيات علمها الله تعالى آدم - عليه السلام - وإن ظهر في بعض
الأزمنة من بعض أهله والصحيح: أن العلم في الحقيقة يتعلق
بمعرفة الأصول المشتملة على الفروع، والمعاني الكلية المنطوية
على الأجزاء كمعرفة جوهر الإنسان والفرس والقوانين التي يعرف
بها حقيقة الشيء مثل أصول الضرب في الحساب، وأحوال الأبعاد
والمقادير في الهندسة، والأصول المبني عليها المسائل الكثيرة
في الفقه والكلام والنحو.
فأما معرفة الجزئيات متعرية عن الأصول، فليس بعلم، ولا يقال
للعارف بها عالم على الإطلاق، وإنما هو في معرفتها محاك محاكاة
الببغاء للألفاظ وإذا كان كذلك، فتعليم الله تعالى آدم الأسماء
كلها إعلامه القوانين والأصول المشتملة على الجزئيات والفروع
وقد علم أن تعليم الكليات أعظم في الأعجوبة وأشبه بالأمور
الإلاهية من تعليمنا الصبي الحرف بعد الحرف وقوله: (الأسماء
كلها) أراد بها الألفاظ والمعاني ومفرداتها، ومركباتها
وحقائقها وذوات الأشياء في أنفسها، وبيان ذلك أن الاسم يستعمل
على ضربين: أحدهما بحسب الوضع الاصطلاحي، وذلك هو للمخبر عنه،
نحو: " رجل وفرس " والثاني: بحسب الوضع الأول، وذلك يقال
للأنواع الثلاثة التي هي المخبر عنه، والخبر والرابط بينهما،
وهي المعبر عنها بالاسم والفعل والحرف، وهذا هو المراد ههنا،
فإنه - تعالى - لم يرد بقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ
كُلَّهَا} تعليمه رجلاً وفرساً دون ذهب وخرج ومن وعن ولا يعرف
الإنسان الاسم فيكون عارفاً بمسماه إذا عرض عليه إلا أن يعرف
المسمى، ألا ترى أنا لو علمناه أسامي [بالهندية] أو بلغة
مجهولة، ولم يعرف صورة ما له تلك الأسماء لم يكن عارفاً بها
إذا شاهدناها وكنا عارفين بأصوات مجردة، فثبت أن معرفة الاسم
لا تحصل إلا بمعرفة المسمى في نفسه وحصول صورته في الضمير، ثم
المعلومات قد تكون جواهر وأعراضاً من
(1/144)
كميات وكيفيات، وإضافات وسائر ذلك من
الأعراض، ويجعل للشيء الواحد أسامي بحسب هذه النظرات، فلابد أن
يكون الإنسان عارفاً بهذه المعاني مجتمعة ومفترقة حتى يكون
عارفاً بالأسماء التي يجعل [ذلك] لها بحسبها، مثال ذلك: أنه
يقال للشخص الواحد " فلان " - اعتباراً بلقبه، و " رجل "
اعتباراً بالآلة المولدة، [و " ابن " اعتباراً بوالده، و " أب
" اعتباراً بولده] و " أخ " اعتباراً بمن ضمه وإياه نسب، وقرشي
وأصبهاني اعتباراً بقبيلته وبلده إلى غير ذلك من الأسماء [التي
يكثر تعدادها، فإذا حقيقة قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ
كُلَّهَا} متضمنة لما ذكرناه،
فإن قيل: فأي شيء في تعليم آدم الأسماء من تنبيه الملائكة على
ما سئلوا عنه؟ قيل: إن الله تعالى لما خلق الإنسان من أمشاج
مختلفة وقوى متفاوته وجعله جسمانياً روحانياً، وحصل له بحسب
القوى المختلفة معارف مختلفة وأفعال متفاوته، فإن له بحسب
الحواس الخمس معارفاً خمساً، وبحسب العقل معارف معقولة وبحسب
الوهم والخيال معارف موهومة متخيلة وحصل له بحسب التراكيب
البدنية وبسائطها أفعال متباينة ومهن متفاوتة كالتجارة،
والصياغة، وسائر الصناعات.
وجل ذلك معدوم في الملك لعدم كثافة الجسم المركب من الأمشاج،
ولاستغنائها عن ذلك، فبين الله تعالى بتعليمه آدم - عليه
السلام - هذه الأسماء كلها والمعاني وعرضها على الملائكة،
وأنبأ آدم - عليه السلام - بها وبحقائقها.
ومعرفة تعاطي الصناعات المختصة بالإنسان عجز الملائكة، وأن
الإنسان مستصلح لعلوم وأعمال ليس للملك سبيل إليها [بوجه] فإن
المحسوس لا يدركه محسوساً إلا ذو الحاسة، والمهن لا يتعاطاها
إلا من ركب تركيب الإنسان من القوى المتفاوته التي منها
القوتان اللتان كانوا يرونهما مفسدتين.
أعني القوة
(1/145)
الشهوية والقوة والغضبية، ونبههم أن ذلك
وإن كان فيه مفسدة ما، ففيها مصالح كثيرة، وأن الخلافة التي
رشح لها الإنسان في الأرض لا يصلح لها إلا هذا التركيب، فحينئذ
قال لهم: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما
تبدون وما كنتم تكتمون).
إن قيل: ما وجه قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ} وهل كان لهم في ذلك التشكك حتى احتاجوا إلى أن
يقال لهم ذلك؟ قيل له: ليس مخرج هذا الكلام على الوجه الذي
توهمته، بل هو تنبيه لهم بما عملوه مجملاً على ما اشتبه عليهم
مفصلاً، وتقدير ذلك: كأنه قيل: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ومن علم غيب السماوات والأرض علم
ما تبدون وما تكتمون.
ومن علم ذلك علم ما لا تعلمون.
إن قيل: فما [تلك] الفضائل التي اختص الإنسان بها واستصلح لها
مما لم يكن للملائكة؟ قيل له: إن ذلك هو تعاطي العفة التي هي
مختصة بالقوة الشهوية، والنجدة المختصة بالقوة الغضبية،
والإنصاف في المعاملات، وسياسة الإنسان نفسه، ومجاهدة هواه
وسياسة ذويه وأبناء جنسه، فإن كل ذلك فضائل ليست إلا للإنسان
المختص بقوته الشهوية والغضبية، فأما الملك المعرى عن مقاسات
عارية " بطنه وفرجه " فليس بمحتاج إلى سياسة البدن وسياسة
أبناء جنسه في مراعاة ذلك منهم، [وهذا ظاهر]
إن قيل: في وجه قوله: (أنبئوني بأسماء هؤلاء) وذلك تكليف لهم
ما لا تعلمون وتكليف إيراد ما لا يعلم تكليف ما لا يطاق، وما
وجه قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والصدق إنما يتعلق
بالخبر، وهم إنما استخبروا ولم يخبروا فكيف يصح أن يصدقوا أو
يكذبوا قيل: أما قوله: {أَنْبِئُونِي} فليس بتكليف وإنما هو
تنبيه على عجزهم عن الخلافة التي رشح الإنسان لها، وقد علم أن
لفظة " افعل " تجيء على أوجه، منها: التبكيف والتعجيز، وقوله:
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فالصدق وإن كان لا يدخل الاستخبار
والأمر والنهي بالقصد
(1/146)
الأول، ومن حيث مقتضى اللفظ، فإنه قد
يدخلها بالقصد الثاني، ومن حيث المعاني فإن السائل إذا قال
مستفهما: أزيد في الدار؟ أو قال: أعطني شيئاً، فكأنه بالأول
ينبه على جهله يكون زيد في الدار، وبالثاني على حاجة وافتقار،
فمن هذا الوجه صح أن يقال: " هو صادق أو كاذب " على أن هذا حكم
على قولهم: (من يفسد فيها ويسفك الدماء) فإنهم استفهموا
بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ} ويصح أن يكون ذلك راجعاً إلى قوله: {وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} تنبيهاً لهم على أنه ليس كل تسبيح
وتقديس بما يقولونه، بل من التسبيحات والتقديسات ما يصلح له
غيركم، وهو ما تقدم ذكره.
إن قيل: ما وجه قوله: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا
مَا عَلَّمْتَنَا} وهو عالم بما علمهم وعالم بأن لا علم لهم
إلا ما علمهم؟ قيل: القصد بذلك إظهار أن ليس سؤالهم على وجه
الاعتراض، بل على سبيل الاستفادة وإظهار العجز، وأنه قد بدا
لهم ما كان خفي عليهم من فضيلة الإنسان وإظهار الشكر لنعمته
وتعظيم منته بما عرفهم وفيه تنبيه على استعمال [حسن] الأدب عند
سؤال المعلم بتفويض العلم إليه وتنبيه على أعظم التواضع، فقد
قيل لبعض الحكماء: ما أعظم التواضح؟ فقال: الاعتراف بالجهل
للعالم، وفيه تنبيه على العلم بما جهلوه، وذلك إحدى فضيلتي
الإنسان، وقال بعض المحققين: الافتخار مدرجة للسقوط، انظر كيف
اضطر الله الملائكة لما قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ} إلى أن اعترفوا بعدم العلم، فمن استكثر لله
طاعة واستكبر له خدمة فالجهل موطنه واستدل بعضهم بهذه الآية
على أن العلم أفضل من العبادة، فإن الملائكة أذعنوا لآدم [عليه
السلام] لما أفيد من العلم، والحكيم أصله لمن له الفعل المحكم،
لكن لما يصح حصول الففعل المحكم إلا بالعلم [المتقن] صارت
الحكمة متناولة للعلم والعمل معاً.
فالحكمة منتهى العلم.
والعلم مبدأ الحكمة، ولا يتم أحدهما إلا بالآخر.
فلهذا جمع بينهما.
وقدم " العليم " [هاهنا] على " الحكيم " فقال: (إنك أنت العليم
الحكيم).
(1/147)
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ}
الآبة: (34) سورو البقرة.
الخضوع والخشوع والخنوع والسجود والركوع تتقارب، وبينهما فروق،
فالخضوع ضراعة بالقلب، والخشوع بالجوارح، ولذلك قيل: إذا تواضع
القلب خشعت الجوارح، وقال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، وقال: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ
لِلرَّحْمَنِ}، والخشوع ضراعة لمن دونه رغبة في عرض في يده،
وكذلك أكثر ما يجئ في الدم، والركوع تذلل مع التطأطؤ.
والسجود مع خفض الرأس.
وسجود الملائكة إن أريد به المتعارف في الشرع.
فليس بعبادة لآدم -[عليه السلام]، فعبادة غير الله تعالى لا
تجوز بوجة، وإن كان على حسب المتعارف للخدمة، فقد قيل: إن ذلك
كان مباحاً قبل شرعنا، وعلى ذلك ما روي في قصة يوسف - عليه
السلام - {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}، وقد قيل: أريد به التذلل
كقوله تعالى: يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ}.
وقول الشاعر:
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
وإبليس: لفظة أعجمية، فلا يصح أن تكون مشتقة من العربية.
(1/148)
وقول ابن عباس - رضي الله عنهما - " إبليس
أبلس من رحمة الله، إلى ذكر الحكم لا إلى معنى اللفظ، ويصح أن
يجعل " إبليس " مشتقاً منه بعد الانتقال إلى العربية، وعلى ذلك
كثير من الأعلام أعجمياً كان أو عربياً يتصورون منه معنى ما،
ويشتقون منه نحو قولهم: " تفرعن فلان " إذا فعل فعل فرعون في
العتو وتشيطن إذا فَعَلَ فِعْلَ الشيطان، وتمرد: فعل فعل
المردة، فعلى هذا تصوروا من إبليس يأسه من رحمة الله، فاشتقوا
منه، فقالوا " أبلس فلان " أي: " أجرى مجرى إبليس " في يأسه من
الرحمة وإبعاده من الخير، وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}
أي: يائسون من الخير يأس إبليس منه، وأيضاً قد تتطابق لغة
العرب والعجم في لفظة نحو: " أيوب وإسحف "، فإنهمت قد يكونان
فيعولاً، وإفعالاً من أب وسحق، ويكونان أعجمين، وآدم - عليه
السلام - قيل: سمي بذلك لكونه مخلوقاً من أديم الأرض على ما
روي أن الله تعالى قبض قبضة من جميع الأرض - سهلها وجبلها،
فخلق منها آدم - عليه السلام - فلذلك يأتي بنوه أخيافاً، قال
قطرب: لا يكون من ـديم الأرض، لأنه لو كان كذلك، لانصرف نحو: "
طابع، وخاتم " وطابق وليس كما قال، فإن " آدم " أفعل منه،
وأصله: أأدم، فقلبت الهمزة ألفاًَ، وقيل: هو أفعل من الأدمة:
أي اختلاط البياض بالسواد، " وأدمت بين الشيئين "، أي خلطت
ومنه: الأدم، وطعام مأدوم أي مخلوط، وقال: وسمي بذلك، لأنه خلق
من الأركان الأربعة، ومن الأمزجة المتفاوتة والقوى المتباينة،
والإباء: الامتناع من الشيء مع
(1/149)
الإرادة، فكل إباء امتناع، وليس كل امتناع
إباء، قال الله تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ} وقيل: " أبيت اللعن "، وهي أبوأ، إذا تسلط عليها داء،
فصار مانعاً لها من الشراب والتكبر: أن يرى الإنسان نفسه أكبر
من غيره فضلاً، والاستكبار: طلب ذلك بالشبع والكبر، والتيه،
والبغي، والزهو، والاستطالة، والخيلاء، والصلف تتقارب، وبينها
فرق، فالتيه: التحير في معرفة قدر النفس، والبغي: طلب منزلة
فوق ما يستحقه، والزهو: سرعة الحكم لنفسه بالفضل، من: " زهاه
كذى " إذا استحقه، والاستطالة: إظهار طول، أي فضل على الغير.
والخيلاء: ظن بالنفس كاذب، من قولهم: خلت، والصلف: قلة التلفت
إلى الغير من قولهم: صلف: إذا اشتكى صليفه، واعتباراً بهذا
المعنى قال الشاعر:
إن الكريم من تلفت حوله ...
فإن اللئيم الطرف أقود
* واختلف في إبليس هل كان من الملائكة؟ فقال قوم: كان منهم،
بدلالة استثنائه من الملائكة المأمورين للسجود لآدم، وقال قوم:
لم يكن منهم اعتباراً بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ
مِنَ الْجِنِّ}، وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن
الملائكةعلى ثلاثة أضرب على ما تقدم آنفاً، وضرب منهم يقال لهم
الجن، ومنهم إبليس، ولهم توالد، ولهذا قال:
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}، وقيل: إن الجن كانوا مأمورين مع
الملائكة بالسجود له، لكن لم يحتج إلى ذكرهم، فالسلطان إذا أمر
أماثل رعيته بالخضوع لإنسان، فمعلوم أن أصاغرهم مأمورين بذلك،
ألا ترى أن
(1/150)
قوله تعالى لموسى {اذْهَبْ إِلَى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} معلوم أنه لم يبعث، إليه وحده، وبعض
الناس اعتبر لفظ " كان "، وروي أن إبليس كان من الجن الذين
سكنوا الأرض قبل آدم، وحاربهم الملائكة، وسبوا إبليس، فصار
بالحكم من الملائكة، فمولى القوم منهم، وبالنسبة من الجن، فصار
بصدق عليه القولان، ويجوز أن يكون عنى أنه كان من الجن فعلاً،
ومن الملائكة نوعاً، وباعتبار الفعل قال تعالى: {كَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ}
إن قيل: كيف يصح أن يكون من الملائكة نوعاً والله قد وصفهم
بأنهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ}؟ قيل: إن ذلك في وصف خزنة جهنم، وليس كون
بعضهم على هذه الصفة مقتضيا أن يكون كلهم كذلك، و (كان من
الجن): قيل معناه: صار ههنا، وليس ذلك بشيء، فإن (كان) استعمل
(ههنا) على أحد وجهين: إما لاعتبار وقت العصيان بوقت الاختبار،
ويكون بالإضافة إليه ماضياً فيجب أن يقال: كان، وإما أنه قال:
{كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} - تبيهاً أن ما تقدم من طاعته غير
معتد به، وأن حكمه من قبل حكم الكافرين، فمن شرط الطاعة أن لا
تحبط ومن حكم الإيمان أن يمتد ويتصل،
إن قيل: كيف أمر الملائكة بالسجود لآدم ومنزلتهم فوق منزلته
بدلالة أن إبليس مناه أن يكون إياهم بقوله: {مَا نَهَاكُمَا
رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا
مَلَكَيْنِ} وبعيد أن يؤمر الفاضل بالتخضع للمفضل؟ قيل: الخضوع
لآدم كان خضوعاً لله تعالى من أجل الائتمار له فيما أمرهم به،
وظاهر في العادات أن التذلل لخادم كبير خضوع لذلك الكبير،
وأيضاً: فإن الإنسان في باب الفضائل التي ذكرناها آنفاً أفضل
من الملك وإن كان الملك أفضل منه من وجوه أخر، والشيئان قد
يكون كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه ووجه، وإنما المنكران
بفضل كل واحد منها الآخر من وجه واحد، وفي الآية تنبيه على
وجوب الائتمار لمن له الخلق والأمر، ومجانبة عصيانه، وارتكاب
التكبر والحسد، وإنها قد يفضيان براكبهما إلى الكفر، كما روى
في الخبر: " أن أول ما عصي به الله في السماء والأرض الكبر
والحسد " وحث على ترك الدخول في سره والاعتراض على حكمه.
(1/151)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا
حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
قوله - عز وجل -:
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا
هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية:
(35) - سورة البقرة.
قيل: ما الفرق بين أن يقال: افعل أنت وقومك كذا وبين أن يقال:
افعلوا كذا، قيل: الأول تنبيه أن المقصود هو المخاطب، وغيره
تبع له، وأنه لولاه لما كانوا مأمورين بذلك، وعلى نحوه: {قَالَ
فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} وليس كذلك إذا قال: افعلوا،
وقال بعضهم: إنما قال: اسكن فاستعمل السكن تنبيهاً أنه يعرض
النقل، عنها وأنه لا يجب أن يركن إليها.
إن قيل: ما الفرق بين الإرادة والمشيئة؟ قيل: الإرادة قد تكون
بحسب القوة التسخيرية، والفكرية والحسية ولذلك تستعمل في
الجماد، نحو: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} وفي الحيوان
وفي العقلاء والمشيئة لا تكون إلا مع اختيار ولذلك لا يقال إلا
للعالم والمتفكر، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ} فالقصد بالنهي عن قرب الشيء تأكيد للحظر
والمبالغة في النهي، وذاك أن القرب من الشيء مقتض الألفة،
والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء كما قيل: " حبك الشيء يعمي
ويصم، والعمى عن القبيح والصم عن النهي عنهما الموقعان فيه،
والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الداعي إلى
الخير مأمور به، وعلى ذلك قال - عليه السلام -: (العينان
تزنيان) لما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة إلى المحبة،
وذلك
(1/152)
مقتض لارتكابه، فصار النظر مبدأ للزنا،
وعلى هذا قال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}، و {وَلَا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وعلى هذا قال
في الخمر: {فَاجْتَنِبُوهُ} وبهذا النظر قال عليه الصلاة
والسلام: " الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة،
وسأضرب مثلاً، إن لله حماً، وإن حمى الله محارمه، ومن رتع حول
الحما أوشك أن يقع فيه ".
والشجرة: قيل: كانت الحنطة، وقيل: الكرم، وقيل: التين، وقوله:
(فتكونا): الأظهر: أنه جواب النهي، وقد قيل: يصح أن يكون
عطفاً، لأنك تقول: " لا تجب والدك فتعص ربك كما تقول: فتعصي
ربك، والظلم في الحقيقة: الإخلال بما يقتضيه داعياً الله: "
العقل والشرع " وهو الخروج عن الحظر ولهذا قيل: هو وضع الشيء
في غير موضعه، وقد تقدم أن الظلم ضربان: ظلم النفس، وظلم
الغير، وظلم الغير لا ينفك من ظلم النفس، وظلم النفس قد ينفك
من ظلم الغير، ولأجل أن الظلم خروج عن الحق، وأن الحق يجري
مجرى النقطة من الدائرة، ومجرى القرطاس من الهدف، صار من تعداه
يصح أن يقال: " هو ظالم " وإن كان بين الظالم والظالم بون
ولذلك قد يطلق " الظالم " على من ارتكب صغيرة وعلى من ارتكب
كبيرة، إن قيل كيف جاز أن ينهي عن الشجرة ثم يتناولها وقد
أنكرتم أن يرتكب الأنبياء الكبائر؟ قيل: قد أجيب عن ذلك بأن
آدم [عليه السلام] أشير له إلى شجرة، فقيل له: " لا تقربا هذه
الشجرة " وأريد به الجنس لا العين نحو ما روي أن النبي - عليه
(1/153)
السلام - خرج وفي إحدى يديه ذهب، وفي
الأخرى حرير، فقال: " هذا حرام على ذكور أمتي حل لإناثها.
ولم يرد به العين، وإنما أراد به الجنس، فحمل آدم متأولاً
الإشارة إلى العين دون الجنس، فوقع عليه السهو من هذا الوجه،
وقيل: أنه حمل النهي على الندب دون الحتم، ونسي الوعيد المقرون
به، ولذلك قال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ
فَنَسِيَ} أي: " نسي الوعيد ".
واختلف في الجنة التي أسكنها آدم - عليه السلام - فقال بعض
المتكلمين: كان بستاناً جعله الله تعالى له امتحاناً ولم يكن
جنة المأوى فإن تلك لم تخلق بعد، إذ هي للخلود، وقد ثبت أن
الله تعالى يفني الأشياء كلها حتى لا يبقى إلا وجهه ولو كانت
مخلوقة الآن لم يصح أن يخص بهذه الصفة، وقال أكثر الناس: كانت
جنة المأوى، وتسميتها بجنة الخلد اعتباراً بدوامها بعد أن
يدخلها المثابون.
والشيء الواحد قد يسمى بأسماء كثيرة - اعتباراً بمعان متفاوته،
ألا ترى إلى ما حكي عن الحسن أنه قال: " خلقنا للأبد، ولكنا
ننقل من دار إلى دار " وذلك اعتباراً بحال الإعادة، ومن قال:
لم تكن تلك جنة الخلد، لأنه لا تكليف في الجنة، وآدم [عليه
السلام] كان مكلفاً، [فقد قيل في جوابه: إنما لا يكون دار
التكليف في الآخرة، ولا يمتنع أن يكون في وقت دار تكليف، ولا
يكون في وقت كذلك، كما أن الإنسان يكون] مكلفاً في وقت دون
وقت، وقال بعض الناس: " إن الله تعالى لما خلق الإنسان
لاستخلافه في أرضه واستعماره فيها كما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ}
وقال {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وأراد أن يوصله بذلك إلى جنة
المأوى وعلم بسابق علمه أنه لسوء تدبيره
(1/154)
قد يختار العاجل الخسيس على الأجل النفيس
لعجلته كما وصفه بقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا}
وأنه قد تتبع هواه كما قال: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وعلم
ما يكون منه أدخله الجنة ليعرف النعيم الذي أعد له عياناً،
فيكون إليه أشوق، ويتذوق طعم المخالفة فيكون منها أخوف، فمعلوم
من حال الإنسان أن المحنة تهذبه، والاشتياق إلى ما عاينه من
الخيرات يرغبه، فصار ما جرى [على آدم] من الأحوال من تمام
النعمة عليه، والله أعلم بوجوه المصالح، وفي الآية حث على قبول
قول من هو أعلم منك وتحري نصحك والمصلحة، وإن الإنسان إذا حفظ
في دنياه قرناءه المتصلة به من قواه الشهوية والغضبية، وقرناءه
المتصلة به من قواه الشهوية والغضبية وقرناءه المنفصلة عنه من
أهله وولده وساس نفسه وأهله، ورعى من الله أوامره، وتجنب
زواجره كان في الجنة عاجلاً وأجلاً، وإلا صار معاونة عليه
ومنافعه راجعة بالمضرة إليه، كما قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
(1/155)
فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
قوله - عز وجل -
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا
كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
الآية: (36) - سورة البقرة.
زل، وزال يتقاربان، إلا أن زل يقتضي عثرة مع الزوال، يقال: زلت
رجله في المشي ولسانه بالقول، وسمي الأسد إذلالاً اعتباراً من
الفاعل استقلاله حتى يعده عثرة، وقول النبي - عليه الصلاة
والسلام: " من أزلت إليه نعمة فليشكرها " أي من أسدى إليه
نعمه، وإن كانت طفيفة، وإزلال إبليس لآدم عليه السلام قوله له
{هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا
يَبْلَى} وقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا
مِنَ الْخَالِدِينَ} ومقاسمته إياها بقوله: {إِنِّي لَكُمَا
لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فمن الناس من حمل هذه الأحوال على
مفاوضة ومجاراة بالمشاهدة وقيل: إن ذلك كان بوسوسته كما قال:
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا
وُورِيَ} وما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن إبليس عرض
نفسه على دواب الأرض أن تحمله فتدخله الجنة ليكلم آدم وزوجته،
فأبت عليه الدواب كلها حتى كلم الحية وقال: أمنعك من بني آدم
إن أنت أدخلتني الجنة، فجعلته بين نابين من أنيابها، فأدخلته
الجنة وكلمها من فيها، قال: فلذلك أمر الإنسان بقتلها أينما
وجدها فإن بعض الناس حمل ذلك على سبيل المثل، وقال: هذا إشارة،
فقوله: عرض نفسه على
(1/156)
دواب الأرض، أي استعان بقوى الإنسان، ونظر
من أي جهة يمكنه أن يأتيه، فلم يجد قوة مستصلحة يستعين بها حتى
أتى الحية، أي الشهوة، وكنى بالحية عنها، فإنها حية لا يبرا
سليمها [يقال لمن لسعته الحية والعقرب سليم تفاؤلاً كما تقال
المفازة لمحل الخطر والهلاك] وذاك أن الشيطان لا يأتي الإنسان
إلا من قبل هواه، فجعلته بين نابيها كناية عن الأكل، إذ هو
أعظم شهوة يتمكن الشيطان به من الإنسان، ولهذا قيل في الخبر:
(من حفظ بطنه فقد سد على الشيطان بابه ومن شبع ونام قسا قلبه
وتمكن منه الشيطان) ويكون الهوى أعظم سلاح للشيطان، صار لا فرق
بين قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} في أن
المقصد واحد في كونهما نهياً عن ارتكاب الذنوب وقوله، فلذلك
أمر الإنسان بقتلها، أي أمر أن يقهر الشهوة [ويذللها] حيثما
تراءت له، وطالبته بما بنافي الإيمان، وهذا الذي ذكره هذا
القائل وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، ففي صرف الخبر إليه ترك
للظاهر وفتح باب من التأويلات عظيم الضرر.
والله أعلم بحقائق ما يخبرنا به من الغيوب ..
وقوله: (اهبطوا): الهبوط ضد الصعود، وليس يراد به الانحدار عن
رفعة مكانية
(1/157)
فقط، بل يراد به مع ذلك سقوط المنزلة، فقد
كثر في كلامهم استعمال الرفعة والضعة في المراتب حتى قيل: شريف
ووضيع على طريق الاستعارة، وعلى ذلك قول الشاعر:
بلغنا السماء بأحسابنا
وقال:
وصاعد في هضاب المجد يطلعها
وأما المعاداة: ففقدان الملاءمة والموافقة، ومنه قيل: " هو
مكان ذو عدوى "، والتعدي والعدوان والاعتداء، والعدوى منها،
وقوم عدى للأعداء أو الغرباء، لما بينهم من فقدان الملاءمة،
وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ليس يريد المهارشة
فقط، وإنما يعني فقدان الالتئام، أما بين الشيطان والإنسان
فظاهر، وبين الرجل والمرأة كثير في الخلق والخلق، حتى إن عامة
ما يحمد من أخلاق الرجل يذم من المرأة، ثم بين قوى الإنسان في
نفسه تفاوت، فحذرنا الله تعالى الذي خلقنا منها ليتنبه
للاحتراز مما ينافينا في بلوغ السعادة، ونسوس منها ما يمكن
سياسته، وندفع منها ما يجب مدافعته، والمستقر: المكان الذي
يحصل فيه القرار، والقرار هو السكون عن برودة ولما كان من شأن
البرودة السكون كما أن من شأن الحرارة الحركة قيل في الساكن
برد، وفي المتحرك: اشتعل، والتهب، وحتى شبه السريع بنار متقدة،
والساكن بماء جامد، وقوله {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ} كقوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا}
وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} قيل معنى المستقر
القبور، والآية محمولة عليها، فقد قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} والمتاع:
انتفاع
(1/158)
ممتد الوقت، ومنه قيل: متعه الله بكذا،
ومنه: متعة الحج، ومتعة المطلقة، ومتاع البيت، ومن قال: عنى به
الحياة، فلأنه عمد إلى أشرف نوع من المتاع، ففسره به، ولحين
وقت بلوغ الشيء ويتخصص بالمضاف إليه، ولما كان أحيان الأشياء
يختلف، نظر بعض المفسرين إلى المضاف إليه لفظ الحين ففسره به،
وقال: إنه يجئ على أوجه، فالحين: الأجل، لقوله:
{وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} والسنة، لقوله: {تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} والساعة لقوله: {حِينَ تُمْسُونَ
وَحِينَ تُصْبِحُونَ} والزمان لقوله.
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ
يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} واختلاف ذلك لاختلاف المضاف إليه،
وفي الآية تحذير من الشيطان كما قال: {يَا بَنِي آدَمَ لَا
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِنَ الْجَنَّةِ} الآية والتحذير من كل غرور ومن الركون إلى
الدنيا، والتنبيه على أنها دار ممر، وأن الآخرة دار مقر.
[وبالله التوفيق]
(1/159)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (37)
قوله - عز وجل -:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية: (37) سورة
البقرة.
التلقي كالتلقن، إلا أن التلقي يقتضي استقبال الكلام وتصوره،
والتلقن يقتضي الحذق في تناوله، والتلقف يقاربه، لكن يقتضي
الاحتيال في التناول، الكلم: التأثير المدرك بإحدى الحاستين
السمع والبصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع فكلمته: جرحته جراحة
بأن أثرها ولاجتماعهما في ذلك قال الشاعر:
والكلم الأصيل كأرغب الكلم
وقال:
وجرح اللسان كجرح اليد.
والكلمات التي تلقاها آدم من ربه قيل: هي قوله: {رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال الحسن:
هو قوله: " ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسكنني جنتك؟ ألم تسجد لي
ملائكتك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ فقال تعالى له: بلى، قال: أرايت
إن تبت تبت علي وأعدتني
(1/160)
إلى الجنة؟ قال: نعم، فهذا يعني قوله:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} وقيل: إنه قال
تعالى له: من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت منه، وهذا يقارب الأول،
وقيل: (إنها قبول الأمانة المعروضة على السماوات والأرض
المذكور في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَهَا} الآية، وقيل: هو حروف التهجي وما تركب منها من
الأسماء التي كانت قد علمها وما انتتج منها من العلوم الحقيقة
والأعمال الفاضلة، فإن أصل الإيمان العلوم الصادقة والأعمال
الصالحة، فمن الحروف تتركب مفردات الألفاظ، نحو: زيد، عمرو،
وذهب، خرج، من، عن ومن المفردات تركب المقدمات المفردة، نحوك
زيد خارج وعمرو ذاهب ومن المقدمات تتركب الأدلة والأخبار
المؤلفة، ومن الأدلة المفردة الصادقة يتوصل إلى حقائق العلوم
وبحقائق العلوم يتوصل إلى الأعمال الصالحة، وبمجموعها يحصل
الإيمان الذي يتحققه، ويصير الإنسان تام التوبة متطهراً من
النقيصة، محبوباً لرب العزة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والمتحقق
بذلك لا محالة يتوب الله عليه، وقيل: إن هذه الكلمات هي التي
ذكرها الله تعالى في قصة إبراهيم - عليه السلام - قال تعالى:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ} وهي خصال مذكورة في ثلاثة مواضع من القرآن ..
أحدها في سورة التوبة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ
الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ
الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
والثاني في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} والآيات إلى
قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
(1/161)
والثالث: في سورة " سأل سائل " وهو قوله:
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ
دَائِمُونَ} الآيات إلى قوله {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ
مُكْرَمُونَ} فهذه الخصال الثلاث فرق من الناس العلماء
والحكماء والكبراء المعنيين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء ولكل فرقة مقامات
معدودة يترتب بعضها على بعض، وهذه مسألة كثيرة قد أحكمتها في
كتاب (شرف التصرف) وبينت تخصيص كل مقام وهذا القول والذي تقدمه
يتقاربان عند الحقيقة، غير أن الأول نظر إلى المبدأ والثاني
إلى الغاية، وذلك مذكور هناك، ثم التوبة: ترك الذنب على أحد
الوجوه، وهو ضرب من الاعتذار فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه إما
أن يقول المعتذر: لم أفعل كذا، ويقول: فعلت لأجل كذا، أو يقول:
فعلت وأسأت وقد أقلعت، ولا رابع لذلك وهذا الأخير هو التوبة،
فإذا: التوبة ضرب من الاعتذار.
والتوبة والأوبة والاستغفار متقاربة وبحسب ما اختلفت فيها
الاعتبارات اختلفت عليها العبارات، (الإنابة) الرجوع عن طريق
الضلال إلى الهدى، والأوبة: رجوع القلب إلى الحق والوقوف عليه،
والاستغفار: طلب الغفران قولانً وفعلاً، أي: تعاطي ما يغفر ما
تقدم من الذنب، والتوبة التامة المعتد بها: ترك الذنب، والندم
عليه، وهو العزم على أن لا يعود إليه، وتدارك ما تقدم وهو رد
المظالم " مظلمة الخلق، ومظلمة الخالق " ومظلمة الخالق: هي
إعادة ما ترك من العبادات وإذابة ما استفاد جسمه من الحرمات،
ألا ترى إلى قوله [عليه السلام] " كل لحم نبت من سحت النار
أولى به " والتواب: يقال في العبد، وفي الرب، لكن العبد تائب
إلى الله - عز وجل - والله تائب على عبده، وقوله: {إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} جمع بين الوصفين - تنبيهاً على
أنه مع ترك ذنبه، عليه لا يخليه من
(1/162)
قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (38)
الإحسان إليه، ولم يقل: تاب عليهما لما
تقدم أنه جعلها تابعة له، لا مقصوده في نفسها.
وفي الآية تنبيه يعني هو أنه متى تلقينا منه ما أنعم به علينا
من العلوم، واستعملناه واعترفنا بذنبنا وطلبنا منه التجاوز عنه
ونحن في مهلة من الحياة تاب علينا وأحسن إلينا.
قوله - عز وجل -:
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
الآية (38) - سورة البقرة.
والمجيء والإقبال والإتيان متقاربة غير أن المجيء عام والإقبال
مجيء من ناحية القبل والإتيان مجيء عن بعد ومنه قيل: الآتي "
للغريب وللسبيل " الجائي " من بعيد، و " أتيته " أي: " أعطيته
" منقول عن أتيته و " اتوته " وهما لغتان، والاتباع والإتلاء
والاحتذاء والاقتداء تتقارب فالإتلاء: مجيء بعد أخر فاصل
بينهما من جنسهما، والاحتذاء منقول من حذو الفعل بالفعل
والاقتداء: اتباع على مدى، أي على قدر المتبع بلا تجاوز ولا
تأخر، والاتباع عام في كل ذلك، ومنه قيل في الرعية " أتباع " و
" سمي العجل التابع لامه تبيع، والخوف والفزع والحذر والرهبة
والهيبة والخشية والوجل والشفقة تتقارب فالخوف توقع مكروه عن
أمارة وذلك للمذنب ولهذا قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه
-: " لا يخافن امرؤ إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه " والفزع:
اضطراب عن وهم، كمن يسمع هدة فاضطرب، والحذر: خوف مع احتراز،
والرهبة خوف مع اضطراب واحتراز والهيبة: رهبة مع استشعار
تعظيم، والشفقة: خوف مع محبة، ولذلك قيل: الخوف والحذر للمذنب
والرهبة للعابد والخشية للعالم، والهيبة للعارف والحزن خشونة
تعتري النفس، مشتق من حزونة الأرض
(1/163)
ولذلك يقال: خشنت بصدره، وقيل: الحزن
والغضب من جنس واحد، وقد تقدم الكلام فيه.
والفائدة على تكرير قوله: (اهبطوا) لتكرير الشرط المقرون به،
فإن الأول فرن بحال العداوة الثانية بينهم وسكونهم في الأرض
إلى مدة متناهية، والثاني: بين به أنهم وإن اشتركوا في الهبوط،
فهم متبانيون في الحكم فإن من اتبع هدايته فهو على سبيل
الخلاص،
إن قيل: لم لم يقل: فمن تبعه فيستغنى بالضمير عن التكرير، فقد
استقبح في باب البلاغة تكرير اللفظة الواحدة في الجملة الواحدة
حتى استرذل قول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ....
تغص الموت ذا الغنا والفقيرا
وقول آخر مع جودة معناه
بجهل كجهل السيف والسيف منتضي ...
وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
قيل: إن ذلك يستقبح إذا لم يحصل في الثاني معنى غير المعنى
الأول كالبيت.
والآية بخلاف ذلك، فإن الهدى من الله ضربان، ضرب بالعقل، وضرب
بقول الرسل، وأراد تعالى بقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدًى} ما يأتي على ألسنة الرسل - عليهم السلام -،
ويقوله: هداي ما على لسانهم، وما كان من جهة العقل فنبه أن من
أتاه رسول ورعاه مع رعايته لمقتضى العقل فهم الأولياء الذين لا
خوف عليهم ولا هم يحزنون
إن قيل: كيف نفى الخوف عن الأولياء في مواضع نحو قوله:
(1/164)
{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ومدحهم بذلك في
مواضع نحو قوله: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ
الْحِسَابِ} وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ} قيل أما نفي الخوف والحزن عنهم فقد قيل: لفظه
الخبر، ومعناه: النهي كقوله: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا
تَحْزَنُوا} وقيل هو خبر لكن مدحهم بها في الدنيا وحثهم عليها
وأمنهم منها في الآخرة كما روى: " من خاف الله في الدنيا أمنه
الله في الآخرة " وعلى ذلك حكى عنهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أيضا:
فإن الخوف الذي مدح به المؤمنين، وحثوا عليه ليس يراد به
استشعار الرعب المترقب مضرته، وإنما يراد به فعل الخيرات
المأمور بها المذكور في قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، والكف عن المعاضي،
منهي النفس عن الهوى المذكور في قوله:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
والخوف والحزن المنفيان عنهم استشعار الغم الذي يكون من ذوي
العدوان، وكذلك روي: (لا يرجون امرؤ إلا ربه، ولا يخافن إلا
ذنبه)
وأيضاً فالحزن إنما يكون لفوت محبوب، الخوف يكون لفقد مطلوب،
والمتبع لهدي الله هو المؤمن الحكيم، الذي لا يقتنيي لنفسه
فضولاً من الأعراض، وما اقتناه لضروراته علم إنه يعرض الأعراض
وأنه عارية مستردة، فلا يحزن على استرداها، ولا يطلب المستغني
عنه، وما طلبه بعد وجوبه عليه طلبه عالماً أن الله لا يبسط
لأحد دنيا إلا اغتراراً واختباراً، فإذا منح قام يحقوقه
شاكراً، وإذا منع استغنى عنه صابراً، فهؤلاء لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون في دنياهم.
(1/165)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (39)
قوله- عز وجل:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} " الأية (39) -
سورة البقرة "
الاصطحاب، والاجتماع، والاقتران تتقارب، فالاجتماع أعم معنى،
الاصطحاب: اجتماع مع طول لبث، والاقتران يقتضي شداً ما، إما
صنعة، كاقتران بعير ببعير وإما حكمة، كاقتران الصديقين واصحب
الرجل إدا صار ذا صاحب، ولما كان الأصحاب مقتضياً للانقياد،
فسره أهل اللغة به، والتكذيب بالآيات بعض الكفر وتمامه، فإن
فيه مع تعاطي الكفر بالفعل جحودآ باللسان
وتخصيصه بعده نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ} في أن عمل الصالحات بعض الإيمان وتمامه، وليس
يعني بالآيات القران فقط، بل يراد بها مع دلك الآيات التي في
السماوات والأرض الدالة على الوحدانية المستحث على اعتبارها،
بنحو قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا
مُعْرِضُونَ}،
إن قيل: لم قال ههنا: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ} وقال في الحج: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}
قيل: الاسم الموصول، والنكرة الموصوفة حتى ضمنتا معنى الشرط قد
تدخل " الفاء " في خبرها تنبيها على معنى الشرط، ويجوز ترك ذلك
منه بقول: والذي يأتيني له درهم، والذي يأتيني فله درهم "،
(1/166)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
قوله - عز وجل -:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}
الآية: (40) - سورة البقرة.
الابن: من البناء، وسمي بذلك لكونه كالمبنى لأبيه، وكل مصنوع
ينسب إلى صانعه وآلته، فيقال هو ابنه، وللصانع يقال: هو أبوه،
وعلى هذا يقال: فلان ابن الحرب، وأبو الحرب، وبتسمية الصانع
أباً للمصنوع، والمصنوع ابناً للصانع أطلق على ما جكى في شريعة
من تقدمنا " أبناء الله "، ثم تصور ذلك الجهلة والأغبياء معنى
الولادة، فحظر إطلاق ذلك حتى صار التفوه به يعد كفراً، والوفاء
مراعة العهد، والغدر تضييعه، كما أن الإنجاز مراعاة الوعد،
والإخلاف تضييعه، الوفاء والإنجاز في الفعل كالصدق في المقال.
والعذر والاخلاف كالكذب فيه، وقيل: وفي وأوفى بمعنى، والصحيح
أن أوفى أبلغ من وفي، كما أن: أسقى " أبلغ من " سقى "، والخطاب
وإن كان لبني إسرائيل لقولهم مقصودين بالتبكيت لنسيانهم نعم
الله تعالى وكون نعمته عليهم أظهر، فالناس طراً يشاركونهم في
وجوب ذكر نعمة عليهم، وقد تقدم ذكر تفاصيل النعم، وإن قيل: ما
فائدة تقييد النعمة بقوله: أنعمت عليكم؟ قيل: نظر الإنسان إلى
نعم الله ضربان، أحدهما: نظره إلى نهمة الله تعالى التي [تختص
به من نفسه دون ما اختص به غيره] وذلك يفيده رضاً عن النعم
وشكراً له ومعرفة ما على غيره من النعم، والثاني: نظره إلى
نعمة الله على غيره ونسيان ما قد خص به في نفسه، وذلك يجلب
إليه سخطاً على ربه، وكفراناً لآلائه، وحسداً على عباده، ولهذا
قيل:
" انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فذلك أجدر أن
لا تزرى بنعمة ربك ".
(1/167)
وعهود الله كثيرة، بعضها مرتب على البعض،
والوفاء بكل واحد مقابلة، فأول منزلته إظهار الشهادتين ويقابله
من الله تعالى حقن الدماء والأموال كما قال - عليه السلام " من
قال: لا إلله إلا الله فقد عصم مني ماله ودمه ".
وآخره ما كان من أولياء الله في حفظ النظرات والخطرات، ويقابله
من الله تعالى: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
بشر)، وبينهما وسائط كثيرة لها من الله تعالى مقابلات، ولما
كان من مبدئه إلى منتهاه عرضاً كثيراً نظر كل واحد من المفسرين
للآية نظراً ما صارت به أقوالهم مختلفة في الظاهر بحسب اختلاف
نظراتهم، فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الإشارة بذلك
إلى قوله تعالى:
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ
إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ
الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ
وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}
وروي عنه " أوفوا بعهدي " في اتباع محمد أوفِ بعهدكم في رفع
الإصر والأغلال التي في أعناقكم "
وقيل: أوفوا بعهدي في ترك الكبائر أوفِ بعهدكم في غفران
الصغائر، وقيل: أوفوا بعهدي في أداء الفرائض أوفِ بعهدكم في
الإثابة عليها)، وقيل: (أوفوا بعهدي في الاهتداء إلى طريق
الاستقامة أوفِ بعهدكم في الزيادة في الاهتداء وإيتاء الاتقاء
- إشارة إلى ما قال:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ}، وهذه الأوقايل اختلفت إما بحسب اختلاف النظرات،
أو بحسب اختلاف العبارات، وفيما بين من الأصل معرفة نظر الكل،
وإن عامة أقوالهم لا
(1/168)
وَآمِنُوا بِمَا
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
تخرج عن الصواب - إن شاء الله -.
وقال تعالى لهذه الأمة: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، فقال
بعض المحققين في اعتبار الآيتين دلالة على تشريف هذه الأمة في
أنه لما خصهم بفضل فهم وعقل، أمرهم بذكره بلا واسطة، وأمر بني
إسرائيل أن يجعلوا ذكر الآية وصلة إلى ذكره، وذلك فصل قد أحكم
في كتاب: (شرف التصوف)، وقوله: " فارهبون "، تقديره: ارهبوني،
فحذف الياء لدلالة الكثرة عليه، وكون الفواصل كالقوافي، وفائدة
تكرير الضمير توكيد للحث على رهبته، وأنها لا يجوز أن تكون إلا
منه تعالى دون غيره، ومثله في تذكيرهم نعمة الله تعالى ما حكاه
تعالى عن موسى قال لهم: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ}
قوله - عز وجل -
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا
تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}
" الآية: (41) - سورة البقرة ".
قد تقدم أن الإيمان مقتض للعلم اليقيني، ففي ضمن قوله تعالى:
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} حث على استفادة العلم، إذ لا
يحصل الإيمان الحقيقي من دونه، ونبه بقوله تعالى: {مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَكُمْ} أن لا منافاة بين ما أتى به الأنبياء من أصول
العبادات، وأنهم كنفس واحدة من حيث يتساوى دعاؤهم إلى التوحيد
والأركان الثلاث من الشرائع التي هي العبادات الخمس وأحكام
الحلال والحرام والمزاجر، وإنما الاختلاف بينهم في جزئيات
الأحكام وفروعها كيفما تقتضيه مصلحة قوم وزمان، فكل مصدق للآخر
فيما أتى به من أن كليات شرائعهم متساوية، وأن فروعها حق بحسب
الإضافة إلى زمان كل واحد منهم، وأمته حتى لو كان أحدهم في زمن
الآخر لم ير المصلحة إلا فيما أتى به الآخر، ولذلك قال عليه
السلام: " لو نشر موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي "، وقوله:
{وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أي لا تكونوا أئمة في
الكفر، فيقتدي بكم تباعكم، فتكونوا لأوزاركم وأوزارهم، كما قال
تعالى
(1/169)
{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وذلك إشارة إلى ما قاله عليه
السلام " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، من سن سنة
سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها " وقيل: معنى " أول " المتقدم
بالشرف كقولهم: " حاتم أول الأسخياء، وما رد أول اللئام،
والمعنى: لا تكونوا أرفع كافر منزلة في الكفر، وذاك أن محمداً:
عليه السلام - لما كان أخر الأنبياء، وكان متمماً لشرائع من
تقدمه، كما روي عنه - عليه السلام أنه قال: " إنما مثلي ومثل
الأنبياء كرجل بني بنياياً وأكملها، وترك موضع لبنة، فأنا كنت
موضع اللبنة "، فصار الكافر به كالكافر بجميعهم، فإن من شرط من
الإيمان بهم أن يضامه الإيمان به، وإلا لم يعتد بإيمانه بهم،
والهاء في قوله تعالى: " به " ضمير " ما أونزلت "، وقيل: هو
ضمير " ما معكم "،
إن قيل: لم قال: " ولا تكونوا أول كافر به " وأنت لا تقول "
كونوا أول رجل " وإنما تقول " رجال "؟ قيل: إن ذلك معناه: "
أول كافر أو خرب مما لفظه المفرد، ومعناه الجمع على ذلك قول
الشاعر:
فإذا هم طمعوا فالأم طاعم ....
وإذا هم جاعوا فشر جياع
وقد أجاز بعضهم إخوتك أول رجل، أي أول الرجال إذا كانوا رجلاً
رجلاً، والقليل والكثير من الأسماء المتضايقة، ويعتبران
بالغير، وليس استعمال القلة في قوله: {وَلَا تَشْتَرُوا
بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} لأجل اعتبار ثمنين من أعراض
الدنيا، كما تصوره بعض الناس فاعترض على الآية: وقال: ذلك
(1/170)
وَلَا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (42)
يقتضي جواز اشتراء الثمن الكثير بآيات
الله، بل جعل الاعتبار ههنا بمنافع الدنيا والآخرة، وقد علمنا
أن منفعة الدنيا طفيفة، إذا اعتبرت بمنفعة الآخرة، وإذا كان
كذلك، فمن اشترى بآيات الله منافع الدنيا، وترك منافع الآخرة،
فقد خسر خسراناً مبيناً، كما حكي عن " المنصور " لما حضرته
الوفاة: قال: أف لنا، بعنا نعيم الآخرة بنومة، وقال الشاعر:
وإن امرءاً يبتاع دنيا بدينه ...
لمنقلب منها بصفقة خاسر
وعلى هذا قوله تعالى:
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا}
الآية: (79) - سورة البقرة.
وإنما ذكر في الآية الأولى.
(فارهبون) وفي الآية الآخرى (فاتقون)، لأن الرهبة دون التقوى،
فحينما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم، وحثهم على ذكر نعمة التي
يشركون فيها، أمرهم بالرهبة التي هي مبادئ التقوى، وحينما خاطب
العلماء منهم، وحثهم على مراعاة آياته والتنبه لما يأتي به
أولوا العزم من الرسل، أمرهم بالتوقى التي هي منتهى الطاعة ...
قوله - عز وجل -
{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية (42) - سورة البقرة.
اللبس والستر، والتغطية، والتعمية، والتموية، والكتمان،
والإخفاء يتقارب، فالستر أعم الألفاظ، لأنه يقال في المحسوس
والمعقول " سترت كذا بثوبي "، وسترته في نفسي، والتغطية في
الأعيان فقط، واللبس أصله في الثوب، ثم يقال في المعنى أيضاً،
وذلك أن يخلط حق بباطل، وصدق بكذب، والتعمية: ما جعل الإنسان
عن إدراكه كالأعمى، والتموية: ما جعل على وجهه مواهة،
والكتمان: يقال في الحديث ونحوه، وقوله: {وَتَكْتُمُوا
الْحَقَّ} أخص من قوله: {تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}،
لأن اللبس هو الخلط بغيره، والكتمان إخفاؤه جملة، والأجود أن
يكون قوله: {وَتَكْتُمُوا} جواباً بالواو منصوباً.
وإن صح أن يكون عطفاً مجزماً، فيكون أمراً بخصوص بعد عموم،
وقراءة أُبيَّ:
(1/171)
(ولا تكونوا أول كافر به وتشتروا بآياتي
ثمناً قليلاً وتكتموت الحق)، ونحو ذلك في احتمال الجواب والعطف
..
قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، وقوله:
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعظيم لارتكاب الذنب، فإنه مع العلم
بقبحة لأعظم عقوبة، ولهذا قال بعض الحكماء:
(لأن أدع الحق جهلاً به، أحب إلى من أن أدعه زهداً فيه، ولأن
أترك جميع الخير جهلاً به أحب إلى من أفعل أقل الشر، بعد
المعرفة بقبحه).
وقد تقدم الكلام في الحق، فأما الباطل: فالإثبات له عند الفحص
عنه، والحق يناقضه، وذلك عام في الاعتقاد والمقال والفعال.
ولذلك قال الشاعر:
لقد نظقت بطلاً على الأقارع.
فاستعمله في القول، وفي الآية حث على تجنب الشر والنهي عن كل
تلبيس وتمويه وإن كانت الآية واردة فيمن آمنوا ببعض الكتاب،
وكفروا بالبعض، وجحدوا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول
ابن عباس - رضي الله عنهما: [لا تخطلوا الصدق بالكذب وقول بن
زيد] لا تخلطوا الحق الذي هو التوارة بالباطل الذي كتبتموه
بأيديكم، فإشارة إلى بعض ما يقتضيه عموم الآية.
(1/172)
وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
(43)
قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ} " الآية (43) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في إقامة الصلاة، فأما الزكاة، فأصلها من: "
زكا الزرع، فهي بالنظر، العامي: تثمير المال باستجلاب تركه
الله - عز وجل -، وبالنظر الخاصي: تتميز النفس، وهو تطهيرها
بإخراج الحقوق من المال.
والتزكية قد تقال في المقال، نحو: " زكيت فلاناً، وعلى ذلك
قوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، وذلك نهي عن الثناء على
النفس، فإنه من المستقبح بالعقل والششرع، ولذلك قيل لحكيم:
ما الذي لا يجسن وإن كان حقاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه.
وقد تقال التزكية في الفعال، وهي ما يقتضي تظهير النفس المدعو
إليه بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
وقلما حث الله تعالى على إقامة الصلاة، أو مدح بها، إلا قرن
بها إيتاء الزكاة، فبهما يتم الإيمان، وعليها دل قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، وقوله:
{ارْكَعُوا} حث على الخضوع وتذرع الخشوع، ويصح أن يكون مع ذلك
- حثاً على مراعاة الجماعات في الصوات والاجتماع مع المؤمنين
في كل مأمور به نحو قوله تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}،
ولذلك قال: {مَعَ الرَّاكِعِينَ}
(1/173)
أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ
أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
الآية (44) - سورة البقرة.
البر: التوسع في أفعال الخير، بدلالة ما قاله - عليه السلام -
وقد سأله أبو ذر عن البر، فتلا عليه قوله تعالى: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ} الآية إلى قوله: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
فذكر جملة أفعال الخير، فرائضها، ونوافلها، ومكارم الأخلاق
كلها.
فالبر في ثلاث:
بر في معاملة الله تعالى وعبادته، وبر في معاملة الأقارب
ومراعاة حقوقهم، وبر في معاملة الأجانب وإنصافهم.
واشتقاقه من البر هو الفضاء والسعة، ولهذا وصف المؤمن بسعة
الصدر، والكافر بضده، نحو قوله تعالى:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقًا حَرَجًا} ..
الآية، فسمي براً ...
وقد وصف الله تعالى بالبر كما وصف به العبد، يقال " بر العبد
ربه "، أي أطاعه، على ذلك قول الشاعر:
يبرك الناس ويفخرونكا
والله - عز وجل - بر عبده، أي وسع عليه إحساناً، ويقال: أبر
فلان على فلان أي تقدمه ببر،
(1/174)
أي سعة من المكان، وعلى هذا قالوا: بينهما
بون، وقال الشاعر:
فثم الفتى كل الفتى كان بينه ...
وبين المراجي نفنف متباعد
والنسيان: زوال الشيء عن الحفظ، فهو ضربان:
انفعال بغير فعل من صاحبه، وهو المعفو عنه بقوله - عليه السلام
- " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ".
وأنه قال بفعل من صاحبه، وهو أ، يترك مراعاة المحفوظ حتى يذهب
عنه، وهو المذموم بقوله تعالى:
{كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسَى}، وقال عليه السلام:
" من حفظ القرآن، ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم "، ولما ورد هذا
الخبر عن النبي - عليه السلام - كره ابن مسعود - رضي الله عنه
أن يقول القائل: " نسيت آية كيت وكيت "، والق:
لتقل: " أنسيت، ومن جعل الإنسان من ذلك، فأصله عنده: " أنسيان
"، بدلالة: " أنيسيان " في تصغيره، ومعنى تلاه: تبعه، والتلاوة
في القرآن إتباع اللفظ اللفظ، أة: إتباع اللفظ بتدبر المعنى،
وهو المراد بقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ}، والعقل: أصله المنع الشديد، ومنه: عقل
البعير "، " والعاقول ": الدواء، يمسك البطن، والعقلية للنفس
الممنوع عن الإخراج، والمعقلة، والعقال، واعتقل لسانه.
وقد ذكر الله تعالى " العقل " بأربعو أسماء: " العقل، والنهي،
والحجر، واللب " وذلك بأنظار مختلفة -، فأكثرها ذكر العقل،
وذلك لعقله عما يقبح وعلى ما يحسن، والنهي: لكونه ناهياً عن
القبائح، والحجر: لجعل صاحبه في حجر عما لا يحسن، واللب: لكون
ذلك الجزء من الإنسان، بالإضافة إلى
(1/175)
سائر أجزائه، كَلُبَّ الشيء إلى أجزائه،
وهو أشرف أسمائه، وقد ذمهم الله تعالى في هذه الآية بغاية ما
يذم به المتصدي للوعظ بغير الحق، وذاك أن الواعظ من الموعوظ
يجري مجرى المظلة من الظل، والطابع والمطبوع، ومحال أن تعوج
المظلة، ويستوي ظلها، أو يمكن للطابع أن يوجد في مطبوعة أحسن
ما في طبعه.
ولهذا قيل: " كفى بالمرء تهزياً أن يعظ غيره وينسى نفسه، ولأن
المدعي لمصلحة هو يتجنبها إما كاذب في دعواه، و‘ما خبيث النفس،
وكلاهما لا يقبل قوله، فإذا " حق الإنسان أن يبدأ بنفسه فيما
يعظ به غيره، حتى يكون واعظاً بفعله كوعظة بقوله.
وروي أن رجلاً أتى ابن عباس [رضي الله تعالى عنهما] فقال: "
إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: إن لم تخش أن
تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله تعالى فافْعل.
قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ}، وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ}، وقول شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ
إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، وقد اتبع الله ذمهم بحكمين حقق
غيهم أحدهما، قوله: {وانتم تتلون) أي: تتدبرون التوراة،
والثاني: قوله: (أفلا تعلقون) - تنبيهاً - أن الجامع للعقل
ومتبع الكتاب ليس من حقه أن يأمر الغير بما لا يفعله، فذلك
منبئ عن الجهل، فصارت الآية بما عقبت أبلغ من معنى قول الشاعر:
لاتنه عن خُلُق وتأتي بمثلُه ....
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ} مثل هذه الآية في حث الإنسان على (العناية
بالنفس) قبل العناية بغيره، لا نهياً عن الوعظ كما تصوره بعض
الناس، حتى قال هذه الآية منسوخة ..
(1/176)
وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى
الْخَاشِعِينَ (45)
قوله - عز وجل -:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}: الآية (45) - سورة
البقرة.
أصل الصبر: الإمساك في ضيق، ومنه: دابة مصبورة، والصبرة من
الطعام للجمعة منه، وفي التعارف: إمساك النفس على ما يقتضيه
العقل وعما يقتضيه، وذلك ضربان: صبر عن المشتهى، وهو العفة،
وصبر على المكروه وهو الشجاعة، وقيل الصبر: الصوم، لقوله عليه
السلام: (صيام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهب كثيراً من
وحر الصدر)، وتسميته بالصبر، لكونه بعضه، إذ هو إمساك الشهوة،
ولهذا قال عليه السلام:
" الصوم نصف الصبر "، والصلاة أرفع منزلة من الصبر، لأنها تجمع
ضروباً من الصبر، إذ هي حبس الحواس على العبادة، وحبس الخواطر
والإفكار على الطاعة، ولهذا قال:
{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وخصها
برد الضمير إليها دون الصبر، وأما الصلاة التي تخفف على غير
الخاشع، فإنها مسماة باسمها، وليس هي في حكمها، بدلالة قوله
تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ}، ومثلها، وقل ما ترى صلاة غير الخاشع تنهاه عن
الفحشاء والمنكر، ومثلها في رد الضمير على أحد المذكورين
لاختصاص العناية به، قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ
لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}، فأعيد الضمير إلى التجارة -
لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت الآية فيهم، ولأنه قد تشغل
التجارة عن العبادة من لا تشغله اللهو، وعلى ذلك قوله:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لما كان حبس الفضة عن
الناس أعظم ضرراً، إذ كانت
(1/177)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
(46)
الحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب،
[خُصا بالضمير]، وقوله: (كَبِيرَةٌ) اي: كبيرة القدر، أو ثقيلة
على النفس، بالإضافة إلى غيرها من العبادات وزائدة عليها،
فإنها لا تصح إلا ببذل مال ما جار مجرى الزكاة فيما يستر به
العورة، ويطهر به البدن، وإمتساك في مكان مخصوص يجري مجرى
الاعتكاف، وتوجه إلى الكعبة يجري مجرى الحج، وذكر لله ولرسوله
يجري مجرى إظهار الشاهدتين للإيمان، ومجاهدة في مدافعة الشيطان
سارية مجرى الجهاد، ومساندة عن الأطيبين جار مجرى العموم،
وفيها ما ليس في العبادات الآخر من وجوب القراءة، وإظهار
الخشوع، والركوع والسجود، وغير ذلك، ولهذا عظم النبي - صلى
الله عليه وسلم - أمرها، فكان آخر ما أوصى به عند وفاته: "
الصلاة، وما ملكت إيمانكم "، وجعل بقولها وما يفيض بها لسانه.
قوله - عز وجل -:
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ...
الآية (46) سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الظن، وأنه أعم ألفاظ الشك واليقين، وأنه
اسم لما تحصل عن أمارة متى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت حداً
لم يتجاوز حد الوهم، [وأنه متى قوي استعمل معه أن المشدةة، و "
أنْ " المخففة منها]، ومتى ضعفت استعمل معه " أن " المختصة
بالمعدومين من الفعل نجو " ظننت أن خرج، وأن يخرج " فالظن إذا
كان بالمعنى الأول فمحمود، وإذا كانت بالمعنى الثاني: فمذموم،
والآية من المعنى الأول والمعنى الثاني كقوله: {وَإِنْ هُمْ
إِلَّا يَظُنُّونَ}، وقوله: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وعنى بلقاء الله " الموت " وبالرجوع
إليه " الثواب والعقاب "، وتخصيص ذكر الظن ها هنا إعلام بأنهم
في كل حال لا يأمنون الموت، ولو كان بدله العلم، [لم يصح على
الوجه] الذي يصح فيه الظن، لأنك تقول: " أظن أني أموت في كل
حال، وأما قوله {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ}، فهو نهاية في الذم، ومعناه: ألا تحصل لهم أمارة
تنبههم على التفكر في ذلك - تنبيهاً
(1/178)
يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
أن هذا لا محالة مما تبين أمارته للإنسان
إذا تأمل، أدني تأمل، وخاطب بالآيات عماء بني إسرائيل الآميرن
غيرهم بالبر، الناسين أنفسهم بأن استعينوا في مدافعه هذه الحال
بالصبر والتوصل به إلى الصلاة، فبها يصير الإنسان خاشغاً
ملتزماً للحق ممن ظهر منه.
وقوله - عز وجل -:
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ}
الآية (47) سورة البقرة.
الفضل: كالزيادة، إلا أنه أخص منها، وهو من الأسماء المتضايقة،
كالكثير، والقليل، والكبير، والصغير، ويستعمل على اعتبارين:
أحدهما: اعتباراً بالطرف الذي هو النقص، وذلك يستعمل على سبيل
المدح، والثاني: اعتباراً بالوسط الذي هو العدل والسواء،
ويستعمل ذلك على وجهين: أحدهما: الزائد على العدالة على سبيل
الاستظهار، وهو السماحة والإسماح ببعض ما لا يجب عليه، أو بترك
بعض ما لا يجب له، وذلك هو المعنى بالإحسان: في قوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}،
وبالزيادة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ}، وإياه عنى بقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ}، والثاني: الإفراط الجاري في الذم مجرى التفريط،
كالإسراف والتبذير المنهي عنه بقوله: {وَلَا تُسْرِفُوا}،
وقوله: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}، والمعبر عنه بقول
العامة: " الزيادى على الكفاية نقصان "، وأكثر ما يعبر عنه
بالفضلة والفضالة فالزيادة على الاعتبار الأول فضيلة، وهو
استظهار في العدالة، وعلى الاعتبار الثاني رذيلة، وهو ترك
العدالة، والتفضيل: يستعمل على وجهين: إما بمنحة خص المفضل بها
نحو قوله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلًا}، فإن ذلك أمور خص بها بنو آدم ابتداء، وأما الحكم
للمفضل بالفضل الحاصل منه، نحو قوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}،
فالأول: يجب على العبد به الشكر، إذا هو مدح له، نوليس له به
حمد، والثاني: يجب له به حمد، ويستحق به الثواب، وأما
العالمون: فقد تقدم الكلام فيه، وأنه تارة يقال لجميع ما أوجده
الله تعالى من الفلك، وما يحويه عالم بلفظ الإفراد، وتارة
(1/179)
يقال لكل جنس نوع من الموجودات عالم وتارة
يقال لأهل كل زمان عالم وتارة يقال لكل إنسان في نفسه عالم،
وذلك يقال على وجهين: أحدهما: إن الإنسان الواحد هم كالعالم في
تخصيصه بمثال كل ما هو موجود في العلم والثاني: يقال ذلك
للفاضل الكامل من الرجال، وبهذا النظر قال الشاعر:
فواحدهم في الورى عالم.
إن قيل كيف قال: فضلتكم على العالمين وقد قال تعالى لهذه
الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
الجواب: أن التفضيل الذي يكره الله تعالى هو الفضيلة التي خص
بها نبو آدم، المعنية بقوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ} الآية، وبنو إسرائيل وإن كان قد شاركهم غيرهم في هذه
النعمة، فإنهم لما نسوا نعم الله تعالى خصوا بالنداء لتذكيرهم،
كقولك: " يا فلان نسيت نعمة الله عليك "، وقد تقدم أنه ربما
يخص بالمخاطبة لتذكيرهم بعض المعنيين بالحكم، لأنه أرفعهم
منزلة، أو لأن العناية ما أعطوا من المن والسلوى وإظلالهم
بالغمام، والحجر الذي تفجر منه الأنهار، وغير ذلك: وقيل: إنه
جعل كل فرقة أو كل نفس في زمانهم عالماً، وذكر أنه فضلهم على
غيرهم ممن في زمانهم، وقيل: إن ذلك بمارشحهم له من الإيمان
بالله ورسوله والأعمال الصالحة، فإن من فعل ذلك كان هو المفضل
على العالمين، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
إن قيل: كيف قال ذلك وهذه النعم كانت على أسلافهم؟ قيل: قد قال
بعضهم: لما ذكر الله تعالى ذلك في التوراة على سبيل الخطاب،
أعاد اللفظ على الحكاية، وقيل: " النعمة على الإنسان ضربان ":
نعمة تصل إليه من المنعم بلا واسطة، ونعمة تصل إليه من المنعم
بواسطة، أو بوسائط وذلك كتسخير الله من يزرع لنفسه زرعاً يصل
إلينا نفعه على بعض الوجوه، فهذا الزارع منعم علينا، وعلى هذا
قيل: إن الله تعالى منعم على كل واحد منا بأكثر ما يتعاطاه
الناس من أعمالهم من المهن والصنائع المرفقة لأنفسهم، ونحو هذه
الآية قول الله - عز وجل - {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ} وأعاده قوله:
(1/180)
وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (48)
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، فلأن الأول: حث
على استيقاء نعمته بالوفاء بعهده، والثاني: لتبينها بتفضيلهم
على العالمين.
قوله - عز وجل -
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ...
الآية (48) سورة البقرة.
الجزاء والمكافأة، والمقابلة متقاربة، لكن الجزاء أعمها، لأن
المكافأة: يعتبر فيها المماثلة والمقابلة: يراعى فيها
المجازاة، والجزاء لا يراعى فيه شيء من ذلك، ويقال: جزاه " بلا
همزة "، يجزيه، أو " أجزاه " بالهمزة، ففي الجزاء معنى العناء،
والقبول تناول المقبل، ومنه القابل: المتناول الدلو، وأصل ذلك
من قَبل وقُبل.
فقبل يستعمل في المتقدم المنفصل، ويضاده بعد، وقبل: في المتصل،
ويضاده: دبر، وقد جعل كناية عن السوءتين، ويقابل القبول الرد.
والشفاعة: جعل الفرد شفعاً يقال: شفعت له، أي صرت شفعاً له
بانضمامي إليه، وعبر عمن انصم إلى غيره في طلب ما " شافع "،
وعلى ذلك قول الشاعر:
له من عدو مثل ذلك شافع.
ومنه الشفعةُ، وأصلها ضم ملك إلى ملكه، وشفعه به، والعدل:
التسوية، يقال: عدلته، وانعدل، وعدلته، فاعتدل، وعدل الشيء
مساويه بلا إفراط ولا تفريط، وأكثر ما يقال في المساوي من حيث
الحكم نحو قوله - عز وجل -:
{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}، والعدل: يقال في المساوي، في
الكمية في الوزن والكيل، وقيل الفداء: العدل إذا اعتبر فيه
معنى المساواة، وقولهم: " لا يقبل منه صرف ولا عدل ".
(1/181)
وتفسيرهم بأن العدل: الفريضة، والصرف:
النافلة، فمن حيث أن العدل هو المساواة، وتعاطيه واجب، والصرف:
الزيادة الحاصلة عن التصرف، وتعاطيه تبرع وهما كالعدل
والإحسان.
والنصرة أخص من المعونة، فإنها تختص بدفع الشر والظلم، وقيل
أرض منصورة: إذا أتاها المطر بعد طول مدة، والقصد بالآية
التقوى من يوم لا يكفي أحد أحداً.
وقد أعاد تعالى هذا المعنى في غير موضع، كقوله تعالى: {يَوْمَ
لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا}
وقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ}، وقوله: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ
عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ
شَيْئًا}، تنبيهاً أن لكل واحد ما يستصحبه من الإيمان والأعمال
الصالحة: كما قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا
سَعَى}،
إن قيل: كيف قال ذلك، وقد أثبتت الشفاعة في غير آية، قيل: هذا
رد على اليهود فيما ادعوه حيث قالوا: " نحن أبناء الأنبياء وهم
يشفعون لنا وإن ارتكبنا (ما ارتكبنا)، فنبه على أنه ليس لهم
شفاعة كما قال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}، وقوله:
{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، والضمير من قوله
- عز وجل - {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا} راجع إلى النفس الأولى
وقيل أنه راجع إلى الثانية، وفي قوله: {وَلَا يُؤْخَذُ
مِنْهَا} راجع إلى الثانية لا محالة، وقوله: {وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ}، أي ليس لهم من ينتصر من الله تعالى بأن يمنعهم
من عذابه إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ
مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ}، وقوله:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي}، قيل: معناه: {لَا تَجْزِي}
فيه، فحذف، وهو قول الكسائي، وقال البصريون، وصل الفعل إليه.
فنصبه نحو قول الشاعر:
ويوم شهدناه سليماً وعامراً
ثم حذف الهاء كحذفه من " الذي ضربت ".
وحقيقة الخلاف أن ما يقدر الكسائي حذفه بدفعه يقدره البصريون
بدفعتين، ولا خلاف أن الأصل كان في ذلك فيه وأنه لا يطرد في كل
مكان حذف الجار مع المجرور.
(1/182)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}
الآية (49) سورة البقرة.
أصل النجاء: طلب الخلاص، ويقال لمن عدا نجا، لكون العدو أحد
أسباب التخلص، فإن الله تعالى جعل للحيوانات قوتين تزيل بهما
الأذى، قوة بها تهرب مما يؤذيها، وقوة بها تدفع ما يؤذيها، فمن
الحيوانات ما يختص بأحديهما، ومنها ما جعلتا جميعاً به،
فإذاًَ: العدو أحد أسباب الخلاص، فصح أن يعبر عنه به، وقيل: "
نجا فلان)، إذا ألقة ثوبه وذلك استعارة له، كما استعير إلقاء
الثوب للعدو في نحو قولهم: " القى بزه " وخلع ثوبه، وعلى ذلك
قوله:
ألقيت ليلة خُبث الرهط أرواقي
وسميت الربوة " نجوا " اعتباراً بأنه منجي من السيل وكثير من
الآفات التي تكون في الوهاد، وكنى عن العذرة الملقاة بالنجو
إما اعتباراً بأنه خلاص من الأذى، أو كناية عنه بالنجو، كما
كنى عنه بالغائط ولما اعتقد في السر أنه خلاص من الوشاة
والعداة سمي بنجوى، وبهذا النظر قال الشاعر:
ونجعل نجوانا نجاة من العدا ...
والآل: قيل هو مقلوب عن الأهل، كالماء عن الموه، ويصغرُ على
أهيَلْ، كما أن الماء مصغر على مُويْه، إلا أنه خص بالإضافة
إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة، يقال:
" آلُ فلان "، ولا يقال: آلُ مكة، وزمان كذا: هو اسم للشخص،
ويصغر على " أوائل "، وهو قول الكسائي، ويستعمل فيمن اختص
بالإنسان اختصاص ذاته به إما بقرابته قربته، أو بموالاة دينه،
أو كالدينية، فقد أجرى الموالاة الدينية مجرى القرابة واللحمة
حتى قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ}،
(1/183)
وقال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ
مِنِّي}، وقال في نوح وابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، والاختصاص المذكور قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ
وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً
بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، ولاختصاص الآل بما قلنا، قال تعالى:
{أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وقال هذا
القائل: أهل الدين من النبي - عليه السلام - ضربان: ضرب يتخصص
منه بالعلم المتقن والعمل المحكم، فيقال لهم: آل النبي، وضرب
يتخصص منه بالعمل على سبيل التقليد دون العلم المتقن، ويقال
لهم أمة، فكلُّ آل النبي أمته، وليس كل أمته آلهُ، وقيل لجعفر
بن محمد: إن ناساً يقولون: المسلمون كلهم آل النبي، فقال:
كذبوا وصدقوا، قيل: فما معنى كذبوا وصدقوا؟ قال: كذبوا: أن
الناي على ما هو عليه من التقصير في دينهم هم آل محمد، وصدقوا:
أنهم آله إذا قاموا بشريطه شريعته، فمن ضيع الشريطة، فليس منه
وإن قرب نسبه، ومن حافظ على شريطته فهو منه وإن بعد نسبه،
والسومُ: أصله الذهاب في إبتغاء الشيء، فهو لفظ لمعنى مركب
الذهاب والابتغاء فإنه جرى مجرى الذهاب، فقيل: " سام الإبل "،
فهي سائمة إذا ذهبت في المرعى، و " سمته كذا "، كقولك نعيته
كذا، ومنه السوم في البيع، فعدى تعديته والسوء: يتناول كل ما
يسوء الإنسان من آفة وداء، ويقال: السوء والسوى، أي: نحو الحسن
والحسنى، وعلى سبيل كراعية ذكر الفرج والنظر إليه، كنى عنه
بالسوءة، وكذا كنى عن البرص بها، وسوء العذاب: أي شدة العذاب،
والذبح أصله شق الأوداج، وقيل: ذبحت الفارة النافجة على
الاستعارة، لما شبه ذلك الوعاء بفارة فسمي بها، والذباحة: كأنه
يذبح بشدته وكونه في المذبح، وخصت سنا يكثر في الأدواء، نحو:
خراجة تخصيص التذبيح دون الذبح تنبيهاً على كثرة ذلك منهم،
والاستحياء: كالاستبقاء، وهو تحري طلب الحياة فيهن، وقيل:
معناه: يبتغون ما في أرحام النساء مشتقاًَ من
(1/184)
الحي، أي الفرج، والبلاء أصله من قولهم:
بلى الثوب بلى، وبلاءً، وقيل " بلوت فلان " أي أخبرته كأني
أخلقته من كثرة اختباري له، ولهذا قيل: " لبست فلاناً "، أي:
خبرته، وسمي الغم بلاء من حيث أنه يبلى الجسم، وسمي التكليف
بلاء من أوجه، الأول: أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان،
فصارت من هذا الوجة بلاء، والثاني: أن التكاليف اختبارات،
وكذلك قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، قال {لِيَبْلُوَكُمْ}، ونحو
ذلك، والثالث: أنه لما كان اختبار الله تعالى لعباد تارة
بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، صارت المنحة والمحنة
جيمعاً بلاء، فالمحنة: مقتضية للصبر والمنحة: مقتضية للشكر،
وكأن القيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر لما بيناه
في كتاب: (شرف التصوف)، فصارت المنحة أعظم البلاء، وبهذا النظر
قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه وكره الله وجهه: " من
وسع عليه في دنياه، ولم يعلم أنه مكر به، فهو مخذوغٌ عن عقله "
والرابع: أنه رب منحة تعقب محنة، ومحنة تقضي إلى منحة، ولهذا
قيل: " رب مغبوظ بنعمة هي داؤه، ومرحوم لشدة هي شفاؤه "، فإذا:
من النعمة ما هو نقمة " ولكون البلاء متناولاً للأمرين، قال
تعالى، {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}،
وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}،
وقالوا " في الخير والشر معاً: بلاه " فإّذا أفردا قالوا [في
الخير: ابلاؤه، وفي الشر بلاه] وقال تعالى: {وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا}، وأما قول الشاعر:
جزى الله بالإحسان ما فعلابكم ...
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
(1/185)
فمعناه: أعطاهما الله خيراً فيما يمنحهما
به، وجعل لهما بدل المكروه محبوباً، فقوله: {وَفِي ذَلِكُمْ
بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ} راجع إلى الأمرين إلى المنحة التي هي
الإنجاء من آل فرعون المقتضية للشكر، وإلى المحنة التي هي
ذبحهم واستحياؤهم للنساء المقتضية للصبر، وعلى ذلك قوله تعالى:
{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ} فإذا صح ذلك، فقول مجاهد وابن جريح: أنه أراد في
إنجائكم منهم نعمة، نظر منها إلى مبدأ الآية، وهو قوله:
{أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}، وقول مقاتل: " أراد في
قتل الأولاد واستحياء النساء شدة نحو قوله: {إِنَّ هَذَا
لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}، نظر منه إلى منتهى الأية، وهو
قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ}، وكلا القولين صحيح، وقول السدي عن ابن عباس -
رضي الله تعالى عنهما - أراد بقوله: " بلاء " أي نعمة أو نقمة
تصريح أن الأمرين مرادان وليس قوله (أو) ههنا شكاً منه كما ظنه
بعض المفسرين، وقال إن ذلك شك من السدي، بل ذلك رواية عن ابن
عباس - رضي الله تعالى عنهما - تنبيهاً منه أن النعمة والنقمة
في هذه الجملة حاصلتان، وكل واحد منهما موجود فيها، وفي الآية
تذكير لهم بما أولاهم من النعم في إنقاذهم من آل فرعون [وما
كانوا يسومونهم من العذاب، وكان الأصل فيما روي لآن فرعون] رأى
في المنام، أو قال له الكهنة: سيولد في هذا العام مولود يذهب
بملكك، فجعل على كل عشر من النساء رجلاً، فقال: انظروا إلى كل
امرأة ولدت، فإن كان ذكراً، فاقتلوه، وإن كان أنثى فأبقوه،
وكان ذلك أعظم للرزية كما قال الشعر:
ومن أعظم الرزء فيما أرى ...
بقاء البنات وموت البنينا
وقيل كان ذبحهم للأبناء استخدامهم في الأعمال القذرة الجارية
مجرى أعظم الذبحين القتل، والإهانة، قال: وعلى ذلك قوله تعالى:
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا
شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، وفيها حث لنا على
تذكر نعمه ومراعاتها واحدة واحدة، وتجديد الشكر لكل منها ...
(1/186)
وَإِذْ فَرَقْنَا
بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} الآية:
(50) سورة البقرة.
الفرقُ، والفلقُ، لكن الفلق لا يكون إلا بين جسمين، والفرق: قد
يكون في الأجسام والمعاني، وفي هذه القصة قد جاء اللفظان، قال
تعالى: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ} أي كل قطعة من الماء، والفرقان: كل كتاب يفرق بين
الأحكام، وسمي عمر - رضي الله تعالى عنه - فاروقاً لأجل أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي ليهودي على منافق، فأتى عمر
وقال " إن محمداً قضى بيني وبين هذا، ولست أرضي قضاءه فاقض
بيننا "، فقال: أو رضيت قضائي؟ قال: نعم، فدخل داره، وأخرج
السيف وحز رأسه، فنزل جبرائيل - عليه السلام - وقال: (إن عمر
قد سمي في السماء فاروقاً).
والبحر: استعير للسعة، فقيل: بحرت مذا أي: " وسعته كسعته "،
وقيل بحرت الناقة: أي: شققت أذنها شقاً واسعاً، والباحر:
الأحمق الموسع عليه من جهة رفع العقل عنه، وكأنه اعتبر في
تسميته بلذك مقابلة العاقل، فقد جعل أسماء العقل كلها معتبراً
فيه الضيق، والشدة، والفرق، والرسوب في المآثم شبه به غيره حتى
قيل: غرق فلان في النعمة، وغرقه من اللبن أي مليء قدح، وأغرق
في الشيء إذا تناهي والنظر نظران، نظر بصر، وبه يدرك المحسوسات
ونظر بصيرة، وبه يدرك المعقولات، ونظر البصر كالخادم لنظر
البصيرة فإن كان كلاهما سبيلاً إلى المعرفة، والنظير أصله
للمناظر، كأنه ينظر كل واحد من الناظرين إلى صاحبه في
المشاكله، وناظرته: باريته في النظر، وأنظرته: تركته ينظر
فيطلب، ومعنى الآية ما ذكره في قوله {فَلَمَّا تَرَاءَى
الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} الآية، وفي قوله:
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}، وفي قوله
تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ
الْبَحْرَ}، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} لما كان النظر
متردداً بين المحسوس الذي منه
(1/187)
الإبصار، والنظر المعقول الذي منه البصيرة،
نظر كل واحد من المفسرين نظراً ما، فقال: من نظر نظر محسوس
معناه (وأنتم تشاهدونه)، فقد روي أنه أفرد لكل سبط طريق من
الماء وجعل الحاجز الذي بينه وبين الآخذ مشفاً كالزجاج ينظرون
منها إلى الآخرين، وقال بعضهم: قذف الماء بجثث آل فرعون بعد
إغراقهم إلى الشط، فكان الناس ينظرون إليهم، وعلى ذلك حمل
قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ
خَلْفَكَ آيَةً}، وقال: " من نظر نظر معقول " معناه: وأنتم
تعتبرون بذلك، [وقيل معناه: " وأنتم متمكنون من النظر، أي
الاعتبار بذلك]، وقال بعضهم: في الآية مع إرادة هذا المعنى، أو
النعمة المحسوسة التي أولاهم، إشارة إلى معنى آخر، وإلى نعمة
معقولة أعطاهم، فإنه أشار بالبحر إلى الشبه التي تعتري وتفرقه
إلى إزالتها، وبإغراق آل فرعون إلى إبطال الكفر، وبالنظر إلى
المعرفة والتمكن منها بما أولاهم من البصرية والتمييز، وهذا
الذي ذكره هذا [القائل] صحيح أنه تعالى فعله بهم اقتضاه لفظ
الآية، أو لم يقتضه ...
(1/188)
وَإِذْ وَاعَدْنَا
مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}
الآية (51) سورة البقرة.
فرئ: " واعدنا " اعتباراً بالموعود وقبوله من الواعد وعده،
فكان من كل واحد منهما وعداً، هذا بالإعطاء، وذلك بالقبول "
ووعدنا " هو للاعتبار بالواحد دون الموعد، وعلى الثاني أكثر ما
في القرآن نحو: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}
{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} {وَإِذْ
يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} وتقدير أربعين
ليلة انقضاؤها كقولك: اليوم أربعون يوماً منذ خرج زيد، أي
تمامها، وقيل: إنما وعدهم ذلك في الأربعين، وأن لا يتجاوز هذا
القدر، وهو الأصح، وقوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ
لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} على ذلك، فإنه قيل له:
يكون ذلك انقضاء ثلاثين، ثم كان عند الأربعين، فلم يكن في
الوعد إخلاف، وإنما كان فيه بعض الإبهام، فلهذا التبس عليهم،
وذكر تعالى عظم جهلهم، وأنهم بعدما أعطوا من البينات ورشحوا
لما وعدوا، تهافتوا على عبادة عجل اتخذوه وقوله: وأنتم ظالمون:
عنى به الظلم المطلق وهو الكفر، وقد تقدم الكلام في أنواع
الظلم وأنها بالقول المحمل ثلاث أعظمها الكفر، وفي الآية حث
على معرفة ما وعدنا الله تعالى به ومراعاته والمنع من الاشتغال
عنه تعالى بشيء بغيره، وعلى هذا الوجه قال بعض الناس: كل ما
شغلك عن الله فهو عجل متخذ وطاغوت متع وشيطان مطاع ومبدأ كل
ذلك اتباع الهوى، ولذلك قال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقال وهذا وإن لم يكن كفراً
فهو شرك وبهذا الوجع قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}
(1/189)
ثُمَّ عَفَوْنَا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
وقوله - عزل وجل:
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} سورة البقرة الآية (52) ...
العفو: القصد لتناول الشيء يقال: عفاه، واعتفاه وعفت الريح
الدراري قصدته متناولة منها أثارها ولهذا المعنى قال الشاعر:
أخذ البلى آياتها
وإذ قيل: " عفا فلان عن فلان " كأنه قصد تناول شيء ما منصرفاً
عنه والمفعول به مترك لكونه غير مقصود وذلك كقولهم ذهبت عما
ارتكبته وتجاوزت عنك: أي تجاوزت إلى شيء ما وعفا النبت والشعر
أي قصد تناول الزيادة كقولهم: أخذ النبت في الزيادة وقولهم
أعطى عفوا فعفوا مصدر في موضع الحال، أي أعطى وحاله حال العافي
في الاهتزاز - إشارة إلى المعنى الذي عد بديعاً للشعراء في نحو
قول الشاعر:
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
والشكر: مقابلة الصنيعة بإظهار، ومنه: دابة شكور، إذا كانت
مظهرة احسان صاحبها إليها، وضره شكري من ذلك والشكر: كناية عن
الفرج المزوج، لكونه مقابلاً للمهر مقابلة الشكر للمشكور عليه،
والشكر ضرب من العدالة، إذ هو في مقابلة النعمة، وأعم من
المكافآت فإن المكافأة يعتبر فيها تارة مماثلة في الكمية وتارة
في حال المكافئ والمكافأ والشكر: لا يعتبر فيه ذلك.
وأيضاً فالشكر قد يكون باللسان تارة، وبالمقابلة تارةً وقد
تقدم الكلام في (لعل) وأنه وإن كان مقتضياً
(1/190)
وَإِذْ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(53)
للرجاء فليس على الاعتبار به تعالى، فإن
الرجاء لمن يخفى عليه العواقب، ولا يتمكن من كل ما يريده،
والقصد بالآية " بتبين عفوه عنهم بعد ارتكابهم الجرائم ليتحروا
شكره المقتضي لرحمته " تنبيهاً لنا أن نراعي عفوه وإحسانه -
راجين بلوغ شكره بالأفعال الحميدة، وقوله: (من بعد ذلك): أي من
بعد اتخاذكم العجل، وإنما لم يقل: (ذلكم) لأ، كاف الخطاب إذا
اتصل بالمبهمات يصير كوصله لها وجزاءا منها، فتارة يعتبر فيه
الأصل فيجمع، وتارة يعتبر فيه كونه وصلة لا خطاباً فيترك على
حالته لا يثنى ولا يجمع.
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الآية (53) - سورة البقرة.
الكتاب والفرقان: اسمان لشيء واحدٍ لكن يقالان باعتبارين
مختلفين أما الكتاب، فلجمع الأحكام المتفرقة فيه، وأما
الفرقان: فلكونه مفرقاً بين الحق والشبهة وبين الأحكام
المختلفة، وأتى باللفظين تنبيهاً على تضمين التوراة للمعنيين
وهذا أصح من قول من قال: تقديره: " وإذ آتينا موسى الكتاب
ومحمداً الفرقان " فغن التوراة والقرآن كل واحدٍ كتاب من وجهٍ،
وفرقان من وجه، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ}
وما قالوه من أن الفرقان أريد به فرق البحر فلا يمتنع إرادته
مع ما تقدم، والإيتاء منقول عن: أتيت لكن تعورف في الإعطاء لما
كان الإعطاء ضربان من الإيتاء وقد تقدم الكلام في " لعل " وفي
الابتداء.
(1/191)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ
بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (54)
قوله - عز وجل:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ
ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا
إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية: (54) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الظلم، فأما ظلم النفس، فقد يقال لكل فعل
يباعدها عن توفيق الله تعالى في الدنيا وعن قوابه في الآخرة
صغيراً كان أو كبيراً وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا
فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
فالأظهر أن فعل الفاحشة وعمل السوء للكبيرة، وظلم النفس في
الآيتين للصغيرة.
وفي الجملة: فإن ظلم النفس هو الخروج عن الاعتدال صغيراً كان
أو كبيراً وقوله: " تبارئكم " فأصل البرء خلوص الشيء عن غيره
إما على سبيل التقصي منه، أو على سبيل الإنشاء عنه فعلى التقصي
قولهم: برئ فلان من مرضه، والبايع من عيوب مبيعه، وصاحب الدين
من دينه، ومنه: استبراء الجارية، فإنه أراد تقصيها من " ما "
ومن " عسى " أن قد غشيها من قبل، وعلى سبيل الإنشاء: قولهم:
أبرأ الله الخلق وقوله تعالى: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ
الْمُصَوِّرُ} فإشارة إلى أحوال ثلاث، فالخلق: إلى إيجاد
البدن، والبرء: إلى إيجاد الروح، وهي النسمة التي عناها أمير
المؤمنين بقوله: " والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة "، والتصوير
إلى الجمع بينهما وإلى ثلاثتها أشار بقوله: {إِنِّي خَالِقٌ
بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} الآية وإلى ذلك أشار
بقوله: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ
بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} وأما البرية فكثير من
الناس ذهبوا إلى أنها منه، فترك همزة، كالذرية والنبي الخابية
ومنهم من قال: البرى.
أي التراب، أو من البرى، وإليه ذهب الكسائي قبرا هي اعتباراً
بالأرواح، ويرى اعتبراً بالأشباح والقتل معروف وقد يستعمل في
معنى
(1/192)
التذليل وإزالة السورة، يقال: قتلت الدابة،
أي: ذللتها، وقتلت الخمر: أزلت سورتها بالمزج، قال الشاعر:
إن التي ناولتني فرددتها ....
قتلت قتلت فهاتها لم يقتل
وفلان قتل فلاناً، أي: مثله، فأصله مقاتلة، فتصور منه معنى
المماثلة، لكون المقاتلين متماثلين في فعليهما المختص بهما،
وإذ قيل: فلان قتل نفسه، فقد يقال: إذا فعل بنفسه فعلاً أزال
به الروح، وقد يقال إذ سلم نفسه للقتل، وإن كان أكثر ما يقال
في ذلك المستقتل وقد يقال: إذ قيل من يختص به اختصاص نفسه نحو:
فلم أقطع بهم إلا بنائي، وقوله: وإذا رميت يصيبني سهمي
وقد يقال: قتل فلان نفسه، إذا ضيع حظها في طلب الآخرة، فأدى به
ذلك إلى زوال حياته الأبدية، وذلك مذموم، وقد يقال في ضد ذلك
وهو إذا أفنى شهوته وذلك هواه في الدنيا طلباً للآخرة، وذلك
محمود، وعلى الاول قال جعفر بن محمد في قوله: {وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: اطلبوا لها الحياة الأبدية، وعلى
هذا قيل: " قتل النفس إحياءها، وإحياءها قتلها، يعني في حالة
وحالة، وروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى (أن من أحبني قتلته،
فقال يارب: إذا انتهيت في الخلة لم أبال بقتل الدنيا) وقال بعض
الحكماء: " من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحبها
(فاقتلوا أنفسكم) حملوه على أكثر هذه الوجوه، قال بعضهن: أمروا
أن يجبا كل واحد نفسه بالسكين، وقيل: أمروا أن يسلم كل أحد
للقتل، وقال أكثرهم: " أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً فكان الرجل
يقتل أباه وأخاه غير متحاش من ذلك قال بعضهم: أمروا أن يزيلوا
شهواتهم ويفنوا نفوسهم الشهوية في الوصول إلى رضاء الرب
ويبلغوا إلى الحياة الأبدية وقد طعن في هذه الآية بعض الملحدة،
وزعم أن قتل
(1/193)
النفس مستقبح في العقل، وهذا الجاهل إنما
استقبحه لكونه جاهلاً أن لنفوسنا خالقاً بأمره نستبقيها وبأمره
يقيها وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو معادا إلى دار
فيها حياة سرمدية كما قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوَانُ} وإن قتلها بأمره يوصله إلى حياة خير منها
ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه
ووال على بلد يسوسه، وأنه مهما استرده [يعاد] فلا فرق بين أن
يأمره بخروجه بنفسه أو يأمر غيره بإخراجه ومن تصور هذه الجملة
علم أن الإنسان إنما أنكر له قتل نفسه في الدنيا لأنه كالراجع
عن الثغر إلى حضرة صاحبه قبل استرداده، وإذا أمره أن يقتل نفسه
- فقد رجع عنه بأمره وذلك ظاهر لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة،
وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ} الإشارة به إلى التوبة وقتل النفس ولما كان الشيء قد
يكون خيراً عند الاعتبار بالدنيا شراً عند الاعتبار بالآخرة،
وقد يكون على عكس ذلك.
بين تعالى بقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ}
أن ذلك خير بالاعتبار بالأمور الإلاهية
إن قيل: لم أعاد ذكر " بارئكم "؟
والإتيان بالضمير في مثله أحسن؟ قيل: إنما يحسن الضمير إذا لم
يشتبه ولم يقصد بالتكرير تعظيم الأمر، وكان ذلك في جملة واحدة
أو ما حكمه حكم الجملة الواحدة، فأما إذا لم يكن كذلك فتكريره
أحسن وقد حصل ههنا الأحوال الثلاث فإنه جرى ذكر موسى والعجل
فلو قيل عنده: يصح توهم إرادة أحدهما ثم قد علم أن المقصود في
مثل هذا الموضع تفخيم الامر ثم قوله: (ذلك خير لكم) جملة أخرى
غير الأولى ..
(1/194)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا
مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
وقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وإنما استقبح لأنه قوله: يسبق الموت " مفعول ثان " لقوله: لا
أرى الموت فصار المصراع كله جملة واحدة، والكلام في التوبة
والثواب قد مضى، وعند قوله: (بارئكم) أي في حكمه وفيما يرتضيه
نحو قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} والشيء الذي يرتضيه تعالى تارة ينسب
إليه، فيقال: [هو] له وتارة يقال: " هو من عنده " و " هو عنده
" وقد بين في قوله: (وإذ واعدنا موسى) ما ارتكبوه من الذنب،
وبين في هذه الآية ما قال لهم موسى - عليه السلام - عند
ارتكابهم ذلك الذنب، وأن موسى - عليه السلام - مع تعظيم ما
ارتكبوه لم يخلهم عن النصح لهم وتصريفهم بين بلاء النعمة
والنقمة حسب ما أمره الله تعالى.
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ}
الآية (55) - سورة البقرة.
[الرؤية] إدراك المرئي، وذلك على أوجه بحسب اختلاف قوى الإنسان
فالأول [الرؤيا]
(1/195)
بالحاسة، وهو إدراك البصر، والثاني بالوهم
والتخيل، نحو أرى أن زيداً منطلق، أي أتوهم، وقد يكون ذلك في
اليقظة طوراً، وفي المنام طوراً، لكن يجعل اسم ما في المنام
رؤيا، والثالث بالتفكير، والرابع بالعقل المشار إليه في قوله:
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فأما الرؤية الحسية
على ما هي [عليه] في الدنيا من المقابلة، وكونها في جهة دون
جهة فمنفية عن الباري سبحانه، إذ كان ذلك لا يصح إلا على جسم
ذي لون وكيفية ولعدم اللون لا يبصر الهواء مع كونه جسماً ولا
يصح أيضاً على الله الرؤية الوهمية إذ كان ذلك تصور هيئة محسوس
كما تقدم أو مثل محسوس باطلاً كتوهم إنسان طائر، وأما الفكرية
فهي للعلماء في الدنيا وذلك إدراك المعرفة بالفكر [والرؤية]
وإياه عنى أمير المؤمنين بقوله: " لم تره العيون بشواهد
الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان "، وأما العقلية
فإنها تحصل في الآخرة لكل أحد من حيث أنهم يضطرون إلى معرفته
تعالى، لكن للمؤمنين حالة زائدة تقصر العبادة عنها، وهي المبشر
بها في قوله عليه السلام:
(ترون ربكم - عز وجل - كما ترون القمر ليلة البدر) والمشار
إليها بقوله - عز وجل - {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ}.
ولا يحصل في الدنيا إلا لبعض الأنبياء في بعض الأحوال، وذلك
بتصور أفعاله تعالى مجردة عن أفعال المخلوقين بلا شبهة تعتريه
ولتعري نفسه من الشهوات والهوى، ولكون ذلك لبعض الأنبياء في
حال دون حال، قال عليه السلام:
" رأيت ربي في بعض طرقات المدينة "، بمعنى وأنا فيها وقال
تعالى:
(1/196)
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} وقوله
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى} [أي وكان النبي عندها] وقال: {مَا زَاغَ
الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وروى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما
- " أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه مرتين " وهذه
الجملة إذا تصورت أسقطت الشبهة التي تعتري من لم يتصور الحقائق
فاحتاج إلى رفع الأخبار الصحيحة والآثار الواضحة التي هي كأن
عليها من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداً وليس قوله
تعالى إخباراً عن موسى - عليه السلام - في قوله: {قَالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} كما ظنه بعض الناس أن ذلك سأله لأن
قومه كلفوه سؤاله أن يدركه محسوساً في الدنيا وكان يعلم أن ذلك
محال، فإنه عليه السلام منزه عن أن يسئ لإساءة قومه، ويتجاهل
اتباعاً لجهلة تباعه، وإنما سأله هو الحالة التي كانت للنبي -
صلى الله عليه وسلم - مرتين، وهذه إشارة يمكن مع الاستعانة بما
تقدم آنفاً أن يعرف معناه إلى أن ينتهي إليه، فنشرحه شرحاً
شافياً - إن شاء الله -، وأما الجهر: فالظهور لحاسة البصر أو
حاسة السمع، فمن حاسة البصر، قيل: رأيته جهاراً وتجاهرواً
بالأمر، وأجهرت فلاناً وفلان يجهر بالمعاصي، وجهرت البئر أظهرت
ماءها ومنه اشتق الجوهر، لكون أكثره ظاهراً للحواس فيمن لم
يجعله منقولاً عن الفارسية، ومن حاسة السمع، قيل: جهر فلان
بقراءته، وكلام جهير، وهو جهوري الصوت والصاعقة والصاعقة
يتقاربان إلا أن الصقع يقال في أصوات الأجسام الأرضية، والصعق
فيما يكون من الجو والسماء وقال بعض أهل اللغة: الصاعقة
(1/197)
على ثلاثة أوجه، الموت: لقوله: {فَصَعِقَ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} وقوله:
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} والثاني: العذاب لقوله:
{أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}
والثالث نار تسقط من السماء لقوله {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ
فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} وهذا سوء تصور، لأن الصاعقة هي
الصوت الشديد على ما تقدم، ثم قد يكون منه الموت تارة والعذاب
تارة وتصحبه النار تارة، فإذا الموت، والنار والعذاب من يستفد
من لفظ الصاعقة ويجب أن لا يلتبس علينا المعنى الذي وضع له
اللفظ بالمعنى الذي يتبعه ويقتضيه، وليس بموضوع له بالقصد
الأول، وهذا باب قد [يقع فيه السهو كثيراً على بعض ناقلي
اللغة] وقد أحكم في غير هذا الكتاب، وقد بين الله تعالى في هذه
الآية جهلهم بالباري وسؤالهم منه ما لا يصح سؤاله - تنبيهاً أن
الجهل يرد بالإنسان أن يعتقد في الباري ما لا يصح عليه، ويرغب
إليه بما لا يجوز أن يرغب به إليه وقد نبه على ذلك بأية أخرى
تسكينا للنبي - عليه السلام - فيما سألوه جهلاً منهم بقوله -
عز وجل - {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى
أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}
الآية ..
(1/198)
|