تفسير الراغب الأصفهاني

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

قوله - عز وجل -

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآية (56) - سورة البقرة.
البعث إرسال المبعوث عن المكان الذي فيه، لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المعلق به، فقيل: بعثت البعير [من] مبركه، أي: أثرته، وبعثته في السير، أي: هيجته، وبعث الله الميت: أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال، وكل ذلك واحد في الحقيقة، وإنما اختلف لاختلاف صور المبعوثات، والموت حمل على المعروف وحمل أيضا على الأحوال الشاقة الجارية مجرى الموت، وليس يقتضي قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} انهم ماتوا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} لكن الآية تحتمل الأمرين، وحقيقة ما كان إنما يعتمد فيها على السمع المتعري عن الاحتمالات والكلام في {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قد تقدم، ونبه بالآية على أنه تعالى ينقذ من الشدائد عبده حالاً فحالاً تنبيهاً له من غفلته وإليه أشار بقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} ..
وقوله - عز وجل -:

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآية (57) - سورة البقرة:
الظل في الحقيقة عدم الصبح وسمي سواد الليل ظلاً لعدم الصبح فيه والظلة كالصفة، والمظلة آلة يطلب بها الظل، و " أظل فلان علينا حقيقته " ألقى ظله علينا لدنوه منها واستعير الظل للمكان الذي فيه النعمة تصوراً له في اليوم الصائف حتى قيل: فلان في ظل فلان، وقد أشار ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن [الغمام] ههنا فيض الباري - عز وجل - وتوفيقه وإحسانه، فقال: هذا الغمام

(1/199)


الذي يأتي الله فيه المذكور في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وهو الذي جاءت فيه الملائكة فيه يوم بدر وهذه إشارة منه عجيبة وأما المن: فمصدر من، أي أنعم وأصله من: مننت أي قطعت والمنة تتصور على وجهين، أحدهما: النعمة المقطوعة عن المنية، وعلى ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " وارغب لك رغبة من المال " أي اقطع، والثاني: السبب الذي يقطع الشكر ويحرمه، وهو المعنى بقوله: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} وبقولهم: المنة تهدم الصنيعة والسلوى أصله ما يسلى الإنسان، ومنه السلوان والتسلي، وقال مجاهد: المن صمغة، وقال قتادة، وهو مثل الثلج، وقال الربيع: شراب كالعسل، وقال السدي: هو الزنجبيل، وقالوا: السلوى: طائر كالسماني، وأما قول ابن عباس - رضي الله عنهما - المن الذي يسقط من السماء على الشجر فيأكله الناس، والسلوى طائر، فقد قال بعضهم: إن ابن عباس - رضي الله عنهما - أشار بذلك إلى ما يرزق الله بني آدم من النبات واللحوم وسائر الخيرات، ودل على ذلك بهذين المثالين، قال وعلى هذا قول غيره إنما هو مثالات ..
وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} قد تقدم الكلام في الرزق، وأنه بالنظر الخاصي ليس يتناول الأعراض الدنيوية فقط، بل جميع ما خولنا ومكننا منه من النعم الثلاث النفسية والبدنية والخارجية ولم يرد بالطيب المستطاب بحاستي الذوق والشم، بل المستطاب من كل وجه محسوساً ومعقولاً وعاجلاً وآجلاً، والطيبات من الطعام هي المتناولة بحكم العقل والشرع من حيثما يسوغ تناوله في وقت ما يحتاج إليه [إلى تناوله وبقدر ما يحتاج] غير مسرف فيه ولا مشتغل به عما خلقنا لأجله ومتى تؤول على هذا الوجه يكون طيباً على الإطلاق وإلا فإن طاب من وجه خبث من وجه وعلى ذلك

(1/200)


قوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} وقوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وإذا عرف هذه الجملة علم أن من قال الطيبات اللذيذات نظر نظر حس، ومن قال الحلال والحرام نظر نظر معقول، وقوله: (وما ظلمونا) لما كان الله ذكر أفعالاً تجري مجرى معاملات بينه وبين العباد كمعاملة العباد بعضهم مع بعض، من نحو الاستقراض في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} والابتياع في نحو: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} ووصف نفسه بشكره لهم كشكرهم له ومحبته لهم كمحبتهم له ونصرته لهم كنصرتهم له، وموالاته لهم كموالاتهم له، وذكر مخادعته لهم كمخادعتهم له تعالى الله عن القبائح وسائر ذلك من الأفعال التي تجري بين المتكافئين بين تعالى أنه لا يعتقدن [به] معتقد أني إذا فعلت به فعلاً حسناً مما إذا فعله إنسان بآخر ولم يقابله بمثله كان ظلماً منه له أن يكون قد ظلمني في ذلك، ولكن قد ظلم نفسه وضيع حظه، إذ هو منزه أن يلحق نقيصة، إذ قيل: كيف يعلق قوله: (وما ظلمونا) بما تقدم قيل: معناه: قلنا لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فخالفوا، وما ظلمونا بمخالفتهم، وفي الآية تحذير لنا من كفران النهم وتلقيها بالبطر، وأن ما تعامله به من إساءة وإحسان فعائد علينا منافعه ومضاره ..

(1/201)


وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

قوله - عز وجل -:

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} الآية (58) - سورة البقرة.
الدخول والولوج والتفحم والتوغل متقاربة، لكن الدخول عام، والولوج الدخول في مضيق والتفحم دخول في شدة، والتوغل في مشتبك شجر، وأوردت الإبل دخالاً إذا تداخلت في الورود وفلان دخيل في القوم، وفيه دخل كناية عن الفساد، ودخول في مغمرة بالكلام، والدخل طائر صغير سمي بذلك لدخوله.
خلال الشجر الملتفة، والحجر الضيقة، والقرية من قريت الشيء جمعت، وقيل أصله قرية، والقرى مجمع الماء، فكل بقعة يجتمع فيها الماء والأبنية قيل قرية، والمقرى للحوض، والقرى للحوضن والمكيلة، و (حطة) فعلة من حططت وقرى نصباً ورفعاً، وبالنصب قيل هو مفعول بها نحو: قلت كلمة طيبة، وقيل هي في موضع سؤال أي: حط عنا ذنوبنا، نحو غفراً لنا، وبالرفع قيل هي حكاية، كأنه قيل: ما نسأله حطة، وقيل معناه هو مغلم تحطون فيه رحالكم، والغفر ستر بحائل ومنه المغفر للبيضة والغفارة لخرقة يغطي بها الرأس ولما تلف على سنة القوس، وغفر المريض " نكس كأنه غطى المرض على عقله أو على صحته، وغفر ذنبه استعارة في الأصل، كقولهم: " ليست عليه ذيلي، والخطايا على ضروب أحدها أن يريد غير ما يحسن إرادته ويفعله فهذا هو الخطأ التام [من كل وجه] المأخوذ به الإنسان والثاني أن يريد ما يجوز فعله، لكن وقع منه خلاف ما أراد فيقال:

(1/202)


أصاب في الإرادة، وأخطأ في الفعل، وهو المعنى بقوله: عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، وقوله: (من اجتهد فأخطأ فله أجر)، والثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه، فهذا مذموم لقصده وغير محمود على فعله، وجملة الأمر أنه يقال لمن أراد شيئاً فأنفق منه خلافه أنه أخطأ، وإذا وقع منه، كما أراده أنه اصاب الخطأ ويقال لمن - فعل فعلاً لا - حسن أو أراد إرادة لا - حسن أنه أخطأ ولهذا يقال - أصاب فأخطأ الصواب، وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ، فإذا هذه اللفظة مشتركة كما ترى، مترددة بين معاني يجب لمن يتحرى الحقائق تأمله، فهي مشكلة جداً، وقال بعض أهل اللغة: يقال خطئ إذا أصاب ما أراده من الخطأ، وأخطأ إذا أراده ولم يصبه، والحسن سقال لما يألفه البصر أو تألفه البصيرة، وأحسن إذا فعل ما استحسنه أحد هذين، وقد تقدم أن الإحسان زائد على العدالة، لأن العادل هو الذ يفعل ما إذا أخل به تلحقه المذمة، والمحسن من زاد على ذلك، ولذلك قيل: " عدل الله كله إحسان " وورد في التفسير أنهم أمروا بدخول بيت المقدس من باب القبة منحنين، وقيل ساجدين، وأن يستغفروا، وذكر بعض المحققين أن الإشارة مع إرادة الظاهر بدخول القرية إلى الدخول تحت حجر الشريعة، وبالأكل إلى تحري ما يبلغهم إلى العيش الرغد.
وبدخول الباب سجداً سلوك الاستقامة على التذلل والتخضع، وبقوله: (حطة) إلى الاستغفار قولاً وفعلاً طلباً الذنوب، وقال بعضهم: الإشارة به إلى التحقق بالعلم الذي أتاهم به موسى - عليه السلام - وتناولهم منه والتمسك به فهو الحلال الحلو الذي يتناول بلا خطر، إذ إن جميع المتناولات في

(1/203)


فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

تناوله مزاحمة البعض بعض ومنع الغير على وجه آلاء العلم، فإنه يمكن لكل واحد أن يتناول كل جزء منه بلا منع منه للآخر، وأمر بسلوك طرقه على ما يجب، وذلك بأن لا يقدم ما يجب أن يؤخر أو يؤخر ما شأنه أن يقدم، وعلى ذلك قوله - عز وجل -: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، والإشارة بالقرية إلى العلم كإشارة النبي - عليه السلام بالمدينة إليه حيث قال: " أنا مدينةُ العلم وعليَّ بابها "، وهذان القولان يتقاربان، فإن العلم والعمل يتلازمان، وبهما يتم الإيمان، لكن الأول نظر إلى المنتهى الذي هو العمل، والثاني نظر إلى المبدأ الذي هو العلم، وبحسب هذه الآية قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} ..
قوله - عز وجل -:
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

الآية (59) - سورة البقرة:
التبديل والتغيير يتقاربان، لكن أكثر ما يقال التبديل في شيء يجعل مكان آخر، والتغيير في حالة للشيء تغير كالماء الحار إذا جعل بارداً، وقيل: الأبدال من الناس هم قوم يجعلهم الله مكان آخرين ممن هم [المعنيون من العالم] الذين بدلوا أحوالهم البهيمية بالأحوال الملكية حسب الطاقة، والرجز: الرجس والنجس يتقاربان معانيها بتقارب ألفاظها نحو: السراط والزراط، والبراق والبساق، وأصل ذلك لما يعافُ ذوقاً أو شماً أو عقلاً أو شرعاً، فالكريهُ بالعقل والشرع يعبر عنه بالخبيث والقذر ونحو ذلك، كما يعبر عن ضده بالطيب والنظيف، وعلى ذلك قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، وقوله

(1/204)


تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، فإن بعض ذلك كريه بالطبع، وبعض كريه بالشرع، وسمي العذاب رجزاً في قوله: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ}، ورجساً في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}، ومن قال: ليس الرجس النتن، فقد زصف الله الخمر بذلك، وهي طيبة الرائحة، وقد وصف الله تعالى [خمراً] في الجنة باللذة، [فإن هذا القائل] بعيد التصور للوهمات فضلاً عن المعقولات، وهذه الجملة إذا تصورت علم أن الكسائي لما قال: الرجس النتن، والرجز العذاب، والزجاج لما قال الرجس قد يجئ للعذاب كله قريب، وإنما اختلافهم لنظرهم إلى مواقع الكلمات لا إلى موضوعها في أنفسها، وكونها مستعارة من المحسوس للمعقول، وأما تبديلهم، فقد قيل إنه قيل لهم: قولوا حطة، فقالوا استهزاء حنطة، وقيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} فدخلوا مقعين على أستاهم، والإشارة بلذك في الجملة أنهم غيروا ما شرع لهم ولم يراعوا أمر الله تعالى، فأنزل الله بهم عليهم العذاب، وتخصيص قوله: {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} هو أن العذاب ضربان، ضرب قد يمكن على بعض دفاعه أو يظن أنه يمكن فيه ذلك، وهو كل عذاب على يد آدمي أو من جهة المخلوقات كالهدم والغرق، وضرب لا يمكن ولا يظن دفاعه بقوة آدمي كالطاعون والصاعقة والموت، والوحي وهو المعني بقوله {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ}
إن قيل: لم قال: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: (فأنزلنا عليهم) مع أنه كان أوجز؟ قيل: قصداً إلى

(1/205)


وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

أن يبين أن إنزال الرجز كان لظلمهم لا للإبدال فقط، فإن الإبدال بعد الظلم، ثم بين بقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أن ذلك الظلم الذي تعاطوه كان فسقاً منهم، " والله الموفق " ...
قوله - عز وجل -:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}

الآية (60) - سورة البقرة.
الاستسقاء طلب السقي أو الإسقاء، فالسقي أن يجعل له ماء يشربه، والإسقاء التعريض للماء، وجعله له ليتناوله منتى أراد، فهو أخص معنى من السقي، والسقي اسم مفعول نحو النقض والنكث، فيقال للماء سقي، وللأرض التي يجعل فيها الماء سقياً، والعصا اصله من الواو، بدلالة قولهم عصوته نحو هروته إذا ضربته بهما، وقيل عصيته بالسيف، وعصى فلان أصله أن يتناول العصا فيضرب بها، ثم كثر فعبر به عن الخارج من الطاعة، فصار العصا اسماً للطاعة حتى قيل: شق فلان العصا، ولما كانت عادة المسافر ملازمة العصا قيل: ألقى فلان عصاه إذا ترك السفر ...
والانفجار والانبجاس، والانصداع والانشقاق يتقارب، لكن الانشقاق عام، والانصداع أكثر ما يقال في الأشياء الصلبة.
والانفجار في الأشياء اللينة، ومنه " فجرة الوادي " للمكان الذي ينبعث منه الماء، واستعير للخروج عن خطر الشريعة لتصور الفاجر بصورة الماء المنفجر من الحوض، واستعير الانفجار والانصداع والانشقاق لظهور الفجر، وقولهم: فَجَرَ أي كَذَبَ، هو استعمال لفظ عام في موضع خاص، فإن الكذب بعض الفجور، إذ قد يكون الفجور قولاً وفعلاً، والانبجاس يقارب الانفجار، إلا أن الانبجاس لا يكون إلا واسعاً، والانفجار يستعمل في الضيق والواسع، فكلُّ انبجاسٍ: انفجار، وليس

(1/206)


كل انفجار انبجاساً، فإذا صح أن قيل ههنا: " انفجرت "، وفي غيرها: " انبجست " لأن العالم يستعمل أبداً مكان الخاص، والمشرب مكان الشرب، وسمي الشعر على الشفة العليا والعروق التي في باطن الخلق شارب لتصورهما بصورة الشاربين، واستعير الشرب والشبع لما يولج في المصبوغ، فقيل: ثوب مشرب ومشبع صبغاً، و " أشربت فلاناً كذا " مكنته في نفسه، وعلى ذلك {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} والعبث والعثي يتقاربان نحو " جذب " و " جبذ "، يقال: عثى عثا، وعثى يعثوا عثوا، وعاث يعيث عيثاً، إلا أن العيث أكثر ما يقال فيما يدرك حساًَ، والعثو فيما يدرك حكماً،
فإن قيل: فما فائدة قوله {مُفْسِدِينَ}، والعثو ضرب من الإفساد، وقيل: قد قال بعض النحويين إن ذلك حال مؤكدة، وذكر ألفاظاً مما يشبهه، وقال بعض المحققين، " إن العثو وإن اقتضى الفساد فليس بموضوع له، بل هو كالاعتداء، وقد يوجد في الاعتداء ما ليس بفساد وهو مقابلة المعتدي بفعله، نحو: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وهذا الاعتداء ليس بإفساد، بل هو بالإضافة إلى ما قوبل به عدل، فلولا كونه جزاءًَ لكان إفساداً، فبين تعالى أن العثو المنهي عنه هو المقصود به الإفساد مكروه على الإطلاق، ولهذا قال: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}، وقد يكون في صورة العثو، والتعدي ما هو صلاح وعدل على ما تقدم، وهذا ظاهر، والمروي في الخبر أنه كان مع موسى - عليه السلام حجرٌ إذا نزلوا منزلاً وضعه فضربه بالعصاة فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً لكل سبط عين، وأنكر ذلك بعض الطبيعيين واستبعده، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله في

(1/207)


تغيير الطبائع والاستحالات الخارجة عن العادات، فقد ترك النظر على طريقتهم، إذ قد تقرر عندهم أن حجر المعناطيس يجر الحديد، وأن الحجر المنقر للخل ينفره، والحجر الطلاق يحلق الشعر، وذلك كله عندهم من أسرار الطبيعة، وإذا لم يكن مثل ذلك منكراً عندهم، ممتنع أن يخلق الله حجراً يسخره لجذب الماء من تحت الأرض، وقال بعض الناس: " إن في الآية مع هذا المعنى الظاهر إشارة إلى معنى آخر دقيق، وهو أنه أريد بالعصا السياسة، وذلك يكثر في استعمالهم نحو قوله - عليه السلام: " لا ترفع عصاك عن أهلك " و " شق فلان العصا " إذا خرج عن السياسة المشروعة، وأريد بالحجر إسرائيل الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، وكان موسى - عليه السلام طلب لهم مداواة تعم جميعهم العالم والجاهل منهم " وعموم المطر للبقاع العامرة والغامرة، فأمره الله تعالى أن يسوسهم سياسة ظاهرة بالعلوم والأعمال التي هي حمل الإسلام والإيمان وهو اثنتا عشرة خصلة التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبرائيل [عليه السلام] ستة منها الإسلام، وهي: " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة والزكاة، والصيام والحج، وستة منها وهي: " الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره "، وذلك أن هذه الأركان الاثنى عشر يتشارك في أصولها المكلفون وإن

(1/208)


اختلفت فروضهم في أحكامها وفروعها، وقيل أن " استسقاء موسى - عليه السلام - لقومه هو طلب علوم لهم تعمهم وتقلهم من حيث لا يحتاج فيه أحد إلى الاستعانة بالآخر، بل يجري مجرى المطر " العام للغني والفقير، فبين الله تعالى أن ذلك ليس من الحكمة، إذ قد جعل الدنيا على تفاوت بين بينها، ولذلك قال:
{قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وأمره أن شرع لهم بالسنة الأسباط الأثنى عشر أنهاراً من العلوم يتناول كل فرقة على قدر منزلته واستحقاقه من مشربه، وقيل: إن موسى - عليه السلام - طلب لهم العلوم الموهبية وهي الحكمة الحقيقية التي نبه عليها الخضر حيث قال له موسى عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}، فبين الله تعالى له أن منزلة (بني إسرائيل) تقصر عن إدراك ذلك، وأمره أن يأخذهم بالعلوم والأعمال الظاهرة، وذلك هو الاعتقادات والعبادات والمعاملات والمزاجر التي قد بنيت عليها الشرائع كلها ولكل واحد من ذلك ثلاثة منازل منزلة الظالم والمقتصد والسابق، وهو العامة والجامة والخاصة، فالعامة تؤخذ منها بالقهر السلطاني، والجامة بالقهر العلمي والخاصة بالقهر اليقيني، فهذه اثنتا عشر خصلة من استكملها بلغ منزلة من وصفهم الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} ووصف به أصحاب الكهف في قوله تعال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}، الآية، وهذه الأقوال محققة في أنفسها وإن لم تكن مقصودة في الآية والله أعلم.

(1/209)


وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

قوله - عز وجل -:

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} الآية: (61) - سورة البقرة.
الصبر الحبس على المكروه، وذلك ضربان: أحدهما: حبس الغير، فيتعدى نحو: صبرت الدابة، وصبرت يمينه أي: حلفته بالله حلفة لا خروج لها منها، والثاني: حبس النفس، ولا يتعدى في اللفظ، وهو حبس النفس عما يقتضيه الهوى أو على ما يقتضيه " الهوى " والعقل، ويختلف مواقع الصبر، وربما خولف بين أسمائها بحسب اختلاف مواقعها فإن كان في مصيبة يقال له: صبر لا غير وضده الجزع وإن كان في محاربة سمي شجاعة، وضدها الجبن وإن كان في نائبة مضجرة، سمي " رحب الصدر " وضده " ضيق الصدر " والضجر والتبرم وإن كان في إمساك [النفس فضولات العكس، سمي قناعة وعفة وضدها الحرص والشره وإن كان في امساك] كلام في الضمير سمي كتماناً وضده الذل والإفشاء ثم الصبر ضربان: نفسي وبدني فالبدني: أكثر لأخساء الناس والنفسي: للأشراف ولذلك قال الشاعر:
والصبر بالأرواح يعرف فضله ...
صبر الملوك، وليس بالأجساد
والطعام ما يغتذي به مأكولا كان أو مشروباً، وفي المشروب قالك {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} ورجل طاعم لمن يطعم، ويتجوز به لمن حسن حالة في المطعم، ويقال: قوس مطعمة ويعير مطعم ومطعمنا الباري لبرئته كل ذلك تصور أنها تطعم صاحبها، والواحد يقال على أوجه من حيث الجنس

(1/210)


فيقال: الإنسان والفرس واحد، أي من حيث الحيوانية، وواحد من حيث النوع، يقال زيد وعمرو واحد، أي من حيث الإنسانية واحد من حيث الشخص، وإن كان ذا أجزاء كثيرة، يقال: رجل واحد، وواحد من حيث الشرف، نحو قولهم: واحد دهره، وواحد من حيث العدد، وهو مبدأ العدد بمعنى أنه لو ارتفع ارتفعت الأعداد، [ولو ارتفعت الأعداد] لم يرتفع الواحد بها، فالواحد كيف ما أدرته وأجريته لم يزد فيه شيء ولم ينقص، فإنه يحفظ ذاته، ولذلك قيل: إن الواحدة في العدد أقرب الأشياء إلى معرفة وحدانية الله تعالى
فإن قيل: كيف قال: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}، وكان لهم المن والسلوى؟ قيل: إن ذلك إشارة إلى مساواته في الأزمنة المختلفة، كقولك فلان يفعل فعلاً واحداً في كل يوم وإن كثرت أفعاله إذا تحرى طريقة واحدة وداوم عليها، والدعاء أعم من النداء، فإن النداء يقال فيمن يكون بعيداً أو في حكم البعيد والدعاء فيه وفي القريب، وقوله: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} ذكر جواب الدعاء، ولم يذكر المطلوب في الأول لكونه معلوما كقولك: قل لفلان يعطني كذا، وتقديره: قل له أعطني يعطني، والنبت والنبات يقال لما ينبت الله ولمصدر نبت، وقد يقال ذلك لذوي الساق من الشجرة، وأنبت الغلام إذا راهق على طريق الاستعارة ولنبات عانته، والبقل مالا ينبت أصله ولا فرعه في الشتاء، وأبقل المكان: صار ذا بقل وتبقلت تناولته وبقل وجهه استعارة، والفوم: الزرع، وقيل: الحنطة خاصة، وقيل: الثوم، والثاء والفاء يبدل أحدهما من الأخرى نحوه جدث، وجدف، ومغافير، ومغاثير، وأدنى أي أوضع، ويعبر عن الوضيع بالدني، والخير يقال على ضربين: أحدهما الخير المطلق وهو الشيء النافع الحسن الملذ وضده الشر المطلق وهو الضار القبيح المؤلم، والثاني: الخير المفيد، وهو ما يحصل فيه أحد الأوصاف الثلاثة، فيصح أن يوصف بالخير مرة والشر مرة على نظرين مختلفين، نحو أن يقال المال خير والمال شر، ولأجل أن الخير المطلق هو ما جمع الأوصاف الثلاثة،

(1/211)


وهي غاية ما يتحرى ويطلب، قيل الخير: هو الذي يطلبه الكل، والشر هو الذي يهرب منه الكل، فإن ما جمع الحسن واللذة والنفع يرغب فيه الكل، وما جمع منه أضداده الثلاثة يهرب منه الكل، والمصر: اسم لكل بلد عظيم مجموع الأقطار والحدود، وهو في الأصل اسم للمصور أي المضموم بالحدود نحو النقص والنكث للمنقوص والمنكوث، وعبر عن الحد بالمصر في قول الشاعر:
وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به ....
بين النهار وبين الليل قد فصلا
من حيث إن الحد معتبر فيه، ومصرت الناقة جمعت ضرعها بإصبعين للحلب، ولما كان خروج اللبن على ذلك قيل غير مصور لقليلة اللبن، و " فلان مصور " أي بخيل يعسر إخراج الشيء منه تشبيها بذلك، فمصر ههنا قيل هو البلد المعروف، ولذلك قيل هو في قراءة أبي - رضي الله تعالى عنه - بغير تنوين، وقيل: عنى به مصرا من الأمصار، والذلة تقال على وجهين، على الهون وقريء: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} والمسكنة: الفقر الذي يسكن الإنسان عن التصرف، ومعنى {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ} أي ألزمت وأوجبت - تشبيها بضرب الخيمة على من فيها والإحاطة به، و " باؤا " أي احتملوا، وأصل ذلك من البوأ أي المساوية، فباء فلان بكذا تنبيه أنه تحمل مقدار ما يساوي وقوته، والمباءة: المنزل في المستوى، وذلك إذا لم يكن ذا عد، وبين الله تعالى في هذه الآية أنه لما اختار الله لهم ما يتبلغون به، أبوا إلا الميل إلي القاذورات وما فيه مراعاة القوة

(1/212)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

البهيمية، والعناية بتربيتها فقال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} أي أخس بما هو خير مطلق، ثم قال: {اهْبِطُوا مِصْرًا} وذلك على نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} فكأنه قيل: إن لم ترغبوا فيما اخترته لكم، وفيه خلاصكم، فشأنكم في قصد المكان الذي لا يعدم فيه ما ترمونه، وذكر ثلاثة أحوال كل واحدة كالمعلول للأخرى، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي حصلت لهم هذه العقوبة التي هي الذلة والمسكنة والغضب من أجل كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين، وحصل لهم الكفر، وقتل النبيين بالعصيان والاعتداء، وذلك أنه كما أن الخيرات صغارها سبب لتحري كبارها، كذلك الشرور صغارها سبب لارتكاب كبارها، فبين أنهم لما عصوا وتعدوا، أدى ذلك بهم إلى الكفر وقتل الأنبياء، وأدى ذلك بهم إلى أن ألزموا الذلة والمسكنة، وغضب الله عليهم، وفيها تنبيه لنا أن من طلب لنفسه غيره ما أثره الله له، فقد خرج من التوكل بل قد تعدى فقد قيل: (ومن لم يهتد بما يختاره الله له، لم يهتد بما يختاره لنفسه)، ولهذا قيل في الدعاء: " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأكلني كلاية الوليد في المهد ".
قوله- عز وجل:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية: (62) - سورة البقرة
الهود: قبل التوبة، لقوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تبنا، ومنه أخذ اليهود وقيل: أصل اليهود ويهدوا منقول عن السريانية، وهو أقرب وهاد فلان إذا تحرى طريقتهم في الدين، والاسم العلم قد يتصور منه [معنى] ما يتعاطاه المسمى به والمنسوب إليه ثم يشتق منه، نحو قولهم تفرعن فلان، إذا تحرى في فعله الجور الذي كان يتعاطاه فرعون، و " تطفل فلان " إذا فعل فعلا

(1/213)


طفيل في كونه وارثاً أو فاعلا في الدعوات، وقالوا: " لاط فلان وتلوط " إذا فعل فعل آل (قوم) لوط، وهذا أبعد من الأول، ولما كان دين اليهود قبل أن ينسخ دين حق قيل لمن تاب " هاد " حتى كثر ذلك، ولما تصور منه الحركة عند القراءة شبه بهم المتحرك طورا والماشي مشيا مخصوصا طورا، فقيل: تهود فلان في مشية " و " هود الرابض الدابة " إذا سيرها برفق وأما النصارى، فقد قيل: هو مما حكي عن المسيح {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} والأقرب ما قال بعضهم إن المسيح كان من قربة يقال لها نصران، فإما أن سموا باسمها، ثم جمعته العرب على نصارى نحو: " سكران " و " سكآرى " أو جعلوا منسوبين إليها ثم جمعت نحو: " مهرى " و " مهارى " و " الصائبون "، قيل: قوم كانوا على دين نوح، وذلك كان من أديان الحق قبل النسخ، وقولهم: " صبأ فلان " إذا اخرج من دينه إلى دين آخر يجوز أن يكون أصله فيمن كان يخرج إلى دينهم ثم صار يستعمل في كل دين كقولهم ألها لكي في أن أصله لحداد مخصوص، ثم صار يستعمل في كل حداد، ويكون أن يكون " صباعربيا " طابق ذلك، و " صباناب البعير " طلع، ومن قرأ: " صابئين " فقد قيل هو من: صبا يصبو، وقيل: أصله " صبا "، فترك همزه، والأجر والجزاء والثواب يتقارب، لكن الأكثر في الجزاء أن يستعمل في المعاملة بين الأكفاء أو فيما يجري مجراه بضرب من التلطف والأجر فيما يعطى الرفيع من دونه والثواب فيما يرجع إلى الإنسان من نفع عن فعله، وقد تقدم أن الإيمان يستعمل على وجهين: أحدهما: الإقرار بالشهادتين الذي يؤمن نفس " الإنسان " وماله عن الإباحة إلا بحق، وذلك بعد استقرار هذا الدين مختص به، كالإسلام، والثاني: تحري اليقين فيما يتعاطاه الإنسان من أمر دينه فقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} عنى به المتدين بدين محمد - صلى الله عليه وسلم - وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} عنى به المتحري

(1/214)


للاعتقاد اليقيني، فهو غير الأول ولما كانت مشاهير الأديان هذه الأربع، بين الله تعالى أن كل من تعاطى دينا من هذه الأديان في وقت شرعه، وقبل أن ينسخ عنه، فتحرى في ذلك الاعتقاد اليقيني، واتبع اعتقاده بالأعمال الصالحة، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وبين صحة ذلك ما روي أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لما ذكر له خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قصده وآمن به، وذكر حسن أحوال رهبان صحبهم، قال النبي - عليه السلام: " ما تواوهم في النار "، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم قال عليه السلام: " من مات على دين عيسى قبل أن يسمع بي، فهو على خير ومن سمع بي ولم يؤمن بي فقد هلك " وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وسعيد - رضي الله عنه - " إن هذا منسوخ بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام، وأن الله - عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي - عليه السلام -، فأما في وقته، فالأديان كلها منسوخة بدينه ....

(1/215)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

قوله - عز وجل:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

الآمة: (63) - سورة البقرة ".
الميثاق: عقد مؤكد بمين أو عهد، يقال: أوثقت كذا ووثقته ووثق به ثقة، ثم قيل: رجل ثقة، وقوم ثقة، فاستعير لفظها للموثوق به، والميثاق الذي أخذ منهم ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، وفي قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} وفي قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الآية، والطور: قيل هو اسم لجبل مخصوص وقيل: هو اسم لكل جبل ينبت شيئا، وطابق لفظه الطور أي الفناء و " طار يطور " لسرعة المشي، كما أن طار يطير للسباحة في الهواء، والقوة يستعمل تارة بمعنى القدرة، وتارة للتهيؤ الموجود في الشيء، نحو أن يقال: النوى بالقوة " نخلة "، أي متهيأ ومترشحآ أن يكون منه ذلك، ويستعمل القوة في البدن تارة، وهو الأظهر، وتارة في النفس، ولما كانت القوة للشدة الموجودة في الشيء سميت المفازة قوى - تصورا منها ذلك، ثم قيل: أقوى فلان، إذا صار في قوى، أي قفر، وتصور من حال الفقر الفقر، فاستعير الأقوى للافتقار استعارة قولهم أترب وأرمل، لذلك، فقوله: (خذوا ما آتيناكم بقوة) أي: تعاطوا ما فيه بعلم ودراية فالعلم هو الذي يقوي الإنسان ويبلغه المقصود في أمور الدين، وقال الضحاك: (بقوة): أي بطاعة الله، وذلك لما روى " أقوى الناس من أطاع الله واتقاه "، وقيل: " بقوة، أي بعمل ما فيه، وذلك صحيح بنظر فإن تعاطي كل جزء من العمل الصالح يقوي الإنسان على ما فوقه، وقد تقدم أن الذكر ذكران ذكر باللسان، وذكر بالقلب وأنه يتجوز به في الحفظ والمراعاة، فيقال: اذكر كذا، كما يقال في الترك: النسيان، وذاك أن الذكر سبب

(1/216)


ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)

لحفظ صورة الشيء في النفس، كما أن النسيان والترك سبب لانحداقها عنها، فمن قال: الذكر والنسيان ليسا من فعل الإنسان، فإنما نظر إلى الغاية التي هي السبب دون المبدأ الذي هو السبب ومن قال " قد يكون من فعل الإنسان، فإنما اعتبر السبب الذي عنده يحصل ويثبت صورة الشيء في النفس، وعنده ينحذف، ومعنى الآية: قلت إن موسى - عليه السلام - لما أتى بني إسرائيل بالتوراة متضمنة لأحكام شريعتهم، أبوا أن يلزموها، فأمر الله الملائكة أن ترفع الطور، فقيل لهم: خذوها وإلا طرح عليكم، وذلك قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} الآية
إن قيل: إن هذا يكون إلجاء، ولا يستحق به الثواب، قيل: لم يستحقوا الثواب بالالتزام، وإنما استحقوا بالعمل بها من بعد، فأما في التزامها فمضطرون، وقال بعض الناس: " عني برفع الطور تشديد الأمر عليهم وجعل ذلك مثلا "، وذلك بعيد، وقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}، الواو فيه للحال لا للعطف، لأن أخذ الوثاق كان بعد رفع الطور، وذلك نحو قول الشاعر:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا ....
مهلا فقد أبلغت إسماعي
قوله- عز وجل:
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

الآية: (64) سورة البقرة.
التولي: التفعل من الولاية في الأصل، ويقتضي تولى الأمر حصوله في أقرب المواضع منه، وإذا قيل: تولى عنه، فمعناه ترك التولي معرضا، فالتولي عن الشيء أخص من الإعراض، والافضال والإحسان والإنعام لا يكاد يفرق بينهما في التعارف سيما إذا وصف به الباري سبحانه وإن كان قد

(1/217)


يخلف في أصل الموضوع، ومن حيث الاشتقاق فالإفضال بذل مالا يجب عليه، أو ترك ما يجب له وذلك من الفضل وهو الزائد على العدل، والإحسان.
الفعل الحسن سواء كان واجبا وعدلاً أو نافلة وزائدا على العدل وأن كان في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية ما يقتضي ما يزيد على العدل والإنعام يقتضي ما يتنعم به المنعم عليه، ولا يكاد يقال في التعارف يقال فيما يقتنيه الإنسان في نفسه هذه، وفيما يعطي غيره تارة، فيقال فيهما: فلان ذو فضل، والثاني هو المراد ههنا، وقول أبي العالية والربيع: " إن فضل الله الإسلام "، ورحمته " القرآن "، فذلك بعض ما يقتضيه عموم اللفظ، ولكن في قولهما تنميه، إن هذا خطاب لمن كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - دون المتقدمين، والخاسر المطلق في القرآن هو الذي خسر أعظم ما يقتني، وذلك [نعيم] الأبد، وهو المذكور في قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، إن قيد: إن ذلك يقتضي أن لا فضل له تعالى على الذين خسروا [أنفسهم]، قيل: تخصيص من انتفع بذلك من حيث إنه قبله لا يقتضي إن لم يعرض فضله لغيره فإن فضله تعالى الديني معرض لكل أحد، لكن حق الإنسان أن يترشح بقبوله والانتفاع به، فمثله كمثل نعمته بالشمس والصوب اللذين وإن كانا عامين لا ينتفع بهما من زرعه من لم يرشحها للانتفاع بهما، كذلك فضله الديني والعقلي لا ينتفع به من لم يرشح نفسه بقبوله ..

(1/218)


وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)

قوله عز وجل:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}

الآية: (65) سورة البقرة
العلم ههنا بمعنى المعرفة ويتعدى ذلك إلي مفعول واحدة وحقيقة ذلك أن معارفنا ضربان.
أحدهما: حصول صور الموجودات في النفس وذلك كالمعرفة بذات الشيء، والثاني: الحكم بوجود شيء لشيء هو موجد له، أو الحكم بنفي شيء عن شيء هو منتف عنه، فالأول: يقال له معرفة وعلم، ويتعدى إلى مفعول واحد، وعلى ذلك قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}، وقوله: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} والثاني: يقال له علم، ولا يقال له معرفة، ويتعدى إلى مفعولين لا يصح الاقتصار فيه على أحدهما من حيث إن ذلك يقتضي إثبات حكم أو نفي حكم لمعلوم، والاعتداء مجاوزة الحق على وجه محظور قال الحسن: كان اعتداؤهم في السبت أخذهم الحيتان على جهة الاستحلال وقيل: حبسهم إياها في الشباك يوم السبت ليأخذوها يوم الأحد، والسبت في الأصل راحة بعد تعب، واستعمل في الشعر إذا حلق لهذا المعنى، وفي الجلد إذا أزيل عنه الشعر تشبيها به، وقيل للنعل " سبت "، أي مسبوت نحو نقض، ونكث، والسبات للنوم من ذلك، والسبت قيل جعل اسما للنوم من ذلك، وخسأت الكلب فخسأ، زجرته فانزجر وخسأ البصر من ذلك أي انقبض، وقوله {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي جعلناهم، فذكر القول ههنا تنبيها على سرعة جعله كذلك نحو قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ}، أي جعلنا له وبيان جعله الإنسان قردة وخنازير يحتاج فيه إلى مقدمة وهي أن الإنسان أتم ما أوجده الله تعالى في هذا العالم وأشرف، فإن الأعيان المبصرات بالقول المجمل أربعة، الجماد [وهو الجسم غير النامي]، ثم النبات وهو الجسم النامي، ثم الحيوان، وهو النامي

(1/219)


الحساس، ثم الإنسان وهو الحساس المروي، فللإنسان صورتان، مهما باين ما سواه إحداهما مدركة بالحاسة، وهو الشكل المخصوص، والثانية مدركة بالعقل، وهو ما خص به من قوة الفكر والتمييز والعقل، فالإنسان بهذه القوة يشابه الملائكة وبقوته الشهوية والعضبية يشابه البهائم، فصار واسطة بين القبيلين، وفيه تكمن من التشبيه بالقلبيلين، أما تشبيهه بالملائكة، فبإماتامة قوته الشهوية بقدر الطاقة وتربية قوته الفكرية وتعاطيه ما وصف الله به الملائكة في قوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وأما تبيهه بالبهائم، فبإماماتق قوته الفكرية وتربية قوته الغضبية والشهوية وتعاطيه ما وصف الله به الكفار، فقال: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} وقال: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}، فإذا ثبت ذلك، فمن اعتبر الصورة المعقولة قال: هذا مثل ضربه الله لهم كقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، وقوى ذلك بقوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} وإليه ذهب مجاهد ومن اعتبر الصورة الشكلية قال: جعلهم على شكل القردة والخنازير كذا روى عن ابن عباس - - رضي الله تعالى عنهما - والحكمة تقتضي الأمرين إدا تحرى بذلك ردع الكافة، فإن تغيير الصور المعقوبلة لا يعرفه إلا الخاصة هن أولي البصائر والعقول الراجحة وتغيير الصور الحساسة يشاركهم فيها العامة وأصحاب الحواس والدين لايرتدعون إلاً بما تدركه حواسهم فتبهرهم وغيرهم.

(1/220)


وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

قوله - عز وجل:

{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} الآية: (61) سورة البقرة.
النكال: العقوبة الرادعة على سبيل القهر والفضيحة المشهورة، وهو منقول عن نكل فلان عن كذا أي ارتدع، ومنه النكل للقيد ولحديدة اللجام ولكل ما ينكل به، والوعظ ردع بالعبارة والإحالة على الاعتبار، وقوله: (لما بين يديها) أي لما في زمانها، (وما خلفها) أي لن بعدها، ولما كانت عامة السياسات ضربين، قهرية وهي للعامة وذلك بالنكال ووعظية، وهي للخاصة وذلك بالقال ذكر الله تعالى أنه جمع في دلك الأمرين نكالاً لعامتهم وموعظة لخاصتهم وهم المتقون، فإن قيلت لم قال (لما بين يديها) ولم يقل لمن بين يديها؟ قيل في ذلك تنبيه على لطيفة وهي أن لفظة (ما) يعبر بها عن الأجناس من الحيوان وغيره ومن لا يعبر به مفرداً إلاً عن العقلاء، ولما قال في الجهلة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} استعير لهم لفظ ما تنبيها على ما ذكرنا، وعلى دلك كثير مما وضع ما وضع من في كلامهم، وبكشف ذلك قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، فجعلهم شر الدواب كما
جعلهم في الأولى أضل من الأنعام، وبهذا المعنى ألمَّ بعض المحدثين في قوله:
حولي بكل مكان منهم خلق ....
تخطي إذا جئت في استفهامهم بمن
وقال بعض الأدباء قوله: (وما خلفها) نصب وملفوف على الهاء في قوله: فجعلناها أي جعلنا هذه العقوبة وهو المسح وما خلفها من عذاب النار عقوبة (لما بين يديها) أي لذنوبهم المتقدمة [والله أعلم].

(1/221)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

قوله - عز وجل:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الآية: (67) سورة البقرة.
قد فرق العرب بين كثير من ذكور مشاهير الحيوان وإناثها في الأسماء فقالوا: رجل وامرأة وجمل وناقة وثور وبقره وعير وأتان، وجعلوا في عامة ذلك اسما يجمعها كالإنسان والبعير والحمار وربما جمعوها تحت أحد اسمي الذكر والأنثى كقولهم البقر والضبع وقيل: سمي البقر لأنه يبقر الأرض، أي يشقها، والأقرب أن يكون البقر أصلاً في الباب، ثم اشتق منه هذه الأفعال بحسب تصورها منه، فلما عرف من البقر هذا الفعل اشتق من لفظه بقر، وشبه به بقر فلان بطن فلان، وتصور انفعال من البقر ما فيه من البلادة، فاشتق منه بقر فلان إذا تبلد في الأمر تبلد البقر وتصور منه أسرار مضطرب، فقيل بقر إذا أسرع إسراعه، وقيل لجماعة البقر بقرنحو الحمير والكلاب، وقيل الباقر للبقر وأصحابها وعلى ذلك الخامل، وذلك كقولهم لابن وتامر في أنه اسم للبن وصاحبه لكن الباقر يستعمل لجماعة البقر منفردا، نحو قول الشاعر:
وما ذنبه أن عافت الماء باقره
والعوذ: الالتجاء إلى الغير والتعلق به، وعوذه إذا أرقاه منه، والعوذة اسم لما يعاذبه من الشر، وقيل: أطيب اللحم عوذه أي ما عاذ بالعظم وتمسك به، والجهل عدم العلم، وربما جعله أهل اللغة وبعض المتكلمين معنى مقتضيا للأفعال الخارجة على النظام، وعلى ذلك قالت العرب المجهلة للأمر

(1/222)


أو للأرض أو الخصلة التي تحمل الإنسان على الاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو به، أو على إيقاع الفعل على غير ما يجب، وقالوا: استجهلت الريح الغصن إذا حركته حركة شديدة، ويجب أن يعلم أن الجهل ضربان: أحدهما افتقاد العلم، والثاني تصور الشيء بخلاف ما هو عليه، وهو أعظم الجهلين، ولما لم يسم كثير من المتكلمين الضرب الأول جهلاً حدوا الجهل بأنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به، لكن لا كان افتقاد العقل يقال له جهل حتى يقال عاقل وجاهل، كما يقال عالم وجاهل صار عدم العلم مسمى بالجهل، والهزؤ مرح مع عيب وأما السخرية، فمعه تسخير بالفعل، ولهذا قال تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} وهو أن يجعله منقادا لك بضرب من الهزو، ولما قال موسى لهم: اذبحوا بقرة، واستطرقوا هذا الحديث، فقالوا لغباوتهم وقلة تثبتهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، فأجابهم بجواب مختصر متضمن لمقدمتين ونتيجة، فقال، {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فكأنه قال: الهازئ جاهل، والجهل منتف عنى فإذا لست بهازئ، وأخرج ذلك بقوله: أعوذ بالله مخرج منكر منقطع لما رمى به، فإن قيل كيف جعل الهازئ جاهلاً وقد يهزأ الإنسان وليس بجاهل؟ قيل: لما كان يقال لمن اعتقد قي الشيء خلاف ما هو به جاهل، ولمن فعل مالا يقتضيه العلم وإن لم يعتقد فيه خلاف ما هو به جاهل، والهازئ إما أن يهزأ، لاعتقاده أن ذلك يجوز أو لا يعتقد ذلك، ولكن يفعل مالا يقتضيه العلم، فيصح من هذا الوجه أن يقال هو جاهل، فإذا كل هازئ جاهل على أحد هذيان الوجهين.

(1/223)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)

قوله - عز وجل:

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} الآية (68) من سورة البقرة.
التبيين كالتعريف، إلا أن التبيين يقتضي إظهار الفضل بين الشيء وغيره، والتعريف قد يكون إظهار الشيء في نفسه من دون اعتبار بغيره واشتقاق ذلك من البين وهو المسافة بين الشيئين، وأصل الفرض قطع الحديد وهو أبلغ من الفرض، والمفراض والمقراض ما يقطع به الحديد، ونحوه وفرض الزند والقوس مستعار من ذلك وكذا فرضه الماء [للمقسم المحكوم به] وقيل لما أوجب وقطاع به الحكم فرض كفرض العبادة وما ألزم إعطاؤه من المال، وسمي ما يؤخذ في الصدقة من [الإبل والبقر والغنم] فريضته، والفارض من البقر يجوز أن يكون من هذا، لأن السائغ في الصدقة من سن البقر اثنان، التبيع والمسنة فالتبيع يجوز في حال دون حال والمسنة يصح بدلها في كل حال، فيجوز أن يكون سمى فارضا لهذا، وقيل فرضت البقر، وفرضت والبكر المتقدم على أمثاله في السن وبه سمي البكر، وأول نكاح وأول مولود وأول والد ووالدة، وقيل في البعير بكر، وفي الفواكه باكورة وبكل فلان في الحاجة إذا تعجل، وعلى ذلك قوله:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى
والعوان: الوسط بين السنين وهو المحمود لأنه بين الحالين وقد تجعل كناية عن المسنة بين

(1/224)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

النساء، فتذم به المرأة كما قال:
وإن آتوك فقالوا إنها نصف .....
فإن أمثل نصفيها الذي ذهبا
وقيل: حرب عوان تشبيهاً بالمرأة، واستعارة منها كاستعارة القناة والشمطاء وغير ذلك من الأسماء، وقوله: {لَا فَارِضٌ} أي غير فارض، وهو وصف أو خبر ابتداء مضمر، كذلك عوان، لكن الأجود في عوان أن يجعل خبر ابتداء مضمر، فقد كثر عن الفراء الابتداء به وذلك قصد منهم أن يكون خارجاً عن النفي في اللفظ كما هو خارج عنه في المعنى، وجاز أن يقال " بين ذلك "، وإن كان بين ذلك تضاف إلى شيئين لما كان ذلك عبارة عن الفارض والبكر في قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} زجر لهم عن المراجعة وتطلب العناد وتنبيه أن مراجعتهم تشدد الأمر عليهم وذلك كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له في الحج: العامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد ثم قال: (إئما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم على أنبيائهم) ..
قوله- عز وجل:
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}

الآية (69) سورة البقرة.
الصفرة لون مخصوص وعبر عن ذلك السواد بالصفرة، كما عبر عن الخضرة بالسواد، وذلك لكون الصفرة والخضرة سالكين إلي السواد، وقال الحسن.
الصفراء هنا سوداء، لكن استبعد ذلك لقوله: فاقع، والسواد يقال فيه حالك لا فاقع، ولفظة الصفر يتصرف على وجهين، ومنه قيل للنحاس صفر وليبيس البهمى صفار، والثاني: حكاية صوت وهو الصفر، وعنه قيل: صفر الإناء إذا خلا حتى

(1/225)


يسمع منه صفير لخلوه، ثم صار متعارفاً في الخالي، وقيل لخلو الجوف صفر وسعت العرب الصفر الذي هو الخلو حية الجوف من حيث انه يتألم به الجوف، وذلك أن العرق الممتد من الكبد إلى المعدة إذا لم يجد غذاء امتص أجزاء المعدة، فاعتقدت جهلة العرب أن ذلك حية في البطن تعض الشراسف، حتى نفى النبي- عليه السلام- ذلك بقوله: (لا صَفر)، والسرور مستبطن في الصدر، وأصله من السرو، والسرور والحبور والفرح والجذل والمرح يتقارب، لكن السرور هو الخالص المتكتم، وسمي بذلك اعتبارا بالأسرار، والحبور ما يرى خبره أي أثره في ظاهر البشرة، وهما يستعملان في المحمود، وأما الفرح، فما يورث أشرا وبطراً، ولذلك كثيراً ما يذم فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، وقال: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، والجذل بطر معه تزعزع، ولذللت قيل: " فرس جذل وجذلان "، أي نشيط، والمرح هو النشاط المفرط، فكأن السرور والحبور أكثر ما يكونان عن القوة الفكرية والفرح والجذل والمرح عن القوة الشهرية، ومن قال: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} أي تعجب، فعلى التوسع من حيث إن الإعجاب بالشر والسرور به كثيرا ما يجتمعان.

(1/226)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)

قوله عز وجل:
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}

الآية (70) سورة البقرة.
إن قيل: لم قال: ما هي؟ ولم يقل أي بقرة هي؟ أو كيف هي؟ وما يسأل به عن الأجناس، والأنواع، وإنما يسأل عن الأعراض بكيف وبأي؟ قيلت إنما قد يسأل به عن كل ذلك، فيقال: ما هذا الإنسان؟، أي ما حاله وما صفته، كما يقال كيف هذا الإنسان وأي إنسان هو؟ وكيف وأي لا يسأل بهما عن الأجناس والأنواع، والفصل بين ذلك أن لفظ ما من لفظة أي وكيف يجري مجرى الجنس من الأنواع، فكما يصح أن نعبر عن النوع بالجنس، فيقال للإنسان هو حيوان، ولا يصح أبو يعبر عن الجنس
بالنوع، فيقال لكل حيوان إنسان، كذلك يصح أن يعبر عن أي وكيف بما، ولا يصح أن يعبر لكن كل ما فيه ما بأي وكيف، وقرئ " تشابة " على لفظ الماضي، فجعل لفظ البقر مذكراً، وتشابه بالتخفيف على تقدير تتشابه، فحذف إحدى ألتاءين وقرى " تشَّابة " بتشديد الشين على إدغام التاء في الشين، وقرئ " يشابه " بالتشديد على الإدغام والتذكير والاشتباه أن يشبه البعض البعض، فيصعب التمييز بينهما، وروى أنهم لما قرنوا بالمراجعة الأخيرة قولهما: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} وفقهم الله لمعرفة
ما سالوا عنه ولترك التعنت، وقال النبي- عليه السلام- " والذي نفس محمد بيده لو لم يستثنوا ما بينتْ لهم أخر الأبد "، وفي ذلك حث، حيث قال الله تعالى لعباده على استجلأب توفيقه وضم لفظ المثنوية أي: مشيئة الله إلى كل ما يذكر من مستقبل الأمر كما قال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}

(1/227)


قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

قوله - عز وجل -:

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} الآية (71) سورة البقرة.
الإثارة.
البحث والكشف الشديدة ومنه ثار الدخان والغبار والقطاعن محثمها، والدم في وجه الإنسان والحصبة في البدن، وتورث الأمر، وقوله: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} صفة لقوله: ذلول، لأنه يراد نفي الإثارة عنها لا إثباتها لها، والحرث تذليل الأرض وتسهيلها للزراعة، ثم يتجوز به في الزراعة، ويكنى به عن النكاح وعن جميع المال، ويقال: دابة محروثة أي مذللة، والمحراث لما يحرث الزرع والنار، والمسلمة المتروكة سليمة من العاهات، وأصل ذلك من السلامة، والتسليم أصله بذل السلامة، وجعل
في التعارف لبذل المقاله المخصوصة لما كان ذلك في الأصل موضوعاً لبذل السلامة، ولما كان قوله السلام مقتضية لذلك، قال عليه السلام: " أفشوا السلام بينكم تدخلوا جنة ربكم " ولم يرد بذلك المقال دون الفعال وإن كان ظاهره المقال، ولهذا ضمن به الجنة، وقوله: {لَا شِيَةَ فِيهَا} أي، لا أثر بها يخالف معظم لونها، وهي فعلة من الوشى، واستعمل الوشى في الكلام بالمنسوج وحض التقول على سبيل النميمة بالوشاية والمجئ والإتيان يتقاربان، لكن المجئ كأنه يقال باعتبار الحصول والإتيان باعتبار القصد، ولذلك قيل للماء المجتمع حية، وللسيل القاصد أتى، وقوله: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} لا يتضمن أن ما جئت به من قبل كان باطلاً، وإنما أرادوا الآن جئت بما تحققنا المال مناً، وليس كما قال بعض الناس إن القوم كفروا بذلك، لأن كلامهم تضمن أن موسى لم يكن يأتي بالحق قبله، والنفي في قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} وإن دخل في لفظ " كاد "، فهو متناول لقوله يفعلون نحو: ما كان زيد

(1/228)


وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

يخرج، وتقدير ذلك كادوا يفعلون لتعذر ذلك عليهم وكثرة مراجعتهم، وقيل: (كادوا لا يفعلون) خشية الفضيحة.
وأما أنهم بكم اشتروا البقرة، وممن اشتروها فليس مما يفتقر إليه تفسير الآية وقال بعض الناس: في هذه الآية دلالة على فسخ الشيء قبل فعله، فإن في الأول أمروا بذبح بقرة غير معينة، وكان لهم أن يذبحوا أي بقرة شاؤوا، وفي الثاني والثالث أمروا بذبح بقرة مخصوصة، فكأنهم نهوا عما كانوا أمروا به من قبل وليس الأمر كذلك، فإن الأول أمر مطلق، والثاني والثالث كالبيان له لما
راجعوه ولم يسقط عنهم ذبح البقرة، بل ريد في أوصافها، وكشف عن المراد بالأمر الأول، وفي الآية دلالة على جواز تأخير بيان المجمل إلى وقت الحاجة ..
قوله- عز وجل:

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.الآية (72، 73) سورة البقرة.
ادارأتم أي تدافعتم، وأصل الدرء الاعوجاج، فالتدارؤ أن يعوج كل على الآخر بمخالفته له، وقال الخليل: كوكب دري، فقيل من الدرء أي تدافع الضوء، ودرأت عنه الحد منه، ووزن " ادارأتم " من الفعل تفاعلتم، أصله تدارأتم، فأريد الإدغام تخفيفاً، فأبدل من التاء دالا فسكن للإدغام، واجتلب لها ألف الوصل، فحصل على اتفاعلتم، وقال بعض الأدباء: ادارأتم افتعلتم، وكلما فيه من أوجه ...
أولاً: أن ادارأتم.
على ثمانية أحرفا وافتعلتم على سبعة أحرف، وثانياً: أن الذي يلي ألف الوصل تا، فجعلها دالاً، وثالثاً: أن ألذي يلي الثاني دال، فجعلها تاء، ورابعاً: أن الفعل الصحيح العين لا يكون ما بعد تاء الافتعال منه إلا متحركاً، وقد جعله ههنا ساكناً وخامسأ: أن ههنا قل دخل بين التاء والدال زائد، وفي افتعلتم لا يدخل دلك، وسادساً: أنه أنزل الألف منزل العين وليست بعين،
وسابعا: أن تاء افتعل قبله حرفان وبعده حرفان، وادارأ بعد التاء ثلاثة أحرفا وثامناً أن عين أفتعل في المستقبل مكسور، وبين " ادرأتم " في المستقبل مفتوح، وفي قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}

(1/229)


اعتراض متضمن لتمرد، وتنبيه أنه تعالى لا يخفى عليه خافية، وأن كل من عمل خيراً أو شراً، فإن الله تعالى لا يظهره على بعض الوجوه، وعلى ذلك روى " ما عمل عبد حسنة في تسع آبيات إلا أظهره الله تعالى، لقوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} ونظم هذه الآيات مشكل، فقد كان في الظاهر يقتضي أن يكون قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} متقدماً على قوله: (! از قال موسى لقومه ... )، لأن أمر موسى- عليه السلام- بذبح البقرة بعد التدارؤ، وفي قتل النفس والظاهر أن ذبح البقرة قد كان من
قبل، وبيان ذلك أنه قد قيل قولان: أحدهما: أن موسي- عليه السلام- قد أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة قبل الحادثة، فلذلك تعجبوا وقالوا: أتتخذنا هزواً، فلما ذبحوا البقرة اتفق حصول القتال، فقال موسى لا راجعوه: " اضربوه ببعضها "، وقيل: بل كان الأمر بذبح البقرة بعد وقوع التشاجر، وعلى هذا قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} ليس بمعطوف على قوله: (وإذ قال موسى لقومه)، بل هو في موضع الحال له، كأنه قيل: (واذكروا إذ قال موسى لقومه .. ) الآية ..
وذلك إذ قتلتم نفسا [فادارأتم فيها] أو إذ قتلتم نفسه كان ذلك، لكن اختصر، وفي قوله {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} اختصار، كأنه قيل " ليحى محي، وأنا بأي عضو ضرب، فقد قال مجاهد: بفخذها، وقال السدى: بمضغة من لحمها، وقال الفراء: بذنبها، وقال وهب: بأصغريها قلبها ولسانها، فظاهر الآية لا يقتضي تخصيص عضو، (من عضو) وقوله: {يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}، قيل: هو حكاية عن قول موسى-[عليه السلام]- لقومه، وقيل: بل هو خطاب من الله تلالي لهذه الأمة تنبيهاً على الاعتبار بإحيائه الموتى، وقد استبعد بعض الناس ذلك وماحكاه الله منه، وأنكر حصول ذلك الفعل على الحقيقة، وقال ذلك ممتنع من فعل الطبيعة، [وأيضا فإن ذلك لا يعرف فيه حكمة الشهية فأما

(1/230)


استبعاده ذلك من حيث الطبيعة]، فإنما هو استبعاد للإحياء والنشور، ولذلك موضع لا يختص بالتفسير، ومن كان ذلك طريقته، فلا خوض معه في تفسير القرآن، وأما الحكمة فيه فظاهرة، إذ هو من المعجزات المحسوسات الباهرة للعقول، وتخصيص البقرة، فإن كثيرا من حكمة الله تعالى لا يمكن للبشر الوقوف عليه، ولو لم يكن في تخصيص بقرة على وصف مخصوص إلا توفر المأمور
بذلك على طلبها واستيجاب الثواب في بذل ثمنها وجلب نفع إلى صاحبها لكان في ذلك حكمة عظيمة، وفي الآية تنبيه على أن الجماعة التي حكمهم واحد، يجوز أن ينسب الفعل إليهم وإن كان واقعاً من بعضهم، ولا يكون ذلك كذباً، كما أن الجملة المركبة من شخص واحد يصح أن ينسب إليها ما وقع من عضو منها، وذكر بعض الصوفية أن الله تعالى قصد بما ذكره لبني إسرائيل وإشارة إلى معنى لطيف، فإن في الأمر بذبح البقرة أمرا بتذليل.
القوة الشهرية، ولما لم ينتبهوا لمراد هـ، قالوا أتتخذنا هزواً.
وبين قوله {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} أن حق الإنسان أن يتحرى في إماتة شهوته وقت ما يزول عنه شره صباه، فلا يكون كبكر، ولم يلحقه حسوا لكبر، فيكون كفارض، ثم نبه بما ذكره من اللون أنه لا يحب أن يمنع النفس من إماتة شهوته كونها رائقة المنظر، بل يجب أن يميتها أعجب ما تكون إليه، ثم نبه بقوله: {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} أن النفس التي تحمل على تذليلها في العبادة هي النفس التي لم تستعبدها الدنيا ولم تتأثر بدنسها، ولم تتوسم بمقابحها، وطاهر الآية لا يقتضي ذلك، لكن مثله إذا حكى، فتصحيحه مفوض إلى فكرة قارئه ومتأملة، والله أعلم ..

(1/231)


ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

قوله - عز وجل -:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

الآية: (74) سورة البقرة.
قساً وحساً وعساًَ تتقارب معانيها- تقارب ألفاظها، فالقساوة تقال في الصلب الذي لا تخلخل فيه كالحجر ونحوه، وقيل: قلب قاس تشبيهاً به، وعسا إذا كان هدى معه عصيان فهو يقارب عصى، وحساً يقال فيما يتصلب، والصلابة تقال فيما في جوهره شدة، وأما الشدة فتقال فيما تعتبر فيه انضمام الأجزاء بعضها إلى بعض، ومنه قيل: شددته، وشد الشر الشيء واشتد، وقيل للعد والشد، كما يقال فيه القابض والتقريب والشدة تارة تقال في القوة الجسمية، وتارة في القوة النفسية، وقولهم: " بلغ فلأن
أشده "، أي حاله استمر مرير نفسه وجسمه، والنهر يقال لمسيل الماء الواسع، وللماء جميعا ولتصور السعة.
فيه يقال منه أنهرت فتقه، أي أوسعته، والنهار خص به السعة فيما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وألشق أن يجعل الشك شقين، وقيل للأخوين شقيقان، وللخلاف الشقاق، إذ هو ضد الائتلاف، والشقيقة في الداء تشبيهاً بذلك، ولهذا قيل له الصداع والخشية خوف عن تعظيم المخشى، وقد تقدم الفرق بينه وبين إخوانه والغفلة والسهو والنسيان يتقارب، لكن النسيان بانحذاف ذكر الشيء عن القلب والغفلة استتارة في بعض الأحوال اشتغالاً بغيره، والسهو يقاربه، إلا أن الغفلة أكثر ما يقال فيما تركته وحقه أن لا يترك، والسهو يقال فيه وفيما فعلته ولم يكن حقه أن يفعل، فإذا السهو أعم من الغفلة واستعمل لأحد الشيئين، وقول من قال هو للشك فنظر منه إلى بعض تفاصيله، فإن الشك لا يقيده او بالقصد الأول، فقد يقال: لقيت زيدا أو عمرو قصداً إلى الإجمال والإبهام، أو لعله عنابه التفصيل، وقود بين الله تعالى بالآية أنهم ارتكبوا ذنوباً قست بها قلوبهم بعد آيات مقتضية للين
قلوبهم من إحياء الفتى ومسخ الناس قردة وخنازير ورفع الطور فوقهم وأنها صارت في القساوة

(1/232)


بحيث إن قلت إنها كالحجارة قساوة صح بنظر، وإن قلت هي أشد من الحجارة صح بنظر، ثم ذكر حكماًَ كليا، فقال " وإن من الحجارة أي من القلوب القاسية التي هي كالحجارة، فذكر المشبه بلفظ المشبه به تحقيقا للتشبيه، كقولك: هم كالبقر ومن البقر ما يفعل كذا، أي من القوم الذين كالبقر، فكأنه قيل: وإن من القاسية قلوبهم من يراجع، فبعض يتفجر منه الأنهار، ومعناه حكمة بالغة كأنهار متفجرة، وبعض يتحصل منه نوع من العلوم يجري مجري الماء، وقد تقدم أن الماء يضرب به المثل في العلم، وبعض يحصل منه الخشية، ونبه بفحوى في الكلام أن هؤلاء المذمومين لم يحصل منهم شيء من ذلك فهم أحجار صلدة، وإنما قال: {لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ}، ولم يقل من اعتبار بلفظ الحجارة، وهذا الذي قلناه على قول من اعتبر هذه الأحكام في المشبه دون المشبه به، فأما من اعتبر ذلك في المشبه به دون الشبه، ففيهم من تعسف جدا في قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي من الحجارة،
ومنهم من قارب، قال أبو علي الجبائي: عنى لهذه الحجارة البرد الهابط من السماء، وبقوله: {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي بخشيته، وعنى بالخشية التخويف، لأن الخوف والخشية واحد، قال: " ولما كان نزول البرد تخوفا ألفه لعباده قال ذلك، ثم قال، وإنما قلت هذا، لأن الحجارة جماد فلا يصح منه الخشية، كما ترى [قال الشيخ أبو القاسم- أيده الله]- فهذا كما ترى، وقال البلخي: هذا على جهة التمثيل لا في الحجارة من الانقياد لأمر الله الذي لو كان من حي قادر دل على أنه حاش لله ...
، وقال بعضهم: وإن منها أي من الحجارة لما يهبط من أجل أن يخش الله العباد، وقال أبو مسلم {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، الهاء فيه راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة، أي من القلوب ما يخضع،

(1/233)


فيكون ذلك مستثنى من القاسية قلوبهم، {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ}.وقال مجاهد وابن جريح كل حجر تردى من رأس جبل فخشية الله نزلت به، وقال الزجاج: الهابط منها قد جعل له معرفة، قال: ويدل على ذلك قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وقال: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض إلى قوله: {وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}، وقد روي مثل هذا عن السلف ولابد في معرفة ذلك من مقدمة تكشف عن وجه هذا القول، وحقيقته، فإن قوما استسلموا لا حكى لهم من هذا النحو، فانطووا على شبهة، وقومي استبعدوا ذلك واستخفوا عقل رواته وقائليه، فيقال وبالله التوفيق إن قوماً من المتقدمين ذكروا أن جميع المعارف على أضرب، الأول: المغرفة التامة التي هي العلم التام وذلك لعلام الغيوب الذي أحاط بكل شيءعلماً، والثاني: معرفة متزايدة، وهي للإنسان، وذاك أن الله تعالى جعل له معرفة غريزية، وجعل له بذلك سبيلاً إلى تعرف كثير مما لم يعرفه، وليس ذلك إلا للإنسان، والثالث: معرفة دون ذلك وهي معرفة الحيوانات التي سخرها لإيثار أشياء نافعة لها والسعي أوليها واسترسال أشياء هي ضارة لها وتجنبها ودفع مضار عن أنفسها، والرابع: معرفة الناميات من الأشجار والنبات، وهي دون ما للحيوانات وليس ذلك إلا في استجلال النافع وما ينميها، والخامس: معرفة العناصر، فإن كل واحد منها مسخر، لأن يشعر المكان المختص به كالحجر في طلب السفر، والنار في طلب العلو ودلك له بتسخير الله تعالى لا باختيار منه، قالوا: والدلالة على ذلك أن كل واحد من هذه العناصر إذا نقل عن مركزه قهرا أبى إلا العود إليه طوعأ، قالوا: ويوضح ذلك أن السراج تجتذب الأدهان التي تبقيه ويأبى الماء الذي يطفيه، وأن المغناطيس

(1/234)


أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

يجر الحديد ولا يجر غيره، هذا ما حكوه، فعلى هذا إذا قيل إن لهذه الأشياء معرفة، فليس ببعيد متى سلم لهم أن هده القوى تسمى معرفة، فأما إذا قيل إن للجمادات معارف الإنسان في أنها تميز وتختار وتريد، فهذا مما تعافه العقول، ونبه الله تعالى تخويفه لنا أن ارتكاب الذنوب يقضى براكبها إلى قساوة قلب حتى إنه ربما يعدم فيه رجاء الخيرات كلها، ونبه أنه تعالى لا يغفل عن أفعال البشر، إذ هو علام الغيوب ..
قوله - عز وجل:

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الآية (75) سورة البقرة.
الطمع يقارب الرجاء، والأمل، لكن الطمع أكثر ما يقال فيما يقتضيه الهوى والأمل والرجاء قد يكونان فيما يقتضيه الفكر والروية، ولهذا أكثر ذم الحكماء للطمع، حتى قيل الطمع طبع، والطمع يدنس الثياب، ويفرق الإهاب، والأصل في تحريف الشر الانتهاء به إلى ناحية يمكن جره إلى غيره، ثم يقال في كل كلام غير سكن وجهه محرف، والسماع يقال على ما يحس وعلى ما يتصور، ولذلك وصف الله تعالى الكفار بالصمم، فقوله: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} حمل بعضهم على المسموع منه تعالى، فجعل الفريق بعض السبعين الذين كانوا مع موسى [عليه السلام] في المناجاة، لاستماع كلامه، فلما عادوا حرفوا ما سمعوه وإليه ذهب ابن عباس والربيع، وبعضهم حمله على ما كان في الأصل منه تعالي، وإن سمع من غيره فجعله التوراة وتجعل الفريق العلماء الذين غيروا التأويل، وإليه ذهب السدي والحسن وابن زيد، وفي الآية تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وتوهين للطمع في أئمتهم: وإن هؤلاء إذا كان علمائهم وأحبارهم الذين سمعوا لكلام الله وعقلوه وحرفوه ولم يؤمنوا، فكيف يرجى أن تؤمن جماعتهم مع جهل أكثرهم
إن قيل: كيف يقتضى امتناع بعض من الإيمان

(1/235)


وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

قطع الطمع في إيمان سائرهم؟ قيل: لما كان الإيمان هو العلم الحقيقي مع العمل بحاسب مقتضاه فمتى لم يتحر دلك من حصل له بعض العلوم، فحقيق أن لا يحصل لمن غنى عن كل العلوم، فذكر تعالى ذلك تبعيدأ لإيمانهم لابثأ للحكم بذلك، إذ ليس كل مالا يطمع فيه كان ميؤوسأ منه، وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي يعلمون أنهم محرفون ومعاندون، وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان عن تحري الإيمان الجهل به فقط، بل قد يكون عناده وغلبة شهوة ..
قوله- عز وجل:

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الآية (76) سورة البقرة.
الحديث ما يوجد بعد ان لم يكن نطقاً كان أو عيناً، والفتح أصله فتح الغلق، ولما استعمل في الأمر المبهم والكلام الصعب الغلق استعمل في إزالته الفتح، ومنه قيل في الحرب وفي آيات الحجة، وفي الحكم الفتح حتى قيل للحكم المفصول فتاحة، وللحاكم فتاح، وقوله: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي بما أطلعكم عليه من العلم، وهذا أولى من قول [من قال]: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} من النصر في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الآيات التي كانت في بدر من المواضع التي انتهى إليها فبدل وقوع
الحرب، فقال: [هذا مصرع فلان غداً، وهذا مصرع فلأن]، ثم كان على ما قال، فإن هذا لم

(1/236)


يخصهم النبي- عليه السلام- بالاطلاع عليه دون المؤمنين، حتى كانوا يكتمونه ويتواصوا به، والحجة هي ما يقتضي صحة أحد النقيضين، وأصله من الحج أي القصد للزيادة، وسمى سبر الجراحة حجاً، وخلا فلأن أي صار في خلاء، فالآية إخبار عن المنافقين منهم، وأنهم يظهرون الإيمان ويتواصون فيما بينهم أن لا يظهروا ما انكشف لهم من حقائق النبوة لئلا يصير ذلك حجة عليهم في حكم الله، وهدا معنى قوله: (عند ربكم)، كقوله {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي في حكمه، وهدا التأويل أولى من قول من قال: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي يوم القيامة، وقيل: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي: عند سيدكم يوم الخصام، وقوله: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} يصح أن يكون من جملة الحكاية عنهم على سبيل إنكار بعضهم على بعض، ويصح أن يكون استئناف إنكار من الله - عز
وجل-[عليهم] على سبيل ما يسمى في البلاغة بـ " الالتفات "، ويصح أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين تنبيها على ما يفعله الكفار والمنافقون.

(1/237)


وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)

قوله - عز وجل -:

{أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} الآية: (77) سورة البقرة.
هذا تبكيت لهم وإنكار لما يتعاطونه مع تكلمهم أن الله لا يخفى عليه خافية.
قوله - عز وجل -:

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} الآية: (78) سورة البقرة.
الأمي: قيل هو الذي لا يكتب، وأصل هذا اللفظ في المنسوب إلى الأم، ولما كانت الأم هي المنشئة المربية للولد، تصور ذلك في أشياء، فقيل له أم نحو أم الأضياف، وأم الجيش للرئيس، وأم القرى لمكة وذلك لنحو ما روى أنه لا خلق الأرض دحاها من تحت الكعبة، وأم الكتاب للوح المحفوظ ولفاتحة الكتاب تصوراً أن منهما منشأ الكتاب، وقيل أمه إذا قصده قصد الإنسان للأم المشفقة عليه، ومنه اشتق الإمام والأمة، فالأمي في التعارف هو المنسوب إلى ما يجري منه مجرى أمه في العناية وتربيته في الفضيلة وحفظها عليه أما ما كان ذلك أو غيره، واستعمل فيمن لا يقرأ فيحتاج إلى من يحفظ عليه معارف، وهذه الحالة فضيلة للنبي- عليه السلام- ونقيصة لغيره، من أجل أنه- عليه السلام- حفظ عليه علومه فيض إلا هي ونور سماوي، فصار افتقاره غني، كما روى [عنه - صلى الله عليه وسلم -] أنه كان يقول في دعائه:
" اللهم اغنني بالافتقار إليك "، وغيره لما احتاج إلى أن يحفظ معلومه عليه آدمي مثله صار في الحقيقة ناقصة، وفقيراً وقوله: (إلا أماني)، الأصل في هده اللفظة الدائر في جميع متصرفاته التقدير، ومنه المنا الذي يوزن به، والذي الذي منه الحيوان، ومنى الله كذا، أي قدر، وعن ذلك

(1/238)


وضع الأمنية، فإنه تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، ويكون عمن روية وبناء على أصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب به أملك، فأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له، ولا كان الكذب تصور ذلك ويراد باللفظ صار التمني كالمبدأ للكذب، فيصح أن يعبر عن الكذب بالتمني في نحو ما روي عن عثمان- " رضي الله تعالى عنها " - أنه قال: " ما تغنيت ولا تمنيت "، ولما قلناه قال مجاهد: " إلا أماني " معناه " إلا كذباً "، وقال غيره: ألا تلاوة مجردة عن المعرفة من حيث أن التلاوة بلا معرفة العنف تجري عند صاحبها مجري أمنية مبنية على التخمين،
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى على هذا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} قيل: قد قلنا إن التمني كما يكون عن تخمين وظن، فقد يكون عن روية وبناء على أصل، ولما كان النبي- عليه السلام- كثيرا ما كان يبادر إلى ما نزل به الروح الأمين على قلبه حتى قيل له: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} سمي تلاوته على ذلك تمنيت ..
، وقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} كناية عن الكذب لما كان الظن واقعاً بين الصدق والكذب، كما كنى عنه بالحرص الذي هو تقدير الأثمار لما كان ذلك متردداً بين الوفاق والخلاف، وقد أنبأ الله تعالى بالآية عن جهل الأميين وذمهم والمبالغة في ذم علمائهم وأحبارهم، فإن الأميين لم يعرفوا إلا مجرد التلاوة، واعتمدوا على زعمائهم وأحبارهم، وهم قد ضلوا وأضلوا، ونبهنا الله تعالى
بذم الأميين على اكتساب العارف لئلا يحتاج إلى التقليد والاعتماد على من لا يؤمن كذبه وبذم زعمائهم على تحري الصدق وتجنب الإضلال، إذ هو أعظم من الضلال ..

(1/239)


فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)

قوله - عز وجل -:

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} الآية (79) سورة البقرة.
ويل: تقبيح، وقد يستعمل على سبيل التحسر، وما روى أبو سعيد الخدري- " رضي الله عنه " - أنه واد في جهنم، فليس يعني أن الويل هو اسم لذلك الوادي، وإنما يعني أن الذين يجعل لهم الويل هم المتبوئون في ذلك الوادي، والكسب استجلاب نفع، وقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً}، فعلى نحو قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} إن قيل ما وجه توكيد الكتابة باليد، وهي لا تكون إلا بها،
قيل: لما كانت اليد العاملة يختص بها الإنسان من بين الحيوان وهي أعظم جارحة، بل عامة المنافع راجعة إليها حتى لو توهمناها مرتفعة ارتفع بها الصناعات التي بها قوام العالم كالبناء، والحوك، والصوغ صارت مستعارة في القوى جميعا، والمنافع كلها حتى قيل: فلان يد فلان إذا قواه، وقيل للنعمة يد لما صارت معينة للمعطى إعانة يده وحتى صار مستعاراً في اللفظ لله تعالى بدلاً عن القدرة أو عن النعمة أو صفة أخرى غيرهما، فذكرت مثناة مرة ومجموعة مرة تصويراً للمبالغة في ذلك، فقال
تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}، وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، ووجه آخر، وهو أن الفعل ضربان: ابتداء، واقتداء، فيقال فيما كان ابتداء: " هذا مما عملته يدي فلان "، فقوله: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي مما اخترعوه من تلقائهم، وعلى هذا قد يحمل قوله تعالى:

(1/240)


{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}، إن قيل " لم ذكر يكسبون بلفظ المستقبل، وكتبت أيديهم بلفظ الماضي؟ قيل: تنبيها على أن ما قال النبي- عليه السلام- " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنا سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فنبه بالآية أن ما أضلوه وأثبتوه من التأويلات الفاسدة التي يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالاً فحالاً إن
قيل: لم ذكر الكتابة دون القول؟ قيل: لما كانت الكتابة متضمنة للقول وزائدة عليه إذ هو كذب باللسان
واليد صار أبلغ، لأن كلام اليد يبقى رسمه، والقول يضمحل أثره ...
إن قيل ما الذي كانوا يكتبون؟
قيل: قد روي عن بعض السلف أن رؤساء اليهود كانوا يغيرون من التوراة نعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقولون
هذا من عند الله، وهذا فصل يحتاج إلى فضل شرح، وهو أنة يجب أن يتصور أن كل نبي أتى بوصف لنبي بعده فإنه أتى بلفظة معوضة به وإشارة مدرجة لا يعرفها إلاً الراسخون في العلم وذلك لحكمة ألاهية، فإن من شأن المسوسين سيما الذين لم يتمهروا في الحقائق أنهم متى أحسوا بحال سايس يتعقبه " سايسهم " وإمامهم تواكلوا عن الأئتمار لأوامره، والأرتسام لزواجره، وهذا معروف من عادات الناس، وقد قال العلماء ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي عليه السلام، ولكن بإشارات ولو كان دلك متجلياً لعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضأ بنقله من لسان إلى لسان من العبراني إلى السرياني " ومن السرياني " إلى العربي، وقد ذكر المحصلة ألفاظاً من التوراة والإنجيل إدا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بتعريض هو عند الراسخين في العلم جلي، وعند العامة خفي، فبان بهذه الجملة أن ما كتبت أيديهم كان تأويلات محرفة، وقد نبه الله تعالى بالآية على التحذير من تغيير أحكامه وتبديل آياته وكتمان الحق عن أهله وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طمعاً في عرض من أعراض الدنيا، وقد تقدم أنه قد عنى بالثمن القليل أعراض الدنيا وإن كثرت لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}.

(1/241)


وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

قوله - عز وجل -:

{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية: (80) سورة البقرة.
المس واللمس والحس والجس تتقارب، إلا أن الحس عام في المحسوسات والجس فيما يخفى ويدق كنبض العرق والخبر الخفي، واللمس بظاهر البشرة، وكل ذلك يقال عند تأثير المحسوس في المس وبغيره لأجله، واللمس كالطلب للمس، وقد ينفك منه، ولذلك قال: " وألمسه فلم أجده "، وجعل المس كناية عن النكاح تارة، وعن الجنون تارة، فقيل: بفلان مس، وهو ممسوس، والمسوس من الماء ما مسته الأيدي، ولا كانوا كل وعد عقداً ما وكل عقد عهداً ما كان كل وعد عهداً، فصح أن يعبر عن
الوعد بالعهد، ولكونه وعدأ استعمل منه الإخلاف، ومعدودة قليلة ووجه ذلك أنه لما كان المعدود ضربين، ضرباً قليلاً يسهل عده (وإحصاؤه) وكثيرة لا يسهل عده، وكانت الأعراب يقل فيهم الحساب وقوانين الحساب، تصوروا الكثير متعذر العد، والقليل متيسر العد، وقالوا: " شي معدود ومحصور أي قليل وغير معدود، ومحصور أي كثير.
ووجه الآية أن اليهود اختلفت، فبعض قال نعذب بعدد الأيام التي عبد أصحابنا فيها العجل، وبعض قال: مدة الدنيا سبعة ألاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف
سنة من الدنيا يوما من الآخرة، وبعضه قال: إنما بين طرفي جهنم أربعون سنة، وإذا خلاً العدد انقضى الأجل ولا عذاب، فبين الله تعالى أن زعمكم أنا نعذب أياما معدودة ولا طريق للعقل إلى معرفة ذلك، وإنما سبيل معرفته الإخبار عنه تعالى.
جده-، وإخباره بذلك وعد، ووعده عهد، وما كان به من الله- عز وجل من عهد فلا خلف فيه، وقد تبت أنه لا عهد له بذلك، فإذا ليس هو إلا تقولاً منكم على الله بما لا تعلمون، فبين بلفظ الاستفهام كذبهم فيما زعموا، وقوله: " عند الله "، أي في حكمه على
ما تقدم ...

(1/242)


بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)

قوله - عز وجل -:
{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

الآية: (81) سورة البقرة.
بلى: رد للنفي، ونعم عدة وتصديق، ويقعان في الاستفهام والخبر، فبلى لا يكون إلا في النفي، أما في الاستفهام فنحو قوله (ألست بربكم قالوا بلى)، وأما في الخبر فنحو: هذا، وأما نعم ففي الاستفهام نحو: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}، ويقال: أنا أحبك، بل نعم ولا يقال: بلى بوجه، وفي النفي إدا قيل ما عندي شي، فقلت بلى، فهو رد لكلامه، وإذا قلت: نعم فإقرار منك به، والسيئة الفعل القبيح القيود إليه في نفسه ولكونها قبيحة قوبلت بالحسنة في عاهة ما جاء في القرآن، نحو: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} الآية وقوله {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، وقوله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} وقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} والفرق بينها وبين الخطيئة أن السيئة قد يقال فيما يقصد إليه في نفسه، والخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون مقصوداً إليه في. نفسه، بل يكون مقصودا إلى سببه كمن يرمي صيداً، فأصاب سهمه إنساناً أو شرب مسكراً، فجني على رجل جناية في سكره، ثم السبب في دلك سببان، سبب محظور فعله، كشرب المسكر، وسبب غير محظور،

(1/243)


فقيل في الأول الخطأ، وقد أخطأوا في الثاني خطأ، وقد خطى فهو خاطئ، وعلى هذا {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وقال: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}، وفي استعارة الاحاطة أبلغ تشبيه، وذاك أن الإنسان إدا ارتكب ذنباً فلم يقلع عنه استجرت إلى معاودة مثله، ومعاودة مثله تجعل على قلبه غشاوة، فتجر به إلى ارتكاب أكبر منه، ثم ارتكابه لا هو أكبر منه يطبع على قلبه، فيشجعه على المداومة عليه، فيصير ذلك عليه حائطا يمنعه عن رؤية ما وراء، فيرى في مقابح الذنوب محاسن، فيتخبط في بلايا من دنياه ربما يراها نعماً، فيحسب أن لا وراء اللذات الدنيوية لذة ولا بعد التخصيص بقاء وورائها نعما فهذا معنى: (أحاطت به خطيئته)، وعلى ذلك دل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه}، وقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ}، ووجه أخر روى عن السلف وهو إن كان عائداً إلي ما تقدم، فالنظر إليهما مختلف، وهو أن السيئة الكفر، وذلك عن مجاهد وأبي وائل والربيع، فبين تعالى أن من تحرى طريق الكفر، ثم استمر مريرة في ترك الإقلاع إما الترك النظر، وإماما الشرارة، وإماما لشهوة مستولية عليه حتى يصير ذلك كحائط عليه لا خروج له منه، فأولئك أصحاب النار، ومن قرأ (خطيئته)، فاعتبارا بالجنس، ومن قرأ (خطيئاته)، فاعتبارا بآحاد الذنوب وجعلهم أصحاب النار لملازمتهم في الدنيا ما يوجب لهم النار، وهي الآخرة لملازمتهم إياهما إذ كان الصاحب إنما يقال فيمن كثر ملازمته لغيره ...

(1/244)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

قوله - عز وجل -:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

الآية: (82) سورة البقرة.
عادة القرآن في كل موضع يذكر عقاب قوم أن يذكر بإزائه ثواب مضادتهم ليُرجى رحمته ويخاف عذابه، وقد تقدم أن عامة ذكر الإيمان في القرآن مقرونة بالأعمال الصالحة تنبيهاً أن جملة الاعتقاد والمقال لا اعتداد بها ما لم يضامها الأعمال الصالحة، إذ الاعتقاد كالأس، والعمل كالبناء، ولا غناء في أسء بلا بناء، كما لا ثبات لبناء بلا أس، وفيه دلالة أن قوله تعالى من قبل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} هو الكفر، وإحاطة الخطيئة به الأعمال السيئة، وذلك لا قابله به من الإيمان والأعمال الصالحة ..
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}

الآية (83) سورة البقرة.
الولد: المولود، والوليد للصبي اعتبارا بقرب ولادته، كما يقال: لما قرب اجتناؤه جني، والوليدة في الأمة كناية عن طريق التلطف بأنها تجري مجرى الولد، و " فلان لدة فلأن "، أي ولد معه، واليتيم قد يقال لمن فقد كافله قبل البلوغ من أبويه، أما في الناس فأباه، وأما في البهائم فأمه، لأن كفالة الولد في الناس على غالب الأمر، وفي الحكم إلى الأب، وفي البهائم إلى الأم، وقد يقال لن يتصور بصورة الفرد الذي إذا اعتبرت فضيلته قدر أن لا أباله من جنسه لكونه خارجية بالفضل عن طبيعة أبائه،

(1/245)


وجدك فاصطفاك، كقوله تعالى في موسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، وأخذ هذا الميثاق المذكور في الآية ليس شيئاً اختص به بنو إسرائيل فقط، بل في كل أمة، ولكل نبي، وقد تقدم أن هذه العبادات مما لا يجوز خلو شرع منها وإن اختلفت هيئاتها وأعدادها وأن كلياتها مأخوذة على الناس بقضية عقولهم وألسنة أنبيائهم وجزئياتها وكيفياتها مأخوذة عليهم بألسنة أنبيائهم- عليهم السلام - إذ لا طريق للعقل إلى صرفة جزئيات العبادات والصالح المعلقة بها، وليس أخذ الميثاق
كله معتبراً بان يلتزمه المأخوذ عليه ويرضى به، بل بأن توجه الحجة، وتقدير قوله: (لا تعبدون إلا الله) فيه أوجه، قال الكسائي: (أن لا تعبدوا)، فلما حذف " أن " نرفع، نحو:
ألاَ أيُّهذا الزَّاجري أحْضُر الوَغى
وقال الأخفش: لما أفاد قوله {أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} معنى القسم أجابه بجوابه نحو: خلفت لا يخرج زيد، وقال قطرب: (لا تعبدون) في موضع الحال، تقديره غير عابدين، وقال الفراء: لفظه خبر، ومعناه النهي نحو: (لا تضار والدة بولدها) بالرفع، واستدل على كونه نهيأ بقراءة أبي: (لا تعبدوا إلا الله)، وبعطف قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} عليه.

(1/246)


ولما تضمن أخذ الوثاق معنى الوصية حمل عليه قوله: (وبالوالدين إحسانا) واختلف في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، فذهب بعضهم إلى أنه منسوخ بأية السيف، لأن المسلمين أمروا في الارتداء أدت يتلقوا الكافر أو المسلم بالحسنى، ثم أمروا بالتغليظ والقتال، وقيل: لا نسخ فيه وهو الأصح، لأن ذلك كقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} لآية، ولأن قتالهم لا يمنع من أن يقاد لهم أولاً قول حسن، كما قاد موسى- عليه السلام- {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، ثم قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، يصح أن يكون نهياً عن المقادح والكذب، ثم هذه الاية ليست خطابا للمسلمين من هذه الأمة، وإنما هي حكاية ما أمر به بنو إسرائيل، وهما خطاب للأسلاف من بني إسرائيل، وقيل:
هو خطاب لن كان في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، وقيل قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} خطاب للسلف، وقوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} خطاب لمن كان في زمنه،
إن قيل: ما فائدة قوله: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} بعد قوله:.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} قيل فيه ثلاثة أقوال، الأول: أن قوله {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} حال مؤكدة، لأن تقديره: (ثم توليتم معرضين)، ذلك على قول من جعلها خطاباً لفريق واحد، والثاني أن التولي قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب، والثالث: أن التولي والإعراض في دلك مثل مأخوذ من سلوك الطريق، وإدا اعتبرنا حال سالك المنهج في ترك سلوكه، فله حالتان، إحداهما: أن يرجع عوده على بدئه، وذاك هو التولي، والثانية: أن يترك النهج ويأخذ في

(1/247)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

عرض الطريق متخطياً، وذلك هو الإعراض والمتولي أقرب أمرا من المعرض، ولأنه متى ندم على رجوعه سهل عليه العودة إلى سلوك المنهج، وأخذ في عرض المفازة إلى طلب منهجه، فيعسر عليه العود إليه، فمتى جعل الخطبان لفريق واحد، فذلك غاية الذم، فإنهم جمعوا بين العود عن السلوك والإعراض عن المسلك، ومتى جعل " توليتم " للسلف، وأنتم معرضون للخلف، فتنبيه أنكم شر من أسلافكم، فقد كان منهم التولي، ومنكم الإعراض، والآية منطوية على عامة الأحكام الاعتقادية والعلمية والآداب الشرعية ومكارم الأخلاق، وفيها ذم لبني إسرائيل أن مع أخذ الميثاق منهم بذلك لم يكن من أكثرهم الوفاء به ..
قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}

الآية (84) سورة البقرة.
الدار سميت اعتبارا بدورها، وقيل داره، كقولهم: محلة ومنزلة اعتباراً بوحدة ما، فإن الدار يقال لها وإن انطوت على حجر وبيوت، والدواري الدهر، لكر الجديدين، والدوار في الرأس وضم على بناء الأدواء، نحو الصداع، يقال للصنم التي يدار حوله دوُار ودَوار ودوار، وقوله تعالى: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} متعلق بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} ما تقدم في الآية الأولي ..
،
إن قيل: كيف أخذ ميثاقهم أن لا يفعلوا ذلك بأنفسهم مع كون الإنسان مضطرا لأن يفعل بها ذلك؟، قيل في ذلك أجوبة ...
الأول: لا يفعل ذلك بغضكم ببعض، وإليه ذهب قتادة وأبو العالية، الثاني: لا يفعلن أحدكم [ذلك] بالآخر، فيفعل به، فيكون في حكم فاعله بنفسه، الثالث: [لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى صرفكم عن الحياة الأبدية الجاري مجرى القتل، وهو العذاب الأليم]، ولا تفعلوا ما تحرمون به على أنفسكم

(1/248)


ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

الجنة التي هي داركم فتكونوا في حكم من أخرج نفسه من داره، وعلى ذلك قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} أي: شغلوهم بما يعود بوبالهم وحرموا العلم، والإقرار قد، يكون باللفظ ويكون بالفعل وهو الرضى، نحو أن يقال: فلان مقر بالخسف ..
قال الشاعر: ..
أقر كما قر الخليلة للبعل ..
فقوله {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} يصح أن يكونا [جميعا خطابين] للسلف، وأن يكونا للخلف [وأن يكون الأول للسلف والآخر للخلف]
فإن قيل: ما الفرق بين الإقرار والشهادة؟ قيل: الشهادة إقرار مع العلم وثبات اليقين، والإقرار قد ينفك من ذلك، ولهذا كذب الله تعالى الكفار في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ولو قالوا: نقر إنك لرسول الله لم يكذبوا ..
قوله - عز وجل:

{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية: (85) سورة البقرة.
قيل: تقدير هؤلاء يا هؤلاء، وذلك مستبعد لحذف حرف النداء، [فحرف النداء] لا يحذف إلا من الأعلام وما هو كالأعلام ومن المضاف دون غيرهما من المناديات، وقيل معناه كمعنى الذين، فقد أجرى

(1/249)


المبهمات مجرى الموصولات، وعلى ذلك حمل الكوفيون قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} وقول الشاعر:
نجوت وهذا تحملين طليق
وقيل معناه: أنتم كهؤلاء، وتظاهرون تتعاونون، وأصل اللفظة من الظهر التي هي الجارحة، ولما كان الظهر من حيث الخلقة خالياً عن الحروق والعكن بخلاف البطن، سمي ما كان بارزا ظهراً، وما كان خافياً بطناً، فجعل الظهر والظهور لجميع متصرفات هذه اللفظة أصلين وقرئ تظاهرون بالتشديد، وأصله: يتظاهرون ويظاهرون بالياء والتشديد على ذلك، وتظاهرون بحذف أحد ألتاءين وبالتخفيف، والإثم اسم الأفعال المبطئة للثواب، ولتضمن البطؤ قال الشاعر في صفة ناقة:
جمالية تعتلي بالردف ....
إذا كذب الآثمات الهجير
وقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي في تعاطيهما أبطأ عن الخيرات، فإنهما شاغلان، فصار الإثم في التعارف نقيض البر

(1/250)


وقوله عليه السلام:
" البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك "، فهذا حكمهما لا تفسيرهما والوزر والذنب والجرم تتقارب، لكن الوزر اسم لا يوجب العقوبة بمعاونة الغير، ولهذا روى:
" من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها "، فإن السان والمسنن بها متآزران متعاضدان، والسان أعظم إثما، إذ ليس المتبع كالمبتدع، وأما الذنب فما يقتضي عاقبة مذمومة اعتبارا بأذناب الأمور، والجرم اعتبارا بما يحصل من ثمرة سوء العمل تشبيها لجرام النخل، والعدوان هو تجاوز لحد المرسوم في الاعتداء المرخص فيه على سبيل المجازاة في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فالتجاوز للمرسوم هو العدوان، والأسر شد يضم به بعض المشدود إلى بعض يقال: أسرت الرجل، والسرح والرحل، وما يشدبه إسار، والفدا العوض الذي يخص به فكاك الإنسان وقيل الفدا والفداء واحد، والأقرب أن الفداء بالمد اسم لما يفدي به والفدى اسم للمفدى، كما يقال الحمى للمحمي وإن كان كل واحد منهما يوضع موضع الأخر، والحرام المنع الشديد من جهة الحكم، ورجل حرام يجوز أن يكون على وضع المصدر موضع الفاعل كأنه محرم على نفسه بالتزامه ما ألزم ما كان محللاً له إما بدخوله الحرم أو بالإحرام، ويجور أن يكون في موضع المفعول، كأنه صار محروماً أي ممنوعة من بعض ما كان مباحا له والشهر سمي محرما لذلك، واستحرمت الماء غيره، كأنها طلبت شيئا محرما في غيرها، وذلك كناية، والخزي ذل يستحي منه، ولتضمن المعنيين استعمل تارة في الذل نحو: عليه الخزي، وفي الاستحياء، نحو خزي،

(1/251)


والرد والرجوع متقاربان، إلا أن الرد يقتضي قهراً، أما للمردود إذا استعمل في الحيوان والرجوع لا يقتضي ذلك، فإن قبل الردة عن الإسلام يتعاطاها صاحبها طوعاً، قيل إذا اعتبرت الردة بصريح العقل والفطرة التي فطر الناس عليها، فهي قهر للعقل على ما ليس من مقتضاه، لأن الكفر هو الاعتقاد الظني، كما أن الإيمان هو الاعتقاد اليقيني، والعقل لا يسكن إلى الكفر، [ولا يطمئن إليه] إذهو مناف لمقتضاه، ولهذا قال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} لأنهم إذا راجعوا عقولهم [أنكروه وتمنوا سواه]، وعلى ذلك قوله تعالى.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
ومعنى الآية أن اليهود كان أوجب عليهم أن لا يسفكوا الدماء ولا يخرجوا أحداً من ديارهم ولم يوجب عليهم مفادات الأسرى، فأخلوا بالواجب والتزموا ما لم يكن يلزمهم، فأنكر الله تعالى عليهم ترك الفريضة ومراعاة النافلة وقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} متعلق بما قبله وقد فصل بينهما بقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} وقال بعضهم: إن الله تعالى نبه بهذه الآية مع المعنى الظاهر على لطيفة، وهي أن في قوله تعالى تقتلون أنفسكم تنبيه أنه تسعون في اكتساب العقاب الذي يجري مجرى قتل النفس، وبقوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} أي تضيعون بعض قواكم ولا

(1/252)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

تراعونها حق المرعاة، فإن من هذب قوته العالمة، ثم ضيع قوته العاملة.
بالتقصير، [فقد ضيع نفسه] وكأنه أخرجها من محلها الذي جعله الله تعالي لها، وعلى ذلك ما إذا ضبط قوته الشهوية ولم يضبط قوته الغضبية، ونبه بقوله: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} إنكم تتصدون لهدى غيركم مع تضييعكم أنفسكم كقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}، وعلى ذلك قيل: (كفى بالمرء تهزياً أن يعظ غيره وينسى نفسه)، وقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} فقد قيل: هو ضمير الحديث، وقيل: هو
ضمير المصدر الذي هو الإخراج، وقد أعيد ذكره تأكيده، فكأنه تكرير الخبر مراتين، ثم بين أن متعاطي ذلك له في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وعظم إبعادهم بتنبيههم أنه سبحانه بالمرصاد لا يغفل عن شي تعالى الله وتقدس ...
قوله - عز وجل -:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}

الآية (86) سورة البقرة.
الخفة والثقل يقالان على أضرب، الأول: خفيف في المخسر لطلب العلو كالنار، وثقيل في المسخر لطلب السفل كالحجر، الثاني: يقال على سبيل التصادف كشيئين يترجح أحدهما على الآخر فيصح أن يوصف شي واحد بأنه خفيف وثقيل على اعتباره بشيئين، الثالث على اعتبار الزمان نحو أن يقال: هذا الفرس خفيف، وذاك ثقيل بمعنى أنه إذا اعتبر عددهما بزمان واحد كان أحدهما أكثر عددا من الآخر، والرابع: يقال فيما تستجليه النفس خفيف، وفيما تعافه ثقيل، فالخفيف على هذا مدح، والثقيل ذم الخامس على العكس من ذلك، وهو أن يقصد بالثقيل معنى الرزين، وبالخفيف

(1/253)


معنى الطائش، والقصد باشتراء الحياة الدنيا في هذه الآية [وبالرضى في هذه الآية] وبايثارها في نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} في نحو قوله: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وبالإخلاد إليها في قوله تعالى {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} وباتباع الهوى في نحو قوله، {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وبعبادة الشيطان في نحو قوله: {لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} وبإتباع الخطوات في نحو قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وبنصرة الشيطان في قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} كل ذلك قصد واحد في أنه حث على تجنب المعاصي وأن اختلفت العبارات وتفاوتت الأنظار، وبين الله تعالى بالآية أن من فعل ذلك فهو معاقب لا يخفف عذابه، أما في الدنيا، فمعذب لشرهه على تتبع فضولات المال وجمعه، كما قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، فلا يكون لطلبها غاية إذا انتهى إليها خفف عذابه، وأما في الآخرة فبدوام العذاب الأليم، وبين تعالى أنه لا يجد نصرة من جهة ماله في الدنيا، كما قال حكاية عن المحتضر: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} ولا في الآخرة، كما قال: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا} الآية، وقوله {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} قيل: هو داخل في صلة الدين والصحيح أنه جواب لتضمن لفظه الذين معنى الشرط كما هو جواب في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}.

(1/254)


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

قوله- عز وجل:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}

الآية: (87) سورة البقرة.
الاقتفاء إتباع القفا، كما أن الارتداف إتباع الردف، وقفوته: أصبت قفاه نحو: قادته وبطنته إذا رميت ذلك منه، ثم يكني به عن الاغتياب، وقافية الشعر لاعتبار الاقتفاء فيها، والقفاوة ما يتفقد به الغير على سبيل الإيثار، والهوى اسم للقوة الشهوية، وأصله من الهوى، لأنه يهوى بصاحبه فلا يستقر به، والروح من الحيوان اسم للجزء الذي معه تحصل الحياة، ولما كانت الحياة تختلف، فمنها ما تشترك فيه الحيوانات ويحصل به التحرك والسعي واستجلاب النافع واستدفاع المضار، ومنها الحياة التي يختص بها الإنسان، وبها يكون الفكر والروية ولأجله قيل، فلان ليس بحي أو هو ميت إذا ضعف ذلك فيه، ومنها الحياة التي يستفيدها الإنسان بالعلم وهو أس ما يتوصل به إلى الحياة الأبدية، وإياها قصد بقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} صار الروح يقال لكل ذلك، فيقال " ذوروح " لكل حيوان، وقيل للقرآن روح لما كان سببا للحياة الأبدية قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}، وقيل: سمي عيسى عليه السلام روحا، لأنه كان يحيى الموتى فصار كالروح، وقيل: سمي بذلك لأنه كان يفيد الناس ويعلمهم ما يتوصلون به إلى الحياة الأبدية، وقيل: سمي بذلك لقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}، وذلك أنه لم يخلق من ماء ذكر وأنثى، وإنما قال له: (كن) وسمي جبرائيل (عليه السلام) روح القدس، والروح الأمين، وهذه الآية توكيد لذمهم والإنباء عن بعدهم عن الإيمان وأنهم قد أتاهم موسى بالكتاب، ثم اتخذوا العجل وأتاهم رسل فلم يعرجوا عليهم، وجاءهم

(1/255)


وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

عيسى - عليه السلام بالمعجزات الباهرة فكذبوه، وقوله: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} يصح أن يكون معطوفا على قوله {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} ويكون قوله {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ} فصلا بينهما على سبيل الإمكان عليهم، ويصح أن يكون معطوفا على قوله:] " استكبرتم "، وقوله: {أَفَكُلَّمَا} استئناف وبين باتباعهم الهوى غاية معانيهم، فإن متبعه مخطئ وإن أصاب، فالإصابة منه على غيره اعتماد، إذ هو كالبهيمة المتناولة لما تدعو إليه شهوتها صواباً كان أم خطأ، ثم زاد في ذمهم بوصفهم بالاستكبار إذ هو مقر النقائص، فإنه نتيجة الإعجاب، والإعجاب نتيجة الجهل بالنفس والجهل بالنفس مقارن للجهل بخالقها، ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}
إن قيل: لم قال: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} وهلا جعلا ماضيين أو مستقبلين؟ قيل: أما من حيث اللفظ، فلأنه لما لم يكن يفسد المعنى روعي فيه المجانسة بين الفواصل ليكون اللفظ أحسن، وأما من حيث المعنى: فللتنبيه أنهم لم يتوقفوا في تكذيب من جاءهم من الأنبياء، فذكره بلفظ الماضي، إذ لا مزاولة فيه، وذكر القتل بلفظ الاستقبال تنبيهاً أنهم يزاولون قتله قدروا عليه أم لم يقدروا.
قوله - عز وجل:

{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} الآية (88) سورة البقرة.
أصل الغلف ستر الشيء بالشيء الذي يجعل فيه، ومنه غلفت السيف والسرج والرحل واللحية بالغالبة، والأغلف الأقلف لكون ذلك منه في غلاف من غلفته أي قلفته وعزلته، فقوله: (غلف): قيل هو جمع غلاف وأصله غلف، فخفف، وقرئ غرف ككتب وقيل: هو جمع أغلف، فعلى الأول قيل معناه: قلوبنا أوعية للعلم لا تسمع علماً إلا وعته إلا ما تقول، بمعنى أن ما يقوله ليس بعلم، وعلى الثاني

(1/256)


وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

معناه: قلوبنا مغطاة عما تدعونا إليه فلا نفهمه كما قال: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} الآية ..
ورد الله تعالى ذلك عليهم بأن ذلك لكونهم مبعدين عن العلم لسوء فعلهم، وقد تقدم أن سبب المانع من الفضيلة سببان: أحدهما: ابتداؤه ليس من جهة الإنسان نفسه، وهو متجاف عنه كمرتكب قبيح لزوال عقله بجنون أو مرض، والثاني: ابتداؤه من جهته، وهو مأخوذ به كمرتكب ذنب لسكره، فبين الله تعالى أن قلوبهم ممنوعة عن العلم بكفرهم وذلك من جهتهم، وقوله: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} أي لم يؤمنوا إلا إيمانا قليلاً أو زمانا قليلا، وذلك غير معتد به، لأن الإيمان هو التصديق المخصوص، ومتى لم يحصل كمالاً لم يعتد به، ولذلك عظم عقوبة ذلك بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، ونحو هذه الآية قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}
قوله - عز وجل:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية: (89) سورة البقرة.
الاستفتاح: طلب الفتح، والفتح ضربان، فتح إلاهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، وفتح دنيوي، وهو النصرة في الوصول إلى اللذات البدنية وعلى الأول قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وقوله {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ} وعلى الثاني قوله:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}، وقوله: {يَسْتَفْتِحُونَ} قيل معناه:

(1/257)


بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

يستعملون خبره من الناس مرة، وقيل يطلبون من الله في بذكره الظفر، وقيل: كانوا يقولون: إنا ننصر لمحمد عليه السلام على عبدة الأوثان، وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاء، فبين الله تعالي من جهلهم أنهم كانوا ينتظرونه، وكانوا يعرفون وصفه كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وكما قال: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}، فلما جاءهم كتاب لا منافاة بينه وبين التوراة في الأصول، وعرفوا عيانا ما كانوا عرفوه من قبل إخباراً كفروا به، ثم قال: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} تنبيها أن اللعن ثابت للكفار، وهم كفار، فاللعن عليهم، وأما معنى اللعن هو إفضاء على وجه الإهانة، ومن قال: هو العذاب، فمن حيث أنه لا تنفك لعنة الله عن العذاب، وأما تكرير لما، فقد قيل جواب الأول محذوف، وقوله: {كَفَرُوا بِهِ} إنما هو جواب للثاني، وقيل: لما بين فصله لما وجوابه بقوله: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} أعتاد ذكره بلفظ يقتضي زيادة فائدة، ثم أجاب، وقيل جواب الأول " الفاء "، و (كفروا به) جواب الثاني نحو قولك: لا جاء زيد فلما قعد أوسعت له ...
قوله - عز وجل -:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

الآية: (90) من سورة البقرة.
بئس؟ كلمة تستكمل في جميع المذام، كما أن " نعم " تستعمل في جميع المادح، وأصله من البؤس، وهو المكروم وتصور منه الفقر تارة، فقيل بئيس، والنكاية في الغيرة فقيل بؤس، وسمى البسالة بأساً به وأصل البغي الطلب، واختلفت مكانيه لأختلاف المسند إليه، وربما خولف بين

(1/258)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

مصادرها، فمتى أسند إلى الرأي فلابتغائها لمن يحرم عليها، وإذا أسند إلى المتكبر فلطلبه إكراماً لا يستحقه، وإذا أسند إلى الرأي فلطلبه متطلعاً، والهوان يتصور على وجهين أحدهما: التذلل للإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة، فيمدح به نحو المؤمن هين لين، والثاني: أن يكون مرجعه خلط ستليه على طريق الاستخفاف فيذم به، وعلى الوجهين استعمل " ذلك فبين الله تعالى أنه بئس
شيئاً باعوا أنفسهم به كفرهم بكتب الله المنزلة، ثم بين أن أعظم هذا الجنس أن يفعل دلك حسدا على من خصه الله تعالى بفضل من عنده، وفضله ههنا أجل الفضائل، وهو النبوة، ثم بين أنهم بذلك استحقوا بذلك أنواعا من الغضب نوعاً بعد نوع نحو قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} ..
نعوذ بالله منه.
قوله- عز وجل:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية (91) سورة البقرة.
وراء يقال للخلف والقدام، وهو في الأصل مصدر وارى، فلما كان المصدر يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول، فمتى قيل وراء زيد بمعنى قدامه، فمعناه الذي يواري زيد، وإذا قيل بمعنى " خلف "، فهو الذي يواريه زيد، ثم جعل ظرفاً مثل كثير من المصادر، وإن قيل: كيف قيل للخلف " فلم تقلتون "، وكان القتل من السلف لا منهم، قيل: لما كان من عادة العرب أن ينسبوا إلى أنفسهم على طريق الفخر مأثراً بأيهم، فيقول فعلنا كذا متصورين بصورتهم خوطبوا أيضا في نسبة مثالبهم إليهم على ذلك

(1/259)


الوجه، وقال ابن عباس [رضي الله تعالى] عنهما: (إذا عمل معصية، فمن أنكرها فقد برئ منها، ومن رضيها كان كمن فعلها)، فلما رضوا فدل آبائهم فكأنهم هم فعلوه، فلذلك خاطبهم بذلك،
إن قيل: كيف قال: (تقتلون من قبل) ولا يجور في الكلام تخرج أمس، قيل: في ذلك وجهان.
أحدهما: أن عادة العرب إذا أرادوا أن يخبروا عن تعاطي فعلى مداوم عليه قرنوا لفظ الماضي بالمستقبل تنبيها على المداومة عليه نحو قول الشاعر:
ولقد أمر على الَّلئيم يسبنُّي ...
فمضيتُ ثمة قُلتُ لا يعنينِي
وعلى ذلك يقال: فعلت كذا قبل وبعد، وافعل كذا قبل وبعد، فيجئ تارة بلفظ الماضي وتارة بلفظ المستقبل، والثاني إن قوله (من قبل) يتعلق بمقتضى قوله " فلم " الذي هو بحث عن علة الشيء، فكأنه قليل: أخبرني قبل عن سبب قتلكم، ومعنى لم تقتلون لم ترومون قتلهم، وهذا أوضح، وقوله: {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} قيل معناه بما أنزل الله بعده من الإنجيل والقرآن، وقيل: معناه بما تنطوي عليه التوراة، وذاك أن انتساب المعنى إلى اللفظ انتساب المتأخر إلى المتقدم والباطن إلى الظاهر، ولهذا يقال: وراء هذا الكلام معنى لطيف، وفي ضمنه شيء حسن، وقد بين الله تعالي أنهم يدعون

(1/260)


وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)

الإيمان بالتوراة وهم كاذبون في دعواهم، فإنهم لا يكونون مؤمنين بها إذا كفروا بما يتضمنه من أخبار النبي عليه السلام وكفروا بما يتلوه من كتاب الله - عز وجل- فإن النبوة والكتاب لا يختلف من حيث ما هو نبوة وكتاب، ومن لم يؤمن ببعضه، فهو في حكم من لم يؤمن بشيء منه، ولهذا قال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، فأثبت لهم أشد العذاب الذي يستحقه الكافر المطلق، ثم بين أنه هو الحق أي ذلك المعنى الذي هو القرآن حتى لا يزاحمه في ذاته ضد وهو مصدق لما تقدمه لا منافاة بينهما في ألاصول، ثم بين [تعالى] ثانياً إبطال ما ادعوه بقتلهم الأنبياء إن كانت التوراة لم تقتض ذلك، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تنبيها أنكم لستم بمؤمنين، إذ المؤمن لا يقتل الأنبياء، وفي كل ذلك حجة على بطلان ما ادعوه من الإيمان بالتوراة.
قوله- عز وجل:
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}

الآية (92) سورة البقرة.
جعل ذلك أيضا دلالة على دلالة قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) فكأنه قيل: كيف آمنتم به وقد أتاكم موسى بالآيات البينات فما لبثتم أن عبدتم العجل ظلما، وظلمهم الإخلال بآيات الله وبيناته وتلقيها بالكفران والكفر، وفي تخصيص ثم زيادة فائدة، وهي أن ذلك منكم بعد تدبر الآيات والتمكن من معرفتها، والآيات.
ههنا هي الآيات التسع المذكورة في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، وقوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}

(1/261)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

الآية: (93) سورة البقرة.
قوله: (اسمعوا)، قيل معناه: افهموا، وقيل معناه: اعملوا به، ووجه ذلك أن الشيء يُسمع به، ثم يتخيل، ثم يفهم، ثم يعقد، ثم يعمل به إن كان ذلك المسموع مما يقتضي عملاً، ولا كان السماع مبدأ والعمل غاية وما بينهما وسائط صح أن يذكر، ويراد به بعض الوسائط وأن يعني به الغاية وهي العمل، فمن قال معنى (واسمعوا) أي اعملوا به، فنظر منه إلى الغاية، ومن قال: افهموا واعقلوا فنظر منه إلى البدء أو إلى الوسائط، وقال بعضهم: قد قالوا قولاً سمعنا وعصينا، وقيل: إنما سمعوه وتلقوه بالعصيان، فكأنهم قالوا بدلك قولاً، كقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقالَ قطْنىِ
وقال الآخر: قالَ جناحاهًُ لرجليه الحقَاَ
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} ...
من عادة العرب أنهم إذا أرادوا العبارة عن مخامرة حب أو بغض في القلب أن يستعيروا لها اسم الشراب، إذ هو أبلغ منجاع في البدن، ولذلك قالت الأطباء:

(1/262)


الماء مطية الأغذية، والأدوية، لركوبها يبلغ أقاصي الأمكنة، وعلى هذه الراعية قال الشاعر:
تغلغل حيث لم يبلُغْ شرابٌ ....
ولا حزنُُ ولمْ يبلغْ سرُورُ
وقال أهل النحو: أريد حب العجل، فحذف المضاف تحقيقاً، ويجب أن يعلم أنه لو قيل حب العجل، لم يكن له من المبالغة ماله بحذفه، لأن فيه تنبيها أن لفرط شغفهم به ثبت صورة العجل في قلوبهم راسخة، وإن زالت ذاته الجسمية، ثم بين أن ذلك [كذلك] بسب كفرهم، لا أنه تعالى ظلمهم به، وما قال السدي وابن جرير أن موسى- عليه السلام- لما رجع إلى [قومه] برد العجل الذي عبدوه، فذراه في اليم، فلم يشربه أحد أحبه إلاً خرج على شاربيه الذهب، وليس ينافي ما تقدم تصورت ذلك حقيقة أم تصورته كناية وإشارة، وقال بعضهم: معنى أشربوا من قولهم: " أشربت البعير " إذا شددت حبلاً في عنقه، قال:
وأشربْتُها الأقران حتى وقصتُاً ...
بقرْحِ وقدْ ألقينَ كلَّ جنين
فكأنما شد في قلوبهم العجل لفرط شغفهم به، فهو راجع إلى الأول تحقيقه وإن خالفه تشبيها وتمثيلاً، ثم بكتهم تعالى بقياس شرطي يدل على إبطال دعواهم الإيمان بالتوراة وهو قوله:
{بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وتقديره: إن كنتم مؤمنين، فإيمانكم أمركم بذلك، وكل إيمان أمر بذلك فإيمان مذموم، وقد ثبت أن الإيمان بالتوراة ليس بمذموم ولا يظهر بالمذموم، فإذا

(1/263)


قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)

لستم بمؤمنين، فكيف تدعون الإيمان بما أنزل إليكم، وقال الزجاج في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. [ما كنتم مؤمنين].
فإن عنى أن إن ههنا لفظة للنفي فدلك بعيد، وإن عنى أنه شرط مقتضاه النفي كما تقدم فصحيح والكلام في أنه كيف جعل الإيمان أمراً في قوله: {يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} فقد تقدم في صدر الكتاب فصل كلي يكفي الاشتغال بهذه التفاصيل.
قوله - عز وجل -:
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

الآية (94) سورة البقرة.
الخالص كالصافي، لكن الصافي يقال فيما لم يكن قبل فيه شوب، ولا يقال: خالص إلا ما كان فيه شوب من [قبل]، فزال عنه، ولذلك قال الشاعر:
خلاصُ الخمْرِ منْ نسجِ الفَدَامِ
فاعتبر فيه معنى التخلص والتمني تقدير تأتي مشيته والتحدث به إما ضميراً، وإما مقالاً، ودون لما كان في الأصل القاصر عن الشر اعتبر ذلك في المكان تارة وفي الشرف تارة، وفي الاختصاص تارة، فإذا قيل: هذا لي دونك، فهو مفيد للاختصاص، ومعناه: أنت تقصر عنه، وإن قيل كيف قال: (من دون الناس) والمخاطبون أيضاً من الناس؟
قيل: قد قال بعضهم لفظه عام، ومعناه خاص، أي دون سائر الناس، وقال بعضهم في ذلك لطيفة، وهو أنه يقال: " فلأن ليس من الناس، وذلك متردد بين المدح والذم، فالمدح نحو قول بعضهم: فلان ليس إنساناً، بل هو ملك كريم ...

(1/264)


وقال الشاعر
فلست بإنسيَّ وَلكنْ لملاك
والذم نحو: فإنَّ جُلهُمُ أوُ كلهُمْ بَقر
ولما كانت الدار الآخرة لا تحصل للناس خالصة، بل لأبد في نيلها من تحمل شوائب وتجرع نوائب، وكانوا قد ادعوا أنها لهم خالصة قيل لهم ذلك بمعنى إن كنتم جنساً غير الناس في أن تحصل لكم الدار الآخرة خالصة [على حسب ما تحصل للناس] فتمنوا الموت، وإنما قيل لهم " تمنوا الموت "، لأنهم قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا}، وقالوا:
{نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، فبين الله تعالي كذبهم في دعواهم ذلك فقال: إن كنتم أحباء الله، فالمحبة داعية إلى الشوق، والشوق داع إلى محبة لقاء المحبوب، ومحبة لقائه داعية إلي تمنى سهول السبيل إليه، ولا سبيل إلى الطريق إليه إلا بالموت، فيجب أن يكون الموت متمنى، فترككم تمني ذلك دلالة أن لا [محبة منكم له] ..
إن قيل: فهل يجوز للمسلم أن يتمنى الموت؟ قيل:
أنا تمنيه على أن سخط ما أراد الله من حياته فلا يجوز فإن ذلك مضادة الله في أرادته، وتسخط لقضائه، وإما على أن يكرهه إذا أتاه، فجائز، وهو غاية الحكمة وشعار المؤمن المحق، ولذلك قيل: " لا يكون الحكيم حكيماً حتى يعلم أن الموت يعتقه والحياة تسترقه، وقيل: " سرور المؤمن بموته

(1/265)


وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)

سرور القادم على أهله "، وقال عليه السلام: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاء، ومن كره لقاء الله كره
الله لقاءه ".
وقال علي- رضي الله عنه:
" لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي " إنما قيل: كيف أعاد الشرط، فقال: إن كنتم صادقين "، وذلك يقتضي جوابا أخر، قيل: إن ذلك كالبدل من الشرط الأول، فإن مقتضاهما واحد، لكن الصدق يتناول اللفظ، وقوله: {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} يتناول ذات الشيء، فصار كقول القائل لمن يدعي فعلاً: " إن فعلته فلك كدا إن صدقت " ...
قوله - عز وجل -:

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الآية: (95) - سورة البقرة.
التقدم إما أن يقال باعتبار زمانين، فيقال حديث وقديم، وإما باعتبار تقدم على الزمان، فيقال: قديم أي متقدم وجوده على وجود الزمان وإما بالشرف فيقال: " فلان متقدم على فلأن " أي أشرف منه منزلة وإما لما لا يصح وجوده إلا بوجود الأخر، فيقال لذلك الآخر قديم كقولك: الواحد متقدم على العدد، بمعنى أنه لو توهم ارتفاعه لارتفع الأعداد، وكما استعملوا القديم والحديث باعتبار زمانين استعملوا التقدم والتأخير، وقدام وخلف باعتبار مكانين، وباعتبار التقدم المكاني سمي القدم قدماً، وقد بت الله تعالى القول بأن لا تمنى للموت منهم قط، لما احتقبوه من الآثام، وفي ذلك أعظم حجة، فإنهم ما فعلوا ذلك ولا جسروا حتى قال - عليه السلام.
" لو تمنوا الموت ما قام رجل ممن مجلسه "، فلم يجسروا أن يقولوا كاذبين: نحن نتمناه، ثم بين تعالى بقوله؟ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} قدرته على معاقبتهم تهدداً لهم ...

(1/266)


وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

قوله - عز وجل -:

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الآية (96) سورة البقرة.
الوجود يقال باعتباره بالحاسة، وباعتباره بالتخيل، وباعتباره بالفهم والعقل، ومتى قيل باعتباره بالعقل فعلى ضربين: متعب إلى مفعول واحد، ومعناه كمعنى عرفت، ومؤكد إلى مفعولين، ومعناه قريب من معنى علمت، والحرص أصله أن لا يرضى بالكفاية ويضاده القناعة، وأصله هن حرص القصار الثوب، والحارصة وهي شجة تشق الجلد، فالحرص كأنه مزيل للحياء والكرم عن النفس، وأصل الشرك مساواة اثنين فصاعداً في شيء كتجارة وزراعة وميرات [وشراك للفعل وشراك الخيط] معتبر فيه معنى الشركة، وكذا الشرك للطريق والحبالة للصائد، وصار الشرك متعارفاً فيمن يثبت مع الله إلاها آخر أو يصفه بصفة على حد ما يوصف به شي من المكونات فيطلق تارة على من لم يكن من أهل الكتاب، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}، وهم الذين لا يقارون على بذل الجزية، ومرة يقال لأهل الكتاب لقولهم عزيز ابن الله والمسيح ابن الله [وقولهم اتخذ الله ولداً] ومرة يطلق على الربا ونحوه فروى أن أبا حنيفة- رحمه الله تعالي- قال لجعفر بن
محمد- رحمهما الله تعالى- من أين قال أبوك: الرياء شرك؟ فقال: من قول الله- عز وجل- {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
ولما لم ينفك عامة الناس من تشبيه ما في أوصاف الله تعالى ومن رياء ما في عبادته، قصارى تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ...

(1/267)


والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة، والعمارة قبيلة تحصل باجتماعهم العمارة، والمعمر المسكن مادام عامرة بسكانه، [والعومرة] صحْب تدل على اجتماع عمارة، والعمري في العطية منة، والألف مشتق من الألفة، وهو ضم البعض إلى البعض، فالأعداد أحاد وعشرات ومئون وألوف، فالألف يألف أنواعها، وألسنة للعرب في أصلها طريقان من جعلها من الواو، كقولهم سنوات، وكأنها اسم لدوران الفلك، ولاعتبار الدوران فيها سمي المستقى عليها والمستقى بها [اسم لدوران الفلك] ساقية، ومنهم من يجعلها أمرا لها، فيقول: سانهته مسانهة فكأنها اسم لتغير الفصول الأربعة، ومنه قيل لسنة الطعام أي تغير، والزحزحة الإزالة عن المقر وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} فمن المفسرين من يقول: تقدير الآية: " ولتجدنهم وطائفة وكثيرا من المشركين أحرص الناس علي حياة، واستبعد ذلك بعض النحويين لحذف الموصول ترك الصلة، وقيل: تقديره " وهم {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، فكأن قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} خبر ابتداء مضمر، أي هم في محبتهم للحياة من المشركين، وأكثر المفسرين على أنه عطف على معنى قوله {أَحْرَصَ النَّاسِ}،
فإن قيل: كيف قال ذلك والذين أشركوا من الناس؟ قيل: لما كان للمشركين فضل اختصاص في محبة الحياة الدنيا خصهم بالذكر بعد العموم تخصيص جبرائيل وميكائيل بعد ذكر الملائكة، وتخصيص النخل والرمان بعد الفاكهة،
فإن قيل: فهلاَّ قال: أحرص الناس والمشركين، أو من أحرص من الناس ومن المشركين ليكون الكلام على نمط واحد، قيل: إنما قال كذلك لمعنى اقتضاه، وهو أن أفعل يستعمل على وجهين، أحدهما مضافة إلى جملة هو بعضها نحو: هو أفضل الناس، ومعناه أن فضله زائد على جل المضاف إليه.

(1/268)


قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

والثاني: أن يذكر بـ من، نحو: الإنسان أفضل من الأسد، ويرد أنه زائد على جميع الذكور، ويدلك على صحة هذا أنه إدا قيل: " زيد أفضل الناس "، وعني بالناس العموم لم يكن ذلك محالاً، لأن يقتضي أن يكون أفضل من نفسه أيضاً، إذ هو من الناس أو لا يكون منهم، فحيث ذكر تعالى الناس وأراد أنه زائد على جلهم أصناف، وحيث ذكر المشركين، عنى أنه زائد عليهم كلهم ذكر " من "، وإنما قال " على حياة " فنكرها، لأن الحياة التي يحرصون عليها هي حياة ما، وهي أحسن حياة "، فكأنها لخستها وقلة وزنها ذكرها منكرة، وإنما الحياة المطلقة هي الحياة.
الحقيقية التي وصف بها وللآخرة في قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، فأبان الله تعالي فرط حرصهم على الحياة الدنيا، وأن تمنيهم لها فوق تمني المشركين، إذ غاية تمنيهم للحياة ألف سنة، وبذلك يتداعون، ثم بين تعالى أن بقاءهم ألف سنة لا ينقذهم من عذاب الله إن ماله مدة فقصير، وإن طال، فكما قال الشاعر:
أرى العمرْ كنْزاً ناقصاً كُلَّ ليلةٍ ....
ومَاَ تنقصُ الأيامُ والدهْرُ يُنْقلُ
قوله تعالى:

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية (97) سورة البقرة.
العدو التجاوز ومنافاة الالتزام، فتارة يعتبر بالقلوب، فيقال له العداوة، وتارة في المشيء، فيقال له العدو، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة، فيقال له العدوان، وتارة إما في المكان وإما في النسب، فيقال قوم عدي أي غرباً، وجبريل فيه لغات، وإنما كثرت فيه اللغات لكونه معرباً، وتقرأه كل [قبيلة] على حسب استحقاقه، فمنهم من لم يتحر فيه أبنية كلامهم ولا تخفيف اللفظ، ومنهم من خفف ولم

(1/269)


مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

يراع البناء نحو جبريل، لأن " فعليلاً " ليس في أبنيتهم، ومنهم من راعى رده إلي بناء كلامهم، فقال جبريل نحو قنديل، وعلى ذلك اختلفت اللغات في ميكائيل، ومنهم من قال جبر هو العبد وإيل هو الله، وإن ذلك كقولهم عبد الله، فإن ذلك لا يصح على حد كلام العرب، إذ لو كان كذلك لكان مضافاً، والإذن: الإعلام بالرخصة، وقد يعبر عن الإعلام بالختم، ومعنى الآية أن اليهود زعمت أن جبريل عدوهم، فإنه لم يكن يأتي الأرض إلا بالصواعق، فقال تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} أي أن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله ومصدقاً لا تقدمه من كتب الله - عز وجل-، وهادياً ومبشرا للمؤمنين تنبيهاً على أنه لم يعاده ولا أحدا من أنبياء الله تعالى والصالحين من عباده، فليس من شأن الملك مخالفة الرب- عز وجل-، فإن هو عاداهما فلكونهم غير مؤمنين،
إن قيل: كان الوجه أن يقال: " فإنه نزله على قلبي "، قيل: يجوز الأمران، فالحكاية تارة تعاد على اللفظ، نحو أن يقال: قل لهم الخبر عندي كذا وكذا، وتارة على المعنى، فيقال: " قل لهم: الخبر عندك كذا "، وعلى ذلك: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} وسيغلبون ويحشرون "، ويجوز أن يكون قوله: قل خطاباً لجبريل، كأنه قال: قل للنبي.
قوله - عز وجل -:

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} الآية (98) - سورة البقرة.
قد يدل على تفسير هده الآية ما روي سأل عن جماعة من اليهود عن سبب امتناعهم من الإسلام، فقالوا: إن الملك الذي يأتي محمدا ...
جبريل، وجبريل عدونا ولو أتاه ميكائيل لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة، فقال عمر- رضي الله عنه- أنشدكم: أين جبرائيل وميكائيل من الله- عز وجل-؟

(1/270)


وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)

قالوا: جبرائيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، قال، فاشهدوا أن الذي هو عدو لمن عن يمينه عدو لمن على يساره، ومن هو عدو لهما فعدو لله - عز وجل-، فرجع عمر- رضي الله تعالى عنه، وقد أنزل الله هذه الآية تصديقا لقوله، ومنبهاً بذكر من ذكرهم والجمع بينهم أنما من عادى واحداً فقد عاداهم، فإنهم أولياء من والاه، وأعداء من عاداه، وبين بدلك أن اليهود إذا عادوا أحدهم فالله عدوهم، وحقيقة معاداة الإنسان لله والبعد عنه مخالفته في تحري الصدق في المقال والحق في الفعال وأن لا يستحق أن يوصف بشيء من أوصافه، نحو العادل والجواد والكريم والقريب منه والمحب له، هو أن لا يخالفه في ذلك، وإن يصح أن يوصف بتلك الصفات وتلك المعاني هي المقتضية لمعاداة أولياء الله والداعية لارتكاب المعاصي، فإذا: قول من قال معنى قوله: {عَدُوًّا لِلَّهِ} عدواً لأولياء الله، أو قال: معناه: عاص لأمره، فإنه غير مخالف لما قلنا ...
قوله - عز وجل -:

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} الآية (99) سورة البقرة.
عنى بالآيات القرآن وسائر المعجزات والدلالات التي أوضح الله- عز وجل - بها أمر النبي- عليه السلام-، وذكر أنه لا يجحد ذلك ولا ينكره إلا كل متناه في الكفر، والفاسق الخارج عن الطاعة، إما عن أصل الدين، وإما عن بعض الطاعات بارتكاب كبيرة، ولذلك قال- عز وجل- في إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، وقال فيمن يرمي المحصنات: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فبين الفاسق والفاسق بون ..

(1/271)


وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)

قوله - عز وجل -:

{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية (100) سورة البقرة.
[النبذ] والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما ينسى، وعلى ذلك قول الشاعر:
كنبذكَ نَعلاً أخُلَقَتْ منْ نعالِكاَ
وقيل: صبي منبوذ إذا ألقته أمه فنسيته، واستعير للشراب الملقى المنسي إلى وقت إدراكه، والطرح أكثر ما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء يعبتر فيه ملاقاة بين الشيئين أو بين الشيء ومكانه، ومعنى الآية: أنه لما بين تعالى أنه قد أنزل مالاً يكفر به إلاً كل فاسق بين لفظ الإنكار أن عادة بعض اليهود المذمومين تضيع العهد اللازم واطراحه، ثم بين أن عادتهم لا يؤمنون تنبيهاً أن أكثرهم وإن لم ينبذوا العهد جهاراً لم يحص منهم الإيمان الذي هو معرفة ما يجب معرفته وفعل ما يجب فعله، بل اقتصروا على ظاهر القبول الذي لا يعتد به على الحقيقة ...
قوله - عز وجل -:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الآية (101) سورة البقرة.
الرسول ههنا إن جعلته الرسالة أو جعلته النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - جعلته المسيح عليه السلام فالكل صحيح ومراد، وكذلك إن جعلت الكتابة ههنا التوراة أو جعلته القرآن فصحيح.
لأن المنكر لأحدهما

(1/272)


وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

في حكم النكر للآخر، وقد بين الله تعالى أنه لما جاءهم بعد موسى رسول مطابق له، صار فريق مما اختصوا بعلم الكتاب نبذوا أحكام كتاب الله وراء ظهورهم، فصاروا كالجهلة، وهذا الفريق غير الفريق الأول، ولهذا لم يدخل فيه الألف واللام، وقد دل تعالى بالأيتين أن جل اليهود ثلاث فرق، فريق جاهر وأنبذ العهد، وفريق لم يجاهروا بذلك، لكنهم لم يؤمنوا به، وهم أكثرهم، وفريق أخر طرحوا حكم الكتاب عناداً، فصاروا في حكم الجهلة، وهذه القسمة عجيبة الشأن، فإن دافعي الحق ثلاثة أقسام،
جاهل غير عالم بجهله، وهو الشرير الذي لا مداواة له، وإياه عنى بقوله.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}، وجاهل عالم بجهله، وهو الشاك وإياه عنى بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ومعاند غير جاهل، وإياه عنى بقوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ووصف هذا الفريق بأن حكمهم حكم الجاهلين الذين هم فوق الموصوفين بأنهم لا يؤمنون، [وكل من دافع الحق لا ينفك من الأقسام الثالثة التي ذكرناهما والله أعلم] ...
قوله - عز وجل -:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}

الآية (102) سورة البقرة.
تلا: يقال تارة في اتباع الغير إما بالجسم وإما بالحكم، ومصدره تلو، وتلو وتارة في اتباع الكلام، وإما بالقراءة وان ابالتدبر لمعناه، ومصدره تلاوة وعلى الأول قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}

(1/273)


وعلى الثاني قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}، وتلا عليه كذب نحو روي عليه، وقال عليه، (ويقولون علي الله الكذب) وأما السحر فقد اختلف في مائيته على ثلاثة أوجه، ولابد من تبيينه لينبني كلام الله عليه في هذه الآية وفي غيرها من الآيات في ذكر السحر، فالأول: ما ذهب إليه أكثر الجدليين، وهو أنه اسم خداع وتخييلات لا حقيقة له، وإنما اعتماد الساحرين على شغل القلوب بشعبذة صارفة للأبصار وتمتمة عميقة للأسماع ولصرف الأبصار، قال تعالى {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}، ولشغل الأسماع بالنميمة، قال: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، قالوا: ولهذا سمي البيانالرائق سحراً، والثاني ما ذهب إليه الأغشام من العوام وجماعة من الأشرار، وهو أنه اسم لفعل من قوته تغيير الطبائع ونقل الصور، كجعل الإنسان حيواناً أخر وذكروا من ذلك خرافات توصلت بها الملحدة والبراهمة إلى إبطال النبوات والمعجزات، والثالث ما ذهب إليه محصلة أهل الأثر وعامة
المتوسمين بالحكمة، وهو أنه عمل يقرب إلى الشيطان بمعونة منه، وذلك أن توقع الساحر وهمه على أمر يريد فعله بالغير لافظاً بكلمات من الشرك ومادحاً للشيطان مستعيناَ به والدي يحتاج إليه في معرفة ذلك مقدمة، وهي أن الجواهر المكلفة ضربان جسماني محسوس، وروحاني معقول، فكما أن الجسماني بالقول الجمل ثلاثة أقسام: خيَّر، وشرير، ومتوسط، كذلك الروحاني، فالخير من الروحاني الأرواح المقدسة، وهي الملائكة، والشرير شياطين الجن والمتوسط مؤمنو الجن كمن نزل فيهم سورة
الجن، ولا كانت الملائكة لا تواصل ولا تعاون إلا خيار الناس كل متأله نقي، وكل ناسك تقي متشبه بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله - عز وجل- بالفعل والقول، كذلك الشياطين لا تواصل ولا تعاون إلا الأشرار من الناس كل مشرك خبيث عابد للشيطان معاند للرحمن، ولهذا قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، وقال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، وقال: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}
إن قيل: لو أمكن الإنسان من جهة الشيطان الوقوف على الأخبار الغائبة والأفعال

(1/274)


الخارجة عن عادة البشر لكان يشبه طريق النبوة بطريق السحر، ولكن يجوز استغواء الساحر بسحره متصوراً بصورة نبي، وذلك يؤدي إلى ما ادعاه ما في الزنديق على كثير من الأنبياء في أنهم كانوا سحرة معاونين من قبل الشيطان، لا من قبل الرحمن - عز وجل -، قيل: الفرق بين ما يكون من فعل السحرة وبين ما يكون من الأنبياء لا يخفى على متنبه في المعرفة ومتدرج في أدنى منزلة من الحكمة، فإن تأثير السحر لا يكون إلا في فساد جزئي من كل مشرك خبيث في نفسه شرير في طبعه متدنس في بدنه، ولذلك أكثر ما يقع في حيض النساء وعبدة الأصنام وضعاف العقول وفي الأمكنة القذرة، وأكثر تأثيرهم في مجالسهم، ثم لا يكون في الندرة، ومتى قوبل بالاستعاذة بالله تعالى وبذكره بطل سلطانه، فأما ما كان من الأنبياء عليهم السلام، فلا يحصل إلا من كل مؤمن محصن الإيمان مقدس في نفسه خير في طبعه طاهر في بدنه [ويكون تأثيره] في أولي العقول الراجحة والأفهام البارعة، ويزداد بازدياد التقرب إلى الله تعالى، وذلك ظاهر لمن ألقى السمع وهو شهيد، ولو لم يكن للسحر حقيقة لا أعظم الله أمره في قوله: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، ولما أمروا بالتعوذ من شر النفاثات في العقد، ولو كان كما قال الجدليون لما ورد والشرائع بقتل السحرة ونفيهم عن بلاد الإسلام، ولما أجرى مجرى الشرك حتى قال بعض الفقهاء: لا تقبل توبتهم كالمستسر بالكفر، والنميمة والخديعة لا تستحق بها هذه العقوبة، فإن قالوا فالذي هو كفر هو ما تقول العامة إن الساحر يطير بلا جناح، ويكفي البيضة والمكنة، فيبلغ في أقصر مدة إلى بلد بعيد، قيل: مدعى دلك ومصدقه سخيفان يضحك منهما، ولا خلاف أن بذلك لا يستحقان الارتداد والقتل، وإنما يستحق القتل إذا ادعى قتل الإنسان بسحره على شرائط مخصوصة على قول بعض الفقهاء أو ادعى ما ينبئ عن صريح كفر، وقد أنكر الجدليون ما روي في ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الواضحة كنحو ما روي أن اليهود سحرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه السلام: " أتاني ملكان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما: ما بالرجل فقال الأخر: مطبوب، قال: ومن طببه؟ قال: بنات لبيد بن

(1/275)


أعصم اليهودي "، فبماذا قال في مشط ومشاطه، وجف طلعه ذكر في بئر ذوى أروان، فبعث من أخرجه وحل عقده، فكلما حل حل عقده، وجد لذلك خفة كأنما أنشط من عقال " قالوا: إن ذلك إن قلنا بصحته لكان يقدح في نبوته، وليس الأمر على ما ظنوه لما تقدم، ولأن تأثير السحر لم يكن في النبي - عليه السلام - من حيث ما هو نبي، وإنما كان في بدنه من حيث هو إنسان وبشر، وكما كان يأكل ويتغوط ويشرب ويمشي ويقعد ويغضب ويشتهي ويمرض ويصح من حيث هو بشر لا من حيث هو نبي، وإنما كان ذلك قادحا في النبوة لو وجد للسحر تأثير في أمر يرجع إلى النبوة، ثم كون النبي - عليه السلام - معصوما من الشيطان لا يقتضي أن لا يؤثر في بدنه ذلك تأثيراً صغيرا لا يقدح فيه من حيث ما هو نبي، فقد كأن تأثير ذلك في جزء من بدنه تأثيرا محسوسا لم يتعده إلى زوال عقله ولا إلي إفساد نفسه، كما أن جرحه وكسر ثناياه يوم أحد لم يقدح فيما ضمن الله له من عصمته، حيث قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، وكما لا اعتداد بما يقع في الإسلام من ارتداد أهل بلد أو غلبة المشركين على بعض النواحي فيما ذكر من كمال الإسلام بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ومن أثبت كليات الحقائق بإثبات جزئياتها لم يسعفه في قياسه لدى التحصيل مقدمته ولا يثبت به في المقامات قدمه، وأما متصرفات لفظ السحر، فقد كثرت، وذاك إنه من حيث يتصور تارة دقته وتارة، حسنه وتارة فتنته، وتارة خبثه وشرارته استعمل في كل ذلك لفظه بحسب تصور كل واحد من ذلك، فسمي الشعبذة سحرا ومنه قوله: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}، والكلام الرائق سحرا، ومنه قيل: (إن من البيان لسحرا)، والعين الفاتنة ساحرة، والعالم ساحرا، [وعلى ذلك حمل قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}، والفعل الدقيق سحرا] حتى قالت الأطباء: الطبيعة ساحرة، وسمي الغذاء

(1/276)


سحرا من حيث يدق تأثيره، قال: وتسحر بالطعام وبالشراب والسحر الرئة، فيجوز أنه سمي بذلك اعتبارا بدقة تأثيره في ترويحه القلب بإيصال النفس (البارد إليه) إخراج الحارمنه، فكأنه ساحر في فعله ذلك، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} قبل من المخلوقين وحقيقته من المجعول له سحر، أي من الحيوان، وقيل فيه، وفي قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}، أي معه رأي من الجن والفتنة: اختيار بتعذيب، ولما انطوى معناها على الأمرين استعملت في كل واحد منهما مفردة نحو قوله: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي عذابكم وفتنت الذهب إذا اختبرته بالنار، وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} يحتمل الوجهين، والآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود، وهي منطوية على أمرين: ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره وتبرئة لسليمان - عليه السلام - مما نسبوه إليه، وذلك أنه روى أن الشياطين من الإنس والجن دفنوا تحت كرسي سليمان عليه السلام شيئا من السحر، فلما مات عليه السلام أخرجوا ذلك، وادعوا أنه كان يتحرى ما يتحراه سحراً منها فذكر الله تعالى أن بعض اليهود اتبعوا ما تخرصه الشياطين على ملك سليمان، ونزه سليمان عن الكفر وما نسب إليه من السحر، وذكر أن الشياطين هم المستحقون لذلك، واختلف في قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} فقيل فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أن ما جرى معطوف على قوله {مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ومعناه: كذبوا على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين والثاني: أن ما نفى وعلى القولين: قيل لم يعلم الملكان السحر، بل كانا ينهيان عنه {حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي حتى بلغ من نهيهما عن ذلك أنهما كانا يقولان إنما نحن فتنة، أي مفتونون بأن نعلم السحر وذلك مستبعد من حيث اللفظ، فإنه إنما يقال: فلان لا يفعل كذا حتى إنه يقول كذا على سبيل الاستئناف، ولا يقول حتى يقول، وقال هذان القائلان معنى (ويتعلمون منهما) أي

(1/277)


من السحر والكفر، وقد جرى ذكر السحر صريحاً، وذكر الكفر ضمناً في قوله، كفروا، والثالث قول أكثر المفسرين إن (ما أنزل) نصب معطوف على قول السحر، ومعناه علم السحر وكيفية تعاطيه وقوله " منهما " راجع إلى الملكين، وكان تعليمهما ذلك ليحترز به، لا ليتعاطى فعلها ولهذا كانا يقولان (إنما نحن فتنة فلا تكفر)، والذي أنكره من يذهب إلى التقديرين الأولين هو لظنه أن علم السحر محظور كفعله، وليس الأمر على ما ظن، وذاك لما قد ثبت أن الحكمة معرفة الصدق من الكذب في الأقوال والخير من الشر في الأمور ليتحرى الصدق والخير ويتجنب الكذب والشر، فمعرفة الكذب.
والشر إذا واجبة كوجوب معرفة الصدق والخير، بل لا يتم معرفة أحدهما إلا بالآخر كما قد تبين أن المعرفة بالمتضادين واحد، وإن كان معرفتهما لازمة، فتعريفهما واجب، وإنما المستقبح تعاطي الكذب والقبيح، فإذا كان كذلك فلا ضير أن يبعث الله تعالى من قبله في وقت يكثر فيه الاستغواء بالسحر هن ينبه على وجه احتياله، فتزول عن الناس الشبهة، ثم إن استعان شرير به على تعاطي شر، فهو كالاستعانة بتعلم الفقه وتعاطي العبادات لاستغواء الناس، فما من شي من المعادن أو من المعارف والعلوم نسخ في هذه الدار مصلح لخير إلا ويمكن استعماله في شر، ومن لم يتمسك فيما يتحراه بالطاعة وقع في المعصية أو الكفر، وأما هاروت وماروت فالظاهر أنهما. كانا الملكين، وقيل: كانا رجلين سُميَا ملكين اعتباراً بصلاحهما ولهذا قرأ بعض القراء {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} اعتباراً بملكهما، وقال بعض المفسرين إن الملكين ليسا بهاروت وماروت، وإنما هما شيطانان من الجن والإنس وجعلهما نصباً في اللفظ بدلاً من الشياطين بدل البعض من الكل كقولك: القوم قالوا كذا زيد وعمرو، قال: ويكون قولهما: (وإنما نحن فتنة) كقول الخليع لغيره: لا تعيرني فإني خليع فاسق، ويكون قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} نفقاً اعتراضاً بين البدل والمبدل منه، وروى بعض من جعلهما ملكين أنهما كانا صيُراً على صورة الآدميين وركب منهما الشهوة، وأنهما تعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على شرب الخمر وارتكاب المحظور ثم صعدت إلى السماء، فقد استسخف جماعة الجدليين قائل هذا الحديث وعدوه خرافة ينره العاقل سمعه عن سماعه، وذكر بعض الناس أن ذلك رمز منقول عن

(1/278)


كلام القدماء، وكان عادتهم أن يرمزوا بكثير من العلوم قال: وهذا من رموزهم، وهو أنه كان عادتهم إذا أرادوا تبيين اختصاص كل نجم بفعل يختص به جعلوه بصورة متعاطي الفعل الخاص به ويقول: إنه فعل كذا وقال كذا، ولما كان من شأن الزهرة على ما يدعون حمل الإنسان على تعاطي الغزل واللهو واللعب والشرب كنوا عنه بذلك، وعلى ذلك قالوا: الأفعال الزهرية كناية عن الغزل واللعب، وعلى ذلك فعلوا في سائر النجوم حتى جعلوا لها صوراً مصورة في الكتب على هيأت المتعاطين الصناعات المختصة بطبعها والله أعلم بذلك، وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} قيل: عني به الرجل وامرأته، وقيل: عني به الإنسان وقرناءه وأصدقاءه امرأة كانت أو غيرها، نحو قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}، وقوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} معطوف على ضمن ما تقدم، كأنه قال: يعلمون فيتعلمون، وقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الإذن قد يقال في الإعلام بالرخصة، وقد يقال للعلم، ومنه أذنته بكذا، ويقال في الأمر الجسيم، وينبغي أن يعلم أن الإذن في الشيء من الله تعالى ضربان، أحدهما: الإذن لقاصد الفعل في مباشرته نحو قولك: أذن الله لك أن تصل الرحم، والثاني: الإذن في تسخير الشيء على وجه تسخير السم في قتله من يتناوله والترياق في تخليصه من أذيته، فإذن الله تعالى في وقوع التسخير وتأثيره من القبيل الثاني، وذلك هو المشار إليه بالقضاء، وعلى هذا يقال: الأشياء كلها بإذن الله وقضائه، ولا يقال: الأشياء كلها بأمره ورضاه، والضر ما يعوق الإنسان عن فعل الخير سواء كان ذلك مما يعرض في بدنه، أو كان شيئا خارجاً منه، والنفع ما يسهل سبيل الإنسان إلى الخير، ومن قال: النفع هو اللذة، فإنما اللذة بعض النفع، فقد يكون الشر نافعة، ولا يكون لذيذاً،
إن قيل: كيف قال: {مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} وما يضر يعلم أنه لا
ينفع؟ قيل: إن ذلك من وجه ووجه، فقد يكون الشيء نافعة من وجه وضاراً من وجه، وتعلم السحر كان

(1/279)


نفعاً لو احترزوا بمعرفته عمن يغوى، فلم ينتفعوا به من هذا الوجه واستضروا به لاستعمالهم إياه في غير الحق ولقد علموا أن من استبدل ما جاءت به الشياطين من السحر بالحق أن لاحظ له في الآخرة.
قوله - عز وجل -:
{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الآية (102) سورة البقرة.
ويصح أن يكون معطوفاً على المعلوم، وهو قوله: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} ويصح أن يكون استئنافا حكماًَ به، وجواب قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} محذوف.
إن قيل: كيف أثبت لهم العلم في أول الكلام ونفى عنهم في أخره؟ فالجواب في ذلك من أوجه ..
الأول: أن العلم المثبت لهم هو العقل الغريزي، وما جعله لهم بصيغته، والمنفي عنهم هو المكتسب الذي هو من جملة التكليف، والثاني: أن المثبت لهم هو العلم بالجملة، والمنفي عنهم هو العلم بالتفصيل، فقد يعلم الإنسان مثلاً قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح، فكأنهم علموا أن شرى النفس بالسحر مذموم، لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من حملة ذلك القبيح، والثالث: أنهم علموا عقاب الله، لكن لم يعلموا حقيقة عقابه وشدته، والرابع: أن معنى قول {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} يعملون به، لأن من لا
يعمل بما يعلم فهو في حكم من لا يعلم.

(1/280)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

قوله - عز وجل -:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} الآية (103) - سورة البقرة.
الثؤوب: رجوع الشيء إلى حالة شبيهة بالحالة الأولى، يقال: ثاب الحوض إذا امتلاء بعد فراغه عقيب امتلائه، والثوب لتصوره بصورة القطن لاجتماع أجزائه بعد تفرقها بالغزل، والثيب من النساء لعودها إلى الأيمة، والتثويب في الصوت ترديده، والثواب والمثوبة في الخير تحصيل نفع يثوب إليه بإحسانه، ومعنى الآية: لو أمن الذين يتعلمون السحر واتقوا لأثيبوا وكان ذلك خيرا لهم، ولو علموا لظهر لهم ذلك، وجواب لو [الأولى] ما دل عليه لمثوبة وتقديره: لأثيبوا، تقول: لو أتاني زيد لإكرامي خير له، ولا تقول له أتاني زيد لعمرو منطلق، إذ لم يدل لفظ عمرو على فعل، وجواب لولا يكون إلا فعلاً، أو ما دل عليه، ومن النحويين من أجاز ذلك إذا دل الخبر على فعل ...
قوله - عز وجل -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

الآية (104): سورة البقرة:
الراعي: حفظ الغير في أمر يعود بمصلحته، ومنه: رعي الغنم، ورعي الوالي الرعية، وعنه نقل: أرعيته سمعي، وتشبيهاً برعي الغنم قيل: رعيت النجوم إذا راقبتها، وكان يقال للنبي- عليه السلام-[راعنا] أي استمع إلينا واحفظنا، فقالت اليهود: راعنا تعريضاً به من الرعونة، فلما عوتبوا قالوا: إنما نقول مثل ما يقول المسلمون، فنهوا عن ذلك، وقيل لهم: قولوا بدل ذلك انظرنا، وذلك معناه معنى راعنا، وقد نبه على ذلك بقوله- عز وعلا-: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} الآية، وقوله: {وَاسْمَعُوا}: يجوز أن يكون من جملة ما أمروا لن يقولوا مع قولهم " انظرنا " ويجوز أن يكون ذلك استئناف أمر من الله تعالى بامتثال ما أمرهم به، وقيل: إنما نهوا عن قولهم: " راعنا " لكونه

(1/281)


مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

مفاعلة متضمنة لمعنى المساواة بين المخاطب والمخاطب، فأمروا بتوقيره، كما قال {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}، وكقوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}، وذلك عن ابن عباس- رضي الله عنه-، وروي عن مجاهد أن معناه: لا تقولوا خلافاً ويكون من الرعن، وأسترذل هذا الوجه، لأنه لو كان كما قال لكان في القراءة رعناً بالتنوين.
قوله - عز وجل -:

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الآية (105) - سورة البقرة.
الود: محبة الشر مع تمنيه، ولما كان لهما استعمل في كل واحد منهما، فقيل: وددت فلانا إذا أحببته، وددت الشيء إذا تمنيته، وأصل الاختصاص الخصاص وهو فرجة بين الشيئين، ومنه الخُص لبيب من قصب لما فيه من الفرج، وسمي انثلام الحال خصاصاً وخصاصة على التشبيه، كما سمي انثلاماً واختلالا وشعباً، وخصصت فلاناً وخصني أوليته خصاصي نحو خللته، وقولهم: وقفتهم على عجزي ونحري، وخُصان الرجل خلانه، ثم جعل الخاص مقابلاً للعام في التعارف، وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من اليهود كانوا يظهرون مودة المسلمين، ويزعمون أنهم يودون لهم الخير، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، ونفي ما أدعوه وكان المسلمون يوالونهم ويركنون إليهم، فأكذبهم الله تعالي في ذلك [ونفى ما ادعوه] ونهاهم تعريضاً عن موادتهم، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ}
إن قيل: فلم قال: " ولا المشركين " وذلك يقتضي أن المشركين ضربان، كافر، وغير كافر كما أن أهل الكتاب ضربان؟ قيل: إن " من " في قوله (ومن أهل الكتاب) للتبيين {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}، فإذا كان كذلك، فالذين كفروا هم أهل الكتاب، فجاز أن يقال: (ولا المشركين) عطفاً على لفظ أهل الكتاب، وجاز أن يقال (ولا

(1/282)


مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

المشركين) عطفاً على الذين، ولو قرئ به لجاز، كما جاز، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} والكفار النصب والجر جميعها ومن في قوله: {مِنْ خَيْرٍ} لاستغراق الجنس، وبين بأخر الآية أنه وإن اختص برحمته بعض الناس، فليس ذلك لضيق فضله، بل فضله عظيم، ورحمته [تسع كل شيء وإنما يسع رحمته] ضربان، أحدهما يصل إليه كل من شاء الوصول إليه من العباد
بتمكين الله إياه وضرب يخص تعالى به بعض عباده لا يعرفه في ذلك ..
قوله - عز وجل -:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

الآية (106) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في مناهية النسخ والفرق بينه وبين التخصيص في صدر الكتاب، والنسخ في اللغة إزالة الصورة عن الشر وإثباتها في غيره كنسخ الظل للشمس، ثم يقال في إزالة الصورة من غير إثباتها في غيره نحو قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}، ويقال أيضاً في إثبات مثل تلك الصورة في الغير من غير إزالتها سكن الأول كنسخ الكتاب وأصحاب التناسخ زعموا.
أن النفوس تنتقل من هيكل إلى هيكل، فإن كانت محسنة انتقلت إلى هيكل متنعمة فيه، وإن كانت مسيئة فإلى هيكل معذبة فيه، وليس الإنسان الأمر بالترك المؤدي إلى النسيان، وليس كل متروك يقال له منسئ، وقرئ ننسأها من النسئ، وهو تأخير الشيء عن وقته أو عن هيئته، فمما هو بالوقت قولهم:
نسأت في ظمي الإبل، ونسأ الله في أجلك، و " نسأت المرأة " تأخر وقت حيضها، وأنسأت فلاناً البيع، وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ومما هو بالهيئة نسأت الإبل عن الحوض،

(1/283)


ونسأتها في السير، ومنها المنسأة للعصا التي يطرد بها، وحمل المفسرون النسخ والإنساء على وجهين: أحدهما أن النسخ هو إزالة الحكم من غير اللفظ، أو الحكم مع اللفظ، والإنسان مقابله، وهو أن لا ينسخ بل يُقر، والثاني: أن النسخ إزالة الحكم فقط ثبات اللفظ أو لم يثبت، ولهذا قال الفقهاء:
إن النسخ لا يكون إلا في معنى الأمر والنهي معني الخبر والإنشاء يكون في الإخبار وفي الأمر والنهي، لكن في الخبر معناه لا يزول وإن زال اللفظ، وقد يستعمل أحد اللفظين مكان الأخر، فمن هذا ما روت عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنه نزل في قصة أهل بئر معونة قرآن منه: (بلغوا قومنا) أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا)، ثم نسخت، ففيه دلالتان:
إحداهما أن قوله: (لقينا ربنا) إخبار، وقت سمته نسخاً، والثانية: أنها استعملت النسخ في رفع التلاوة دون المعنى، وعلى ذلك ما روي أنه كان فيما أنزل الله: (لو أن لابن أدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملا جوف ابن أدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)، ثم نسخ وذلك خبر، وقيل: الكلام في تأويل الآية أن يذكر ما يكشف خطأ اليهود وشرذمة من المسلمين أنكروا النسخ زاعمين أن ذلك هو المبدأ، ولا يفعلن إلا من يجهل العواقب ويتجدد له رأي بعد رأي، فيقال وبالله التوفيق ...
" إن لله تعالى خلفاء في الأرض مستخلفين فيها ومستعمرين فيها لنتوصل بذلك إلى مجاورته والقرب منه بحياة لا موت بعدها، وغنى لا حاجة معه، وقدرة لا يعتورها عجز، ولا سبيل إلى ذلك إلا باكتساب الصحة في النفس، وصحتها أمران: العلم والعمل، أما العلم: فمعرفة الصدق من الكذب، والجميل من القبيح، والخير من الشر، وأما العمل: فتحري الصدق في المقال والجميل في الفعال وتجنب ضديهما، وكما لا سبيل إلى استفادة صحة البدن إلا بطبيبين، أحدهما من داخل وهي القوة

(1/284)


التي سخرها الله تعالى لاستدعاء الطعام وهضمه ودفعه، والثاني من خارج، وهو الذي يتلف من هذه القوة إذا اختلت، كذلك لا سبيل إلى استفادة صحة النفس إلا بطبيبين أحدهما من داخل وهو العقل، والثاني من خارج وهو النبي وكما أن أدوية البدن وأغذيته العقاقير والأطعمة، فأدوية النفس الأعمال الشرعية والآداب الخلقية، وكما أن طبيب البدن قد يغير الأغذية والأدوية التي يتوصل بها إلي استفادة الصحة واستبقائها لاختلاف الأزمنة، كذلك الأنبياء من قبل الله قد يغير الأعمال الشرعية التي هي مصلحة للأنفس حسب ما يعرف الله من مصالحها، فكما يكون الشيء دواءً للبدن في وقت، ثم يكون داءً في وقت غيره، ذلك الأعمال قد تكون مصلحة في وقت، مفسدة في وقت، ولكون الشريعة طلباً للنفوس قال المسيح: " إنما أنا طبيب المرضى "، وروى: أن العالم طبيب الدين، والدنيا داؤه فإذا جر الطبيب الداء إلى نفسه، فكيف يداوي غيره، ومما يبين جوار النقل من حكم إلى حكم نقل الله تعالى الأشياء حال إلى حال حتى ينتهي إلى أقصى الكمال كمال الإنسان من مبدأ إلى منتهى عمره وذلك من حين النطفة، ثم العلق، ثم المضغة، ثم كونه جنيناً، ثمة طفلاً، ثم ناشئاً وكهلا وشيخاً وهرماً، ثم ما نبه النبي عليه السلام بقوله: " إن لكم معالم، فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلي نهايتكم "، ولو كان نقل الشرع من حال إلى حال قبيحاً لكان بعثة موسى ونقله اليهود عن بعض ما كانوا عليه قبيحاً، وأماما حكوه عن موسى عليه السلام- أنه قال لبني إسرائيل هذه الشريعة لازمة لكم أبدآ مادامت السموات والأرض، فلفظ محتمل وفي إتيانه على وجه محتمل حكمة عظيمة قد ذكرها الحكماء، وهي أن من عادة العامة وغريزتها أن لا ينقاد كل الانقياد لراع أو رئيس إذا علموا كونه مصروفاً من بعد، بل يستوهنون أمره ويضعفون حاله، فإذا واجب أنما لا يعلموا بأن أمره غير ممتد، وأن لا يبين ذلك إلا للأعيان الذين لا يكون منهم مفسدة، فلهذا كانوا الألفاظ الواردة من الأنبياء عليهم السلام محتملة أن شريعتهم على التأييد، فإن قيلت إن ذلك يؤدي إلى أن يقال في

(1/285)


نبينا- عليه السلام- إنا لم نعلم كونه دينه- عليه السلام- على التأييد من قوله فقط، بل علمنا ذلك قول من قوله ببرهان، وهو أن دينه بالاعتبار العقلي وسحل كما وصفه تعالى بقوله: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} وأنه مصون عن الإفراط والتفريط والوسط الذي هذا صفته هو الحق الذي قال تعالى فيه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}، ولشرح دلك موضع غير هذا وبالله التوفيق، وأما معنى الآية، فعلى قول من يجعل الإنشاء مقابلاً للنسخ قال: لما أنكرت اليهود تحليل الله الشيء في وقت [وتحريمه في وقت] بين الله تعالى أن جميع ما في التوراة، والكتب المتقدمة ضربان إما حكم قد نسخ فأتى بما هو خير أي أنفع لكم، أو يترك فلم ينسخ وأتى في القرآن بمثله، أي جمعناه في لفظ آخر، فيكون بقوله: (بخير منها) راجعاً إلى النسخ وبمثلها إلى الإنسان،
فإن قيل: إن الذي ترك ولم ينسخ ليس هو مثله بل هو هو، فكيف قال بمثلها؟ قيل: الحكم الذي أنزل في القرآن وكان ثابتا في الشرع الذي
قلنا يصح أن يقال هو هو إذا اعتبر بنفسه ولم يعتبر بكسوته التي هي اللفظ، ويصح أن يقال: هو مثله إذا لم يعتبر بنفسه فقط، بل اعتبر باللفظ، ونحو ذلك أن يقال ماء البئر هو ماء النهر إذا اعتبر جنس الماء، وتارة يقال: مثل ماء النهر إذا اعتبر قرار الماء، وعلى قول من جعل الإنسان ترك اللفظ حتى تنسى قال: معناه: إدا أزيل حكم آية أو أنسى لفظها نأت بما هو أوفق لكم وأقرب إلى أن يبلغوا به إلى ما أريد منكم، ثم قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا تحسبن أن تغييري الحكم حالاً فحالاً وإن لم آت بالثاني في الابتداء هو العجز، فإن من علم قدرته على كل شي لا يظن ذلك، وإنما يعتبر ذلك لا يرجع إلى مصلحة العباد، وبدأ الأليق بهم في الوقت المتقدم الحكم المتقدم وفى الوقت المتأخر الحكم المتأخر، وقال بعض المحققة أن الآية مع هذا الظاهر تنبئ عن معنى لطيف، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان خلقة تدرجه من حال إلى حال إلى أنما يصير كاملاً موصوفاً بعام

(1/286)


صفاته ومتخصصاً بالبقاء الأبدي والغنى السرمدي ومنفكاً من الحاجات والنقصانات كلها، فنبه الله تعالى أن هذه الأحوال آيات له ينسخها إلى مثل ما هو كالأول من وجه وخير منه من وجه، ثم بين أنه تعالى قادر على ذلك إذ هو قادر على كل شيء، وقد تعلق الشافعي وأصحابه في قولهم: إن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن بهذه الآية، ووجه ذلك أن قولنا هدا خير من كذا، وأفضل منه يرجع إلى شرفه من ثلاثة أوجه إما إلى فضل موجده، أو إلى جنسه، أو إلى تأثيره، مثال الأول: قولك: أفعال الله أفضل من أفعالنا، ومثال الثاني الملائكة أفضل من الحيوان ومثال الثالث: السيف أفضل من العصا ومثل يقال على ثلاثة معاني لها ثلاثة ألفاظ مماثلة في الجنس، ويقال لها الند مماثلة في الكيفية، ويقال لها الشبه ومماثلة في الكمية، ويقال لها المساواة، وثلاثتها يقال لها مثل، وقد ضمن الله تعالى أنه لا ينسخ آية إلا بخير منها أو مثلها، فالسنة ليست بخير من الآية ولا مثلها في الجنس، إذ جنس القرآن تتعلق به المعجزة وإن أمكن أن يقال: هي مثلها في الوصفين الآخرين، وأما وجه قول مخالفيه، فهو أن الله تعالى وإن ذكر الآية، فإنما أراد حكمها، لأن النسخ لا يكون إلا في الأحكام، فإذا قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ليس إلا في الأحكام، فكأنه قيل: " ما ننسخ من حكم الآية إلاً نأت بخير منه أو مثله، فعلى هذا مدار الكلام وتعلق أهل الظاهر بالآية، حيث ذكروا أن الناسخ لابد أنما يكون أخف من المنسوخ، وذهبوا في الخفة إلى ما يستخفه النفس بالطبع، وذلك بعيدا فإن الشريعة مبنية على مخالفة النفس وعلى مجانبة مقتضى الطبع، ولهذا قيل هذا إذا عن أمران، فاشتبه وجه الصواب فتخير أثقلهما على النفس، وعلى هذا قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
إن قيل: إذا لم يحمل خبر علي التخفيف فليست الثانية خيراً من الأولي في شي من الأحوال، لأن الأولى في الوقت أصلح وأفضل، والثانية في الوقت أصلح وأفضل، فقد تساويا في عظم المصلحة، وبطل أن يكون الثانية خبرا بأن يكون أثقل وأكثر أعمالاً ليكون أجزل في الأجر وأكثر ثواباً، ومع هذا

(1/287)


أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

فإن الثانية خير من الأولى في الوقت الثاني، لأن الأولى قد بطل العلم بها، وقوله بخير منها يعني في الوقت وتعلقهم بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فبعيد، فإن التخفيف واليسر في الأمور الإلهية في الدنيا والآخرة هما مما تستثقله النفس، أما في الآخرة، فأنه لا وصول إلى ذلك إلا بتحمل المشاق في الدنيا والعمل بالطاعات ومخالفة الهوى، وأما في الدنيا فإن التخفيف واليسر مع حصول العلم والصبر والعفة الواضحة عن الإنسان ثقل الجهل والجزع والخوف والفقر.
قوله - عز وجل -
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}

الآية (107) - سورة البقرة.
الولي يقال تارة لمن له موالاة نسبية أو خلف، وتارة لمن له ولاية سلطانية، وإنما ذكر الولي والنصير، وهما متقاربان بالعنف، لأنه قد ينفك الولي من النصرة بأن يكون ضعيفاً، والنصير من الولاية بأن يكون عن المنصور أجنبياً، وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّه} ِإذا تصور خطاباً للكفار اقتضى وعيدا أي لأولي وناصر يحميكم عنه نحو قوله تعالي.
{إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} إدا تصور خطابة للمؤمنين اقتضى تسكيناً لهم أي لا تعتدوا بمن يواليكم وينصركم سواه، كقوله: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ}، وإذا اعتبر بهما فالمعنيان فيهما موجودان أي لا تعتقدوا أن لكم ولياً وناصراً إذا لم يكن الله وليكم تنبيها أنه تعالي هو الذي لا يمكن تصور ولي وناصر مع تصور

(1/288)


أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

ارتفاعه عز وجل، وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (ألم تعلم) وإن كان الخطاب له ولغيره، لذكره العلم ولا أحد من البشر أعلم بذلك منه- عليه السلام-، أو قد وقف من أسرار ملكوت السموات والأرض على ما لم يوقف عليه غيره والقصد بالآية، أنهم لما أنكروا النسخ معرفتهم أنه تعالى ينقل عباده من حكم إلى حكم على ما يرى من مصالحهم، وبين أن ذلك ليس لعجزه، إذ هو قادر على كل شيء ومالك له، إنما قيل: لم كرر: " ألم تعلم "، ولم يعطف الثاني على الأول، قيل إنه لا جعل حكم الثاني كالعلة للأول أخرجه مخرج الأول، فكأنه قيل: " هو على كل شي قدير "، لأن له ملك السماوات والأرض، وإخراج
الكلام على لفظ التقرير لكونه أبلغ في حكم الخطابة، وموضع قوله: (ومالكم) معطوف على موضع {أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ...
قوله - عز وجل -
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}

الآية (108) - سورة البقرة.
السبيل والطريق يتقاربان لكن السبيل يقال على اعتبار السبل، كقولهم: طريق مسنون، ومنه أسبلت الإزار، والستر والسبلة المسترسل من الشعر على الشفة العليا والسبيل المطر مادام بين السماء والأرض، والطريق يقال على اعتبار طرقه بالأرجل، االسواء أصله يستعمل في المكان الذي يستوي فيه إليه مسافة الطرفين وفي ذلك معنى القصد والعدل، فصح أن يفسر بالوسط وبالقصد وبالعدل وليست هذه الألفاظ في تفسيره أقوالاً مختلفة كما ظنه بعض المفسرين، وأما " أم "، فقيل هو معطوف على قوله: (ألم تعلم)، وتقديره: ألم تعلموا ذلك أم لم تعلموا فتسئلوا رسولكم، وقيل هو لاستئناف الاستفهام المفسر بها، كقول الشاعر:
كذبتْكَ عيْنُكَ أمْ رأيْتَ بِواسطٍ؟

(1/289)


وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن أهل الكتاب سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وذلك هما ذكره في قوله- عز وجل {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية-، وقيل: هو ما سأله مشركو العرب وهو قولهم له {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} وقيل: سألوه أن يجعل الصفا ذهباً، فقال: هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل، فأبوا، وقيل، سألوه أن يجعل لهم ذات أنواط وهي شجرة تعلق فيها الأسلحة ليقتدوا بالمشركين في اتخاذها فقال عليه السلام: (الله أكبر، سألتم كما سال بنو إسرائيل موسى، فقالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)،
إن قيل: ما فائدة قوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} ومعلوم أنه بدون الكفر بالإيمان يعلم أنه قد ضل؟ قيل سواء السبيل وفي ذلك تنبيه أن ضلالة سواء السبيل قائدة إلى الكفر بعد الإيمان، ومعناه: " لا تسألوا رسولكم كما سئل موسى فتفضلوا سواء السبيل فيؤدي بكم إلى تبديل الكفر بالإيمان "، فمبدأ ذلك الضلال عن
سواء السبيل، ووجه آخر وهو أنه سمي معاندة الأنبياء عليهم السلام بعد حصول ما تسكن النفس إليه كفراً، إذ هي مؤدية إليه، كتسمية العصير خمراً، فقال: " ومن يتبدل " أي يطلب تبديل الكفر والإيمان أي بما حصل له من الدلالة المتقضية لسكون النفس فقد ضل سواء السبيل، ووجه ثالث، وهو أن ذلك نهاية التبكيت لن ظهر له الحق فعدل عنه إلى الباطل، وأنه كمن كان على وضح الطريق فتاه فيه، ووجه رابع: وهو أن سواء السبيل إشارة إلى الفطرة التي فطر الناس ما عليها، والإيمان إشارة إلى المكتسب من جهة الشرائع، فقال: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} أي بالإيمان الكتاب فقد أبطله وضيع الفطرة التي فطر الناس عليها، فلا يرجى له نزوع عما هو عليه بعد ذلك ...

(1/290)


وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)

قوله - عز وجل -:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

الآية (109) - سورة البقرة.
الحسد: كراهية نعمة على مستحق لها، وعدت من عظائم الذنوب، إذ هو معاندة الله في إرادته، وهو شر من البخل، فإن الحسد بخل على الغير بنعمة من لا تنفد العطايا نعمه، والعفو ترك العقوبة على المذنب، والصفح ترك ترئته، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، وصفحت عنه: أي أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه، أو لقيت صفحته متجافياً عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه إلى غيرها من قولك: تصفحت الكتاب، وفي الآية تنبيه أن كثيراً من أهل الكتاب يتمنون ارتدادكم بعد إيمانكم حسداً، وقوله: (من عند أنفسهم) أي من عند هواهم كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، وعبر عن الهوى بالنفس وهي الأمارة بالسوء، وبين أنهم فعلوا ذلك بعد وضوح الحق لهم، ولكنهم بحسدهم وهوائهم لا يتحرونه، ولا يحبون أن يتحراه غيرهم، ثم أمر بالتجافى عنهم إلى أن يأتي الله بأمره تسكيناً لهم ووعداً بتغييره لقدرته على كل شك، وروي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن هذه الآية منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وقال غيره: هي غير منسوخه، وهذا الخلاف يرجع إلى اختلاف نظيرين، وذاك أن كل أمر ورد مقيداً بانتهاء ما معين أو غير معين فورود الأمر بخلافه يصح أن يقال: هو نسخ له من حيث إنه يرفع الأول، ويصح أن يقال: إنه ليس بنسخ، فإن النسخ في الأمر المطلق.

(1/291)


وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

قوله - عز وجل -:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

الآية (110) - سورة البقرة.
هذا معطوف على قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}، ومعناه: اشتغلوا بالعبادات التي يعود عليكم فعلها نحو: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، وجعل ثواب الفعل نفس الفعل لكونه إياه في التقدير، وبهذا النظر سمي ثوابه وهو الثائب إليه، فلذلك قال: تجدوه، وبين أن كل خيري حصله الإنسان فمدخر له بخلاف عمل الكفار الذي قال فيه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، وبخلاف عمل الدنيا الذي قال فيه: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، وعلى ذلك قال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ}، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، وأمنهم من ضياع ما يقدمونه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تنبيها على نحو قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
إن قيل: كيف قال تجدوه، ومن أحبط عمله لا يجده! قيل الخبر المقدم في الحقيقة هو الذي لم يحبط، فأما ما أحبط فقد أخرج من كونه خيرا [وإن كان] قد يسمى في بعض الأحوال خبراً بنظر من يضعف نظره ...

(1/292)


وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)

قوله - عز وجل -:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

الآية (111) - سورة البقرة.
البرهان: كل حجة لا يعتريها شبهة بوجه.
وهود، قال الفراء: أصله يهود، فحذف ياؤه لكونها زائدة، وقال غيره: هو جمع هايد أي تائب نحو: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، وكأنه كان في الأصل اسم مدح لمن تاب منه، ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لجماعتهم كالعلم لهم وجعل مقالهم ذلك، أماني من حيث أن الأمنية مقال منيعة عن تقدير، فيستعمل تارة في التقدير حقاً كان أو باطلا على ذلك، حتى بين ما تمنى لك الماني، وتارة في المقال، وقوله: (لن يدخل) كلام " ملفوف " وتقديره: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخلها إلا النصارى فأجمل اكتفاء بعلم السامع أن يرد كلأ إلي ما يقتضيه ونحوه في الإجمال قوله- عز وجل- {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}.
ثم [كذبهم] بعجزهم عن إقامة البرهان على ما ادعوه.
قوله- عز وجل- {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
بل: رد لدعواهم وإثبات لضد حكمهم، والإسلام: الدخول في السلم، وقيل للانقياد إسلام، نحو:
كَمَاَ أسْلمَ السَّلْكَ منْ نِظْمه ...
لألئ منُحْدراتٍ صغَاراً
لأن الانقياد للمسالم من مقتضى السلم، وجعل الإسلام في الشرع ضربين، ضرباً قبل الإيمان دونه، وهو الاعتراف باللسان الذي يحقن الدماء حصل معه الاعتقاد الصحيح أو لم يحصل، وإياه

(1/293)


عنى بقوله - عز وجل -:
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وضرباً بعد الإيمان وفوقه، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقاد بالقلب ووفاء بالفعل، وإياه عنى يوسف بقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} أي الطاعة هي تسليم لأمر الله- عز وجل، وهذا الإسلام بين مبدأه ومنتهاه بون بعيد، وكان منتهاه على حسب طاقة البشر حال إبراهيم- عليه السلام- حيث ابتلى، فقيل له أسلم، فقال أسلمت لرب العالمين، ثم وفي بما كان منه، وهذا هو الإخلاص المراد من الأولياء، وأصل الوجه العضو المقابل من الإنسان فاستعير للمقابل من كل شيء حتى قيل: واجهته ووجهته، وقيل للقصد وجه، وللمقصد وجهة، وعلى ذلك {أَسْلَمَ وَجْهَهُ}، {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ}، {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} وعلى ذلك قوله: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا}.
ولما جعل دلك للقصد أضيف تارة إلى القاصد كما تقدم، وتارة إلى المقصور، كقولك: " أردت بكذا وجه الله "، وقد حمل على ذلك {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، وقيل: الوجه في هذه المواضع اسم العضو مستعاراً للذات، فقوله: أسلم وجهه أي نفسه والإحسان قيل هو الإتيان بلد فرض العبادة بالنفل، وبعد إقامة العدل بالفضل ولما كذبهم الله عز وجل فيما ادعوه

(1/294)


من دخول الجنة بيد أن من أسلم نفسه له على حد ما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، وكان قصده إياه فيما يتحراه وهو ملتزم مع فرائضه نوافل حصل له ما ادعوه وزيادة فإن له أجره وهو الجنة، ومع ذلك فلا خوف عليه في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فبأن يجعل له يقيناً وصبراً قناعاً تكفيه الخوف على شيء يفوته والجزع لشيء قد فاته، وأما في الآخرة فبأن يكفيه شدائده " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئأ "
إن قيل: كيف قال (لا خوف عليهم) وقد مدح المؤمنين على خوفهم بقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} قيل: إن الذي نفي عنهم هو ما تقدم آنفاً، والذي مدحهم به هو توفية حق العبادة، فإن مخافة الله إقامة عباداته وارتسام مرسوماته، ولذلك قيل: من لم تخف نفسه الدنيا فلا يعذبه [خائفاً] وقيل: معنى {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: من آمن وعمل صالحاً، وما تقدم منطوٍ على هذا ...

(1/295)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

قوله - عز وجل -:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}

الآية (113) - سورة البقرة.
الكتاب يتناول كل كتاب منزل، والفرقان يقال في التوراة وفي القرآن، والقرآن يختص بالمنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وروي أنه لما قدم نصارى نجران علي رسول - صلى الله عليه وسلم - أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عنده، وقال كلا الفريقين للآخر: لستم عدي شيء، فأنزل الله-عز وجل - هذه الآية،
إن قيل: كيف عرض تعالى بتكذيبهم فيما ادعوه وقد صدق الفريقان على قول المسلمين؟ قيل: ليس قول أحد الفريقين بسديد من وجه، إذ قد بتوا الحكم وليس ذلك على البت والقطع، فلكا الفريقين في وقت وعلى وجه على حق، على أن القصد بالآية الدلالة على جهلهم وتخبطهم مع تشاركهم في قراءة التوراة دالة على ما اختلفوا فيه، فبين أن كلا الفريقين حائد عن الطريق، وأنهم في الجهل أو التجاهل
كالمشركين الذين لا كتاب لهم في دعواهم على أهل الكتابي والمسلمين أنهم ليسوا على شي، ثم توعد الفريقين بحكمه بينهم [يوم القيامة] وقد أبهم حكمه فيدخل فيه كل قول قالوه من قول من قال: عني إنصاف المظلوم من الظالم، وقول من قال: عني تعريف المكذب من المكذَّب، وقول من قال: مثل قوله {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}.

(1/296)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

قوله - عز وجل -:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

الآية (114) - سورة البقرة.
المنع، أن يحال بين من المراد ومريده، ولما كان الشيء قد يمنع ضناَ به صار المنع متعارفاً في المتنافس فيه، والسعي مشئ بسرعة، وهو دون العدو، وخص بأنواع من السعي منها: السعاية، أي الوشاية وسعي العبد في اكتساب ما يعتق به والتصرف، للتكسب، ولجباية الصدقة حتى صار الساعي معروفة في جابي الصدقة، وجعل المساعدة كناية عن الفجور بالأمة والخراب ضد
العمارة، وجعل الخربة لسعة خرق الأذن تشبيها بالخراب، وشبه عروة المزادة بها، فقيل خربة، والخارب: السارق لتخريبه، أو لكونه سكاناً في خراب متوحشاً عن الناس، فيكون بنائه كباد وحاضر، وقيل: هو مخصوص بسارق الإبل خاصة، والأولى بالمساجد أن تكون عامة في كل مكان مرشح للصلاة، فقد قال عليه السلام.
" جعلت لي الأرض مسجداً وطهواًَ "، وعظم تعالى ظلم من سعي في المنع من ذكر الله وتخريب الأمكنة المختصة بأهل الشرائع المحقة مسجدا كان أو غير مسجد، وليس
التخريب الهدم فقط، بل تعطيله عن عباده الله- عز وجل-.
وقول ابن عباس ومجاهد: إنه عني به الروم إذ خربوا بيت المقدس، وقول غيره إنه عني " بخت نصر " لما خربه، وقول من قال: إنما عني به المشركين إذ صدوا النبي عليه السلام عن المسجد الحرام،

(1/297)


وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

وكل ذلك أمثلة منهم لحكمه وسبب النزول هذه الآية لا أنه لم يرد بها غير ذلك، يبين دلك أنه قال: مساجد بلفظ الجمع، وقوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} لفظه خبر، ومعناه منطوٍ عليه وعلى الأمر، فإن بيوت الله- عز وجل ممنوعة عن الكفار في دار الإسلام إلا بإذن، ويكونون خائفين، والحكم أن لا يمكنوا إلا بشرط حاجة تقتضي ذلك، ثم ثبت لهم الخزي في الدنيا، وذلك تارة بالهوان الذي يجري عليهم، وتارة بأخذ الجزية منهم، وقتلهم، والسبي، منهم، ومنعهم عن كثير مما يباح للمسلم، وإليه نظر قتادة وجماعة وفسروا به، وتارة بالهوان الذي يلحقهم في أنفسهم من جنبهم وجزعهم وخوفهم وسائر الآفات النفسية وتارة من حيائهم من عقلهم لاضطراب نفوسهم وقلوبهم وقلة سكونهم لما اختاروه، وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}.
قوله - عز وجل -:
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

الآية (115) - سورة البقرة.
المشرق والمغرب تارة يقالان بلفظ الواحد إما إشارة إلى ناحية الأرض، وإما إلى المطلع والمغيب، وتارة بلفظ التثنية إشارة إلى مشرقي ومغربي الشتاء والصيف، وتارة بلفظ الجمع اعتباراً باختلاف المغارب والمطالع كل يوم، وشرقت الشمس طلعت، وأشرقت: أضاءت وذلك إذا كثير شروقها، وشرقت اللحم: ألقيته على الشمس المشرق، والشرف الصلب لأنه يقام فيه صلاة [العيد] عند شروقها، وشرق الثوب بالصبغ تشبيها بلون الشرقة، والغروب للشمس تصور منه بعد ذهابها عن العمارة، فيقال لدى تباعد غروب، ومنه الغروب لكونه مبعدا في الذهاب، وغارب السنام لبعده عن المنال، وغرب السيف أبعد جزء من صحيفته، ثم تصور منه حدته، فقيل لسان غرب وسمي الدلو غرباً

(1/298)


لتصور بعدها في البئر، ثم سمي الماء به كتسميتهم إياها بالذنوب لكونه فيها، والغرب للذهب لكونه غريباً فيما بين الجواهر، والغرب لبعده عن المثمرات من الأشجار، والآية توكيد لا تقدم أنه عني بالمساجد حيث ما صلى فكأنه قيل: لاعتبروا الأمكنة، فلله- عز وجل- ملك الدنيا، وحيث ما توجهتم فهو موجود يمكنكم الوصول إليه، إذ ليس هو جوهراً ولا عرضاً، فيكون بكونه في جانب مفرغاً جانباً ونبه بقوله: " بواسع " على إحاطته بالأشياء، " وبالعليم " أنه لا يخفى عليه خافية، وقد حمل أكثر المفسرين الآية على أنها واردة في القبلة، فمنهم من قال ذلك توطئة لجواز نقلها وتقرير في نفوسهم أن ليس المعبود [سبحانه] في حيز دون حيز، وقيل إن دلك في زمان كان يجوز الصلاة فيه إلى كل جهة حتى أمروا بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهو قول قيادة وابن زيد، وذلك بعيدة لأن القبلة كانت مخصوصة وعلى ذلك قوله {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وقيل إن دلك في النافلة وجوازها حيث ما توجهت بنا الراحلة، وإليه ذهب ابن عمر، وقيل إن قوماً صلوا في ظلمة خفيت عليهم جهة القبلة، فلما أصبحوا كانوا قد صلوا إلى غير القبلة، فأنزل الله - عز وجل- ذلك وإليه ذهب ابن عباس وجماعة، وقد تقدم معنى وجه الله.

(1/299)


وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)

قوله - عز وجل -:
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}

الآية (116) - سورة البقرة.
القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، ولما كان لهما فسر بكل واحد منهما، فقيل في قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي خاضعين، وقيل طائعين، ولما كان من تمام القنوت القيام والسكون ما لم يكن أمر بخلافه واستعمل فيهما، فقيل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت " أي القيام، ولما ادعى النصارى في المسيح واليهود في عزير أنهما أبناء الله، ومشركوا العرب في الملائكة أنهم بنات الله تقدس ألفه تعالى عن ذلك، نبه على أقوى حجة على نفي ذلك وبيانها هو أن
لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً عرضاَ وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر وإن كان اليد قد يصلح للمشي في حال، والرجل للتناول، لكن ليس على التمام، والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه لا لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه، فجعل له بذراً لحفظ نوعه، ويقوي دلك أنه لم يجعل الشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً، واستخلافاً لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان، ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى، ولهذا قال سبحانه أن يكون له ولد، أي هو منزه عن السبب المقتضي للولد، ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، ودلك لما تقدم أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه لكونه غير كامل في نفسه، بين تعالى بقوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنه لا يتوهم له فقر فيه فيحتاج إلى اتخاذ

(1/300)


ماهو سد لفقره، فصار في قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} دلالة ثانية، ثم زار حجة بقوله: (قانتون) وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}، بين أن كل ما في السماوات والأرض مع كونه ملكا له فأنت له أيضاً إما طائعاً، وإما كارهاً، وإما مسحراً، كقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}، وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة ...
إن قيل: من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلي الله تعالى؟ قيل: قد ذكر أن في الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم " الأب "، وعلى الكبير منهم اسم الإله- حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، وإن الله هو الأب الأكبر "، وكانوا يريدون بدلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب هو معبود الابن من وجه، أي مخدومه، وكانوا يقولون للملائكة آلهة كما قالت العرب للشمس إلهة، وكانوا يقصدون معنى صحيحا
كما يقصد علمائنا بقولهم:.
الله محب ومحبوب، ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وكما يقال للسلطان الملك وقول الناس " رب الأرباب.
، إله الألهة "، " ملك الملوك "، ومما يكشف عن تقدم ذلك التعارف ويقوي ذلك ما يروى أن يعقوب كان يقال له " مكر الله "، وأن عيسى كان يقول، " أنا ذاهب إلي أبي، ونحو دلك من الألفاظ، ثم تصور الجهلة منهم باخرة معنى الولادة الطبيعية، فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا تنزهاً عن هذا الاعتقاد، حتى صار إطلاقه وإن قصد به ما قصده هؤلاء قرين
الكفر، وقد استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن الملك لا يقارن الولادة، وأن من ملك والده أو مولوده عتق عليه، لأنه تعالى نفي عن نفسه الولد بإثبات الملك له وهذا بعيد عما قصد في الآية بالمقال وإن كان فيه مجال للجدال ...

(1/301)


بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

قوله - عز وجل -:
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

الآية (117) - سورة البقرة.
البديع: يقال للمُبدع والمبدع جميعاً، والإبداع إيجاد فعل ابتداء لا احتذاء، ولهذا قيل: فلان بدع في كذا، وجدل البدعة اسماً لكل مخترع لم يؤثر عن أرباب الشرع.
والقضاء: إتمام الشر قولاً أو فعلاً، فمن القول قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ}، ومن الفعل قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وقضى فلان دينه، وقضى
نحبه، وانقضى الأمر، وتقضى بلغ أخره، ذكره تعالى هذه الآية حجة رابعة شرحها أن الأب هو عنصر للابن، منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصرا للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً، وخص لفظ الإبداع لكونه أبلغ لفظاً وأبعده عن الاحتمال، وذلك أن أفعال الله تعالى على ثلاثة أوجه: إبداع وهو " اختراع " الشيء لا عن شيء ولا في زمان، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى المبادئ، و " صنع " وهو تركيب صورة مع العنصر، وتستعمل في إيجاده الأجسام، و " تسخير " وهو سوق الشيء إلى غرضه المقصود منه طوعاً أو قهراً، ويستعمل في القوى التي أوجدها في السحاب والأمطار والأغذية والأدوية، وكل هذه الثلاثة يقال له الخلق، وأقدمها الإبداع، ونبه بقوله: {قَضَى أَمْرًا} على حجة خامسة، وهو أن الولد يكون بنشر وتركيب حالاً بعد حال، وهو إذا أراد شيئاً فقد فعل بلا مهلة ولم يرد " بإذاً " حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان، ولم يرد أيضاً " بكن " حقيقة اللفظ ولا بالفاء التعقيب الزماني، بل استعير كل ذلك ولأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفصل وتمامه، وذكر لفظ " القضاء "، إذ هو لإتمام الفعل.
والآخر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل

(1/302)


وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجاداً، ولفظ: " كن " لعموم معناه، واختصار [لفظه]، ثم قال: " فيكون "، تنبيها أنه لا يمتنع عليه شي يريد إيجاده، وكن فيكون، وإن كان مخرجها مخرج شيئين أحدهما مبني على والآخر، فهو في الحقيقة شيء واحد ونحوه قولنا: فلان إذا أراد شيئاً فقد كان ما أراد، واختلق في تفسير هذه الآية من حيث إن " كن " لفظ أمرا والأمر لا يكون إلاً لموجود، فبعض قال: " لفظ الشر مخصوص " ههنا للموجودين الذين قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وبعض قال: (هو خطاب لمن يجيبهم من الوتى)، وبعض قال: هو أمر للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده، وبعض قال: هو أمر لمعلوم له، وذلك في حكم الموجود وإن كان معدوم الذات وبعض قال: " هو أمر للمعدوم "، قال: ويصح أمرا لمعدوم، كما يصح أمراً لموجود، وبعض قال: " إنه جعل " كن " دلالة للملائكة على ما يتقضيه من الأفعال "، وأكثر هذه الأقوال يتبين وهنه بتصور ما تقدم ...
قوله - عز وجل -:
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}

الآية (118) - سورة البقرة
اليقين أبلغ علم وأوكده، وهو أن يكون عالم بالشئ، وعالماً بأنك تعلمه غير شاك ولا متهيئ للشك، ولذلك قيل: هو المعلوم الذي زالت عنه المعارضة على مرور الأوقات، وإنما لم يوصف الباري تعالى به من حيث أنه لا يستعمل إلا في العلم المكتسب، ولهذا قال تعالى في صفة إبراهيم- عليه السلام {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، ويعني بالذين لا يعلمون الكافرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول ابن عباس: " هم اليهود "، وقول مجاهد: " النصارى "، وقول الحسن وقيادة: " هم مشركو العرب كله محتمل ويصح أن يكونوا جميعاً مرادين، فقد قال الله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} ومشركو

(1/303)


العرب قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا}، وعني بالذين قبلهم من سبق من كافري الأمم، فقد قال أصحاب موسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} وأصحاب عيسى قالوا: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} ثم بين أنهم متشابهون في العمي والجهالة، لاقتراحهم على رسلهم كقوله: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.
إن قيل: إنهم وإن أخطأوا في قولهم: (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) فإنهم لم
يخطئوا في سؤال الآية، إذ لا يلزم الإنسان أن يؤمن إلا لمن يأتي بآية تدل على صدقه، قيل: إنما أنكر عليهم جحودهم الأيات التي آتاهم، ولذلك قال (قد بينا الآيات) كما قالت: {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ} كما قال، {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}، وقوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فيه معنيان: أحدهما أنهم يطلبون اليقين وليس بهم المعاندة، والثاني: أن من حصل له اليقين بالحق المحض وليس يعتريه شبهة فله في القرآن لا آية بل
آيات، كما قال: (هو للذين أمنوا هدى وشفاء)، وقرأ بعضهم: (تشابهت) بتشديد الشين، كأنه نظر إلى قوله: (تشابه)، فحمل عليه، وذلك خطأ، لأن تشابه أصله تتشابه، فأدعم، وليس في تشابهت ذلك، ومن قال: هلا أجابهم إلى سؤالهم في أثناء الآية؟: فسؤال جاهل بحكمة الله تعالى، فباقتراح جاهل، وتشويه لا يجوز للحكيم أن يفعل ما ينافي مقتضى الحكمة، وقد أزاح العلة بغير سؤالهم وإلى ذلك أشار بقوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}

(1/304)


وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

قوله - عز وجل -:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}

الآية (119) - سورة البقرة.
الجحيم المناحج من النار يقال نجحت النار، وشبه حمرة عين الأسد به، فقيل لها جحمة.
وجاحم الحرب تشبيهاً، فبين تعالى أن عليك البشارة والإنذار، ولا يلزمك عقابهم تسلية له، كقوله:
{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وقوله {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}، وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}.
وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، وقوله: (لا تُسْئَلُ) قال معطوف على قوله (بشيرا ونذيراً)، وقرأ نافع (ولا تُسئلْ)، بالجزم، فقيل ذلك تفخيما لشأنهم، وقيلت: نهى عن تتبع ما أغناه الله عنه من أخبار من مضى، وقد روي أنه عليه السلام كان يستغفر لأبيه، فنهاه الله تعالى عن ذلك، لقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}.
قوله - عز وجل -:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}

الآية (120) - سورة البقرة.
الملة: من أمللتُ الكتاب، وهي اسم لما شرعه الله تعالي لعباده على لسان أنبيائه ليتوصلوا به إلي آجل ثوابه، والدين ملة، لكن الملةَ تُقال باعتبار دعا الله وإنزال كتبه والدين باعتبار طاعة العباد له بإجابة دعائه والانقياد لأمره، والشيء الواحد قد يسمى باسمين على اعتبارين، ثم تقال الملهُ والدين لما

(1/305)


لم يكن من قبل الله على التقييد، كقولك: " ملَةُ مزدْكَ وغيرهِ "، والهوى: رأي عن شهوة داع إلى الضلال وسمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وهي الآخرة إلى الهاوية، ولهذا سميت النارُ هاوية، ولشدة سلطانه وصفة الله بأنة إلهُ الكفار، فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، ومعنى الآية أن من خالفوك لا يرضون عنك إلاً بمتابعة ملتهم تنبيهاً أنه لا يرضيهم إلا ما لا يجوز وقوعه منك، ثم بين أن إتباعهم ليس بهدى، وأن الهدى هو هدي الله، أي إرشاده، كقوله {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}، ثم حذره فقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}، وذلك تحذير له ولأمته، ولكن خص بالذكر لأن أنبياء الله، بل أولياءه بأدنى ميل إلى ضال يكونون في حكم تابعي هواهم.
وربما بعد ذلك في جرائمهم الكبيرة ويؤاخذون بما لا يؤخذ غيرهم به، وذلك معلوم في التعارف، فإن من حصل له زلفة متناهية من السلطان لا يتجافى عما يقع منه من أدنى مخالفة كالتجافي عن الأجانب، ولهذا قيل: (كبائر الأولياء صغائر العوام)، وقيل: (فاحشة الأولياء التواني في تعهد الأنفاس، وفاحشة العوام فيما فيه المحدود) وإنما قال: أهواءهم بلفظ الجمع تنبيهاً على أن لكل هوى غير هوى الأخر، ثم هوى كل واحد منهم لا يتناهى، ونحو ذلك قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، وقوله: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، وقوله للمؤمنين: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ}، وقال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وذلك تحذير من الهوى جملة، وقد تعلق بهده الآية من يجعل الكفر كله ملة واحدة، لأنه جمع بين اليهود والنصارى، وسمي طريقتهما ملة واحدة ....

(1/306)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)

قوله - عز وجل -:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

الآية (121) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في التلاوة، منها تكون بالقراءة تارة، وبتتبع العنف تارة، وباستعمال مقتضاه تارة، وهو المعنى بقوله: (حق تلاوته)، وعليه دل قول ابن عباس وابن مسعود يتبعونه حق اتباعه، وقول مجاهدة " يعملون به حق عمله "، وقول عمر: " حق تلاوته ": إذا ذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا ذكر النار تعود منها "، وذلك عام في كتاب الله تعالى وفي أربابها، فقول قتاده: هم أصحالب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول ابن زيد: إنهم اليهود والنصارى، وقول غيرهما: هم الذين أسلموا من مشركي العرب كلها داخل فيه، وعموم اللفظ يقتضيه وقوله " الذين " مبتدأ، " يتلونه " حال لهم، و " أولئك " خبره، والمعنى: هم الذين يحصل لهم الإيمان به دون الذين ينكرونه، وليس لهم إلاً الخسران البين، ونحو ذلك قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}، وهذه الأية كالتحقيق لما تقدم من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ}.

(1/307)


وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

قوله - عز وجل -:

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}
الآيتان (122، 123) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في مضمون الآيتين، ويسأل عن فائدة تكريرها، وأنه قال في هذه الآية: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌوفي الآية المتقدمة قال: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}، والجواب: أما التكرير فعلى سبيل الإنذار، فالواعظ إذا وعظ لأمر ما قد يكرر الذي يعظ لأجله تعظيماً لأمره، وأما تغيير النظم، فلما كان قبول العدل وأخذه وقبول الشفاعة ونفعها متلازمة، لم يكن بين اتفاق هذه العبارات واختلافها فرق في المعنى ..
قوله- عز وجل:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}

الآية (124) - سورة البقرة.
الابتلاء كالاختبار، لكن الابتلاء طلب إظهار الفعل، والاختبار طلب الخبر، وهما متلازمان، والتام والكامل والوافي والوافر متقاربة، لكن التام يقال للمعدود الممسوح جميعاً، نحو عدد تام، وليل تام، ورجل تام الخلقة، والكمال أكثر ما يقال في الممسوح والمشبه به، وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، فالمراد كمال الحكم لإكمال العدد، كما قدره بعض الملاحدة، فاعترض عليه بالإزراء.

(1/308)


والوافي ما أشرف على الشيء، ومنه وفاء العهد، وأوفى على كدا، أي أشرف عليه، والوافر: ما لم ينقص منه شيء، ومنه الوفر، وسقاء أوفر لم ينقص من أديمه شيء والذرية: الأولاد الصغار والكبار، وقيل هي للصغار، وقيل أصله من الذر، وقالت الفراء: أصله من ذريت وذروت، وقال أبو عبيدة: أصله الهمز من ذرأ الله الخلق، فترك همزة على غير قياس، والإمام في الأصل: الختم به محقاً كان أو مبطلاً، منه قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}، وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}، وفي إطلاق الشرع اسم للمقتدي به، المقتدي بالشرع، وهو أعم من النبي والخليفة إذ كل نبي وخليفة: إمام، وليس كل إمام ونبي خليفة، والكلمات قد تقع على الألفاظ المنظومة وعلى المعاني التي تحتلها، فقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: قضيته وحكمه وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} أي؟ للمعاني التي تبرز بالكلمات ولم يرد اللفظ، فإن ما يحصره اللفظ يحصره الخط، والكلمات التي ابتلى بها مبهمة محتملة، وذكر المفسرون لها وجوهاً يصح أن تكون كلها مراده، فقيل: هي عشر سنن، همس في الرأس المضمضة، والاستنشاق، والفرق، وقص الشارب، والسواك، وخمس في الجسد تقليم الأظافر، ونتف الأبط، والختان، وحلق العانة، والاستنجاء، وقيل: هي خصال محمودة ذكر بعضهما في سورة/ التوبة، وبعضها في سورة/ المؤمنون، وبعضهما في سورة/ سأل سائل، وقد تقدم ذكرها في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} وقيل: هي مناسك الحج المذكورة في قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الآية، وكل ذلك عن ابن عباس، وقيل: في ابتلاؤه بالكوكب وبالقمر والشمس، وقيل: امتحانه بإنفاق ماله، وهجر أوطانه، وذبح ولده، وإلقائه في النار فلما لم يؤثر على اختبار الله في شيء من ذلك قال فيه: (فأتمهن)

(1/309)


وإتمامه: هو الوفاء بها المذكور في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، وسماه حنيفاً مسلماً، وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}، وجعل إمامته للناس كافة على التأييد، فإنه لم يُبعث بعده نبي إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، وقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} حتى قال للنبي (محمد) عليه السلام: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.
وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}، وأمر- عليه السلام- بذكر إبراهيم في الصلاة، فقال: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم "، ولم يرد بالإمامة ههنا النبوة كما ظنه بعض المفسرين، فإنه- عليه السلام- إمام للناس على العموم في كل زمان على الإطلاق وليس بنبي لهم على [العموم] بالإطلاق، ولا قيل له ذلك قال: (ومن ذريتي)، فأجيب إلى ملتمسه بقوله: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} لكنه تعالى بين أنه قد يكون من ذريته ظالم، وبين أن الإمام يتحمل للعهد، والظالم لا عهد له، فإذاً لا إمامة له، ولهذا ما روي في الخبر أن الله تعالى يقول يوم القيامة لوالي السوء: (ياداعي السوء، أكلت اللحم، وشربت اللبن، ولبست الصوف، ولم تؤد الكسير ولم ترعها في مرعاها)، واستدل بالآية بعض الناس، فزعم أن الظالم إدا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده، وقال الحسن: " إنما لم يجعل الله لهم عهداً " ....

(1/310)


وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

قوله - عز وجل -:
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}

الآية (125) - سورة البقرة.
البيت: يسمى اعتبارا بالمبيت فيه، ومنه قيل: بيتهم وبات يموت بات ليلته في إنائه، ثم ترك اعتبار المبيت، وللوعي صورته، وبه شبه بين الشعر اعتباراً بأنه مبني من أوتاد وأسباب بناء بيت الشعر والوبر من نحوها، وبيت الله: سمي لوجود صورة البيت فيه، والمثابة إما لثؤوب الناس إليه، وإما لاستحقاقهم الثواب بقصده.
إن قيل: كيف جعل مثاباً عامة قصاده لا يثوبون إليه قبل ذلك باعتبار جنس الناس لا بآحادهم، واعتبر بعض الناس ما سآلته، واستدل بالآية في وجوب العمرة، فقال: لا يكون مثابة لأحاد قصاده إلا على هذا الوجه، ومقام إبراهيم الحرم عن ابن عباس، والمزدلفة عن عطاء، والحجر عن السدى، والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أي مدعى، أو بوضع صلاة، والطوف المشي حول الشيء، ومنه: الطائف يدور حول البيت حافظاً، وطائف من الجن والخيال، وجعل الطوافون عباده عز الحرم، والعكوف: الإقامة مع اللزوم بين تعالى أنه جعل البيت من حيث الحكم مثابة للناس وأمناً ومصلى، ولم يعن أنهم ملجؤون إلى أن لا يخيفوا أحداً، كما لم يعن أنهم ملجؤون إلى أن يجعلوه مصلى ومثابة.
إن قيل: فقد قال: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، قيل: هو أيضاً على معنى الأول، ولو عنى ما قلت لقال: (وإن من دخله كان آمنا) قيل: هو أيضاً علي معنى الأول، ولو عنى ما قلت لقال: وإن من دخله حتى كان يتعلق بالأول، وعلى ذلك حكم قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} على أن حكم الله في ذلك مما فيه أية منه لأنه حض الناس على

(1/311)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

استعظام البيت حتى لا يجسر عامتهم على تعظيم حرمته، ومن ضيقها كان ممقوتاً غير منفك من عقوبة أما متجلية للمناظر أو ظاهرة لأولي البصائر، وقرئ: " واتخذوا " على الأمر، وروي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر لما انتهى إلى المقام: " هذا مقام أبينا إبراهيم، [فقال: ألاً نتخذه مصلى؟] " فأنزل الله- عز وجل- (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، فعلى هذا أمر فصل به بين الجملتين من الخبر المعطوفة، والمعطوف عليها، (وعهدنا إلى) أي، أمرناهما أمراً موثقاً عليهما بأن يطهرا البيت من الأنجاس والشرك وكل ما ينافي موضع الطهارة، للطائفين: أي القصاد، وقيل لأولي الطواف، وكلاهما مراد، والركع السجود: المصلين، وقيل: قد دخل في الأمر بتطهيره أن ببنيانه على تقوى كما قال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} الآية.
قوله- عز وجل:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}

الآية (126) - سورة البقرة.
البلد: الأثر الباقي، وسمي المدينة، وكركرة البعير.
والمفازة: بلداً للآثار الظاهر بها، وقيل للآثار في الجلد أبلاد، والبليد: المقيم على بلده أي مكانه، ثم جعل عبارة عمن لا نفاذ له في الأمر حتى صار أملك له، والمصير: المنتهي إليه في الأمر، ومنه المصير: لمنتهى الطعام، وصير البقرة مأواها، كالزريبة للغنم، وصير الباب: حيث مصيره، وإنما قيل: شق الباب اعتباراً بصورته لا بحقيقة مقتضي اللفظ، والاضطرار: حمل الإنسان على [ما يضره وهو في التعارف] حمل على الأمر بكره وذلك على وجهين: أحدهما بسبب خارج، وهو إما أن يضرب أو يهدد بالضرب حتى يفعله منقاداً، وإما أن يؤخذ بيده فيفعل ذلك به، والثاني بسبب من داخل، وذلك إما بقهر قوة له لا يناله بدفعها الهلاك، كمن غلب

(1/312)


عليه شهوة خمر أو قمار، وأما بقهر قوة يناله بدفعها الهلاك كمن اشتد به الجوع، فاضطر إلى أكل الميتة أو تناول مال الغير، ولما بنى إبراهيم عليه السلام البيت في فقر، ومن شرط المدن أن يتحرى في بنائها موضع يمكن أن يجري فيه نهر أو يشق فيه قناة، ويتخذ فيه مزرعة تفي بمطاعم قطانها، وعلم أن لا قوام لهم إلا بأن تجنى إليهم الثمرات، ولا يمكن جني الثمرات إليهم إلا بأمنه، سأل الله عز وجل - أن يجعله بلداً أمناً بسياسة ألاهية وأن يرزق أهله بتسخير الناس لجبي الثمرات إليه ولما سأله لهم الرزق، وكان قد سمع في جواب سؤاله الإمامة لذريته ما سمع تدارك سؤاله فقيده وقال: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} تنبيهاً أن رحمته في الدنيا وسعت كل شيء، وأن نعمه فيها متاحة للكل ليجعلوها ذريعة إلى إدراك ثوابه، ثم من كفر وضيع النعم فمسوق إلى عذابه.
إن قيل: إن قوله (فأمتعه) يقتضي كثرة ثبات الفعل وقوله (قليلا) ينافيه، فكيف جمع بينهما؟ قيل: ذلك على وجهين، فإن نعمته في الدنيا وإن كانت كثيرة بإضافة بعضها إلى بعض، فقليلة بإضافتها إلى نعمة الآخرة، وعلى هذا قال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}، كيف لا يقل ما يتناهى بالإضافة إلى مالا يتناهى؟ وانتصاب " قليل " إما لكونه وصفا لمصدر محذوف أو لكونه ظرفاً، وتكون في العبارة به عن الزمان، كقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}.

(1/313)


وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

قوله - عز وجل:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

الآية (127) سورة البقرة.
الرفع والوضع يتقابلان، ويقال في الأجسام وفي الشرف والذلة على التشبيه وكذلك يقال في الإعراب على التشبيه والقعود المقابل للقيام، ثم جعل للثبات، فقيل لأساس البيت قواعد عن طلب الشرف، والقعيدة كناية عن الزوجة اعتبارا بقعودها في المنزل، والقعدة للفرس المقتعد في أكثر الأحوال، والقعود من البعير المدرك اقتعاده، وقيل إن إبراهيم عليه السلام - كان يبني وإسماعيل يرفع إليه الأحجار ويناوله، وذلك لا يمنع من أن يكون الفعل منسوباً إليهما وقول من قال: يجب إن يكون إبراهيم يتولى بناءه مرة، وإسماعيل مرة حتى يصح نسبة الفعل إليهما فبعيد التصور لسعة مجال الألفاظ وما اختلف فيه أنه هل كان للبيت بناء قبل إبراهيم - عليه السلام -، فأعاده أو هو الذي أنشأه وأحدثه، فليس مما يفتقر معنى الآية إليه وقيل ليس يعنى برفعهما قواعد البناء فقط، بل تحريمها تشريفه بدعاء الناس إليه ودعاء الله بحفظه، وصح نسبة ذلك إليهما وإن كان الله تعالى في الحقيقة شرفه من حيث أنهما من الأسباب المتأخرة لتشريفه.

(1/314)


رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

قوله - عز وجل:

{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية (128) - سورة البقرة.
النسك: غاية العبادة، والناسك الأخذ نفسه ببلوغ قاصيتها حسب طاقته، وسمي أعمال الحج المناسك ثم خص الذبيحة بالنسك وتعورف فيه حتى قيل نسك فلان أي ذبح وقيل للذبيحة نسيكة ولم يعن بالمسلم ههنا من حقن دمه بالشهادتين، كما ظن بعضهم وقال هذا دعاء بما علم كونه لهما لا محالة، وإنما عنى من ليس في فلبه تعظيم الله معه، وهو المعنى بالمضروب له المثل في قوله: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} وبقوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} وهذه قاصية الإيمان، ونبه تعالى بالآية أن من حق الإنسان أن يكون مع تحري الحق لا ينفك من التضرع إلى الله - عز وجل - بإرشاده وتوفيقه، ومن طلب أن يتوب عليه من ذنب عسى إن كان منه وهو غافل عنه
فإن قيل: ولم قيد؟ فقال: (ومن ذريتنا، أمة مسلمة لك) ولم يعمم؟ قيل إن هذه منزلة شريفة لا يكاد يتخصص بها إلا الواحد فالواحد في برهة بعد برهة، وعلم أن الحكمة الإلاهية لا تقتضي ذلك، فإنه لو جعل الناس كلهم كذلك لما تمشى أمر العالم إذ كان العالم يفتقر إلى كون أفاضل فيها وأوساط وأراذل لتولي عمارته والقيام بتمشية أموره فقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء، أحدها الزراعة والغرس، والثاني: في الحماية والحرب، والثالث جلب الأشياء من مصر إلى مصر، وأنبياء الله لا يصلحون لذلك إذ كانوا بغرض أخر أشرف من ذلك ولهذا قيل: " لولا الحمقى لخربت الدنيا " وإنما عني بالحمقى المعنيون بأمر الدنيا بإضافته إلى المعنيين بأمر الآخرة، ولذلك قال {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}

(1/315)


رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

قوله - عز وجل -:

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الآية (129) - سورة البقرة.
العزيز: الذي يقهر ولا ويُقهر، وتعزر فلأن بفلان، والعزاز من الأرض ما فيه صلابة بازاء الذلول، وعز الشيء إذا قل اعتباراً بأن كل موجود مملوك، وكل مفقود مطلوب، والحكمة حدت بحدود على اعتبارات مختلفة، إما اعتبارا بمبدأها، فقد قيل: هي معرفة حقائق الأشياء، وقيل: معرفة الأشياء الإنسية والأشياء الإلهية، وهذا هو كالأول، إلا إنه أبين، وإما اعتبارا بمنتهاها، فقد قيل: هي إماتة الشهود وقلا الاكتراث بالموت المحمود، وقيل: الترشح بالعلم والعمل لإدراك ثواب الله- عز وجل-، فأما الرسول- الذي طلبه إبراهيم- عليه السلام، فقد روي عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بن مريم " يعني بالأول: قوله: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ}، وبالآخر: قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.
إن قيل: كيف قال: يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة وليس الكتاب إلا الآيات، وما وجه هذا الترتيب؟
قيل: أما الآيات فهي الآيات الدالة على معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر التلاوة لما كان أعظم دلالة نبوته متعلقاً بالقرآن، وأما الترتيب فلأن أول منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ادعاء النبوة الإتيان بالآيات الدالة على نبوته، ثم بعده تعليمهم الكتاب، أي تعريفهم حقائقه لا ألفاظه فقط، ثم بتعليمهم الكتاب يوصلهم إلي

(1/316)


وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

إفادة المحكمة وهي أشرف منزلة العلم، ولهذا قال: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، ثم بالتدرج في الحكمة يصير الإنسان مزكى.
، أي مطهراً مستصلحاً لمجاورة الله- عز وجل-.
قوله - عز وجل -:
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}

الآية (130) سورة البقرة.
الرغبة: سعة الإرادة، ومنه بطل رغيب أي نهم، والرغيب الشيء المرغوب فيه، ومش عدى بعن اقتضى صرف الإرادة عن ذلك الشيء، وذلك بالزهد فيه، والاصطفاء تناول صفوة الشيء، كما أن الاختيار تناول خيره، والاجتباء تناول جانبه أي وسطه، وهو المختار، و (سفه نفسه) قيل: تقديره سفه، نفسه، وقيل: أصله سفه نفسه، فصرف الفعل عنه، نحو: بطر معيشته، وسفه نفسه أبلغ من جهلها، وذاك أن الجهل ضربان جهل بسيط، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء وجهل مركب، وهو أن
يعتقد في الحق أنه باطل، وفي الباطل أنه حق، والسفه أن يعتمد ذلك، ويتحرى بالفعل مقتضاها ما اعتقده، فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لسفهه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ لكل نقيصة، وذاك أن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، وإذا جهل كونه مصنوعاً جهل صانعه، وإذا لم يعلم أن له صانعاً، فكيف يعرف أمره ونهيه، وما حسنه وقبحه، ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق- جد ثناؤه- قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}
فإن قيل: كيف وصفه بالاصطفاء في الدنيا وبالصلاح في الآخرة، والنظر يتقضي عكس ذلك، فإن الصلاح وصف يرجع إلى الفعل، وذلك يكون في الدنيا، والاصطفاء حال يستحقه العبد بكونه صالحاً، فحقه أن يكون في الآخرة؟ قيل الاصطفاء ضربان، أحدهما كما قلت والأخر في الدنيا، وهو اختصاص الله بعض العبيد بولايته ونبوته لخصوصيته فيه وهو المعنى بقوله

(1/317)


إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)

{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ}، والصلاح وإن اعتبر بأحوال الدنيا، فمجارى به في الآخرة، فبين تعالى أنه مجتبى في الدنيا لما عرف الله من حكمته فيه، ومحكوم له في الآخرة بصلاحه في الدنيا تنبيهاً أن الثواب في الآخرة يستحقه باصطفائه في الدنيا، وإنما استحق لصلاحه فيها، وجوز أن يكون قوله " في الآخرة " أي في أفعال الآخرة لمن الصالحين، ويجوز إن عنى بقوله " في الدنيا " حال بقائه، و " في الآخرة " حال وفاته، ويكون الإشارة بصلاحه إلى الثناء الحسن عليه الذي رغب إلى الله تعالى فيه بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}، ويجوز أنه لما كان الناس ثلاثة أضرب: مظالم، ومقتصد، وسابق غبر عن السابق بالصالح، فكل سابق إلى طاعة الله ورحمته صالح، وفي الجملة، فإن الصالح هو الخارج عن حد الرذيلة، وليس في الدنيا على الإطلاق بكل نظر صالح، بل عامة ما فيه يمكن أن يوصف بفاسد بها إما حالة ما أو بنظر ما، فإذن الصلاة المطلق في الآخرة، فلهذا خص بها ..
قوله - عز وجل -:

{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية (131) سورة البقرة.
لما سأل الله تعالى بقوله: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}، أجابه بقوله تعالى: " أسلم " أي أخلص سرك فإنه موضع الاطلاع، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " أخلص يكفك القليل من العمل "، وبقوله: " الأعمال بالنيات " وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقيل معنى " أسلم " استأسر لهم كقولك للأسير: استسلم، وقيل: معناه: اجعل نفسك مسلمة عن أسر الشيطان، حيث قال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، وهذان القولان واحد في

(1/318)


وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

الحقيقة فإن من أسره الرحمن فاستأسر له فهو الحر المطلق عن عبادة غيره، وقد قيل: " لن تكون عبدا لله حقاً حتى لا تكون لما دونه مسترقا "، وإلى ذلك أشار بقوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وروي أن [إبراهيم عليه السلام] لما طلب الخلة من الله أوحى إليه فقال: (من طلبني أبليته)، فقال: إذا نلتُ الخلة لم أبال بالبلية، فلما أتى عليه حول قال: (من أحبني قتلته)، فقال: " إذا انتهيت في الخلة لم أبال بقتل الدنيا "، وقوله " أسلمت " مبني في المعنى على الأول وكأنه موعد منه أنه متأهب لما يراد منه، وقد حثنا الله تعالى علي الاقتداء به في الاستسلام له والاستفادة منه الشرف الكبير جزاء بذلك ...
قوله- عز وجل:
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

الآية (132) - سورة البقرة.
الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ واشتقاقه من وصاه أي وصله، ومضاده قصاه أي فصله، وقوله: [بها] أي بالملة، وقيل بالكلمة التي دل عليها قوله: " أسلمت "، وكلاهما غير منفك من الآخر، إذ كانت هذه الكلمة من جملة الملة، والملة مقتضية لهذه الكلمة، فبين تعالى أن إبراهيم وصى بنيه، ووضع يعقوب بنيه أيضا بها كما أوصى إبراهيم، وقال: (إن الله اصطفى لكم الدين) أي دين إبراهيم، فحذف القول لتضمن الوصية لذلك، وحث على الإسلام، أي أسلموا قبل أن تموتوا، وليس ذلك نهيا عن الموت، وإنما هو حث على الإسلام المتقدم ذكره فهو الذي يفيد الحياة الأبدية المذكورة في قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}

(1/319)


أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

قوله - عز وجل -:

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية (133) - سورة البقرة.
الشهود: حضور بالذات أو بالعناية أو بالمقال، وأحضر الفرس [أصله] صار ذا حضور.
والفرق بين الإحضار والعدو أن الإحضار يقال اعتبارا بالمنتهى والعدو اعتبارا بالمبدأ المتجاوز لأنه من عداه إذا تجاوزه، وجعل الحضارة بإزاء البداوة في التعارف، والمحتضر لمن حضره الأجل، ولما ذكر إبراهيم وأن دينه الإسلام، وأن يعقوب اقتدى به، ودعا نبيه إليه، وقادهم على ذلك وأخذ اعترافهم بين أن مع وصيته لأولاده كان على جملة اعترافه معهم لم يعن بقوله: (ما تعبدون من بعدي) العبادة المشروعة فقط، وإنما عنى جميع الأعمال، وكأنه دعاهم أن لايتحروا في أعمالهم غير وجه الله - عز وجل- ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف أن تشغلهم دنياهم، ولهذا قيل: " ما قطعك عن الله فهو طاغوت "، ولهذا قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}، أي نخدم ما دون الله، وهدا المعنى تحراه الشاعر بالعبادة:
فتى مَلكَ اللذاتِ أنْ تعتبدنّهُ ....
ومَاَ كُلَّ ذي ملُك لهُنِ بمالِكِِ
فإن قيل: لما قال: (نعبد إلاهك وإله آبائك)، وتكرير اللفظ يقتضي دارين، فالجواب عن ذلك من وجهين، أحدهما من حيث اللفظ، وهو أن المضاف إلى المضمر متى عطف على المضاف إليه لابد من إعادة المضمر إذ كان المضمر المحرور لا يصح العطف عليه، والثاني من حيث المعنى، وهو أن المعبود
لما لم يمكن سبيل إلى الوصول إليه إلا بالنظر، فكان لدى واحد نظر، بينوا أن معبودنا هو الواحد الذي أثبته، وأثبته أباؤك، ثم بين بقوله، (ونحن له) أنه واحد، وقد استدل بالآية من منع من مقاسمة الجد

(1/320)


تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

بالأخوة، وأسقط الأخوة مع الجد كما يسقطون مع الأب، واستدل بها أيضاً في أن العم يجري مجرى الأب في الولاية على مال الصغيرة وتزويجها، وفهم الجملة أن تسميتها بالأب ليس بمنكر، بل قد يسمى [كل] كبير من الأجانب أباً على أن الأعمام والأجداد إذا كانوا مع الأب فتسميتهم بالآباء أقرب، كتسمية الشمس مع القمر قمرين، وتسمية آل المهلب معه مهالبة ...
قوله - عز وجل -:
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

الآية (134) سورة البقرة.
الأمة في الأصل المقصود كالعمدة والعدة في كونهما معمودأ ومعذب، وسمي الجماعة أمة من حيث تأمها الفرق، وقيل للجبن أمة لكونه متضمنا لأمة ما وسمى الدين أمة لكون الجماعة عليه، وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي جمع في نفسه في الفضيلة ما لا يجتمع إلا في أمة، وبهذا المعنى ألم الشاعرفي قوله:
وليس على الله بُمستُنكرٍ ....
أنُ يُجمعَ العالمُ في وَاحدٍ
والكسب: اجتلاب النفع بالعمل، وإذا قيل في المضرة، فعلى طريق التشبيه، ولما بين الحجة عليهم وإنهم لم يخالفوا في الاقتداء بإبراهيم بين من بعد أن أعمالهم وأعمالكم متباينة لاُيثاب ولا يعاقب أحد بما كان من الآخر كقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وليس معنى بقوله: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} السؤال المجرد، فقل أخبر أنه يقول لعيسى بن مريم {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إنما يعني المؤاخذة بها.

(1/321)


قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

قوله - عز وجل -:
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}

الآية (135) - سورة البقرة.
يعني أن اليهود قالوا: كونوا يهوداً تهتدوا، وقال النصارى مثل ذلك، فأنزل الله تعالى على نبيه:
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} أي تتبع ملته المجمع على كونها هدى، وبين بقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أن كلتى الطائفتين قد أشركت، وأن إبراهيم كان حنيفاً، وكان يقال في الجاهلية ولمن كان على دين إبراهيم حنيفاً عليهم عن طريقتهم إلى طريقة غيرها، ثم سمى من اختتن أو حج البيت [حنيفآ] لمن كان ذلك من سنته.
قوله - عز وجل -:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}

الآية (136) - سورة البقرة.
السبط ولد الولد، وأصله من سبط أي امتد، كأنه امتداد للفروع، ومنه سبط الكفين، والساباط البناء الممتد بين الدارين، والسباطة ما مد من الكناسة، وما امتدمن الشعر، وسباط الحمى اعتبارا بتمدد المحموم وتمطيه،
إن قيل: كيف ابتدأ بما أنزل إلينا مع كونه متأخراً عن كل ما أنزل الله، وقال: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحق كتاب، ولم قال: {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} فخصهما بالإيتاء دون الإنزال، وزكر النبيين، وقد تقدم ذكر بعضهم.
قيل: أما الابتداء بما أنزل إلينا، فلأنه أول بالإضافة إلينا، فالناس بعد مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم -، مدعوون إلى الإيمان بما أنزل عليه أولاً جملة وتفصيلاً، ولا يجب الإيمان بما أنزل من قبل إلا على سبيل الجملة دون التفصيل، وأما المنزل إلى إسماعيل ومن ذكر معه، فهو المنزل على إبراهيم، إذ هم داخلون تحت

(1/322)


فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

شريعته، وذلك كقولك: ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وأما قوله {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} فهو على الاستئناف، وقوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} معطوف عليها وقوله: {مِنْ رَبِّهِمْ} خبره، فكأنه لما اختلف فيما أنزل عليهما، وادعى بعض أتباعهما عليهما ما لم ينزل إليهما بين تعالى أن ما أوتيا أي ما خصابه لا ما ادعى عليهما، وما أوتي النبيون جملة المذكورين وغير المذكورين من ربهم، أي منزل من ربهم، ثم قال: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ}، أي لا يكون بمنزلة اليهود الدين آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
إن قيل: لم قال: بين أحد منهم، ولفظ أحد وإن كان قد يعمم به في النفي فهو متناول للواحد، ولو قال بينهم لكان أوجز؟ قيل: لما كان القصد إلى أن نبين أن لا نفرق بين واحد واحد ذكر لفظ أحد فكأنه قال: لا نفرق بين أحد وجماعتهما أي لا يخرج واحد من حكمهم، فكان لفظا أحد أدل على المعنى المقصود، ثم بين بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} إنا مسلمون له إسلام إبراهيم عليه السلام ..
قوله - عز وجل -:
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

الآية (137) - سورة البقرة.
الشقاق المنازعة، يقال: شق العصا، أي فارق الجمع، وشاق القوم صار كل نفر في شق، وشاقوا الله أي صاروا في شق غير شق أوليائه، وعلى ذلك: {يُحَادُّونَ اللَّهَ} أي صاروا في حد غير حده ..
إن قيل: ة كيف قال: (فإن أمنوا بمثل ما أمنتم به) ولم يقل أبما أمنتم أو (مثل ما آمنتم)، وذلك يقتضي إثبات مثل الله- عز وجل-، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا تقولوا: (فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به) [ويكن قولوا فإن أمنوا بالذي أمنتم به] وإن لم يكن هذا السؤال لازماً فما كان [وجه] الإنكار منه؟ قيل إن الباء ههنا ليس للتعدية كما هو في قولك (مررت بزيد)، و (آمنت بالله) وإنما هو للإله، ومعناه أن تحروا الإيمان بالسبيل الذي تحريتم به، والإشارة بقوله: {بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} إلى السبيل المذكور في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} وسبيل الله المتوصل به إليه ثلاث منازل

(1/323)


صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

على القول المجمل مرتب بعضها على بعض الأول: معرفة الأحكام الظاهرة والعمل بها، والثاني: معرفة علم الزهاد من عيوب النفس وقمع الشهوات وأخذ النفس به، والثالث: علم المعاملات، وهي معرفة الخواطر ومراعاتها، وذلك السبيل إليه، ولا سبيل إلى تحصيل الإيمان الحقيقي الذي وصف به المؤمنين في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلاً بها، وهذه المنازل الثلاث هي المعنية بقوله- عليه السلام- " سائل العلماء، وخالط الحكماء، وجالس الكبراء "، فبين تعالى أن من أمن سالكا هذا السبيل، فقد اهتدى، ومن جمع فقد شاق، ثم قال {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تسكيناً للمؤمنين وأمناً من معرفتهم ...
قوله - عز وجل -:
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}

الآية (138) - سورة البقرة.
الصبغة إشارة من الله- عز وجل- إلى ما أوجده فينا من بداية العقول التي ميزنا بها من البهائم، رشحنا به لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآية ...
والمعنى بقوله- عليه السلام- " كل مولود يولد على الفطرة " الخير، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث أن قوى الإنسان التي ركب عليها إذا اعتبرت بداية يجري مجرى الصبغة التي هي زينة للمصبوغ، ولما كانت اليهود والنصارى إذا لقنوا أولادهم اليهودية والنصرانية يقولون قد صبغناه بين تعالى أن الإيمان بمثل ما أمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق، ولا أحد أحسن

(1/324)


قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

صبغة منه، وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} تعريض بهم أي لا نشرك [به] كشرككم، وقول الحسن وقتادة ومجاهد أن الصبغة هي الدين، وقول غيرهم إنها الشريعة، وقول من قال هو الختان إشارة إلى مغزى واحد، وقد قيل: صبغة الله على مراتب أولها ما ركب فينا من الهداية وهي الفطرة والثانية: الهداية بالتوفيق، والثالثة: الهداية ببعثة الرسل، والرابعة: الهداية في الترقي توليه إلى الدرجة العليا والسعادة القصوى ...
قوله - عز وجل -:
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}

الآية (139) - سورة البقرة.
المحاجة: المقاومة في إظهار الحجة البينة للحجة أي المقصد وقد ألزمهم بهذه الآية الحجة المذكورة في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}، ولما كانت الشرائع مبنية بالقول المجمل على ثلاثة أشياء ...
الإقرار بالباري- عز وجل-، والعمل له والإخلاص في ذلك قال ..
قل لهم إنا قد تشاركنا في الإقرار بالله- عز وجل- وفى العمل له ونحن قد حصل لنا الإخلاص [في ذلك] من دونكم،
فإن قيل: ومن أين؟
إن الإخلاص حصل للمسلمين دونهم، وهل هذا إلا مجرد ل الدعوى قيل قد أحالهم على التأمل، وذلك ظاهر بالاستقراء والتدبر، فإن الأصول الاعتقادية هي ما ذكر الله- عز وجل-، [في قوله] {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} وإذا تأمل حالة الإقرار بالله تعالي فقد أخلص المسلمون فيها يدعيه اليهود من التشبيه والنصارى من التثليث، وما ادعوه على جبريل أنه عدو لهم وما ادعاه اليهود على إبراهيم، حيث زعموا أنه لم يكن نبياً، وإنما كان رجلاً صالحاً، ونسبوا إليه لوطآ من الفجور ببنيه في حال سكره وادعى النصارى في نبوة عيس- عليه السلام- وإنكارهم بعض ما في التورط والإنجيل، وما ذكروه من البعث حيث قالوا {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} وادعت النصارى أنه لا بعث، وإنما ينال الثواب والعقاب الأرواح، فإذن قول المسلمين (ونحن له مخلصون) ظاهر ...

(1/325)


أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

قوله - عز وجل -:

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} الآية (140) سورة البقرة.
قوله: {أَمْ تَقُولُونَ} معطوف على قوله (أتحاجوننا) - أم تدعون أن الأنبياء كانوا على دينكم تنبيها أنه من المحال أن يكون المتقدم مقتدياً بالمتآخر ومستند بسنته، ومن قرأ بالياء فوجه العدول فيه من الخطاب إلى الإخبار استجهالاً لهم بما كان منهم من هذه الدعوة كما يفعل العالم من الإعراض عمن يخاطبه بعد ارتكابه جهالة شنيعة إلى غيره، واحتج عليهم بمقدمتين فقال: أنتم أعلم أم الله أي قد بينت أن الله أعلم منكم، وبينت أنه ليس بغافل عما تعملون وقد كتمتم الشهادة عنها، ومن كتم من الله شهادة عنده مع كون الله بهذا الوصف فهو أظلم الخلائق، فهدا تبكيت لهم في كتمانهم أحوال النبي- عليه السلام- وسائر الأنبياء واحتج عليهم بما لا انفصال لهم عنه، وقوله: {مِنَ اللَّهِ} على هذا متعلق بقوله:، {كَتَمَ} وقيل؟ إنه متعلق بقوله شهادة، أي من كتم عن الناس شهادة مصدرها من الله - عز وجل، وقيل: في الآية قول أخر، وهو أن قوله: {مِنَ اللَّهِ} يتعلق بقوله " أظلم " وقوله {مِمَّنْ كَتَمَ} من جمله الذين كتموا وتقدير هذا التأويل قد ثبت أن الله - عز وجل- أعلم منكم، وقد حكم أن الشهادة كتمانها عصيان بقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} فكأنه قيل: من أظلم من الله من الذين كتموا الشهادة إن كان الأمر على ما ذكرتم ولم يخبركم،.
وهذا كقولك: من أظلم ممن يجور على الفقير من السلطان أي لا أحد أظلم منه إدا ظلمه، وعلى هذا يكون قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} على سبيل التهديد لهم.

(1/326)


سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

قوله - عز وجل -:
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

الآية (141) - سورة البقرة.
أعادت هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمه في الناس صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم سيما في أمور دينهم، ولهذا حكى عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة، وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب ببنيه بذلك تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، وفي الثاني لا ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيهاً على نحو ما قال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ولما جرت به عادتهم، تقررت به معرفتهم كل شاة تناط برجليها.
قوله - عز وجل -:
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

الآية (142) سورة البقرة.
السفيه كل معتقد باطلاً يسرع إلى إظهار معتقده، ولا يكون له ثبات، والقبلة وإن كانت في الأصل اسماً للحال التي عليها الإنسان من الاستقبال كالجلسة والقعدة، فقد صار في التعارف للمكان المتوجه نحوه للصلاة، وهؤلاء السفهاء المنكرون لتغيير القبلة اليهود على ما رد عن ابن

(1/327)