تفسير الراغب الأصفهاني

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

عباس، ومشركو العرب عن الحسن، والمنافقون عن السدي، ولا تنافي بين أقوالهم، فكل قد عابوا وكل سفهاء، وقد روي أن بعضهم قال: لا يثبت محمد على دين، وبعضه قال: " رجع إلى قبلة قومه، وسيراجع إلى دينهم، وروي أن قوماً من اليهود أتوه وقالوا: ما ولاك عن قبلتنا؟ ارجع إليها نتبعك فأنزل الله تعالى ذلك تبيينا أن الأمكنة متساوية عند الله، فله المشرق والمغرب، وهو الهادي إلي الطريق المستقيم فأي وجه يتوجه إليه، فهو تعالى موجود كما قال {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، وكقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} في اعتبار به والارتسام لأوامره لا بالأمكنة والجهات المختلفة ...
قوله- عز وجل:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}

الآية (143) - سورة البقرة.
الوسط في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب في المدورة، ومن الطرفين في المطول كالنقطة من الدائرة ولسان الميزان من العمود، ويجعل عبارة عن العدل، وكذلك السواء والنصف.
، وشبه به كل ما وقع بين طرفين إفراط وتفريط كالجود بين السرف والبخل والشجاعة

(1/328)


بين التهور والجبن، ثم جعل عبارة عن المختار من كل شيء حتى قيل: فلان من أوسطهم نسبياً، وكما جعلهم وسطاً جعلهم خيرا في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} والعقب مؤخر القدم، فتصور مكانه من الحيوان تارة، فاعتبرت في قولهم: يعقبه واعتقبه نحو: استدبره، وقفاه، وعاقب الليل النهار، وقيل المعقبات للملائكة التي تتعاقب في الليل والنهار والعقوبة منه، والعقبة الجبل اعتبارا بالصاعد الذي يميل [نحو عقبة] في ممره، ولما كان يؤخذ العقب من بعض الحيوانات فيشد به، قالوا: عقبته: أي شددته بالعقب نحو دسته وانقلب على عقبيه إذا رجع عائداً نحو: ارتدا على آثارهما، ورجع عوده على بدئه.
إن قيل: كيف جعلهم وسطا؟ الخُلق أم لخلْقِ خصهم به؟ أم لعلم ركزه فيهم؟ أم لشرع شرعه لهم؟.
قيل: قد خصهم بكل ذلك، والظاهر من ذلك هي الشريعة التي إدا اعتبرت بسائر الشرائع وجد لها حد الاعتدال، وهو أن بني إسرائيل لما عتوا كما حكى الله عنهم في غير موضع شدد عليهم أشياء صارت عليهم إصرا وأغلالاً، نحو: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ}، ولذلك أمرنا تعالى فيما يدعونه أن نقول {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، ثم خفف عنهم على لسان عيسى بعض التخفيف، ولهذا حكى عنهم: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، وتمم ذلك بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} إلى قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}، وقال عليه السلام " بعثت بالحنيفية السهلة "، فصارت شريعته متوسطة بين الإفراط الذي هو الإصر والأغلال وبين التفريط الذي هو

(1/329)


الإضاعة والإهمال، وعلى ذلك قال {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، ولكون هذه الشريعة وسطاً
سمى مقتضاهما كلمة (سواء) أي عدلاً باتفاق العقول فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} الآية ..
إن قيل: هل ذلك للأمة كلهم أم للبعض دون البعض؟ قيل: الخطاب لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة على وجه، وهو خطاب للكافة عامة على وجه، وذلك أن أصحابه في الحقيقة صاروا موجودين خير الناس، وسائر أمته ممكنون أن يصيروا أخيارا وذلك بقبولهم الفيض الذي أباحه الله لهم بعقولهم ولسان نبيهم وتدرجهم إلى بلوغ أقاصيه ..
،
إن قيل: على أي وجه شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - علي الأمة وشهادة الأمة على الناس؟ قيل: الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مبينا، حكمه، وأعظم شاهد من ثبتت شهادته بحجة، ولما خص الله تعالى الإنسان بالعقل والتمييز بين الخير والشر وكمله ببعثة الأنبياء، وخص هذه الأمة بأتم كتاب، كما وصفه بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فأفادناه- عليه السلام- وبينه لنا صار حجة وشاهداً أن نقول ما جاءنا من بشير ولا نذير، وجعل أمته المتخصصة بمعرفته شهودا على سائر الناس ...
إن قيل: هل أمته شهود كلهم؟ أم بعضهم؟
قيل: كلهم ممكنون من أن يكونوا شهداء وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح، فمن لم يزك نفسه لم ليكن شاهداً مقبولاً، ولذلك قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وعلى هذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، فالقيام بالقسط

(1/330)


مراعاة العدالة، وهي بالقول المجمل ثلاث:
عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله- عز وجل-، فمن رعى
ذلك فقد صار عدلاً شاهداً لله- عز وجل-.
إن قيل: فهل هم شهود على بعض الأمم أم على الناس كافة؟ قيل بل كل شاهد على نفسه وعلى أمته وعلى الناس كافة فإن من عرف حكمة الله تعالي وجوده وعدله ورأفته، علم أن لم يغفل تعالى عنه ولا عن أحد من الناس، ولا يبخل عليهم ولا يظلمهم، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على أن من زمانه وعلى من قبله ومن بعده، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر " أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم "،
إن قيل: ما المشبهْ وما المشبه به في قوله كذلك قيل: ولما قال: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} بين أن نعمته بهذا التشريف كنعمته بالهداية إلى صراط مستقيم.
قوله - عز وجل -:
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا}
الآية (143) - سورة البقرة.
يعني ما أمرناك بالتوجه إلى بيت المقدس إلا لنعلم، أي لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، وقيل معناه: إلا لنعلم حينئذ من ينقاد لك من العرب في اتباعك إلى الصلاة إلى بيت المقدس، وقيل معناه: ما غيرنا حكم القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، والقبلة على هذا كله بيت القدس، وقيل معناه: ما جعلنا هذه القبلة التي أنت عليها أي أمرناك بها يعني الكعبة، وإنما استعمل فيه " كان " إشارة إلى أن حكم الله تعالى بدلك قد تقدم في سابق علمه، وقيل: عنى الكعبة حتى توجه إليها قبل

(1/331)


وروده المدينة، وهذا أظهر، فالآية التي بعدها هي الناسخة لا استفتح بقوله: (قد نرى) ..
إن قيل: ما وجه قوله: (إلا لنعلم)، وذلك يقتضي استفادة علم وقد علم أن الله تعالى لم يزل عالماً بما كان، وبما يكون؟ قيل إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى، ومجاز ذلك على أوجه ..
الأول: أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين: حدوث الفعل في نفسه، وحدوث العلم به، ولما كان
علم الله لم يزل ولا يزال صار اللام فيه مقتضياً حدوث الفعل لا حدوث العلم.
والثاني: أن العلم يتعلق بالشيء على هو به، والله تعالى علمهم قبل أن يتبعوه غير تابعين،
وبعد أن تبعوه علمهم تابعين، وهذا الجواب كالأول في الحقيقة، لأن التغيير داخل في المعلوم لا في
العلم.
والثالث ة معناه لنعلم حزبنا، فنسب ذلك إلى نفسه على علاته في نسبه، أفعال أوليائه إلى نفسه، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وقال في موضع أخر: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وإنما علمه بملائكته.
والرابع: معناه لنجازي، وذلك متعارف نحو: قولك: سأعلم.
حسن بلائك، أي سأجازيك على حسب مقتضى علمي- قيل: فعبر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه.
والخامس: أن عادة الحكيم إذا أفاد غيره علما أن يقول وتعالى " حتى يعلم كذا "، وإنما يريد إعلام المخاطب لكن يحل نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف ...
إن قيل: كيف يتصور حقيقة انقلاب الإنسان على عقبيه؟

(1/332)


قيل: يتصور ذلك على وجهين: أحدهما: اعتبار لحال الإنسان ومعارفه، وهو أن الإنسان شرع في الفضيلة واكتساب المعرفة درجة درجة إلى حين الكمال، فإن حكمه في بطن أمه حكم النبات، ثم يصير في حكم الحيوان، ثم يصير بعد الولادة في حيز الإنسان باكتساب المعارف أولاً فأول، ثم لا يزال يترقى بالعلم والعمل حتى ربما يصير قريباً من الملائكة علما وفضلاً وعملاً، ومتى أخل بمرتبته، وصل إليها، فرجع عنها فقد انقلب على عقبيه، والوجه الثاني: أن يعتبر الأديان وفضائلها، وذلك أن الله تعالى أنشأ الأديان، فمازال يتممها شيئاً فشيئا إلى أن كملها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وكما قال النبي عليه السلام في الخبر الذي قال فيه: ( ..
فكنت في موضع اللبنة)، فمن أنعم عليه بأن أوجده بعد بعثته (عليه السلام) فرغب عن شريعته مائلاً إلى غيرها من الشرائع المنسوخة قد انقلب على عقبيه، وبين بقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أن الانتقال عن المألوف من القبلة مستصعب على الطبع، والإنسان ألوف لما يتعوده سيما الشريعة، فإن ذلك إنما لا ينقل عليه من أنعم الله عليه وهداه وعرف حكمته، وعلم أنه تعالى يأمر عباده بما هو أصلح لهم كأهل " منا " الذين لما أتاهم الخبر بنسب القبلة، وكانوا في الصلاة حولوا وجوههم نحو الكعبة من غير أن يستبينوا، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} هو تسكين لمن صلى إلي بيت المقدس، من المسلمين ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبين أنهم يثابون على ذلك، فقد
روي أن قوماً قالوا: كيف بمن مات من إخواننا وقد وصلوا إلى بيت القدس؟ فأنزل الله تعالى، ذلك،
فإن قيل ولم قال؟ {لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ولم يقل صلواتكم؟

(1/333)


قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

قيل: عدل إلى لفظ الإيمان ألذي هو عام في الصلاة وغيرها ليفيدهم أنه لم يضع لهم شي مما عملوا به ثم نسخ عنهم،
فإن قيل: ولم لم يقل إيمانهم؟ قيل: ذكر بلفظ الخطاب ليتناول الماضين والباقين تغليباً لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ، ثم بين بقوله تعالى: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) أنه لا يضيع إحسانهم وهو رؤوف بهم، فإن رأفته بالناس وإضاعة إحسانهم متنافيان لا يجتمعان.
قوله عز وجل:

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} الآية: (144) سورة البقرة،
قطر وشطر وشطن ألفاظ متقاربة المعاني تقارب ألفاظها، فقطر معناه انفصل عن قطره أي بجانبه ومنه القطرة القليل المنفصل من المانع، وشطر: انفصل وتباعد، ودار شطور منفصلة عن الدور، وشطون بعيدة، وقد يستعمل الشطور موضع الشطون لكن الشطون لما هو أبعد، ورجل شاطر أي منفصل عن الجماعة بالخلاعة، وشاطرته: أي أخذت شطرا وتركت له شطرا، وشاة شطور لها ضرع واحد وأحد ضرعيها أكبر كأنه لا يعتد بالآخر، وتوجهت شطره أي نحوه اعتبارا بالشطر المقابل من شطريه، وتقلب الوجه أبلغ من تقلب العين، على أن الوجه يراد به التوجه كقولك: " وجهتي إلى فلان "
إن قيل: هل كان يستخط - عليه السلام - توجهه إلى بيت المقدس حتى قيل {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}؟
قيل لم يقصد بذلك أنك كنت ساخطة، وإنما كان - عليه السلام - يحركه السر، ويعلم بما يلقى في روعه أن الله تعالى يريد تغييراً في القبلة، وكان يتشوفه ويحثه، وقيل معنى (ترضاها) أي يرضاها، لكن يبين بهذا القول أن مرادك لم يخالف مرادي.
وقول مجاهد وابن زيد، أحب النبي عليه السلام التوجه إلى الكعبة مخالفة لليهود وقول ابن عباس فإنه أحبها اقتداء بإبراهيم عليه السلام وقول الزجاج إنه أحبها لاستدعاء العرب بها إلى الإسلام فكلها صحيحة إذ لا منافاة بين هذه الإرادات، وهذه منزلة يشير إليها أولو الحقائق ويذكرون

(1/334)


أنها فوق التوكل، لأن قاضية المتوكل الاستسلام لما يجري عليه من القضاء كأعمى يقوده بصير فهو به، وهذه المنزلة هي أن يحرك الحق سره بما يريده فعله، وربما يكون ذلك بوحي من خارج لقوله، تعالى لإبراهيم أسلم، وربما كان ذلك بإلهام من باطن كما أوحى إلى أم موسى، ومعنى (تقلب وجهك في السماء) أي تطلعك الوحي المنزل، وقيل: إن في ذلك تنبيهاً على حسن أدبه حينما انتظر ولده يسأل، فالولي الذي حصلت له القربة قد ينقص عن المسألة اتكالاً على ما تيسر له، كما روي عنه عليه السلام أنه قال أن الله تعالى يقول:
(من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل من ما أعطى السائلين) ....
وعلى ذلك أول أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوماً ...
كفاهُ من تعرضك الثناء
وبين تعالى بهذه الآية رغبة النبي عليه السلام في التوجه إلى الكعبة وإلحائه، وقرن به علم أهل الكتاب بأن ذلك حق من الله- عز وجل- ونبه بقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} على وعيد لهم.
ووعد المؤمنين في إلحائهم وإمتناعهم ...
إن قيل: من أين علم أهل الكتاب أن ذلك حق؟
قيل: لما تضمن كتبهم من ذكر النبي- عليه السلام-، وعلمهم أن عبادة الله أن يخص كل رسول من أولى العزم بقبلة غير قبلة من تقدمه أنفاً ...
إن قيل: كيف خاطبه أولاً بقولها {فَوَلِّ وَجْهَكَ} ثم عم بقولها: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}، قيل: أما خطابه الخاص أولاً، فتشريفاً له، وإيجاباً لرغبته وإنجازاً لوعده، وأما خطابه العام بعده، فلأنه، كان

(1/335)


يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه السلام به كما خص بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}، ولأنه لما كان تحويل القبلة أمراً له خطر خصهم بخطاب مفرد ليكون ذلك أبلغ، فمعلوم من السلطان إذا خاطب والياً من قبله بأمر ذي بال يعمه، ورغبته أن يخصه بخطاب مفرد ليكون ذلك أوقع عندهم [وأدعى لهم إلى قبولهم]، وليكون لهم في ذلك تشريف، ولأن في الخطاب العام تعليق حكم أخر به، وهو أنه لا فرق بين القريب والبعيد في وجوب التوجه (إلى الكعبة)، والضمير في قوله {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} قيل هو التحويل قيل: هو التوجه، والقولان في التحقيق واحد.
قوله عز وجل:
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} الآية: (145) - سورو البقرة.
إن قيل؟ كيف حكم، بأنهم لا يتبعون قبلتك وقد أمن منهم فريق- قيل: قال بعضهم: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، وهذا صحيح بدلالة أنك لو قلت: ما أمنوا، ولكن آمن بعضهم لم يكن منافياً، وقيل عنى به وأقوام مخصوصون وقيل: عنى ما تبعوا قبلتك بقلوبهم، وقوله: (يوما أنت بتابع قبلتهم)، أي لا يكون ذلك منك، فمحال أن من عرف الله حق معرفته يرتد، وقد قيل: (ما رجع من يرجع إلا من الطريق)، أي: " ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول " ...
إن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة ثم يرتد؟ قيل: إن الذي يقدر أنه معرفة، وهو ظن متصور بصورة العلم، فأما أن يتحصل العلم الحقيقي ثم يعقبه الارتداد فمحال ولم يعن بهذه المعرفة

(1/336)


الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)

ما جعله الله تعالي للإنسان بالفطرة، فإن ذلك كشررة تخمد إذا لم تتوقد، وبين أن بعضهم لا يتبع قبله البعض، وذلك لارتكابهم الهوى وتأنيهم عن تأمل الهدى، وحذر نبأ عن اتباع أهوائهم، ونبه أن اتباع الهوى بعد التحقق بالعلم يدخل متحريه في جملة الظلمة، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى حتى كرر ذلك في عدة تواضع، وقول من قال الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمعني به الأمة، فلا معني لتخصصه، فإن الله تعالى يحذر نبيه من اتباع الهوى أكثر مما يحذر غيره المنزلة الرفيعة إلى تحديد الإنذار عليه أحوج حفظاً لمتركته وصيانة لمكانته، وقد قيل: حق المرأة المجلوة أن يكون بعدها أكثر إذا كان القليل من الصدأ عليها أظهر ..
إن قيل: كيف أجاب فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}، ولايقال إن جئتني ما فعلت، وإنما يقال: لم أفعل؟ قيل: قد قال سيبويه: إن ذلك لما تضمن معنى القسم، فأدخل على أن اللام صار جوابه كجواب القسم، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} وقال الأخفش: لما كان إن،) وهو متضمنان الشرط حمل " إن "، عدى " لو " فعلى هذا يصح أن يقال " إن أتيتني ما أكرمتك "، وعلى قول " سيبوية " لا يصح ما لم يكن مع " إن " اللام نحو للئن.
قوله - عز وجل -:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

الآية (146) - سورة البقرة.
أتيناهم أبلغ من قوله: (أوتوا)، فإن (أوتوا) قد يستعمل فيمن لم يكن له قبول، وأتيناهم أكثر ما جاء فيمن له قبول نحو: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، وعلى ذلك كل مما جاء من نحو هذا فيما يختص بإكرام نحو: {هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا}، وقوله (يعرفونه) أي العلم الذي هو النبوة

(1/337)


الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

المتقدم ذكرها في قوله {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وقيل، عنى النبي عليه السلام بقوله: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} وقيل: يعرفون أن التوجه إلى الكعبة حق واختلاف أقاويلهم باختلاف نظراتهم إلى الألفاظ من حيث المعنى بأن معرفة الرسول عليه السلام ومعرفة صدق قوله وصحة ما يأمر به من أمر القبلة متلازمة، وإنما قال: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ولم يقل أنفسهم، لأن الإنسان لا
يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجوده، ثم في ذكر الابن، ما ليس في ذكر النفس، فإن الإنسان عصارة ذاته ونسخة صورته، وإنما قال: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} ولم يقل يكتمونه، لأن في كتمان أمره كتمانه الحق جملة، وزاد في ذمهم بقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
فقد قيل: ليس المرتكب ذنباً عن جهل كمن يرتكبه عن علم ...
قوله عز وجل:

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الآية (147) - سورة البقرة.
الامتراء من) مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها، وبه شبه مري الريح السحاب الممطر، ومرى الفارس فرسه للعدو، واستعير الممتري للمتردد، وفي الحكم، ولهذا استعمل فيه المتحير، وهو من حار إذا رجع، وبين أن كل حق هو من الله تعالى، إما بإبداعه وإيجاده وصنعه، وإما بأمره وإما توفيقه، وقوله: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ليس بنهي عن الشك، وإذ كان ذلك ليس بقصد من الشاك، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها، وعلى ذلك قوله تعالي: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}

(1/338)


وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

قوله - عز وجل -:
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

الآية: (148) - سورة البقرة.
أي: لكل أمة، وقيل لكل نبي وجهته، وقيل قبلة، وقيل: شريعة، وذلك في المعنى واحد، وهو ضمير
لله- عز وجل- أي الله موليها إياه، وقيل: ضمير للكل: أي كل موالي جهته، وقرئ: (هو مولاها)
فيكون هو ضمير ضمير الكل ولا يحتاج إلى تقدير ضمير أخر، وقيل: معنى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} أي
للناس كلهم الآن وجهة، وهي الإسلام تنبيهاً أن الأديان به نسخت، نحو: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وفي الآية قول آخر، وهو أن الله تعالى قيض الناس في أمور دنياهم وأخراهم لأحوال متفاوتة، وجعل بعضهم أعوان بعض فيها، فواحد يزرع، وآخر يطحن، وأخر يخبز وكذلك في أمر الدين، واحد يجمع الحديث، وواحد يطلب الفقه، والثالث يطلب الأصول وهم في الظاهر مختارون وفي الباطن مسخرون وإليه أشار النبي بقوله: " كل ميسر لما خلق له " وجعل للكل سبيلاً للوصول إليه تلالي، وإذا راعى ما هو بصلاة وأدى الأمانة فيه، ولهذا سئل بعض الصالحين عن تفاوت الناس في أفعالهم، فقال: في ذلك طريق إلى الله تعالي وصل إليه، أراد أن يعمرها بعباده فبين أن لكل طريقاً إذا تجرى فيه وجه الله تعالي وعلى ذلك قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، كقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} وقوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} يعني أي شغل تحريتم، وحيثما صرفتم، وأي معبود اتخذتم فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها ...

(1/339)


وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

قوله - عز وجل -:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}

الآية: (149) - سورة البقرة.
إن قيل: ما وجه تكرير (فول وجهكم) قيل: إعادة ذلك لحكمة لطيفة، وهو أنه ذكر لتغيير القبلة ثلاث علل من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) - الأولى: إكرامه تعالى نبيه - عليه السلام- إن ولاه قبلة أبيه إبراهيم ابتغاء مرضاته، وهو قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) والثانية: إخباره أن لكل صاحب دعوة قبلة وهو قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ)، والثالثة: قطع حجة معانديه وهو قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، فقرن بذكر في علة معلولها الذي هو الفرض، وذلك قوله: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) لقولك: إن هذا فرض لسبب كذا، وفرض لسبب كذا، فيعتد المعلوم مع العلة، وهذا أبلغ من قول من قال: لما طال القصة، واعترض فيما بينها ما فيه زيادة بيان أعاد الحكم نحو: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا}، وأنه أعاد " لما جاءهم " وأشار بقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} إلي تحقيق ما قدمه، فبين أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن لكل صاحب شرع قبلة تختص بها وأنت صاحب شرع، فتغيير القبلة لك حق،
إن قيل: لم خص الأول بلفظ الرب، والثاني بلفظ الله؟
قيل: لأن الأول لما نبهنا على الاستدلال على حكمته بالنظر إلى أفعاله ذكر لفظ الرب المقتضى [للنعم المسطر فيها إلى المنعم] ويستدل بها عليه، ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ذكر لفظ الله تعالى المقتضي للعبادة التي من أحل بها عليه استحق أليم عقاب.

(1/340)


وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

قوله - عز وجل -:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}

الآية (150) - سورة البقرة.
فإن قيل: لم كرر قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، قيل: حث بأحدهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل الإنسان نائياً كان عنها أو دانياً منها، وذلك حال الاختيار والتمكن، وحث بالآخر على التوجه بالقلب نحوه عند اشتباه القبلة، وفي حال المسامعة، وفي صلاة النافلة في حال المسير في السفر وعلى الراحلة ...
إن قيل: كيف استثنى الذين ظلموا وذلك يقتضي أن يكون لهم حجة،؟ قيل: الحجة ههنا موضوعة موضع الاحتجاج نحو: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} ومعناه: لئلا يحتج عليكم أحد إلا وهو وظالم، وقوله: (لئلا) إبانة عن الغرض، والعاقل لا يقصد إلا عارضاً يصح أن يصيبه، فالمؤمن لا يقصد بذكر الحجة أن يكف الناس بها عن الاحتجاج لعلمه أن منهم معانداً لا يبالي بارتكابه الباطل، والله تعالى لا يأمر بدلك لكونه غير مستطاع، فكأنه قال: أقصدوا بالحجة دفع الناس إلا الظالمين، وقيل الظالمون إشارة إلى مشركي العرب حيث قالوا:
" إن محمد عاد إلى فبلتنا "، وقد استدل بعضهم على أن الناس ههنا لمشركي قريش بما روي في الخبر أن كل ما في القرآن من قوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فمخاطبة لأهل مكة، وما فيه من (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمخاطبة لأهل المدينة، وقول من قال تقديره: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}.

(1/341)


إلا حجة الذين ظلموا، قال: والظالم لا حجة له في الحقيقة فصار كقول الشاعر:
ولا عيبَ فيهِمْ غيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ....
بِهِنَّ فُلُولُ
البيت راجع إلى الأول وأما قول أبي عبيدة إن تقديره " والذين ظلموا " فإن أراد أن معناه هذا على تقدير ما تقدم فصحيح، وإبل أراد أن معناه بمعنى " الواو " هبعيد، وقول الشاعر الذي احتج به وهو قوله:
ماَ بالمدينة دارٌ وَأحِدةٍ
دارُ الخَليَفة إلا دارُ مَرَوانِِ
فتقديرها: ما بالمدينة دار إلا دار مروان غير واحده، وهي دار الخليفة، فقد أثبت دارين فصار من حيث المعنى، كما قال: ليس معنى إلا معنى الواو، وإن قيل: أي حجة لهم على ألكفار إذا فعلوا ذلك، وأي حجة تسقط عنهم، قيل لما ذكر الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}، ومن أن التوجه إلي الجوانب سواء في المعقول أبان أق إنما قصرهم على جانب واحد لئلا يختلف توجيههم فيحتج عليهم الكفار بالاختلاف، ويقولون: ما بالكم تصلون إليها تارة وإلى غيرها أخرى، وقوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} أي لا تراقبوهم ولا تستحيوا منهم، وذلك لما علم أن كلامهم عناد للعقيدة عند ظهور الحجة عن التزامها، فقال لهم ذلك والخشية قد تجري مجرى المراقبة والاستحياء في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} وقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} معطوف على قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} وإتمام نعمته هو أن نعم الله تعالى ضربان: أحدهما موهوب، والآخر مكتسب،

(1/342)


كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

فالموهوب: كجودة الحفظ والفهم وصحة البدن والجاه، وكل ذلك لا يستحق بحصوله الحمد، ولا بفواته الذم، والمكتسب كالعلم والعمل الصالح المتوصل بهما إلى الثواب وهو الإيمان، وبه يستحق المدح والذم، فبين تعالى أنه إذا ائتمرتم في أمر القبلة، وصلتم إلى الحالة التي يحصل لكم الخشية المشار إليها بقوله:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فقد أتممت نعمتي عليكم) واستتممتموها)
قوله عز وجل:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}

الآية (151) - سورة البقرة.
ما مع ما بعده مصدر، أي: كإرسالنا، والكاف فيه متعلق بقوله ولأتم نعمتي عليكم، أي إذا أنتم ائتمرتم في أمر القبلة وخشيتم الله دون الناس أتم عليكم كلمته كنعمته بإرسال رسول هكذا تنبيها أن النعمة في بعثته ودعائه العالم إلى دين مخالف لدينهم، ووعدكم أته سيظهر دينه على الأديان كان أعظم من تغيير القبلة، وقد وفى بذلك، وقيل: تتعلق الكاف بقولها " اذكروني " وهو بعيد ...
إن قيل: كيف أخر فيما حكى عن إبراهيم عليه السلام قوله: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا) ذكر التزكية عن تعليم الكتاب والحكمة وقدمها هاهنا؟ قيل: التزكية من الله عز وجل ضربان، أحدهما الشهادة بطهارة الإنسان، وذلك يكون بتزكية الإنسان نفسه، وذلك مؤخر عن تحصيل الإنسان الكتاب والحكمة والعمل بهما، وإياهما عنى إبراهيم- عليه السلام- في دعائه، فلذلك أخر، والثانية من الله - عز وجل- تبين أحكامه الشرعية، ومن العبد العمل بها، وذلك متقدم علي معرفة حقائق الكتاب والحكمة وهي المعنية ههنا، فلهذا قدم

(1/343)


فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

أن قيل: وما معنى {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}؟
وهل ذلك إلا الكتاب والحكمة؟
قيل: عنى بقوله: {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} اللعوم التي لا طريق إلى تحصيلها إلا بالوحي على ألسنة الأنبياء، ولا سبيل إلى إدراك جزئياتها ولا كلياتها إلا به، وعنى بالحكمة والكتاب ما للعقل مدخل في معرفته شيء منه، وأعاد ذكره يعلمكم مع قوله: {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} تنبيهاً أنه علم مفرد عن المتقدم ذكره. . . قوله - عز وجل -:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}

الآية (152) - سورة البقرة.
الذكر حضور الشر بالقلب والقول، فلهذا قيل: الذكر ذكران ذكر باللسان، وذكر بالقلب، وقد
يكون ذلك لحضور لا عن نسيان، وقل يكون عن نسيان، ولهذا فيل: الذكر ذكران، ذكر لكن نسيان،
وذكر لا عن نسيان.
وإلى الثاني ذهب الشاعر في قوله:
وكيف أذكره إذ لست أنساه؟
وقال بعض العلماء: لما خص الله هذه الأمة بفضل قوة زائدة على ما لبني إسرائيل، قال لبني إسرائيل: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}، فأمرهم بتذكر نعمته المنبهة عن الغفلة لينظروا منها إليه وقال لهذه الأمة:) فاذكروني)، فأمرهم أن في يذكروه بلا واسطة
إن قيل: ما الفرق بين شكرت لزيد، وشكرت زيداً؟ قيل: شكرت له هو أن يعتبر إحسانه الصادر عنه فيثنى عليه بذلك وشكرته: إذا لم تلتف إلى فعله، بل تجاوزت إلى ذكر ذاته دون اعتبار أفعاره، فهو أبلغ من شكرت له، إذ قد يكون

(1/344)


للإنسان فعل في الظاهر محمود، ثم لا يكون ذلك الإنسان على الإطلاق محموداً، وإنما قال:) واشكروا لي)، ولم يقل: (واشكروني) علماً بقصورهم عن إدراكه بل عن إدراك الآية كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فأمرهم أن يعدوا بعض أفعاله في الشكر له، وشكر الله عز وجل- أصعب عبادة أشرفها، ولهذا قيل: غاية شكر الله الاعتراف بالعجز عنه، فكل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله، فإن شكرها نعمه منه، فذلك بتوفيقه، فإن العبد محتاج أن يشكر نعمته الثانية كشكره للأولى، وهدا يؤدي إلى مالا يتناهى، فلهذا قيل: لا يقدر عليه، ولصعوبة الشكر قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، ولم يثن على أنبيائه وأوليائه بالشكر إلا على أثنين، على نوح حيث قال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، وعلى إبراهيم حيث قال: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}، فذكر ذلك بلفظ أدى العدد تنبيهاً على شرف هذه المنزلة وصعوبتها ...
إن قيل: علم عطف قول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}؟
قيل: على قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}، وذلك أنه لما أمرنا باستقبال القبلة، وبين العلة وأنه يريد أن يتم نعمته عليكم كما أنعم ببعثته رسوله أعاد النظم الذي هو الأمر، فأمر بالذكر الواجب بعضه في الصلاة، وبعضه في غيرها، وإن قيل: ولم قال بعده: {وَلَا تَكْفُرُونِ} ولم يقتصر على أحد اللفظين؟ قيل: لما كان الإنسان قد يكون شاكراً في شي ما، وكافرا في غيره، فيصح أن يوصف بهما على حسب النظر إلى فعليه، فلو اقتصر على قوله: {وَاشْكُرُوا لِي} لكان يجوز أن يتوهم إن من شكره مرة أو على نعمة ما فقد امتثل، ولو اقتصر على قوله: {وَلَا تَكْفُرُونِ} لكان يجوز أن يتوهم أن ذلك نهى عن تعاطي قبيح دون حث على الفعل الجميلة فجمع بينهما لإزالة هده الشبهة، ولأن في قوله:

(1/345)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

{وَلَا تَكْفُرُونِ} نهيأ عن الكفر المطلق، وذلك معنى [زائد على قوله (واشكروا لي) وقدم قوله] {وَاشْكُرُوا لِي} وأخر قوله: {وَلَا تَكْفُرُونِ} تنبيها على أن ترك الشكر كفران ...
إن قيل: فلم قال: (ولا تكفرون) ولم يقل (ولا تكفروا لي)؟ قيل: لأنه يقتصر من العبد على شكر نعمه، ولا يقتصر منه على أن لا يكفر نعمه، بل نهى عن الكفر به أكثر مما نهى عن كفر نعمه، إذ قد يعفو عن كفر بعض النعم ولا يعفو عن الكافر المطلق. . . قوله - عز وجل -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}

الآية (153) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الصبر والصلاة وأنواعهما، فحث الله تعالى على الصبر، إذ هو ذريعة إلي فعل كل خير ويبدأ كل فضل، فإن أول التوبة الصبر عن العاصي، وأول الزهد الصبر عن مناجاة الدنيا، وأول الإرادة الصبر على طلب ما سوى الله، ولهذا قال عليه السلام: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)، وقال: (والصبر خير كله) والصلاة هي المقتضية للخشوع والداعية إلي ترك الفحشاء قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ولا أمر بالذكر والشكر حث على الاستعانة بالصبر والصلاة - تنبيهاً أنه بهما يتوصل إليه، فإن الصبر مبدأ الإيمان، والشكر منتهاه ولهذا قال عليه السلام: " الصبر نصف الإيمان " ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فضمن صحبته إياهم تنبيهاً على قرب فيضه وتوفيقه، كما قال:

(1/346)


وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} تنبيهاً أنه يراعيهم بالعناية،
إن قيل: لم قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ولم يقل: " مع المصلين " وقال في أخرى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فاعتبر الصلاة دون الصبر؟ قيل:
لما كان فعل الصابرين أشرف وأعلى من الصبر، إذ قد ينفك الصبر من الصلاة ولا تنفك الصلاة من الصبر ذكر ههنا الصابرين، فمعلوم أنه تعالى إذا كان مع الصابر، كان لا محالة مع المصلي أكثر ثم قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} فذكر الصلاة دون الصبر تنبيها أنها أشرف منزلة من الصبر فقد ترك توفية حق الصلاة من تصبر في كثير من الأحوال.
قوله - عز وجل -:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}

الآية (154) - سورة البقرة.
قد تقدم أن الحياة تقال على أوجه، وكل واحدة يقابلها موت، الأول: في القوة النامية التي بها الغذاء والشهوة إليها، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان، ولذلك يقال: نبات حي، والثاني في القوة الحساسة التي بها الحركة المكانية وهي موجودة في الحيوان والإنسان دون النبات، والثالث القوة العاملة العاقلة [وبها يكون العقل والعلم] وهي في الإنسان دون

(1/347)


الحيوانات والنبات وبها يتعلق التكليف، وقد يقال للعلم المستفاد الحقيقي، والعمل الصالح حياة، وعلى ذلك قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وقيل: " المحسن حي وإن كان في دار الأموات، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء "، ونرجع إلى معنى الآية فنقول: إن بعض المعتزلة لم يعتبر في ذلك تفصيلاً، وقال عني: بإثبات الحياة ونفى الموت عن الشهداء يوم الحساب، لا في الحال قالا ولا اختصاص لهم، بل إنما علق الحكم بهم، لأنه في ذكرهم، ولو ذكر معهم غيرهم
لذكرهم بحكمهم واستجهل من قال إذ! م أحياء وقال: قد علم أن رسول الله {- صلى الله عليه وسلم -} والشهداء في
قبورهم، وهم لا يأكلون ولا يشربون، واستجهاله لن خالفه هو لأنه فرغ إلى الحس الذي قد نفى الله تبارك وتعالى بقوله: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} أي: لا تحسون ولا تدركون ذلك بالمشاعر أي الحواس تنبيهاً أن ذلك مما السبيل إلى معرفته الفرق إلى العقول وإلى الاعتبارات الصحيحة [دون الحواس] وإما علي طريقة غيرهم فمعلوم، وقد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النمو والغذاء ولا الحياة التي بها الحس، فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول، فبعض المفسرين اعتبر المعنى الآخر الذي هو العلم المستفاد والعمل الصالح، فقال: إن الله تعالى نهى أن يسمى الشهداء أمواتا في حكم الدين، فقال: لا تقولوا لهم ما قال المشركون، ولكن قولوا هم أحياء في الدين، وهذا صحيح ...
وبعضهم اعتبر الحياة المختصة بالإنسان، وقال: إن هذه الحياة مختصة بالقوة المروية المسماة تارة الروح، وتارة النفس، وتارة النسمة قال: والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة أي الروح البدن، فمتى كان الإنسان محسناً كان منعماً بروحه، [مسروراً بمكانه] إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئا كان به معذباً، وإن الحسن يعلم في بذلك بعد موته، وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين

(1/348)


والأدلة وهو مذهب أصحاب الحديث، ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل إليه ذهب عادة أصحاب الملل كلها ولم يخالفهم إلا جماعة من المعتزلة، حيث جعلوا الأنواع أعراضاً لا قوام لها إلا بالأجسام، وأنها مهما فارقت الأجسام بطلت، ومما دل على صحة ذلك قوله عليه السلام: " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " وما روى أمير المؤمنين علي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " فإن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفى عاماً، إن الروح في قناديل معلقة تحت العرش "، وقال في أرواح الشهداء ما عرفت وما روي عنه- عليه السلام- " إن الميت ليرد على جماعة من الأموات، فلا يزالون يسألونه عن معارفهم وجيرانهم، وهو يخبرهم ويصف لهم حتى يجري ذكر الرجل " فيقول ة قد مات قبلي بمدة، فيقولون: إنا لله، سفُل به، وإن كان من الصالحين قالوا: على به ومعلوم أنه لم يرد عليهم بالأشباح، وإنما ذلك الإلقاء بالأرواح وروي أنه لما قتل [من قتل] من صناديد قريش يوم بدر، فجمعت جثثهم في قليب، ثم أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخاطبهم بقوله: " هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً "، قيل: يا رسول الله: أتخاطب جيفاً؟
فقال: [ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب] وما روي أنه قال: " رأيت نسمة

(1/349)


وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

أدم " إلى غير ذلك من الأخبار، وعلى ذلك قوله عز وجل {اوَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، وقال في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، وهذا يعني به قبل القيامة بدلالة أخر الآية وهو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} وإلى هذا المعنى ذهب جماعة الصحابة والتابعين، قال مجاهد: " يرزقون من ثمر الجنة فيجدون ريحها وليسلوا فيها " ..
وقال ابن عباس والربيع وغيرهما: " أرواح الشهداء في أحواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها "
قوله - عز وجل -:
{ولنبونكم بشي وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}

الآية (155) - سورة البقرة.
البلاء: المبالغة في الاختبار، كأنك [أبليته] وأخلقته من كثرة ما اختبرته به، ولذلك يقال: بليت فلاناً أي خبرته، والكلام في نسبة الابتلاء إلى- عز وجل- كما تقدم في.
قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} وإنما يراد به ظهور الفعل دون حصول العلم، والخوف توقع مكروه، والجوع استدعاء البدن عوض ما تحلل عنه، ونقص الأموال: ذهاب بعض ما حوته اليد، ونقص الأنفس: افتقاد الإنسان بعض قواه في ذاته، أو بعض جوارحه [أو سمعه أو بصره] أو بعض أقاربه وأخلائه، ونفس الثمرات: فقد المتوقع من الدخل والربح، وهذه الجملة مشتملة على محن الدنيا كلها.
إن قيل: هل ابتلاء الله الناس بهذه النوائب عام لهم أم خاص لبعضهم؟ وهل ذلك في زمان دون زمان؟ أو فبم كل زمان؟

(1/350)


قيل: أما بالنظر الخاصي فعام لهم وفي كل زمان، وذاك أن الناس لا ينفكون في الدنيا في شيء من الحالات عن شي ما من المحن، بل في حال اليسار يساق بهم إلى محنة فإذا ما هم في محنة وإن كانوا في صحة ولهذا روي:: كفى بالسلامة داء " ..
وقال الشاعر:
إذا كان الشبابُ يعوُدُ شيباً ...
وهمَّا فالحياةُ هيَ الحمامُ
فالعاقل بتفكره يعلم أن ماله وبدنه وذويه ونعمه عارية مستردة، فإذا عرضت له نائبة كان له من الصبر مطية لا تكبو، ومن الرضا بقضاء الله سيف لا ينبو، وإما بنظر أعم من ذلك، فإن الله تعالي لا أجرى عادة الدنيا أن لا تنفك من هذه الآفات المذكورة، وأنها قد تنال الأخيار كما تنال الأشرار، جعلها ابتلاء لأوليائه لكي إذا تلقوها بالصبر حط بها وزرهم، وإلا عظم به أجرهم.
وخص بعض المفسرين هذه الأشياء فقال: أراد بالخوف: ما ينال في مجاهدة العدو وبالجوع: صوم شهر رمضان وبنقص من الأموال، ما أوجب من الزكوات، وبنقص الأنفس: الأمراض وبنقص الثمرات: الصدقات وجعل بعضهم هذه الأشياء المحن الظاهرة العامة، لكن خص المخاطبين بأنهم أصحاب النبي- عليه وعليهم السلام خاصة، فقال: " إن الله- عز وجل أبلاهم بهذه الأشياء الظاهرة للحواس " المتبينة للكل ليعلم من بعدهم أنهم لم يتحروا في أتباع النبي- عليه السلام- طلب عرض، بل تبعدوه لتحققهم بمعرفة الحق وظهور الحجج، وجعل بعض المعتزلة المخاطبين والمحن

(1/351)


المذكورة جميعا مخصوصين، وقال ذلك كل في أصحاب النبي- عليه السلام-، وعني بالخوف: خوفهم من الأعداء وبالجوع فقرهم بتشاغلهم بالجهاد، ونفس الأموال: للانقطاع عنه إلى الجهاد عن عمارة بساتينهم، والأنفس: للقتل في سبيل الله، قال: وكل دلك من فعل الله- عز وجل- لا من الكفار، وجعل دلك مخصوصاً تفادياً كما أن يكون بعمومه ناسباً إلى الله تعالي فعلاً قبيحاً ولو اتسع نظره، لأمن مما يحذره، وعلى هذا القبيح والسخط للقضاء ليس يعني شيئاً، وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله، والقصد له والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها، وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه.
وعلى هذا النحو قوله: عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}، وقوله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
إن قيل: لم فصل بقوله: (لا تقولوا) الآية بين هذه الآية والتي قبلها من قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} وهي بمعزل منهما؟ قيل: بل هي متصلة بهما، لأنه لما حث على الصبر وأكثر الصبر إنما لطلب الحياة ولما يعين علي الحياة، بين تلك الآية أن ذلك الصبر يوصل إلى حياة باقية كما قال: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} وكما قال- عليه السلام: " اللهمَّ لا عيشّ إلا عَيشُ الأُخرةِ "

(1/352)


الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)

ليرغبنا في الصبر، ثم لما قرر ذلك أنبأ عما يحملنا من هذه المحن كي يخف علينا تحملها، ثم ختمه بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
قوله - عز وجل -:
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}

الآية (156) - سورة البقرة.
المصيبة من: أصاب السهم، إذا بلغ على صواب، وهي في الأصل صفة، وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح والسخط للقضاء ليس يعني شيئاً وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله، والقصد له والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها، وتصور بها المقصد ووطن نفسه عليه.
فإن قيل: ولم قلت إن الأمر بالصبر يقتضي العلم، وما الصبر من العلم؟
قيل: الصبر على الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبة، ولهذا قال الخضر لموسى لما علم أن ليس يرف مقصده في فعله قال: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} فدل أن حقيقة تحمل الصبر لأبد له من معرفة المقصود به، وقال عليه السلام " أعطيت أمتي ما لم يعط أحد، قال يعقوب [عند المصيبة] يا أسفي، وأعطيت أمتي أن يقولوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وقال عليه السلام: " من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل

(1/353)


أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

له خلقاً يرضاه "، وقال عمر في ذلك: " نعم العدلان، ونعم القلادة "، وحقيقة الرجوع إليه تتبين في قوله- عز وجل- {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} فهو أدق معنى مما قدره من قال: (إنا راجعون) إلى أن لا يملك أمورنا غيره كما كنا في الابتداء، فجعل ذلك رجوعأ لهم.
قوله - عز وجل -:
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}

الآية (157) - سورة البقرة.
الصلاة وإن كانت في الأصل الدعاء، فهي من الله البركة على وجه، والمغفرة على وجه، وهي الرحمة وإن كانتا متلازمتين فهما مفترقتان في الحقيقة، وإنما قال:) صلوات) على الجمع تنبيها على كثرتها منه وإنها حاصلة في الدنيا توفيقاً وإرشادا، وفي الآخرة ثواباً ومغفرة، ثم بين أن من كان كذلك فهو المهتدي تنبيهاً علي ملازمة هذه المعاني الصبر.

(1/354)


إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

قوله تعالى:
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}

الآية (158) - سورة البقرة.
الصفا: الحجارة الصافية عن الطين، والمروة: ما كان صلباً شديداً، والشعائر جمح الشعيرة، أي علامة محسوسة، ومعالم الحج مشاعر وشعائر، وسمي الهدى المعلم بذلك، والحج: القصد بمعرفة، ومنه الحجة، والعمرة في الأصل الزيارة المقتضية لعمارة المودة في الأصل، فكان الحج هو الزيادة والعمرة عمارتها، ولهذا يتأخر ذكرها في القرآن، ويجب الدم على من قدمها في أشهر الحج
أوقرنها به لتقديم ما من حقه أن يؤخر، وهذا ينبه أن الإفراد أفضل من التمتع والقرآن
فإن قيل: فكيف ندب النبي- عليه السلام أصحابه إلى فسخ الحج والانتقال إلى العمرة، على هذا قيل: إنه أراد أن ينزلهم عن اعتقادهم أنما الاعتبار في أشهر الحج من أكبر الكبائر، والجناح الميل إلى الإثم، أصله من الجناح و " جنح الطائر " حرك جناحه، وبه شبه سير الإبل، فقيل جنحت الإبل في السير، كقوله طارت، وجنوح السفينة لتشبه السابح بالطائرة ولهذا قيل: السابح طائر في الماء، والطائر سابح في الهواء، وجنح الظلام ألقى جناحه، ألا ترى أنه يقال: ألقى الظليم أرواقه كما يقال: ألقى الظالم أرواقه؟ والتطوع: تكلف طوع أي انقياد، وهو في التعارف التبرع بما لا يلزم، وإنما قال: لا جناح وذلك واجب، لأن العرب كانت تكره السعي في الجاهلية وقيل: أنها كرهت لصنمين كانا قيل عليهما يعتقدون أنما لهما السعي، فتأثموا لذلك فأنزل الله تعالى الآية، وأما الوجوب: فمستفاد من الخبر، وهو قوله:) أسعوا) فإن الله كتب عليكم السعي، وروي أن عروة قال لعائشة- رضي لله عنها: " ما أرى جناحي أن لا يطوف بين الصفا والمروة فقالت: " بئسما قلت، لو كان كذا لقال: " أن لا يطوف بهما ".

(1/355)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

وقد قيل: إن قوله: " لا جناح " كلام تام، وإن قوله: (عليه أن يطوف) استئناف يقتضي الوجوب، وقرئ (يطوع) على تقدير " يتطوع "، وبين بقولها: (فمن تطوع) أي من زاد على ذلك، فإن الله عز وجل- يبينه فشكر الله- عز وجل- للعبد الإحسان إليها وقد تقدم أن الشكر كما بالقول يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}، وليس شكر الأرفع للأوضع إلاً بقبوله حمده والإفضال عليه بذلك. . . قوله - عز وجل -:
{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}

الآية (159) - سورة البقرة.
اللعن الإبعاد على وجه الطرد، وصار في التعارف دعاء إذا قيل: لعنه الله والبينة والهدى وإن كانا متلازمين فإنهما مختلفان، فإن البينات يشار بها إلى الآيات المنزلة والهدى إلى ما يستدل به من الأمارات، وقيل: الأمة في أهل الكتاب العالمين أمر النبي عليه السلام، وقيل: هي عامة، وسواء خصت الآية أم لم تخص، فحكم الله عام في أن من كتم علماً عن مستحق له استحق العقوبة، وعلى هذا قال عليه السلام: " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار " وليس ذلك بمناف يقول من منع حقائق الحكمة عمن لا يستحقها، فإن ذلك دعاء له أن يترشح لقبولها وحسن سماعها وحفظها لئلا يستعين بها في طريق السر، فليس العلم بأهون على الله- عز وجل- من المال الذي هو عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وقد منع أن يمكن منه السفيه الذي لا يحسن مراعاته، فقال:

(1/356)


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}.
واللاعنون: قيل هو عام في الملائكة والناس ودواب الأرض، وما روي أنه تلعنهم الهوام فتقول: (منعنا القطر بمعاصي بني آدم)، فذلك تنبي أحوالها أنهم مستحقون من الله اللعن، فكأنه ناطقة بذلك كقولك لمن رأيت له أثرا قبيحاً على فرسه: " إن فرسك تشكوك وتلعنك "، وعلى ذلك قول الشاعرفي ناقته:
يقولُ إذا ادَرَأتُ لها وضيني ...
أهذا دينُهُ أبداً وديني
وأما ما يتصوره بعض الناس في أن يكون للهوام تمييز ولعن بالقول، فذلك ممتنع بوجه مخصوص ليس هذا موضع شرحه.
قوله - عز وجل -:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}

الآية (160) - سورة البقرة.
لما كانت التوبة استدراك ما ارتكب من المآثم بما يغمره هن أفعال الخير على ما تقدم ذكره، فمن يكتم البينات والهدى عن الناس فإنه مع جنايته في نفسه أفسد الناس ومنع حقهم، فإذن لا يكفيه من التوبة أن يغير نيته بالندم والعزم على أن لا يعاود مثله حتى يصلح ما أفسده بقدر طاقته ويظهر ما كتمه، كما أن من غصبه مالاً يكون موفياً حق التوبة حتى يرد ما غصبه، وضمن تعالى
أنه يتوب عليهم إذا فعلوا ذلك وبين بقوله: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أنه ليس يفعل ذلك بهم فقط، بل يتوب على كل تائب، ولمي حق توبته ويرحمه.

(1/357)


وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

قوله عز وجل:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}
الآيتان (161، 162) - سورة البقرة.
لما بين في الأول من تاب من ذنبه تاب عليه ورحمه بين في هذا أن من مات على كفره فالعقوبة لازمة له،
إن قيل: أليس قد قال في الأول: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} فلم أعاد ههنا فيل لأمرين، أحدهما أنه عم ههنا، وخص في الأولى الذين يكتمون الحق والثاني أنه في الأولى ذكر أن اللعنة تتوجه إليهم وهم يستحقونها، وفي الثانية ذكر أن اللعنة تقر عليهم، ولهذا قال عليهم:
ن قيل.
هل الناس عام حتى أكده بأجمعين؟
قيل: نعم، وذلك أن المؤمنين وصالحي العباد يلعنونهم، وهم يلعن بعضهم بعضاً: كما قال: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وكل يلعن نفسه ويلعن بعض جوارحه وقواه بعضة، كما تشهد عليه، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} قيل: في اللعنة، وقيل: في النار، وهما في الحقيقة واحد، فكل من عليه اللعنة فهو في النار، وقرئ {وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، ويكون ذلك عطفآ
على المعنى دون اللفظ.
قوله - عز وجل -:
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}

الآية (163) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الواحد إذا وصف به البارئ عز وجل وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يجوز أن يكون خطاباً عاماً أي المستحق منكم العبادة وهو إله واحد لا أكثر، ويجوز أن يكون خطاباً للمؤمنين،

(1/358)


إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

والمعنى: الذي يقصدونه إله واحد تنبيهاً أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون آلهة من الأصنام والشيطان والهوى وغير ذلك.
إن قيل: ما فائدة الجمع بين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وبين {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وأحدهما يبنى على الآخر؟
قيل: لما بين بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها، وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره ولكن لا يعبد أولا يستحق العبادة أكده بقوله: (لأ إله إلاً هو)، وحق لهذا المعنى أن يكون مؤكدا ويكرر عليه الألفاظ [الملخصة]، إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه.
قوله عز وجل:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}

الآية (164) - سورة البقرة.
اختلاف الليل والنهار: أن يخلف كل واحد منهما الأخر، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً}، وقوله: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} وقوله: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، والفلك: السفينة المدورة، وبه شبه فلك السماء، ولذلك استعمل فيه السباحة وفلكة المغزل، وفلكت الجارية صار ثديها كفلكة، وفلكت الجدي: وضعت فلكه على لسانه يمنعه عن الرضاع، والفلك يقال للواحد والجمع، وذلك أنه يقال للواحد فلك، وفلك نحو: نُخل ونَخْلٍ وعُربٍ وعَرّب، وعُجْمِ وعَجَم، ومن قال: فلك يجمعه على فلك نحو أسَدٍ وأُسْدٍ فتداخل الواحد والجمع من لغتين، والبث إظهار

(1/359)


ما كان خفياً عن الحاسة هما كان أو غيره، والدبيب أصله حكاية صوب المشي، ثم قيل: دب إذا مشى، ويقال لكل ما يمشي دابة، وتم خص بالفرس، والدب خص بضرب من السباع، وأن الدبة والدبدبة فاعتبارا بصوتهما، والتصريف: صرف الشيء من وجه إلى وجه، وصريف الباب منه، لكن اعتبر فيه الصوت، فبني بناء الأصوات كالنهيق والشهيق وغير صارف تصرف الفحل إلى نفسها بإظهار شبقها، والصرف والصريف المصروف عن الكدورة، لكن خص الصريف باللبن والصرْف بسائر الأشربة، وقوله: (وتصريف الرياح) يجوز أن يكون تقديره: تصريف الله الرياح، وأضيف إلى المفعول، وتصريف الرياح والسحاب، فيكون مضافاً إلى الفاعل والسحب جر الثوب، والسحابة هو لما تجره الريح، والتسخير القهر علي الفعل وهو أبلغ من الإكراه، فإنه حمل الغير علي الفعل بلا إرادة منه على وجه كامل الرحى على الطحن،
إن قيل: لم جمع السماء وأفرد الأرض في كل القرآن؟
قيل: لأن السماوات لما كانت في الحقيقة سبعاً وطبائعها مختلفة على ما ذكر أصحاب هذه الصناعة، وكل واحدة مستمدة القوة مما فوقها ومعطية ما دونها، والأرض وإن كانت سبعاً، فليس على ذلك الوجه، لأنها بالأقاليم لا بالطبقات المتراكمة تراكب السماء وطبيعتها واحدها، ولهذا قال: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فترك اللفظ مفرداَ، ونبه بمثلهن على العدل الذي يعد به الأقاليم، وإنما ذكر هاهنا لفظ الخلق، لأنه مشتمل علي الإبداع والصنع والتسخير، وخص فعل الله تعالى بذلك لكونه موضوعا للتقدير المقتضي للأحكام، وهو تعالى أحد الحاكمين، ونبه تعالي على وحدانيته بالتفكر في الموجودات وذكر من آياته مالا يخفى أمر صنعته على ذوي الحواس والعقول ليستدل به كل على قدر فهمه ويقف منه على معارف بمبلغ علمه.
إن قيل: كان الوجه أن يعقد ذكر السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بتصريف الرياح والسحاب التي هي من آثار الجو ومختصة بفعل الله- عز وجل-، ثم يعرج على ذلك الفلك التي هي

(1/360)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

في الأرض وفيها أثر أيدي البشر، حتى يكون على النسق، قيل إن إيجاد البحر مقدم على إيجاد الأمطار والرياح والسحاب، فكل ذلك إنما ينشأ عن البحار الساطع من رطوبة البحار ويبوسة الأرض، وذلك مبين في كتب المعنيين بمعرفة هذه الصنعة، ولما لم يكن فرق بين أن يقال: (والفلك التي تجري في البحر) وبين أن يقال: (والبحر الذي تجري فيه الفلك) في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر وإن أخر في اللفظ، وقدم ذكر الفلك التي هي من صنعتنا، ونحن بصنعتنا أعرف منا بصنعته.
قدم ذكر الفلك لننظر منها إلى أثار الله تعالى، وقال بعض الناس:
لم يعن بالفلك والبحر المحسوسين فقط، بل عنى بالبحر كل شبها وحيرة ومشقة، وبالفلك ما فيه إيقاد البشر من فائض النور والعقل أمدهم به، وغير ذلك من المعادن المعقولات والمحسوسات، وقد تقدم أن من الناس من قال: الإشارة بالماء في نحو هذه المواضع إلى العلوم التي بها الحياة الأبدية وما في الأرض إلى النفوس التي بها تحيا الحياة الأبدية، ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى:
) وإلهكم إله واحد) جعل هذه الآية دلالة عليه تنبيها أن كل موجود لا ينفك من أن يكون مكوناً غير مكون، أو مكوناً من وجه مكوناً من وجه أو مكوناً وغير مكون، ومحال أن يكون كل مكون مكوناً لأن ذلك يؤدي إلى ما لا يتناهى، فإذن لابد أن تنتهي الموجودات إلى مكون غير مكون، وذلك هو الباري- عز وجل-، فنبه أن أثر الصنعة موجود في هذه الأشياء، فلابد أن تكون مكونة، وهذا هو الدلالة على وحدانيته علي طريق الجملة ..
قوله - عز وجل -:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}

الآية (165) - سورة البقرة.
الند: المثل في الجوهر، وقد تقدم، والحب أصله من الحب، وبه شبه حبة القلب وحبيبه يقال على وجهين، أحدهما: أصبت حبة قلبه، نحو كبدته وفادته، والثانية أصبته بحبة القلب، نحو: رمحته وعنيته، أصبته بالعين، فقولك: حببته وأحببته هو في اللفظ فعل، وفي الحقيقة قد يكون انفعالاًَ، لأن المحب يكون منفعلاً للمحبوب، وإذا أستعمل في الله تعالى فقيل: " أحب الله فلاناً "، فليس إلا على

(1/361)


سبيل الفكر والمعنى: أصاب الله تعالى حبة قلبه، فجعلها لنفسه مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله، والمحبة إرادة ما تراه أو تظنه خيراً، وهي أربعة أضرب بحسب أعراض الناس في أمورهم، اللذة، والنفع، والخير المحض، والمركب من اللذة، والنفع [لمحبة المغني له والمغني بعضهما لبعض]، وكل محبة ينقطع سببها انقطعت بانقطاعها، ولما كانت الشهوات البدنية والمنافع الدنيوية منقطعه، فالحب الذي يجلبانه منقطع لا محالة بانقطاعهما، ولما كان الخير المحض باقياً، كان الحب الذي يجلبه باقية ببقائه، ولما بين تعالى توحيده والدلالة عليه ذكر بعد أن مع ظهور الآيات المنبئة عنها من الناس من يتخذ نداً لنفسه بحبه، ويراعيه مراعاة الله تعالى ثم نبه بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أن محبتهم لأندادهم منقطعة، فإن أسبابها المقتضية لها منقطعة، ومحبة المؤمنين له دائمة، إذ هو دائم والند المشار سواء كان صنماً معبوداً أو رئيساً مخدوماً، أو مالاً منعقداً، أو إنساناً معشوقاً، فإن كل ذلك محبوب لن يراعيه من وجه ومعبود من وجه ثم بين بقوله: (ولو ترى) ما أعد هم من العذاب الأليم، فإذا قرئ بالياء، فإن ما بعده هو مفعول يرى وجواب " لو " محذوف، وقيل: إن القوة مفعول الفعل المحذوف الذي هو جواب، كأنه قيل: لرأوا أن القوة لله جميعاً، وإذا قرئ
بالتاء، فخطاب النبي على طريق التعظيم، ومعناه: أنك مع علمك بأحوال القيامة لو رأيت لتعجبت، وقوله: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، قيل: هو بدل من الذين، وهو ضعيف وقيل: هو مفعول الفعل المقدر للجواب، وقيل: تقديره: لأن، وقد قرئ إن مكسورة ولا يكون إلا علة والمفعول محذوف.

(1/362)


إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)

قوله - عز وجل -:
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}

الآية (166) - سورة البقرة.
السبب: أصله الحبل الذي تشد به (الخيم) ويرتقي به الشجر، ثم جعل عبارة عن كل ذريعة من مواصلة وذمة، والسبب والسبيبة للشقة من الثياب تشبيهاً به في الهيئة، وبعض الصنعة، وسببته في الأصل كناية معناه: أصبت سببه، ولكنه سمى الإصبع سبابه، لكونها مشيرة بالسب، كما قيل لهامسبحة لإشاراتها بالتسبيح، وتقدير الآية: (أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).
إذ تبرأ المتبعون من تابعهم، كقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}، وقوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وقوله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، وكما حكى عن الشيطان: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}، وقوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}

(1/363)


وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

قوله عز وجل:
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}

الآية (167) - سورة البقرة.
الكر: هو العطف على الشيء بالذات، أو بالفعل، وعبر به عن الجبل المعقول، والكرير: تكرر الحشرجة في الصدر، والحسرة أصلها من حسرات القناع، وكأنها كشف ما غطى القصيرة من الهوى، وعلى ذلك:
تحَّلى غطاءِ الرأْسِ عني ولَمْ يَكَدْ
غطَاءُ فؤادي ينْجليِ يًستْرٍيحُ
ولما كان عند ذلك لغرض الندم والغم بما كان من الإنسان عبر به عنهما، فقيل أصابته حسرة، وقوله: كذلك أي كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم، وبين الله تعالى ما يظهرونه من الندم باتباع مالا يغنى عنهم من الله شيئاً وينسيهم مالا يجري نفعاً، وقوله: أعمالهم دخل فيها [الأعمال التي فعلوها] ولم يريدوا وجه الله بها، فضلت عنهم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}، وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، ودخل فيها الأعمال التي فرضت عليهم، فأحلوا بها، وعلى ذلك روي أن الجنة ترفع لهم، فينظرون إليها فيقال: تلك مساكنكم لو أطعتم الله عز وجل، وترفع النار لأهل الجنة فيقال لهم: تلك مساكنكم لو عصيتم الله - عز وجل - ....

(1/364)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

قوله - عز وجل -:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}

الآية (168) - سورة البقرة.
الحلال: من حللت العقدة، وهو الذي حل لكنه عقدة الخطر، وجل بالمكان، أي حل عقد أحماله، كقولهم: حط رحله، وألقى أرواقه وحل الدين، أي حل عقد المطالبة، وحل من إحرامه، حل ما عقده على نفسه بالإحرام، وتحلة اليمين: ما تنحل به عقدة اليمين، والإحليل: لمخرج اللبن والبول لانحلال عقدته، والطيب: ما تستطيبه الشهوة المستقيمة والعقول الصحيحة أما بالإضافة إلي الشهوة المستقيمة فهو ما يشتهي لا لاضطرار كالجرذ والفأر والحرية والدم، أو لعادة سيئة كأكل الضب، ولهذا قال الشاعر:
إنكً لوْ ذُقتَ الكسِيَّ بالأُكبادِ ...
لمَاَ تركْتَ الضَّب يعدوُ بالوادِ
وكعادة المخبث والمئل إلى الذكور عن النساء، وأما بالإضافة إلى العقول الصحيحة، فما يكون متناولاً من حيث ما يجوز متبلغأ به إلى ما خلق لأجله وأن لا يقصد به شرك كما يذبح على النصب والخبيث على العكس، والحلال أعم من الطيب، والحرام أعم من الخبيثة فقد يكون حراما مالا يكون خبيثاً في نفسه بالعقل كتحريم ما يقسم بالأزلام، واستعمال الذهب والفضة، ولبس الحرير على الذكور، وجمع بين الحلال والطيب في الآية ليفيد ما استطابه الطبع وأباحه الشرع، ولا ذكر إباحة الطيب، وكان كثيرا ما يزين الشيطان لبعض الناس ما ليس بالطبع الصحيح طيباً، كعادة المخنث اتبعه بقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} كقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ}، وقد تقدم أن لا فرق بين أن يقال " اتبع فلان الهوى " وبين " اتبع الشهوة أو الشيطان أو الحياة الدنيا في أن

(1/365)


إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

المقصد [بجميع ذلك] متابعة ما يصد عن سبيل الله- عز وجل-، ونبه بقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أن عداوته لا تخفى على ذي بصيرة، وهذا المعنى الذي أراده الشاعر وإن نقل اللفظ إلى الدنيا، حيث قال:
إذا امتْحَنَ الدُّنْيا لبيبٌ تَكَشَّفتْ ....
لهُ عنْ عدًو في ثيابِ صّدِيِق.
وقول آخر:
عمْرِب لقدْ نَصَحَ الزمَانّ وإنهٌ ...
لمنَ العجاَئبَ ناصحٌ لاَ يُشْفِقُ.
قوله- عز وجل:

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآية (169) - سورة البقرة.
السوء والفحشاء كل قبيح من نحو الزنا، والسرقة، والسكر، والقتل، والخيانة، والكذب والحسد والجهل [وكل ما يقال له سوء] يقال له فحشُ، لكن بنظرين مختلفين، فإنه سمي سوءاً لاغتمام العاقل به، والفحشاء بأن يستفحشه، ونبه تعالى بأن الشيطان داع إلى إتيان الشر والسوء والفحش والتقول على الله عز وجل،
إن قيل: إن كان التقول على الله عز وجل بما لا يعلم من عمل
الشيطان، فكيف يصح الحكم بغالب الظن في كثير من الأحكام، فإن عامة فروع الفقه مبنية علي غلبة الظن، قيل: أما أولاً: فليس ذلك تقولاً على الله تعالى، وإنما ذاك تقول على أحكام، وقد فرق المتكلمون

(1/366)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

بين الحكمة العلمية وبين الحكمة العملية وقالوا: كل ما كان من الحكمة العلمية، وهي التي لا عمل لها كالإيمان بالله وملائكة وكتبه ورسله، فإنه لا يجوز إن يحكم فيه ألا بالعلم المصون عن الشوائب، وما كان من الحكمة العملية فأصولها كذلك وأما فروعها: فيجور الحكم فيها لغلبة الظن لتفسيح صاحب الشرع لنا في ذلك، فصار حكمنا فليه من هذا الوجه حكماً بالعلم، لأنه إذا قال لنا: إذا غلب في ظنك أن القبلة في هذا الجانب، فصل إليه، وإذا شهد عندك شاهدان مزكيان فاحكم بشهادتهما صرنا
عالمين بأن هذا الحكم واجب علينا في الظاهر، وهذه مسلمة قد أحكمت في أصول الفقه، وأما سؤال من سأل من المتكلمين في هذه الآية بأنه كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نسمع قوله ولا نرى شخصه، وما الحكمة في إيصال الله- عز وجل- أمر الشيطان إلى نفوسنا، فهل وما يجري مجراه من الأسئلة سؤال من لم يتخط المحسومات والموهومات إلى باب المعقولات، ومحال الاشتغال معه [بهذه الحرمات].
قوله - عز وجل -:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}

الآية (170) - سورة البقرة.
ذمهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية وركزه فيه من المعارف، وذلك أن الله تعالى ميز الإنسان بالفكر ليعرف به الخير من الشر في الاعتقاد والصدق من الكذب في المقال والجميل من القبيح في الفعال لم يتحر الحق والصدق الجميل، ويتجنب أضدادها،

(1/367)


وجعل له من نور العقل ما يستغنى به فيدله على معرفة مطلوبه، فلما حث الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم من متابعة الشيطان بين حال الكفار في تركهم الرشاد واتباعهم الآباء والأجداد، ليحذر من الاقتداء بهم تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان [وحقيقته] ثم قال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} أي يتبعونهم وإن كان آباؤهم جهلة- تنبيهاً أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء ..
إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: (يعقلون، ويهتدون) وأحدهما يغنى عن الآخر؟
قيل: قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين، أحدهما: لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني: لمن يحصل له العلوم المكتسبة وهو المقصور ههنا، والمهتدي قد يقال لمن افتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم، فبين أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، بعالم ووجه أخر، وهو أن يلقي ويهتدي وإن كان كثيرات ما يتلازمان، فإن العقل يزال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا عمل مستقيم.

(1/368)


وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

قوله - عز وجل:
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}

الآية (171) - سورة البقرة.
النداء من قولهم: ندىُّ الصوت، أي: غضُّ الصوت، وأصله من الندى، فناداه، أي دعاه بندى صوته، ولما حكى لله عنهم ما زعموا أنهم يتبعون أباءهم دل على جهلهم بأنهم كأغنام ينُعق بهم، فلا يعرفون مغزى الصوت ولا قصد المنادي، وقد تقدم الكلام في قوله، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}،
إن قيل: كيف يكون مثلهم مثل الناعق والذين كفروا بالمنعوق به أشبه، والذي ينعق بالمنادي، والداعي أشبه قيل: التشبيه ضربان، تشبيه مفرد بمفرد وحقه أن يحمل أحدهما على الأخر [نحو زيد كأسد، وتشبيه جملة بجملة] ولا يراعي فيه مقابلة الألفاظ المفردة، فلما شبه قصة الذين كفروا في إعراضهم عن الداعي لهم إلا الحق بقصة الناعق، [قدم ذكر الناعق ليبنى] عليه ما يكون منه، ومن المنعوق به، وعلى هذا قوله {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وقوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} وقيل: عنى بالذين كفروا المتبوعين لا التابعين، ومعناه: مثل الدين كفروا في دعائهم أتباعهم كمثل الناعق بالغنم [الذي لا يسمع لها الصوت] ....

(1/369)


إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

قوله - عز وجل -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

الآية (172) - سورة البقرة.
إن قيل: ما فائدة إعادة هذا المعنى وقد تقدم آنفا؟ وما الفرق بين هذا الخطاب والخطاب الأول؟ قيل في ذلك لطيفة وإشارة عجيبة، وذلك أنه حيث خاطب الناس كافة قال: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}، فأباح لهم ذلك، ونبه أنه لم يحظر عليهم إلا تناول المحرم، وعقبه بالنهي عن اتباع الشيطان، وجعل الخطاب في هذه الأيام مخصوصاً بالمؤمنين وأمرهم أن لا يتوسعوا في تناول
ما رزقوا، بل يتحروا من الطيب تحري الناس مما في الأرض، وأنه في الأول بالتحرر عن خطوات الشيطان، وهو الارتسام له فيما يتخطى به عن المباح، وأمر ههنا بالشكر لله تعالى الذي هو أرفع منزلة في العبادة على ما تقدم ذكره، ونبه بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إن عبادته لا تتم إلا بشكره. . . قوله- عز وجل:

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية (173) - سورة البقرة.
الإهلال: أصله وجود الهلال، ولما جرت العادة أن يكبروا عند رؤيته سمي التكبير إهلالاً، بل قيل لرفع الصوت أيضاً إهلال تشبيها بذلك حتى قيل: أهل الصبي، وأنا التهلل فظهور الهلال، فتارة يتصور لمعانه، فيقال: تهلل السحاب، وتهلل وجهه، وتارة يتصور شكله، فيقال: تهلل البعير إذا تقوس

(1/370)


إن قيل:
لم ذكر تعالي بعض المحرمات وترك بعضها؟
قيل: في ذلك جوابان، أحدهما: أن المسكوت عنه هو تفصيل الميتة، وقد ذكر ههنا الميتة المستوعبة لكل ما مات روحه عن غير ذكاة، والثاني: أنه لما كان القصد في هذه الآية حكم تناول المضطر دون استيعاب المحرمات،) ذكر الكل منها وترك البعض، والباغي في الأصل الطالب لما ليس له طلب والعادي: المتجاوز لا رسم له بالشرع، وقال الحسن وقتادة والربيع وابن زيد: عنى بقوله: (غير باغ غير متناول للذة، ولا عاد في المعصية طريق المحقين، وإلى نحوه ذهب الشافعي- رحيمة الله عليه، والظاهر يشهد له، لأن قوله: (غير باغ ولا عاد) متعلق بحال الاضطرار، فكأنه قال: " من حصل له اضطرار " لا على أحد هذين الوجهين، وعلى الأول تقديره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فيكون غير متعلق بمقدر محذوف، ومن أنكر ذلك وقال: إنكم تأمرونه بقتل نفسه إذا خطرتم ذلك عليه، وقتل نفسه محرم عليه عاصياً كانوا أو مطيعاً، فجوابه إنا لم نأمره بذلك، بل أمرناه بأن ييخرج عن الحالة التي تكون الميتة محرمة عليه، وذلك بأن يتوب [وينزع عما هو عليه] وإلا كان متناولاً لمحظور كما أن سفره محظور،
فإن قيل: أليس من سفره طاعة؟ إنما أجل له للإضطرار.
لا للطاعة، فإذن العلة لمدير الضرورة، فيجب أن تكون مطردة، قيل: بل العلة هي الضرورة مع حصول الطاعة، فقد قال الحكماء وهو الصحيح: إن الله تعالى جعل للإنسان طيبات الرزق وبشرط الإيمان، ولهذا قال: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، خالصة يوم أخذه فما أخذه الكفار من نعيم الدنيا، فإنما يأخذه اغتصاباً في الحقيقة، ولذلك قد تستقيم أحوالهم، والآية تقتضي أن المضطر مخير في تناول أيها يريد وهو

(1/371)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

الصحيح، لأن عليه إنقاذ روحه بجهده، فما رأه أقرب إلى إبقائه، فهو أولى بتناوله، واختلف إذا أضطر إلى شي من ذلك في دواء لا يسد غيره مسده، هل يجوز تناوله؟
والصحيح أنه يجوز للعلة التي لها أجيز تناوله للجوع، وكذا الخمر إذا اضطر إليها في دواء
بحكم الأطباء أنه لا يسد غيره مسده، وأنه يفوت روحه إن لم يتناولها، قوله عليه الإسلام-، (إن الله- عز وجل لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم)، فمعناه: إن قد رما فيه الشفاء غير محرم عليه، وعلى هذا نبه بالرخصة في شرب أبوال الإبل.
قوله- عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

الآية (174) - سورة البقرة.
البطن به شبُه بطن الأمر وبطن الوادي، والبطن من العرب اعتباراً بأنهم كشخص واحد، وأن كل قبيلة منهم كعضو بطن وفخذ وكاهل، وعلى هذا الاعتبار قال الشاعر:
الناسُ جسمٌ وإمام الهُدىَ ...
رأسُ وأنت العينُ في الرأسِ
وقيل: بطن إذا عظم بطنه نحو جسم وكبر، وبطنته عظمت بطنه، وسمي ما يشدَّ عليه بطاناً على بناء حرام وزمام والإبطن عرق تكشف البطن على بناء الأكحل، وأعاد الله تعالى وعيد كاتمي

(1/372)


أحكامه أثر ما.
ذكر من الأحكام، وما لم يقل ذلك من أهل الكتاب وتحذيراً لهذه الأمة أن يسلكوا سبيلهم وأكل النار تناول ما يؤدي إليها، وذكر الأكل لكونه المقصود الأول بتحصيل المال، وسماه بالمال الذي هو النار، وذكر في بطونهم تنبيهاً على شرههم، وتقبيحاً لتضييع أعظم النعم لأجل المطعم الذي هو أحسن متناول من الدنيا، وعلى ذلك قال الشاعر:
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمُ ....
وهل بطنُ عمروٍ غيرُ سبرٍ لمطْعمِ؟
وقال آخر:
كُلُوا في بعض بطنكم تَعِِفًّو
وعلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}.
وبقوله: " ولا يكلمهم " لم يعن نفي الكلام رأسا، فقد قال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} وقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ}، وإنما أراد كلاماً يقتضي جدوى، ولهذا قال الحسن:
معناه يغضب عليهم تنبيها أنهم بخلاف من قال فيهم: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ}، وقيل: حقيقة كلمته حملته على الكلام نحو: حركته وخرجته، لأن من كلمته فقد استدعيت كلامه، فكأنه قيل: لا

(1/373)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

يستدعي كلامهم نحو قولهم: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}.
وقد تقدم الكلام في الاشتراك والقليل والتزكية.
قوله - عز وجل -:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}

الآية (175) - سورة البقرة.
الضلالة والعذاب يتلازمان، وكذلك الهدى والمغفرة، لكن الضلال والهدى يقالان على الاعتبار بالدنيا، والعذاب والمغفرة على الاعتبار بالآخرة، وجلل تعاطيهم لما يؤديها إلى النار بمنزلة الصبر على النار، وهذا معنى قول الحسن: ليس صبرهم على النار، ولكن أراد ما أجرأهم على النار، وقول أبي عبيد:
إن ذلك لغة " يمانية " بمعنى الجرأة، واحتجاجه بقول الأعرابي الذي قال لخصمه:
" ما أصبرك على الله؟، فتصور المجاز بصورة الحقيقة، لأن ذلك معناه: ما أصبرك على عذاب الله، وإلى هذا يعود قول من قال: ما أعملهم بعمل أهل النار! وما ألقاهم على النار!، وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتباراً بالناظر إليه وتصوراً أنه صابر، واستعماله لفظ التعجب في ذلك اعتباراً بالخلق لا بالخالق ...

(1/374)


لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

قوله - عز وجل -:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}

الآية (176) سورة البقرة.
ذلك إشارة إلى.
كل ما تقدم من العذاب والحكم والضلال، أي ذلك بسبب إنزاله الكتاب
واختلافهم فيه، ويصح أن يكون نصباً، أي فعلنا ذلك " بأن الله ".
وأصل الاختلاف التخلف عن المنهج، وقيل: اختلفوا: أتوا بخلاف ما أنزل الله، وقيل: اختلفوا بمعنى خلفوا، نحو كسبوا واكتسبوا، وعملوا واعتملوا، أي صاروا خلفاً فيه نحو: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ورثوا الكتاب، والشقاق وقد تقدم ذكره، ووصفه ببعيد تنبيهاَ على بعدهم من الحق ...
قوله - عز وجل -:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}

الآية (177) - سورة البقرة.
الرقبة: أصل العتق، ويعبر بها عن الجملة كما يعبر عنها بالرأس والظهر والرجل واليد، ويعبر بها عن المملوك، وقيل رقبتُة: إذا أصبت رقبته بها بالسلاح، وإما بالعين ناظراً إليه، ثم سمي المراعي للغير رقيباً، والخطاب في هذه الآية للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة، وقيل: بل لهم وللمؤمنين، حيث قدروا أنهم نالوا البر كله بالتوجه إليها، ولما كانت القبلة أحد أركان الصلاة، والصلاة إحدى فعلات البر، بين تعالى أن ليس البر بمقصور على هذا الذي تعتبرونه، بل هو حملها.
والقبلة

(1/375)


ركن من أركان واحدة منها، ثم عدها وذكر جملتها وفرائضها ونوافلها وبيان [ذلك أن جميع البر ضربان: اعتقاد، وأعمال فالاعتقاد] أصوله الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والأعمال ضربان: أحدهما ما يأخذ الإنسان به نفسه في معاشرة الناس من الأقارب والأباعد من ذلك المعروف والمواساة والتحبب إليهم بالسر والقول الحسن.
والثاني: ما يتخصص به في نفسه من إقامة العبادات واستعمال الصدق والوفاء والتواضع والصبر، وقد نبه الله عز وجل- على جميع ذلك بهذه الآية، إما على الاعتقاد فبقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ}، وإما على ما يأخذ به الإنسان نفسه في معاشرة الناس فبقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ}، فإنه ذكر الجود الذي هو من وجه أفضل هذه الأفعال، ومن وجه هو كل هذه الأفعال فإن الجواد كما يتبرع بماله يتورع عن مال غيره، وكما يجود بماله، يجود بجاهه وبطلاقة وجهه، وعند الحقيقة- بنفسه، ودل على ما تخصص به في نفسه بقوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} إلى أخر الآية، وكل ما سكت عنه فداخل تحت ما ذكره، أو منبة عليه، ونبه أن الآيتين بذلك بر، وهو المؤدي إلى النعيم المدلول عليه بقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}، وبين تعالى بقوله: {أُولَئِكَ} بأن الذين تحروا ذلك إدا اعتبرتهم بأفعالهم وأقوالهم فهم الذين صدقوا، وإذا اعتبرتهم بأفعالهم وأحوالهم فهم المتقون، والصدق والتقوى وإن اختلفت حقيقتاهما فهما متلازمان،
إن قيل:
ما وجه قوله- عليه السلام- لما سأله أبو ذر عن البر، وتلا عليه الآية، ولما سأله وابصة عنه: قال " ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس " الخبر قيل إن أباذر سأله عن ذات البر، فبينه بالآية، ووابصة سأله عن كيفية تحريه والاشتياق من نفسه في تعاطيه، فبين بصفته.

(1/376)


إن قيل: لِمَ لَمْ يقل: (ولكن البر بر من أمن)، أو: (البار من آمن) ليتطابقا؟
قيل: قد ذكر النحويون في هذا وأمثاله أنه على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ولكن وجه فائدته أنه إذا قل " زيد بار "، فإنه يعتبر في قولك: بار سيان الذات، والصورة والمختص بهامن معنى البر، وإذا قيل: " زيد هو البر "، ففيه مبالغة، وأنه صار لاختصاصه بهذا المعنى بحيث لا يرى منه إلا هذه الصورة مجردة عن العنصر الذي يجوز أن يتصور بغيره من الصور، وعلى هذا كل ما في معناه، نحو زيد أقبل وأدبر، وأكل وشربا وقوله: {عَلَى حُبِّهِ} أي على حب المؤمن، فيكون مضافاً إلى الفاعل، وقيل: " على حب المال " ويكون مضافا إلى المفعول، ونبه بذلك أنه يبذله مع فرط الحاجة إليه نحو قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وسئل- عليه السلام- أي الصدقة أفضل؟
فقال: " أنْ تتصدقَ وأنت صحيح شحيحٌ تأمل العيش وتخشى الفقر "، وقيل تقديره: على حب الإيثار، وذلك أن المحمدة التامة لم تهتز لإعطاء المال وتحب ذلك كما قال الشاعر:
ليسَ يُعطيكَ للرجاءِ والخَوْ ....
فِ وِلكنِ يلدُّ طَعْمَ الْعَطَاءِ
وقيل: على حب الله أي يقصد به القربة لا طلب رياء ولا ثواب كما قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}

(1/377)


إن قيل: لم قال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ} ولم يقل: ووفى كما قال: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ليكون الكلام على نسق واحد؟
قيل: ذلك لأمرين: أحدهما اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول فيقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلا منهما، فالحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجود، ولما ذكر الوفاء بالعهد وهو مما يقتضي العقول المجردة، صار عطفه على الأول أحسن.
إن قيل: ولم نصب الصابرين؟ قيل: قل ذكر النحويون أن الصفات للمدح والذم إذا توالت قد يخالف بين إعرابها، وأنشدوا في ذلك:
النَّازِلين بكُلَّ معتْركٍ ...
والطَّيبوُنَ مَعَاقِد الأزَر
إلي أبيات أخر.
وفائدة ذلك أنهم إذا أرادوا أن كل واحد من تلك الأوصاف يستقبل بمدح أو ذم عظيم لو تجرد عما معه خالفوا بين إعرابها تنبيهاً على هذا المعنى، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل [ومن وجه جامعاً للفضائل] إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ ولم يتم حسنها إلا به حتى روي:
" الصبْرُ خيرٌ كُلَّهُ "، قوله: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) عن إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد، واستوعب بقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} أنواع الصبر، لأنه إما

(1/378)


أن يحتاج إليه في مقتنى يموت الإنسان، أو يريده فلا يناله، وهو البأساء أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم وهو الضراء، أو في مدافعة مؤذيه له وهو اليأس.
إن قيل: كيف قدم ههنا ذكر الآخرة وأخره في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ}؟
قيل: يجوز أن يكون ذاك مع الواو لا يقتضي الترتيب من أجل أن الكافر لا يعرف الأخرة ولا يعني بها وهو أبعد الأشياء عن الحقائق عنده أخر ذكره، في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ}.
ولما ذكر حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة وكل ما يفعله ويتحراه يقصد به وجه الله ثم أمر وللآخرة قدم ذكرها تنبيها أن مراعاة الله- عز وجل- ومراعاة الآخرة، ثم مراعاة غيرهما
إن قيل: كيف اختير الترتيب المذكور في قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قيل: لما كان أولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه، ولهذا قال عليه السلام: " لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج "، كأن تقديمها أولى، ثم أعقبه باليتامى، فالناس في المكاسب ثلاثة:
معيل وغير معول، ومعول معيل ومعول غير معيل، واليتيم معول غير معيل، فمواساته بعد الأقارب أولى، ثم ذكر المساكين، وهم الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الدين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم عليه.

(1/379)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

قوله - عز وجل -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

الآية (178) - سورة البقرة.
القص: قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ، ومنه قص شعره وقص أثره، وقص الحديث اقتطع كلاماً حادثاً حذف غيره، والقصة اسم منه، وحقيقة القصاص أن يفعل بالقاتل، والجارح مثل ما فعلاً واعتبر الشافعي ومالك صورة الفعل حتى إن من رضخ رأس غيره بالحجر كان القصاص مثله، لكن مالكاً يقول إنه يفعل به ذلك الفعل حتى يموت والشافعي يقوله: " إن لم يمت من مثل فعله قتل بالسيف "، ومن الفقهاء يعتبر المماثلة في القاتل والمقتول، فلا يقتل القاتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والاختلاف أنه يعتبر في بعضهم كالمستأمن والكتابة يعتبر بها عن الإيجاب، وأصل ذلك أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب فيعبر عن المراد الذي هو المبدوء بالكتابة التي هي المنتهى إن قيل على من يتوجه هذا الوجوب؟.
قيل: على الناس كافة، فمنهم من يلزمه استيفاؤه وهو الإمام إدا طلبه الولي، ومنهم من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل، ومنهم من يلزمه المعاونة أو الرضا به، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى، بل يقتص أو يأخذ الدية، والقصد بالآية منع التعدي، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدون في القتل، وربما يرضى أحدهم إذا قتل عبد غيره لا يقتل حر ..

(1/380)


وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ...
من القاتل، وأخوة ولي المقتول، ومعناه: من ترك له أخوه الذي هو ولى الدم شيئا من القصاص فليتبع في المطالبة بالدية المعروف، وليؤد إليه القاتل بإحسان ..
إن قيل.
لم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولم يقل: " فمن عفا له أخوه شيئا "؟.
قيل: العدول إلى هذا البناء للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم واحداً، فعفا أو جماعة فعفا واحد منهم أنه يبطل حق القصاص ويعدل حينئذ إلى الدية، فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} ليدل على هذا المعنى، وقيل: فاتباع: هو أمر للعافي بحسن المطالبة والهاء في قوله: أخيه، يجوز أن يكون للمقتول، ويكون لولي المقتول وجعله أخاً لولي الدم لا للنسبة ولا للموالاة الدينية، ولكن للإحسان الذي أسداه إليه وأجرى العهد مجرى الخطأ في الرضا منه بالدية، وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ} أي خفف عنكم إذ جعل لكم الخيار في الحكمين، وقال بعضهم لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى} أي من تجاوز المشروع قاتلاً كان أو ولي المقتول فإنه معاقب ..
قوله - عز وجل -:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

الآية (179) - سورة البقرة.
قوله: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} كقول العرب: القتل أنقى للقتل، وذلك أنه يصير سبباً للارتداع، وقال الجاحظ: تأويله أن العرب كانت تمتنع من تسليم القاتل إلى ولي المقتول خشية أن يقل عددهم، فقال الله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي إذا دفعتموه كثر عددكم، كما لأن الله تعالى ينمي كل قوم كثز فيهم القتل، ولهذا كثرت العلوية وقل العباسية، ولهذا قيل: السيف منماه فما تسلط على قبيلة إلا كثر عددهم، وقيل إن في ذلك حياة القاتل في الآخرة فإنه يرجى له الغفران، قال: وعلى هذا ما روي أن

(1/381)


كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

الحدود كفارات لأهلها، وذلك بشرط أن يكون توبة، فالتوبة حق الله، والقصاص حق الآدمي، فإذا تاب واقتص منه فقد خرج من الذنوب ويرجى له الغفران، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} على التفسير الأول أي لعلكم ترتدعون عن القتل، وعلى الثاني: لعلكم لا تتحاشون من ترك القاتل والانقياد للقصاص.
قوله- عز وجل:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}

الآية (180) - سورة البقرة.
الخير ههنا المال قليلاً كان أو كثيراً، وقال بعض الناس: الخير لا يتناول إلا الكثير مستدلاً بأن علياَ- رضي الله عنه دخل على مولى له في موضعه، فقال: ألا أوصي وله سبع مائة أو ستمائة، فقال: لا، إنما قال- عز وجل (إن ترك خيرأ (، وليس لك مال كثيرٌ ...
إن قيل: كيف سمي المال خيراً مطلقاً وقد قليل إن المال ليس خيراً مطلقاً حتى يراعي حال صاحبه فربما كان شراً له، وعلى هذا ذم الله تعالى في عام القرآن، وسماه تارة فتنة وتارة عدواً ..
فيل: إن المال كما يكون خيرا قد يكون شراً، لكن جعل الله تعالى ههنا خيراً تنبيهاً على أن الوصية يستحب في المال الطيب دون الخبيث والمغصوب، فإن ذلك يجب رده إلي أربابه ومما تم بالوصية فقط، وقيل: هذه الآية منسوخة، فالإيجاب نسخ مما حمله، والوصية للوارث إيجاباً وندباً، والناسخ لها عند الشافعية أية الميراث.

(1/382)


فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

وعند بعضهم قول النبي عليه الصلاة والسلام: " لا وصية لوارث "، وقال بعض الناس: لا نسخ فيها، لأن معنى كتب ;كقوله: أريد وشرع، وما يراد ويشرع قد يكون ندباً وإيجاباً، وقوله: الوصية للوالدين والأمر بين وإنما اقتضى عموماً فإنه مخصوص بقوله- عليه السلام- " لا وصية لوارث " فصار ذلك للوالدين الكافرين أو المملوكين والأقارب الذين ليسوا بورثة، وتخصيص الآية في " هو " لا كتخصيصها فيما فوق الثلث والثلث كثير، وقال طاوس: " إن أوصي لغير ذي قرابة لا يجوز احتجاجا، وظاهر الآية لا يقتضي ذلك ...
قوله - عز وجل -:
{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

الآية (181) - سورة البقرة.
أريد من بدل ذلك ولم يقل بدلها، وإن ما تقدم ذكر الوصية لكن يتناولها وغيرها من متعلقاتها، والهاء في " إثمه " للتبديل ومن: عام في الوصي والموصي له، والشاهد والحاكم وكل من له مدخل في ذلك إذا غير شيئاً بعدما سمعه أي علمه، فإن إثم ما يجري في ذلك راجع إليه تنبيهاً على ما قاله - عليه السلام: (من سنَّ سُنةَ سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها)
وأعظم ذلك مالا يعرف المستن جود السان لها، كمن ادعي على صاحب الشرع خبرا يتعلق به

(1/383)


فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

حكم، فيعتمد عليه الناس بعده، وإنما قال: {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} ولم يقل عليه، ليبين أن إثمه للتبديل لا لغيره، ونبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أن ذلك وإن خفي على الناس، فلن يخفى عليه تعالى، فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قوله - عز وجل -:
{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

الآية (182) سورة البقرة.
جنف وخيف يتقاربان، لكن جنف استعمل للميل إلى الخير، وخيف في اليد إلى الجور، وخاف يقاربه، إلا أن أكثر ما يقال في الحاكم وخيفه أن يوصي لإنسان والمراد لغيره، كما قال طاوس: الخيف: التولج نحو أن يوصي الرجل لابن الابن ليوصل المال إلى أبيه أو لزوج ابنته ليوصله إليها، أو يخص في حيث يجب العموم، أو يعم حيث يجب الخصوص، وقوله: {بَيْنَهُمْ} أي بين القوم الذين لهم مدخل في ذلك من الورثة والموصى لهم، وجاز إضمارهم لدلالة الكلام على ذكرهم.
إن قيل: كيف قال: {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} والجنف هو الإثم؟ قيل: قد قال الربيع: الجنف في الخطأ، وإلا ثم في العمد، وقيل: الإثم: ما يكبر معصيته، والجنف ما دون ذلك، وخوفه هو أن يبدو له أمارة تقتضي حصول ذلك، ولا فرق بين أن يخاف منه ذلك، قبل موت الموصى فيرشده، أو بعد موته فيصلحه، وليس الإصلاح بمقصور على إيقاع الصلح دون استعمال الصلاح، بل يتناولهما، وإنما قال: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لأنه لما خوف في الآية الأولى من تغيير الوصية بين أن النهي عن تغييره فيما لا

(1/384)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

جنف فيه ولا إثم [على صاحبه]، فأما إذا كان فيه شي من ذلك فلا إثم [في تغييره]، وبين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أنه يتجاوز عما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجده.
قوله- عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

الآية (183) - سورة البقرة.
الصوم في اللغة إمساك عما تنازع إليه النفس، ويقال ذلك في الطعام والشراب والنكاح نحو: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا}، في نحو:
[خيل صيام، وأخرى غير صائمة]
وصامت الريح إدا ركدت، والشمس إذا استوت في منتصف النهار كان لها وقفة، وفى الشرع إمساك المكلف بنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن المأكل والمشرب والمنكح والأستقاء والاستمناء والسعوط، وأما الأكل على سبيل السهو لا يخرجه عن أن يكون ممسكاً حكماً، ثم النية هل يجب أن يتقدم أو يجوز الاقتران به راجع إلى اختلاف المذاهب؟ واعلم أن الإمساك عن الأطيبين هو المقصود بالصوم وما عداه فلأنه يشبهه أو يؤدي إليه ...
وللصوم فائدتان:
إحداهما: قريبة، وهي أن يروض الإنسان به نفسه عما تدعوه إليه من الشهوات القبيحة، فإنه يعودها الصبر لكنها كما وصفها بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، ومتى جعلت في حجر الشرع

(1/385)


فعودت الانقلاع
فالنفس راغبة إذا رغبتها ....
وإذا ترد إلى قليل تقنع
ولكونه مفيدا للصبر، قال عليه السلام:: " هذا شهر الصبر "
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} أي بالصوم.
والفائدة الثانية:
وهي أن فيه الاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع والتنزه عن مشاكلة البهائم التي غاية شبع البطن والفرج، ووجه ذلك أن الإنسان مركب من بدن يسوسه سوسن الحيوان وغذاؤه المطاعم، ومن روح ذي عقل غذاؤه العلم والفضائل، ومتى أكثر غداء أحدهما قوي على ما نقص غذاؤه، ولهذا قال عليه السلام: " رأس الدين الورع، وأفضل الورع قلة الطعام، ومن شبع ونام جثم على قلبه الشيطان " وقيل: " الجوع سحاب تمطر الحكمة "،
فإن قيل: فهلا أديمَ فرضُ الصوم إذا كان سبباً

(1/386)


لهذه الفضيلة العظيمة (قيل: إن الله- عز وجل- ما خلق في الأرض وشهاه إلينا ليحرمناه، ولكن لينتفع به بقدر ما يحسن، وفي وقت ما يحسن، وألزمنا في بعض الأوقات التحرج عنه ليكون مدعاة إلى التعفف عن تناول مالا يجوز تناوله، وجعل الله تعالى فرضه على الأهلة ليتأدب الإنسان به في كل وقت من أوقات السنة صيفا وشتاء وربيعين ...
إن قيل: على ماذا وقع التشبيه في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قيل: قال بعضهم: إن ذلك على الصوم وكيفيته، لأن صوم من قبلنا لم يكن يحل لهم ألاكل بعد الرقاد، وكان على هذا في بدء الإسلام إلى أن نسخ بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وإلى هذا ذهب معاذ، وهو المروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- وقيل: كصوم من فبلنا في كونه أياما معدودات، وذلك في كل شهر ثلاثة أيام، ثم نسخ بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وهو قول عطاء وقتادة، وردي عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أن للصيام ثلاثة أحوال، وذلك أن النبي- عليه السلام- لما قدم المدينة، فكان يصوم في كل شهر ثلاثة أيام، ويصوم عاشوراء، ثم فرض بعد تسعة عشر شهراَ شهر رمضان على التخيير، ثم فرضه على تضييق لمن كان مقيما صحيحاً، وقيل:
قد كان أوجب شهر رمضان على من كان قبلنا [من الأمم] فغيروا، ونقصوا، وزادوا، وهذا قول عهدته علي قائله، وقيل.
الشبه وقع لوجوب الصوم فقط، وقد تقدم أن أصول هذه العبادات لم تزل واجبة على العباد وأن النسخ على ألسنة الأنبياء في فروعها وكيفياتها وقدرها [وأزمانها]، ونبه بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} على العلة التي لأجلها أوجب، وهي قمع الشهوة، وما لأجلها لا يجوز أن يكون الصوم مرفوعاً على أمة من الأمم، فإنه ذكر أنه سبب للتقوى، وتقوى الله عز وجل- واجبة

(1/387)


أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

على كل مكلف عدى كل حال وفي كل زمان، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}
قوله - عز وجل -:
{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

الآية (184) - سورة البقرة.
السفر: كشف الغطاء، يقال: سفر القناع عن وجهه، والريح السحاب أو الورق، ويقال له السفير، ومنه المسفرة، وسافر، والسفر الكتاب الكاشف عن الأغراض، والسفار للبعير كالحكمة للفرس، وهو ما يسفر عنه جماحه، تطوع يفعل من الطاعة، يقال، طاع وطوع، ومنه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} والقدرة والاستطاعة والجهد والطاعة تتقارب، وبينها فروق، فالقدرة ما يظهر من القوة بقدر العمل لا زائداً عليه ولا ناقصاً، والاستطاعة منهما ما يصير به الفعل طائعاَ له بسهولة، والوسع منها ما يسع له فعله بلا مشقة، والجهد ما يتعاطى به الفعل بمشقة، والطاقة منها بلوغ غاية المشقة.
وقول الشاعر:
كلُّ امرئٍ عنْ طوقِهِ
أي عن غاية قدرته، لأن المقاتل لا يدع غاية من القدرة لا يبذلها قبل استسلامه للموت، وقوله: {أَيَّامًا} يتعلق بـ كتب عليكم " أو بـ " كما كتب "، أو بالصيام، وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ظاهره يقتضي أن المريض والمسافر عليهما عدة من أيام أفطر أو لم يفطر، وإليه ذهب أهل الظاهر.

(1/388)


وعند عامة الفقهاء على إضمار الإفطار بدلالة إضماره في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه}، وبدلالة الأخبار المروية في ذلك، ويقتضي أيضاً أن السفر القليل والكثير سواء، وعند عامتهم يعتبر فيه قدر ما، فبعضهم حدده بمسيرة ثلاثة أيام، وبعض بمسيرة يومين، وبعض بمسيرة يوم، ولا خلاف في أن ن خرج إلى نزهة ببستانه في ظاهر بلده لا يفطر، ويقتضي ظاهره أيضاً أن لا فرق بين أن يكون سفره لطاعة أو معصية، ولم يجوز الشافعي إلا في طاعة ويقتضي قوله {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} أن لا فرق ين أن يقضيها متتابعة أو غير متتابعة، وقد حكى وجوب التتابع عن علي وابن مسعود- رضي الله عنهما-
وقوله: {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} عاد إلاً في عيد الفطر والأضحى والثلاثة أيام التي بعدها وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ظاهره يقتضي أن المطيق له يلزمه فدية أفطر أو لم يفطر، لكن أجمعوا أنه لا يلزمه إلا مع شرط آخر فذهب الأصم إلا أن ذلك للمريض والمسافر وأن الذي يطيق الفدية منهما فأفطر، فعليه الفدية لمكان ما خفف عنه، كما جعل على المتمتع بما خفف عنه أن يهدي، وهذا ضعيف لأمرين، أحدهما: أنه لم يجر الفدية قبل ذكر ولا ما دل عليه، والثاني: أن المريض والمسافر قد أوجب عليهما عدة من أيام أخر، وذهب الشعبي وهو المروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- إلى أن الناس كانوا مخيرين في الابتداء بين أن يصوموا من غير فدية [وأن يفطروا ويقيدوا، ثم نسخ بالآية التي بعد، وتقديره: وعلى الذين يطيقونه فأفطروا إلى] وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في أصح الروايتين أن ذلك في الشيخ والشيخة الهمين والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، فلفظ (الطاقة) ههنا ينبيء عن ذلك، فإن الطاقة هدي التي تبلغ غاية المشقة ولا يخرج عن القدرة والعجز، ورأه، فذكر أن هؤلاء الذين يبلغ بهم الصوم غاية المشقة يجوز لهم الإفطار والفدية وقرئ

(1/389)


(يُطَوقونه) أي يتكلفونه بجهد، وقرئ) يطؤقونه) أي يحملون على أن يتطوقوا، وقرئ (مسكين) اعتباراً بكل واحد كقوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، وإنما يلزم كل واحد هذا القدر، (ومساكين) اعتباراً بجماعتهم، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فقد قيل: مبني على ما تقدم، أي الصوم خير من الإفطار والكفارة، ون قال: (الذين يطيقون) للمسافرين والمرضى وقال هذا خطاب لهم، وكذا من قال: الشيخ الهم، ويجوز أن لا يكون خيرا فعل، وإنما المعنى: الخير في الصوم تنبيهاً على عظيم ثوابه، وذاك أن المراد من العبادة والإخلاص والنية، ولهذا قال عليه السلام: " أخلص تكفك القليل من الغقل "، ولما كانت الأفعال البدنية كثيراً ما يدخلها الرياء إلا الصوم فإنه لا يوقف عليه ما لم يخبر الإنسان عنه بلسانه، ولا عبادة يدخل فيها الإنسان بالنية المجردة إلاً الصوم ...
قال عليه السلام: " يقول الله- عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به "، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن عرفتم ما فيه من المنفعة، وتحققتم ما يثمره لكم لم تتهاونوا في تحمله.

(1/390)


شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

قوله - عز وجل -:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

الآية (185) - سورة البقرة.
شهرة الشيء: ظهوره للكافة، وقل شهر أمره وسيفه إذا جرده والشهر مدة مشهورة والمشاهرة المعاملة به كالمعاومة والمياومة [والمسانهة] والرمض شدة وقع الشمس، وسمي رمضان لمطابقته في ابتداء موضوع الاسم له شدة الحر، لأن الشهور سميت [في الأصل] بمطابقة بعض ما عرض فيها من الأحوال في ابتداء موضوعها والإرادة أصلها من: رادَ يرُودُ إذا سعَى في مهل للطلب، ومنه الرايد، والمرود للميل، ولمعنى المهل قيل رويداً، وقد تقدم حقيقة الإرادة، والقرآن أصله من القرى، وهو ضم ما كان متفرقاً، ومنه: " ما قرأت الناقة سلاقط "، أي ما لم تضمه إلى نفسها ولم تجمعه في رحمها، ولا يتناول إلا على المنزل على محمد- عليه السلام- والكتاب عام، والفرقان قيل إنه يتناول القرآن والتوراة-
إن قيل: فلم سمي بذلك؟

(1/391)


قيل: إما بالنظر الحلال، فلأنه جامع للسور والأيام، وإما على نظر أدق من ذلك، فلأنه جمع فيه كل شيء محتاج إليه الناس من أمر معاشهم ومعادهم مما يتبلغون به إلى الأخره، ولهذا قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، وقال: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}، والعسر صعوبة الشيء وعسره وعسيرآ، وعسر عمل شماله وذلك إما تصور الصعوبة ما تتعاطى بها وإما لاعتقاد العسر فيها بسواها، واليسر ضده، واليسير للضار بين على الحرور بالقداح لليسارهم، وقوله:
(شهر رمضان) مبتدأ، وخبره الذي، ومن لم يجعل الأول منسوخاً قال: تقديره: " هو شهر رمضان " أو يكون بدلاً من الصيام، وقوله: هدىً، أي هادياً، وقال عطية بن الأسود ولابن عباس: " في نفسي شي، وهو أنه قال: (شهر رمضان) وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وقد أنزل الله- عز وجل- القرآن في جميع الشهور، فقال: الليلة المباركة ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان، وقد أنزل الله القرآن جملة إلى البيت المعمور، ثم أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - الله رسلاً، وعلي هذا قوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}.
وقيل فيه: أي في سببه وتخصيصه بذلك وإن شاركه فيه غيره فعلى سبيل التعظيم، وعلى هذا " في ليلة القدر "، أي في سببه وتفصيله، وإليه ذهب الضحاك ...
إن قيل:
إذا كان الهدى مقتضياً للبينات، فما فائدة (وبيناتٍ من الهُدَى)؟ قيل: القرآن يهدي على

(1/392)


ضربين، أحدهما أن يدل على سبيل المجمل، والثاني: على سبيل التفصيل، فبين أن فيه هدى على الجملة، وبينات أي ما يوضح ويكشف على سبيل التفصيل، ففرق بين الحق والباطل، فصار ذكر البينات والفرقان بعد الهدى ذكر الخاص بعد العام، وجواب أخر، وهو أنه قد تقدم أن الهدى على ضربين هداية إلى سبيل الله المعنية بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، وهداية إلى الله المعنية بقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}، فالإشارة بقوله: (هدى) إلى الأولى، وبقوله: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} إلى الثانية والفرقان مصدر في الأصل [كالغفران والكفران] وسمي به القرآن لكونه فارقاً بين الحق والباطل في الاعتقاد والصدق والكذب في المقال، والجميل والقبيح في الأفعال، وقوله: (فمن شهد) عام في كل مكلف حاضراً كان أو مسافرا، لكن أخرج منه المسافر والمريض، ولم يدخل فيه الحائض لدلالة الإجماع عليه فمنهم من اعتبر الشهود في ابتدائه، فقال: " من شهدهُ وهو مقيمٌ فعليه صومهُ سافر أو لم يسافر " وإليه ذهب أمير المؤمنين علي- رضي الله عنه-، ومنهم من اعتبر ذلك في أجزائه، وإليه ذهب عامة الفقهاء، وقال أبو حنيفة: - رحمه الله: " من كان صحيح العقل في بعض رمضان، فعليه صوم كله، لأنه شهد الشهر "، وعند الشافعي أن كل يوم لم يكن فيه صحيح العقل لا يلزمه صومه، ولا خلاف أن الصبي إذا بلغ في أثناء الشهر لم يلزمه قضاء ما تقدم من الشهر.
إن قيل: لم أعاد ذكر الشهر، ولم يقل: " فمن شهده "؟
قيل: لأمرين: أحدهما: تعظيماً لذكره، لأن ما يعظم فد يعاد ذكره مع كل حكم يحدد له.
والثاني: ليس يحل الصوم على من كان شهد الشهر الذي أنزل فيه القرآن فقط، فلذلك أعاد ذكره ...

(1/393)


إن قيل:
فلم قال: (فليصمه) ولم يقل فيصم فيه؟
قيل: قد ذكر بعض النحويين أن القائل إدا قال اليوم ضربته زيداً، إنما يقال إذا استوعب اليوم لضربه، وإذا قيل: ضربت فيه، فهو أن يضرب فيه في بعض أوقاته، فنبه بقوله: (فليصمه) على الاستيعاب.
إن قيل: لم أعيد ذكر المريض والمسافر؟
قيل: إما على قول من يجعل اللحية منسوخة فليس أن حكمها مراعى في الناسخ كما هو مراعى في المنسوخ، وإن ذلك لم يرتفع بارتفاع التخيير، وأما على قول غيره فللتأكيد أولاً ولتعليق ما علق به من الحكم ثانياً، وهو قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وذكر الفقهاء أن إرادة اليسر هي مما رخص للمسافر والمريض، وذهب غيرهم إلى أن إرادة الله عز وجل اليسر لمن أوجب عليه الصوم عليهم كما هي للمفطر والصائم جميعاً، ففي الصوم أعظم اليسرين، وعلى هذا قال الأعرابي: " أقصد البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك "، فقيل له: أفي هذا الحر؟
فقال: " من الحرَّ أفرُّ "
وقيل لآخر: أتكدُّ نفسك في العبادة، فقال: " راحتها أريد، فإذن في إيجاب " الله تعالى الصوم
أعظم اليسرين. . . إن قيل: عدى أي وجه تعليله بما علل به من قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}؟
قيل: بين تعالى.
أن ما أوجبه من الصوم عيناً وقضاء إرادة لتكميل العدة المقتضية للتقوى المذكورة في قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ولم يرد به التفوه بلفظ التكبير فقط،

(1/394)


وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

بل أراد معرفة كبريائه وعظمته وإن كان فيه دلالة أن التكبير مستحب ..
إن قيل: لم قال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فأخدل الواو فيه؟ قيل:.
يجوز أن تتعلق اللام بفعل مضمر،
كأنه قيل: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أمر بما أمر، ويجوز أن يكون معطوفأ على قوله: {الْيُسْرَ}، كأنه قيل: (يريد بكم اليسر وتكميل العدة)، فادخل فيه اللام كما أدخل في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ}.
قوله - عز وجل -:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}

الآية (186) - سورة البقرة.
إن قيل.
كيف فصل بين الآية الأولى وبين التي بعد هذه وهما في حكم رمضان بهذه الآي وهي قد اختلفت عنهما؟، قيل بل هي من تمام الآية الأولى، لأنه لما حث على تكبيره وشكره على ما قيضه لهم من إتمام الصوم، بين أن الذين تذكرونه وتشكرونه قريب منكم ومجيب لكم إذا دعوتموه، ثم تمم ما بقي من أحكام الصوم، ولم يرد بالقرب ههنا القرب المكاني، وإنما ذلك قربة تقتضيه إفضاله ووجود آثاره المشار إليها بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، وروي أن موسى قال: " أقريب " أنت فأنا جيك؟ أم بعيد فأناديك؟ فقال:
" لو حددت لك البعد لما انتهيت إليه، ولو حددت لك القرب لما اقتدرت عليه، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك، فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية فبين، تعالى أفضاله على عباده، وضمن أنهم

(1/395)


إذا دعوه أجابهم، وعليه نبه بقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
إن قيل: قد ضمن في الآيتين أن من يدعوه يجيبه، وكم رأينا من داع له لا يجاب؟، قيل: إنه ضمن الإجابة لعباده، ولم يرد بالعباد من ذكرهم بقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}، وإنما عني بهم الموصوفين ...
في قوله- عز وجل- {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية، وقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} لآية، ولدعائهم شرائط، وهي أن تدعو بأحسن الأسماء كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، ويخلص له النية الافتقار ولا يرغب إليه فيما تنزه الأكابر عن مسئلة مثله ولا ما يستعين به على معاداته، وأن يعلم أن نعمته فيما يمنعه من دنياه كنعمته فيما أعطاه، ومعلوم أن من هذا حاله مجاب الدعوة، وأنه من جملة من وصفه النبي عليه السلام بقوله:
" رب ذي طِمْرينِ لا يؤْبهُ به لوْ أقسَمَ علَى الله لأبَّرهُ " ثم قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} أي إذا كنت لهم بهذه المنزلة فحري أن يستجيبوا لي إدا دعوتهما وأن يؤمنوا بي - راجين رشدهم، وإنما قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} ولم يقل ليجيبوا للطيفة، وهي أن حقيقة الاستجابة طلب الإجابة وإن كان قد يستعمل في معنى الإجابة، فبين أن العباد متى تحروا إجابته بقدر وسعهم فإنه يرضى عنهم ...
إن قيل: كيف جمع بين الاستجابة والإيمان وأحدهما يغني عن الأخر؟

(1/396)


أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

فإنه لا يكون مستجباً لله -عز وجل- من لا يكون مؤمناً، ولا مؤمنا من لا يكون مستجيباً، قيل أحدهما وإن يضمن الآخر من حيث الاعتبار، فذكرها ليطمئن، فإن إجابته ارتسام أوامره ونواهيه التي يتولاه الجوارح، والإيمان هو الاعتقاد الذي تقتضيه القلوب، وأيضاً فإن الإيمان المعني هاهنا هو الإيمان الذكور في قوله:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
وذلك بعد الإجابة، وقد تقدمت منازلُ الإيمان.
قوله- عز وجل:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}

الآية (187) - سورة البقرة.
الرفث كل كلام يتضمن ذكر الجماع، وجعل كناية عنه، وعُدَّي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء والخيانة بنقض العهد، ولهذا قوبل بالوفاء الدال على التمام، والحد ما يمنع أحد الشيئين من الآخر، فتارة يتصور منه المنع، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ}، وقيل للثواب حداد، وتارة تصور منه الفصل فقيل: حد الدار، وجه شبه الحد في الكلام، وقيل: حد الرأي لكونه مانعاً له ولغيره عن بواقعة مثله، وحد السيف ما يفصل بينه وبين الجانب الأخر، ثم تصور منه الدقة، فقيل: أحددت السيف، وسمي الحديد لكثرة وجود هذه الصورة فيه، والعكوف: الإقامة على الشيء والحبس عليه، فتارة يراعي منه الإقامة فلا يعدي نحو: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، وتارة يراعى منه الحبس

(1/397)


والوقف، فيعدي نحو قوله: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا}، وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} جعل اللباس كناية عن الزوج، لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء، كما أن اللباس يمنع أن تبدو السوءة، وعلى ذلك جعلت المرأة إزاراً، وسمي النكاح حصنا، لكونه حصيناً لذويه عن تعاطي القبيح.
وقال الأصم:
معنى قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} أي كأن يعطي كل واحد على الآخر ما يتعاطاه من الاختيارمن قولهم: لبست عليه ذيلي، وقيل: سبب نزول هذه الآية أن المباحات كانت تحظر على الصائم بعد الرقاد، فقيل: إن عمر قالت له امرأته لما راودها: قد أعفيت، فظن أنها اعتلت عليه، فواقعها، فذكر ذلك للنبي- عليه السلام- وقيل: كان شيخ من الأنصار يقال له " صرمة " قعد ينتظر امرأته لتصنع له طعاماً، فنام وترك الطعام، فرآه النبي- علية السلام- في اليوم الثاني شاحباً، فسأله، فأخبره، فأنزل الله تعالى هذه الآية والاختيان مراودة الخيانة وتخصيصه من دون قوله: (تخونون) لفائدة، وهي أن

(1/398)


المخاطبين لم يكونوا كلهم خانوا وكلهم أوجلُّهم قد اختانوا، لأن الاختيان هو أن تتحرك الشهوة وتدعوه، ولذلك خص لفظ النفس المعنية بقوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، وكفى للتنبيه على اختيان النفس شهادة من حلفها بذلك علماً بقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، فاختيان النفس مخادعتها ومدافعتها إما بمساعدة أو بمخالفة وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ} إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة، وهي أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله لنا سعلى حسب ما يقتضيه العقل والديانة، فمتى تحرى به حفظ النسل وحصن النفس على الوجه المشروع، فقد ابتغى ما كتب الله له، وإلى هذا أشار من قال:
عنى الولد به الخيط الأبيض بياض النهار، وبالخيط الأسود سواد الليل، وروي أن عدي بن حاتم عمد إلى عقالين أبيض وأسود، ثم جعل ينظر إليهما ويأكل إلا أن يتبين أحديهما ن الأخر، فأخبر النبي- عليه السلام- بالذي صنع، فقال: إنك لعريض الوساد، إنما ذاك سواد الليل بياض النهار وقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} تنبيه على ابتداء التحريم إلى انتهائه، وكما نهى عن المباشرة في حال الصوم نهي عنها في حال الاعتكاف وظاهر ذكر المساجد يقتضي جوار الاعتكاف في كل مسجد ...

(1/399)


وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

قوله - عز وجل -:
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

الآية (188) - سورة البقرة.
الإدلاء: إرسال الدلو في البئر، واستعير للتوصل إلى الشيء، وعلى هذا قول الشاعر:
فليس الرزق عن طلب حثيث ....
ولكن ألق دلوك في الدلاء
وعلى هذا النحو سمي الوسيلة المانحة في قول الشاعر:
وَلي مانحٌ لمْ يُورِدِ الماءَ قَبْله ...
معلَّ وأشطانُ الطَّوِيَّ كَثيرٌُ
والأكل عبارة عن الإنفاق، إذ هو أهم ما يصرف إليه المال، وأكل المال بالباطل صرفه إلى ما ينافيه الحق، وهو التبذير والإسراف قليلاً كان الإنفاق أو كثيراً، ولهذا قيل:
(رب إنفاق قليل هو إسراف، وكثير هو اقتصاد) ...
، وقوله: (وتدلوا) أي لا تدلوا، وكما نهي عن تبذير الأموال نهى أن يدلي بها إلى الحكام على سبيل الرشوة، وتوصلاً إلى اقتطاع أموال الناس، وقيل: معناه: لا يأكل بعضكم مال بعض غصباً أو خيانة فيلجؤوهم إلى المرافعة إلى الحكام، فلا يحكم عليكم لعدم البينة فتستبينوا إلى أن تأكلوا فريقاً ن أموال الناس بالإثم، وقيل: من يتولى أموال

(1/400)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

الأيتام، فيأكل بعضا ويدفع إلى الحكام بعضا، والوجه الأول أجود، لأنه قال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ثم قال: لتأكلوا ففصل بين الأمرين، والوجهان الآخران داخلون في عمومه وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن أخفى علمكم على الناس، فإنه لا يخفى عليكم تنبيها أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه وما علمتم منه لا بما يظهر، ونبه - عليه السلام - على ذلك بقوله:
(إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن حكمت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذن منه قليلاً ولا كثيراً، فإنما أقطع له قطعة من النار) وقال: (البر ما اطمأنت إليه النفس).
قوله - عز جل:

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية (189) - سورة البقرة.
المواقيت: جمع ميقات وهو مفعال من الوقت، والوقت والمدة والزمان تتقارب لكن المدة المطلقة أوسع هذه الألفاظ، فإنها امتداد حركة الفلك أي اتصالها من مبدئها إلى غايتها، والزمان مدة مقسومة من المدة المطلقة والوقت الزمان المفروض للعمل ومعنى مواقيت للناس أي لا يتعلق به من أمور معاملاتهم ومصالحهم، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ونبه بذكر الحج على ما يتعلق به من العبادات، ولكن ذكرنا

(1/401)


أعظمها أثرا فإن الحج مراعى في قضائه وأدائه الوقت المعلوم وبخلاف سائر العبادات التي لا تعتبر في قضائها وقت معين والباب معروف وعنه أستعير لمداخل الأسباب المتوصل بها إليه، وقيل: في العلم باب كذا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنا مدينة العلم وعلي بابها "، أي به يتواصل إلى حقائق العلوم وعلي وإن شاركه فيه غيره، فتخصيصه لكونه أرفع منزلة في باب العلم وقد كان سئل - عليه السلام - عن فائدة زيادة الهلال ونقصانه، فأنزل الله تعالى هذه الآية منبها على أظهر فائدته للحس وأبينها له، ثم قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، أي بأن يطلبوا من غير وجه، وذلك أنه يقال: " أتى فلان البيت من بابه " إذا طلب الشيء من وجهه.
وقال الشاعر:
أتيت المروءة من بابها ..

(1/402)


و " أتى البيت من ظهره " إذا طلب الأمر من غير وجهه وجعل ذلك مثلا لسؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عما هو ليس من العلم المختص بالنبوة، وأن ذلك عدول عن المنهج وذلك أن العلوم ضربان:
دنيوي: يتعلق بأمر المعاش كمعرفة الصنايع ومعرفة الأجرام السماوية ومعرفة المعادن والنبات وطبائع الحيوانات، وقد جعل الله تعالى لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان نبيه محمد - عليه السلام -، وشرعي: وهو البر، ولا سبيل إلى أخذه إلا من جهته وهو أحكام التقوى، فلما جاءوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أمكنهم معرفته من غير جهته أجابهم ثم بين لهم أن ليس البر ترك المنهج في سؤال النبي - عليه السلام - ما ليس هو مختصا بعلم نبوته ولكن البر هو تحري التقوى، وذلك يكون بالعلم والعمل المختصين بالدين وقال بعض المفسرين إتيان البيوت من ظهورها هو أن العرب من لم يكن من الخمس إذا أحرم لم يدخل البيت من بابه بل كان يأتيه من ظهوره، فأتى رجل من باب بيته، فأنكر عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية ..
وهذا عن ابن عباس وغيره وقيل: إتيان البيوت من ظهورها مخالفة الواجب في الحج وشهوره واستحلال أشهر الحرام وتحريم الحلال، المعنى بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وكل ذلك لا يمتنع أن تتناوله الآية لكن الأليق بأول الآية ما تقدم ذكره، وقوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} أي تحروا في كل عمل إتيان الشيء من وجهه تنبيها أن ما يطلب من غير وجهه صعب مناله، ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} حثا لنا أن نجعل تقوى الله عز وجل- شعارنا في كل ما نتحراه، فبين أن ذلك هو الذريعة إلى تحصيل الفلاح ..

(1/403)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

قوله - عز وجل:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}

الآية (190) - سورة البقرة.
اختلف في حكم هذه الآية، فقيل: هي ناسخة لحكم العفو ومنسوخة بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} وقيل: ليست بمنسوخة ولا ناسخة، وبيان ذلك أن من شرط الداعي إلى الحق أن يبينه ويدل عليه ويرفق، فإن اهتدى المدعو، وإلا أوعد، فإن أنجع ذلك وإلا عدل بعد إلى المحاسبة والمحاربة على ما تقتضيه السياسة، وعلى هذا قال بعضهم: " لا أستعمل سوطي ما كفاني لساني ولا سيفي ما كفاني سوطي ".
وقال الشاعر:
أناة فإن لم يغن أعقب بعدها ....
وعيدا فإن لم يغن أغنت عزائمه
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في أول الأمر بالرفق والأناة، وأن يقتصر على الوعظ والمجادلة الحسنة، كما قال تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وكان يستمر على ذلك حتى عاتبه بعض أصحابها فقال يا نبي الله:

(1/404)


وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

" كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة "، فقال عليه السلام: " أمرت بالعفو فلا تقاتلوهم اليوم "، فلما ظهرت آياته، وانتشرت بنياته، ورأى من أبى الإصغاء إلى الحق، واستمر على الضلال والإضلال أمر حينئذ بالمقاتلة أي المحاربة، ولهذا قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}
ثم أمر بالقتال لمن تأبى الرجوع إلى الحق بالمحاربة، وكان هذا أمرا بعد أمر حسب مقتضى السياسة الإلهية، وقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} منهم من تصور منه تولي القتال وتعاطيه في الحال، فقال: هو منسوخ بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، (ولا تعتدوا): نهي عام في مجاوزة كل حد حده الله تعالى، كالنهي عن قتل الصبيان والنساء وقيل: " من أعطي الأمان وتحرى القتال ابتغى عرض الدنيا وطلب الرئاسة "، ونبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أن اعتداء مرسوم الله وتجاوز حكمه في كل أمر مذموم ..
قوله- عز وجل:
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}

الآية (191) - سورة البقرة.
الثقف: الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملاً، ومنه قيل:
رجل ثقف لقف إذا كان له حذق في إدراك الشيء علماً كان أو عملا، ومنه قيل: رجل ثقف لقف إذا كان له خدمة في إدراك الشيء ومنه قيل: ثقفت الرمح، وأصل الفتنة إدخال الذهب النار للتصفية، يقال: فتنت الذهب أي اختبرته بالنار، ثم استعير لكل اختبار بأمر محض، على ذلك قوله تعالى:

(1/405)


{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}
وجعل الفتنة لكل أمر مكروه المحتمل، فتارة استعير للشرك، وتارة للعذاب، وتارة للاختبار، ولما كان لفظ الفتنة والقتل ههنا مبهمين، قال بعضهم: معناه أن يفتن الإنسان في دينه، فيشرك أشد أي أوخم عاقبة من أن يقتل، فإن الأذية التي تنال المقتول محدودة، والأذية التي تنال الشرك بشركه غير محدودة، وقال بعضهم: إن معناه: أن يوقع الإنسان الفتنة أشد على الناس أي أعظم ضرراً من أن يقتل في الحرم من يستحق القتل، وقال: وذلك رد على من استعظم قتل بعض المسلمين كافراً في الحرم، ولهذا قال بعده: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقوله {وَأَخْرِجُوهُمْ} أمر بإخراج الكفار من مكة بدلالة قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}، وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} وقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} استثناء من قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، وهذا حكم عند أكثر الفقهاء فإنه لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل، ويؤيد ذلك قوله - عليه السلام - يوم فتح مكة: " إن مكة حرام حرمها الله - عز وجل - يوم خلق السماوات والأرض وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراما إلي يوم القيامة "، فهذا يدل على أن ذلك غير منسوخ كما ظنه بعض الناس، وقال الأصم: إن ثبت جوازا القتل هذا في

(1/406)


فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

الحرم، فليس في ذلك نسخ، بل هو زيادة في فرض القتال، فإن هذا أمر بأن يقاتلوا في الحرم إذا قوتلوا، وذاك أمر بالقتل قوتلوا أو لم يقاتلوا، فإذن الثاني زيادة في الأمر بالقتال، ثم قال: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ}، أي حاربوكم فاقتلوهم، وبين أن هذا حكم كل كافر يحارب المؤمنين.
قوله - عز وجل:

{فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية (192) - سورة البقرة.
الانتهاء: الانزجار، والنهي الزجر، ونهاية الشيء غايته التي ينتهي إليها، لأن لكل شيء في هذا العالم غاية إذا انتهى إليها انصرف راجعاً عنها في الكون والفساد والنهي العقل لكونه ناهيا عن القبيح، ككون العقل عاقلاً عنه، والحجر حاجرا عنه، والنهي في موضوع أهل النحو من صيغة " لا تفعل " حثاً على الشيء كان أو زجرا عنه، وفي موضوع أهل البرهان ما يقتضي الزجر عن الشيء سواء كان بلفظ " أفعل " أو " لا تفعل "، وهذا الخلاف من أجل أن النحوي يعتبر اللفظ قبل المعنى، وصاحب البرهان يعتبر المعنى قبل اللفظ، ونبه بالآية أن المنتهي عن الذنب يغفر له ما تقدم من ذنبه، وذلك عام في أمور الدنيا والآخرة إلا ما دلت الدلالة على الأخذ به من حقوق الآدميين، وعلى هذا قوله - عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وقوله عليه السلام: " الإسلام يجب ما قبله " ..

(1/407)


الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قوله - عز وجل:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}

الآية (193) - سورة البقرة.
أمر تعالى بالقتال لدفع الفتنة بعد أن يبين أنها أعظم ضررا من القتل، نحو قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، فقوله: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} كقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}، وذلك إما بقتلهم أو بإسلامهم أو بانقيادهم وإعطاء الجزية حسب ما بينه الشرع، (ويكون الدين لله) قال ابن عباس: حتى يخلص التوحيد له " وحمل ذلك على مشركي العرب، لأنهم لا يقارون على جزية كما يقال غيرهم، وحمل بعضهم على الانقياد بحكم الدين في كل مكان، وقال: يجب أن يكون الحكم للإسلام في كل مكان، وعلى هذا ما روي: " الإسلام يعلو ولا يعلى "، ثم أعاد ذكر الانتهاء، فقال: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي لا يتجاوزون الخطر إلا مع من يتجاوزه بحسب فعله ..
قوله - عز وجل:

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} الآية (194) - سورة البقرة.
بين أن مراعاة حرمة الشهر واجبة لمن راعى حرمته، وأن من هتكها اقتص منه، وسبب نزول ذلك أن العرب فخرت بصرف النبي - عليه السلام - عام الحديبية عن البلد الحرام، وكان ذلك في ذي القعدة، فمكنه الله تعالى من دخوله في العام القابل في القعدة، وشرح معنى قوله: (لا عدوان إلا علي الظالمين) بقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا}.
إن قيل: كيف رخص في الاعتداء وهو ظلم وقد منع منه آنفا بقوله: (ولا تعتدوا)، قيل: الاعتداء مجاورة الحد، ومنه قيل: " عدا فلان طوره "، و " لا تعد طورك "، ثم استعير الاعتداء في الظلم من حيث

(1/408)


أنه تجاوز الحد الذي حده العقل أو الشرع، والذي منع تجاوز ذلك ابتداء، فقد أباح لمن اعتدى عليه جزاء، فإذن: الاعتداء ضربان: اعتداء على سبيل الابتداء، وهو ظلم، وإياه عنى بقوله ولا (تعتدوا) واعتداء على سبيل الاعتداء ضربان اعتداء على سبيل القصاص وهو عدل وإياه عني ههنا، ثم للمجازاة أيضا حد لا يحوز أن يتجاوزه، وإياه عنى بقوله: (فمن اعتدى بعد ذلك).
إن قيل: هل كان يجوز لو قيل: (من ظلمكم فاظلموهم)؟ قيل: لا يجوز ذلك، لأن الظلم إنما هو وضع الشيء في غير موضعه الذي يحق أن يوضع فيه، وهذا في كل حال مذموم، والاعتداء مجاوزة الحد المحدود، وذلك لا يكون مذموما، ومن قال من العرب: " من ظلمك فاظلمه "، فذلك منه انحراف وترخص في الظلم على عادتهم، وكذا قول من قال:
ألا لا يجهلن أحد علينا ...
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فإن الجهل مذموم على كل حال، ولا يكاد يرد لفظ الأمر به من حكيم،
فإن قيل: فقد قال الله: {ومكروا ومكر الله} قيل: حقيقة المكر إظهار أمر يعتقد فيه الناظر إليه الجاهل بحقيقته اعتقادا ما يضل ما هو، وكذلك الاحتيال والخديعة والسخرية ومن قصد بشيء من ذلك أمرا قبيحا، فهو مذموم وأن قصد به فعلاً جميلاً فهو محمود، فإذن يصح أن يمدح بذلك من يتحرى مقصدا حسنا، ولهذا قال بعض العلماء: إن الله - عز وجل - يخدعنا عن النار كما يخدع الصبي أبوه عن المضار، وفي هذه الآية دلالة أن من استهلك شيئا لغيره استهلك عليه مثله، لكن مثله المستهلك قد يكون تارة حسية مكيلا كان أو موزونا أو معدودا، وتارة قيمته، وقوله: {واعلموا أن الله مع المتقين}، تنبيه أن توفيق الله يصحب المتقي، وقد تقدم حقيقة (مع) والصحبة إذا استعملا في الباري تعالى ...

(1/409)


وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

قوله - عز وجل:
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

الآية (195) - سورة البقرة.
الهلاك انتهاء الشيء في الفساد، وله سمي الموت هلاكا، وقيل للعذاب والخوف في الفقر والبخل وما يجري مجراها مما يؤدي إلى الهلاك هلاكا، والمفازة مهلكة والتهلكة ما يؤدي إلى الهلاك، وامرأة هلوك كأنها تتهالك في مشيها إشارة إلى نحو قول الشاعر:
مريضات أدبات التهادي كأنما ....
تخاف على أحشائها أن تقطعا
[وكني بالهلوك عن الفاجرة لتماثلها] والهالكي كان رجلاً حدادا من قبيلة هالك فسعت العرب كل حداد باسمه كما سمي كل بناء هاجريا، وقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ}، قيل: معناه نحو تعلقت زيدا أو بزيد، وقيل معناه: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك، نحو قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وذلك بالتعرض لما يستوخم عاقبته جهلا به، مثل الفراشة تأتي إذا رأت لهبا من السراج، فتلقي نفسها فيه، وتأولت الآية على وجهين بنظرين مختلفين ..
أحدهما: أنه نهي عن الإسراف في الإنفاق، وعن التهور في الإقدام، والثاني: أنه نهي عن البخل بالمال، والقعود عن الجهاد، وكلا المعنيين يراد بها، فالإنسان كما أنه منهي عن الإسراف في

(1/410)


[الإنفاق] والتهور في الإقدام، فهو منهي عن البخل وعن الإحجام في الجهاد، ولهذا قال تعالى:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا}، وقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الآية، وقال بعض الناس: " إن هذه الآية ينظر إليها علي وجهين " أحديهما: نظر المجاهد في سبيل الله بالمال، والثاني: نظر الفقيه عن المجاهد، وكلاهما صحيح بوجه، ووجه ذلك أن الفقيه من حيث أنه يحكم بالظاهر على الكافة يراعي أحوالهم، والمجاهد من حيث أنه يوفر على مراعاة الحق عن مراعاة نفسه لا يرى الإلقاء بيده إلى التهلكة إلى التهلكة إلا الإحلال بترك وظائف الحق، وإلى هذه الحالة أشار الله تعالى بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، الآية، وبقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، أي تحروا فعل الإحسان وقد تقدم أن الإحسان هو تحري العدالة والزيادة عليها، ولهذا قال:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، ثم نبه بإظهار محبته للمحسنين على شرف منزلتهم.

(1/411)


وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

قوله - عز وجل:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

" الآية (196) سورة البقرة ".
قيل: قوله: {وَأَتِمُّوا} قيل إنه خطاب لمن خرج حاجا أو معتمرا، فأمر بأن لا يصرف وجهه حتى يقضيها، وإليه ذهب أبو حنيفة - رحمه الله - فاحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل فيها [لإنسان] متنفلا، وأنه متى أفسدها وجب قضاؤها وقيل إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة وذكر لفظ الأيام تنبيه على توفية حقهما وإكمال شرائطها، ولذلك قال أمير المؤمنين:
" من إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك " وعلى هذا قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، وإلى هذا ذهب الشافعي - رحمه الله واحتج به في وجوب العمرة، وإنما قال في الحج والعمرة " لله " ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى الأصنام، فخصهما بالذكر لله تعالى حثا على الإخلاص فيهما ومجانبة ذلك الاعتقاد المحظور، وظاهر قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أن لا فرق بين أن يحصر بمكة أو بغيرها، وبعد عرفة أو قبلها بخلاف ما قال أبو حنيفة إن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف لا يكون محصرا في الحكم، وكذلك لا فرق في [الظاهرة] بين أن يحصره عدو مسلم أو كافر كما قال الشافعي خلافا لبعضهم، وظاهره يقتضي أن

(1/412)


لا فصل بين إحصار العدد وإحصار المرض كما قال أبو حنيفة دون الشافعي - رحمة الله عليهما - " لولا أن الآية نزلت في سبب العدو فلا يجوز أن نتعدى إلاً بدلالة "، ولأن قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} يدل على أن المراد بالإحصار هو بالعدو وذلك قول ابن عباس - رضي الله عنه - ويقتضي الظاهر أن لا قضاء عليه خلافا لأبي حنيفة - رضي الله عنه - لأنه قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} واقتصر عليه والهدي بقرة أو بدنة أو شاة أو أكثر، لأنه قال: {فَمَا اسْتَيْسَرَ}، ونهى عن حلق الرأس إلا بعد بلوغ الهدي محله، ومحله عند أبي حنيفة الحرم، واستدل بأن ناجية بن جندب قال: " دعني أخذ بعض هذه الأودية، وأسوق هذه البدن إلى الحرم، فأنحر بها "، فقال - عليه السلام -: " افعل " فساقها إلى الحرم، فنحر بها، وعند الشافعي أن محل الهدي في الإحصار زمان تحلله، ومنحر الهدي حيث يتحلل، وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} ليس مقصورا على المحصر، بل حكم كل حاج ومعتمر، والمرض الذي يبيح اللبس والحلق ويقتضي الفدية هو الذي يحتاج إلى تغطية البدن وحلق الشعر، وألزم فدية على التخيير ولم يبين وصفها، فنبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لكعب بن عجرة وقد مر به يوم الحديبية وهو محرم، فقال له: " أيؤذيك هو أم رأسك؟ فقال: نعم، فقال: نعم فقال: احلق رأسك واذبح نسيكة، أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين بين كل مسكين صاع "، وظاهر الآية يقتضي أن لا فرق بين قليل الشعر وكثيرة بخلاف ما قال أبو حنيفة حين لم يلزم إلا بحلق الثلث، وغيره حين لم يلزم إلا بالربع، وأما التمتع بالعمرة إلى الحج، فقد قيل هو المحصر إذا دخل مكة بكد فوت الحج، وقيل: " هو الناسخ الحج بالعمرة "، وقيل: هو التمتع المعروف في الحج، وهو الأصح ولا يجب الدم فيه إلا أن يكون بأربع شرائط، الأول: الإحرام بالعمرة في أشهر الحج والتحلل منها فيه، والثاني: أن ينسئ الحج من سنته، والثالث: أن لا يعود إلى الميقات لإنساء الحج، والرابع: أن لا يكون من حاضري الحرم، وإن أحرم في رمضان وأخر الطواف إلى شوال ثم أحرم بالحج فهل يلزمه الدم؟
فيه قولان للشافعي، وظاهر إيجاب ما استيسر من الهدى يقتضي أن ذلك بعد الفراغ من

(1/413)


العمرة والدخول في الحج، وكذا الصوم الذي هو بدله وعند أبي حنيفة يجوز الصوم إذا دخل في العمرة ناويا للتمتع ..
إن قيل: كيف قال في الحج ومهما أحرم يوم عرفة لا يمكنه صيام ثلاثة أيام في الحج، لأنة منهي عن الصوم في يوم النحر وأيام التشريق؟ قيل: الواجب على المتمتع أن يحرم بالحج على الوجه عليه صيام ثلاثة أيام، وذلك بتقديم الإحرام قبل يوم عرفة، وقد قال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام التشريق، ويحملان النهي عن الصوم فيها على غير المتمتع وقوله: {إذا رجعتم إلى بلدكم} [قيل: معناه إذا أخذتم في الرجوع] بعد الفراغ وقيل: {إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى بلدكم [وأهليكم] وإطلاق اللفظ يحتمل الأمرين جميعا، فيصح حمله عليهما، وحاضروا المسجد الحرام، قال عطاء: هم أهل الحرم والقربات التي حوله ما لم تبلغ مسافة تقصر فيها الصلاة وبه قال الشافعي وقال طاوس: أهل الحرم لا غير وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت وما دونها، وقوله تعالى: (ذلك) أي الكفارة لمن لم يكن حاضري المسجد، فأما حاضروا المسجد، فلا يلزمهم، وقيل: عني بذلك التمتع أي أن الحاضرين ليس لهم أن يتمتعوا وإنما ذلك لأهل الآفاق البعيدة.
إن قيل: ما الحاجة إلى ذكر: " تلك عشرة كاملة " عقب قوله (سبعة، وثلاثة، ولا يشك على ذي أدنى بصيرة أن الثلاثة والسبعة عشرة) ولا أن ذلك يتنوع، فيكون مرة كاملة ومرة غير كاملة، لأنها إذا لم تكن كاملة لم تكن عشرة؟
قيل: قد أجيب عن ذلك بأجوبة ..
الأول: أنه لما قال: (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) كان يحتمل التخيير، وأن كل واحد منهما على الانفراد يقوم مقام الهدي فبين أن مجموعهما يدل على الهدي يقوم مقامه، والثاني: أنه

(1/414)


لما قصد بيان كمال الحكم، وأن ذلك يحصل في صوم العشرة، ذكر لفظ العشرة تأكيداً، فإن كان لو قال: (تلك كاملة) كانت مفهومة، وذاك أن الخطاب العامي، أعني ما يفهم به الخاص والعام الذين هم أهل الطبع لا أهل الارتياض بالتعلم لا يكون إلا تكريرات الكلام وزيادات البيان ليحسن إفهام الكافة، ولهذا جاء على القرآن عاما ما يتعلق حكمه بالكافة في غاية الظهور، وما هو مختص علمه بالراسخين في العلم جاء على ضرب من الإيجاز والغموض، إذ كانوا بمعرفتهم يمكنهم أن يتوصلوا إلى حقائقه، وما هو متردد بين العامة والخاصة كذكر التوحيد والنبوة ذكر تارة بلفظ مبسوط، ليظهر منه للعامة ما يفتعهم، وتارة بالفظ وجيز ليستخرج منة الخاصة ما يتضمنه، ولهذا قال فيما يغمض، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ}، والثالث: أن قوله: (تلك عشرة كاملة) استطراد كلام، وتنبيه على فضيلة علم العدد، وذاك أنه قد قيل: العددُ أول العلوم وأشرفها، أما كونه أولاً، فلأن ما عداه به تميز وتفضل، وأما كونه أشرف، فلأنه لا اختلاف فيه ولا تغيير، بل هو لازم طريقة واحدة، فذكر العشرة، وصفها بالكاملة، إذ هي عدد كمل فيه خواص الأعداد فإن الواحد مبدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد زوج محدود، أي مجتمع من ضرب عدد في نفسه، والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام، أي إذا أخذت أجزاؤه لم يزد عليه ولم ينقص منه، والسبعة أول عدد أول أي لا يتقدمه عدد بعده، والثمانية أول عدد زوج الزوج والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة أول عقد ينتهي إليه العدد، فإن كل عدد بعده مكرر منه بما قبله، فإذن العشرة هي العدد الكامل ..

(1/415)


الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

قوله - عز وجل -:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}

الآية: (197) سورة البقرة.
جدلُ الحبلِ فتلهُ، وبه سمي الزمامُ جديلاً، وعنه استعبر " جالت فلاناً "، ولذلك قيل: ناقضه تشبيها بنقض الحبل، وقتل فلان، يفتُلُ حبلاً "، في ذورة فلان، إذا أحتال عليه، والجدولُ: النهر الممتدُّ كالحبل المفتول، والمجدلُ: القصرُ المحكم، والجذالةُ: كل أرض صلبة، والزاد: فضل الطعام الزائد عما يكتفي به في الوقت، وقد بين الله تعالي فيما تقدم أحكام الحج وما يقع فيه من الإحصار [واستباحة] الحلق والتمتع، وبين في هذه الآية وقته الذي يصح فيه ذلك، ومن قال: أشهُرُ الحج: شوالُ، وذو القعدة، وتسع من ذي الحج عنى أن فعله يقع في هذه المدة، لأن لفظ الأشهر يقع على الاثنين، وبعض الثالث، فالفعل قد ينسب إلى مدة ممتدة ويكون واقعاً في بعضها، ولما كان فعل الحج في هذه الأشهر نسب إليها ثلاثتهن، ودلت الآية على أن الإحرام بالحج في غيرهن لا يصح لتخصيص الأشهر وهي أدنى العدد، ولقوله:
{فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، والضمير على هدا الوجه لا يقال في التواريخ إلا لأدنى العدد، كقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}، ثم قال: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، ثم قال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} [يعني: في الأربعة الحرم،] ويقال: لثلاث خلون، وثلاث عشر خلت، وقول مالك: إن الإحرام بالحج يصح بعد يوم العاشر بالحج مستدلاً بظاهر الآية قويَّ، ويعاضده ما روي عنه- عليه

(1/416)


السلام- " أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة "، وقوله: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجّ) أي التزم حكمه، وذلك عند الشافعي بالنية فقط وبها يصير محرماً عنده وعند أبي حنيفة- رحمه ألفة بالنية، ومع سوق الهدى أو التلبية، [واستعمل الفرض في] والتزام الحكم وأصله من قطع الحكم مأخوذاً من " قرض القوس " أي: حزهُ، وقيل لثعلب النحوي: لم جعل الغرض لما في أوكدُ والنية لمآ هو أخفُّ؟
قال: لأن الفرض لما يؤثر، كفرض الزند والقوس والسن للضب، فلما كان تأثير الفرض في نفس الشك أبلغ من تأثير السن، فجعل لما هو أوكد والرفث ههنا: قيل هو الجماع، وقيل: هو حديث الجماع، وروي عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه كان ينشد في الطواف:
إن تصدقُ الطير ننكْ لميسا ...
فقيل له: أترفُثُ؟
فقال: " ليس هذا الرفث، إنما الرفث مراجعة النساء الحديث بذكر الجماع "،
إن قيل: الفسوق محظور في كل حال، فكيف خص به الحج؟ قيل: الفسوق هاهنا يعني الأشياء المحظور تعاطيها في حال، [الحج] كالصيد والطيب، واللباس، وإن لم ليكون فسقاً في غير الحج؟ قيل: تخصيص الحج به تنبيه على شرفه وعظم موقعه، كقوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وإن كان ظلم النفس في كل حال

(1/417)


مكروهاً، وكما قال: " إذا صام أحدكم فلا يجهل، فلا يرفث، فإن جهل عليه فليقلْ: إني صائم "، وقوله {وَلَا جِدَالَ} أي: لا يجوز المماراة، وقيل معناه: لا شك أن فرضه مقرر في ذي الحجة بخلاف ما فكله النساءة، قيل: هو حث على التحاب وقيل: " هو حث على التحاب والنظافة وترك ما يؤدي إلى التباغض "، وكل ذلك يصح إرادته، وقيل قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} إشارة إلى أن من التزم هذا الفرض وتحراه يمنعه عن الرفث والفسوق، وكأنه نبه على علة ما أوجه لأجله الحج، فهو تهذيب اللسان عن الخنا، وإصلاح البدن [بالمنع] من تعاطي الفسق، كما جعل الصلاة علة لترك الفحشاء والمنكر، والصوم علة للتقوى في قوله: (لعلكم تتقون)، والزكاة علة لتزكية النفس في قوله: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله: {وَلَا جِدَالَ} نهي على ما تقدم، ولهذا فضل بين إعرابيهما بعض القراء، ونبه بقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} على مجاراته إياهم، كما نبه في عامة القراء على ذلك، نحو: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}، و {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وما يجري مجراه من الأقوال:
وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} حث على تقوى الله واقتناء الأعمال الصالحة، والإعراض عن الدنيا سوى ما يتوصل به إلي الآخرة ...
، وقال أبو المطيع البلخي لحاتم الأصم:
" بلغني أنك تجوب ألبادية بلا زاد فقال: إنهم أجوبها بأربعة أشياء، أرى الدنيا بحذافيرها ملكاً لله، وأرى الخلق كلهم عبيداً لله، وأرى الأشياء كلها بيده، وأرى قضاءه نافذاً في كل أرض "،، فقال: " نعم الزاد زادك يا حاتم نحوت فيما مفاوز ألآخرة "، وقول من قال: " أنزلت الآية في قوم يحجون بلا

(1/418)


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

زاد، ويتكففون، فنهوه عن ذلك، فلا يمتنع أن يكون مراد بالآية مما تقدم، فالتكففُ قل يكون منافياً للتقوى "، وقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} لما أمر بالتقوى، أمر أن يكون هو تعالى المقصود بها، وقيل: تقواه حفظ النفس إن نالها عقابه أو يتخطاها ثوابه، وذلك منعها متابعة الهوى، وحملها على طريق الهدى، وذلك على ثلاثة منازل ...
الأول: ترك الكفر والكبائر، والثاني: ترك المحارم وأداء الفرائض اللذين يقتضيهما إلتزام الشرائع، والثالث: حفظ القلوب عن التلفت إلى الذنوب، وهو المغنى، بقول من قال: " التقوى هي التبرؤ من كل شك سوى الله تعالي، ولا يحصل الثالث إلا بحصول الثاني، ولا الثاني إلا بحصول الأول "، وعنى هاهنا الغاية، ولهذا خص أولوا الألباب بالخطاب، فاللب أشرف أوصاف العقل، وهو اسم الجزء الذي بإضافته إلى سائر أجزاء الإنسان، كلب الشيء إلى القشور، وباعتبار اللب، قيل لضعيف العقلي " يراعة "، " وقصبة "، و " منخوب " و " خاوي الصدر "، وقال- عز
وجل- {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}، وقال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}.
قوله - عز وجل -:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}

الآية (198) - سورة البقرة.
فاض الإناء، انصب عن امتلاء ومنه: فاض صدره بسره، ورجل فياض سخي- تشبيها بنهر فياض، ودرع مفوضة: افتضت على لابسها كقولهم: مسنونة، وعنه استعير: " أفاض من عرفة "، و " أفاض بالقداح " و " أفاض البعير بحريه "، و " حديث مستفيض "، كقولهم: شائع وسائر، وكانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر الأواخر، وحتى سموا

(1/419)


من يوالي متجراً في الحج: الداج دون الحاج، فأباح الله ذلك، وعلى إباحة ذلك دل قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلى قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}، وقوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}، وأمر الله بذكر الله تعالى عند المشعر الحرام أي المزدلفة، وقيل: عنى بذكره عند الجمع بين المغرب والعشاء، وهذا يدخل في عموم الذكر، فقد سمي الصلاة ذكرا في قوله {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقيل لبعض العلماء: " لم أمر الناس بالمقام عند المشعر الحرام، وبالذكر؟، فقال: لأن الكعبة بيت الله الحرام حجابه، والشعر بابه، والوافد إذا قصد الباب أقام وتضرع، فإذا وصل إلى الحجاب، قدم قربانات، وقضى التفث، وتطهر، ثم يؤذن له في الدخول، وأعاد الأمر بالذكر ثانياً، وأوجب أن يكون ذكره كهدايته أي مولداً لهدايته لنا ثم قال: (وإن كنتم)، أي وإنكم كنتم قبل لضالين، وإن محققة من الثقيلة بدلالة- دخول اللام معها، والضلال هاهنا الجهل بالمعارف الحقيقية نحو: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}.

(1/420)


ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

قوله - عز وجل -:
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

الآية: (199) - سورة البقرة.
روي أن قريشاً لم يكونا يقفون مع الناس بعرفة ولا يبيتون بالمزدلفة ويقولون: " نحن أهل حرم الله "، وكانوا يقفون دون عرفة فأمرهم الله تعالى أن يفيضوا مع سائر الناس، قاله ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، والحسن، وقيل: إنه أمر جميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، أي إبراهيم، وسماه " الناس " والناس تستعمل على ضربين، أحدهما: للنوع من غير اعتبار مدح أو ذم،
والثاني: للمدح اعتبارا بموجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة فقط، بل في اسم كل جنس ونوع، نحو: هذا فرس، وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل، أي ليس فيه معناه الخاص بنوعه، وبهذا النظر نفى السمع والبصر عن الكفار، فعلى هذا سمى إبراهيم الناس على سبيل المدح [على وجه أخر] وهو أن الواحد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً أنه يقوم مقامهم في الحكم، وعلى هذا قول الشاعر:
ويرى فيحْسبُهُ القتيلُ قتيلاً ...
وقال: تستجمعي الخلقَ في تمثالٍ إنسانٍ

(1/421)


وقال: وليسَ من الله بمستنكرٍ ...
أن يجمع العالم في واحد
وعلى هذا قال تعالي: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}، وقوله: {مِنْ حَيْثُ} أي من عرفَةَ، وقيل: من المزدلفة، وهو أقرب، لأن بعده: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}، والاستغفار، والتوبة، والإنابة، والأوبة تتقارب، لكن الاستغفار [طلب] غفر الذنب، والتوبة تركه، والإنابة: الرجوع عن الضلال إلى الهدى، والأوبة رجوع القلب إلي الله تعالى، وهذه المعاني وإن كانت متلازمة، فألفاظها اختلفت
لاختلاف النظرات، فأمر تعالى بالاستغفار له عن الاشتغال بغيره من أمور الدنيا، وبين أن الله تعالى غفور للمطيعين، رحيم بالعاصين، يدعوهم برحمته إلي بابه، ويرغبهم في جزيل ثوابه ...

(1/422)


فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

قوله - عز وجل -:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}

الآية (200) - سورة البقرة.
القضاء: فصل الأمر، والنسك أخذ النفس ببلوغ غاية العبادة، واختص في تعارف أهل الفقه بعمل الحج وبالذبيحة حتى سميت نسيكة، كما سميت قرباناً، وقولهم: إذا فعلت كذا فافعل كذا، يقال على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون " افعل " أمراً بما تقدم فعله نحو، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} الثاني: أن يكون الأمر بشيء هو من أبعاض ذلك الفعل وفي أثنائه، نحو: " إذا صليت فاركع واسجد "، والثالث: أن يكون بعده، نحو: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} والآية، محمولة على ذلك تنبيها ففي ابتداء النسك ذكر، وهو التلبية وفي أثنائه ذكر، وهو عند المشعر والطواف، وفي انتهائه ذكر، وهو شكر الله- عز وجل- وذكره عند طواف الوداع، ولما كان الذكر ذكرين، ذكر بالقلب، وذكر باللسان تتناولهما الآية، ولما كان الإنسان لا يتشكك في أن أباه أحد أسباب وجوده، وأنه منه أوجد ولا ينسى ذكره في شيء من أحواله، وكانوا يتبجحون بمكانه، ويفتخرون بكونهم عنه، أمروا أن يذكروا الله كذكرهم آباءهم وأن يتحققوا أنه تعالى سبب وجودهما، بل سبب وجود آبائهم، وأن يفتخروا به كافتخارهم بآبائهم، وقد روي أنهم كانوا يفتخرون بأبائهم بعد فراغهم من حجهم، فأبطل الله ذلك، وعليه نبه النبي ...
بقوله: " إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، فالناس من آدم، وآدم من تراب، ولا فضل
لعربي على عجمي إلا بالتقوى "، ثم تلا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ...

(1/423)


وقوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} تنبيه أنه إذا كان الأب يذكر لأنه سبب ما لوجودكم، فالباري- عز وجل- أولى بأن يذكر ..
إن قيل: كيف خير بين أن يذكر كل كر الآباء وبين أن يذكر أشده ذكراً؟
قيل: لفظ أو وإن كان للتخيير، فمقتضى الكلام على إيجاب أن يكون ذكره أشد، لأنه لما نبه علي موضع نعمتهما أعنى نعمة الأب ونعمة الله- عز وجل- وشكر المنعم بقدر عظمة نعمته، وقد علم فضل نعمته تعالى على فضل نعمة الأب، فصار ذلك منبها أن ذكر الله أوجب وقوله:
{مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا} إشارة إلى ما روي أنهم كانوا يقولون: " اللهم أكثر مالنا، وأولادنا وأنزل الغيث علينا، وأنبت مرعانا "، ولا يسألون شيئاً من أمور أخرجهم، وإنما سألوه الدنيا دون الآخرة، لأنهم عرفوها ولم يعرفوا اللآخرة، وكيف يسال الآخرة من لا يعرفها؟، وكيف يعرفها من لم يتحقق كونها؟، وكيف يتحقق كونها من لم يبصرها؟ أي لم تدركها بصيرته؟ وليس يعني بقوله: (يقول) التفوه بذلك فقط، بل صرف العناية إليها والاهتمام بها، والخلاقُ نصيب الإنسان من أفعاله المحمودة التي تكون خلقاً له، وذلك أن الفعل قد يحصل من الإنسان تخلفاً، وقد يحصل منه خلقاً وهو المحمود، وفي قوله: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} تنبية أن الأريحية لهم صادقة صادرة عن أخلاقهم ..

(1/424)


أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

قوله - عز وجل -:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}

الآية (201) - سورة البقرة.
لما أجرى الله تعالى العادة أن لابد للإنسان من أخيارهم وأشرارهم من بلغه في الدنيا، صار المؤمن يطلبها كما يطلبها الكافر، لكان طلب المؤمن لها علي سبيل الغرض قدر ما يحس، وفي وقت ما يحسن، ولأجل الحاجة إليها ..
قال بعض الصالحين: " اللهم وسع الدنيا عليّ، وزهذني فيها، ولا تضيقها عليَّ فترغبني فيها ".
فقوله تعالى: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أي مالا يستقبح عاجلاً وأجلىً ويكون ذريعة إلى المقصد، {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} أي ثواباً ورحمة وعلى هذا قال الحسن الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار.
قوله- عز وجل -:
{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}

الآية: (202) - سورة البقرة.
النصيب في الأصل: المنصوب، وجعل السهم المقرر نصيباً، والنصب: رفع الشح، وبه سمي النصب، وإنصاب الحرم، ونصاب السكين، وفلان في نصاب صدق تشبيهاً بنصاب السكين، ونسب الحروف في الإعراب، ونصب الستر على التشبيه، والحساب: عنه استعير الحسبان المقارب لمعنى الظن، وحسب الذي هو معنى الكفاية بين تعالى أن من جمع بين طلب دنياه وأخراه، ولم يقتصر على طلب الدنيا الموصوفة.
بقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية، فقد تناول نصيبه المأمور به في قوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، ولم يكن كمن قال فيهم:

(1/425)


وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، ولما كان الحساب يكشف عن مجمل الشيء وتفصيله، نبه بذلك على إحاطته بأفعال عباده ووقوفه على حقائقها، وذكر " السريع " تنبيهاً أن ذلك منه، لا في زمان ولا بفكره، وذلك أبلغ ما يمكن أن يتصور به الكافة سرعة فعل الله عز وجل.
قوله- عز وجل -:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}

الآية (203) - سورة البقرة.
الأيام المعدودات عند الشافعي- رحمه الله- ثلاثة أيام بعد النخر، والمعلومات عشر ذي الحجة، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله- في إحدى الروايتين: المعدودات يوم النحر، ويومان بعده، فيوم النحر عندهما من المعلومات ومن المعدودات جميعاً، وقائمة الخلاف أن عند مالك لا يجوز النحر ثالث أيام التشريق والحشر: ضم المتفرق وسوقه، يقال: حشرتهم السنة: أي ضمتهم من النواحي إلى الحضر، واختص حشرات الأرض بصغار الدواب وسهم حشر مضموم العدد، وكذلك أذن حشر ورفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة وقيل: معنى رفع الإثم إنه خط ذنوبهما بإقامتهما الحج تعجل أو تأخر بشرط أن يكون متقياً- تنبيها أن الاعتبار بالتقوى فقط، وعلى ذلك دل قوله- عليه السلام- " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمة " ثم قال: (واتقُو الله) متحققين أنكم إليه راجعون، وعلى أعمالكم محاسبون ...

(1/426)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

قوله - عز وجل -:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}

الآية (204) - سورة البقرة ..
التعجب حيرة تعرض للإنسان عن جهل سبب الشيء وليس هو شي ماله في ذاته حالة، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب وإلى من لا يعرفه، ولهذا قال قوم كل شيء عجب، وقال قوم: لا شيء عجب، وحقيقة أعجبني كذا، أي ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه، والألد المايل اللديد، أي صفحة العنق، ثم يعبر به عن المتكبر كالمتصلف أي المشتكي صليفه والأصيد للبعير الذي به الصد، ولهذا قال الشاعر:
ويقًيِمُ سالفَة العْدُوَّ الأُصْيدِ
وقال:
إن الكريمٍِ منْ يلفتُ حَوْلهُ ...
وإن اللئيم دائمُ الطرفٍ أقوَدُهَّ
واستعير الألد للجدل الذي لا يمكنه صرف رأسه عما عض عليه، ولما كانت الدنيا والآخرة كالمتضادين حتى قال أمير المؤمنين: [أزنها بكفتي ميزان] لا ترجع إحداهما إلا بنقصان الأخرى، وقال: قرة كالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فمن حذق في إحديهما خرق في أخرى، ولهذا قال عليه السلام في اعتباره بأهل الدنيا: " أكثر أهل الجنة البله "، وقال في اعتباره

(1/427)


وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

بأهل الآخرة: " ألكيسُ من دان نفسه .. " نبه أن من الناس من إذا صادفته وجدته معجباً لك في أمور دنياه، وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} الآية ... ويحلف بأن قلبه [مطمئن بالإيمان] ومطابق للسانه وهو يجادل في ذلك ويخاصم، وقوله تعالي {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} إشارة إلى نحو ما وصف به المنافقين، حيث قال قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}.
قوله- عز وجل -:
{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}

الآية (205) - سورة البقرة.
السعي: مشي سريع، ومنه قيل السعي بين الصفا والمروة، فجعل مستعاراً للتصرف، ولأجله قيل لجابي الصدقة ساع، وقيل للوقيعة في الغير سعاية، وذلك كاستعارة المشي لهما في قوله {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} والنسل: مصدر نسل إذا خرج منفصلاً ومنه: نسل الوبر والريش.
والنسالة للساقط منه، ونسل إذا أسرع، قال تعالى: {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}، وسمي الولد نسلاً لكونه ناسلاً عن أبويه بين تعالي حال هذا المعجب في الدنيا المرائي المجادل بأنه إذا تولى عمن يرائي سلي في الإفسال وإهلاك الحرث والنسل وذلك معاندة لله فيما حث عليه في قوله:

(1/428)


وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}، وما دل عليه قول النبي- عليه السلام- لما خلق الله المعيشة جعل البركة في الحرث والنسل، ولجأ أن من فعل ذلك فإن الله لا يحبه، أي لا يرضى فعله ..
إن قيل: كيف حكم تعالى بأنه لا يحب الفساد وهو مفسد للأشياء؟
قيل: الإفساد في الحقيقة إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا هو أمر به ولا محب له، وما يراه من فعله، [ويظهر بظاهره] فسادا فهو بالإضافة إلينا ولاعتبار ما، فأما بالنظر الإلهي فكله صلاح، ولهذا قال بعض الحكماء: " يا من إفساده إصلاح "، أي ما نظنه إفسادا لقصور نظرنا ومعرفتنا فهو في الحقيقة إصلاح وجملة الأمر أن
الإنسان هو زبدة هذا العالم، وما عداه مخلوق لأجله، ولهذا قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله الذي رشح له، فإذن إهلاك ما أمر بإهلاكه فلإصلاح الإنسان، وأما أمانته، فأحد أسباب حياته الأبدية، ولشرح هذه الجملة موضع أخر من التفسير ..
قوله - عز وجل -:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}

الآية (206) - سورة البقرة.
المهد معروف، وتصور منه التوطئة، فقيل لكل وطيء مهد، والمهاد جعل تارة جميعاً للمهد، وتارة اسمه للآلة، نحو فراش، وجعل جهنم مهادا لهم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقوله: بالإثم أي سبب الإثم وقيل: دعته العزة إلى أن يأثم، كقوله: أخدني بفعل

(1/429)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

كذا، أي بأن أفعله وبين أن جهنم نصيبه الكافي جزاؤه الوافي، ثم دل على حال جهنم بقوله: {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ...
قوله - عز وجل -:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}

الآية (207) - سورة البقرة.
يشري يبيع ويشتري، وقد تقدم حقيقته، وحقيقة البيع والناس علي أضرب ضرب باع نفسه من الشيطان بالشهوات، فصار علقاً كل يده لا سبيل إلي الانفكاك منه، وهم المعنيون بقوله: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، وضرب وقع أسر الشريطان عليه، فاجتهد في تخليص نفسه منه وهو المعنى بقوله- عليه السلام: " الناس عاديان، فبانع نفسه فموبقها، ومبتاع نفسه فمعتقها "، وضرب لم يقع عليه أسر الشيطان، وقد باع نفسه من الله- عز وجل، وهو المعنى بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، وبين تعالى كيف اشترى أنفسهم بقوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، فقول: {يَشْرِي نَفْسَهُ} يتناول ضربين: المخلص نفسه

(1/430)


من أسر الشيطان، ومن باع نفسه من الله فإذن يشري نفسه للأمرين، والشراء والبيع في مثل هذا الوضع كالرمز والإشارة، وحقيقتهما وقف الإنسان نفسه على مرضاة الله - عز وجل-، والتحري في مصالح عباده، وقيل.
إنها نزلت في صهيب بن سيار، وكان قد أخذه المشركون، وقتلوا بعض من كان مده، فقال صهيب: أنا شيخ لا أنفعكم إن كنت معكم، ولا أضركم إن كنت عليكما فخذوا مالي وخلوا سبيلي، ففعلوا فلما ورد المدينة قال له أبو بكر: ربح بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونبه بقوله:
{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، أن الإنسان في بيع نفسه منه تعالى يدخل في ملك من هو أرأف به من نفسه أولى به من ذاته ..

(1/431)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

قوله - عز وجل -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}

الآية (208) - سورة البقرة.
عنى بالسلم سلم العبد الله - عز وجل، وذلك أن الإنسان في كفره، وكفران نعمة الله كالمحارب له، ولهذا يسمى الكافر المحارب في نحو قوله: {الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وسلم العباد لله على ثلاثة أضرب، ضرب يتقدمه إلى الإيمان وهو الإسلام الذي سلم به من الله أن يراق دمه ويسلب ماله وهو المغني بقوله- عليه السلام:
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ".
واثنان بعد الإيمان، أحدهما أن يسلم من سخطه بارتسام أوامره وزواجره طوعاً أو كرهاً، والثاني: أن يكون سليماً من الشيطان وأوليائه، وسليماً فيما يجري من قضائه، وبه يحصل [دار السلام المذكورة في قوله تعالى]: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} وهذا غاية ما ينتهي إليه للعبد من المنازل الثلاث وإن كان لكل منزلة منها درجات، وهذا السلم هو المغني بقوله تعالى: {}، وبقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ

(1/432)


فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

الْإِسْلَامُ}، وهو الذي تمناه يوسف عليه السلام- بقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وقوله: {كَافَّةً} حال للمخاطبين، أو للسلم وقد تقدم الكلام في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.
ونبه أن اتباع الشيطان خروج عن السلم، ونبه على معاداة الشيطان وأن عدواته لا تخفى، وهذا المعنى قصده الشاعر في وصف الدنيا.
إن الليالي والأيامَ لوْ بَحثَتْ
عنْ عيبِ نفسهِمِا لمْ تكَتُم الخبَرا.
قوله- عز وجل -:
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

الآية (209) - سورة البقرة.
زل وزال يتقاربان، ولكن زال أبلغ، ولفظ البينات عام فيما حولنا من المعارف العقلية والسمعية، والنهي عن الزلة والقصد إلى الفعل الذي يحصل عنده الزلة، إذ الإنسان لا يقصد أن يزل، وعلى هذا إذا قيل: " لا تصلوا "، ونبه بقوله {بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أن أعظم الذنبين ما كان بعد المعرفة والبينة، وفي هذا تحذير لمن يبصر عن ركوب ذنب فكأنه قيل: إذا أردتم ذنباً فاذكروا عز الله وحكمته، [ففي العلم بعزه علم بقدرته على عقاب المذنب]، وفي العلم بحكمته علم بأنه غير ظالم في عقابه وفي العلم بهذين انزجار سكن ارتكاب الذنب.

(1/433)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

قوله - عز وجل -:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}

الآية (210) - سورة البقرة.
قد تصور بعض.
الناس مالا يليق بصفات الله تعالى في لفظ المجيء والإتيان الذي وصف الله - عز وجل به بنفسه في هذه الآية وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} وقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا}، وقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ}، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، وذلك لأمرين، أحدهما لقصورهم عن معرفة البارئ عز وجل، والثاني: لضيق مجالهم في مجاري الألفاظ ومجازها، وليس يقال الإتيان والمجئ لانتقال الحي المتحرك من مكان إلى مكان فقط، بل قد يقال لقصد القاصد بعنايته أمراً يستصلحه كقوله: أتيت المروة من بابها، [ويقال أيضاً] لاستيفاء فعل يتولاه، كقولك: أتيت على ما في الكتاب، [وقد يقال أيضا] لفعل يفعله على يد من يستكفيه [كقولك إن الأمير ناحية كذا بجيش عظيم، ومنه {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} ولما جرت العادة أن الرئيس يتولى الأمير بمن يستكفيه] تارة وبنفسه تارة، وأن لا يتولى بنفسه إلا ما كان أكبر وأعظم، فلما أراد الله تعالى أن يبين العذاب الذي لا غاية وراءه جعله منسوباً إلى نفسه وإتياناً له، وعلى هذا النحو جعل كل يستعظمه فعلاً له نحو خلق أدم بيده، وعلى هذا قوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}، ووجه آخر، قد أشير إليه في صدر الكتاب، وهو أن الفعل كما ينسب إلى المباشر له ينسب إلى ما هو سببه ومسهلة، نحو أن يقال: {الرحمن علم}، وإنما علمنا من علمه النبي، وعلم النبي جبريل، وجبريل علمه الله عز

(1/434)


وجل- فصح أن ينسب إليه، ولهذا قد ينسب فعل واحد تارة إلى الله عز وجل-، وتارة إلى غيره، نحو: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}،،
فإن قيل: هل يجوز على هذا القياس أن يقال شيء إذا عنى به عبداً؟
قيل؟ نحن إنما أجزنا إستعمال ما استعمل فيه تعالى لورود السماع به، ولولا ذلك لنزهناه عن كل وصف يطلق على البشر تفادياً من وهم بشبيه، وقوله: (وقضي الأمر) تنبيهاً أنه حينئذ لا يمكن تلافيه، وأكد ذلك بقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
أي ما قد ملكه عباده في الدنيا من الملك، والملك والتصرف مسترد منهم يوم القيامة، وراجع إليه، ويقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي استرد ما كان فوضه إليه، وقيل: عنى بالأمور الأرواح، وسماها أموراً من حيث إنها من الإبدعات المشار إليها بقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وقال: ولهذا لما سئل سكان الروح قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، أي هو من الإبداع الذي لا يمكن للبشر تصوره، فنبه أن الأرواح كلها مرجوعة إليه وراجعة، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، وعلى ذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، ويكون رجوعها إنما بربح وغبطة، وإما بندامة وحسرة إلى أن ينشئها النشأة الأخرى على ما قضاه تعالى، وقوله: {ظُلَلٍ} جمع ظلة، يقال ظله وظلل وظلال، نحو خُلة وخلل وخلال، والإشارة بهدف إما إلى أمطار عذاب، كعارض عاد المذكور في قوله: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، أو إلى أهوال القيامة، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} على طريق التهديد والوعيد ...

(1/435)


زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

قوله - عز وجل -:
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

الآية (211) - سورة البقرة.
نبه بلفظ {كَمْ} على كثرة ما آتاهم من الآيات، ودل بقوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} على إضمار بدلوا، وعلى هذا إن الحكم ليس مقصوراً عليهم، بل هو عام فيهم وفي غيرهم، ودل بقوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ} أن الآية من جملة نعمته، بل هي من أعظم النعم، وبقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} على نحو ما دل عليه قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} وتقدير الكلام: آتيناهم آيات هي بنعم، فبدلوها ومن يبدل نعمت الله بعد اختصاصه بها عاقبه الله عقاباً شديداً فإنه شديد العقاب، فإذن بعقاب بني إسرائيل ومن فعل فعلهم، فإنه يعاقبهم كما عاقبهم.
قوله- عز وجل:
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}

الآية (212) - سورة البقرة.
التزيين التحسين المدرك بالحس دون المدرك بالعقل، ولهذا جاء في أوصاف الدنيا دون أوصاف الآخرة، نحو: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}، واختلف في هذا التزين، فمنهم من قال الله زينه لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}، ومنهم من قال: الشيطان زين لهم لقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وروي عن الحسن: الشيطان زينها ولا يعلم أحد أذم لها ممن خلقها أو وصفها بأنها متاع قليل وأنها متاع الغرور وجمع بعض الملاحدة بين هذه الآية

(1/436)


وأخواتها وزعم أن ذلك من الآيات المتناقضة في القرآن، لأنه قال مرة: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ}، فقال: {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ}، وقال في آية أخرى: {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، فنسبه إلي نفسه، وتارة ذكر أنه قيض لهم من زينها لهم، وذلك قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}، ووهي ما ادعاه لا يخفى على ذي بصيرة، لكن بيانه يحتاج إلى مقدمة، فنقول وبالله التوفيق: إن الله- عز وجل خلق الإنسان وجعل له سبيلاً إلى بقائه بشخصه زماناً ما، وتنوعه مدة ما، وركب فيه شهوة تشوقه إلى الغذاء والجماع اللذين هما سببا البقاءين، فهذا هو تزين الله عز وجل- وأمره باستعمالها حسب ما تأمره الشريعة فيها يؤدي به إلى سعادته في الآخرة على ما ينبغي، وبقدر ما ينبغي، ومن عشقها بإفراط، استحوذ الشطيان عليه وأعماه عن قبح المستقبح منه، وذلك قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} وأما قوله تعالى {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [وقوله تعالى] {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}، فالتزيين في الآيتين يحتمل وجهين أحدهما أن الذي زينه هو المشروع لهم، والثاني: أن الذي زينه هو الشهوة لكن على أن يأخذ بقدر ما يجب، وفي وقت ما يجب، لا أن يجعلها مقصده ووجه أخر في الآية، وهو: الحياة حياتان، حياة ذاتية دنيه وهي الحياة الدنيا ودناءتها لما وصفها الله تعالى بقوله {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}

(1/437)


الآية ..
، وحياة متأخر سنية وهي الموصوفة بقوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} والثانية: لا يعرفها إلا الذين اتقوا، فأما الذين كفروا فلا يعرفون إلا الحياة الدنيا ويجحدون الآخرة ويسخرون من الذين يؤمنون بها، فبين الله تعالى أنهم وإن سخروا من الذين آمنوا، فالذين آمنوا فوقهم، ومعنى {فَوْقَهُمْ} قيل هو كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} وذلك يحتمل وجهين، أحدهما أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا، والثاني: أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، وأن الكفار في الدرك الأسفل من النار وقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي كفى ما يستحق بلا إفراط ولا تفريط، " وأعطاه بغير حساب " إذا أعطاه أكثر مما يستحق وأقل مما يستحق والأول هو المقصود هاهنا، وهو المشار إليه بالإحسان، وقد فسر ذلك على أوجه لاحتمال اللفظ، وإيهامه الأول يعطيه [عطاء] أكثر مما يستحقه، الثاني: يعطيه ولا يأخذ منه، الثالث: يعطيه عطاءً لا يحويه حصر العباد،
لقول الشاعر: عطاياهُ تحْصَى قبل إحصائها القطرُ
الرابع: يعطيه بلا مضايقة، من قولهم: حاسبته أي ضايقته، الخامس: يعطيه أكثر مما يحسبه
أي يكفيه، وكل هذه الوجوه تحتمل أن يكون ذلك في الدنيا وفي الآخرة، السادس: إن ذلك إشارة إلى
توسيعه على الكفار والفساق الذين قال فيهم: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} تنبيهاً أن لا فضيلة في المال، ولا إكرام لمن يوسع عليه ما لم

(1/438)


يستعن به في الوصول إلى المطلوب منه، ولهذا قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} الآية ...
ولهذا قال أمير المؤمنين: " من وسع عليه في دنياه فلم يعلم أنه مكر به فقد خدع عن عقله ".
السابع: يعطي أولياءه بلا تبعه ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذاك أن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا من حيث يجب، وفي وقت ما يجب وعلى الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب نفسه فلا يحاسب، ولهذا ما روي: " من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في القيامة "، وعلى هذا قال لسليمان: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: تحر فيما أعطيناك الوجه الذي لا تبعة فيه عليك ولا حساب، الثامن: أن الله عز وجل- يقابل المؤمني في القيامة لا بقدر استحقاقهم، بل بأكثر منه كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ}.
التاسع: وهو يقارب ذلك إن ذلك إشارة إلى ما روي أن أهل الجنة لا خطر عليهم، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، وقوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وأما تعلقه بما تقدم، فعلى بعض هذه التفاسير يتعلق بالذين كفروا، وعلى بعضه يتعلق بالذين آمنوا ..

(1/439)


كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

قوله - عز وجل -:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

الآية (213) - سورة البقرة.
قال ابن عباس وأبي والسدى: " كانوا أمة واحدة في الإيمان " وقال غيرهم: " في الكفر "، وهدا الخلاف لاختلاف نظرين لابد فيهما من مقدمة تنكشف بها أوجه الخلاف، وتحقيق التأويل، وهي أن الله - عز وجل - فطر الناس فطرة ركز فيها رؤية يعرف بها بعض الأشياء اضطرارا، ومكنه أن يعرف بها البعض اكتسابا، وحبب إليه ما لم يفسد الحق من الاعتقاد دون الباطل والجميل من الفعال دون القبيح والصدق من المقال دون الكذب وإلى ذلك أشار بقوله - عز وجل:
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وبقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ} وبقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، وبقول النبي - عليه السلام -: " كل مولود يولد على الفطرة "، ولم يخلهم في وقت من نبي يشحذ عقولهم ويعرفهم ما لا سبيل لهم إلى معرفته من دونه، وكان كلما

(1/440)


تختل أحوالهم بعد خروج نبيهم من بينهم، إما أن يقيض لهم من يجدد عليهم شريعتهم السالفة، أو يبعث إليهم نبيا يأتيهم بشريعة مستأنفة، وهذا كان فعله إلى أن ينتهي الأمر إلى نبينا - عليه السلام -، فختم به الأنبياء، فمن قالوا: كانوا أمة في الإيمان، فنظر منه إلى المبدأ وحال الفطرة وما كانوا عليه قبل أن فسدوا، ومن قالوا: كانوا أمة واحدة في الكفر، فنظر منه إلى حين فسادهم، كما بين زمن بعثة نوح وبعثة إبراهيم - عليهما السلام، وكل واحد من القولين صحيح بنظر ونظر، فقد كانوا أمة واحدة في الإيمان طوراً، وأمة واحدة في الكفر طوراً ..
إن قيل: كيف كانوا أمة واحدة في الكفر وقد قيل: لا تخلو الأرض من حجة الله؟.
قيل إن من كان حجة الله - عز وجل - في مثل ذلك الوقت في حكم من لا اعتداد به في كونهم أمة لعلة الإصغاء إليه، وبين تعالى أنه بعث أنبياءه مبشرين للمحسنين ومنذرين للمسيئين، ولم يخل أحدا من أنبيائه من كتاب يرشده ويرشدهم،
إن قيل:
أليس قد قلتم: لم ينزل الكتاب من النبيين إلا على جماعة منهم؟ قيل: إن الله - عز وجل - لم يخل أحدا من الأنبياء من كتاب، إما كتاب خص هو به، وإما كتاب من كان فبله أمر بالاعتماد عليه، كالأسباط الذين كانوا أنبياء، وكتابهم كان التوراة، وعطف قوله {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} على قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ}، وفصل بينهما بذكر اختلافهم، وأنهم لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات ذما للمختلفين، فإن من شأن البينات أن ترفع الخلاف، وعلى هذا قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} الآمة ..
وبين سبب اختلافهم بقوله الله عز وجل - بغياً بينهم تنبيها أن ذلك كان لطلبهم زخرف الدنيا ومنازلها، فمن المفسرين من جعل قوله: (الذين أوتوا الكتاب) مخصوصا في بني إسرائيل والذين آمنوا في هذه الأمة، لقوله: {وَلَا تَكُونُوا

(1/441)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُا}، وقول النبي - عليه السلام: " هدانا الله لما اختلفوا فيه "، ومنهم من جعله عاما في جميع الأمم، وقوله بالحق، أي بما يسمى من الثواب والعقاب، وقيل بالأمر والنهي وكلاهما مرادان، فالكتاب مشتمل على كل ذلك، وقوله: (بإذنه) أي بعلمه، وقيل: بأمره، وقيل: بلطفه، والأذن لما يسمع، ويعبر به عن العلم إذ هو مبدأ العلم فينا ...
إن قيل: كيف قال: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وذلك يقتضي أنه هدى بعضاً دون بعض، وحق جوده وكرمه أن يعمهم بالهدى؟ قيل: إنه قد عمهم من حيت قد أباحه لهم وقيضه، لكن لم يهتد به الكل، فإن هدايته لا يدركها إلا من جلى بصيرته، وشحذ فهمه ليعرفه، فيهتدي به، وقد قال بعض الصالحين: ما أكثر الهدى وأقل من يرى، ألا ترى أن نجوم المساء ما أكثرها، ولا يهتدي بها إلا العلماء؟
قوله - عز وجل -:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}

الآية (214) - سورة البقرة.
الزلزلة: شدة الحركة، وأصلها زل، ولزيادة المعنى زيد لفظه، وعلى هذا دل ودلدل، وما أشبهه به من المضعف مع الحرف المكرر بين تعالى أنه لا سبيل للناس كافة إلي الجنة إلا بتحمل المشاق، ولهذا

(1/442)


ولهذا قال عليه السلام:
" حفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات "، فخاطب هذه الأمة بأنه محال أن ترجو تحصيل الجنة إلا بما جرى به حكم الله في الذين سلفوا، وهو أن تنالكم البأساء أي الفقر، والضراء أي المصائب، والزلزلة أي المخاوف، وبذلك أثنى على المؤمنين فقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وليس ذلك في الأمور الإلهية فقط، بل في عامة الملاذ لا سبيل إلى منحة إلا بمنحة، ولا إلى لذة إلا بشدة.
ولهذا قيل: ولابْد دُون الشهدِ من أثرِ النحلِ.
وقوله: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}، قيل معناه: " حتى يقول الرسول والمؤمنون متى نصر الله " على سبيل الإبطاء، ثم تل تداركوا، وعادوا إلى معرفتهم، فقالوا: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [قيل ليس ذلك على سبيل التضجر، بل على سبيل الدعاء والتضرع إخباراً منه تعالى على سبيل الآية لهم على سبيل الحكم، وقيل تقديره وزلزلوا حتى يقول الأتباع متى نصر الله، ويقول الرسول " ألا إن نصر الله قريب "] فجمع بين قولهم، كقولك: قال زيد وعمر وكذا وكذا الشيئين أحدهما قاله زيد والآخر قاله عمرو، وقرئ: (حتى يقول) بالرفع والنصب، ولكل واحد وجهان فأحد وجهي النصب معناه: إلى أن، والثاني معناه: كي يقول، وأحد وجهي الرفع أن يكون الفعلين ماضيين نحو: " مشيت حتى أدخل البصرة "، أي مشيت فدخلت والثاني: أن يكون ما بعد حتى لم يمض نحو: " مرض حتى لا يرجونه ".

(1/443)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

قوله - عز وجل:

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الآية (215) - سورة البقرة
لما أثنى الله في غير موضع على المنفقين وحث على الإنفاق، نحو قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} سألوا عنه ههنا -،
إن قيل: ليس جوابهم طبقة لسؤالهم فإن سؤالهم عما ينفق، والجواب عمن ينفق عليه قيل: في ذلك جوابان، أحدهما أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ينفق؟ وعلى من ينفق؟ ولكن حذف في حكاية السؤال أحدهما إيجازا، ودل عليه الجواب بقوله: {مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء، فلفف أحد الجوابين في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة، والجواب الثاني أن السؤال ضربان سؤال جدل وحقه أن يطابقه جوابه لا زائدا عليه ولا ناقصاً عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أن يصير فيه كطبيب دقيق يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه طلبه المريض، أو لم يطلبه فلما كان حاجتهم إلي من ينفق عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق بين لهم الأمرين،
إن قيل: كيف خص هؤلاء النفر دون غيرهم؟
قيل: إنما ذكر من ذكر على سبيل المثال لمن ينفق عليهم لا على سبيل الحصر والاستيعاب، إذ أصناف المنفق عليهم على ما قد ذكرهم في غير هذا الموضع، ولما كان المندوب إلى الإنفاق عليهم صنفين صنف لهم فرض معين في مال الأغنياء، وصنف لا فرض لهم معيناً ذكر الأبوين والأقارب تنبيها أن حقهم واجب، وقوله: {مِنْ خَيْرٍ} أي من مال، فسمي المال خيرا تنبيها أن الذي يجوز إنفاقه هو الحلال الذي يتناوله اسم الخير، كما قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} ثم بين تعالي أن كل ما يفعلونه لا يخفى عليه على الوجه الذي يفعلونه، [تنبيها أنه يجازى به] نحو قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(1/444)


كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

قوله - عز وجل:

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الآبة (216) - سورة البقرة
الكره في الإنسان يستعمل على ضربين، أحدهما ما يعاف من حيث الطبع، والثاني ما يعاف من حيث الفعل وإن مال إليه الطبع، ولهذا يصح أن يوصف الشيء بأنه مراد مكروه، والكره والكره قيل هما واحد في معنى نحو الضعف والضعف وقيل بل الكره المشقة التي يحمل عليها الإنسان بإكراه، والكره ما يتحمله بلا إكراه، من غيره، وقيل للحرب كريهة ...
وعسى طمع وإشفاق، وقد يجري مجرى لعل، ويقال: هو عس بكذا، أي جدير، وأعس به، وسمي الإبل التي لا ألبان بها، وفيها طمع المعسيات من حيث أن يقال عسى أن يكون بها لبن والقتال المكتوب من حيث الظاهر مجاهدة الكفار، وقيل: عني مع ذلك مجاهدة النفس إلى الشهوة، وهي التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - الله " الجهاد الأكبر "، ونبه بقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا} بألطف وجه على أن ما كتب عليهم من القتال خير لهم بأوضح الأدلة وهي أنه إذا جاز أن يكون منكم كراهية لأمر وفيه الخير، فيجوز أن يكون كراهتكم لما كتب عليكم من القتال كذلك، وإذا جاز أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، فيجوز أن تكون محبتكم لما أحببتموه شراً، ثم نبه أن هذا الجائز كونه عندكم هو واجب كونه في نفسه بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أي إذا كان الله - عز وجل - يعلم وأنتم لا تعلمون، وقد قضي بأن ذلك خيرا، فإنما قضي به لأنه خير، وإذا كان خيرا فيحبب أن تحبوه، ولا تكرهوه، فالخير يجب إرادته، والشر يجب كراهته، وعلى نحوه دل قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}

(1/445)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

وإياه قصد الشاعر:
قضى الله في بعِض المكارهِ للفْتَىَ ...
برُشدٍ وقي يعضِ الهَوَى مَأ يُحَاذِرُ ..
قوله - عز وجل -:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

الآية (217) - سورة البقرة.
الصد ناحية الشعب، والوادي المانع للسالك وصده عن كذا، كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدأ يمنعه، والصديد ما حال بين الجلد واللحم من القيح والدم، وقد تقدم أن زل وزال يتقارب لما كان الزوال معناه للنفي ضم إليه (ما) النافية، فصارا معا للإثبات، ولهذا لا يصح أن يقال: (مازال زيد إلا خارجأ)، كما يقال: (ما كان إلا خارجاً)، والحبط فساد يلحق الماشية في بطونها من أكل الكلأ، واستعير لفساد العمل، والسائل على ذلك قيل أهل الشرك قصدا إلى تعبير المسلمين مما استجازوه من القتل في الشهر الحرام وقيل: هم أهل الإسلام.
إن قيل: ما فائدة ذكر الشهر ثم إبدال القتال منه ولم يقل: يسألونك عن قتال في الشهر؟ قيل: في ذكر الشهر أولاً، ثم إبدال القتال منه ولم يقل: (يسألونك عن قتال في الشهر) قيل: في ذكر الشهر أولاً بنية أن السؤال عن القتال لأجل الشهر لا لغيره، ولو قيل: (يسألونك عن قتال الشهر) لكان يصح أن يفيد أن الغرض في السؤال عن القتال لا لتعظيم الشهر، بل لشيء آخر، وعلى هذا إذا قيل: " سُرق

(1/446)


زيد ثوبه " تنبيها أن المقصد أن يذكر حال زيد، لا أن يخبر بسرقة ثوب ما ...
إن قيل: لم لم يقل: القتال فيه كبير، وشروط النكرة المذكورة إدا أعيد ذكرها أن يُعاد معرفاً نحو سألتني عن رجل، والرجل كذا وكذا؟ قيل: في ذكره منكرا تنبيه أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإن قتال النبي- عليه السلام- لأهل مكة لم يكن هذا حكمه، وقد قال: " أحلت لي ساعة من نهار).
وقوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} معطوف على قوله: {عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} فأعلم تعالى أن بعض القتال فيه كبير {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تنبيه أنه على الوجه الذي يفعله الكفار صد عن سبيل الله، أي عن دينه وعن نبيه، وأكثر منه عند الله وأعظم إخراج أهل المسجد [يعني].
والمؤمنين الذين هم أولياؤه، وعلى ذلك دل بقوله لهم: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ}، ثم بين أن النبي- عليه السلام- وأمته هم أولياؤه بقوله: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}، وفي ذلك تنبيه أن قتال المسلمين وقتلهم فيه ليس بكبير ولا صد سكن سبيل الله عز وجل، وبين أن الفتنة أكبر من القتل، وقد تقدم الكلام فيه، وأنه لا يرضيهم إلا ارتداء كم، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، ونبه بقوله: {إِنِ اسْتَطَاعُوا} أنهم لا يردونكم، لأنهم لا يستطيعون، وذلك نحو قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وعقب دلك بوعيد من يرتد، فمات على حالته، وإن أعماله المتقدمة المعمولة في سبب الدنيا والآخرة تبطل وتضمحل كما قال:
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}.

(1/447)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

قوله - عز وجل -:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

الآية (218) - سورة البقرة.
الهجر.
مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن أو بالنسيان والقلب، والهاجرة الساعة التي تمنع عن السير كأنها هجرت الناس بحرها، والهجار حبل يشد به الفحل، فيصير سبباً لهجرانه الإبل، وجعل بناؤه على بناء الآلات، كالعقال والزمام، والهجر: الكلام المهجور لقبحه، وقيل: هجر فلان إذا هدى عن قصد واهجر المريض إذا هذي عن غير قصد والجهد: تحمل المشقة ومجاهدة العدو ومقاومته ببذل الجهد، وجهدت رأيي واجتهدته أتعبته بالفكر والنظر، والرجاء الوقوف على رجاء الأمل، أي ناحيتها حيث ما يتردد بين الأمل واليأس لما بين الله تعالي وجوب المقابلة ونهى عن تضييع الشهر الحرام والمسجد الحرام.
وعن تهييج الفتنة نبه على فضل من هاجر وجاهد في سبيل الله محافظة على ذلك، فمن المفسرين من حمل المهاجرة على مهاجرة الأهل والولد، كهجرة النبي- عليه السلام- وأصحابه والمجاهدة على الغزو، ومنهم من قال: عنى ذلك هجران الشهوات، ومجاهدة الهوى كما روى: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) وقوله: (رجعتم من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر)، وقال في حجة الوداع: (المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، المهاجر من هجر الخطايا) وهذه المنازل الثلاث التي هي الإيمان والمهاجرة والجهاد هي المعنية بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

(1/448)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)

آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} ولا سبيل إلي المهاجرة إلا بعد الإيمان، ولا إلى الجهاد في سبيله إلا بعد هجران الشهوات، ومن وصل إلي ذلك فحق له أن يرجو رحمته،
إن قيل: الإنسان راج لرحمة الله وإن لم يبلغ هذه المنازل، قيل: إن الذي نسميه رجاء لن لم يبلغ مثل هذه المنازل، فهو تمن على الله المعني بقوله عليه السلام: " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى علي الله الأماني " أو رجاء لتفصيل غير مستحق، وما ذكره الله- عز وجل- هاهنا هو الرجاء المستحق الذي وصف به المؤمنين في غير موضع نحو قوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} ...
إن قيل: لم ذكر المؤمنين برجاء الرحمة وهي لهم لا محالة؟ قيل: المؤمن وإن بذل الجهد في طاعته، فواجب أن يكون بين نظرين، نظر إلى سعة رحمة الله عز وجل، ونظر إلى ما عسى أن يقع أو وقع منه من ذنب فينتج له خوفاً ...
قوله- عز وجل -:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}

الآية (219) - سورة البقرة.
الخمر: ستر الشيء وقال لما يستتر به خمار، لكن للخمار صار الخمار في التعارف لما تغطي به المرأة رأسها، واختمرت المرأة، وتخمرتُ، وخمرتُ الإناء غطيته، وكذلك خمرت العجين، وسميت الخميرة لكونها مخمورة، ودخل في خمار الناس أي في جماعتهم يسترونه، والخمار الموروث من الخمر جعل ماؤه ماء الأدواء، نحو الكباد، والصداع، وخامره الحزن إذا استولى عليه حتى سترفهمه وفكره، وبنحوه سوي غماً، وأصله من الستر، ومن الناس من جعل الخمر اسماً لدى مسكر، ومنهم من جعله

(1/449)


اسماً للمتحد من التمر والعنب، لقوله- عليه السلام-: " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة "، ومنهم من جعلها اسماً لما لم يكن مطبوخاً، ثم كمية الطبخ الذي يخرجها عن كونه خمراً مختلف فيها، والميسر آلة اليسر، أي الضرب بالقداح ويقال للضارب به ياسر، وسمي الجاذر، وذلك الجذور ياسراً تشبيهاً به، وأصله من اليسر، وهو ضد العسر، وسمي الغنى يسراً، وسمي ذلك يسراً لاعتقادهم أنه غني للفقراء وأشار الله- عز وجل- بقوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} إلى تحريمه إشارة لطيفة تحتاج في كشفها إلى مقدمة، وهي أن النفع ضربان، ديني ودنيوي، والدنيوي ضربان، نفع ضروري، ونفع غير ضروري، فالضروري كالأكل والجماع اللذين لو تصورناهما مرتفعين لارتفع بارتفاع الجماع نوع الحيوان، وبارتفاع اجل أشخاص الحيوان، ونفع غير ضروري، كالتنقل بعد الأكل وترك التحلل بعده، والخمر نفعها دنيوي غير ضروري، فإن نفعها تقوية الأبدان المسنة، وهضم طعام والمعاونة على الباءة والزيادة في الرطوبة والحرارة الغريزيتين، وليس ذلك بضروري ولا متحقق النفع فيه، وفيهما إثم
متحقق أو مظنون، والعقل يقتضي أن يتحاشى من الترام الإثم المظنون للنفع المتحقق الذي ليس بضروري، فكيف من النفع المظنون؟، ومن هذا الوجه صار الخمر فيما بين الأمم المتقدمة مترددة بين خمر، ودم، وإباحة، وحظر، وتركها عامة في العقول الراجحة لما أراد الله تبارك وتعالى تحريم الخمر على الناس لما رأى في ذلك من المصلحة، وعلم من غريزتهم التي غرزها عليها إن كثيراً منهم إذا ردع عما ألفه واستحسنه لا يكاد يرتدع ابتداء بتقبيح السكر في نفوسهم، ولكونه منافياً لذكر الله وعبادته،

(1/450)


فقال: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فلما رسخ ذلك في نفوسهم أنزل قوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، وكأن في هذا إشارة لا يعرفها إلا ذوو العقول الراجحة، فلما قوي ذلك في نفوسهم فال تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وعلى قريب من هذا الكلام في الميسر، لكن كان أمره أخف، ومن الناس من جعل كل ما فيه خطر ومقامرة ميسراً، ومنهم من قاسه عليه، وقد روي عن النبي- عليه السلام- " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله "، وقرئ: إثم كبير وكثير، فكبير لقوله تعالي: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية، وبقوله الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وعظيم وكبير متلازمان، ولأن جلهم قرأ: {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، ومن قرأ الكثير فنظر منه إلي ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة الخمر ومشتريها وبائعها: " لعن الله عشرة: مشتريها، وبائعها وعاصرها، والمعتصرة له، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها وشاربها، وآكل ثمنها .. ".

(1/451)


وقوله:
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} إن قيل؟ كيف أعيد السؤال عما ينفقون وجواب بين الجوابين؟
قيل: أما الأول: فسؤال عن الجنس الذي ينفق، وعمن ينفق عليه، فبين لهم الأمران، وأما السؤال هاهنا فعن القدر المنفق، فأجيبوا بحسبه، فبين أن الذي ينفق هو العفو، وقال ابن عباس: هو الفضل عن الغني، وهو الذي قال الشاعر:
أذا أنت أعطيت الغني ثم لم تجد ...
بفضل الغني ألفيت مالك حامد
وقال الحسن وعطاء:
هو القصد الذي لا إسراف فيه ولا إقتار، وقال مجاهد:
هو الصدقة المفروضة، وكل ذلك مراد، فإن أفل ما تطيب به نفس المسلم هو الصدقة الواجبة، ومن لم تطب نفسه فليس بتام الإيمان، ثم منهم من تطيب نفسه ببذل جل ماله، ومنهم من تطيب لكل ماله، كأبي بكر- رضي الله عنه- فإذن العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع، وقرئ (العفو) بالرفع والنصب، وذلك لتقديرين مختلفين في ماذا، فإن ماذا تارة تقدر تقدير اسم واحد، فيكون مفعول ينفقون يحق أنه المطابق له بالنصب، وتارة يقدر تقدير اسمين مبتدأ وخبر، فيكون جوابه المطابق له رفعاً أي: " هو العفو "، وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} فيه حث على تجنب الخمر والميسر، وتنبيه على تحريمهما، فإن في التفكر في الدنيا والآخرة معرفتهما ومعرفة منافعهما، وأن النفع القليل في الدنيا لا يجب أن يشترى بكثير الإثم في الآخرة ..

(1/452)


فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

قوله - عز وجل -:
{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

الآية (220) - سورة البقرة.
الخلط: الجمع بين أجزاء شينين، سواء " كانا مانعين، أو غير مانعين فهو أخص من المزج، يقال للصديق: الخلط، وهو دون الخليل، والخلاط وداء يخلط الجوف، وآفة تعتري العقل، والتخليط أن يخلط بالأمر ما يفسده، والإعنات من: عنت العظم عنتاً، أصابه وهي أوكسر، وقد أعنته، وكل ما يؤثم أو يشق عنت، ولما أكثر الله تعالى التحذير من مال اليتيم في نحو قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى}، وقوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآية، تحرجوا عن تناول ماله ومخالطته، فبين تعالي أن حق الإنسان أن يتحرى الصلاح له، وأن لا ضير في مخالطته أي مصاهرته.
وسائر أنواع المخالطة، وبين أنه أخوهم، وذلك إشارة إلى نحو قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وقوله: {بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، ونبه بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أن الله تعالى لا تخفى عليه مقاصد الإنسان فيما يفعله معهم، وبين بقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} أنه لم يقصد إعناتاً فيما أوصاهم به في هذه الآيات المختلفة ...

(1/453)


وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

قوله - عز وجل -:
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}

الآية (221) - سورة البقرة.
النكاح اسم للعقد، واستعير للجماع بدلالة أن عامة أسماء الجماع كنايات، وأنهم يتحاشون النكاح من التصريح بذكر الجماع، وآلاته، كما يتحاشون من إظهاره حتى سموا ذلك العضو " السوءة "، ولم يستعيروا اسم الجماع وآلاته إلا فيما يقصدون به سبعة، نحو: شَوَّرَبِهِ إذا خجله وجعله بحيث كأنه أبدى شواره، والشوار مع ذلك كناية للفرح، وبهذا يعلم أن النكاح وفي اللغة مستعار للجماع، والنهي عن نكاح المشركات عام فيمن ليس من أهل الكتابة ولم يدخل في ذلك أهل الكتاب لقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}،
فإن قيل: فقد قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، الآية، والنكاح يجب المودة لقوله: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، وقد نهانا عن مودتهم، فيجب أن لا نواصلهم!
قيل: المودة النهي عنها هي الدينية لا المودة النفعية أو الشهوية، فإنا إذا أوددناهم لنفع ما، فإنما نود النفع كمودتنا لذمي يعيننا على مدافعة المشركين، فقوله: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} عنى بها المودة الدينية،
فإن قيل: ما قلت يقتضي أن يجوز نكاح المشركات؟ قيل المشرك مادام مشركاً، فنفسه مباحة، والمشركة غير مالكة لنفسها، وفي قوله: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} إشارة مجملة إلى فضل العبد المؤمن على العبد المشرك وبيان فضيلته يحتاج إلى مقدمة، وهي أن الشيئين

(1/454)


إذا تشكك أيهما أفضل، أحدث كل واحد منهما مع ضد الآخر أنهما هو المؤثر، فحكمت له مثاله أن من شك في العلم والغنى أيهما أفضل؟ نقول: انظر هل الغنى مع الجهل أفضل؟ أم الفقر مع العلم؟ فإذا علمت أن الفقر مع العلم أفضل من الجهل مع الغنى علمت أن العلم أفضل من الغنى، فإذا ثبت ذلك، فالعبد هو الذي ملك منافعه مدة، والحر هو الذي لم يملك منافعه، والمؤمن هو المستحق للثواب الدائم، والمشرك هو المستحق للعقاب الدائم، فينظر هل من ملك منافعه مدة ثم أثبت دائما أفضل؟ أم من لم يستحق منافعه مدة وتعاقب دائماً؟ فإذا علمنا أن الأول خير، علمنا أن العبد المؤمن خير من الحر المشرك، ونبه بقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} أن الاعتبار بإعجابكم، فليس الإعجاب إلا من ثمرة الجهل بحقيقة الشيء والجهل لا يوجب حكماً، فإذن لا اعتبار بإعجابكم، ونبه - عز وجل - على تحريم مواصلة المشركين بقوله: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى الأفعال الوجبة للنار، وواجب اجتناب الداعي إلى النار الحامل عليها فواجب مجانبتهم إذن، وعلى هذا قال - عليه السلام - " لا تترائى ناراهما "، ثم قال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ}، والداعي إلى الجنة واجب إتباعه، وعلى هذا دل قوله - عز وجل - حكاية عمن أخبر عنه: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}، تدعونني وبإذنه، أي بعلمه وأمره وآياته وحججه ودلائله العقلية والشرعية من أنكم إذا فعلتم ذلك، فأنتم أهل لرجاء التذكر وحقيقة التذكر الاستدراك عن نسيان أو غفلة لما استثبته القلب ..
إن قيل: إلى أي شيء أشار بهذا التذكر؟
قيل: إن الله عز وجل - ركز فينا بالفطرة معرفته ومعرفة ألائه، والإنسان باستفادة العلم يتذكر ما ركز فيه، فهذا معنى التذكر وقال قوم: معرفة الله عز وجل، ومعرفة الآية تذكر، ومن دفع عن قلبه الأغشية بذكر ما قال الله عز وجل له ودل عليه بقوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قالوا: وقد عرفنا الطريق الذي به يتوصل إلى هذا التذكر بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ

(1/455)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فبين أنكم إذا فعلتم ذلك رجوتم تذكر هذه الحالة، وقد قيل: " الرجا من الله واجب "، بمعنى أنه إذا رجانا حقق رجاءنا، وهذه مسألة لا يمكن تصورها لمن يبلغها بتعاطي هذه الأفعال التي شرطه الله عز وجل - فلذلك لعلها صعب إدراكها لنا.
قوله - عز وجل:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}

الآية (222) - سورة البقرة.
المحيض: وقت الحيض وموضعه، وقد قيل: يقال للحيض محيض، على أن المصدر في هذا الباب يجئ على (مفعل)، نحو: معاش ومعاد، وقول الشاعر:
لا يستطيع بها الفراد مقيلا
فالأظهر أنه مكان وإن كان قد قيل هو مصدر، وقيل ما في ترك مكال ومكيل، أي كيل وهو أيضا محتمل، والحيض هو الدم الخارج من الرحم على وصف مخصوص في وقت مخصوص ويتعلق به منع الصلاة، والصوم، وحظر الجماع، وانقضاء العدة، واجتناب دخول المسجد ومس المصحف، وقراءة القرآن، وأن تصير المرأة به في الابتداء مكلفة، والاعتزال: العدول عن الشيء، وأصله من العزل، وهو صرف العامل عن عمله، ومنه قيل الأعزل للعازل عن الحرب لعدم السلاح، وللدابة المائل ذنبها والعزلاء تأنيث الأعزل، وشبه مخرج الماء إذا فتح عن فقد سلاحه، والسماك الأعزل سمي بذلك لافتقاده الكوكب الذي يصور بصورة الرمح للسماك الأخر ..
، والأذى: اسم لما ينال النفس منه

(1/456)


مكروه، ولهذا سمي الله تعالى الكلام المكروه أذى، فقال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} وما ينال الإنسان من مكروه المطر أذى في قوله تعالى: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ} ولما كان الناس في مجامعة المرأة في حال الحيض بين إفراط وتفريط فإن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجتمعوا معها في البيوت وبعض النصارى لم يتحاش من مجامعتها، فسئل - عليه السلام -، فقال تعالى: {هُوَ أَذًى} تنبيهاً أن العقل يقتضي تجنبه كأنه قيل: الحيض أذى وكل أذى يتحاشى منه والحيض يتحاشى منه، ولما كان الإنسان قد يتحمل الأذى ولا يراه محرما صرح بتحريمه بقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
إن قيل: فأي أذى هو؟
قيل: إما باعتبار مجرد الشرع، فإثم وإما بالاعتبار الطبي، فإن الدم الذي يخرجه الرحم يفسد البدن الذي منه الحيوان، ويكون له بخارات ممرضة لأبدان متشمميها يعرض للمرض ولما كان الاعتزال قولاً مشتركا ويكنى به عن العدول عنها عند الفراغ وعن مجانبة ذلك الموضع وعن مجانبتها رأسا، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} ليدل باللفظتين الكنايتين على مجانبة مباضعتها، وعلى جواز التمتع بها منها دون الفرج المدلول عليه بقول النبي - عليه السلام: " اصنعوا كل شيء إلا الجماع " ولما كان لفظ {يُطَهِّرَ} يقال فيما كان طاهرا بنفسه وفيما كان يتطهر، نبه بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أنه لم يرد إلا الطهارة عن تطهر وتؤكد ذلك قراءة من قرأ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فدل ذلك أن لا يصح

(1/457)


نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

وطؤها ما لم تغتسل، وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} دل أن ذلك شرط في إباحتها وأن لا يصح وطؤها إلا بانقطاع دمها، وقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى مراعاة كل ما أمر به من أحكام النكاح ومجانبة المحاشي، يعني الموضع المكروه وغير ذلك من الأمور التي أمر بها، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} تنبيها أن من كان منه شيء من ذلك، فحق عليه أن يتوب ويتطهر من بعد، والتطهر عام في استعمال الماء، وتطهر القلوب من الذنوب والتوبة اجتناب الذنب والتطهر عمل الصالحات، وجعل التوبة مقدمة على التطهير تنبيهاً أن اجتناب القاذورات مدرجة إلى فعل الخيرات، وعظم أمر المتطهرين حيث جعلهم محبوبيه، وروي خريم بن ساعدة قال: يا رسول الله: من الذين قال الله - عز وجل - فيهم {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}؟
فقال عليه السلام:
" نعم الرجل منهم خريم " ويدل على إرادة هذا المعنى بالتطهر قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}
قوله - عز وجل:

{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} سورة البقرة الآية (223) ..
الفرق بين الحرث والزرع أن الحرث إلقاء البذور وتهيئة الأرض، والزرع مراعاته وإنباته، ولهذا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فأثبت لهم الحرث، ونفى عنهم الزرع، وقد جعل الله تعالى النساء محترثا للرجل، وجعل له قوة النكاح حفظا للنسل، ولولا طلب

(1/458)


النسل لما رخص العقل في الجماع لما يجلب من ذبول البدن وإضعاف البصر، مع أنه ليس بضروري للإنسان كالجوع والعطش، لكن استحسن ما استحسن منه لطلب النسل المدعو إليه بقوله - عليه السلام: (تناكحوا تكثروا)، ولذلك قيل في الحكمة: " خير النساء الولود الولود، وشرها العقيم "،
وحرم إتيان الرجال على كل حال والنساء في محاشهن إذا لم يكن محرما ما سماه - عليه السلام - " اللواطة الصغرى " وقيل لأمير الآمؤنين: كيف ترى النساء يؤتين في أدبارهن؟ فقال: " سفلت سفل الله بك " ثم تلا قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}، وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيف وأين بعد أن لا يتجاوز به الحرث وأعاد لفظ الحرث، ولم يقل: فأتوه، ليراعى المعنى المقصود بذلك، لئلا يتوهم ما يتصوره قدم لم يتعمقوا النظر وإنما قال: " أنى " تنبيها على كذب اليهود حيث زعموا أن المرأة إذا لم تؤت مستقبلة يأتي الولد ذا خيل أي أحول وقوله عقيب ذلك: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ}، هو أن الله إذا أطلق أمرا من الشهوات الدنيوية لا يخلى ذكره من الحث على مراعاة العقبى والتقوى، لئلا يلحق الإنسان غفلة عما خلق لأجله وقول عطاء: هو التسمية عند الجماع، وقول ابن عباس: هو الطلب للولد على سبيل المثال لا أنه لم يرد سوى ذلك {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} أي صائرون إليه.
واللقاء يقال في المحسوس والمعقول يقال: لقى إثماً وجهداً، قال الله - عز وجل: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}.

(1/459)


وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

قوله - عز وجل:
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

الآية (224) - سورة البقرة.
اليمين أصله العضو، واستعير للحلف لما جرت به العادة في تصافح المتعاقدين، وعلى هذا قال الشاعرة:
قلت كفى لك رهن بالرضى ....
فوضع الكف موضع اليمين
والعرضة ما يجعل معترضاً بين شيئين، فيتصور تارة بالحائل فقيل معناه: لا تجعلوا لفظ الله مانعاً من أن تبروا وتتقوا، نحو: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} وذلك أنه كان أحدهم لا يبر، فإذا عوتب قال: حلفت، وعلى هذا قال الشاعر:
تسلف الجار شربا وهي حاتمة ....
ولا يبيت على أعناقهم قسم
ولأجل ذلك قال - عليه السلام:
" إذا حلف أحدكم على شيء، فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه "، وقد تصور العرضة بصورة المبتذل، نحو: (لا تجعليني عرضة للوائم)، ومعناه: لا تجعلوا لفظ الله مبتذلا لليمين، لأن تبروا، فيكون ذلك نهيا عن كثرة الحلف المذموم بقوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}
فإن قيل: وما تقدير " أن تبروا " على هذا؟ قيل: يجوز أن يكون متعلقاً باليمين، وتقديره: أن لا تبروا

(1/460)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

لأنك تقول، حلفت أن تخرج، فيحذف " لا " أمناً من الاشتباه في الإثبات، إذ في الإثبات، فقال: حلفت لأخرجن أو لأخرجن، وقال بعضهم: معناه: " نهاكم أن تكثروا الأيمان لأن تبروا "، أي إنما نهاكم عن ذلك لتكونوا بررة أتقياء مصلحين، كما قال:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، وقيل معناه: لا تجعلوا لفظ الله مبتذلاً لليمين لأن تبروا بالحلف به، وتتقوا المأثم وتصلحوا، والمعنى لا تبتذلوه لفعل الخيرات، فكيف للشر تنبيهاً أن الحلف بالله مكروه ما استغنى عنه، ونبه بقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أنه عارف بالمقاصد ...
قوله - عز وجل -:
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

الآية (225) - سورة البقرة.
اللغو: المطروح الذي لا يفيد من الكلام، يقال: ألغى في كلامه، ولغاً، وقد يقال في غيره تشبيهاً، كقول الشاعر:
كما ألغيتُ في الديةِ ألحواراَ
ويكني باللغو عن القبيح من الكلام، وأصله من لغي العصافير، واختلف في اللغو من اليمين، فقال ابن عباس: هو الحلف بالشيء يظن أنه صادق فيه وهو بخلافه، وقال ابن جبير: هو اليمين علي الحرام لا يؤاخذ الله بتركه، وقال: هو بغضهم اليمين التي يحنثو فيها صاحبها سهوا، ً وقالت عائشه:

(1/461)


وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قول الرجل: (لا والله) و (بلى والله) على سبيل العجلة لا على القصد،
وإليه ذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: لغو اليمين كالغموس في أنه لا تجب فيهما الكفارة، ولكن الغموس أن يحلف ويعلم أن الأمر خلافه، فيعظم معصيته واللغو أن لا يعلم، بل يظن فلا تقع المؤاخذة به، وقوله:
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو أعلم من قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وذاك أنه لما كان القلب يعبر به عن الجزء الذي به المعرفة والفكر ويجري من سائر أجزائه مجرى الراعي من المراعي، ونبه بقوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أن الاعتدال به دون غيره من الجوارح، حتى إن كل فعل لا يكون عنه وبه سهواً أو خطأ متجافى عنه، ولهذا قال- عليه السلام- " إن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد "، وقال: " إذا طاب قلب المرء طاب جسده "، وقال: " إن الله تعالى لا ينظر إلي صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلي قلوبكم وأعمالكم ".
والحلم وإن كان مناً هو إمساك القوة العصبية المقتضي للعفو، وهو إذا استعمل في الله لا يراد به إلا العفو عن المذنب دون حدوت حالة وتجدد أمر عليه- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

(1/462)