تفسير الراغب الأصفهاني

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

قوله - عز وجل -:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

سورة البقرة الآية (226) ..
التربص: انتظار مجئ وقت، يقال: تربصت به، وربصت به، قال الله- عز وجل: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}، وقيل في هذا الأمر ربصه، والفئ: الرجوع من مكان إلى مكان، ولم يسم من الظل فيأ إلا الراجع منه، وسمى العتمة فيألفيئه من قوم إلى قوم، وقول الشاعر:
أرى المالَ أفياءَ الظلالِ عشيةً
أي المال هو الفئ الذي هو بعض الظلال تنبيهاً علي ما قال الآخر:
إنما الدنيا كظل زائل.
واللإيلاء: الحلف المقتضي للتقصير في الأمر الذي يحلف عليه من قوله عز وجل: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}، {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} وصار الإيلاء في الشرع الحلف المانع من جماع المرأة، وهو أن الرجل كان إذا لم يرد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره، يحلف أن لا يجامعها، ويتركها كذلك، لا إيماً، ولا ذات بعل، فأراد الله أن يجعل لها مخرجهاً فحكم بهذه الآية، إلا أنه اختلف في أي لفظ من الأيمان يكون الإيلاء، وعلى أي وجه يعتبر ترك جماعها، وأي يمين من الإيلاء تلزم فيه الكفارة؟ وكم مدة الإيلاء؟ وما عزم الطلاق؟ وما ألفئ؟ ومن الذي لإيلأئه حكم؟ أي امرأة لها حكم

(1/463)


الإيلاء؟ أما أي يمين هو؟ فعند أبي حنيفة جميع الأيمان حلفاً بالله عز وجل، كان، أو طلاقاً أو عتاقاً أو نذراً، وبه قال الشافعي في الحدود، وقال مالك: " لا يكون مولياً إلا بالحلف بالله -عز وجل- "، وبه قال الشافعي في القديم، وروي عن ابن عباس أن كل يمين منعت من الجماع في فإيلاء، وأما على أي وجه يعتبر ترك جماعها، فعند علي وابن عباس والحسن وعطاء إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب، فأما إن لم يكن على ذلك نحو أن يحلف أن لا يجامعها في وقت إرضاعها الولد لئلا يضر بالولد، فلا يكون مولياً، وقال الحسن: " إذا حلف أن لا يجامعها في هذا البيت، ثم ترك جماعها أربعة أشهر فإيلاء "، وم ال ابن المسيب: " إذا حلف أن لا يكلمها فإيلاء أيضاً "، وقال ابن عمر: " إذا هجرها من غير يمين يكون مولياً "،، وأما أي يمين من الإيلاء يلزم فيه الكفارة، فهي كل يمين بالله- عز وجل- وأما المدة: فمنهم من قال: أكثر من أربعة أشهر أي قدر كان، لأنه جعل لها المطالبة بعد ذلك، ولأنه قال: {فَإِنْ فَاءُوا} ولم يحصل بعد المدة، وفي المدة، ومنهم من قال: أربعة أشهر فصاعداً، هو بعض الظلال تنبيهاً على ما قاله الأخر: وإن حلف على أقل من أربعة أشهر لا يكون مولياً وإن تركها أربعة أشهر على قول عامة الفقهاء، وقال ابن مسعود وقتادة: يكون وولياً، ولا خلاف أنه إذا لم يتركها أربعة أشهر لا يكون مولياً وأما عزم الطلاق، فعند عمر، وعثمان، وابن عباس، وابن مسعود أنه انقضاء الأربعة أشهر، وأنها تبين بتطليقه، وعند الشافعي أن للمرأة مطالبتها بعد الأربعة الأشهر، ويجب عليه أن حق أو يراجع ولا يستمهل أكثر من يوم، فإن طلقها تطليقة تكون رجعية، ولو عفت عن ذلك في الوقت، فلها أن تطلب بعد ذلك متى أرادت، وأما ألفئ فظاهره يقتضي الفئ بالقول، كالمراجعة إلا أنهم أجمعوا أنه إذا أمكنه لم يكن إلاً بالجماع، فأما إذا كان محجوباً أن محبوساً عنها، فقد قيل فيه بالقول، وأما من الذي لإيلائه حكم؟، فكل من صح طلاقه حراً كان أو عبداً مسلماًَ كان أو ذمياً حرة كانت تحبه أو أمة، وأبو حنيفة اعتبر بالمرأة كالطلاق، ومالك اعتبر بالرجل دونها، وقال بعض الفقهاء: الإيلاء لذمي، والآية تقتضي خلاف قوله: وأما أي امرأة لها حكم الإيلاء، فكل امرأة يصح طلاقها يصح الإيلاء منها، مسلمة كانت أو ذمية، حرة كانت أو أمة، صغيرة كانت أو كبيرة، لكن ليس للصغيرة المطالبة حتى يمكن مجامعتها وتأتي عليها المدة المضروبة و " من " في قوله:

(1/464)


وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

{مِنْ نِسَائِهِمْ} تعتبره الفقهاء أنه متعلق بقوله: {يُؤْلُونَ} حتى كثر في كلامهم " ألي فلان من امرأته "، كقولهم: " ظاهر منها "، وذلك غير ممتنع وإن كان قد ذكر بعض أهل اللغة أن تقدير الكلام: (لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر) ودل بقوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أن المولى في إيلائه مخطئ وإثم، وأنه يستحق العفو عما ارتكبه بفيئه ..
قوله- عز جل:

{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية: (227) - سورة البقرة.
دواعي الإنسان إلى الفعل على مراتب أولها السابح، ثم الخاطر، تم التخيل والتفكر فيه، ثم الإرادة، ثم الهمة، ثم العزم، فالهمة إجماع من النفس على الأمر وإزماع عليه، والعزم هو العقد على إمضائه، ولهذا قال- عز وجل- {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، ويقال: (مالفلان عزمه) أي عقد على إمضائه ...
ويقال: المعود عزائم تصوراً أنك قد عقدت على الشيطان أو الداء أن يمضي إراداتك فيما سميته، والطلاق: تخلية عن وثاق أو داء أو انقباض وإمساك، ومنه: " طلقت المرأة عند الولادة وبالتخليه عن الوثاق شبه الطلق في العدو، ورجل طلق الوجه وطلق اليدين، وأما عزيمة الطلاق، فقد تقدمت، ونبه تعالى بقوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أنه عارف بضميره ومقاله في إيلائه وتطليقه ...
قوله- عز وجل:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

سورة البقرة الآية (228) ...
قال الخليل: قرأت المرأة: رأت الدم، وأقرأت: حاضت، وصارت ذات قرء، والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر، ولما كان اسماً للأمرين الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل

(1/465)


واحد منهما، لأن عادة العرب أن كل اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة هي للخوان والطعام، وقد سمي كل واحد منهما بانفراده مائدة، وعلى ذلك الظعينة والكأس والراوية، فكذلك القرؤ، وليس هما اسماً للطهر مجرداً بدلالة أن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم، والنفساء لا يقال لهما ذلك، فقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}، أي ثلاثة دخول من الطهر في الحيض وليس حقيقة هذا إلا ما قاله الشافعي دون ما قاله غيره في أنها إذا رأت الدم ثلاث مرات، فقد انقضى عدتها، وجعل غيره حصول ثلاثة أطهار تتعقبها ثلاث حيض،
فإن قيل: قوله- عليه السلام: (دعي الصلاة أيام إقرائك) لم يرد أيام تجدد الحيض، وإنما أراد أيام الحيض كلها، قيل: ما قلته صحيح، وإنما ذلك كقولك: " فعل كذا أيام ورود فلان، ووروده إنما كان في ساعة، فكذلك قوله: " أيام إقرائك "، والحدث القليل ينسب إلى الزمن الطويل، وإن وقع ذلك في بعضه، وقول أهل اللغة أن القرء من قرءا إذا جمع، وقارئ هم اعتبروا الجمع ومن زمن الطهر وزمن الحيض لاجتماع الدم في الرحم فقط، ومنه القراءة، وهو ضم الحروف والكلمات بالخروج من بعضها إلى بعض، يدلك على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد يتفوه به قراءة، و " أقرأ النجم " إذا طلع واحد وغاب آخر، وصار القرؤ مستعاراً للوقت المنتظر، ومنه قال الشاعر:
إذا هبتْ لقارئها الرياحُ
أي لوقتها المنتظر المتعين.
وقال أخر:
يا رُبَّ ذي ضغنٍ على فارضٍ ....
لهُ قرؤٌ كقُرؤِ الحائضِ

(1/466)


أي انتظار للفرصة كانتظار ذات الحيض للحيض. . . وعير ابن داود الشافعي لما جمع بين القرؤ وقريت الماء في الحوض، وقال: ألم ير أن قريت من نبات التاء، وقرأت من الهمزة، وهذا سوء ظن منه وسوء تصور، فإن أهل اللغة طريقتان في هذين اللفظين أحدهما: أنه " قريت " مقلوب عن قرأت، واليا ما بدل من الهمزة، كسألت، وسلت، والثاني: أنهما لغتان تقارب معنياهما تقارب ألفاظهما، وأنهما تقتضيان معنى الجمع، والبعل: النخل السارب بعزوقه، وعبر به عن الزوج، لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وحيث هي بعلةُ، وقيل: باعلها كقولك: جامعها، وبعل الرجل إذا دهس، فأقام مكانه كالنخل ألدي لا يبرح، وبهذا النظر، قيل لمن لا يحول لكن مكانه ما هو إلا شجر أو حجر، والبعولة جمع بعل، كالذكورة، والفحولة، والعمومة، والخؤولة، والرجل بنى عن رجل تصوراً لسعيه بها، كما سميت المرأة قعيدة وعحوزاً لتمكن مقعدها وعجزها من الأرض ولذلك قال الشاعر:
أصبحت لا رجلاُ يغدُولمطلبهِ ....
ولا قعيدةَ بيتٍ تُحسنُ العْمَلاَ
وبهذا النظر سمي القوم قوماً لقيامهم بالأمور، والراجل الماشي لكونه ضارباً برجله الأرض كالسائف والرامح لمن يضرب بهما، وارتحل فلان كذا لما تناوله بسعيه مما لم يسبق إليه، وترحل النهار، كقولهم: " قام قائم الظهيرة "، والمرجل، القدر المنتصب على رجلها، وجعل بناؤه بناء الآلات والدرجة والمرقاة والمنزلة تستعار للمحال الشرفية، وذاك أن الشرف المعقول يمثل بالمحسوس على
وجهين، أحدهما يعتبر على طريق العلو والسفل، فتستعمل فيه الدرجة، والمرقاه، والصعود، والانحدار، والثاني على طريق التقدم والتأخر، فيستعمل فيه السبق والتخلف والمطلقات ضربان: مدخول بها، وغير مدخول بها ولا عدة عليها لقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، والمدخول بها عليها العدة،

(1/467)


وهي على ثلاثة أضرب:
الحوامل: وعدتهن أن يضعن حملهن، واليائسات، واللائي لم يحضن، وعدتهن ثلاثة أشهر، وذوات الحيض: وعدتهن ثلاثة أقرؤ، وهذا الحكم إذا كانت امرأة حرة فأما إذا كانت أمة فقرآن، وفي الشهور على النصف من الحرة ...
إن قيل: كيف استعير لفمظ الخبر للأمر في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ}؟ قيل: لما كانت العدة تحصل من الرأي بانقضاء الأيام، نوتها أو لم تنوها، أجدت أو لم تجد صار لفظ الخبر أملك له من لفظ الأمر، ويدلك على صحة هذا الاعتبار إتيان جميع العدد بلفظ الخبر وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ} عنى كتمان ما في أرحامهن من الحيض والحبل، وأنه لا يجوز أن تكون حاملاً، فتقول: ليست بحامل، أو لم تكن حاملاً، فتقول: أنا حامل، ولا أن تدعي الحيض أو تنفيه على ذلك، وذلك عام في كل ذلك، وإن مثل كل واحد من متقدمي المفسرين لشيء من ذلك، ومن قال: لا يجور أن يكون الحيض، لأن الحيض لم يخلق في الرحم، وإنما هو دم يرد إليه من جميع البدن، فعلى هذا قوله: {فِي أَرْحَامِهِنَّ} لا يكون من صلة خلق، بل يكون من صلة قوله (ولا يكتمن)، أي: لا يكتمن في أرحامهن ما خلق الله فإنه لا شك أن يحصل في الرحم خلق فيه أو لم يخلق، ونهيها عن كتمان ذلك دال على أن قولها مقبول فيما تدعي من حيضها وحملها فيما يتعلق بحقها، فإن تعلق بذلك شي، ليس من حقها، فيجور أن لا يقبل إذا اتهمت، كمن يقول: " عبدي حر " أو " امرأته طالق إن حاضت "، فقالت: " قد حضت، فمتى لم يصدقها لم يعتق عبده ولم يطلق امرأته، وقوله: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، فليس ذلك شرطاً في أنهن إذا لم يكن مؤمنات، يجوز أن يكتمن، وإنما ذلك تنبيه أنه مناف للإيمان، وأنه ليس من فعل المؤمن، كقوله: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} دال عي بينة مراجعتها ما دامت معتدة، ولم يعن بالرد تجديد نكاح يشارك فيه غيره في الحال، وإنما عنى الرجعة الموجبة لبقاء النكاح بلد انقضاء الحيض التي إذا لم تكن لكان يزول النكاح، وظاهر الآية أن إباحة هذه الرجعة شريطة الإصلاح، لكن لا خلاف أنه

(1/468)


إذا راجعهما مضاراً بها، فرجعته صحيحة، فدل هدا الإجماع أن ذلك تهديد للمراجع أن لا يقصد الإضرار بها، كقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}، ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} تنبيها أن فاعل ذلك ظالم، وأن الرجعة في الحكم صحيحة، وقيل: تسمية (بعلاً) دلالة أن ما دون الثالثة من الطلاق لا يرفع الزوجية، وأن الرجعة مادامت معتدة وقوله: (والمطلقات) عامة في الرجعية وغير الرجعية، (وبعولتهن) خاص في الرجعية، بدلالة التي تتلوها، وليس قول من قال هذه الآية نسخ منها حكم الحامل، ومن ليست بذات حيض بشيء فإن ذلك تخصيص لا نسخ، وإن كان قد سماه بعض القدماء نسخاً وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} يتبين أن لكل واحد على الآخر حقاً كحق الآخر، فمما تشاركا فيه مراعاتهما للمعنى الذي شرع لأجله النكاح وهو طلب النسل، وتربية الولد، ومعاشرة كل واحد منهما للآخر بالمعروف وحفظ المنزل، وتدبير ما فيه وسياسة ما تحت أيديهما، حماية كل واحد على الآخر بقدر جهده وحده، وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ} هو من وجه تنبيه لفضل الرجل على المرأة بالجملة، ومن وجه كالاستثناء بأن له عليها حقا، ليس لها عليه، أما فضله عليها، فقد نبه علبه بقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ودل عليه النبي- عليه السلام بقوله: " إنكن ناقصات الدين والعقول " فقيل: وما نقصان دينهن، فقال: إن إحداهن تقعد

(1/469)


نصف دهرها لا تصلي، ونقصان عقلهن أن شهادتها على النصف من شهادة الرجل، وقيل: من نقصها أن شر ما في الرجال الجبن والبخل، وهما خير ما في النساء، ولكونهن ناقصات عظم الله نسبة البنات إليه أكثر كما تعظيمه نسبة الابن، وإلا كانا منكرين، فقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى}، وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}، وقال: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، وقال: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}، وعظم تعالي نسبة الملائكة إلى الأنوثة، فقال: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}.
ولكن الأنوثية نقص جعل القوه الانفعالية أنثى، والقوة الفاعلة ذكر حتى شبهوا السماء بالفحل والأرض باللقوحة، وقالوا حديد ذكر، وحديد أنثى، وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا}، أي أصناماً مفعولة غير فاعله، وأما فضل حقوقه عليها، فقيل: عشرة أشياء جعل الطلاق إليه من دونها، وإباحة ضربها عند النشوز، أو هجران فراشها، ووجوب إجابتها إياه دعاها إلى الفراش، والائتمار له إذا نهاها عن الخروج، وأن ميراثه منها أكثر من ميراثها منه، وأنه إذا قذفها فله إسقاط الحد باللعان، وليس لها ذلك وأن له أن يجمع بينها وبين غيرها، وليس لها أن تجمع بينه وبين غيرة، وليس لها أن تصوم تطوعاً ولا أن تحج فرضاً إلا بإذنه، وله ذلك من دون إذنها.
وإلى وهذه الجملة أشار بقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ونبه بقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أنه يحكم بكل ما يشاء، فلا يغالب لعزة، ويتقن كل ما يفعله فيصيب بحكمته، وفيه وعد وإبعاد على مجازاتهما فيما يتحريانه من صلاح وفساد ..

(1/470)


الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

قوله - عز وجل -:
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}

الآية (229) - سورة البقرة.
المرة: فعلة من مر يمر مراً، ومروراً، فعبر بها لكن الفعلة، وإمرار الحبل إرساله في الفتل حتى يمر مراً، ومر الشيء صار مرا أصله من الأول، وهو فيما لا يطيب أكله، كساع فيما يطيب، وهما للذهاب، والمر الذي يعمل به استعارة، والإمساك أصله من المسك وتصور منه إمساكاً للبدن، ولما يجعل فيه بعد السلخ فقيل: (أمسكت كذا) أي ضبطته ضبط ما المسك لما فيه، وكنى بالمسك
عن البخيل، والتسريج كالتطليق في أنه من: برحت الماشية، كما أن الطلاق من: " أطلقت البعير، والمعروف مالا تنكره العقول الصحيحة، وسمي الجود معروفاً لمعرفة العقول كلها حسنه.
وعلى هذا قال الشاعر:
ولمْ أر كالمعْروُفِ أما مذاقُةُ ...
فحلوٌ وأما وجهُهُ فجميلُ
وقيل: الخوف هاهنا: الظن، وقيل: اليقينُ، واحتج بقول الشاعر:
ولا تدُفنني بالفلاة فإننٍي ...
أخافُ إذا مامتُّ ألاً أذوقهاً

(1/471)


وذلك نظر من المفسر إلى مقتضى الخوف، فقد يكون الخوف عن أمارة ضعيفة تقتضي الظن، وعن أمارة قوية تقتضي اليقين، فقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ليس ذلك للجنس متناولاً لكل طلاق، بل هو إشارة إلى الطلاق المتقدم ذكره الذي قال فيه:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}، فبين أن ذلك الطلاق الذي فيه المراجعة مرتان، وأصله الطلاق مرتين، نحو الخروج مرتين، ثم رفع كقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وبقول: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} منهم من حمله على الطلقة الثالثة، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعضهم سمع الآية، فقال: فأين الثالثة؟ فقال- عليه السلام: " التسريح بإحسان.
ومنهم من حمل ذلك على ترك الرجعة " والصحيح أنه محمول عليها، لأنه يكون بالرجعة ممسكاً لها، ويتركها حتى تنقضي عدتها، أو بتطليقها الطلقة الثالثة يكون سرحاً لها، لكن لما كان اللفظ متردداً بين الأمرين بين من بعد حكمها إذا طلقها ثالثة بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.
إن قيل: كيف جعل الإمساك هاهنا الرجعة؟ قيل: لأنه ضد الطلاق، وقد كان الطلاق موجباً للفرقة بعد مضي ثلاث حيض، فسمي الرجعة إمساكاً لبقاء النكاح به.
إن قيل: كيف علق التسريح بالإحسان؟ وهل بينه وبين المعروف فرق؟
قيل: الإحسان أعم معنى من المعروف، لأن الشيء قد يكون معروفاً، أي غير منكر، ولا يكون

(1/472)


مستحسنا، فكل إحسان معروف، وليس كل معروف إحسانا، فبين أن من حق المسرح أن يبذل ما يزيد على الإنصاف تنزهاً، وذلك على حسب ما كانوا يراعون في بذل مصارف المعروف لمن يرتحل عنهم، وكما بين أن له الرجعة في تطليقتين، بين بقوله: (فإن طلقها) أن لا رجعة بعد الثالثة، فإن ما زاد علي الثالثة من الطلاق لا حكم له بوجه، فقد كانت العرب تطلق مرة بعد أخرى ما شاءت، وتراجع قبل انقضاء العدة، فأبطل تعالى ذلك، وفي الآية دلالة أن له أن يطلق مرتين في طهر واحد من حيث أنه لم يفصل، ودلالة أن الطلاق في الحيض يقع، وذلك قال عليه السلام- لأبن عمر لما قال: أرأيت لو طلقها ثلاثاً؟ قال: " أذن بانت منك امرأتك، عصيت ربك "، وأجمع فقهاء الأمصار أن قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إذا لم يكن الزوجان مملوكين، واتفقوا أن الرق يوجب نقصان الطلاق، لكن اعتبر أبو حنيفة الطلاق بالنساء، وهو قول علي والشافعي، واعتبر بالرجال، وهو قول عثمان وزيد، وإليه ذهب مالك، وقوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} فلا خلاف أنها إذا سمحت بشيء من مهرها للزوج فسائغ، لقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ}، فأما إذا كان على وجه الخلع، فلا يجوز إلا على وجه دون وجه، واختلفوا متى يجوز مخالعتها؟ وكم قدر المال الذي به يجوز؟، وعند من يجوز؟
فذهب بعضهم إلى أنه يكره الخلع مع سلامة الحال، لأن الطلاق مكروه إذا توفرت المرأة على ما يلزم من حكم الزوجية لقوله- عليه السلام: " أبغض الحلال إلي الله الطلاق " هذا مع إمكان المراجعة والخلع الذي ترتفع المراجعة معه أولى بأن يكره، وإن خافا ألاً يقيما حدود الله جاز بلا خلاف لظاهر الآية، وإن خافت ولم يخف الزوج، فيجوز إلاً عند أهل الظاهر، وعلى ذلك دل شأن امرأة

(1/473)


ثابت بن قيس لما كرهت الزوج، فأمرها- عليه السلام- أن ترد إلي حذيقة ما كان قد مهرها، وقال الحسن: لا يجوز حتى تقول المرأة: لا أغتسل عنك، ولا أقربك، ونحو ذلك ...
وقال إبراهيم: " لا يجوز حتى تعصيه ولا تبر يمينه وإن خاف هو ولم يخف ولم يرها على فاحشه "، لا يحل له أخذ شيء منها بالمخالعة لقوله- عز وجل:
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} الآية.
وذلك في الحكم سائغ وإن كان منهياً عنه، وعند مالك يرد إليها مالها، وقال الأوزاعي؟: " إذا خالع امرأته وهي مريضة، فإن ما تبدله في ثلثها إن كانت ناشزة، وإن لم يكن ناشزة رد عليها، وكان له عليها الرجعة، فأما القدر الذي يخالع عليه " فمنهم من قال: لا يجوز إلاً بأقل من الهر المسمي لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا}، وذلك يقتضي التبعيض، وقال علي والحسن وابن المسيب وطاوس وابن جبير: لا يجوز بأكثر مما أعطاها لما روي أن رجلاً خاصم امرأته إلى النبي- عليه السلام، فقال: تردي إليه ما أخذت منه؟ قالت: نعم وزيادة، فقال عليه السلام: أما الزيادة فلا ..
، ومنهم من أجاز بأكثر من ذلك، وهو الأظهر، وأما عند من يجور، فإن الحسن وابن سيرين قالا: لا يجوز إلا عند السلطان، وقال فقهاء الأمصار: يجوز، لأن ظاهر الآية لم يعرف، ومن قرأ (تخافا)، فخطاب لهما، لأنهما أعرف بأحوالهما من غيرهما هل يقيمان أو لا يقيمان؟
فإذا قرئ (تخافا) (3) على ما لم يسم فاعله، فالخطاب للحاكم، والمفتي بأن لا يحل أن يحكم للزوج

(1/474)


فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

بالأخذ إلا إذا عرفوا ذلك منهما، والقراءة الأولى أجود، لأن هذا المعنى استفيد من قوله: (فإن خفتم) ..
إن قيل: لم رفع الجناح عنهما وذلك يجب أن يرفع عن الزوج الذي يأخده؟ قيل: لأن من الدفع ما يؤثم الأخذ والدافع كالربا، ومنه ما يؤثم أحدهما، فبين أن الجناح مرفوع عنهما، وليس ما قال الفراء أنه لا جناح على أحدهما، فنسب إليهما، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ} بشيء، وذكر أن كل ما بينه حدود الله، ولا يجوز تعديها، فإن من تعداها ظالم يستحق ما يستحقه ..
قوله- عز وجل:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}

الآية (230) - سورة البقرة.
هذا الحكم متعلق بقوله: (الطلاق مرتان)، وقدم فصل بينهما بحكم الخلع وكيفية جوازه، فلما فرغ منه رجع إلى حكم الطلاق، فقال: (فإن طلقها) أي بعد الثنتين فلا تحل له أو لا يجوز أن يتزوج بها حتى تنكح زوجاً غيره، وبين أن ليس للإنسان أكثر من ثلاث تطليقات، والنكاح الذي يحلها للزوج الأول ظاهره يقتضي العقد، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وأهل الظاهر، لكن قد ورد عن النبي -عليه السلام- ما اقتضي معه الوطء حيث قال: " حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك "، وقيل: حكمة الله
- عز وجل- في تحريمها عليه إلاً بعد أن يتزوج زوجة أخر الردع إلى التسرع في الطلاق، ولهذا دعا أن يتأنى في تطبيقها، فيطلقها للعدة طلقة بعد طلقة، ونبه على ذلك بقوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}.

(1/475)


ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني الزوج الثاني، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، أي لا جناح أن يتزوج بها على شرط أن يظن أن يقيم حدود الله، وعلق بالظن، لأن ما يكون من الإنسان في المستقبل من الممكنات لا سبيل إلى معرفته إلا بالظن، وليس شرطاً في صحة النكاح، بل في إباحته ورفع المآثم، لأن العقد صحيح، فإن ظنا أن لا يقيما حدود الله، وبين أن تلك الحدود بينها لقوم يعلمون- تنبيهاً أنهم هم الذين يتبينونها، لقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}.
قوله - عز وجل -:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
الآية (213) - سورة البقرة.
هذه الآية ظاهرها إعادة حكم ما تقدم، وأنه يجوز مراجعتها بعد انقضاء العدة، وقد فسرت تفسيرين، أحدهما أن الأولى حكم بجواز الرجعة بعد التطليقة والتطليقتين، وتحريم الرجعة بعد الثالثة، وهذه تقتضي جواز رجعتها ما دامت في العده لا عن الطلاق الثالث، وفيه زيادة حكم وإن كانت تقتضي بعض ما أفادت الأولى، وهي ذكر معها من الأحكام، وقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، مشكل، لأن المراجعة ثابتة قبل انقضاء العدة، وظاهر هدا يقتضي أن المراجعة بعد انقضاء العدة، ووجه ذلك أن الأجل هاهنا زمان العدة لإتمام العدة، وأيضاً، فإنه يقال إدا فعلت كذا ويعني إذا خصت لا إذا فرغت منه، نحو: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، فقوله: فبلغن أي: حضن في زمان بلوغ الأجل، وأيضاً فقولهم: (بلغ) يقال لما شارف وإن لم ينته، فيقول: إذا طلبتم وشارفن الأجل، فأمسكوهن،
إن قيل: ولم خص المشارفة، وقيل المشارفة هذا حكمه، قيل: لما كانوا يطلقون المرأة فيتركونها حتى تشارف، انقضاء

(1/476)


العدة، ثم يراجعونها إضرارا بها، خص ذلك بالذكر، والثاني من التفسيرين أن الآية فيمن طلق امرأته تطليقة، وتركها حتى تنقضي عدتها، ثم يريد التزوج بها، وزاد أنه ذكر فيما قبل حكم الخلع، وحكم ما تصح مراجعته، وما لا تصح، وما يحتاج أن يتعاطاه المراجع، وذكر في هذه الآية حكم المطلقة تطليقة وقد انقضت عدتها، فقال: إذا طلقتم تطليقه، {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، أي انقضت عدتها، فأمسكوهن أي تزوجوا بهن على حكم الله أو اتركوهن على حكمه ..
إن قيل: كيف يصح أن يعبر لكن التزويج بالإمساك؟ قيل: إنما استعمل الإمساك في هذا للتزوج، لأنه كان بعد أن كانت تحته، وقبل أن يملكها غيره، فقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} تنبيهاً على هذا المعنى، أو {سَرِّحُوهُنَّ}، أي أفرجوا عنها، ولا تخطبوها، قال: والذي يدل على هذه الآية التي بعدهما، فإنها نزلت فيمن خطب امرأة كان قد طلقها تطليقها، فانقضت عدتها، فمنعت إياه، فأوصى تعالى الخاطب في هذه أنه إن أراد أن يمسمكها بإعادة نكاحها، فليستعمل المعروف، وإلا فليحلها، وجل المفيرين على المعنى الأول،
إن قيل: لم علق التسريح هاهنا بمعروف وفي الأول بإحسان؟ قيل: إنه لا أعيد ذكر الرجعة علق التسريح بالمعروف تنبيها أنه إن لم تراعوا في تسريحها الإحسان، فراعوا فيه المعروف، كما قال بعض الناس لسلطان: " إن لم تحسن فعلاً "، وقوله: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ} قيل: معناه: لا تهزوا بها، ولا تحسبوها عبثاً، نحو: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}، وقيل: معناه: لا تعملوا بخلافها، فتكونوا كالهازئين بها، وقال أبو الدرداء: " كان في أول الإسلام يطلقون ويعتقون، ثم يقولون: كنا نلعب "، والإشارة بالآية إليه، وقال عليه السلام- " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد النكاح، والطلاق، والعتاق " وحث على معرفة نعمه وما أنعم عليهم بالكتاب والحكمة ..
إن قيل: كيف أفرد الكتاب والحكمة عن النعمة وهي أفضل النعم وأجلها؟ قيل: لأمرين، أحدهما: أن النعمة في تعارف الخاصة والعامة هي كثرة في المال، وصحة في البدن وسائر الزين الدنيوية، ولا يعرف الكتاب والحكمة نعمه إلا أولوا الألباب، والثاني: أفردهما التخصيص والتفصيل كإفراد جبريل وميكائيل عن الملائكة.

(1/477)


وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

قوله - عز وجل -:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

الآية (232) - سورة البقرة.
العضل المنع مع.
تضييق، يقال: عضلت الدجاجة بيضها، والمرأة بولدها، وعلى طريق الاستعارة قال:
ترى الأرض منِا بالفضاءِ مريضةَ ...
معُضلةً منا بجمعٍ عرمْرمِ
ومنه: داء عضالٌ،
والعضلة الدامية، والعضلة لحم مكتنز في عصب، وبلوغ الأجل هاهنا لاستيفاء العدة ولما بين تعالى بالآيات المتقدمة ما يجب على كل واحد من الزوجين لصاحبه في النكاح، وعند المراجعة والفدية والفراق والطلاق عدل إلى بيان ما يلزم الولي، وما يحرم عليه في تزويجها وإنكاحها، وقيل: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} خطاب للأختين، وعضلها أن يراجعها إضراراً بها، والصحيح أنه خطاب للأولياء، بدلالة ما روي: أن الآية نزلت في معقل بن يسار وكانت أخته تحب ابن عم له، فطلقها طلقة فلما انقضت عدتها خطبها، وهي تريد أن ترجع إليه، فقال معقل: والله لا أزوجها أبدا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعاه النبي- عليه السلام، فتلاها عليها فقال: " سمعاً لربي وطاعة " والحكم الوارد في سبب

(1/478)


لا يصح أن يكون السب خارجاً عنه وإن أريد معه غيره، واختلف في هدا العضل، فعند الشافعي لما كان نكاح امرأة بكراً كانت أو ثيباً لا يصح إلا بالولي، صار في منعها عن أكفائها، وعند أبي حنيفة لما كان يصح للثيب أن تتزوج بنفسها، صار في الاعتراض علتها في سبب المهر والكفاءة، قال: والآية تدل أن لها التزوج بنفسها، لأنه قال: {أَنْ يَنْكِحْنَ} فنسب النكاح إليهن، وقال أصحاب الشافعي: إنما نسب إليها، لأنه لا يصح إلا برضاها، وكل من لا يتم الفعل من دونه، يصح أن ينسب ذلك الفعل إليه،
وأما المعروف المتراضي به في قوله تعالي: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} فعام في كل ما يرجع إلى العقد، لقدر الهر وما يظهر من الرعية وخلافها، وما يعاون الزوجية مما صححها، وفي كل ما يرجع إلي حقوق الزوجية، فألزم الولي أن لا يعضلها إذا تراضوا بما هو معروف، وقوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} فخص المؤمنين بالوعظ، وهو أنه يريد حصول الاتعاظ، وليس ذلك إلا للمؤمنين، وقوله: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} زكاة الإنسان وطهارته في حقيقة كونه بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة عظيم المثوبة، وأن يصلح في الآخرة لمجاورة الله الأعلى بل مجاورة الله- عز وجل - ولهذا قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}، وجعل تعالى الدلالة على أن ذلك أزكى وأطهر أنه قد حكم بذلك وهو عالم بالأشياء كلها وأنتم غير عالمين بها، فإذا علم وحكم فحق عليكم أن تقبلوا منه حكمه،
إن قيل: لم قال: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} ثم قال: {ذَلِكُمْ أَزْكَى}؟
قيل: في ذلك أجوبة ..
أحدها:
أن كاف الخطاب مع (ذا) تارة تفيد الخطاب، فيراعى فيه المخاطبون فيثني، ويجمع، ويؤنث بحسبهم، وتارة يعتبر به الفرق بين القريب والبعيد، فليقال: (ذا) لما يتصور قريبا، و (ذاك) لما يتصور بعيدا، فلا يثنى ولا يجمع، فعلى هذا؟ (ذلك)، و (ذلكم).

(1/479)


وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

والثاني أن الكاف الأولى خطاب للنبي- عليه السلام، والثانية للكافة، وعلى هذا قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وفائدة ذلك أن قوله: (ذلك) إشارة إلى حقائق ما تقدم، ولا يكاد يتصوره إلا هو- عليه السلام-، ومن يدانيه من أولياء الله عز وجل-، وذلك إشارة إلى العمل، والعمل به يتشارك فيه كافة المسلمين، والثالث: أن خطاب الجمع تارة يعتبر بلفظ مفرد، فيفرد خطابهم نحو بهذا القبيل: " فعلتُ كذا "، وتارة يعتبر معنى الجمع، فيقال: فعلتم فعلى هذا، لو قيل في الأول: (ذلكم)، وفي الثاني (ذلك) لصح، أو قيلا بلفظ واحد لصح.
قوله - عز وجل -:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

الآية (233) - سورة البقرة.
الرضاع أصل، وعنه استعير " لئيم راضع " لمن تنامي لؤمه وإن كان ذلك في الأصل ممن كان يرضع غنمه، لئلا يسمع صوت شخبة، لكن تعورف في اللؤم، حتى قيل: " رضع فلان أي لؤم "، وسمي الثنيتان الراضعتين، لاستعانة الصبي بهما في الرضع، (وكسوتهن) عن الكسوة استعير: اكتست الأرض بالنبات، وكسوته ثناء أو هجاء، وصار الكساء لضرب مخصوص من الثبات.
والتكليف أصله فيما جعلت به الإنسان كلفاً، وصار في التعارف لما ألزمته وأكلفته بكذا جعلته كلفاً به، والكلف بالوجه لتصوره كلفه به، والميراث أصله فيما أصبته من غيره حيا كان الموروث منه أو ميتا، لكن صار في التعارف اسماً لا يخلفه الميت من المال، والفصل ضد الوصل كالفضل، واستعماله في قطع الرطب من النبات، ومنه الفضيل، يقال: فصلت بين الكلام والعقد، وفي القضاء، وسمي الفطام فصالاً للفصل

(1/480)


بين غذائي الصبي، وتعورف الفصل في السقب والتشاور لاستخراج الرأي من الغير، من شرت العسل، (وشورت الفرس) استخرجت جربه وأشرت إليه بكذا، أي أخرجته بالإيماء من بين ما يشاكله، وسمي الإصبع مشيرة، لكونها ذات إشارة كما سميت مسبحة وسبابه، وسميت السنة حولأ، لانقلابها في فصولها وشهورها، ودوران الشمس في مطالعها ومغاديها، وذكر جماعة من الفقهاء أن قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} أمر وإن كان لفظه خبراً، لأنه لو كان خبراً لم يقع مخبره بخلافه، وهذه قضية إنما تصح في كل خبر لفظه لا يحتمل التخصيص، فأما إذا كان عاما يمكن أن يخصص على وجه يخرج من كونه كذباً، فادعاء ذلك فيه ليس بواجب، وهذه الآية مما يمكن ذلك فيه، ثم ذلك لو كان أمرا لكان أمراً للوالدات، وقد علم أن الأم وإن لم تكن مكلفة فهي أحق برضاعها،
فإن قيل: فإذا لم يكن أمرا فما وجهه؟
قيل أخبر الله تعالى أن حكم الله في ذلك أن الوالدات أحق بإرضاع أولادهن سواء كانت في حبالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة، لا من خصائص الزوجية، ولهذا قال عليه السلام: في الأمر إنها أحق بالولد ما لم تتزوج، وإنما ذكر (كاملين) لأنه قد يقال: " فلان فعل كذا سنتين " وإن كان ذلك في سنة وبعض الأخرى، وكذا يقال: شهرين ويومين، فأريد إزالة هذه الشبهة، وقال الفقهاء: لما جعل الرضاع حولين وقال في موضع: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}، نبه على أن الولد قد يولد لستة أشهر، وفيه تنبيه على لطيفة، وهو أن الولد متى كان زمان حمله وفاصله أقل ثلاثين شهرا أضر ذلك به، فإذا ولد لسبعة أشهر لم يضره أن ينقص رضاعه عن الحولين، وجعل ابن عباس ذلك حكما شرعياً، وقال: يجب أن يكون الحمل والرضاع هذا القدر، وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي هذا التوقيت ليس بفرض، لكن لمن أراد إتمام الرضاعة، وفيه تنبيه أنه لا
يجوز تجاوز ذلك وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين ويقويه ما روي جابر أنه قال عليه السلام:

(1/481)


" لا رضاع بعد المولين " وعلى هذا يحمل قوله: " الرضاعة من المجاعة " ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر، كخيار الثلث وعدد حجارة الاستنجاء، والمسح على الخفين يوماً وليلة أو ثلاثة أيام، فلما كان الرضاع يجوز الإخلال به في أحد الطرفين، وهو النقصان لم تجز مجاوزته، وقوله: (وعلى المولود له .. )، أي الأب، وفائدة تخصيصه بهذا الوصف دون لفظ الأب تنبيه أن الابن في الحكم للأب، وأن حظ الأم فيه يقل وعلى ذلك دل الشاعر:
وإنما أمهات الناس أوعية ...
مستودعات وللأحساب أباء
وبين تعالى أن رزق المرأة المرضعة، أي طعامها وكسوتها على الأب إذا أرضعته زوجة كانت أو مطلقة، وفيه تنبيه أن سائر نفقة الولد، على الأب لكن أجمعو أن الولد إذا كان له كفاية، فللأب أن لا ينفق عليه، وقوله: بالمعروف تنبيه، على أن النفقة بقدر اليسار والإعسار، وجعل ذلك مؤولا إليهم وإلى الحكام، ولم نجد فيه حدا لاختلاف الناس بقدر الأزمنة والأمكنة والسن وأكد ذلك بقوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} فلم يسم الفاعل، وقال في أخرى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} قيل: هذا التكليف فيه مدخل للحكام، ولغيرهم فجعل لفظه منهما في موضع، ومعناه لا يجوز تكليفه إلا وسعه، وقوله: {لَا تُضَارَّ} حمل على الجبر، وعلى الأمر، فأما إذا حمل على الجبر فهو تنبيه على ما بني

(1/482)


تعالى عليه الغرائز في محبة الأبوين للولد وميلهما إليه وإيثارهما له على أنفسهما، وليس ذلك في الإنسان فقط، بل في عامة الحيوانات، وذلك متقرر في النفوس حتى زعم الناس أن الهرة تأكل ولدها محبة لهم، فأخبر تعالى عما بني الطباع عليه تنبيهاً لكل واحد من الأبوين أن لا يتهم الأخر في ولده إذ قد يبلغ من شغف كل واحد منهما أن لا يأمن الأخر عليه وعدم نفقة الأم لفرط شفقتها على شفقة الأب، وذلك بالعلات ظاهر ثم باعتبار حال الحيوان يظهر ذلك ظهورا بينا وذلك أن الحيوانات المتوالدات على ضربين، ضرب يجتمع الأبوان على تفقد الولد وضرب تنفرد الأم به دون الأب، فالأم لا تنفك من تفقد الولد في جميع ذلك، فدل ذلك أن الله ركز في نفوس الأمهات من الإشفاق أكثر مما ركز في الآباء، وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} على هذا التقدير معناه عليهم أن يجروا مجراهم، وذاك أنه لا عرف من غرائز الأقارب التحاسد بخلاف ما بين الأبوين والأولاد، حتى قيل: إن الأقارب كالعقارب، بل أضر من العقارب، نبه أن حق الأقارب أن يجروا مجراهم في شفقة البعض على البعض، إذ بينهم من النسائك، والنماذج قريب مما بين الوالدين والولد، وأما إذا حمل على الأمر، فنهى أن يفعل كل واحد من الأبوين ما يؤدي إلى مضرة الولد يكايد صاحبه، أو يضرب من النظر الفاسد، فمن المفسرين من حمل ذلك على ما تقدم ذكره، وأن الوالدة منهية عن المضارة المتعلقة بالرضاع، والمولود له منهي عن المضارة فيما يلزمه من النفقة والكسوة، ومنهم من جعل ذلك عاما في كل ما يعود بضرر على الولد من تربيته وتأديبه وتهذيبه وغير ذلك مما يكثر حصره، وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} منهم من حمل ذلك على وجوب إزالة المضارة ومنهم من حمل عليه وعلى وجوب النفقة، واللفظ محتمل لها.
وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} أي فطاما قبل الحولين وقيل: عنى بالفصال المفاصلة عن الوالدة أو الوالد إذا تراضيا بذلك وسلمه أحدهما إلى صاحبه، وعلق ذلك بالتراضي منهما والتشاور لئلا يقدم أحدهما عن غيرة إلى ما يضر بالولد، ونبه بذلك أن كل أمر مبهم العاقبة، فالوجه فيه الإقدام عليه بعد إجماع الآراء والاستشارة، وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ}، أي إذا امتنعت الأم أو

(1/483)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

تزوجت، فلا جناح عليكم في استرضاع غيرها، (إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف)، أي سلمتم إلى المطلقة حقها، وقيل: إذا أتيتم المسترضعة أجرتها، وإذا قريء (ما أتيتم) بالقصر، فمعناه: إذا سلمتم ما تعاقدتم عليه، وفيه دلالة على جواز الاستئجار على الرضاع، وعلى جواز عقد الإجازة جملة وختم الآية بالحث على تقواه، وتصور علم الله لله عز وجل بكل ما آتاه الإنسان وتحراه، ومن قرأ (لا تضار) بضم الراء، فلفظ مشتبه الآية يصلح الأمر على تقدير: (لا يضارر) ولكن أدغم، فضم الراء لالتقاء الساكنين، ويصلح أن يكون على تقدير (لا يضارر) على الإخبار، وأن يكون على تقديره " لا يضارر " على ما لم يسم فاعله، ماذا قرئ بفتح الراء، فليس إلا النهي على تقدير (لا يضارر) وإن كان لفظه محتملاً أن يكون نهيا عن مضارة الأم، كقولك: " لا يضرر زيد " ..
قوله - عز وجل:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}

الآية (234) - سورة البقرة.
هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} وإن كانت

(1/484)


مقدمة عليه في التلاوة وظاهر الآية يقتضي تسوية الحكم في الحرة والأمة، كما قال الأصم، لكن السلف فرقوا بينهما ويقتضي أن لا فرق بين المسلمة والذمية كما قال الشافعي دون أبي حنيفة، وهذا الحكم فيمن لا تكون ذات حمل متفق عليه، فأما في ذات الحمل، فقد قال عمار وابنه عبد الله وزيد: إن عدتها أن تضع حملها وقال الحسن، هي أن تضع حملها، وتطهر من نفاسها، وقال علي: عدتها أقصى الأجلين من وضع الحمل، ومضى الشهور.
وقد روت أم سلمة أن سبيعة بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله بأن تتزوج، واختلف في الوقت الذي يعتد به من العدة، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر " تعتد به من يوم يموت "، وعلي والحسن: " من يوم يأتيها الخبر "، وقال الشعبي: إذا قامت البينة على موته فالعدة من يوم يموت، وإلا فمن يوم يأتيها الخبر والصحيح أنه يعتبر من يوم الوفاة فيه وقع الفرقة، كعدة المطلقة وكاستحقاقها الميراث من يوم الوفاة
إن قيل: ما وجه تخصيص عدة المتوفاة بهذه المدة؟ قيل: قد ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر إذا كان ذكرا يتحرك بعد ثلاثة أشهر وإذا كان أنثى فبعد أربعة أشهر، فجعل ذلك عدتها، وزيد عشرة استظهارا وتخصيص العشرة بالزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في قوله تعالى:

(1/485)


(تلك عشرة كاملة)، وقوله: (والذين) هو مبتدأ، وفي خبره إشكال، فإن قوله: (يتربصن) إخبار عن الأزواج لا عن الذين وليس فيه ضمير يرجع إلى المبتدأ وقد ذكر في ذلك أربعة أجوبة ..
الأول: تقديره: يتربصن بعدهما، وذلك عن المبرد والثاني أن الضمير في: (يذرون أزواجا) أي أزواجهم، ويتربصن عاد إلى الأزواج، والضمير إذا عاد إلى المضاف إليه كان في حكم ما عاد إلى المضاف، وذلك مثل قولهم:
(من مات وحلف يتبين الثلثين)، وذلك عن الزجاج وعلى هذا يجب أن يجوز: (صاحب الدار انهدمت)، والثالث: عدل عن الإخبار عن الأزواج، لأن المعنى عليه، والفائدة فيه والقصد إليه، وذلك عن الكسائي والفراء وأنشد في ذلك:
لعلي إن مالت بي الريح ملية ....
على ابن أبي دبان أن يتندما
فسكت عن ذكر خبر لعل، والرابع: تقديره: (ويذرون أزواجا يتربصن) فيكون أزواجهم مبتدأ -، ثانيا: (ويتربصن) خبره، لكن حذف المبتدأ الثاني إيجازا لا لم يشتبه المعنى، وإنما قال عشرا ولم يقل عشرة لتغليب التأنيث التذكير في باب التاريخ، وقال بعض النحويين: إن باب التأنيث غلب في باب العدد على عكس ما عليه حكم الباب، وعلى ذلك
" فطافت ثلاثا بين يوم وليلة

(1/486)


وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

قوله - عز وجل:
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

الآية (235) - سورة البقرة.
الخطبة والخطبة كلاهما من المخاطبة، إلا أن بالضم خص لموعظة، وبالكسر لطلب المرأة، وإن كان في الأصل اسما للحالة التي عليها الخاطب، والخطب: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، والكن جعل الشيء في الكن، والأكنان مثله ولكن خص الأكنان بما تكنه الصدور، والكن ما يكنه البيت والثوب ونحوهما، وسميت المتزوجة كالمحصنة كنة، والكنانة جعبة غير مشقوقة تكن سهامها، والسر مما لم تشيعه مما في نفسك واعتبر تارة مما يستنكف من إظهاره، فسمي غشيان المرأة به، والاعتبار بذلك.
قال الشاعر:
والستردون الفاحشات ولا ....
تلقاك دون الخير من ستر
وتارة اعتبر بصيانته، فسمى المصون سراً حتى قيل:
فلان في سر قومه، والعقد يقال في الحبل وفي العهد واليمين والسميط والرمل المتداخل، و " ناقة عاقد " عقدت على رحمها بمنع الفحل عن نفسها والتعريض كالكناية إلا أن التعريض أن تذكر ما يستفهم المقصود من عرضه وليس بموضوع للمفهوم عنه لا أصلا ولا نقلاً، والكناية: العدول عن لفظ إلى لفظ هو بخلف الأول ويقوم مقامه، ولهذا سمي الأسماء المضمرة في النحو الكنايات، والخوالف، والتعريض المفسح فيه هاهنا كل لفظ وإشارة تدل على النكاح لا بصريحه نحو أن يقول: أريد التزوج،

(1/487)


و " ما شاء الله كان "، و " إنك لنافقة "، ونحو ذلك، وقوله: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}
قال ابن عباس: وابن جبير والشعبي ومجاهد هو تصريح الوعد بالنكاح، وقال الحسن وجابر، الزني وقال زيد بن مسلم لا تنكحوها في عدتها، واللفظ محتمل، ولكن الأظهر ما قال ابن عباس، لأن ذلك لم يستفد إلا بهذه الآية، فأما خطر الزنى ففي كل حال، والمنع عن التزوج بالمعتدة معقول من غير هذه الآية، ويصح حملها على كل ذلك، فقد نهينا عن جميعه، وقوله {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي لما علم رغبتكم فيهن وخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم، أباح لكم التواصل إلى مرادكم بالتعريض وليس النهي عن العزم نهيا عن حكم الضمير، فقد أباح لنا التعريض فضلاً عنه، وإنما عنى بت القول، وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أي تنقضي العدة والكتاب عبارة عن المدة المفروضة أو أريد حكم الكتاب، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} دل على معنيين، أحدهما: ما في قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، والثاني: ما في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، تنبيها أنه علم شرور أنفسكم، ثم حذرنا منه كقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، ثم رجانا غفرانه، وسكن منا بما أنبأنا من حلمه بقوله: {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}، واللفظان: أعني {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}، وقوله، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} وصف به أولياءه في قوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}

(1/488)


لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

قوله - عز وجل -:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}

الآية (236) - سورة البقرة.
المقتر: الفقير، وأصله من ينال القتر، كما أن المترب والمرمل أصلهما من نال التراب والرمل، والقتار ما يحمله الريح من رائحة القدر على العثان والغبار، فدخل قاتر خفيف، كأنه قتر في الخفة، وذلك لقولهم: هو في الخفة هباء، والقترة ناموس الصائد اعتباراً بأنه حافظ لقتار الإنسان أي ريحه، وذلك أن الصائد يجتهد أن يخفي عن الوحش ريحه فصلاً عن شخصه لئلا يند عنه،، وأبي قرة لحيته صغيرة الجرم خبيثة الأثر، وتسميتها بذلك على حسب اعتقادهم أن الحية كلما ازدادت سنا وخبثا صغرت جرماً وجسماً ولهذا قال الشاعر:
ذاهيةٌ تصغزُّ منها الأنامَلُ
وقال: دُوَيهيةٌ تصفَرُّ منها الأناملُ
فأتى بلفظ التصغيير لما أراد تعظيم الوصف، وكثرة الماس والمماسة في الكناية عن الجماع حتى صار كالصريح، والمتعة اسم لكل ما فيه تمتع أو انتفاع قدراً من الزمان، وعلى ذلك قوله: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}، وقول الشاعر:
'نما نعْمَةُ المرءِ مُتعةٌ ...
وحَيَاةُ المرءِ ثوبٌ مُستعارُ

(1/489)


لكن صارت المتعة في تعارف الشرع، لما تخص به المطلقة، واختلف الناس في المتعة، أواجبة هي أم غير واجبة، فإن وحبت، فلأي مطلقة تجب؟، وكم قدرها؟ وبأي الزوجين تعتبر؟ وأما وجوبها فعند ابن أبي ليلى ليست بواجبه على مطلق، بل إن شاء فعل، وإن شاء ترك، وقالت علي: واجبة لكل مطلقة، وقال مالك وليث: " لا يجيز عليها علي كل حال، وعند الشافعي المطلقات على ثلاثة أضرب، مطلقة قبل الفرض والمسيس، ولها المتعة قولاً واحداً، ومطلقة بعد الفرض والمسيس مفوضة كاتبا، وتسمى لها، وفي وجوب المتعة لها قولان، وأما قدرها، فالصحيح أن لأحد له، وإن كان قد قال بعضهم للموسر خادم، وللمعسر خمار وجلباب ونحوهما من الثياب، وقال الشافعي: واستحسن بقدر ثلاثين درهماً، وأما اعتبار ذلك بأيهما، فقد قال أبو حنيفة بهما، والأظهر أنها تعتبر بالزوج لتخصيصه في الآية، وقوله (أو تفرضوا) تقديره، أو لم تفرضوا فهو معطوف على قوله: تماسوهن، وأوفى نحو هذا الموضع يفيد ما يفيد الواو على وجه، وذاك أنه إذا قيل: " افعل كذا إن جاءك زيد أو عمرو يقتضي أن يفعله إن جاء أحدهما، ولا شك أنه يحتاج أن يفعله إذا جاءا جميعاً، لأنه قد جاء أحدهما وزيادة، وعلى هذا قال النحويون: " جالس الحسين وابن سيرين " يقتضي أنه إذا جالسهما، فقد امتثل، وعلى هذا قوله- عز وجل: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، فظاهر الآية يقتضي أنه لم يكن مسيس أو لم يكن لها فرض أو لم يكن الأمران، فلها المتعة كالأمثلة المتقدمة، لكن لما حكم لمن فرض لها ولم يمس في الآية التي بعدها صار ذلك كالمستثنى عنه، وكأنه قيل: إذا طلقتموهن ولم يحصل الإمران الفرض والمسيس أو حصل المسيس، ولم يحصل الفرض، فمتعوهن
إن قيل: ما في قوله {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} يقتضي الشرط، وذلك يوجب أن رفع الجناح عن المطلق بشرط عدم المماسة وعدم الفرض، ومعلوم أن الجناح مرفوع عن المطلق، مسها، أولم يمسها، فرض أولم يفرض، فما وجه ذلك؟ قيل: القصد بالآية أن الجناح مرفوع بإعطاء المتعة، فكأنه قيل: لا جناح في طلاقها إذا متعها، ودل على ذلك بقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ}، وقد علم أن الجناح غير مرفوع عمن لم تمتع إذا طلقها قبل الفرض والمسيس، وقوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} أي قدر ما يحتمل حالاهما ...
إن قيل: ما وجه تخصيص المحسنين في هذه الآية، والمقتر في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}، وهلا دل ذلك على أنه غير واجب إن كانت الواجبات من المشروعات لا يختلف فيها المتقي والمحسن وغيرهما، قيل: قد نظر بعض الناس هذا النظر، وقال: لما كان الإحسان قد يكون لما يريد على الواجب، وقد خص بذلك المحسنين دل على أن ذلك حق على المعروف لا إيجاب، وقال أكثرهم: إن ذلك للمحسنين والمتقين لا لتخصيص الإيجاب، بل للتأكيد، وأنه من تمام الإحسان والتقوى، كما أن قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ليس بتخصيص أنه لا يهدي به إلا المتقين، لكن يبينه على أن الاهتداء به من تمام التقوى.

(1/490)


وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

قوله - عز وجل -:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

الآية: (237) - سورة البقرة.
النصف كل واحد من الجزئين المتساويين من مقدار واحد، وتصور هذه القسمة المستوية، فسمي العدالة نصفاً والنصف بين المسنة، والصغيرة كأنها هي التي استوفت نصف العمر والناصف الخادم المبالغ في الخدمة كأنه ينصف صاحبه أي في الخدمة بقدر ما يستوفي عنه من المنفعة، والنصيف للخمار بين الصغيرة والكبيرة، والمنصف ما أعيد إلى النصف بالصبح، والنصيف ضرب من المكيال، لكونه عادمها، أو كونه بين بين ...
(والذي بيده عقدة النكاح)، قيل: هو الولي الذي كان ما لكان للعقد في الأصل وقيل الزوج الذي هو مالك للعقد في الحال، وهو أولى، لأن الولي يملك العقد، والزوج هو الذي يملك العقدة لأن العقدة اسم للمفعول كضحكه وهزأه، وعفو المرأة أن تترك الهر أو تسامح، وعفو الزوج أن يوفيها كله أو فضلاً عما تستحقه من النصف فإن قيل جعل الذي بيده عقدة النكاح للولي، فكيف يصح منه العفو عما تستحقه المرأة، قيل: قد قال الشافعي: إن ذلك مخصوص في الصغيرة إذا كان وليها أباها أو جدها ...
إن قيل: العفو في الترك لا في الإعطاء، والزوج هو المعطي، فكيف يصح منه العفو؟
قيل: إن ذلك في العفو عن الشيء لا في العقوبة، وقد يقال: عفي فلان بكذا إذا بذل، والصداق المفروض تستحق المرأة أخذه بالعقد، فإن أخذبه، وإلا ففيي حكم المأخوذ، فإذا عفي به كملا، فكأنه قد عفي عنه، ودل قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أن المرأة متى فرض لها بمثل العقد، ثم طلقت قبل الدخول، فلها نصف المفروض بخلاف ما قال أبو حنيفة أن المفروض يسقط وتجب المتعة، وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا} وأن كان بالقصد الأول حثاً للزوجين على التسامح خطاب عام لهما ولكافة الناس وحث

(1/491)


حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)

لهما على استعمال العفو وترك التشرد، وإن بعض ما وجب لك أقرب إلى الهوى، ثم قال: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} أعم من العفو، لأنه يتناول ترك ما وجب لك، وإعطاء ما لا يلزمك، ولهذا قيل: " الفضل فوق العدل "، وقيل: " الكرم في الفضل لا في العدل "، ولما حث فيما تقدم على استعمال العدالة، نبه بقوله: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} أي: لا تتركوا الفضل مقتصرين على تحري العدالة.
قوله - عز وجل -:
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

الآية: (238) - سورة البقرة.
الحفظ والتعقد والتعهد والرعاية والحماية والصيانة متقاربة، لكن الحفظ أعلم ذلك، والتفقد حفظه، أي تفقد وكأنه مطلب في كل حال، بل فقد إشفاقاً عليه، والتعهد تجديد العهد به حالاً فحالاً، والرعاية حفظ ما به قوامه، كرعي الغنم للحماية حفظه عما يريده بسوئه ..
، والصيانة: صيونة بما تقيه، والوسط معروف يقال بوسط فلان القوم سبطهم، وقد تصور الوسط على وجهين، محمود ومذموم، فاستعمل فيهما، أما المحمود فالمصون من الإفراط والتفريط، كالعدل، ولهذا قيل للعدل الوسط والسواء والنصف، وأما المذموم، فيتصور شيء له طريقان: محمود، ومذموم، فالسالك من الطرف المحمود إلى الطرف المذموم إذا انتهى إلى النصف، فقد فارق المذموم، فكنى به عن الذم، وأما أصل " القنوت " القيام على سبيل الخضوع، ولما كان الخضوع في يكون بالدعاء والتضرع، وبالإمساك عن الكلام، ويخفض الصوت، وغض البصر، وبذل المال فنبه بكل واحد من ذلك وسمي الدعاء بعد الركوع قنوتاً، والصلاة الوسطى الظهر عن زيد بن ثابت، وابن عمر كأنها اعتبرت بالنهار، وكونها في وسطه، والمغرب عن قبيصة بن دويت، لكونها وسطا بين الركعتين والأربع اللتين بنى عليهما عدد الركعات، والصبح عن جابر، لكونها بين صلاة الليل والنهار، قيل: ولهذا قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاته، فخصها بالذكر، لكثرة الكسل عنها، إذ قد تحتاج إلى القيام إليها من لذيذ النوم، ولهذا زيد في أذانه: (الصلاة خير من النوم)، وقيل: هو العصر فيما

(1/492)


يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي وابن عباس، وهو الأصح، لما روي أن ابن حبيش قال: قلت ليسرة: سلي
علياً عن الصلاة الوسطى، فقال: كنا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق
يقول: " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم أو قبورهم ناراً "، وروي البراء أنه كان يقرأ: " حافظوا على الصلوات وصلاة العصر "، ثم نسخ بقوله: الوسطى، وفائدة تخصيصها بالذكر، لأن وقتها في أثناء الأشغال العامة الناس بخلاف سائر الصلوات التي يكون فراغ ما إما قبلها، أو بعدها، ولذلك توعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركها، فقال: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله "، واستدل بهذه الآية بعض الشافعية أن الوتر ليس بواجب، لأنه لو كان واجباً لكان أعداد الواجبات ستة، فلم يكن لها وسطى، وقال بعض المتأخرين: الصلاة الوسطى إشارة إلى النوافل المشروعة بين المكتوبات إما قبلها، وإما بعدها وإما قبلها وبعدها، وقال بعضهم:
عنى بالصلوات أنواعها كلها، فرائضها ونوافلها المؤقتة، والمشروعات عند أسبابها كالخسوفين، والاستسقاء، والنذر، فأمر تعالى بالمحافظة على جميعهما، ثم قال: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} أن الفرائض، ومعنى الوسطى: الشريفة، فخصها بالذكر مع دخولها في العموم، ثم أعقبه بقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وبقوله: (فإن خفتم) - تنبيها أن فعلها واجب بحسب الإمكان في جميع الأحوال، والمحافظة عليها مراعاة وقتها وتوفية شرائطها في أدائها كما ذكر في إقامتها في قوله: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}.

(1/493)


فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

إن قيل: ما وجه فائدة ذكر المحافظة على الصلاة فيما بين حكمي الطلاق والعدة؟
وهلا أفرد عن ذلك؟ فإن إفراد كل باب من الحكم أحسن في الترتيب من خلط بعضه ببعض، قيل: أما أولانا: فآيات القرآن منزلة حسب الحاجات، ولهذا قال الكفار:
{لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أعلمهم أنه فعل ذلك ليقوى عليه الصلاة والسلام- على تلقينه وتلقنه فقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}، ثم إن الله تعالى لا يخلي شيئاً يذكره مما تعلق بالأحكام الدنيوية إلا ويقرنه بحكم أخروي لينبههم إلى مراعاة الآخرة في جميع أحوالهم وأعمالهم، وأنها هي المقصودة بالقصد الأول وسائر ما يتحرى، فلأجلها، على أن ما يرونه موجود هاهنا ومحفوظ، وأبلغ وأحسن مما راعاه أصحاب القوانين، لأنه لما حثهم على العفو ورغبهم في المحافظة عي الفضل، عرفهم أن السلوك إلى التخصيص بذلك هو المحافظة على الصلوات في كل حال، فإن الصلاة هي الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر، كما قال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، ثم صرف الكلام إلى ذكر ما كان بصدده، فتممه، وهذا النحو من جنس ما يسمى بـ التفات المعدود في بديع الكلام ..
قوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}

" الآية (239) - سورة البقرة ..
الركوب: كون الشيء فوق أخر، يقال لكل مركوب ركوب، وخص الراكب في تعارف العرف يمتطي البعير، وسمى المطية ركاباً، وما يجعل الراكب رجله فيه ركاب، وأركب المهر، بحيث يركب، وتعورف المركب، والمركب فيمن ركب فرس غيره، وفيمن يعجز عن الركوب من قوله: ثم الطيور المركبا والركبة: بهذا الاعتبار سميت، وقيل: " فرس أركب، أي " عظيم الركبة، وركبته: أصبت ركبته،

(1/494)


وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

نحو: فأدته ورأسته، وقال: إذا أصبته بركبتك، نحو: بدنته وعنته، أصبته بهما، والمركب كناية عن فرج المرأة، وهو العانة من المرأة، كما كني عن المرأة بمظنة، وقعيدة، لكونها مقتعدة، ورجال: جمع راجل: نحو صحاب وقيام، ويقال.
نساء رجال، كما يقال: رجالُ رجالٍ، أمر تعالى بفعل الصلاة على الوجه الممكن.
وعلى هذا دل قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وعلى هذا قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} وجعل بعضهم الذكر هاهنا مخصصاً بالصلاة، وجعله بعضهم عاماً فيه وفي غيره من الأذكار، وحث على ذكره والصلاة كيفما يقتضيه ما علم من الأحكام وسائر العلوم.
قوله- عز وجل:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

الآية: (240) سورة البقرة.
عامة المفسرين على أن قوله تعالى:
{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} أمر من الله عز وجل- بأن يوصي الرجال للزوجات أن تعمر بعد وفاتهم حولاً، وقالوا: اقتضت الآية ثلاثة أحكام: عدة سنة ونفقتها، وسكناها في تركة زوجها مادامت معتدة، وكونها ممنوعة من الخروج، فنسخ منها ما زاد على أربعة أشهر وعشر بالآية المتقدمة، ونسخ وجوب الوصية لها ما به الميراث، ولم يثبت نسخ للخروج، فصار دلك ثابتاً في العدة الثانية، وقال بعض المتأخرين:

(1/495)


ليست هذه الآية منسوخة ولا تأويلها على ما تصوره، وإنما قوله: (وصية) مصدر في مواضع الحال، أو خبر ابتداء مضمر في موضع الحال في قول من رفع، والآية إخبار عن الجاهلية فيما كانوا يفعلونه، وإبطال لحكمهم في تقديرها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} موصين لها بمتاع، أي بعطيه على أن لا يخرجن إلى الحول، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}، أي لا إثم في إبطال ذلك على ما أمر الله به، وبينه، ودعاكم إليها فهذا توكيد للآية المتقدمة وتنمية أن ما كانوا يفعلونه لا يلزمكم، بل الذي يلزمكم ما بين في الآية المتقدمة، فقوله:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} مبتدأ، وما بعده إلي قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في صلته وفي قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ} في موضع الخبر، ودخول الفاء فيه لكون المبتدأ موصولا، نحو: " الذي يأتيني فله درهم "، وهذا الوجه صحيح من وجه، حيث اللفظ وعلى ما عليه الحكم، لكن عامة السلف في تفسيرها على ما تقدم، ويوضح ذلك أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت أن بنياً لها توفي عنها زوجها اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحلها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله: " فقد كانت إحداكن تلبث سنة، ثم ترمي ببعرة عند رأس الحول، فهلا أربعة أشهر وعشراً "
وذكر رواية بنت أبي سلمة أن المرأة كانت إذا توفى بها زوجها دخلت خيشاً، ولبست شرشابها، ولا تمس طيبا حتى تمر سنة، ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير، فتقتص له، فعل ما يقتض شيئاً إلامات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها، ثم تراجع ما شاءت من طيب أو غيره ..
إن قيل: لم قال في هذه الآية، وفيما قبلها: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ}؟، فرفع الجناح عن الرجال فيما فعلن، وذلك يقتضي أن يزر أحدنا وزر الآخرة، وقد قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.

(1/496)


وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)

قيل: قد يرون في قراءة ابن مسعود: (لا جناح عليهن)، والصحيح ما عليه المصاحف، ووجه ذلك أمران:
أحدهما: أن النساء لما كن تابعات للرجال، وتحرر أمرهم، صار الجناح في كثير مما يفعلن راجعاً إليهم إذا لم ينهوهن، ولهذا قال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} والتاني: أن ما يشير إليه، فإنهن يفعلن في أنفسهن هو أمر يتعلق بالرجال، فلا يمكنهن أو يساعدوهن وكل موضع اجتمع مذكر ومؤنث أو مخاطب أو غائب، فالحكم في اللفظ للمذكر والمخاطب دون المؤنث والغائب، فلهذا قال: عليكم إن قليل: لم قال هاهنا {مِنْ مَعْرُوفٍ}، وقال فيما قبله (بالمعروف)، وقال هاهنا: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وفي الأول: (والله بما تعملون خبير)؟
قيل: إن " من " والباقي مثل هدا الموضع يتقاربان حكماً، وإن كانا يختلفان من حيث العربية تقديرا، فقوله: {مِنْ مَعْرُوفٍ} إباحة لجنس الأفعال المعروفة، أي المباحة لجنسه، وقوله: (بالمعروف) في موضوع الحال، وهو إباحة لما فعلته على شريطة تحري المعروف وقال ههنا: لما ذكر ما هو تعريض التغيير أو غيره على التفسير المتأخر، قال: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تنبيها أنه تعالى قادر على تغيير ما يغير غير لاحق به مضرة من مخالفتكم له، ولا منفعة في موافقتكم إياه أمره وحكمته في تغييره، وقال في الحكم المقرر عليهم على التأييد، (والله بما تعلمون خبير) - تنبيهاً أن من قصر فيما رسمه، فمجازى به ..
قوله- عز وجل:

{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} - الآية: (241) - سورة البقرة
إن قيل: ما وجه تكرير.
" ذلك " وتخصيص " المتقين "؟
قيل: من المفسرين من جعل هذا المتاع للمطلقات عامة على سبيل الاستحباب، لا على الإيجاب،

(1/497)


كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

وقال: أراد الله أن يكون تشريحاً على وجه تطيب به نفسها، ويزول عنها ما خامرها مش وحشة الفراق، ومنهم من قال: هو على الإيجاب، وإليه ذهب ابن جبير، وأبو العالية ويكون تخصيص من تقدم ذكرها لتأكيد أمرها، ومنهم من قال: يعني بالمتاع المتعة، وإنما عنى مالها من المهر والسكنى، وأما تخصيص " المتقين " فقد تقدم ..
قوله- عز وجل:

{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الآية: (242) سورة البقرة.
نبه أنه كما بين لكم هذه الأحكام يبين لكم سائر الآيات العقلية والسمعية لتكونوا أقرب إلى استعادة العمل المكتسب وقد تقدم أن أمير المؤمنين قال: العقل عقلان: مطبوع ومسموع ولا يصلح أحدهما إلا بالآخر، فالأول هو الذي يتعلق به صحة التكليف المتناهية بقوله عليه الصلاة والسلام:
" إن الله لما خلق العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك بك أخذ، وبك أعطي ".

(1/498)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)

والثاني: هو الذي قال عليه الصلاة والسلام لعلي: " يا عليُّ: إذا تقرب الناس إلى خالقهم بالصلاة والصوم، فتقرب إليه بانواع العقل تسيقهم بالدرجات والزلفَى عند الناس في الدنيا، وعند الله في الآخرة " فهذا الثاني هو العقل المشار إليه بقوله تعالى: {لعلكم تعقلون}، وهو في الحقيقة الإيمان والتقوى والإخلاص.
قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}

الآية: (243) - سورة البقرة.
رأيت: تتعدى نفسه دون الجار، لكن لما استعير قولهم {أَلَمْ تَرَ} لمعنى: (ألم تنظر) عدى تعديته وفائدة استعارته أن النظر قد يتعرى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقل ما استعمل دلك في غير التقرير، ولا يقال: رأيت إلى كذا، وكما أن الرؤية ضربان، رؤية بصر، ورقية بصيرة، كذا أيضا النظر والإبصار، وألوف جمع ألف كشخوص، وعيون وقيل جمع ألف كحمول، وحلوم، وروي في الخبر أن قوماً من بني إسرائيل خرجوا من ديارهم- تفاديا من الطاعون فأماتهم الله، ثم أحياهم ليعرفهم عيانا تحقيق مادل عليه قوله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} وقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} وقوله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ

(1/499)


فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، وقوله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، وقوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} تنبيه أن الكثرة والتعاضد وإن كانا نافعين في دفع الأزمات الدنيوية، فليس بمعنية في الأمور الإلاهية، فمن جعل ذلك جمع ألف، فنظر منه إلى نحو ما قال الشاعر:
ألم تر أن جمع القوم يخشى ..
.
وأن حريم واحدهم مباح
ومن جعله جمع ألف، فنظر إلى نحو قولهم: " لن يعجز القوم إذا تعاونوا " ومن جعله جمع ألف، فقد قيل: كان عددهم أربعة آلاف عن السدي، وقيل، كانوا أكثر من عشرة آلاف عن ابن عباس والحسين والضحاك، وهو الأصح، لأن ذلك جميع للكثير ولو كانوا أقل من عشرة لقتل آلاف، وقيل: معنى أماتهم: ذللهم تذليلاً يجري مجرى الموت فلم تغن عنهم كثرتهم وتظاهرهم من شيئاً، ثم أحياهم، أي أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة تعالى في أنه يذل من يشاء، ويعز من يشاء، وتسمية الشدائد موتاً، لكونها أعظم الموتين، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ..
.
إنما الميت ميت الأحياء
وقيل: أشد من الموت ما يتمنى له الموت، وقيل: عنى بالموت الجهل، والحياة العلم، وقال ابن عباس في قوله: {أو من كان ميتا فأحييناه} أي: جاهلاً فعلمناه كما يحيا الجسد بالروح، ووصل ما أراهم من الآية العظيمة من إحيائهم بذكر ماله عليهم من النعمة وقلة شكرهم له ..
، وقوله:

(1/500)


وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} كقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، لكنه أبلغ في الذم، لأنه نفى وقوع شكر منهم وشكور هنا مبالغة، وقد لا يكون شكوراً من كان شاكراً ..
إن قيل: لم أعيد ذكرا الناس ولم يقل: (ولكن أكثرهم)؟
قيل: لأن الناس في الأول عام لكون نعمته على جميعهم، وفي الثاني خاص للمكلفين، لأنه لا يلزم شكرهم غيرهم، فكأنه قيل: ذو فضل على جميع الناس، ولكن أكثر المكلفين لا يشكرون ..
إن قيل: لم خص النبي - ص - الله بهذا الخطاب، فقال: {أَلَمْ تَرَ} وقال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا}؟
قيل: لأن ذلك لما كان من الاعتبارات التي تخفي إلا على ذوي البصائر من الأنبياء ومن يدانيهم في العلم ولم تكن من المحسوسات المشاهدة، وخصه بالخطاب، وفي الآية الأخرى ونظائرها لما كانت من الأمور المحسوسة عمهم بالخطاب.
قوله - عز وجل:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة الآية (244) ..
قل: تقديره (وقيل لهم بعد ذلك: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ولفظ الحكاية مقدر، وقيل: إن ذلك خطاب منه تعالى لهذه الأمة، وأنه لما قرر بالآية المتقدمة في أنفسهم أن الفرار لا يزيد في الأجل، حثهم بهذه على المجاهدة في سبيله، ولم يعن الأعداء المجاهدين فقط بل عناهم وأقرب الأعداء إلى الإنسان وأصعبها دفاعاً وأكثرهم أذى الهوى المدلول عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: " جهادك هواك "،

(1/501)


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

وقوله: {أعدي عدوك نفسك التي بين جنبيك} وقوله لما رجعوا من تبوك: " جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وقال: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم " وصعوبة مجاهدته أنه عدو يخفي وتخفى مكائده، ونحو هذا نظر الشاعر حيث قال:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ..
.
فكيف بمن يرمي وليس برامي
وعلى هذا قولخ - عز وجل: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}، وقوله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.
قوله - عز وجل:

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الآية (245) - سورة البقرة.
القرض: القطع بالناب، والمقراض، واستعير لصنعة الشعر استعارة اللوك والمضغ في نحو قول بعضهم:

(1/502)


" قد لاكه ومضغه من هو أشد لوكاً ومضغاً منك " هذا إذا اعتبرته بقرض الأسنان، فأما إذا اعتبرته بقرض المقراض، فاستعارته كاستعارة الحوك والخياطة والإلباس، وسمي ما بذل بعوضٍ قرضاً، وما بذلك بغير عوض قرضاً، وسمي عروض الدنيا قروضاً، كما سميت عواري، والضعف تركب قدر من متساويين، أو يقال مثلاً الشيء في المقدار، وكل واحد ضعف الآخر إذا أخذ، وقول الشاعر:
" جزيتك ضعف الود " أي مثلي ودك في القدر، وضعفا الشيء مثله ثلاث مرات، إلا أنه إذا قيل: ضعفان، فقد يطلق على الاثنين المثلين في القدر من حيث أن كل واحد يضعف الآخر كما يقال الزوجان، ويكون كل واحد زوجاً للآخر ..
إن قيل: الضعف والضعف يشتركان في الاشتقاق، قيل: كلاهما اعتبر فيه معنى المماثلة في القدر، إلا أنه جعل الضعف لما يزاد عليه، والضعف لما ينقص منه، واستعمل فيهما أضعفت، وضعفت، وإن كان التشديد في الضعف أكثر، وضاعفت في الضعف لا غير، وفرق بينهم تضاعف وتضعف، فقال التضعيف لما جل مثلين، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك، ولهذا قال أكثرهم (فيضاعفه) بالألف، ولما حث الله على المجاهدة في سبيله وذلك ببذل المال والبدن والنفس سمى ذلك قرضاً كما سماه بيعاً واشتراء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية وسماه إحساناً في قوله: (واحسنوا) كل ذلك استعطافاً لعبده واستلطافاً، وسمع أعرابي قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} فقال " أعطانا فضلاً، وسألنا منه قرضاً ليرد إلينا أكثر وأوفر منه، إنه لكريم " وسمع ذلك أبو الدحداح، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم إن تصدقت بحديقتي أفلي مثله في الجنة؟ قال: نعم.
قال: ومعي أم الدحداح ودحداح؟ قال: نعم، وكان له حديقتان، فتصدق بأفضلهما ..

(1/503)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)

إن قيل: بذل النفس كيف يصح أن يقال له قرض؟
قيل: استعمال ذلك فيه كاستعمال الجود، وقد قال أبو الدرداء " أقرض من عرضك ليوم فقرك " وفي قوله: {حُسْنًا} إشارة إلى كل ما يصون الإفضال عما يشينه من منة ومراءاة وغير ذلك وقوله {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قيل: " يسلب تارة، ويعطي تارة "، ونحوه نظر من قال: فكيف يوفيه وثانية هاديه، وقيل: يسلب قوماً ويعطي قوماً، ونحوه نظر الشاعر في قوله:
ويسلب قوما ويثري آخرين ..
.
به الله من ذا يستعمر وباري
وقيل: يقتر ويوسع، وقيل: يقبض الصدقات ويخلف البدل مبسوطاً أن كثيراً، وقيل: يضيق صدور قوم ويشرح صدور آخرين، كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقد تقدم الكلام فيه، وذكره ها هنا توعد ..
قوله - عز وجل:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الآية: (246) - سورة البقرة.
قوله عز وجل:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى الملأ جماعة شريفة، وذلك اعتبار بالامتلاء كأنهم يملون العين رواء ومنه قيل: شاب مالئ العين، ومالأته: عافيته: أي صرت من ملائه أي جمعه، كقولك: شايعته أي: صرت من شيعته، وفلان ملئ بكذا من الامتلاء، وعلى الوفاء، وهو تمام العهد، واشتقاق

(1/504)


ضده وهو العذر، يدل على ذلك لأنه الترك، ويعني: " أحسنوا أملاءكم "، أي أخلاقكم،
وقال الشاعر:
" فقلنا أحسني ملأ جهينا "، فكأنه سمي الخلق بذلك لكونه مليا باراً، في ذاته وعلى ذلك قال الشاعر:
كل امرئ يبدي الذي في خلقه
وقال: كل امرئ راجع يوماً بشهية
والملك لمن جمع أربعة معان:
" العلم، والقدرة، والسياسة، وعدداً يسويهم "، وبيان ذلك أن الأمر بالعلم مدبر، وبالقدرة ينفذ، وبالسياسة ينظم، وبالجمع بحفظ، ولهذا كان الله الملك الحق، ومن عدله فكالظل له، ولهذا قال: " السلطان ظل الله في الأرض " أي خليفته، ومحفوظة كالظل الذي يظل، ولا يصح استحقاقه إلا لمن قام بحقه على مقتضى الشرع ولأجل تعذر القيام بذكره التسمية به، لأن المتسمي بالملك ما لم يوف حقه لابس ثوبي زور، وتكلف للناس التقول به وسألهم إياه الملك ليقابلوا معه لعلمهم أن منزلة الملك من الرعية منزلة الرأس من الجسد الذي لا قوام له إلا به.

(1/505)


وعلى ذلك قال الشاعر:
كأن الخلق ركب في مثال ..
.
له جسد وأنت عليه رأس
وقوله: (يقاتل) متى جزم، فجواب، وإذا رفع فاستئناف، وقرئ (يقاتل) على وصف الملك، وقوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} أي: هل طمعتم في أنفسكم أن تقوم بذلك وأن لا تجن؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل؟ أنكروا أن يكون منهم تضجيع في قتال أعدائهم، فجعل حجتهم شيئين هما غاية ما يحنق، وهو انزعاجهم عن مقارهم الذي هو شريك القتل، وقيل الولد الذي هو أصعب على الإنسان من قتل نفسه، وفي حكاية ذلك إشارة إلى ذمهم من وجهين أحدهما أنهم قالوا: أن تكلفوا، وقد قيل: فلما قام الإنسان بواجب التزامه، ابتدأ ولهذا لما روجع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج، فقيل: ألعامنا هذا؟ أم للأبد؟
قال: بل للأبد

(1/506)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)

وذم الله (بني إسرائيل) في التزامهم الرهبانية، ثم قصروا فيها، والثاني: أنهم لم يلزموا القتال كما يجب أن يلزم، فإن المقاتلة في سبيل الله يجب أن لا يكون لها سمعة واجتلاب ثناء أو شفاء مغيطة وكذا يجب أن تكون سائر الأفعال المحمودة وهم لما قالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} قصدوا شفاء الغيظ لا ائتمار الرب، فعلم أنهم لا يصبرون في مواطن الحق على ما يجب.
إن قيل: لم أدخل (أن) في قوله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} ولم يدخله في قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ}؟
قيل: إن قولك (مالك، ومالنا) تجئ مرة للإنكار وعليه قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ} في موضع الحال نحو قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} والثاني بمعنى: (ما منع) وعليه هذه الآية، فلابد إذن من " أت لا " تقديره: (ما منعنا من ترك القتال قال أبو العباس: " ما: نفي ها هنا، كأنه قيل: ليس لنا أن لا نقاتل " وقال الأخفش: أن زائدة، ويجوز أنه أدخل (أن) في قوله: ألا نقاتل لكون القتال مستقبلاً، ولم يدخل في قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ} لكونه حالاً، لأن " أن " لأحد المعدومين ..
قوله - عز وجل:

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآية (247) - سورة البقرة.
كان بنو إسرائيل اعتقدوا أن الملك يستحق بالوراثة وكثرة المال، وكان فيهم أسباط ملوك، فلما أنبأهم نبيهم أن الله بعث لهم طالوت ملكاً، ولم يكن من بيت الملك، ولا كان ذا مال، استعظموا، فراجعوه وقالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} وكان ذلك منهم خطأ من وجهين:

(1/507)


الأول:
لما قال الشعر:
وما الحسبُ المورُوُث لا در درهُ ..
.
بمحتسِب إلا بِآخِر مُكْتَسبِ
إذَا الُغضْنُ لم يُثمْر وإن كَان شُعبةًَ ..
.
منَ الثمراتِ اعتدهْ الناسُ في الْحَطَبِ
وقال بعض الملوك:
إن ولد مني جاهل فعدوه حماراً، وإياكم أن تراعوا نسبه، فتفوضوا الأمر إليه، وتعتمدوا في المملكة عليه، والثاني: أن المال ليس بضروري في الملك وأعيان الخلفاء الراشدين والأمراء العادلين كأن عناهم القناعة دون الثروة، فبين تعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} أن فيه الخصال التي هي قانون في استحقاق الملك وبيانه أن الملك يستحق في أن يكون الإنسان من عنصر صالح سواء كان من بيت الملك قيل أو لم يكن.
، وأن يكون ذا علم بسياسة نفسه وأهله من رعيته، وأن يكون في جسمه كامل الخلقة، شديد القوة، ذا سلامة من العاهات الشائنة، وذكر أنه قد آتاه كل ذلك، ثم قال: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} تنبيهاً أنه هو المختص بإيتاء الملك لعلمه يمن يستحقه، ولذلك أمرنا بالاستسلام له في ذلك، فقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} فقرن ذلك بالأمور التي يختص هو بها، وهي: إخراج الحي من الميت والميت من الحي، وإيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، وإعطاء الرزق، ثم قال: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي الذي أعطاه الملك هو ذو سعة في المال، وعالم بالأشياء - تنبيهاً أنه إن احتاج إلى المال في ملكه حوله، وقوله: {عَلِيمٌ} أي عالم بمن يؤتيه الملك، كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.

(1/508)


وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)

قوله - عز وجل:

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية (248) - سورة البقرة.
البقية من البقاء، والبقاء ثبات الشيء على حالته الأولى، لكن البقية صارت لبعض حمله لم يتعين حكمه بتعين المحمولات، فاستعمل فيما يحمل على الظهر، وفي الماء إلي في السحاب، والولد الذي تحمله المرأة في البطن، وتعورف في البرق، وتسميته بذلك استصحاباً لحمل الأم أياً، أو لأنه يحمل باليد لصغره، وخص الحمالة بما يحمل به السيف على بناء العلاقة، والمحمل لما تركته الناس، وخص الحمالة بالفتح لما يتحمله قوم من الدية والحميل تارة استعمل في الكفيل، وهو بمعنى فاعل، وتارة في المحمول من بلد إلى بلد، فسمى الغريب، وعثاء السيل به والحملوة من الإبل لما يحمل عليه وعلى ما ساقويه وركوبه وذكر منهم ما خص الله به " طالوب " من كرامته وما هو آية من الله - عز وجل - كالمعجزة لملكه، واختلف في التابوت فمنهم من قال: كان منحوتاً من الخشب فيه شيء مسمى بالسكينة تسكن بها قلوب القوم الذي كان معهم وبقايا رضاض اللوح الذي كان فيه التوراة، وقنا كان علي [عجلة بين ثورين] يسوقهما الملائكة، وقيل: بل الملائكة تحمله في الهواء وهم يرونه، وقيل كان هذا التابوت مع يوشع، ففقد في التيه، ثم رده الله عز وجل: إلى طالوت، وقيل: بل كان قد سلبته العمالقة، فدفنوه في منزله، وإلى هذا ذهب عامة الصحابة والتابعين فيما دل عليه ظاهر قولهم حتى قال مجاهد: السكينة شيء كان له رأس كرأس هره، وله جناحان، وقال بعض المفسرين: التابوت

(1/509)


إشارة إلى القلب، والسكينة إلى ما فيه من العلم والإخلاص والإيمان وذكر الله الذي تطمئن به القلوب، قال: وسمي القلب سفط العلم وبيت الحكمة وتابوته، ورعاه وصندوقه، وعلى هذا يقال: (اجعل سرك في وعاء غير سرب، وفي بيت معلق الرتاج، ووعاء موثق الأشراج)، قال: وجعل آيته أن صير قلبه مقر العلم، ومجمع السكنية بعد أن لم يكن له ذلك، وعلى ذلك تسميته بالتابوت سمي عمر ابن مسعود - رضي الله عنهما كنيفاً ملئ علماً، وقال هذا القائل ما روي عن علي - عليه السلام، ورضي الله عنه: أن السكينة ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، فإشارة إلى الروح أو إلى الملائكة، ولهذا روي " كان روحا " من الله عز وجل - يكلمهم عند وقوع الاختلاف، ويسكنهم عند القتال والله أعلم بالحقائق.

(1/510)


فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)

قوله - عز وجل:

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} الآية: (249) - سورة البقرة.
الجند يقال للعسكر اعتباراً بالغلظة من الجند، أي الأرض الغليظة ثم يقال: لكل مجتمع جند، نحو: (الأرواح جنود مجندة .. )، والغرف تناول الماء، ويقال للمعترف غرفة، وللمرة غرفة، والغريف الماء المعرض للاغتراف، وتصور منه الرفع، فسمي العلية غرفة تشبيهاً بالمغترف، وبهذا النظر سمي مشربة، وسمي الغمام مادام عرفه كأنه لرطوبته معترف، وجوز الطريق وسطه، و (جاز منه) كأنه عبر الجوز، فكثر حتى صار الجايز لما لا يكره، وعلى نحوه قيل سائغ، وهو من ساغ الطعام في الحلق، وجاوز، وتجاوز استعير له هذا البناء، لتصور المكان متباعداً عن الإنسان تباعد لإنسان عنه، ولهذا قيل: سافر وتباعد والفئة فرقة من قولهم: فاءت رأسه، وقد تقدم أن أسماء الفرق كثيراً ما تشتق من الألفاظ المقتضية للقطع كالصرمة، والقطيع والطامة، وما القوة بالمحمول، ويستعمل في قوة الحيوان، وأكثر ما يقال في الأثقال الجسيمة، وإذا قيل في غيرها، فعلى التشبيه، وروي في الخبر أن طالوت لم يكن يثق بقومه، فأراد أن يمتحنهم، وكان قد سار بهم مفازة لم يجدوا فيها ماء، فانتهوا إلى نهر من الأردن وفلسطين، فامتحنهم به ..

(1/511)


إن قيل: فكيف قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} فنسب ذلك إلى الله عز وجل ..
؟
قيل: يجوز أن يكون الله تعالى ألقى ذلك في روعه كإلقاء الوحي في روع أم موسى، ويجوز أن يكون قد أخبره نبي زمانه عن الله، ويجوز أنه نسبه إلى الله لما قصد به وجهه وإن لم يكن الله قد أخبره به، كقوله: ابتلانا الله بكذا، وبين تعالى أن أكثرهم لم يأتمروا له، وقال بعضهم: " إن ذلك جعله الله مثالاً لهم "، ومثلاً مضروباً للدنيا وأتباعها وأن من يتناول منها قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا، ومن تناول منها فوق ذلك ازداد عطشاً، وعلى هذا قيل: " الدنيا كالماء المالح "، من ازداد منها شرباً ازداد عطشاً، وإلى هذا أشير في الخبر المروي " أن الله - عز وجل - إذا سأله عبد شيئاً من عروض الدنيا أعطاه، وقال له: خذه وضعفه حرصاً " وإياه عني النبي - عليه الصلاة والسلام بقوله: (لو أن لابن آدم واديين ذهب، ابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} يجوز أن يكون معطوفاً على (هو ومعه) من صلة (آمنوا)، ويجوز أن يكون: (الذين آمنوا، ومعه) خبره، وهو الأجود، لأن الأظهر في قوله: {لَا طَاقَةَ لَنَا} إن ذلك حكاية عمن شربوا، وإليه ذهب ابن عباس والسدي وقالا: " هم أهل الكفر لا الذين آمنوا "، وقال الحسن وقتادة وابن زيد: " الذين قالوا: " لا طاقة لنا " هم المؤمنون " وقوله: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} ظن ها هنا هو المفسر باليقين عند أهل اللغة، وهو المعرفة الحاصلة عن امارة قومه، ويدل على ذلك استعمال أن المشددة أو المخففة منها، نحو: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} وإذا أريد الشك، استعمل معه (إن) التي تصحب المعدومين من الفعل، وقوله: (من) يجوز أن يكون استفهاماً، وأن يكون خبراً وإن كان معنى الاستفهام يعود إلى معنى الخبر، ولكن متى قدر استفهاماً نصب فيه إذا حذف عنه من، وإذا قدرته خبراً وجرت، وسكن منهم بأن عرفهم أن لا اعتبار بكثرة العدد وقلته وأحالهم على معرفتهم بالأعداد القليلة الغالية الكثيرة، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ..

(1/512)


فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)

قوله - عز وجل:

{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} الآية (250) - سورة البقرة.
البرز: المكان المرتفع، وبرز " حصل فيه "، وصار عبارة عن الظهور، وقيل للمشهور بالفضل: برز، و " امرأة برزة " قيل عفيفة، لأن رفعة المرأة بالعفة، لأن لفظ البرزة اقتضى ذلك، والأكثر أن البرزة هي التي لا تستقر، والفرغ: خلو المكان لما فيه، وخلو ذي الشغل من شغله، وسمي فرغ الدلو فرغاً باعتبار انصباب الماء عنه، وضربه ضربة مفرغة لدم البدن، والثبات: اللزوم في المكان، وعنه استعير قول ثابت، أي صحيح لا يبطل، وفلان ثبت المقام لمن لا يبرح موقفه في الحرب منهزماً، ونصر الله عنده قد يكون بزيادة قوته وجرأته، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، وغير ذلك، ولم يعن أنهم رغبوا إلى الله عز وجل - في ذلك بالقول فقط، فالقول ليس بمغن ما لم يعاضده فعل، ولا الفعل بمغن ما لم تعاضده النية، فالمعنى لما برزوا رغبوا إلى الله بمقالهم واجتهادهم ونياتهم أن يمدهم بالصبر، وتثبيت القدم والنصرة على الكفرة ..
قوله تعالى:

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} الآية (251) سورة البقرة.
الهزم: دفع الشيء لليابس حتى يتحطم، كهزم الشن، وهزم الرعد مشبه به لصوت تكسره، وقيل أصابته هازمة دمر أي داهية كاسرة كقولهم فاقرة، والمهزام ما يحرك به للجمز والهمز يقاربه في الأمرين الكسر، والصوت والدفع صرف الشيء من مكان إلى مكان، أو عن حالة إلى حالة، ودافعت فلاناً ودفعته أزعجته، وفلان مدفع مزعج عن مكانه أو بستانه، ووصف السيل الكبير بالدفاع، لدفع بعضه بعضاً، بين تعالى أنه جمع لداود - عليه السلام - الملك والحكمة والنبوة، وهي أعظم فضيلة، إذ

(1/513)


لم تخص بمجموعها إلا بعض الأنبياء، وجعل لبعضهم النبوة دون الملك، وإن لم يخل أحد منهم من نصرته - لقوله تعالى:
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} وقال لموسى عليه الصلاة والسلام: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} وقال: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} لقوله {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} فالكتاب: الأحكام، والميزان: العدالة، ومعنى الحكمة قد تقدم أنها معرفة حقائق الأشياء وحقيقتها إنما هي لله عز وجل، وإذا استعمل في غيره، فمبلغ ذلك تقدم طاقة البشر، وهي أعم من النبوة، فكل نبي حكيم، وليس كل حكيم نبياً، وقوله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} إشارة إلى العلوم النبوية التي لا وصول إليها إلى بالوحي، وفي قوله تعالى:
{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ} تنبيه على فضيلة الملك، وأنه لولاه لما استتب أمر العالم، ولهذا قال الدين والملك مقترنان، وتوأمان لا يفترقان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر، لأن الدين أس، والملك حارس، ومالا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، وعلى ذلك قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} الآية
إن قيل: على أي وجه دفع الله الناس ببعضهم؟ قيل: على وجهين أحدهما: دفع ظاهر، والثاني دفع خفي، قال: فالظاهر، ما كان بالسواس الأربعة الذين هم الأنبياء، والملوك، والحكماء والوعاظ، فسلطان الأنبياء على الكافة خاصهم، وعامهم، وظاهرهم، وباطنهم، وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون الباطن وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة، وسلطان الوعاظ على بواطن العوام وأما الدفع الخفي فسلطان العقل، فالعقل يدفع عن كثير من المقابح، وهو السبب في التزام حكم السلطان الظاهر، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}
إن قيل: ما فائدة ذلك بعد قوله: آنفاً {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}؟

(1/514)


تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)

قيل: بين في الأول فضله على الناس بما خصهم به من الفضائل الإنسانية، وبين ها هنا نعمته على جميع العالمين، والحيوانات، والروحانيات، والجمادات، فإن العالمين يتناول كل ذلك، وإلى نحوه أشار بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.
قوله - عز وجل:

{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية: (252) - سورة البقرة.
إن قيل: ما فائدة قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} في هذا الموضع؟ وهل خفي ذلك عليه حتى يذكره به؟ وما تعلق ذلك بما قبله؟
قيل: يجوز أن يكون تقديره (وإنك لمن المرسلين بها)، لكن لفظة بها إيجاز، أو يجوز أن تكون الآية متقدمتين محذوفتي النتيجة على تقدير: إذا كان حال المرسلين وأممهم ما نتلوه عليك، وأنت مرسل إلى قومك كما أرسل المرسلون إلى قومهم، فلا عجب أن تجري مع قومك مجرى أمرهم مع قومهم، والإشارة بذلك إلى معنى قوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}.
إن قيل ما فائدة اقتران التلاوة بالحق؟
قيل: قوله: بالحق في موضع الحال، كأنه قال: وهو الحق، وعلى تحمل عندي قوله: رب أحق بالحق.

(1/515)


تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)

قوله - عز وجل:
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}

الآية: (253) - سورة البقرة.
إن قيل: على أي وجه تفضيل بعضهم على بعض؟
أبتخصيص بعضهم بمنحة؟ كقولك: " فضلت فلاناً في العطاء؟ أو بالحكم والقول "، كقولك: " فضلت زيداً على عمرو في العلم "؟ قيل: بالأمرين جميعاً، فإن الله تعالى جعل لمن رشحه للنبوة فضائل خصه بها، ابتداء وفضائل هداه إليها ليصيبها، فما خصهم به أن جعل كل واحد في نفسه وأخلاقه معرى من عاهة تشينه، وأيده بأنواع كرامات وزيادة معاون تشرح صدره، وحدد عليه في كل وصايا تسدده، وعاتبه في أذى زلة ظهر منه، فهذا التفضيل الذي جعله ابتداء، وأما تفضيله لهم بالحكم، فعلى حسب ما يظهر من أفعالهم، فمعلوم أنه ليس حظ يونس - عليه الصلاة والسلام - حيث حذر نبينا - عليه الصلاة والسلام أن يكون مثله في الصبر بقوله:
{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} كحظ الذين حثه على الاقتداء بهم في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، فالتفضيل يحصل بالأمرين، وللتفاضل بينهم قال عليه الصلاة والسلام: " فضلت على الأنبياء بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وختم بي النبيون، وأرسلت إلى الناس كافة " ..

(1/516)


ولما كانت هذه الأشياء موهبية لا مكتسبة، قال عليه الصلاة والسلام: " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " تنبيهاً أن الفخر لا يستحق إلا بالمكسوب دون الموهوب، ونحو هذه الآية في تفضيل بعض الأنبياء على بعض قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}.
وهذا حكم في الملائكة بقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}، وقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} قيل إشارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الله،
فإن قيل: ولمَ لَمْ يصرح بذكره أو بوصفه، كما فعل بموسى وعيسى؟ قيل: تقدم أن مورد كلام الله تعالى مورد خطاب الناس فيما بينهم، ولما كان المستحسن في بعض المواضع أن يذكر الممدوح المخاطب تعريضاً، فيكون أبلغ من التصريح لما جرى من عادتهم أن مدح المواجهة هجاء، والثناء في الوجه قبيح، وتارة لأن الإطراء قد يدعو إلى الغفلة، وتارة لكون الممدوح بذلك المدح مستغني به عن ذكره كما قال الشاعر:
وإني في بنى ثنائِكَ جاهداً ..
.
وقدْ علمتْ أضعافَ ذاَكَ الْخلائِقُ
كمنْ قَالَ إن الثلجَ أبْيضُ باردُ ..
.
وأنًَّ شهاب النارِ أحمُر حارقُ
وَهَذَا وهَذَاَ بينانِ كلاهُمَا ..
.
لمِنْ هُو رائِي ولمنْ هُو ذَائقُ
وروح القدس إشارة إلى ما خص به عيسى مما كان يحي به الموتى ملكاً، أو قوة، أو اسماً من أسمائه أو علماً، وقد فسر بكل ذلك، وسمي جبريل - عليه السلام - روح القدس، والروح الأمين في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} وفي قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ}.

(1/517)


إن قيل: على أي وجه قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وكيف قال: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} ولفظة {لَكِنِ} هي للتدارك، فما المتدارك ها هنا؟
قيل: ذكر تعالى أنه لو شاء أن لا يقتتلوا الفعل، ولكن أراد ذلك لأنهم اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فكانت الحكمة تقتضي أن يؤمر المؤمنون بقتال الكافرين، ففي قوله: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا} حذف على سبيل الاختصار تقديره " لكن شاء فإنهم اختلفوا، أو الاختلاف كالسبب لتلك المشيئة،
فإن قيل: وما معنى تكرير: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}؟
قيل: أما الأول: فلأنه أمرهم بالاقتتال، لأنهم اختلفوا، وفي الثاني: ذكر أنه لو شاء لم يكن منهم اقتتال على وجه لا بعده ولا قبله، أما لأنه لم يكن يعطيهم القوة أو يميتهم قبل القتال، أو كان يمنعهم بمرض أو بسبب من الأسباب، ويجوز أن يريد بالاقتتال الأول: الاختلاف المؤدي إلى الاقتتال على طريقة ما يقال بين القوم، اقتتال: أي اختلاف يؤدي إلى ذلك، والمعنى لو شاء الله ما اختلفوا وكانوا أمة واحدة، كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية ..
وبالاقتتال الثاني حصول المحاربة بينهم ..
إن قيل: ما الفرق بين المشيئة والإرادة؟
قيل: أكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في أصل اللغة، وفي الحقيقة مختلفتين وذلك أن المشيئة أصلها من شيء، والشيء اسم للموجود، والمشيئة قصد إلى اتخاذ الشيء، ثم يقال: شاء الله كذا أي أوجده بعد أن لم يكن موجوداً، وقال بعضهم: الشيء والشاء من أصل واحد، وقلب الفعل، واستدل

(1/518)


على ذلك بقولهم: أشياء، وتأخير الهمزة فيه وإن كان أكثر أهل التصريف ينكرون ذلك، لكونها غير مصروفة، ويقولون كان فعلاً كطرفاء، فقلب، فصار على أمعاء، ومن اعتبر هذا الاعتبار بقول الواو والياء، لاعتبار ما عناهما، فكل واحدة منهما يعرض الانقلاب إلى الأخرى على حسب ما يقتضي خفة اللفظ وثقله أو التفريق بين معنيين، وأما الإرادة، فمصدر أراد، أي طلب، وأصله أن يتعدى إلى مفعولين، لكن اقتصر على أحدهما في التعارف، وفي الأصل لا يقال إلا لأن تطلب ممن يصح منه الطلب كالإطلاب، فإن بدل منه هذا الاعتبار في التعارف، وصار لطلب الشيء والحكم بأنه ينبغي أن يفعل أولا يفعل، وإذا استعمل في الله، فهو للحكم دون الطلب، إذ هو تعالى منزه عن الوصف بذلك.

(1/519)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

قوله - عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الآية: (254) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في معنى البيع والشراء، وإن كل واحد منهما يوضع موضع الآخر، ومبايعة الولاية من ذلك، والبيعة يجوز أنها سميت بذلك نظراً إلى نحو معنى قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، كأنه الحالة التي يتبع الإنسان نفسه فيها من الله فسمي المكان الذي يحصل ذلك فيه بها، والخلل انفراج الشيئين، يقال: خللته: أي أصبت خلله، فاستعير منه الخليل، إما لتخلل كل واحد منهما قلب الآخر كما قيل: الحبيب لوصول كل واحد منهما إلى حبة قلب الآخر ..
قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني .....
وبذا سمي الخليل خليلاً
أو لأنه تخلل أحوال الآخر، وعرف سرائره، ولهذا قيل أطلعته على عجزي، وتحرى فيهما عرقين في البطن، وبهذا النظر قال الشاعر:
لا تكتمن ذاك الطبيبا ....
ولا الصديق سرك المكتوما
أو لاعتبار افتقار كل واحد منهما إلى الآخر، وبهذا النظر قيل: الصديق للإنسان ضروري، وقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} على الاعتبار الأخير، وهو افتقاره إلى الله - عز وجل - في كل حال، كما أخبر عن موسى بقوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وبهذا الفقر أشرف غنى،

(1/520)


بل أشرف فضيلة يكتسبها الإنسان، ولهذا قيل عليه الصلاة والسلام: " اللهم اغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك ".
حث الله تعالى المؤمنين على ما رزقهم من النعمى النفسية والبدنية والخارجة، وإن كان الأظهر في التعارف وإنفاق المال، لكن قد يراد به بذلك النفس والبدن في مجاهدة العدو والهوى وسائر العبادات كما تقدم في قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا} ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء، والآخرة دار ثواب وجزاء، بين أن لا سبيل للإنسان إلى تحصيل ما ينتفع به في الآخرة ابتداء، وذكر هذه الثلاثة لأنها أسباب اجتلاب المنافع المقصود إليها أحدها المعاوضة، وأعظمها المبايعة، والثاني: ما يناله بالمودة، وهو المسمى الصلات والهدايا، والثالث: ما يصل إليه بمعاونة الغير، وذلك هو الشفاعة فبين تعالى أن من لم يكتسب في الدنيا ما ينتفع به في الآخرة لم يحصل له ذلك في الآخرة، وعلى هذا قال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} وقوله {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} {وَلَا خِلَالٌ} وفي الآية قول آخر وهو أن الناس في عبادة الله تعالى على ثلاثة أضرب، سابق حصل له منزلة الخلة، والمحبة المقصود إليها بنحو قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وغيره من الآيات التي تجري مجراها، وهو الذي يعبد الله لا لرغبته، ولا رهبة، ولا لطلب مثوبة، ومقتصد حصل له منزلة المبايعة المذكورة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:

(1/521)


" الناس غاديان: مبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها " وهو الذي يعبد الله خوف عقاب ورجاء ثواب، وظالم لنفسه، وهو المؤمن المقصر في استفادة المنزلتين المتقدمتين المتواكل في علمه وعمله المذكور في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وهو المستحق للشفاعة المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " فبين تعالى أن من لم يحصل له إحدى هذه المنازل الثلاث فلا سبيل له إلى اكتسابها في الآخرة، وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لما كانت العدالة بالقول المجمل ثلاث:
عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله تعالى، كذلك للظلم ثلاثة في مقابلتها وأعظم العدالة ما بين الإنسان وبين الله وهو الإيمان، وأعظم الظلم ما في مقابلته وهو الكفر، فلذلك قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي هم المستحقون إطلاق هذا الوصف عليهم بلا مثوبة ..
إن قيل: كيف تعلق قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} بما قبله؟
قيل: لما نفى أن يكون للكفار شيء مما ذكره في الآخرة، بين أن ذلك ليس بظلم منه لهم، لكن هم الظالمون إذ هم الذين خسروا أنفسهم ..
إن قيل:
كيف نظم هذه الآية مع التي قبلها؟
قيل: لما بين في الأولى أن منهم من آمن ومنهم من كفر، خوف المؤمنين أن يتحروا ما يخشى منه

(1/522)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)

اجتلاب الكفر، وهو ترك الإنفاق على ما تقدم قوله ..
قوله - عز وجل:

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} الآية: (255) - سورة البقرة.
قد تقدم أنواع الحياة، وأن أشرفها الحياة الأبدية في الآخرة، وإذا وصف الباري - عز وجل - بها، فمعناه الدائم الذي لم يزل ولا يزال، ولا يصح عليه الموت بوجه، والتحية بذل الحياة فإذا قيل.
" حياك الله "، فمعناه: خولك الحياة، وكذا إذا قيل: " حياك فلان " غير أن الأول إعطاء بالفعل، والثاني بالقول وكذلك التسليم إعطاء السلامة على أحد الوجهين، والقيوم فيعول، وقال: فيعال، وكذلك واوه لأن الواو والياء إذا اجتمعا والأولى ساكنة، قبلت الواو ياء، وعلى ذلك " ديار " ولو كان فعلها لقيل قوام، ودوار " يقال قام كذا " أي دام، وقام بكذا، أي حفظه، والقيوم في وصفه تعالى هو الدائم الحافظ للعالم وجواهره وأعراضه، والقصد بمعناه إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} ومن قال: القيوم بالشيء: العالم به، فصحيح أيضا، لأن حفظ الشيء يقتضي المعرفة به، ولهذا قيل للمعرفة الحفظ، ولضدها النسيان، وأصل النسيان الترك، والأخذ يعبر به عن الاستيلاء على الشيء والقهر يقال: أخذته الحمى، وفلان مأخوذ ومقهور، والسنة: عبارة عن الفتور والغفلة، والنوم يفسر على أوجه كلها صحيح، الأول: أنه استرخاء أعصاب الدماغ برطوبة البخار الصاعد إليه، وذلك بالنظر الطبي، والثاني: أن يتوفى الله النفس من غير موت، وهو الذي قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} وقيل: ترك الروح: استعمال الحواس من خارج إجماماً لها، وسئل بعض

(1/523)


الحكماء عن الفرق بين النوم والموت، فقال: الموت نوم ثقيل، والنوم موت خفيف، ولما كان النوم يقتضي السكون، قيل لمن يسكن إلى إنسان أو شيء استنام إليه، وإلى مقتضاه أشار بشار بقوله:
إذا أيقظتك حروب العدا ....
فنبه لها عمراً ثم نم
{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} قيل: الماضي، {وَمَا خَلْفَهُمْ} المستقبل، وقيل على العكس من ذلك، وهذا الاختلاف لاختلاف تصور ما اعتبر به الخلف والقدام، ولهذا يقال: خلفت كذا لما قضيته، وخلفي كذا لما لم تفعله بعد، وعلى ذلك قيل: وراءهما: الخلف والقدام، وقيل: {ما بين أيديهم}: الدنيا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الآخرة، وقيل بالعكس من ذلك، وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: المحسوس، {وَمَا خَلْفَهُمْ} المعقول، وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} المحسوس والمعقول، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الغيوب التي لا سبيل للإنسان إلى معرفتها، والكرسي في تعارف العامة اسم لما يقعد عليه، وهو في الأصل منسوب إلى الكرسي أي الملبد، والكراسة للمتكرسة من الأوراق، والكروس، للمتراكب بعض أجزاء رأسه على بعض لكبره، والكرياس: الكنيف المكرس بالفناء إلى السطح، وروي ابن عباس: أن الكرسي: العلم، وليس ذلك بتعبد من حيث الاشتقاق نسبة إلى الأوراق التي تثبت فيها العلوم، كقولك: كراسي، وقيل: كرسيه: أصل ملكه، وكراسي القوم معتمدهم، وأنشد:
تخفُّ بهمْ بيضُ الوُجُوهِ وَعصْبةُ ....
كراسيُّ بالأحْداثِ حينَ تثوُبُ

(1/524)


وقيل: كرسيه: مملكته، وقيل: اسم الفلك المحيط بالأفلاك، ويشهد لذلك ما روي أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما السماوات السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الكرسي لؤلؤة طولها لا يعلمها العالمون، وأعظم من سبع سماوات وسبع أرضين، وهو من خير الجوهر) وعن ابن عباس أن رجلاً أتاه، فسأله ثلاث مرات عن هذه الآية، وعن قول الله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ سموات} فلم يرد عليه شيئاً فلما خف عنه الناس، قال له الرجل: ما منعك أن تجيبني؟
فقال: " وما يؤمنك إن أخبرتك أن تكفر؟ سماء تحت أرض، وأرض فوق سماء، مطويات بعضها فوق بعض، يدور الأمر بينهن "، والخبر الأول يدل أن جوهر الكرسي والسماء أشرف مما عرفناه، والخبر الأخير يدل على أن الفلك كروي، وما روى أن الكرسي موضع القدمين، وأن له أطيطا كأطيط الرحل الحديد فصحيح، ومعناه لا يخفي على من عرف الله عز وجل - وعرف الأجرام السماوية

(1/525)


ومجازات اللغة، ونظر من المعنى إلى اللفظ لا من اللفظ إلى المعنى، ومن لم يعرف ذلك فحقه أن يسلم اللفظ للرواية دون تكذيب الآية، ويترك الخوض فيما لا يعلم إتباعاً لقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وليس في إثبات الكرسي له إثبات كونه جسماً محدوداً، كما أنه ليس في إثبات البيت له إثبات كونه ساكنة وليس في نسبة القدم إليه إثبات جارحة، كما أنه ليس في قوله - عليه الصلاة والسلام في وصف أولياء الله عز وجر - " أكون سمعه الذي يسمع به، وعينه التي يبصر بها، ويده التي يبطش بها " إثبات جارحة، و " لا يؤوده " - لا يثقله أصله من الأول العوج، ولما جرت العادة أن متحمل الثقل يعوج في الممر استعير (أده) كذا للثقل، وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} معناه: الله هو الذي يحق له العبادة لا غير، وقيل: الله الذي ولهت الأشياء كلها له، وذاك أنه ما من إنسان مؤمن وكافر، بل ما من حيوان إلا إذا نابته نابية شديدة اعتمد عليه، ووله إليه، ولهذا قيل: " الله محبوب الأشياء كلها إما بطبعها، وإما بقصدها، وقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} تأكيد لما اقتضاه الحي القيوم - تنبيهاً أنه وإن شارك الأحياء في الاسم، فقد فارقها في الحقيقة، إذ كان سائر الأحياء لا ينفك من غفلة ونوم ..
إن قيل: كيف خص بملكه ما في السماوات والأرض، وذلك يوهم أن ليس له السماوات والأرض؟
قيل: لم يرد بقوله (في السماوات والأرض) معنى الشيء في الوعاء وفي المكان، وإنما يريد ما تركب منه السماوات والأرض من الجواهر والصور والأعراض والصنع، فصار ذلك من وجه أبلغ من قولك (له السماوات والأرض)، إذ قد يحصل للمالك ما ليس بمصنوعه، على أنا لو نظرنا من حيث

(1/526)


نظرت، لم يكن يقتضي ذلك ما ذكر، لأنه لما قصد تعالى تعريفنا قدرته، ذكر لنا ما يمكننا إدراكه لنستدل به على ما لا نعرفه والإحاطة بالسماوات والأرض لا سبيل لنا إليها، وقد تقدم آنفاً حقيقة الشفاعة، وذكر مستحقيها، وأن ذلك لمن كان منه تقصير في العلم والعمل، غير أنه لم يخرج عن خطر الشريعة وعن الائتمار لرسل الله وخلفائهم من أهل العلم في الاعتماد الوصول وكون ما جاءوا به حقاً، وهم الذين أذن تعالى في الشفاعة فيهم، وعناهم بقوله:
{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} نفى تعالى عنا الإحاطة بشيء من علمه، وكيف يمكن لنا ذلك، وقد علم أن المحيط بنا علماً، كما قال - عز وجل: {قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ومن المحال أن يكون المحيط بكل شيء يحيط به شيء، وقوله: {مِنْ عِلْمِهِ} على وجهين: أحدهما مما يعلمه، وهو ويكون العلم مضافاً إلى الفاعل، والثاني: أن يعلمه الخلق ليكون مضافاً إلى المفعول به، أي لا يحيطون أي يعلموه تنبيهاً أن معرفته على الحقيقة متعذرة، بل لا سبيل إليها، وإنما غايتها أن يعرف الموجودات، فيتحقق أن ليس إياها، ولا شيئاً منها، ولا شبيهاً بها،

(1/527)


بل هو سبب وجود جميعها، وأنه يصح ارتفاع كل ما عداه مع بقائه تعالى، وبهذا النظر قال أبو بكر - رضي الله عنه - " سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته "، وقال بعض الأولياء: " غاية معرفة الله أن تعلم أنه يعرفك لا أنك تعرفه "، ولهذا قيل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وقال أمير المؤمنين:
" تجلى لعباده في القرآن من غير أن يروه، وأراهم نفسه من غير أن يتجلى لهم "، وقوله: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} أي: إلا بما شاء أن يقفهم عليه من القليل الذي قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ثم أكد بما فيه عليه بقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} بقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي إذا كان علمه ومملكته وقدرته محيطة بهذه الأشياء والإنسان بعض هذه الأشياء، فكيف تصح إحاطته بمن هو محيط بهذه الأشياء وهو يعجز عن الإحاطة بها، والعلي هو القاهر فوق عباده، وقيل: العلي عن النظير، وقيل: القادر على حفظه، وقيل: القائم به، وكل ذلك راجع إلى التنبيه على قدرته وسلطانه وأن ما عداه مستحقر بالإضافة إليه.

(1/528)


لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)

قوله - عز وجل:

{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية: (256) - سورة البقرة.
الغي كالجهل، إلا أن الجهل يقال اعتباراً بالاعتقاد والغي اعتباراً بالأفعال، ولهذا يقال: الجهل بالعلم، والغي بالرشد، ويقال لمن أصاب رشد، ولمن أخطأ غوى، وعلى هذا قال الشاعر:
ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
والطاغوت وزنه (فعلوت)، نحو جبروت وأصله طغووت، لكن قلب لام الفعل نحو: صاعقة وصاعقة، ثم قلب الواو ألفاً لتحركه وانفتاح ما قبله، ويسمى كل ما يصرف عن الله عز وجل - طاغوتاً وشيطاناً كان أو إنساناً، ولهذا روي عن عمر ومجاهد وقتادة أنه الشيطان، وعن ابن جبير أنه الكاهن، وعن أبي العالية أنه الساحر، وعن غيرهم أنه صنم، وقيل: هو المارد من الناس والجن، وكلهم صارفون للإنسان عن طريق الحق، وقد تقدم أن النهي عن أتباع الطاغوت والشيطان، وإبليس والهوى

(1/529)


والدنيا يجري مجرى واحداً في أن المقصد به النهي عما لا يرضاه الله، وقوله:
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} وعلى ذلك حث بقوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} وقوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} والكره يقال على ضربين: أحدهما أن يكون مفسراً من خارج، وذلك على أحد الأوجه الثلاثة، إما بأن يهدد بالضرب أو يضرب حتى يفعل، وإما أن تؤخذ يده فيفعل بها، فيكون في هذا كلالة، وإما أن يدعوه من يزينه في عينه، والثاني: ما يكون مفسراً من داخل، وذلك إما بخوف يستشعره، وإما بهوى يغلبه، وقد روعي كل ذلك في تفسير الآية، فقيل فيه أوجه:
الأول: إن ذلك حث على أن لا يحمل الإنسان على الدين بالقسر، بل يعرض عليه الإسلام عرضاً ويعرف فضله، فإن قبل: وإلا ترك؟ قيل: وهذا حكم كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ بسورة براءة، وذلك عن السدي، وابن زيد، والثاني: نحو ذلك، غير أنه خص بمن قبل منهم الجزية دون مشركي العرب، وذلك عن الحسن، وقتادة، والضحاك، وعلى هذين معناه: أمن، والثالث: أن قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ} لا اعتبار بالإكراه في الأحكام الدنيوية، فالمكره على الإسلام، وغير المكره سيان بعد أن يلتزما ..

(1/530)


والرابع: لا حكم للكفر لمن أكره على الكفر، والدين يكون لغير الحق على هذا نحو {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
الخامس: لا اعتداد في الآخرة بما يفعل الإنسان في الدنيا من الطاعة كرهاً، وكرهاً، فإن الله يعتبر السرائر ولا يرضى إلا الإخلاص، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
" الأعمال بالنيات " وقال: " أخلص يكفك القليل من العمل ".
السادس: ليس يحمل الإنسان على أمر مكروه في الحقيقة بما يكلفهم الله، بل يحملون على نعيم الأبد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ".
السابع: أن الله تعالى ليس بمكره على الجزاء، بل يفعل ما يشاء بمن يشاء على ما يشاء، والاستمساك طلبك إلى الغير ليمسك كالاستحفاظ والاستنصار، و {بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} مستعارة للعبد المركون إليه كالحبل في نحو:
أخذت بحبل من حبال محمدٍ ....
أمنتُ به من طارق الحدثان

(1/531)


اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)

ونحو:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ....
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فقول من قال: العروة الوثقى الإسلام، وقول من قال: " لا إله إلا الله، وقول من قال: الثواب: الجنة، فنظرات منهم إلى مبتدى الدين ومنتهاه، وكله صحيح.
قوله - عز وجل:

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية - (257) - سورة البقرة
الولي: كون الشيء بجنب الآخر، ويعتبر ذلك تارة بالمكان، فيقال له الولاية وتارة بالنصر فيقال له الولاء والموالاة، لكن الولاء على ضربين باعتبار نسبة الأعلى إلى الأسفل، وضرب باعتبار نسبة الأسفل إلى الأعلى، ولهذا يقال للخادم والمخدوم مولى، وولي، لأن كل واحد منهما يوالي الآخر الخادم بالطاعة والنصيحة، والمخدوم بالإشفاق، والكناية، وقال: أهل اللغة: المولى المالك، والمملوك والمعتق والمعتق والناصر والمنصور وابن العم والحليف والجار والقيم، وأخذوا في كل ذلك المتطابقين، لكون كل واحد مهما موالياً للآخر بوجه ..

(1/532)


والنور: عبارة عن العلم والإيمان والظلمة عن ضدهما، ووجه ذلك أنه لما كان للإنسان نظرات بنظر وتبصر، ويرى بهما البصر الحاس في الرأس والبصيرة في القلب، فكما أن البصر لا يستغنى في إدراك ما يدركه من المعقولات عن نور يمده وهو نور التوفيق والإيمان، ويقال لفقد البصرين عمى، ولفقد النورين ظلمة، وأعظمهما ضرراً فقد البصيرة ونور العقل، ولهذا قال تعالى:
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فلم يعد فقد البصر عمى.
بالإضافة إلى فقد البصيرة، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وقوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وقوله: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يعني بذلك كلا النورين والظلمتين،
إن قيل: وهل هذا النور موهبة أو مكتسب؟
قيل: لا شك في كونه موهبة، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} لكن فيه للاكتساب حظ، فإن ابتداء ما يحصل ذلك للإنسان كشررة، متى لم ترع همدت، وإذا روعيت زادت، كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} بين تعالى إن الله عز وجل - يوالي المؤمنين بأن يوفقهم ويهديهم، وهم يوالونه بأن يشكروه ويعبدوه، كما قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فهو يخرجهم من الجهل والكفر إلى العلم والإيمان والثواب والكافرون، يواليهم الشيطان في إخراجهم إلى أضداد ذلك
إن قيل: لم قال: أولياؤهم وما يفعل بهم الطاغوت هو بالمعاداة أشبه منه بالموالاة؟
قيل: لعمري إن ذلك نهاية المعاداة وتسميته بالموالاة أولى لمقابلة اللفظ، وثانياً: لتحريهم ما يقع بوفاقه، وميلهم إلى حزبه، فجعله موالاهم في اللفظ لا في الحقيقة، ألا ترى أنه قال: {أَلَمْ

(1/533)


أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} فسماه عدواً، وعلى حد جعله أوليائهم جعلهم حزبه في قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} وقال للمؤمنين: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.
إن قيل: فكيف قال ها هنا: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} وقال في آخر {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}.
قيل: إن من وليه الشيطان، فلا ولي له، ولا فرق بين أن يقال: وليه من نصره، وبين أن يقال: لا ولي له، وقول من قال: الله ولي المؤمنين بتوفيقه وعصمته، ومن قال بإقامة البرهان لهم، ومن قال بنصرته على عدوهم، وإظهار دينهم على دين مخالفيهم، من قال بثوابهم، فكله صحيح ومراد، لأن ذلك متلازم، وإنما اختلفت العبارات عليهم بحسب النظرات ونحو ذلك في استعمال النور والظلمة في العلم والجهل والإيمان والكفر ..
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الآية.
إن قيل: كيف؟ قال (يخرجونهم من النور إلى الظلمات) وقد قلت: النور: العلم والإيمان، والكفار لم يكونوا في هذا النور، والإخراج عن الشيء يعد لكون فيه، قيل: إن الله تعالى خلق الإنسان على فطرة، ركز فيه العلم والإيمان بالقوة، وهو المعنى بقوله: (فطرة الله)، و (صبغة الله)، وقول النبي- عليه الصلاة والسلام: " كل مولود يولد على الفطرة "، والإنسان متى أهلك نفسه وأفسدها بالهوى والتدليس بالجهالات، فقد أخرج من النور إلا الظلمة، وقال الحسن إخراجه إياهم منعهم من الدخول فيه كقوله:

(1/534)


{لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ} فجعل صيانتهم من العذاب كشفنا عنهم، وروي عن مجاهد أن ذلك في قوم ارتدوا عن الإسلام، وقيل إن ذلك نزل في قوم كفروا بعيسى ثم آمنوا بمحمد- عليهما الصلاة والسلام- فأخرجهم الله من الظلمات إلى النور، وقوم آمنوا بعيسى- عليه الصلاة والسلام-، ثم كفروا بمحمد- عليه الصلاة والسلام-، فأخرجهم الطاغوت من النور إلى الظلمة ...
إن قيل: لم قال: يخرجونهم بلفظ الجمع؟
قيل: قد قال بعضهم: الطاغوت يقع على الواحد والجمع كالفلك، ووجه ذلك من حيث المعنى أن الطاغوت إشارة إلى المضلات من الشيطان والهوى وسائر ما يضل، وقد قال بعض الحكماء ما هو كالتفسير، لذلك إنه متى يخالف العقل والهوى شيئا ما، أعنى: مؤلماً- جميلاً وملذاً فضيحاً، يبادر الملك إلى نصرة العقل، فيصير من حزبه، والشيطان إلى نصرة الهوى، فيصير من جنده وإن استشار صالحاً من عباد الله، أشار عليه بمقتضى العقل، وإن استشار شريراً أشار عليه بمقتضى الهوى، ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}

(1/535)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)

إن قيل: كيف نظم هذه الآية مع ما قبلها؟
قيل: لما قرر عظمته بالآية المتقدمة، بين في هذه أن الذي له العظمة هو مولى المؤمنين تشريفاً لهم، وتعظيمه لمكانتهم، وأن الشيطان مولى الكافرين تدليلاً لهم، فقد قالت العرب:
" أشرف الموالي لي أشرفهم سيداً، أكرم السائلين أكرمهم مسؤولاً ".
وعلى هذا قال الشاعر:
يضع الزيارة حيث لا يزري بنا ...
شرف المزور ولا بحسب الزور
قوله- عز وجل:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}

الآية: (258) - سورة البقرة.
المحاجة: المقاومة في إظهار الحجة، أي محجة الرشد، والشمس اشتق عنها شمس فلان إذا نفر تشبيها بالشمس التي لا يمكن أن يقبض عليها، وعلى ذلك قوله:
كالشمس ضوؤها قريب ولكن في تناولها بُعْدُ وقيل: شمس إذا عادى ..
وذاك أن حقيقة المعاداة تنافر طبع المتعاديين بعضلها من بعض من عداه إذا تجاوزه، والشمسة في القلادة تشبيها في الحسن والهيئة، والبهت أن تفعل بالإنسان ما يحيره، وسمي الكذب المستقبل به الإنسان بهتانا، لتحير صاحبه فيه ..
والذي حاج إبراهيم في ربه، قيل كان نمرود بن كنعان، وكان قد ملك الدنيا، ويقال: إنه ما

(1/536)


ملكها إلا أربعة مؤمنان: وهما سليمان، وذو القرنين، وكافران: نمرود وشداد ..
إن قيل: ما الذي ادعى هذا الكافر؟
ادعى نفي الخالق؟ أم ادعى لنفسه الربوبية؟ أم الأمرين؟ فإن ادعى الربوبية، فعلى أي وجه ادعى، فبعيد أن يزعم من وجد بعد أن لم يكن أنه موجد الخلائق ...
قيل: قد ذكر المخلصون في ذلك وجهين، أحدهما: أن هذا الكافر نمرود، وكان الناس حينئذ يعظمون ملكهم حتى كانوا يسمونه الرب والإله، ولهذا قيل: (الله رب الأرباب وإله الآلهة)، وكانوا يدعون له أفعالاً ألاهية تقصر قدر البشر عنها، وقد حكى الفرس عن ملوكهم شيئاً كبيراً من ذلك كما ادعوا لكن خسرو أنه ألجأة عدو له إلى سفح جبل، فحملته الملائكة، وأن شابور لما حارب التنين، فأظلم عليه الدنيا، أنزل عليه نارا، فصارت على عرف فرسه، فاستضاء بها حتى قتل التقين، وكان نمرود لما طغى سام الناس أن يعبدوه عبادتهم لله، إذ هو بزعمهم سايسهم، وملكهم، وربهم، وإلأههم، فهذاك أحد الوجهين، والثاني: أنه كان يذهب مذهب من يقول بالحلول، أن الباري- تعالي عن ذلك- يحل في أشخاص الأئمة حسب ما ادعى بعض المتنصرة وبعض المتشيعه الملحدة، وكان نمرو يدعي الربوبية على أحد هذين الوجهين، لا أنه ينكر رب العزة ...

(1/537)


إن قيل: ما الذي حاج إبراهيم؟
فإن المحكي عنه ليس بأكثر من ادعى إبراهيم دعوى، فعارضه بمثلها فانتقل إلى دعوى أخرى، وإن كان ما ذكره إبراهيم ثانية حجة، فهلا كان يعكس عليها ويقول: فليأت ربك بشمس من المغرب، فإن الآتي بها من المشرق حتى كان لا يبهت، قيل: قد تقدم أن ما يمكنه الله عن الأمم لا يكاد يستوفي القصة من أولها إلى آخرها، بل يورد نكتة، ويشير إليها إشارة وهو لم يستوف ذكر ما حاجه به كله، وقد تقدم أن نمرود لم يدع أني شخص وحشي موجد السماوات والأرض، وإنما كان ذلك على أحد الوجهين المتقدم ذكرهما، وكان قد ادعى أن كل ما هو داخل تحت قدرته، فهو أو مثله أو قريب منه داخل تحت قدرتي، فقال إبراهيم: ربي الذي يحي ويميت فقال أنا أحي وأميت، فأخرج رجلين من الحبس، فخلى أحدهما، وقتل الآخر، فقال: هذا أحياه وهذا أماته، وقد كان إبراهيم يمكنه أن يزيد أن الذي ادعاه لربه ليس هو الجنس الذي ادعيته لكن عدل إلى فعل ليس في طرق البشر هو ولا قريب منه ولا ما يشاركه اسما، مقال، قد ثبت باتفاق أن الله يحرك الشمس من المشرق، فحرك أنت تحريكاً من المغرب، فلم يجد شيئا يدعيه كما ادعي في الأحياء والإماتة، فبهت حينئذ، وظهر عجزه إذ لم يكن من جنس إطلاع الشمس وإغرابها شي ممكن للملوك كما ادعي الإحياء والإماتة، ولم يمكنه أن يعكس ذلك، فقد كان أقر بالباري، وإنما كان يدعي أنه يفعل فعله،
إن قيل: أليس العدول من حجة إلى حجة يعده أهل الجدل انقطاعاً؟ فما وجه ما فعل إبراهيم؟
قيل: أما أولاً، فما ذكره إبراهيم كان معارضة، وذاك أن الكافر ادعي أن في وسعه أن يفعل كل جنس من الفعل يفعله الباري- عز وجل، وذلك ادعاء حكم موجب كلي، والكلي ينقض بالجزئي، نحو أن يقال: كل إنسان كاتب، فمتى وجد إنسان شرير كاتب فقد ظهر كدبه، وللمعارض إذا أراد المناقضة أن ينتقل عن مثال خفي إلى مثال جلي، ولا يكون ذلك منه انتقالاً، وهذا باب قد أحكمه أهل الجدل، على أن ذلك لو كان ابتداء حجة، لم يكن على شرط أهل النظر بمذموم، فالحجج الجدول عليما ضربان.

(1/538)


حجة يذكرها، ثم يتركها لظهور فسادها، وذلك مما لا يرتضيه أهل النظر وحجة يذكرها، فيقصر فهم سامعها عن إدراكها، أو يكثر مشاغبته فيها، فيعدل عنها إلي ما هو أوضح، إذ كان كل يتبين الحق وإزالة الشبهة، وهذا ليس بمذموم، وقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} قال بعضهم: أراد إبراهيم لأن الله تعالى لا يؤتي الملك الكفرة، لأن ذلك مفسدة ينزه الله تعالى عنها، وأكثر المفسرين على أنه النمروذ وذاك أن السلطان من الأغراض الدنيوية، كالمال، والجاه، والأولاد، وذلك مما يؤتي المؤمن والكافر امتحانا واختباراً ...
إن قيل: أليس قلت: إن الملك اسم لما فيه العدالة، فكيف يصح أن يقال ذلك لما يتوارد للكافر؟
قيل: إن الملك الحقيقي الذي يجوز للإنسان المتسمي به هو ذاك لكن الناس يستعملونه فيمن يتسلط على الناس على أي وجه كان فتسمية الله تعالي إياه بذلك إنما هو على زعمه، وزعم أتباعه، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} فسماه عزيزاً لا بالحقيقة لكن على ما كان يتسمى به ...
إن قيل: كيف قال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، والظالم أولى بأن يُهدى؟
قيل: قد تقدم أنواع الهداية وأحوالها، وأنه قد يراعى في إطلاقها مبدؤها تارة، فتستعمل في الجميع الذي يمكنهم الاهتداء، وعلى ذلك قال {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}، ومرة يعتبر منتهاها الذي هو الاهتداء، فيقال: " هدي الله المؤمنين "، وعلى هذا قوله تعالي: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} فقوله: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، أي: لا يقبلون منه هدايته لهم، وإذا لم يقبلوا منه لم يعطهم، وإذا لم يعطهم فهو لم يهدهم، وأيضا فالظلم هاهنا مناف للهداية، فإنه جحود ألاء الله، والامتناع من قبولها والهداية تقتضي تحري العدالة، فإذا الهداية والظلم

(1/539)


أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)

كالمتضادين لا يجتمعان ...
إن قيل: لم أفرد النور وجمع الظلمة، قيل: لما كان النور عبارة عن الحق، والحق من حيث ما هو حق شي واحد لا يتنافى ولا يتناقض، والباطل من حيث ما هو باطل يتضاد ويتعاند صار فيه كثرة، ولهذا شبه الحق بالمقرطس من المريء في أنه واحد واحد، والخطأ ما عداها وهو كثير بلا نهاية، فلذلك أفرد النور وجمع الظلمة ...
قوله تعالي:
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

الآية (259) - سورة البقرة.
الخو: خلو الوعاء، يقال: خلت الدار، تخوي خواء، وخوي النجم وأخوى إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك، وأخوي أبلغ من خوي، كما أن أسقي أبلغ من سقى، وخوي جوف فلان خوي، والتخوية: ترك ما بين الشيئين خالياً ...
والعرش: ما ارتفع من البناء، ويقال ذلك للسقف والسطح، وسمي السرير به تشبيهاًَ، أو عبر به عن أمر الإنسان، وقيل: استوى عرشه، وتل عرشه، والتعريش بناء ذلك وبه شبهه تعريش الكرم، وسمي المعررش منه عريشاً، وقيل: عرش الحمار إذا رفع رأسه وجعله كعرش، وعرشان الفرس شعر عرفه تشبيها بعريش الكريم ...
والعام: مدة تعوم الشمس في أفلاكها المختصة بها، وذلك اعتبارا بنحو ما قال- عز وجل- {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والاعتيام اختيار الشيء، وأصله أن يسير الإنسان كسابح فيه يتناول ما يريد.

(1/540)


ولهذا قال الشاعر
وكنت في نعمائه سابحاً ..
والحمار سوي للونه اعتباراً بعامة جنسه، لأن الوحشيات منها، وكثيرا من الإنسيات حمر، فسمي بذلك كما سمي العجم حمراً، والعرب سوداً، لكون أكثرهم كذلك، وحمار السرج، والحمارة لحجر عظيم تشبيها بالحمار في المهيئة، والحمرة: طائر أحمر اللون، وحمارة القيظ، أشد ما يكون حراً تشبيهاً بالجمر المتوقد لوناً، والنشز من نشزك الثوب، ونشز الريح العرف، وقاره تعدي نشر، ومصدره الناشر كقوله تعالي {يين بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، وتارة لا يعدي، ومصدره النشور، كقوله- عز وجل- {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}، ويقال: أنشره، كأنه جعل له نشراً، كقولك: (أسقاه: حبال له سقياًَ، ونشر الخشب، تشبيهاً بذلك، لجعل أجزاء الخشب منشورة، وإذا قرئ " ننشزها " فمعناه: نرفعها من النشز، أي المرتفع من الأرض، ومنه نشوز المرأة أن تطيح ببصرها إلى بشر صارفة له عن زوجها.
كقول الفرزدق:
إدا جلست عند الإمام كأنها
بها رفقة من ساعة يستحيلها

(1/541)


وكقول الأخر:
إذا الليل عن نشز تخلى رميته
بأمثال أبصار النساء القواري
قوله: " لم يتسنه ": أي لم يتغير بمرور السنين عليه، وذلك من لغة من يجعل المحذوف من السنة الهاء (سينهه وسانهه)، وقيل هو من " سانيت "، والهاء للاستراحة، وعلى هذا يجب أن يحذف إذا وصل الكلام كذا، على قول من قال: المسنون: المتغير، ويقال: يتسنى، وأصله يتسنن فعلت تخفيفاً، كقوله:
" تطنيت، وتعضيت، وتسريت "
إن قيل: ها الذي شبه بالذي مر على قرية؟ وعلى ماذا عطف؟ قيل: قد قال بعضهم: إن ذلك متعلق بما بعده، وهو قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}، ودلك بعيد لفضل " وإذ " بينهما، وقيل: الكاف زائدة، وليس بشيء والوجه أن الكاف ههنا ليس للتشبيه المجرد بل هو للتحديد والتحقيق كما هو في قولك الاسم كزيد وعمر وعلي أنه وإن جعل للتشبيه، فعلى سبيل المثل والمشبه غير مذكور، كما أنه غير مذكور في قولهم كالمهورة إحدى خدمتيها، ويحتمل أن تكون الآية من كلام إبراهيم معطوف على ما تقدم، وهو أنه لما قال للكافر: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}، قال له بعد: {أوَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}، أي إن كنت تحي فأحي كما أحيا الله وصفه في هذه الآية ..
ويحتمل أن تكون آية مستأنفة، وضرب الله مثلين لشيئين أحدهما في ادعاء الربوبية، وهو ما تقدم، والثاني في إنكار البعث، وهو هذه، ويكون في قوله: {كَالَّذِي} في موضع الجر على ما تقدم،

(1/542)


كأنه قال: (وألم تر إلى الذي حاج .. ) إلى مثل الذي مر على قرية،
فإن قيل: فهل في تخصيص القصة الثانية بحرف التشبيه، وإخلاء الأولى منه فائدة؟
قيل: بلى، فإن ادعاء الربوبية إنما قل في الناس، حتى إنه لم يعهد ذلك إلا في نفس أو نفسين وقال: (ألم ترى إلى الذي) والتشكل في الإحياء، من الجم الغفير، فنبه بقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ} تنبيهاً أنه نظر إليه وإلى مثاله، وجعل نالك مثلاً لمن نحى نحوه كقولك للكافر: كفلان، فتأتي بواحد على سبيل المثال، ولما ذكر تعالي إخراجه المؤمنين من الظلمات إلى النور، جعل اعتبار ذلك هذين، كأنه قال اعتبران تثبيت إبراهيم وإخراجه له من ظلمه الكفر إلى الإيمان مما جعلت له من الحجج، وإن شئت فيمن أخرجته من شبهة البعث بما جعلت، له من العيان، والذي مر على القرية، قيل كان عزيزاً عن قتادة والربيع، وقيل: " كان أرمنينا عن وهب، وروي أنه مات ضحى وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، وقيل له: كم لبثت؟
قال: لبثت يوما، فلما نظر إلى الشمس قال: أو بعض يوم، وقيل: بدأ تعالي بعينيه، فنفخ فيهما، ثم بعظامه، فأنشزها، ثم وصل بعضها ببعض، فنظر إلى حماره، وأجزاؤه تجئ من سهل وجبل، حتى اجتمعت فاتصل بعملها بعضها، وكسى لحمه، وجرى فيه الروح، فقام ينهق، فقال: أعلم: أي اعترفت بقدرة الله تعظيماً لف، ومن قال: أعلم، فقد قليل: هو من قول الله عز وجل- له، وقيل: هو من قوله وقد خاطب به نفسه على طريق التبكيت، وقال بعض الناس بعزوه إلي بعض الأئمة أن الإشارة بالإحياء والإماتة إلى العلم والجهل، ومعنى القرية الرجال، بدلالة قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا}، وقوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} وقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، وجعل الخوى حلواً ينم

(1/543)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

عن العلم والإيمان، وكذلك الإماتة والاحياء، إفادته العلم والإيمان، نحو قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وقوله تعالي: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا} الآية، قال: وكان قد رأي قوماً متناهين في ألبعد عن العلم والإيمان، فاستبعد رجوعهم إلى الحق، فقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ} أي: أني يفيدهم الإيمان، فأماته الله مائة عام، ثم أحياه، وأعلمه أن الذي يقدر على إحياء الرمم عن الموت الحيواني لقادر على إحياء النفس الميتة بالجهل ...
قوله- عز وجل: -
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

الآية (260) - سورة البقرة.
الاطمئنان: السكوت، واطمأن، وتطامن يتقاربان لفظاً ومعنى من مكان مطمئن ...
قيل: ويدل على ذلك أنه قال في مكان أخر (مخبتين)، والمخبت: المطمئن من الخبت، أي المطمئن من الأرض، وطار، وطير، نحو راكب وركب، و " تطايروا " أي تفرقوا، استعارة وفجر مستطير، وغبار مستطار، خولف بين بيانهما لاختلاف التصورين في كون الفجر فاعلاً والغبار مفعولاً وفرس مطار يقالك للسريع، ويقال لجديد، الفؤاد كأنه أطير فلبه، كقولهم شهم ومروع وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} أي ما يدمن أفعاله وصرته أصوره، أي أملته وصرته: قطعته صورة صورة، وقيل: صرت، وصرت: لغتان، والصوار سمي اعتباراً بالقطع كالقطيع والصرمة والصور النخل الصغار، إما لانقطاعها عن لحوق الكبار، أو كأنها مقطوعة في نفسها، والصور قيل: سمي لأن فيه صور الناس

(1/544)


كلها وقيل: بل لإعادة الصورية، وذكر أبو بكر النقاش المقرئ أنه قرئ (فصرهن) بضم الصاد وتشديد الراء وفتحها من الصر، أي الشد، ومنه الصرة، وقال: قد قرئ (فصرهن) بكسر الصاد وفتح الراء وتشديدها من الصرير من الصوت أي، صح بهن وروي أن إبراهيم مر على ساحل البحر بميتة، والسباع والطيور والحيتان يتوزع لحمها، فتفكر، فسأل الله تعالى إحياء مثله فأمره تعالى أن يأخذ أربعة طيور فيقطعها فيخلطها لحومها وريشها، ويبددها على جبال (خزاجرا) ثم يدعوها، ففعل ذلك، فاجتمعت كلها، فتبين إبراهيم ما اعتراه فيه الشبهة وقال بعضهم:
أمره أن يأخذ أربعة طيور، فيضعهن على أربعة جبال ومعنى لجزء واحد منها، ثم يدعوها فتجتمع لديه، فأشار إلى أنه كاجتماع هذه الطيور لديك كذلك يجتمع من الجوانب الأربع الأموات قال، ولو كان (فصرهن) قطعهن، لما قال: إليك لأن ذلك لا تعدي بالباء ..
إن قيل: لم لما سأله إبراهيم، أراد ذلك على أقرب الوجوه لما سأله عزير، أماته مائة عام حتى تفرقت أوصاله ونخرت عظامه.
؟
قيل قد ذكر بعض الصوفية أن إبراهيم كان خليلا فمجاز له أن ينبسط لما سلف له من قدم صدق، فلما سأله ذلك، أعطاه سؤله، في الوقت على أقرب الوجوه ولم يكن العزير من الخلة ما يجوز هذا الانبساط قلما أقدم أبلاه الله تعالى في نفسه، وأراه ذلك في ذاته، ولأن إبراهيم تضرع وسأل وقال أرني، وغيره أخرج الكلام مخرج المنكر المتعجب من قدرة الله عز وجل وقال: (أني يحي) ولا يخفى ما بين اللفظين من الضراعة والغلظة، ولهذا ختم آية عزير بقوله: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وآية إبراهيم بقوله {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال الأصم: تفهموا عن الله حجج

(1/545)


الرسل، إن عيسى كان يحي الموتى بإذن الله ويريه العباد ليثبت بذلك رسالته ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله) وإبراهيم كان يطلب أن يرى ما كان عيسى يريه قومه قال وفي هذا دليل أن الله لله عز وجل منع بعض الرسل من الآيات ما أعطاه بعضا.
إن قيل إن كان إبراهيم في هذه الحال شاكا في البعث فلم لما قيل له {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى}، والشاك في الشيء لا يجوز أن يكون مؤمنا به وإن كان موقنا فلا معنى لقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فلا اضطراب للقلب مع اليقين، فإذا هذا قول متناقض قيل: إن إبراهيم كان موقنا بالبعث أنه كائن للاستدلال أولاً، وللوحي ثانيها وإنما التمس غاية التفسير وهو العيان الذي تنقطع عنده الخواطر كلها، فالخاطر ضربان، خاطر في ثبوت الشيء ونفيه، وخاطر في كيفية ثبوته، والأول يزول بالخبر والثاني لا يزول إلا بالعيان، وهذا هو حال إبراهيم وقيل: اليقين ثلاثة أضرب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين فعلم اليقين: ما وصول إلينا على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعين اليقين: ما وصل إلينا بأنوار هدايته، وحق اليقين: ما اجتمع فيه الأمران، وبه تزول عوارض الخواطر عن جملته وتفاصيله وقيل: إن إبراهيم كان طلب كذلك لأن قومه سألوه وذلك كما قيل في سؤال موسى، حيث قال: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} وقيل، إن نمرود كان ممن يعتمد المحسوس، ولما قال له إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} قال له: أرأيت ذلك بحاستك؟ فعدل إلى غيره من الحجج إذ لم يكن يمكنه أن يدعي عيان ذلك ثم سأل الله بعد ليريه ليمكنه أن يخبر به، وقيل: إن إبراهيم أحب أن يريه الله إحياء نفسه معراة من الأصل والزنا والفحش والحرص فبين الله أن ذلك لا سبيل إليه بأدلة الإنسان في هذا العالم، ومخلوق خلقه للتكليف، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير، نسرا: إشارة إلى طول الأمل، وطاوسا: إشارة إلى زينة الدنيا، وغرابا: إشارة إلى الفحش النفسي، وديكا: إشارة إلي الحرص، وقال: قطعهن ووزعهن على جبال، ثم صرهن، فقد عادت إليك إشارة إلى أن هذه القوى وإن اجتهدت في إفنائها، فلا سبيل إلى إزالتها مادامت في دار الدنيا، وقيل: إن إبراهيم لما رشد

(1/546)


للرسالة وإرشاد البرية ورأي قوماً في نهاية الجهالة والكفر، استعظم رجوعهم إلى الحق، فقال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} أي ترشد الضلال الذين هم كالموتى، وأراد كيف أحيي، ولكن نسب الفعل إلى الله - عز وجل - على طريقة ما تقدم أن أولياء الله - عز وجل - يتحرون في أفعالهم - رضى الله لله ويرون أفعالهم فعله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه - عز وجل - (حتى أكون عينه التي يبصر بها)، ولأن الأفعال المحمودة للعباد كلها منسوبة إلى الله من حيث أنه سبب إيجادها، ولهذا قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، فعلى هذا معنى " أرني كيف تحيي الموتى " أي: كيف حال ما أمرتني به، وبعثتني فيها فقال له أولم تؤمن، أي أو لم تتحقق أنك ستهدى لذلك؟، فقال: بلى، ولكن أريد ما أسكن إليه في أن تجاب دعوتي، فقال: خذ أربعة من الطير، إشارة إلى قلع هذه القوى من نفسك وسمى بذلك كل موتان الفؤاد كالجبل فليس يعسر عليك ذلك ..
" والله أعلم بالصواب " ..
إن قيل: ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية: " نحن أحق بالشك من إبراهيم ".
؟

(1/547)


مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)

قوله - عز وجل:

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآية (261) - سورة البقرة.
يقال النبت لما له نمو في أصل الحلقة يقال تنبت الصبي والشعر والسن وفلان حسن النية ويستعمل النبات فيما له ساق، وما ليس له ساق وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له، وأنبت الغلام إذا راهق، كأنه صار ذا نبتة وفلان في منبت خير كناية عن الأصل، والسنبلة فيعلة من السبل يقال: أسبل الزرع، وسنبل، من أصله السبيل وقد تقدم أن سبيل الله ليس بمقصور على الجهاد، بل هو لكل ما يتوصل به إلى الله عز جل، والمائة عدد معروف يقال: أماءت الدراهم وألفت وإمايتها وألفتها ..
إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها؟ قيل: إن ذلك متعلق بقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} وما بينه وبين هذه الآية، اعتراضات مرغبة للإنسان في فرضه من حث على قناعة هي أس الجود، وذكر عظمة المستقرض وإرشاد لمن يستقرض منهم، وبين في يده أن فرضه هو الإنفاق في سبيله وأن مضاعفته هو بأن يجعل للواحد سبع مائة وأنه يضاعف مع ذلك لمن يشاء مضاعفة لا يضبط عدها، ولا يعرف حدها ..
إن قيل:
كيف قال في موضع: " يضاعف "، وفي موضع: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وقال هاهنا ما يدل على أنه يحادي بواحد سبع مائة، قيل: في ذلك طريقتان: إحداهما أن الخيرات تختلف باختلاف العالمين واختلاف نياتهما والثاني: أن تختلف باختلاف الأعمال فالأول: هو أن الناس فيما يتحرونه من أفعال الخير بالقول المجمل ثلاثة أضرب على ما قصد تعالى من ظالم ومقتصد وسابق أما الظالم: فالمتحري للخير مخافة سلطان ومذمة إنسان وتخويف عالم إياه من النار ونحو

(1/548)


ذلك ..
، وأما المقتصد: فالمتحري للخير مخافة عقاب الله ورجاء ثوابه من حيث ما قد تحقق وعده ووعيده، وأما السابق: فالمتحري للخير قصدا لوجه الله خالصا وثوابهم يختلف باختلاف مقاصدهم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في السابقين حاكيا عن الله عز وجل - (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) الخبر.
والثاني.
وهو أن يختلف باختلاف الأعمال وبيان ذلك أن السخاء أفضل أفعال العباد بدلالة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " السخاء شجره من أشجار الجنة، أغصانها متدليات في الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى الجنة، والبخل شجرة من أشجار النار، فمن أخذ بغصن من أغصانها أداه إلى النار "
وقيل لبعض الحكماء:
" أي شيء من أفعال العباد أشبه بفعل الله "؟
فقال: " السخاء، وأفضل الجود ما كان عن ضيق " ..

(1/549)


ولهذا قال الشاعر:
ليس العطاء من الفضول سماحة ...
حتى تجود وما لديك قليل
وقد علم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مضيفين سيما في ابتداء الإسلام وأفضل الإنفاق ما يقصد به وجه الله لعز وجل -، وأفضل ما يقصد به وجهه ما يجعل في سبيل الله، وأفضل سبيل ينفق فيه ما كان أكثره غنى، وقد علم أنه لا جهاد أكبر من جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا قوم أكفر ممن كان يحاد بهم ولا زمان أحوج إلى محاربتهم من زمانه وكل وأحد من هذه الخصال يجري مجرى فعل يستحق مثوبة محددة، فعظم الله تعالى أمر الإنفاق في سبيله في زمانه، وجعل له من الثواب ما لم يجعل لغيره من الأعمال، ووجه ثالث وهو أن الإنسان متى تحرى فعل الخير على ما يجب وكما يجب يدعوه ذلك إلى أن يزيد في فعل الخير فلا يزداد، حتى إنما يصير مثل ملك فيه الفضيلة وبازدياده في الإيمان وفعل الخيرات يزداد ثوابه، فحيث ما ذكر التضعيف، فأشار إلى الحالة الأولى وحيث ما ذكر عشرة أمثالها وسبعمائة فإلى الأحوال المتوسطات وحيث ما ذكر، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، فإلى المنتهيات والغايات وأنها لا يحصرها عدد كما قال: عليه الصلاة والسلام: " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ".

(1/550)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)

قوله - عز وجل:

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية (262) - سورة البقرة.
المن على ضربين: أحدهما ما يوزن به والأكثر منا بالتخفيف، والثاني قدر الشيء ووزنه، ومنه المنة، فإنها تستعمل على ضربين، أحدهما: اسما للعطية - لكونها ذات قدر بالإضافة إلى سائر الأفعال، وذلك لما تقدم أنفاً في صفة الجود وأنه أشرف فضيلة، والثاني: اسما لقدر العطية عند معطيها واعتداده بها، وهو المنهي عنه بقوله {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}، وقوله - عليه الصلاة والسلام: " والامتنان بالمعروف فإن ذلك مما يبطل الشكر ويمحق الأجر "، وقيل: " تعداد المنة من ضعف المنة "، والمنة تهديه للصنيعة، وللعطيه متى استعظمها المعطى فشكر منه، ومتى استعظمها المعطى، فهدم منه، فقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} يجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر أي الذين مثل إنفاقهم كمثل حبة منهم الذين ينفقون أموالهم، ويكون قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} في موضع الحال ويجوز أن يكون " الذين " هذا يفسر " الذين " المتقدم ويكون الذين ابتداء وما بعده خبرا، وقوله: {وَلَا أَذًى} الأظهر الأكثر أنه معطوف على قوله: " منا "، وهو أعم منه لأن كل من أذى، وليس كل أذي منا، وقيل: هو أن يظهر المسئول تبرما بالسائل، نحو أن يقول: " أراحني الله منك "، أو: " من أبلاني بك " فعلى هذا قوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} استئناف، وقوله: {لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا} تام، وقوله: " ولا أذى لهم " كلام مستأنف من صفة المعطى كأنه قيل: " الذين ينفقون ولا يمنون، ولا ينادون بالإنفاق، فإن تمام فضيلة المنفق في سبيل الله أن يصير سلس الطبع بالعطاء، مستلذاً، يصرف المال إلي الوجوه المحمودة "، كما روى أن من الرجل محموداً حتى يكون ما ينفق في سبيل الله أحب إليه مما تركه، وروي هشام بن عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى عطية وهو طيب النفس بها بورك فيها للمعطي والمعطى ".

(1/551)


قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)

قال بشار:
ليْس يعُطيك للرَّجاءٍِ وَالخوْ ...
فِ ولكنْ يلذُّ طعْم العطاءِ
والبخيل يتألم بما يعطي غيره، فضلاً عما يعطيه هو، ولهذا قيل أن " الحر يعطي واللئيم يألم إسته ".
وقوله: {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ضمن ضمان يلي، وفي يؤمن إخلافه وإفلاسه، وقوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ليس يراد به الخوف في الآخرة فقط، بل يريد مع ذلك الخوف الذي ابتلى به أبناء الدنيا الذين ينفقون بما في أيديهم دون ما في يد الله - عز وجل -، ويجوز أن يكون قوله: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من: " خفت على فلان " أي أشفقت عليه أي: لا إشفاق عليهم لما هم فيه من النعيم {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فعلى هذا قوله {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} إلى أخر الآية، ذكر مالهم من الثواب ويجوز أن تكون الآية كلها وصفاً للإنفاق في سبيل الله وبيان ذلك أن حق المنفق في سبيل الله أن تطيب به نفسه، وأن لا تتعقبه بالمن وأن لا تشفق من فقر تناله من بعد، بل تثق بكفاية الله - عز وجل -، ولا يحزنون إن يناله فقر، وبين تعالى أن ما تقدم ذكره من مجازاة واحد بسبع مائة هو لن هذا وصفه ..
قوله - عز وجل:

{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} الآية: (263) - سورة البقرة ...
الغنى: فقد الحاجة، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس واختلاف نظرهم فمنهم من يرى الغنى كثرة عرض الدنيا، حصلت معه الحاجة أو لم تحصل ومنهم من عده القناعة وإليه يوجه قوله عليه الصلاة والسلام: " الغنى غنى النفس " ومنهم من لا يعده إلا ارتفاع الحاجة وقال: " لا غنى

(1/552)


في الحقيقة في الدنيا يوجه ولأجله " قيل: الغنى غنى الآخرة ومنهم من قال: " لا غنى في الحقيقة لغير الله -عز وجل - لا في الدنيا ولا في الآخرة وعلى هذا " قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} والمعنى المنزل كأنه موضع غنى الناس، ولكون الغنى مقيما فيه على مراده وعلى هذا قال الشاعر:
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ...
ويرمي النوى بالمقترين المراميا ..
وأما الغناء فللتشبيه على نحو نظر من قال " الغناء غذاء الأرواح، كما أن الطعام غذاء الأشباح، وقال ببعضهم: " من مدح الغناء إنما مد الغناء وقصر الغنى تفضيلاً للمدود "، فقد حصل له منفعة ليست في شيء من اللذات، وذاك أن اللذات الحسنة أربع، أكل، وشرب، ونكاح، وغناء ..
، وكل يوصل إليه بتعب إلا الغناء، واختلف في قوله: {مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ}.
فمنهم من قال: خطاب للمسئول ومعناه: لأن تبذل للسائل قولاً حسناً، وتغفر له أن ذاك بمراجعة وإلحاف خير من أن تعطيه وتمتن عليها، كقول الشاعر:
ومنعك للندى بجميل قول
أحبُّ إلي من بذل ومنة
وقيل: معنى المغفرة الترك، أي الاقتصار على القول الحسن، وترك الصدقة خير من صدقة هكذا، وقيل معناه: وإن تسأل الله الغفران لتقصيرك في إعطائه، وقيل: معناه ستر الخلة عليه، وقيل: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} وسلامة من المعصية خير من المعصية خير من صدفة هكذا، فإن هذه الصدقة فيها

(1/553)


عصيان النص، ونحو قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}، وقوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}، وقيل: القول المعروف أن تحث غيرك على إعطائه، وقيل: ذلك خطاب للسائل وحث له على إجمال الطلب، كما قال عمر بن عبد العزيز: " لن تدعوا لمرء ما قسم له، وفأجملوا في الطلب "، فأراد تعالي لأن يقول قولاً حسناً من تعريض بالسؤال أو إظهار للغنى، حيث لا ضرورة، ويكتسب خليط من مثال صدقة يتبعها أذى، كما قال الشاعر:
لأن أرجي عند العرى بالخلق .... وأجتزى من كثير الزاد بالعلق
خير وأكرم لي من أن ترى نعم .... معقودة للئام الناس في عنقي ..
وقيل: معناه: لأن تنال أيها السائل قولاً معروفا من المسئول ومغفرة من الله خير من صدقة هكذا ..
ومنهم من قال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} خطاب للمسئول، أي: " لتقل قولا حسنا في رده، ومغفرة خطاب للسائل " أي: اغتفر رده لك ولا تثقلن قلبك عليه، ونبه بقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} أن استقراضه ليس بحاجة به، بل لحاجة المقرض إلى الثواب، وبقوله " حليم "، أنه ليس يجب أن يغتر المذنب بتأخير العقوبة عمن قصر في الإنفاق أو في المنة على السؤال أو في سؤاله وليس بأهله ..

(1/554)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)

قوله - عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} الآية: (264) - سورة البقرة.
التراب أصل في بابه، وترب يخصص بالتراب، وعبر به عن الفقر، وأترب صار ذا تراب، وعبر به عن المختص بالمال الكثير، فكأنه عبر عن المال بالتراب كما عبر بالثرى، وقول الشاعر في مخاطبة الدلو:
" واغترفي من تربها الأدق "
تصور منه معنى ترب وأترب، ففسر مرة بأنه دعاء عليها، كأنه قال: تربت فلا تخرجين إلا ترابا، ومرة بأنه دعاء لها، والمعنى أتربت، فأخرجت ماء كثيرا، والترب للذة على بناء القبل والقرن أي المقابل والمقارن، وكأنه الواقع مع غيره في التراب عند الولادة، وقيل معنى الترب الملاعب مع غيره بالتراب في الصغر، كقوله:
كما قسم الترب الصبي المقابل
والتريبة لعظم الصدر، حيث التفت عظام كأنها أتراب أي لدات، ولهذا قيل لها أتراب بلفظ الجمع، والوابل الذي يبل الأرض، أي يأتيها بالوبل، ويقال للمطر وابل ويرعى وبيل للنبات اليابس الذي يأتيه المطر، فيصير أذى للغنم وهو الذي يقال له النشر، ومنه اشتق الوبال وعنه استعير " أخذه أخذا وبيلا "، ويقال للعصا الثقيلة، وبيله الصلد، والصلت، والصلب تتقارب، لكن الصلد

(1/555)


خاص في الأرض والصخر وشبه به ما لا يجدي، فقيل: زند صلد، ورجل مصلد، وصلد: بخيل، وقدر صلود ذات صلدة يتباطأ غليانها، وفرس صلود: لا يعرق ..
، وصفوان: أبلغ من الصفات، وهو كل حجر صاف من التراب، وواحده قيل: صفوانه: نحو سعدان وسعدانة، ومرجان ومرجانة، وقيل واحد، وجمعه صفوان، نحو كروان وليعظم الله تعالى فتح المنة، أعاد ذلك في معارض من الكلام، فأثنى على تاركها أولاً، وفضل المنع على عطية يتبعها المن ..
ثانيا: وصرح بالنهي عنها بالياء، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المنة فيها أعظم وأشبع ولكون ذلك فظيعا مستبشعا قال عليه الصلاة والسلام: " ثلاثة لا يجدون ريح الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة خمس مائة عام: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان "، وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} في موضع الحال للمؤمنين، لا تبطلوها مثل منفق ماله مرائيا - تنبيها أن إنفاق الممتن كإنفاق المرائي الكافر بالله لأنه قال: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ}، وذلك كله من صلة " الذي " وقد عظم مزاياه حتى جعل المرائي بفعل الخير شرا من تاركه - سيما في العبادات، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - " المتشبع بما لم ينل كلابس ثوبي زور " تنبيها أنه كاذب بمقاله وفعاله، وشبه المرائي بصفوان وماله بتراب، وإنفاقه بالوابل وبين أن إنفاق هذا المرائي مع كون الإنفاق في نفسه شيئا نافعاً لم يفده إلا زوال ترابه، كما أن المطر الذي أتى على الصفوان مع كون المطر نافعا في نفسه لم يفده إلا زوال ثراه وقال تعالى في ضياع أعمال الكافر: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}، وفي الآيتين دلالة أن

(1/556)


العبادات والأعمال الصالحة وغير معنية ما لم يبن على الإيمان، ولا حجة في الآيتين ما لم احتج بهما على المرجئة، حيث قالت: إن المعاصي لا تحبط الطاعات لأنهم قالوا ذلك بشرط الإيمان، والله تعالى شرط في الآيتين الكفر، لأنه قال: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} وقال في الأخرى {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
وهذا ظاهر، وقوله: {لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} راجع - إلى قوله: كالذي، أي المرائي بإنفاق ماله، لا يقدر يوم القيامة على اجتناء ثمرة ما اكتسبوا
فإن قيل: وكيف يجوز أن يكون {لَا يَقْدِرُونَ} فعلا للذي والذي هو فعلاً للواحد؟ قيل: قد يقدر أن الذي قد يقع على الجمع، وأنه إذا أريد به الجمع، فقيد يخبر عنه كما يخبر عن الواحد وقوله: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
قد تقدم أن الهداية على أربعة أضرب هداية بالفطرة وهداية ببعث الرسل وهما عامان لكل مكلف، وهداية بالتوفيق لمن يستحق الاهتداء وهداية هي ثواب الآخرة، وهاتان لا تكونان للكافر
قوله - عز وجل:
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآية (265) - البقرة
يقال: ربوة، وربوة، وربوة وربا حصل في ربوة، وسميت الربوة رابية كأنها ربت بنفسها في مكان بسيط ويقال لكل ما زاد وعلا ربا، ومنه الربوا والطل أثر الندى، والطلل: الأثر الباقي مما بلي، وطلت الأرض، أصابها طل، نحو وبلت، ومطرت وطل دمه: ترك أثره، وعلى ذلك ما قيل: إن سألتك بمرشكرها وشبرك أفشأت تطلها وتضهلها، وقيل: للشجر طل وندى لأنه من النبت والنبت منهما وبالعكس من ذلك قيل للندى والمطر شحم لأنهما يؤديان إليه بين تعالى أن المنفق ما له في سبيل الله ينبغي أن يكون قاصدا به الوجهين اللذين لأجلهما أوجب على الناس الزكاة، أحدهما ابتغاء

(1/557)


مرضاة الله وطلب التوجه للوصول إليه المشار إليه بقوله، مخبرا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} والثاني: بتثبيت النفس أي رياضتها، لأداء الأمانات وبذل المعونات، والتمسح لأبواب المصالح فإن النفوس ما لم ترض لم تسمح، إذ هي مجبولة على الشح والكسل كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وببذل الصدقة وفعل الخير يتطهر ويتزكى ولهذا قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهذان الوجهان أعنى ابتغاء وجه الله وتثبيت النفس وإن اختلفا اختلاف الاعتبارين فهما واحد، وحق الإنسان أن يقصد ذلك في جميع ما يفعله من العبادات، فاما أن يطلب شكر مخلوق ومباهاة نظير وطلب نفع دنيوي وقضاء شهوة وإبقاء معزة فليس ذلك بمرتضى وبين أن مثل نفوس المنفقين أموالهم على هذا الوجه كمثل روضة بربوة فشبه نفوسهم بالروضة وما يأتيهم من التوفيق والهداية من جهة الله بسبب الأنفاق بما يأتي الروضة من الوابل والطل وشبه تزكية النفوس بزكاة الأكل وقال جابر: الطل مثل للفرائض والوابل مثل للنوافل معهما، ومعناه: إن حق النفق ماله أن يتحرى النوافل والفرائض، فإن من لم يتحرهما معا، لم ينفك من الفرائض، تنبيها أن الفريضة هي ما لابد منه وتخصيص الربوة لأن تأثير الشمس فيها أكثر، ولما كان قد ينقطع عن الربوة فيحترق نباتها بين
أنها لا تنفك من وابل وطل وعلى هذا قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة. . . خضراء جاد عليها مسبل هطل

(1/558)


أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

فوصفها بأنها في حزنة ومجودة ..
إن قيل: ما وجه قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} والضعف يقال في عدد ما يصح أن يوجد نصفه ولم يجرها هنا ذكر عدد ولا ما يقتضي عدداً، قيل: إنه لما كان لكل قطعة أرض قدر من الريع لا يكاد يزيد عليه بين تعالى أن دخل هذه الجنة ضعفا ما يقتضي مثلها من الأرضين ..
إن قيل: لم قال: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؟ فجمع جمع القلة؟ قيل: تنبيها أن ذلك الفعل لا يكاد يوجد إلا في قليل من الناس، فصار في تخصيص الأنفس إشارة إلي نحو قوله - عز وجل - {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ولهذه النكتة - قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: عليه الصلاة والسلام لأصحابه: " الشرك أخفى فيكم من دبيب النملة على الصفاة في الليلة الظلماء "، تنبيهاً أنه قل ما ينفك عمل من رياء وإن قل.
وبين تعالى بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أنه لا يخفي عليه شيء من أسرار العباد ..
قوله - عز وجل:

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} الآية (266) - سورة البقرة.
النخيل: سمي بذلك لأنه منخول الأشجار وصفوها وذاك أنه أكرم ما ينبت، لكونه مشبها بالحيوانات في الاحتياج، الأنثى منها إلى الفحل في التلقيح وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر بعده.

(1/559)


ولأجله قال، عليه الصلاة والسلام: " أكرموا عمتكم النخلة " وقيل: نخل السماء الثلج عند وقوعه على الأرض قطن أو دقيق يغربل، والعنب والعناب نظر إليهما نظرا واحدا، وشورك بينهما في الحروف الأصيلة مشاركتهما في الهيئة والصيغة وزيد في لفظ العناب لزيادة جرمه على جرم العنب، وهذا طريق اعتبروه في الاشتقاق وتحت نقيض فوق وفي الحديث: " لا تقوم الساعة حتى تظهر التحوت "، أي ما تحت الأرض، وذلك إشارة إلى قال الله - عز وجل - {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}
والعصر مصدر " عصرت العنب "، وسمى أخر النهار ومدة من الزمان عصرا كأنه مدة عصرت، فجمعت، وقيل للعطية عصر تشبيها بعصر الريح السحاب، وسمى الإلجاء عصرا والاعتصار
الالتجاء، والمعصر سحاب ذات عصر للمطر، وامرأة فوق الكاعب معصر لكونها ذات عصر أي زمان

(1/560)


للتمتع إشارة إلى قول الشاعر:
مطيات السرور فوق عشر ...
إلى عشرين ثم في المطايا
والإعصار: أصله مصدر أعصر، فسمى به الريح والاحتراق مطاوعة حرق، وجرح الثوب أن تحرقه الدق، وحرق البعير حك إحدى نابيه بالأخرى، وريش حرق كالمنقطع بالإحراق، والحرقة احتراق البدن بحرارة فيه والحراق معروف، والحرقات سفن يرمى عنها بالنيران، ضرب الله مثلا لأعمال المنافق والمرائي، وأن لها في الدنيا شارة ونضارة، فإذا احتاج إليها وجدها باطلة، كمن له جنة هكذا يعتمدها، فلما اختل حاله، وكثر عياله، وانقضى شبابه، بقى خاليا عنها وعلى هذا دل ما روى أن عمر - رضي الله عنه قال: " إني لأجد في نفسي من هذه الأشياء "، وكان في القوم ابن عباس فقال: هذا مثل ضربه لمن يعمل عمره كله بعمل أهل الخير حتى إذا كان في آخر أيامه، وفي أحوج ما يكون إلى الخير، ختم عمله بعمل أهل الشقاء، فبطل ما عمل، وقيل: إن ذلك مثل ليس للمال فقط

(1/561)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)

بل للصحة والجمال وسائر الأمور البدنية والجارحة والسلطان، فإنه يفجع به الإنسان أحوج ما يكون إليه، فيكون بمنزلة من إذا كثر عياله فسد بالصاعقة بستانه، فبقى ضعيفاً لأفضل فيه لعمل وسعى في تصرف، وإنما ذكر أنه فجع بها، ولم يقل: مات عنها، فالنفوس مطبوعا على استعظام ذهاب المال عن الإنسان أكثر من استعظام ذهاب الإنسان عن ماله، قالوا: حلف للأعداء، ولا يجنح إلى الأصدقاء
إن قيل: كيف قال: " أيود " وهو مستقبل، ثم قال: " وأصابه الكبر "، فأتى بلفظ ماضي؟
قيل: قد قال الفراء: لما كان يود يتلقى مرة بأن يكون، ومرة بلو كان، جاز أن يقدر أحدهما مكان الآخر، لإنفاق المعنى، فكأنه قيل " أيود أحدكم لو كان له جنة، وأصابه الكبر "،
إن قيل: ولم قال: " وأصابه الكبر " ولم يقل: " وكبر "؟ في قوله: " وأصابه الكبر تنبيه على معنى التأثير والنكاية فيه، كقول الشاعر:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ..
قوله - عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} الآية: (267) - سورة البقرة.
الطيب يقال تارة باعتبار الحاسة، وباعتبار العقل تارة، والخبيث في نقيضه، والأظهر أن المعني به هاهنا المعقول الذي هو الحلال، فقد روي: " ثلاث إذا كن في التاجر طاب كسبه، لا يعيب إذا اشترى، ولا يمدح إذا باع، ولا يكذب " وروي: لا يحلف.

(1/562)


وقال - عليه الصلاة والسلام:
" إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه "، وأصل التيمم قصد اليم أي لجة البحر، ثم صار في التعارف القصد نحو، {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، ويممته وأممته، قيل هما واحد وقال الخليل: أممته: قصدته من أمامه ويممته: قصدته من أي جهة كان والإغماض والتغميض غض البصر ويستعمل في الترخص كالإغضاء ذكر تعالى فيما تقدم فضل النفقة في سبيله، وحث عليها وقبح المنة، ونهى عنها وحث في هذا أن يكون الإنفاق من طيبات الكسب قيل: من أجوده، بدلالة ما روي أنه لما أمر بالصدقة، جاء قوم من أهل المدينة من صدقة التمر بالحشف ومن الطعام بالزوان فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل الطيبات تتناول مع ذلك الحلال وحقيقة الطيب من الكسب ما ليس فيه ارتكاب محظور واكتساب محجور، بل منح العقل والشرع تناوله ودخل في قوله: " ما كسبتم " كل ما يناله الإنسان بريح أو أجرة عمل، وفي قوله {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا} أنواع الحبوب والثمار والمعادن، وتخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان مما يكتسبه أضن منه مما يرثه، فإذا الموروث معقول من فحواه
إن قيل؟ ما فائدة: لكم؟
قيل: تنبيه أن المقصود بإتخاذ هذه الأشياء نفعنا ليبلغنا بها إلى سعادة الدارين، كقوله

(1/563)


الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)

{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، ويجوز أن يتضمن مع ذلك أن الذي تجب فيه الزكاة، وهو ما قصد به قوام الإنسان دون ما قصد به البهائم كالحشيش ونحوه، وقوله: {أَنْفِقُوا} عام في الواجب والتطوع ..
إن قيل: لم قال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} ولم يقل: (ولا تنفقوا الخبيث) مع أن اللفظ كان أوجز؟
قيل: لأن القبيح من الإنسان أن يقصد الخبيث أي الرديء من جملة ما في يده فيخصه بالإنفاق في سبيل الله، فأما إنفاق الرديء لمن ليس له غير ذلك، أو لمن لا يقصده خصوصا فغير مذموما.
قوله - عز وجل:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

الآية: (268) - سورة البقرة.
الفقر أربعة: فقر الحسنات في الآخرة، وفقر القناعة في الدنيا، وفقر المقتني، وفقرها جميعا والغني بحسبه، فمن حصل له في الدنيا فقد القناعة والمقتني فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ولا يقال له غني بوجه وهو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام " كاد الفقر أن يكون كفراً "، ومن فقد

(1/564)


لقناعة دون القنية، فهو الغني بالمجاز فقير بالحقيقة،
ولهذا قال: قد يكثر المال والإنسان مفتقر،
وقيل لبعضهم: أفلان غني؟ فقال: لا أدري غناه، ولكنه كثير المال، ومن فقد القنية دون القناعة، إنه يقال له فقير وغني، وكلاهما يقالان على طريق المدح، فقد قيل: ليس الغني بكثرة العرض وإنما الغني غني القلب "، والمشهور من الفقر عند العامة الحاجة وأصله كثير الفقار ومن قولهم: فقرته نحو كبدته، وبطنته، وبهذا النظر سمى الحاجة والداهية فاقرة، نحو: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}، الفحش والفحشاء كل منكر من المقال والفعال وإن كان قد خصها بعضهم هاهنا بالبخل، كقول شاعر:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي. . . عقيلة مال الفاحش المتشدد
فقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، قيل: عنى فقر الآخرة وهو أن يخيل إليه أن لا جزاء ولا شُكوراً وقيل هو بأن يخوفه، الفقر في آخر عمره.
إن قيل: على أي وجه يتصور وعد الشيطان؟
قيل: إن ذلك تسليط النفس ووساوسه ولهذا قال هاهنا في الشيطان: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} قال في غيرها: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} لما جريا مجرى واحدا،

(1/565)


قال: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}، وقال في أخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الآية.
إن قيل:
من حق مقابلة اللفظ في قوله {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أن يقول (والله يعدكم الغنى)، ويأمركم بالمعروف أو بالبر فليست المغفرة مقابلة للفقر ولا الفضل للفحشاء وإن كان مقابلاً به، فلم لم يذكر في: (الله يأمركم)، والله يأمركم والله في الحقيقة يأمر فأما الشيطان فهو المسؤول الموسوس؟
قيل: قابل الفقر بالمغفرة والفضل، والفضل أعم من الغنى، لأنه يتناوله وغيره، فبين أنه يعد بالغنى وزيادات فضل فأتى في مقابلة وعد الشيطان بالمغفرة، أنه يغفر مع ذلك انقيادكم للشيطان، وسائر الذنوب ولما كان أمر الشيطان بالفحشاء إنما هو لأجل وعده بالفقر لأن من خاف بخل بماله، والبخل سبب ارتكاب سائر الفواحش ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام: " وأي داء أدوى من البخل؟ "، صار مستغنى أن يذكر في مقابله: {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} بما ذكر من قوله: {مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} لأن أمر الله تعالى بالخيرات والحسنات معلوم وإنما المجهول أمر الشيطان، إذ كان أمره يخفى على الجهال وإنما يعرفه أولوا الألباب ..

(1/566)


يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)

قوله - عز وجل:
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}

الآية (269) - سورة البقرة.
قد تقدم أن الحكمة معرفة الموجودات، وفعل الخيرات بقدر طاقة البشر، وذاك عام فيما يدرك بالعقل وبالوحي، وإن كان قد خص في بعض المواضع بما يدرك بالعقل في نحو قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فقول ابن عباس: " الحكمة هاهنا: علم القرآن ناسخه، ومحكمه، ومتشابهه "
وقول ابن زيد: " إنها علم آياته وحكمه ومتشابه " وقول السدى أنها النبوة، وقول إبراهيم: إنها الفهم، وقول غيرهم إنها الخشية كلها صحيح وإشارة إلى أبعاضها، ومن قال: عنى بالخير الجنة ومن قال: هو العلم الظاهر والباطن فصحيح، والحكيم يقال بمعنى الفاعل والمفعول نحو: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي محكم ثم بين أن حقيقة ذلك لا يتذكرها إلا أولوا الألباب وقد تقدم حقيقة اللب وماله من المزية على مقتضى لفظ العقل، وإليه أشير بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وأما من قال: " كل مكلف ذو لب " حاصل له فبعيد عن معرفة حقيقته وما تقدم يغني عن بسط القول فيه هاهنا.

(1/567)


وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)

قوله - عز وجل:
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}

الآية (270) - سورة البقرة.
إن قيل: كيف قال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}، ثم قال {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}، ثم رجع إلى ذكر النفقة، وذلك كلمات متباينة في النظم متفاوتة في السرد؟ قيل: بل ذلك في نهاية حسن النظم، فإنه تعالى لما بين فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه حذرنا من الجنوح إلي الشيطان وإلى شرور النفس، وحثنا على الاعتماد على الحق بقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} الآية، ثم بين بقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} أن ذلك أمر يعرفه المتخصص بالحكمة التي يؤثر الله بها من يشاء، ثم رجع إلي ذكر النفقة وبين أن ذلك موضوع عند من لا يسهو أولا ينسى، وصار ذلك الحكمة مع كونه متعلقا بما تقدم كالاستطراد والتنويه بذكرها والحث على معرفتها والتخصيص بها ..
إن قيل: ما وجه تعقيب الإنفاق بالنذر ووجه الآيتين بقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} بعدهما؟
قيل: النذر عقد الإنسان على نفسه فعل البر بشرط أو بغير شرط، ولما كان فعل الخيرات ضربين مفروغا منه ومعزوما عليه بين أن كلا الأمرين لا يخفى عليه وذلك كلام متضمن للوعد والوعيد، وقال بعضهم: ليس النذر هاهنا ما يلتزمه الإنسان بالتطوع فقط، بل كل ما التزمه بالعقل أو بالشرع فنذر، وقيل الإشارة بالنذر إلى التطوع وبالإنفاق إلى الواجب، ثم بين أن من ظلم نفسه بتقصيره فيما يلزمه من ذلك أو ظلم غيرة، فماله أنصار وهو جمع نصير نحو: شريف، وأشراف،.
وفي ذلك تنبيه على ما قال:
{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}

(1/568)


إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

قوله - عز وجل:

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الآية (271) - سورة البقرة.
خفي الشيء صار في خفية، والخفاء ما يستر به كالغطاء، وخفيته: أزلت خفاءه وذلك إذا أظهرته، وأخفيته أوليته ما دون القوادم من الريش ..
، قال الخليل: لأنها تخفى إذا وقع الطائر قد أثني الله تعالى على إبداء الصدقات بقوله: {فَنِعِمَّا هِيَ}، وقال ابن عباس: هذا في صدقة التطوع فأما الفرض، فإظهاره أفضل، لئلايتهم، وقال الحسن وقتادة: إخفاء جميعه أفضل ومن الناس من يحتج بذلك في جواز إعطاء الصدقات في الصامت والناطق الفقراء دون الإمام، لقوله: {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}، وقال بعضهم: ليس القصد بذلك إعطاء الفقراء يدا بيد، بل القصد إخفاؤه، فإنك إن آتيت الساعي فقد أتيتهم لأن يده يدهما في الحكم، وبين أن إخفاء الصدقة أحمد، لأن قوله: " خير " إن جعلته في تقدير " افعل " فتفصيله ظاهر، وإن جعلته في تقدير: " فعل "، فالخير أبلغ معنى من مقتضى نعم، ولا قال في الإخفاء " فهو خير لكم "، فأكده بلكم، ثم قال: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ}، ولم يصف الإبداء بذلك، ثم قال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تنبيها أنه إن أخفى لا يخفى عليه ولا يضل عنه ويؤكد فضل إخفائه قوله عليه الصلاة والسلام " سبعة يظلهم الله في ظل عرشه.
،، وذكر رجلا تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم شماله ما تصدقت به يمينه .. "، وقوله: {فَنِعِمَّا هِيَ} قرئ مكسور النون والعين وكسر النون

(1/569)


إتباع لكسر العين، وقرئ بفتح النون وكسر العين وقرئ بسكون العين وكسر النون وتشديد الميم وبتخفيف الميم أيضا، والسكون بعيد لالتقاء الساكنين، وليس أحدهما حرف مدولين، والتخفيف كذلك لحذف لام الفعل أو الميم من ما، وكلاهما لا ينقاس وقوله: {وَيُكَفِّرُ} إذا جزم فعطف على موضع الفاء، وإذا رفع فعطف على موضع الفاء، وإذا رفع فعطف على ما بعد الفاء نحو: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ} ..
إن قيل: ولم قال: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}؟ فأدخل فيه من قبل (قد): قال بعضهم: من زائدة وقيل تنبيها أنه لا يكفر جميع المعاصي لأنه يكفر الصغائر بشرط اجتناب الكبائر عند قوم ويكفر الكل عن المسلمين بشروط اجتناب الكفر إن شاء عند قوم ..

(1/570)


لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)

قوله - عز وجل:

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} الآية: (272) - سورة البقرة.
إن قيل: ما وجه أتباع هذه الآية لما تقدم؟
قيل: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه والمؤمنين تحرجوا من مواساة الكافرين ومواصلة أقاربهم منهم، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله يهودي فقال: لاحق لك وإن " أسماء بنت أبي بكر " امتنعت من مواساة جدها وامرأته، وإن الأنصار امتنعوا من الإنفاق على أصهارهم من الكفار فأنزل الله تعالى ذلك تنبيها أن ليس عليك هداهم وأن يهتدي الكافر وإنما عليك أن تهديهم أي تدعوهم إلي الهدى على الوجه المأمور به - تنبيهاً أنه لا يجب أن تمتنع من مواساتهم لذلك، ومن الناس من قال: هذا كان عاما في جميع الصدقات، فرضها ونفلها ثم نسخت الفريضة بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية ومنهم من قال: هو مخصوص في النافلة دون الواجبة، وإليه ذهب ابن عمر والحسن، وروي أبو حنيفة أنه لما أنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} تصدق الناس على الكفار من غير الفريضة، وقيل عنى بالهداية الغنى، أي ليس عليك أن تهديهم، وإنما عليك مواساتهم، فإن الله يغني من يشاء وتسمية الغنى، هداية على طريقة العرب في نحو قولهم:

(1/571)


" رشدت واهتديت " لمن ظفر، و " غويت " لمن خاب وخسر، وعلى هذا قال الشاعر:
" ومن يغو لا يعدم على الغي لائما "
وقيل: ليس لقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} تعلق بالإنفاق، وإنما هو تسلية للنبي -ص-، وتنبيه أنك وإن أمرت أن تكثر حثهم على الإنفاق فليس يرجع عليك ملامة في تقصيرهم، كقوله: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ}، وقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} كقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} أي: أهل دينكم.
قال سفيان بن عيينة:
بين أن ما تنفقوا من صدقة فلأنفسكم وقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} يعني: أهل دينكم تنبيها أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوع، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكافرين، وقال غير معناه: ما تنفقونه فإنه يحصل لكم ثوابه سواء أوصلتم إلى مؤمن أو كافر، وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} قيل: هي جملة في موضع الحال، كأنه قال:

(1/572)


لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)

{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} إذ لم تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، أي إذا قصدتم به وجهه، وقيل: ذلك جملة معطوفة على جملة، ومعناه: " ما تنفقوا من خير فلأنفسكم وأنتم تقصدون به قصدكم به وجهه فقط دون عوض " ..
إن قيل ة ما معنى قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} وهذا معناه كمعنى قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " اللهم اجعل لمنفق خلفاً، ولممسك تلفاً "، ويعني به المنفق حيت ما يجب، وكما يجب، لا المنفق في عبارة وخسارة، وقوله: {وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}، وهو تعالى يجعل لكم بالواحد سبع مائة، كما ذكره في الآية المتقدمة، والوجه هاهنا قيل معناه القصد والجهة، وقيل معناه القصد به الذات نحو النفس، ومعناه: يقصد به ذات الله، لا طلب جزاء، ولا خوف عقاب، ولا غير ذلك من الوجوه التي يقصدها أبناء الدنيا بالإنفاق ...
قوله - عز وجل -:
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}

الآية: (273) - سورة البقرة.
العفة: حبس النفس لكن فضول الشهوات الرديئة من المأكل، والمنكح، والاقتصار علي البلغة التي لابد من المشار إليها بقوله تعال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}.

(1/573)


ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه سفيان:
" أريع من جاوزهن، ففيه الحساب: ما سد الجوعة، وكف العطشة، وستر العورة "، أكن البدن " ...
ويدخل في العفة الجود، لأنه قد قيل: الجود ضربان: أن يكون بما في يدك متبرعاً، وأن يكون عما في يد غيرك متورعاً، والزهد يقاربه إلا الزهد، يقال اعتبارا بترك عرض الدنيا، والعفة تقال اعتباراً بحبس النفس عن الشهوات، وتتلازمان، والعفافة بقية ما في الضرع كأنه قدر يمكن التعفف به، والإلحاف استشعار المسألة والاستقصاء فيها وتذرعها، يقال: لحفته: أي ألبسته إلحافا ككسوته، أي ألبسته كساءً، والوسم والسيما تتقاربان لكن الوسم علامة محسوسة كسمة البعير، والسيما علامة متفرسة، وأصلها من السوم أي طلب الكلا، وطلب المبيع، وسوم الماشية أن تطلب لها المرعى وإن كان قل يستعمل في إرسالها.
إن قيل: بم يتعلق قوله: {لِلْفُقَرَاءِ}؟
قيل: هو على ما ذكر سنين بدل من قوله: {لِأَنْفُسِكُمْ}، فقد ذكر أنه يعني بأنفسكم أهل دينكم، فصار الفقراء بعضهم، فصح أن يبدل منه بدل البعض من الكل، وقيل: يتعلق بقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}، أي ما تنفقون لهم إلا تقرباً إلي الله عز وجل-، فمعلوم أن من خص بنفقته هؤلاء، فإنه لم يقصد إلا وجه الله، وقيل: ذلك يتعلق بفعل مضمر يدل علي: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ}، أو بقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}، أي يوف إليكم، ويوسع لأجل الفقراء إشارة إلى ما قال - عليه الصلاة والسلام: " إنما تنصرون بضعفائكم وتمطرون وترزقون ".

(1/574)


وقال بعض الناس: اللام تتعلق بقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} المذكور من بعد، وهذا لا يصح لأن ما يتعلق بمعمول حرف الشرط لا يقدم عليه، وكذلك ما يتعلق بما بعد حروف العطف، وقد تقدم الكلام في الحصر والإحصار، وأن الإحصار أعم من الحصر، فإن الحصر يقال في منع العدو، والإحصار يقال فيه وفي منع الذي يكون من ذات الإنسان من العقل، أو الهوى، أو المرض، أو الخوف، فكل حصر إحصار، وليس كل إحصار حصراً، ولأجل عموم الإحصار قال قتاده وابن زيد: " منعوا أنفسهم من التجارة خوفاً من الكفار "، وقال السدي: " منعهم الكفار بالخوف وقيل: منعهم المرض، وقيل، حملوا على الحصر.
، وقوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} أي: ذهابا لمنع العدو إياهم، وقيل، لمنع الله لهم وإلزامهم أنفسهم المرابطة في سبيله، ولم ينف عنهم القدرة، ولكن بين أن إيمانهم وأحوالهم تمنعهم عن الإخلال وكما هم بصدده، كقولك: " أمرني الأمير بكذا، فلا أستطيع أن أخل به "، وقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ}، أي الجاهل بحالهم، وقيل: إن ذلك فيمن له استغناء في الظاهر وبه فقر في الباطن أو فقر إلى الله لمعرفته بحقائق الأمور، وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، أي تتفرس فيهم أحوالهم، وذلك مما يدل على أن للفراسة حكما صادقاً، وعليه دل قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} وقوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}، وقوله عليه الصلاة والسلام: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "
إن قيل: ما وجه ذكر {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} في ثلاثة مواضع متقاربة وتعليق كل واحد بحكم غير حكم الآخر.
قيل: إنه بين أولاً ما ابتغى به الإنسان وجه الله، فنفعه راجع إلى نفسه، وبيم في الثاني أنه وإن لم يقصد به وجه الله خالصاً، بل قصد به طلب ثواب، أو اتقاء من نار، أو غير ذلك من وجوه المصالح، فله ما قصده، وآتاهم الثواب في الثالث، حيث ذكر الانفاق للفقراء الذين أحصروا،

(1/575)


الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

فقال: (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)، إشارة إلى ما قال:
(أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت).
قوله- عز وجل:
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

الآية (274) - سورة البقرة.
قد تقدم أن إنفاق الأموال عند بعضهم ليس إنفاق المقتنيات فقط، بل كل ما خص الله به الإنسان من النفس والبدن في العبادة والعلم والجاه وغير ذلك، لكن الأظهر أنه إنفاق المقتنيات وروي أنه لما نزل ذلك، كان مع أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - أرنعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا وبدرهم علانية، فقيل له في ذلك، فقال: " أردت أن أستوجب من الله ما وعد به الذين يفعلون ذلك "، والإنفاق في سبيل الله ضربان ضرب ظاهر وهو الصدقة على الفقراء، وضرب غير ظاهر، وهو الإنفاق في المباحات إذا كان متناولا حيث يجب ومنفقا على ما يجب وكما يجب، وقد نقدم ما قال بعضهم أن مباحات الأولياء كلها فرائض، فعنى بقوله: علانية ما عرفه الناس أنه صدقة، وبالسر مالا يعرفه صدقة إلا أولوا البصائر، وإلى هذا أشار من قال إنها نزلت، في النفقة على الخيل فإن الإنفاق على الخيل في الظاهر ليس بقربة وقوله: {بِاللَّيْلِ} إشارة إلى نحو ما روي أن بعض الأنصار نزل به ضيف، وكان عنده طعام طفيف فقدمه إليه في الظلمة بالليل يري أنه يؤاكله وهو يؤثر به حتى أثنى الله عليه، والقصد بالآية في الجملة نفقة من لا يرائي أن لا يداحي وإنما يقصد به مرضاة الله فقط ..

(1/576)


الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)

قوله - عز وجل:

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الآية (275) - سورة البقرة.
الخيط: الضرب على غير استقامة كخبط البعير بيده، والرجل الشجر بعصاه، وقيل لمس الشيطان الإنسان الخبط والتخبط لكون أفعال المتخبط على غير استقامة، والخباط سمة على غير استواء والسلف من الأفعال المضايقة) ويراعى سببه معنى التقدم، يقال: أصم سالفه، والسالفة من الإنسان لتقدمها علي ما دونها من الأعضاء إدا اعتبر من الأعلى، وأسلفته في المال، وسلافة الخمر صفوها الذي يتقدم خروجه من العصير، والعود الرجوع، وأصله من العود، فعاد رجع إلي عوده، أي أصله، وسمي البعير المسن عوداً، لأنه لما كان غاية سنها ذلك كأنه عاد إليه، وبيان ذلك أن الغرض والغاية بالذات شيء واحدا لأن الغاية هي بلوغ الغرض، وكان عرض الإنسان بناء دراما، فبناها علي ما بوأها عال بفعله إلى غرضه، فبناها على ما نواها الذي كان منه، وعلى هذا سمي الثوب لكونه ثابياً إلى ما كان الغرض من الغزل، وبهذا النظر قال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} فسمي انتهاء الإنسان الذي هو الهرم " أرذل العمر "، وعلى هذا قال: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} فسمي ذلك رجوعاً لما كان الغرض من الإنسان تلك الغاية، وفي العادة عادة، لكونها معاداً للإنسان فيما يتعاطاه أو لكونها عائدا إلى الإنسان، ولهذا قال: إن التخلق يأتي دونه الخلق وهو يقال ...
للبربط عود للمتحرية عود.

(1/577)


كما يقال للنبيد شراب، واستعارة اسم الجنس والنوع لبعض منهما من أجل الكناية أحد ما يجب أن يراعى في الاشتقاق، والربا الزيادة على رأس المال من الربوة على ما تقدم، لكن في تعارف العرب هو لدفع دين بزيادة أو لزيادة ثمن لزيادة في الأجل، وصار في شريعتنا اسماً لذلك، ولبيع الأجناس الستة بعضها ببعض متفاضلاً ولما يجري مجراه على مقتضى العلة على حسب اختلاف،
الآية الثالثة، وقال بعض الفقهاء: البيع والربا لفظان عامان نظرا منهم إلى مقتضى، وقال بعضهم: هما مجملان، نظرا منهم إلى اعتبار شرائط فيهما لم تكن العرب تعتبرها، فصارت الأعراب لا تعرفها من دون المراجعة إلى صاحب الشرع، وكلا القولين صحيح بنظر ونظر، فإنهما عامان من وجه، ومجملان من وجه، ولذلك وصفهما الشافعي بالصفتين، فظن كثير من أصحابه أن قوله اختلف في ذلك، وردي في تفسير الآية أن المربى يقوم من قبره يوم القيامة مجنوناً، وأنه في المحشر يصرع ويوطأ بالأرجل إلى أن يحاسب الله الخلائق، ثم يدخل النار، وفي قراءة ابن مسعود: " لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم "، وقيل: معناه: من سوى بينهما يخرج في الآخرة من حد الأبرار إلى حال الدين اتبعهم الشيطان وكانوا من الغاوين، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}، وقيل: هو تشبيه من لم يفرق بين البيع والربا مع شدة تضادهما وتباين ما بينهما في أن البيع سبب العدل والعمارة للعالم، والربا سبب الجور وخراب العالم فنبه أن قبح الربا مركوز في العقول، بحيث أنما من سوى بينه وبين البيع فقد بلغ به الجهل إلى حد الجنون، وقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى}، أي من انتهى بعد الوعظ، فما أخذه من قبل ملكه، لا اعتراض عليه، ولكن أمره في الآخرة إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه، وقيل: بل معناه: لا يؤخذ به في الدنيا ولا في الآخرة، ومعنى: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} على طريق الوعد له والسكون منه وأنه قد خرج من حزب الشيطان إلى حزب الله، كقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.

(1/578)


وكقوله: (الصوم لي وأنا أجزي به)، وقوله: (ومن عاد)، قيل: من عاد إلى تحليله وقيل: إلي تحليله أو إلى فعله من وغير استحلال، وقوله {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} مما يدل أن الشيطان تأثيراً في الإنسان بخلاف ما زعمت المعتزلة، حيث قالوا أن لا تأثير في الإنسان للشيطان إلا بالوسوسة، قالوا: وهو أن يغلب عليه من المرء السوداء الضعف والقرع ما يحدث في المجنون، فمن
قبل الله أومن قبل ذاته، وقال الجبائي: " لو كان الشيطان يتخبطه بمسه لوجب أن يخبط كل واحد، فقد ثبتت عداوته للصالحين، ولوجب أن يسلب الإنسان ما في داره من أثاثه ومتاعه، فكان يحمل متاعهم إلى المسئ الكاذب "، وقال أبو هاشم: " لو قدر على ذلك لقدر على الصوت الرفيع، فكان يفشي سر المؤمنين ويضرب بينهم "، فنقول وبالله التوفيق، إن أول ما في قولهم هذا إبطالهم لنحو ما حكي عن أيوب: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، وعن موسى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، ولا يكذبهما تعالى فيما، وقال: {للانسان عدو}، وقال مخبرا عن الشيطان: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} واستثنى الله تعالي أولياءه بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، هذا مع غيره من الآيات الباهرة الظاهرة،
فإن قيل: على أي وجه يكون سلطانه؟.

(1/579)


قيل: على الوجهين اللذين ذكرهما الله أحدهما بالوسوسة، وهو أن يلقي في روع الإنسان أن أمراً ما يصير داعيا له إلى فعل يريده ويختاره، وإياه قصد بقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}.
والثاني: بدخوله في خلال جسده، وإياه عنى بقوله: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وقال عليه الصلاة والسلام: " الشيطان يجري من أبن أدم مجرى دمه "، وما قالوه من أن، الشيطان لو قدر على خبط الإنسان لسرق ثيابه فلجهلهم بأمر الشيطان وجهة عداوته للإنسان وخصائص فاعله إلا أننا نرى أنما الحيات والعقارب تعادينا ولا تسرق أمتعتنا، وقد تقدم في ذكر السحر أن السحرة والشيطان لا يمكنها أن تفعل كل فعل كما ظنته المعتزلة، ولا أن تؤثر في كل واحد، وإنما تقدر على أفعال مخصوصة في أقوام ضعاف القلوب ومختلي العقول قليلي العبادة، وإذا أثرت تأثيراً ضعيفاً، ويقوى ذلك مما روي في قصة خالد بن الوليد أنه لما وجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهدم العزى تصور أنه خيال كان يفزع منه غيره إذا أبصره ويدبر عنه، فأقدم خالد لقوة قلبه وشدة شكيمته في الدليل، فهدمه، وإلى تخويف الشيطان الإنسان يرجع قوله مخبراً عن قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} ولولا تلبيس الشيطان عليهم لما أقاموا على عبادة أجسام أموات وأشباح جماد، وقد وصف الله سبحانه ضعف سلطان الشيطان علي المؤمن فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية ...
، واستبعاد المعتزلة تأثير الشيطان، إنما هو لخروجهم بتحديقهم عن حد العامة في التزام ما تلزمهم الشريعة الإقرار به، وقصورهم بسوء تصورهم وفساد طريقتهم عن إدراك حقائق ما ورددت ما به الشريعة حسب ما أدركه الحكماء الذين وصفهم الله بقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} فصاروا في كثير من ذلك كما قالوا: " لا مال أبقيت، ولا حرك أبقيت ".

(1/580)


يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

قوله - عز وجل -:
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}

الآية (276) - سورة البقرة.
الحق نقصان الشيء حالاً فحالاً بحيث تخفى تفاصيله، يقال: محقه، فالمحق ومنه قيل: المحاق لآخر الشهر، وتربية الصدقات في الدنيا أن يثمر مال صاحبها، وذلك أدنى عنى النفس، ويدخر له لواحد سبع مائه ثم قد يزيد زيادة بلا حساب كما وعد، وعلى هذا ما روي لكن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
" إن الله يقبل الصدقات، ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره أو فصليه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد ".
قيل: ما الفرق بين الربا والبيع وكل واحد منهما أخذ ربحا على رأس المال؟
قيل: الفرق بينهما ظاهر، وذاك أنه قد تقدم أن الناس متفتقر بعضهم إلي بعض وإن كل واحد، قائم بأمر آخرين، فلو أمروا أن لا يأخذ بعضهم ربحاً على رأس ماله، لرغبوا عن التجارة لضياع سعيهم، فكان يتعذر لأحدنا أن يتحصل له في حالة واحدة أشياء محمولة من آفاق متباينة، والبائع يأخذ ما يأخذه من غير عوض ولا سعي، بل بتضييق فضلات ماله على المحتاجين من حيث لا يلحقه ضرر، فصار ذلك منه أكل مال الناس بالباطل المنهي عنه بقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ولأنها المواساة واجبة بالشرع والعقل، فلو أبيح للناس الربا هو الشح الذي جبلوا عليه لأدى إلى سد باب المعروف وإلى أن لا يوقي الإنسان شع نفسه المذكور في قوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

(1/581)


فإنه كان يدعو إلى أن يبخل وبخله يدعوه إلى منع الزكاة وترك المواساة، وذلك يؤدي به إلى حرص على تناول المال من كل وجه كالسرقة، والخيانة والغصب وعلى هذا قال جعفر بن محمد: " إنما حرم الله الربا ليتقارض الناس " وروي عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مكتوب على باب الجنة: القرض بثمانية عشر، والصدقة بعشر أمثالها ".
قال جعفر:
" لأن المستقرض لا يأتيك إلا وهو محتاج، والصدقة ربما وقعت في يد الغني "
إن قيل: لما قال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ولم يقل: كل كافر وهو تعالى لا يحبهما جميعا؟
قيل هو تنبيها على معنى لطيف، وهو أن الربا يدعو الإنسان إلى ترك الصدقة والزكاة وترك مواساة الناس والى أن يأخذ مال الغير بالباطل، كما أن فعل الصدقة يدعو إلي الاستكثار من الخير، ولهذا قيل: عودا مرا ما اعتاد، ومتى تعود الإنسان فعل الشرور يصير ذلك مانعا له عن الخيرات ومن الصدقة التي تطهر النفس فنبه الله بقوله: {لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أن المرابي يؤدي به رباه إلى أن يصير كفارا أثيما وهما بناءان للمبالغة فإذا صار كذلك، فإنه لا يكاد يتوب، وإذا لم يتب لم يحبه الله المحبة التي وعد بها التوابين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فلهذا وجه تخصيص بناء المبالغة في ذلك.

(1/582)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)

قوله - عز وجل:

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية: (277) - سورة البقرة.
قد تقدم أن الإيمان في الأصل هو التصديق، ولا يكون التصديق إلا عن تحقيق، والتحقيق يقتضي العلم، فإذاً: الإيمان مقتض للعلم، وهو وإن كان في التعارف للعلم والعمل بحسبه، ففي الأصل، للاعتقاد النفسي، ولهذا قيل ما جاء الإيمان في القرآن إلا مقرونا بالعمل الصالح، ومما يؤكد ذلك خبر جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الله في تفصيله شيئا من الأعمال، فإذا قول من قال: ليست الأعمال البدنية من الإيمان فصحيح على وجه، وقول من قال: هي من الإيمان فصحيح على وجه، ولكن لا يعتد بعلم لا يضامه العمل، وما أصدق في ذلك قول الشاعر:
لا يطمع المرء أن تجتاب غمرته. . . بالقول إلا له جسرا له العمل
وأتبع قوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإن كانا غير خارجين عن عمل الصالحات تخصيصا لهما لكون إحداهما أشرف العبادة البدنية، والأخرى العبادة المالية، وفائدة تعقيب أية الربا بهذه الآية تنبيه على منافاة ما يستحق بهذه الأعمال وما يستحق بتعاطي الربا ..
قوله - عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

الآية (278) سورة البقرة.
أمر تعالى بالاقتصار من الربا على رأس المال بقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، وقيل معناه:

(1/583)


فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)

معلوما وقوعه، فبين أن " إن " هاهنا لم يكن لوقوع شبهه في إيمانهم
قوله - عز وجل:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} الآية (279) - سورة البقرة.
الحرب معلوم، والحرب السلب لكون ذلك واقعا فيها، وسمي بعض آلاتها الحربة والأصل في الحربة اسم الفعلة.
والتحريب إثارتها والمحراب: قيل سمي لكونه موضع محاربة النفس والشيطان، وتسمية أشرف البقاع بالمحراب تشبيه لمحراب الصلاة بالإضافة إلى غيره من الأمكنة، والحرباء: دويبة تتلقى الشمس كأنها تحاربها والحرباء: مسمار تشبيها بالدويبة في الهيئة كقولهم: ضبة وكلب تشبيها بالضب والكلب.
ومعنى الآية: إن لم تفعلوا أمر الله ولم تنقادوا له بعد، يزول الأمر بتركه فأنتم في حكم المحاربين.
قال ابن عباس: يقتضي ذلك أن المربي يستتاب فإن تاب وإلا قوتل، ولا يقتضي كفرهم، فإن المحاربة قد تطرق على ما دون الكفر كقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، اتفق الفقهاء أن ذلك حكم المسلمين، ونبه بقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ} أن من ترك ذلك، فلابد أن يرد إليه رأس المال لا يظلمهم الناس بأن يفوزوا بأصول مالهم، ولا يظلمونهم بأن يأخذوا زيادة على أصل مالهم، وقرئ (فأذنوا) أي: أعلموا ذلك غيركم وذلك يقتضدي معنى (فأذنوا) لأنه لا يكون الإنسان مؤذنا حتى يكون آذنا.
وفي قوله: (ولا تظلمون) ما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام - " مطل الغنى ظلم " وقوله إلى الواحد يحل عرضه وعقوبته فإحلال عرضه التغليظ عليه بالمطالبة وعقوبته حبسه.

(1/584)


ذروا العمل به، وكالاهما يصح له اللفظ، فيحمل عليهما وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بمكة: " ألا إن كل ربا كان في الجاهلية، فهو موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب " وروي أن أهل الطائف صالحوا على أن لهم رباهم في الناس، فلما أسلموا امتنع بنو المغيرة من دفع الربا، وترافعوا في ذلك إلى عتاب بن أسيد عامل النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة، فكتب في ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الله، فكتب عليه الصلاة والسلام بالآية، ونبه تعالى بالآية أن المربي غير متق لله، فإن تقواه اتقاء معاصيه من المحظورات العقلية والشرعية، وقد تقدم أن تعاطي الفعل يدعو إلى جنسه خيرا كان أو شرا، فمن اتقاه في شيء ما فهو أقرب إلى أن يتقيه في غيره ..
إن قيل: كيف قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؟
قيل: سماهم مؤمنين لإقرارهم بالإيمان ثم بين بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أن من شرط الإيمان التزام أحكامه، فإن (فإن كنتم مؤمنين) فلابد من التزام ذلك، وقيل: معناه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قولا التزموا ذلك إن كنتم مؤمنين فعلا وهذا يرجع إلى الأول، وقال مقاتل: معنى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إذ كنتم مؤمنين ووجه قوله: إن (إن) مترددة فيما يتحقق وقوعه، وفيما لا يتحقق، و (إذ): تقال فيها كان

(1/585)


وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)

قوله - عز وجل:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

الآية (280) - سورة البقرة.
كان هاهنا بمعنى وقع، أي وإن وقع معسر، وقيل: هي ناقصة وتقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم، فحذف الخير لكون المعنى مفهوما، وهذا أجود، فإن التامة أكثر ما يعلق بها الأحداث دون الأشخاص، نحو: كان الخروج كقولك: اتفق للخروج، ولا تقول كان زيد، وأنفق زيد، وقيل: قراءة أبي: (وإن كان ذا عسرة).
وقوله: فنظرة إلى ميسرة) أي: فعليكم انتظار، فقرأ الحسن: (فنظرة) بسكون الظاء.
وقرئ مناظرة نحو: فاقرة، وكاذبة.
واختلف هل يجب الانتظار في رأس مال الربا أو في كل دين؟ فمنهم من قال: النص يقتضي ذلك في كل، فإنه تمم حكم الربا، ثم ذكر اعتبار من عليه دين ربا كان أو غيره، وهو قول ابن عباس، والضحاك، والحسين.
ويؤكد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " من أنظر معسرا كان في ظل الله، أو في كنف الله يوم القيامة. "، وقال عليه الصلاة والسلام: " من شدد على امرئ في التقاضي إذا كان معسرا، شدد الله عليه في قبره. "
وقال شريح وإبراهيم، وروى عن ابن عباس أن ذلك في الربا خاصته والتصدق على المعسر ترك رأس المال عليه، نحو قوله في القصاص.
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}، وقوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي تتصدقوا، فأدغم، وقرئ: (تصدقوا) بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاء ين بدلالة الأخرى عليه، وقرئ: (ميسرة) بضم السين، وذلك لغتان نحو: مشربة، ومشربة وقرئ مجاهد (ميسرة)، ولم يجوزه البصريون لعدم مفعل في كلامهم، وذكر الكوفيون ألفاظا يسيرة من ذلك ليوم ردع أو فعال مكرم.

(1/586)


وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)

وقوله - عز وجل:
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}

الآية (281) - سورة البقرة.
قال ابن عباس.
هي أخر آية نزلت من القرآن، فقال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " ضعها في رأس الثمانين والمائتين من سورة البقرة، وقد تقدم الكلام في الفرق بين ": (اتقوا الله)، (واتقوا ربكم)، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ} وما يجري مجراه؟ ومعنى الرجوع فليس على تصور رجوع إلي مكان بعد المقارنة كيف يكون ذلك وقد قال الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}، وإنما ذلك رجوع، إما على ما ذكرنا في العود آنفا وإما على تصور خلقه أبانا المشار إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وعلى هذا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}، وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، وقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} وتوفية كل نفس ما كسبت جزاءها، إن خيرا فخيرا، وإن شراً فشرا، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، أي: لا ينقص ثوابهم، ولا يزاد عقابهم ..

(1/587)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)

قوله - عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الآية (282) سورة البقرة ..
دنت الرجل: أخذت منه ديناً، وأدنته: جعلته دينا، وذلك بأن تعطيه دينا، والتداين والمداينة تدافع ذلك والبخس والنخس يتقاربان، لكن النخس أن يصيب بدنه، أي مكان كان والبخس أن يصيب عينه، وعنه استعير بخس حقه، كقولهم عور حقه، وتباخسوا في البيع تغابنوا كأن كل واحد يبخس صاحبه عما يريده منه باحتياله، والسفه خفة في العقل ومقتضياته، ولهذا يقال: " سفيه الرأي " وسفيه اللسان " و " زمام سفيه " على التشبيه ..
والسآمة ملك يورث الضجر، والصغر خلاف الكبر، وأصله أن يستعمل في المقدار، ثم يستعمل في الأحوال، ومنه صغر صغرا أو صغارا إذا تحاقر لاحتمال ضيم والقسط النصيب على سبيل العدالة،
فإن قيل: فإذا كان القسط ما يقول، فكيف قيل: قسط إذا جار؟
قيل: معنى قسط أخذ قسط غيره وذلك عدل، فصار قسط وأقسط في التناول والمناولة، كقولهم عطاء، وأعطى ..
إن قيل: لم قال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}، وتداينتم ينبئ عن الدين والمدين والتداين يقال في

(1/588)


المجازاة فبين بلفظ الدين المراد والمقصود في هذا المكان أنه لما عقب بقوله: فاكتبوه ذكر لفظ الدين، ليبين أنه هو الذي حث على كتبه وكتب ذلك واجب عند الربيع، وإليه ذهب عامة الفقهاء، ومنهم من قال: هو في السلم خاصة، وحقيقة: (اكتبوه) حث على الاعتراف به وحفظه، فإن الكتاب خليفة اللسان واللسان خليفة القلب، فلما قال: فاكتبوه فقد حث على غاية ما يكون في ذلك من الاحتياط، وقوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}، قيل: واجب على كل حال على كل كاتب، وقيل: واجب على الكفاية كالجهاد، وهو الصحيح والكتابة بين المتتابعين وإن كانت غير واجبة، فقد تجب على الكاتب إذاً أتوه، كما أن الصلاة النافلة وإن لم تكن واجبة على فاعلها، فقد تجب علي العالم - تنبيها إذا أتاه مستفتي وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب، وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، أي: ليقر، ولولا وجوب الحكم بإملائه، لم يكن إملاؤه أولى من إملاء غيره، ولهذا قال: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} وذلك نظير قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}، لما كان قولهن مقبولا وعلى هذا قوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}،
إن قيل: جمع بين لفظ (الله) ولفظ (الرب) في قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}؟ قيل: إن لفظ الله يقال اعتبارا بالوله إليه أو العبادة له، ولفظ " الرب " يقال اعتبارا بكونه تعالى مربيا لعباده ومنعما عليهم، وقد تقدم أن الإنسان يعرف الله ربا قبل أن يعرفه معبودا وذلك بمعرفة نعمه يتوصل إلي معرفة فجمع هاهنا بين اللفظين، كأنه قال: " اتقوه معتبرين بذاته ومعتبرين بنعمه "، وأما تقديم لفظ (الله) على (الرب) فقد تقدم في بيان قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولأن مراقبة ذاته تعالى أبلغ وأشرف من اعتبار نعمه فكأنه قيل: " إن لم تلاحظوه، فلاحظوا نعمه اللازمة لكم "، وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} أي مبذرا لقوله: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} وقيل: عنى بالسفيه النساء، وبالضعيف الصغير وبالذي لا يستطيع أن يمل هو المغلوب على عقله، ومنهم من حمل السفيه والضعيف على شيء واحد، وقال أو زائدة، وذلك ظاهر الفساد في اللغة وقوله: {وَلِيُّهُ} أي: ولي أحد هؤلاء الثلاثة، ولا يجوز أن

(1/589)


يكون ولي الحق كما قال بعضهم، لأن قوله لا يؤثرا إذ هو مدع.
وقوله: {بِالْعَدْلِ} حث على تحريه لصاحب الحق وللمولى عليه، وقوله: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قال بعضهم: تقتضي هذه الإضافة الإيمان والحرية والبلوغ لتخصيص الرجال ويقتضي " من ترضون من الشهداء " العدالة، لأن المقصد من الاستشهاد إقامة الشهادة، أما شهادة العبيد والصبيان، وشهادة النساء في غير، وشهادة الأعمى والفاسق وغير ذلك من أحكام الشهادة، فكتب الفقه به أولى، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي وليشهد رجل وامرأتان وقوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} أي تذكر الأخرى إذا نسيت وقال سفيان بن عينية: يجعلها كذكر في الحكم ..
إن قيل: ما وجه قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} وذلك يقتضي أن يكون القصد بالاستشهاد الضلال قيل: قد قال سيبويه في ذلك: لما كان الضلال سبب الأذكار وهو متقدم عليه صار لتعلق كل واحد منهما بالآخر في حكم واحد، قال: ومثل ذلك من قال أعددت هذا الخشب ليميل الحائط فأدغمه قال الفراء: تقديره: فتذكرها إن ضلت لكن لما قدم أن - فتح فصار متعلقا بما قبله: وهذا طريق في مسائل، وقرأ حمزة (أن تضل)، وقرئ (أن تضل) من أضللت، لتقارب ضل وأضل تقارب نسيت وأنسيت وقيل: (أن تضل) أي تضيع شهادتها ما لم تضامها الأخرى إشارة إلى ما فاله عليه الصلاة والسلام: " أما نقصان عقلهن فشهادتهن على النصف من شهادة الرجال " وقوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قال قتادة والربيع: " إذا ما دعوا لتحمل الشهادة "، وقال مجاهد: لإقامتها، وقيل: لهما، وهو الصحيح، وقال بعضهم: لا يجوز أن تكون للتحمل، لأنه حينئذ لا يكون شاهدا، وهذا سوء تصور منه ألا ترى أنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}؟

(1/590)


فسماهما شهيدين، قيل: إن استشهد وبين قوله: {وَلَا تَسْأَمُوا} إن قليل الدين وكثيره يستحب كتابته وبين علة ذلك بقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي أعدل، وأقوم للشهادة أي أثبت، {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أي أبعد من أن تقع شبهة ثم استثنى ما كان حاضرة، وخفف الأمر فيما لا أجل فيه وما لا يكون له ثبات في مكان كما الدور والعقار، نحو الطعام والشراب، وقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} قيل: " هو يرجع إلى الأول دون ما يكون تجارة حاضرة، وقيل: يرجع إلى الكل حتى قال بعضهم.
يشهد على سامع حتى على ناقة.
قيل وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} قرئ بفتح الراء " لا يضارر " بأن يدعي وهو مشغول، عن ابن مسعود ومجاهد، وقيل: ة هو يضار، أن: لا يمتنع الكاتب من الكتابة، والشهيد من، إقامة الشهادة عن الحسين وقتادة وابن زيد، لئلأ يؤدي إلي أبطال الحقوق، وقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} خطاب للجميع على سبيل الوعيد، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} إعادة للوصية،
إن قيل: كيف قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وكرر لفظ (الله) ثلاث متواليات ولم يعدل إلى الكناية، وهل ذلك في استقباح خط الإعادة لولا شرف لفظ (الله).
كقول الشاعر: " فما للنوى جد النوى قطع النوى "
حتى قيل: " سلط الله على هذا البيت شاة ترعى منه النوى "،
وكقول الأخر:
بجهل كجهل السيف والسيف منتضي ...
وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
فاسترذل البيت لإعادة لفظ " السيف " مراراً ...
، قيل: إن ذلك بعيد عن الآية، فإن البيت الأولى استقبح لا لإعادة النوى فقط، بل له، ولأن قول " جذ النوى قطع النوى " بمنزلة واحدة، ولهذا الباب

(1/591)


قانون يعرف به المستقبح من المستحسن، وهو أن كل تكرير على طريق تعظيم الأمر وتحقيره في جمل مواليات كل جملة، ومنها مستقلة بنفسها، فدلك غير مستقبح، وإذا كان ذلك في جمله واحدة أو في جمل في معنى واحد، أو لم يكن فيه التعظيم أو التحقير، فذلك مستقبح، وهذا ظاهر في الآية والأبيات المذكورة، فإنما قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} حمل في معان مفترقة، فإن الأول: حث على تقوى الله، والثاني: تذكير بنعمه، والثالث: تعظيم له متضمن لوعد ووعيد شديد وفصد عظيم كل واحد من هذه الأحكام، فأعيد لفظ (الله) فيها ..
فأما البيت الثاني: فهو جملة واحدة، لأن قوله: كجهل السيف في موضع لقوله: يجهل، وكذلك قوله: " والسيد مغمد " جاء لقوله: الحلم للسيف، وعلى قول الآخر:
" لا أري الموت يسبق والموت شيء "
فإن قوله: (يسبق الموت) " مفعول ثان " لقوله: (لا أرى)، والكلام كله جملة واحدة، وهذا ظاهر ...

(1/592)


وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

قوله - عز وجل -:
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}

الآية (283) - سورة البقرة.
الرهن: حبس السلعة بحق، ثم يستعمل في غيره على طريق التشبيه واؤتمن: أخذه واستوفاة كقولهم اكتحل واغتسل إذا استوفى ذلك وقيل: رهن، ورهن، ورهن فرهن، نحو ثمر، ورهن على التخفيف قيل: رهان، كقولهم: ثمار، وكلاب، وقال بعضهم: ليس الرهان إلا في المخاطرة، وحكم الرهن ثابت في الحضر والسفر عند عامة الفقهاء، وبعضهم خص حكمه بالسفر عند عدم الكاتب، وقرأ ابن عباس: (فلم تجدوا كتابا .. ) أي صحيفة ودواتا، وقوله: " فرهان " أي فليدفع رهانا، أو فليوجد رهانا، واشتراط كونها مقبوضة تنبيه أن الرهن لا يثبت حكمه ما لم يكن مقبوضا لأمرين ..
أحدهما: أن ذلك معطوف على الشهادة فكما أن الشرط في الشهادة معتبر كذلك هاهنا والثاني: أن حكم الرهن مأخوذ من هذه الآية وقد أجازه بهذه الصفة، فيجب أن تعتبر الصفة فيه وأما حكم ما يجوز رهنه وما لا يجوز، وما يصححه ويفسده، فكتب الفقه أولى به وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يحث من يؤتمن على حفظ الأمانة كقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وحذر غاية التحذير بقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، وقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} خطاب لمن عليه الحق، وللشاهد جميعا، لأن الشهادة إعلام، ويقال للإقرار شهادة، ولهذا قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، وكما أن كتمان الشهادة محرم فما هو منه بسبب

(1/593)


لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)

محرم كالتأخر عن إقامتها عن تحملها في بعض الأحوال وقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي يأثم بذلك قلبه، ويجوز أن يكون معناه: " إنما يكتم الشهادة ومن يكتم لأنه قد أثم قلبه " قيل فحمله ذلك على ارتكاب المحارم واحتقاب المآثم، وإضافة الإثم إلى القلب مبالغة في الذم، فالقلب مقر البر والإثم، ولهذا قال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، وقال بعضهم: " في أية الدين صلاح للدين والدنيا "، فالإنسان بمراعاة ما أرشده الله إليه فيهما يبعد عن جحود الحق الذي هو سبب التنازع، والتنازع سبب كل شر ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، ومن هذه الوجه منع من البيعات المجهولة وجهل المدة وسائر الأشياء المؤدية إلى المنازعة، أوجب الإشهاد من أوجبه، لأن كل ما يؤدي إلى فساد فحسم مادته واجب ..
قوله - عز وجل:

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية (284) - سورة البقرة.
قد تقدم ما هو جواب عن سؤال من قال: لم قال الله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ودلالة خطابه تقتضي أن ليس له السماوات والأرض، وقال بعض الصوفية في قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تنبيه أنه لا يجب الاشتغال بهما، بل يجب الاشتغال بمن أوجدهما وملكهما - تنبيها أن من تركها وأقبل عليه ملكه إياهما وما هو أفضل منهما، وإياه قصد بقوله: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ}،
إن قيل: ما وجه نظم هذه الآية مع ما قبلها؟ قيل: إنه لما فرغ من حكم الإيمان والعبادة والأحكام المذكورة في هذه السورة، ختمها بالموعظة ونبه على وجوب تفويض الأمر إليه، ولما كانت حقيقة العبادة متعلقة بالقلب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أخلص يكفك القليل من العمل "، وهو أحد ما أفاد قوله - عليه الصلاة والسلام: " البر ما اطمأن إليه

(1/594)


القلب " وقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، كقوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} ..
إن قيل: هذه الآيات تقتضي أن يكون الإنسان مؤاخذا بما تتحرك به الخواطر، وقول النبي - عليه الصلاة والسلام ينافيه في الظاهر " إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به أنفسها " وكذلك قوله: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ..
قيل: قد تقدم إن أول ما يعرض من حديث النفس السابح ثم الخاطر، ثم الإرادة والهم، ثم العزم وأن السابح والخاطر متجافي عنهما بكل وجه وأنه متى صار نية، فذلك عمل مأخوذ به وعلى هذا قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، وألهمه متى كانت من وسوسة الشيطان وتصدي الإنسان لدفعها وقمعها فهو المتجافي عنها بل هو الموعود بالإثابة على دفاعها، حيث قال عليه الصلاة والسلام: " جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ومتى كانت نفس وإجماع من النفس، فذلك فعل منه، ولذلك قال بعض الصالحين: " عليكم

(1/595)


بحفظ الهمة، فإنها أول ما تظهر من الإنسان وهي تقدمة الأشياء " وقال عليه الصلاة والسلام: " لينظر أحدكم ما يتمنى، فإنه لا يدري ما كتب له " ومن تصور هذه الجملة علم أن قول من قال هذه الآية منسوخة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وجعل علة النسخ أن حديث النفس وما يهجس فيها غير مقدور على صرفه، فإنما استعمل لفظ النسخ في معنى التخصيص، فأما أنه أمر بما لا يقدر عليه ثم نسخ، فمجال وعلى هذا ما روي أنه قيل لابن عباس إن ابن عمر يبكي لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فقال ابن عباس: " رحم الله ابن عمر، لقد وجد المسلمون منها ما وجدوا " حتى نزل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، فإنه عنى أن هذه الآية مخصصة ومبينة للأولى ونبه بقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ} على سعة قدرته وعدله وفضله ثم من الذي يغفر له والذي لا يغفر له لا يعقل من ظاهر الآية.

(1/596)


آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

قوله - عز وجل:

{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} الآية (285) - سورة البقرة.
إن قيل: لم لم يذكر هاهنا اليوم الآخر، وقد ذكره في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} الآية؟
قيل: لأمور: أحدها أنه نبه عليه بذكرها في غيرها، والثاني: أن الإيمان بكتبه ورسله مقتض للإيمان باليوم الآخر أظهر عند المؤمنين من أن يحتاج إلى ذكره مفصلاً، ألاً ترى أنه قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فاقتصر على ذلك ولم يصفه بما وصف به المؤمنين بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} تنبيها على أن ذلك بحيث يستغنى عن ذكرها وهذا الجواب علي قراءة من وقف على فوله: {مِنْ رَبِّهِ} ...
والرابع: إن في قوله: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} دلالة على إيمانهم باليوم الآخر، وقال بعضهم: إنما أفرد إيمان اللنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ} ثم قال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ}، تنبيهاً على شرف إيمانه - عليه الصلاة والسلام-، وأنه سابق لإيمانهم، وأن لا واسطة بمنه- عليه الصلاة والسلام-، وبين الإيمان كما بين إيمان المؤمنين وبين الإيمان به واسطة، وقرأً " ابن عباس " وكتابه "، قال: وهو أبلغ، لقوله: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، ولأن الكتاب للجنس، ولأنه ليس مع

(1/597)


كل نبي كتاب مفرد، بل في الأنبياء من استعبد بكتاب الله من يقدمه وقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}، أي: يقولون ذلك ولم يعن أنهم يتفوهون به فقط، بل يعتقدون ويتحرون مقتضاه بخلاف اليهود والنصارى، حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ولأن تابع الحق والحقيقة هو الذي يعرفه، ومن عرفه تبعه حيث وجده، فامحق من حيثما هو حق لا يخالف بعضه بعضاً، وإنما الباطل هو الذي يتناقض ولا يتطابق، ومن هذا الوجه قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
وإذا كانت الأنبياء على الحق، فلا يعاند بعضهم بعضاً، إذ لا معاندة في الحق ...
إن قيل: لم قال: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وبين تستعمل في شيئين فصاعداً، فكيف قال: {بَيْنَ أَحَدٍ}؟ أيتناول الجنس على طريق الجملة والتفصيل ولذلك لا يستعمل إلاً في الاستفهام والنفي فنبه بذكره هاهنا أنه لا يفرق بينهم لأعلى طريق الجملة وعلى طريق التفصيل.
وقال في الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ}
وقاله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قولك، وأطعنا أمرك بخلاف من قال: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وقوله: {غُفْرَانَكَ}، أي " أنزل غفرانك "، أو نسألك غفرانك، واغفر لنا غفرانك، وكل ذلك متقارب، " واليك المصير " اعتراف بما وعدهم بقوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}

(1/598)


لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)

قوله - عز وجل -:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

الآية: (286) - سورة البقرة.
القدرة والجهد والاستطاعة قد تقدم الكلام فيها، وكسبت واكتسبت قل يجريان مجرى واحداً، ويقال لما أخذته لنفسك ولغيرك كسبت، ولهذا قد يُعدى إلى مفعولين، فيقال: " كسبت فلاناً كذا "، واستقبح " اكتسبته كذا "، والاكتساب لا يقال وإلا لما استفدته لنفسك، فكل إكتساب كسب، وليس كل كسب اكتساباً، ولهذا انظائر فيه اللغة نحو: " خبر، وطبخ، وشوي " إذا فكل ذلك لنفسه أو فعله لغيره، ويقال: " اختبز، واطبخ، واشتوى " إدا فعل ذلك لنفسه ..
والإصر: الثقل وأصله من أصره إذا وعطفه، وقيل للعهد والرحم وكل ما يوجب عليك حماية ما إصر وكل آصر عاطف لمن مر به "، والإصار كساء يجعل فيه حشيش، فيثنى على السنام بين الله تعالى أنه كلف عبده دون ما تنوء به قدرته، فإن الوسع هو القدرة على أكثر قدر المكلف، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} قيل: عنى بالكسب ما عمله من الخير، وبالاكتساب ما عمله من الشر، وقيل: عنى بالكسب ما يفعله الإنسان من فعل خير وجلب نفر من حيثما يجوز إلى غيره، والاكتساب ما يحصله،
لنفسه من نفع يجوز تناوله، فنبه أن ما يفعله الإنسان من نفع غيره فله الثواب، وليس عليه فيه الحساب، وأن ما يحصله لنفسه وإن كان متناولً من حيثما يجوز على الوجه الذي بجوز.
فعليه فيه الحساب يؤيده ما ذكرنا من الفرق بين كسب واكتسب، وقوله: {الَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فإنه عنى النسيان الذي هو الترك أو ذهاب الذكر الذي الإنسان سببه لقلة مراعاته، وكذا الخطأ إنما أدار به ما يكون سبب حصوله، وقد تقدم الكلام في حقيقيهما.
وقوله: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يعني: ما يثقل

(1/599)


حمله من الأمور الشاقة التي كلف كثيراً منها بني إسرائيل، كقتل الأنفس، وقال بعضهم: يجوز أن يستعبدنا الله تعالى سؤاله أن لا يفعل ما يعلم أنه لا يفعله ..
إن قيل: ما الفرق بين العفو والغفران والرحمة؟ وما وجه هذه الترتيب؟
قيل: العفو: إزالة الذنب بترك عقوبته، والغفران ستر الذنوب، وكشف الإحسان الذي غطى به، والرحمة إفاضة الإحسان عليه، وقد علم أن الثاني أبلغ من الأول، والثالث أبلغ من الثاني ...
وقوله: {أَنْتَ مَوْلَانَا} كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فنصرة الله للمؤمنين على وجهين أحدهما: من حث الحجة، وقد فعل.
والثاني: من المداولة التي قال: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وهذا هو المسؤول أن يجعل لنا عليهم دولة، ولا يجعل لهم علينا دولة، ووجه ثالث وهو أن الله قد نصر المؤمنين كافة حجة وملجأ، ومعونة وظهوراً على الدين كله لكن قد يلحق المسلم غلبة من جهة كافر، وهو المشار إليه بقول أمير المؤمنين - رضي الله عنه: " إن للباطل جولة ثم يضمحل "، فكأن الاستعاذة بالله أن يقينا من هذه الجولة من الكفار ..
" تم بحمد الله تفسير سورة البقرة "

(1/600)