تفسير الراغب الأصفهاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: تفسير الراغب الأصفهاني
(من أول سورة آل عمران - وحتى الآية 113 من سورة النساء)
تحقيق ودراسة: د. عادل بن علي الشِّدِي
دار النشر: دار الوطن - الرياض
الطبعة الأولى: 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

(2/400)


الم (1)

سورة آل عمران
قوله عز وجل: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ).
ْالأصل في حروف التهجي السكون، وكان حكم الميم
حكم غيره لكن حُرِّك لالتقاء الساكنين، وفُتح استثقالاً للكسرة
فيه من أجل الياء قبله، ومن قال: إنما فُتِحَ لأنه أُلقِيَ عليه
حركة الهمزة فخطأ؟ لأن هذه الهمزة تسقط في الدَّرْج إلا في
قولهم: يا ألله، والهمزة التي تُلقى حركتها على ما قبلها هي

(2/401)


الثابتة في الوصل والوقف، نحو: مَنَ ابوك؟ إذا قلت: منْ
أَبوك؟.
وَرُوِيَ عن عاصم وغيره سكونُ الميم وقطعُ الألف.
وليس ذلك بصحيح عند النحويين، لكون الألف فيه للوصل.
وأما موضع إعراب (الم) فمبتدأ وخبره مضمر، أو خبر مبتدؤه

(2/402)


مضمر، ودلَّ على المحذوف منه قوله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)
فصار كقوله: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ) وقال بعضهم: (الم)
مبتدأ وخبره (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ)، ونسب تعالى التنزيل إلى
الحروف، تنبيهاً أنه منها، وأن عجزَكُمْ عن الإِتيان بمثله دلالة
لكم أنه كلام الله دون كلام الخلق.
وقد تقدَّم أن أهل اللغة قالوا:
الكتاب سُمِّيَ لكتب الحروف بعضها إلى بعض، أي ضمُّها.
وقيل: سُمِّيَ المعنى الثابت كتابً تشبيهاً بالمكتوب، وعلى هذا قوله
تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ).

(2/403)


ويقال: لكل مُوجَب كتاب.
ورُوي أنه نزل ذلك في وفد نجران الذين أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخاصموا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يموت، وأن
الله لا يخفى عليه شيء، وقد كان عيسى يخفى عليه أشياء، وأن
عيسى صُوِّر في الرحم كيف شاء الله؟ " - نبههم بذلك أنه لا يصحّ
أن يكون عيسى مع كونه بهذه الصفات إلهاً - فأنزل الله تعالى
الآية.

(2/404)


فقوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ليس بدعوى يحتاج فيها إلى
دلالة من خارج، بل هو في نفسه دلالة لازمة وحجة واضحة.
فإن معنى قوله: (اللَّهُ) أي هو الذي يحق له العبادة، أي الذي
تَأْلَهُ الأشياء إليه، وكان الكفار يقولون: الأشياء ثلاثة: عابد
غير معبود، ومعبود عابد، ومعبود غير عابد؟ وهو الله تعالى.
فبيّن تعالى بهذا أن المستحق للعبادة على الإِطلاق هو الذي
لا إله إلا هو، وأكَّد ذلك بقوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، والحي في صفات الله
معناه الذي لا يجوز عليه الموتُ، وبه حياة كل حي، وإذا استُعْمِل
في غيره فعلى معنى قبول الحياة منه تعالى.
والقيوم: هو القائم بحفظ كل شيء، والمعطي له ما به قوامه، وهو المعنى المذكور

(2/405)


في قوله تعالى: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
وقوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).
والحقُ أبلغُ من الصدق،. لأن كل صدق حق، وليس كل حق
صدقًا، ويتناول الأحكام والواجبات من حقوق الله وحقوق
الناس. والصدق من أخبار الأمم السالفة والآنفة، والحق الذي هو
الجدُّ. والتوراة عند الكوفيين تَفْعَلَة وليس في كلام العرب تَفْعَلَة
بوجه، وإنما هو تَفْعُلَة نحو تَتْفُلَة وتفعِلة نحو تكرِمة.

(2/406)


وقيل: أَصله تَفْعِلَة، فعدل عن الكسرة إلى الفتحة.
وعند البصريين هي فَوْعَلَة نحو: حَوْقَلَة، وصَوْمَعَة. فأبدل
من الواو تاء، كما أبدل في تَوْصِيَةٍ وتَيْقُورٍ من الوقار.
والإِنجيل: إِفْعِيل من النجل، والنجل مستعمل في الأصل
وفي الولد.

(2/407)


إن قيل: لِمَ قال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ)؟
قيل: قد يقال: (نزّل) و (أنزل) بمعنى. لكن خصَّ الكتاب
بالتنزيل لأمرين:
أحدهما: أن هذا الكتاب لما كان حكمُهُ مؤبدًا، والتنزيل بناء المبالغة
خُص به تنبيهًا على هذا المعنى، وليس ذلك حكم الكتابين قبل.
والثاني: أن هذا الكتاب أُنزل شيئًا فشيئًا، والكتابين أُنزل كل
واحد منهما جملة.
وقوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني الكتب المتقدمة، وخُصَّ التوراة والإِنجيل بالذكر، وإن كانا قد دخلا في عموم ما بين يديه تشريفًا لهما.
و (مُصَدِّقًا) حال للمُنَزِّل أو للمنزَّل.

(2/408)


ْوقوله: (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) أي أنزل في كتبه ما يُفرِّق به بين
الحق والباطل في الاعتقادات، والخيرِ والشر في الأفعال، نحو
قوله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ): وكل كتاب لئه فرقان.
وقيل: الفرقان مخصوص به القرآن خاصة، وتَخصيصه بالذكر بعدما
تقدَّم تنبية على إثبات المعنيين له، كقوله تعالى: (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
إن قيل: كيف يكون القرآنُ مُصدِّقَا لما بين يديه، وهو ناسخ

(2/409)


هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

لعامة أحكامه؟
قيل: تصديقهُ إياه تحقيقهُ أنه من جهة الله، ومطابقته إياه في
كونه داعيًا إلى التوحيد وفعل الخير ونحو ذلك، وإلى أنواع
العبادات دون قدرها وهيكلها وكيف إيقاعها.

قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5).
لم يعنِ بآيات الله كتابه فقط، بل كل آية دالة عليه: عقلية
كانت أم سمعية، ففي كل شيء له عبرة، ونبَّه أنه لا يتهيأ
لأحد منعه من عذاب من أراد.

قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

(2/410)


الصورة من صَيرته أي أحلته، وهي هيئة معقولة أو محسوسة.
والصبغة نحوها، إلا أن أكثر ما يستعمل في المحسوسة.
إن قيل: كيف قال في موضع: (وَصَوَّرَكُمْ) على لفظ الماضي.
وقال هاهنا بلفظ الاستقبال؟
قيل: أما أولاً فلا اعتبار بالأزمنة في أفعاله تعالى، وإنما استعمال الألفاظ فيه الدالة على الأزمنة
بحسب اللغات، وأيضاً فقوله: صوَّركم إنما هو على سبيل
التقدير، وأن فعله تعالى في حكم ما قد فرغ منه، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، وقوله: يصور على حسب ما يظهر لنا حالاً، فحالا،

(2/411)


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

إن قيل: لِمَ قال: (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)
ولم يقل: ْ هو عالم بكل شيء؟
قيل: لأن الوصف بأنه "لا يخفى عليه شيء" أبلغ من قوله "يعلم "
في الأصل، وإن كان استعمال اللفظتين فيه يفيدان معنىً واحدًا.
وتخصيص الأرض والسماء لكون ذكرهما أهول بالإِضافة إلينا، وفيه دلالة على كل شيء، وإنما كرر قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) لأنه لما ذكر ما تقدم
دليلًا على كون عيسى مخلوقًا، وكونه تعالى خالقًا نبّه بقوله:
(لَاَ إلَهَ إلَأ هُوَ) أن لا معبود سواه، وأنه العزيز في نقمته.
الحكيم في أمره، لا حاجة به إلى ولد، ولا حكمة تقتضي ذلك.

قوله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7).

(2/412)


الزيغ: الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، ومنه زاغ البصرُ.
وزاغت الشمسُ عن كبد السماء، وزاغ قلبُه، وزاغ وزال ومال.
تتقاربُ، لكن زاغ لا تُقال إلا فيما كان عن حقٍّ إلى باطلٍ.
والتأويل: آخر الشيء ومآله، وقد تقدم الفرق بينه وبين التفسير.
والمحكم قد وُصف به القرآن على وجهين:
ْأحدهما: عام في جميعه، نحو (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)
وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) ويعني بذلك المتقن.
نحو: بناء محكم، وعقد محكم.
والثاني: ما وُصِفَ به بعض الكتاب المذكور في قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) وهو ما لا يصعب على العالم معرفته لفظًا أو معنىً،

(2/413)


وقيل: ما لا يحتاج العالم في معرفته إلى تكلُف نظر، وعكسُهُ
المتشابه، والكلامُ في أحوال المحكم والمتشابه - مشكلٌ.
ولابُد من إيراد جملةٍ ينكشف بها ذلك، فيُقال وبالله التوفيق:
الكلام من جهة الإِحكام والتشابه على ضربين:
أحدهما: ما يرجع إلى ذات المحكم والمتشابه في نفسه.
والثاني: ما يرجع إلى أمر ما يعرض لهما.
فالأول على أربعة أضرب:
أحدها: محُكم من جهة اللفظ والمعنى، نحو قوله تعالى:
(تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)

(2/414)


الثاني: مشابه من جهتيهما، نحو قوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ)
والثالث: متشابه في اللفظ مُحكم في المعنى، نحو قوله:
(وَجَاءَ رَبُّكَ)

(2/415)


والرابع متشابه في المعنى مُحكم في اللفظ، نحو:
الساعة، والملائكة.
وقد تجعل هذه الأقسام ثلاثة: أحدها: محكم على الإِطلاق.
ومتشابه على الإِطلاق، ومحكم من وجه.
والمتشابه ضربان:
أحدهما: من جهة اللفظ، والآخر: من جهة المعنى.
والمتشابه من جهة اللفظ ضربان:
أحدهما: يرجع إلى مفردات الألفاظ.
وذلك إما من جهة غرابة اللفظ، نحو (الأبّ) ونحو (يَزِفُّون)،

(2/416)


وإما من تَشَارُكِ في اللفظ: كاليد والعين والوجه.
الثاني: يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب:
أحدها: اختصار الكلام نحو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ).
والثاني: تطويله نحو (كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
والثالث: إغلاق نظمه، نحو: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا).
والمتشابه من جهة المعنى ضربان:
أحدها: د قة المعنى، كأوصاف الباري تعالى، وأوصاف

(2/417)


القيامة.
والثاني: ترك الترتيب، نحو قوله: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ) إلى قوله: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا).

(2/418)


وما يرجع إلى اللفظ والمعنى معا، فأقسامه بحسب تركيب بعض
وجوه اللفظ مع بعض وجوه المعنى، نحو: غرابة اللفظ مع دقة
المعنى، وذلك ستة أقسام، وأما المتشابه من جهة ما يعرض للفظ
فخمسة أقسام: أحدها: من جهة الكمية: كالعموم والخصوص.
والثاني: من طريق الكيفية: كالوجوب والندب، والثالث:
من جهة الزمان: كالناسخ والمنسوخ، والرابع: من جهة
المكان: كالمواضع، والأمور التي نزلت فيها، نحو قوله:
(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا).
وقوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)، فإنه يحتاج في معرفة ذلك

(2/419)


إلى معرفة عادتهم في الجاهلية.
والخامس: من جهة الإِضافة.
وهي الشروط التي بها يصح الفعلُ أو يفسدُ: كشروط العبادات
والأنكحة، وهذه الجملة من المحكم والمتشابه إذ تُصُوِّرَتْ
عُلم أن جميع ما يذكره المفسرون لا يخرج منها، نحو قول من
قال: المتشابه نحو (الم) وما أشبهه، وقول مجاهد:
المحكم ما فيه الحلال والحرام، والمتشابه ما سواه.
وقول

(2/420)


قتادة: المحكمُ الناسخُ الذي يُعملُ به، والمتشابه: المنسوخُ.
وقول الأصم: المحكمِات ما حججهُ ظاهر، والمتشابه ما
حججهُ غامضه.
وقول غيرهم: المحكم ما أُجْمع على تأويله،

(2/421)


والمتشابه ما اختلف فيه، فكلُّ هذه الأقوال مثالاتٌ لبعض
ما انطوت عليه هذه الجملة. ثم جميع ما ذكرنا من المتشابه على
ثلاثة أضرب: ضرب لا مرية فيه أنْ لا سبيل إلى المراد بتأويله.
وهو بعض ما تَعْرضُ فيه الشبهة من جهة المعنى كمجيء الساعة.
وحقيقة ذاته.
وضرب لا خلاف أن للإِنسان سبيلًا إلى معرفته، وذلك ما كان اشتباهه من جهة ما يعرض له من عموم وخصوص
ووجوب وندب وغير ذلك مما تقدم ذكره، وكذا ما تعرض فيه
الشبهة من جهة غرابة اللفظ، وما هو مترددٌ بين الأمرين، يجوز
أن يُختَص بمعرفته بعض الراسخين في العلم نحو علي

(2/422)


وابن عباس وغيرهما مما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم فقِّهه في
الدين وعلِّمه التأويل".
وهذه الجملة إذا تُصُوِّرت

(2/423)


عُلِم أن من رأى الوقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ)
واستأنف ما بعده فلنظره إلى الضرب الأول من المتشابه، ومن
وصل ذلك وجعل قوله: (الرَّاسِخُونَ) عالين به، فلنظره إلى الضرب
الثاني، والأظهر من الآية القول الأول، وما قال بعضهم:
إنه لو جاز أن يخاطبنا ثم لا يُعرفنا مراده، لجاز أن يخاطبنا بكلام
الزنج والروم، فالجواب عنه: أن كلام الروم والزنج لا يُعْلَمُ

(2/424)


منه المراد مجملَا، ولا مفصلَا، والمتشابه يُعلم منه مراده مجملَا
وإن لم نعلمه مفصلًا، لأن كل آية قد فسرها المفسرون على أوجه.
فمعلوم أن المراد لا يخرج منه، ثم تعيين مراد الله تعالى منها غير
فمعلوم، وهذا ظاهر.
على أنه لم يكن يمتنع أن يكلفنا تعالى

(2/425)


تلاوة أحرف لا نعرف معناها، فيثيبنا على تلاوتها، كما يُكلِّفنا
أفعالاً لا نعرف وجه الحكمة فيها، ليثيبنا عليها، فالتلاوة
فعل يختصُّ باللسان، ومن جعل قوله: (وَالرَّاسِخُونَ) معطوفًا
جعل قوله: (يَقُولُونَ) في موضع الحال للمعطوف دون المعطوف
عليه، كما في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) حال
للمعطوف دون المعطوف عليه.
إن قيل: لِمَ خص الراسخين بأنهم يقولون آمنا به؟
قيل: لأن معرفة ما للإِنسان سبيل إلى معرفته مما لا سبيل له إلى معرفته هو
من علوم الراسخين، لأن الحكماء هم الذين يُميّزون بين ما
يمكن علمه وما لا يمكن أن يُعلم، وما الذي يُدرك إن طُلب

(2/426)


والذي لا يُدرك، وعلى أي غاية يجب أن يقف طالب العلم، وأي
مكان يتجاوزه، وهذا أشرف منزلة للحكماء، ولذلك قالت
عائشة رضي الله عنها: "من رسوخ علمهم الإِيمان بمحكمه
ومتشابهه وإن لم يعلموا تأويله "
إن قيل: ما فائدة الإِتيان بالمتشابه فِى القرآن؟
قيل: فوائد جمة، منها: أن يبين تشريف
العلماء بتميُّزهم عن غيرهم، ومنها: رياضة العقول في تعرفها.
ومنها: استحقاق الثواب بتعبِ الفكر فيه، ومنها: إظهارُ شرف

(2/427)


الفكر، ليعلم أنه لم يجعل الإِنسان عبثًا، ومنها: حث من أخبر
الله عنهم أنهم قالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) على أن
يتدبره، لأنهم إذا سمعوا ما في ظاهره التنافي تأملوه طلبًا لردّه.
فيصير ذلك سببًا أن يعرفوه لمعرفتهم بإعجازهم ولزوم الحجة به.
ومنها: أن يصير سببًا لاعتراف الإِنسان بعجزه ومعرفة نقصه.
ومنها: أن يصير الناسُ تبعًا للأنبياء وأُولي الأمر الذين حثّ
على اتباعهم لقو له: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)
وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)
فذمٌ لهم بأنهم لزيغهم "يتحرّون طلب الفتنة، وقدّم

(2/428)


ذكر الفتنة تنبيها أن قصدهم إلى إيقاع الفتنة قبل طلب تأويله.
وهذا القصد باتفاق أهل العقول كلها مذموم.
فإن قيل: هب أن اتباع طلب الفتنة مذموم.
فكيف ذُمّوا بابتغاء تأويله؟
قيل: طلب التأويل من نفس المتشابه مذموم.
إذ لا سبيل إلى تبينه منه، وإنما طلب الحق يجب أن يكون
بردة إلى المحكم إلى الرسولِ وإلى أولي الأمر.
حسب ما نبه عليه تعالى بقوله: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) الآية.
وكل له حالتان:
أحدهما: أن يكون تابعًا على طريق التأكيد، فلا يحذف منه ضمير
ما أُكِّد به، نحو: مررت بالقوم كلهم.
والثاني: أن تجعلَه مُخبرًا عنه، فيصح الحذف منه إيجازًا، نحو: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا)، وفي

(2/429)


رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) على هذا.
والتذكُر هاهنا: هو الاتعاظ، ولم يجعل ذلك إلا لصفو
الخلائق، لما تقدم أن معرفة ما يصح أن يُطلب ويُعلم مما لا يصحُّ
فيه ذْلك أشرف منزلة في العلم.

قوله عز وجل: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
الوهاب: قيل معناه: لا تزغ قلوبنا عن الثواب في الآخرة.
وقيل: لا تنسبها إلى الزيغ، ولا تحكم عليها بذلك.
وقيل: لا تفعل بنا من الإِكرام ما يؤدي إلى الزيغ.
فكأن الإِزاغة إعطاء الخيرات الدنيوية المثبطة عن الخيرات الأخروية
المشار إليه بقوله تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)
ولهذا قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: "من وسع

(2/430)


عليه دنياه ولم يعلم أنه مُكر به، فهو مخدوع عن عقله ".
وقيل معناه: لا تكلفنا أمرًا شاقا: كقتل النفس، والخروج من الديار
المذكورين في قوله: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ).
وقيل: معناه لا تمنعنا التوفيق، فجعل منع التوفيق إزاغة للقلوب من حيث
إنه يؤدي إليها، إشارة إلى ما قيل: أقطع ما يكون المجتهد إذا

(2/431)


خذله التوفيق، وإياه قصد الشاعر بقوله:
إذا لم يكن عون من الله للفتى. . . فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ونحو قوله: (لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا) ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "يا مقلب القلوب ثبَّت قلبي على دينك"
فقالت له عائشة: وهل تُقلّب القلوب؟
فقال: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ".
والهبة: تمليك الشيء غيره من غير ثمن.

(2/432)


ولدُنْ: فيه لغات، قيل: لَدُنْ، ولُدُن بضمتين، ولَدَن بفتحتين، ولَدْن
بالسكون مع فتح اللام وضمه، وقيل: بكسر النون، وقيل: لدُ
بحذف النون، ولدى، ونبه تعالى بقوله: (هَبْ لَنَا) أن من
حق العبد أن لا يلفت له إلى شيء من العمل وطلب العوض به.
بل يرجو رجاء المفاليس الطالبين للتفضل والهبة لا العوض،

(2/433)


رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

وإنما قال: (مِنْ لَدُنْكَ) لأنه لما كانت الهبة ضربين:
هبة عن عوض، وهبة لا عن عوض.
نبَّه بقوله: (لَدُنْكَ) أن هذه الهبة اعترافٌ أن بتفضله
يُدرك ما يُدرك في الدنيا والآخرة، نحو قوله:
(وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).

قوله عز وجل: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
إن قيل: كيف قال: (لَا رَيْبَ فِيهِ) وقد وقع فيه ريب الملحدة
والمغلطة حتى حكى الله تعالى في إبطالهم إياه ما حكى؟
قيل: قد تقدّم في مبتدأ سورة

(2/434)


البقرة الفرق بين الريب والإِرابة (1)، وأن الذي وقع منهم الإِرابة لا
الريب، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) يصح أن يكون
استئنافًا، من الله، وأن يكون من جملة قولهم، والحكاية
عنهم، والفائدة في العدول عن الخطاب إلى الخبر، وتخصيص
لفظ "الله " بذلك تنبيا أن الذي اختُصِصْنا بعبادته هذا فعله.
ولم يُرد بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) في جمعنا فقط، بل في
كل وعْدٍ، فإن ذلك كالعلة لما قدمه، كأنه قيل: الله لا يُخلفُ
__________
(1) ذكر الرإغب خمسة أجوبة لذلك التساؤل عند تفسيره لقوله تعالى: (لَا رَيْبَ فِيهِ) في سورة البقرة: الأول: أن ذلك نفي على معنى النهي، نحو
قوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
والثاني: أنه يقال: رابني كذا إذا تحققت منه الريبة. وأرابني: أوهمني الريبة. والثالث: أن يقال: هذا لا ريب فيه، والقصد إلى أنه حق، تنبيها إلى أن الريب يرتفع عنه عند التدبر والتأمل.
والرابع: أنه لا ريب فيه في كونه مؤلفا من حروف التهجي، وقد عجزتم عن معارضته.
والخامس: لا ريب فيه للمتقين.

(2/435)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

الميعاد، وقد وعدنا أن يجمعنا ليوم لا ريب فيه، فإذًا هو جامعنا
لا محالة.
إن قيل: لِمَ قال: (لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ)، ولم يقل (في)؟
قيل: لأنه أراد بقوله جامع الناس: حافظُهم ومحصيهم لذلك اليوم.
كما قال: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا)، وكقوله: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).

قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
بيّن أن أعراض الدنيا وإن كانت نافعة بعض الأمور الدنيا.
فليست مغنية عن الكافرين يوم القيامة، كقوله: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)
فإن قيل: فهل يغني عن المسلم حتى خصَّ الكافرينْ في هذا المكان؟
قيل: بلى، لأنه إذا تحرى في ذلك أحكامه كان أحد معاونه في
وصوله، ولذلك قال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)
وقوله: (عَنهُم) لاقتضاء

(2/436)


كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

الكلام معنى الدفع، كأنَّه قال: لن يُغني ذلك دافعًا عنهم.
وقوله: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) كقوله: (وَقُودُهَا النَّاسُ).

قوله عز وجل: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
الدأب: العادة التي عليها يدوم صاحبها، وهو أخص من العادة، ومنه
أدأب في سيره، ولذلك قال الفراء: الدأب لزوم الحال التي فيها.

(2/437)


وقال ابن عباس: هو الصنع، لأن الدأب يقتضي الصنع.
وقال أبو علي الجبَّائي: الدأب طول الكون في الشيء كافة.
ككون آل فرعون في النار. والذنب والجرم واحد، لكن الجرم
يقال اعتباراً بالاكتساب، تشبيها باجترام الثمرة، والذنب
يقال اعتبارًا بما يستحق به في آخره، مأخوذ من الذنَب، وعلى
هذا قيل له: التبعة، وبنحوه سُميت العقوبة عقوبة.
وقيل: سُمي الذنب اعتبارًا بذَنَوب الإِنسان منه، أي نصيبه.

(2/438)


قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

إن قيل: بِمَ يتعلق قوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ)؟
قيل في ذلك: الوجه الأول: أن يتعلق بقو له: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ):
كحال متقدمي آل فرعون.
الثاني: بقولهْ: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ)
الثالث: بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وتقديره: إن
دأب الذين كفروا كدأب آل فرعون، وتكون (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ)
حالاً للذين.
والرابع: أن يجعل قوله: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) غير داخل
في صلة (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فتتعلق به كأنَّه كذّب آل فرعون
والذين من قبلهم.
الخامس: أن يتصل بمحذوف تقديره: دأبهم
في كفرهم، واستحقاق عذابهم كدأب آل فرعون.

قوله عز وجل: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
قال ابن عباس وقتادة وابن إسحاق:

(2/439)


لما قتل من قتل يوم بدر جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود، فدعاهم إلى الإِسلام، وحذرهم مثل ما نزل بقريش، فأبوا، وقالوا: لسنا
كقريش الأغمار إن حاربتنا لتعرفن حالنا، فأنزل الله عز وجل الآية.
فقوله: (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) يصح أن يكون يعني

(2/440)


الفريقين: اليهود والمشركين، كقوله: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ففسر الذين كفروا في الآيتين بهما جميعًا.
وقُرئ (ستُغلبون) و (سيغلبون)، أما بالياء فنحو (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) وقوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا)
وأما بالتاء، فنحو (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)، وقيل: عنى بالذين كفروا

(2/441)


قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

اليهود. وقوله: ستُغلبون، للمشركين، فعلى هذا لا يكون
إلا بالياء.
ْإن قيل: كيف أطلق هذا الحكم وقد كان منهم من آمن؟
قيل: إن الحشر إلى النار متعلّق بوجود الكفر منهم، وإذا ارتفع الكفر
ارتفع به الحكم.
وقوله: (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) يجوز أن يكون من جملة
ما أُمِرَ به أن يقال لهم، ويجوز أن يكون استئنافَ كلام منه تعالى.

قوله عز وجل: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

(2/442)


العبرة: ما يُعبر به من الجهل إلى العلم، ومن الحسِّ إلى العقل.
وأصله من عبور النهر، ومنه: العِبارة؛ لأنها جُعلت كالمعبر.
لتأدية المعنى من نفس القائل إلى نفس السامع، وخُص التعبير
بتفسير الرؤيا، وباعتبار المَرْأونَ بالشبح، وجعل العَبرْة للدمعة
السائلة، وأصله فَعْله مِن عبر.
وقوله: (فِئَةٌ) يجوز رفعه على الاستئناف على تقدير: منهم فئة.
والجر على البدلِ، والنصب على الحال، ونحوه مما يجوز فيه الأوجه الثلاثة قول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة. . . ورجل رمى فيها الزمان فشلت

(2/443)


وإنما يجوز البدل فيما إذا كان بدل بقدر المبدَل منه، فأما إذا
نقص فليس إلا الاستئناف، نحو مررت بثلاثة: صريع وجريحٌ.
والآية معطوفة على ما تقدم تقديره: وقل لهم قد كان لهم آية.
وقُرئ (ترونهم) بالتاء على أن يكون خطابًا لليهود، أي
ترون المشركين مثلي المسلمين في العدد، ويرون بالياء أي يرون
المسلمون الكافرين مثليهم.
إن قيل: ما وجه ذلك وقد كانوا

(2/444)


ثلاثة أمثالهم، فقد رُوي أن المشركين كانوا تسعمائة وخمسين إلى
ألف، والمسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشرة؟
قيل في ذلك أقوال:
أحدها: ما قاله الفرّاء: وهو أن يقول الرجل لغيره:
احتاج إلى مثلك، أي احتاج إليك وإلى آخر، وعلى هذا احتاج
إلى مثليك يكون محتاجاً إلى ثلاثة، فكأنه قيل: يرونهم
ثلاثة أمثالهم، وهذا لا يساعده اللفظ، لأنه لو كان كما يقول
لقال: يرونهم ومثليهم.
والثاني: ما قاله ابن عباس: إن الله عز وجل أرى المسلمين أن المشركين هم ستمائة وكسر.

(2/445)


وكان قد أخبر أن المائة من المسلمين - تغلب المائتين، فأراهم
المشركين على قدر ما أعلمهم، ليقوي قلوبهم، وأرى المشركين
أن المسلمين أقل من ذلك.
ومع ذلك ألقى في قلوبهم الرعب،

(2/446)


فكانوا يرون عددًا قليلًا ورعبًا كثيرًا، وعلى هذا قال، تعالى:
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ).
والثالث: أنهم يرونهم مثليهم في الجلادة، أي يرى
كل واحد منهم أنه أجلد من الآخر بمثلين، وذلك كقولك:
رأيت فلانًا مثلي فلان، فتكون المماثلة راجعة إلى الجلادة، لا
إلى العدد، وعلى هذا قد حمل قوله عز وجل: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) أي في القوة والعُدد، لا في الكثرة والعَدد.
(ويُري) هاهنا مُتَعَدٍّ إلى مفعول واحد بدلالة تعليقه بالعين.
وقوله: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ) أي يُكثر تأييده، يقال:
إدتُه، أَئِيده، أيْدًا، نحو: بعتهُ. أبيعه، بيعًا، وآيدتُه علىْ
التكثير، لكن أيّدت أكثر استعمالاً.
ونصر الله على وجهين: أحدهما بالحجة. والثاني بالغلبة،

(2/447)


زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

وقوله (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) فإنه يعني به البصائر لا الجارحة
المذكورة في قوله عز وجل: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ)
ويعني أن في ذلك اعتبارًا للذين هم بخلاف من وصفهم بقوله:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). . .

قوله عز وجل: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14).
القنطرة من المال مقدار تُعبر به الحياةُ تشبيهًا بالقنطرة.
وذلك غير محدود القدر في نفسِه، وإنما هو بحسب الإِضافةِ
كالغِنَى، فربَّ إنسان يستغنى بالقليل وآخر لِا يستغنى بالكثير،

(2/448)


ولما قلنا اختلفوا في حده فقيل: هي أربعون أوقية، وقال
الحسن: ألف ومائتا دينار، وقيل: مِلْءُ مَسْكِ ثورٍ ذهبا،

(2/449)


وعلى ذلك عن ابن عباس، وبعضهم: حدّه يتغير كاختلافهم في حدِّ الغِنَى.
كقولهم: درا هم مدرهمة، ودنانير مُدَنرة، (وَالْخَيْلِ) في

(2/450)


الأصل للأفراس والفرسان، وإن كان يستعمل في كل واحد
مفردا، نحو: "يا خيل الله اركبي "، وذلك للفرسان، وقول
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق "، فكأنه سُمي بذلك لما فيه من الخيلاء، فقد قيل: لا يركب أحدٌ فرسًا إلا

(2/451)


رأى في نفسه خُيَلاءَ، وأصل ذلك من خلتُ، وهو ظن يَقْرب
من الكذبِ، ومنه الخيال. والأخيل: الشَقِراقُ، لكونه
متلونًا يخال في كل وقت أن له لونًا آخر، ولذلك قيل:
كأبي براقِش كل لَوْ. . . نٍ لونه يتخيلُ
و (الْمُسَوَّمَةِ) المرسلة في الرعي، وقيل: المُعلَّمة في

(2/452)


الحرب، يقال: سمي بالقصر وسيمياء بالمدّ، قال تعالى:
(سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ)، قال الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . له سيمياء لا تَشُقُّ على البصرِ
وقال مجاهد: المسومة: المطهمة.

(2/453)


كأنه جعل التضمير لها تسويمًا، كما جُعل (سنّاً) و (صنعًا)
في قولهم: (مسنونة) و (مصنوعة).
والنعم أصل الإِبل.
فإذا قيل: الأنعام. فقد يتناول الأزواج الثمانية.
والشهوة تُقال تارة للقوة المشتهية، نحو فلان خامد الشهوة.
وتارة لانبعاث تلك القوة، وتارة للطعام المشتهى.
فيقال هذا شهوتي، واختُلف في هذا الحب مَنِ الذي زيّنه؟
مع أنه لا خلاف أنّ الله عز وجل خالقُ القوةِ المشتهية.
وخالقُ المشتهى.
فقال بعضهم: الله عزّ وجل زينه.
وذلك لنظره إلى القوة المشتهية أو المشتهى.
ولقوله: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) وإليه ذهب عمر

(2/454)


فإنه روي أنه لما سمع هذه الآية قال: ربنا إنك زينت هذه
وبيّنت أن ما بعدها خير منها، فاجعل لعمر وآل عمر الذي هو
خير منها، وقال بعضهم: زيّنها الشيطان، وإلى هذا ذهب
الحسن، فيقول: كيف زينها الله وهو يذمها؟
ومنهم من قال: زيّن الله منها ما يحسن تناوله، وزين الشيطان ما يقبح، فإن الله عز وجل خلق الإِنسان وقوته المشتهية ومشتهياته وأُمر أن

(2/455)


قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

يتناول منها على الوجه الذي يجب قدر ما يجب في الوقت الذي
يجب، ويجعل ذلك ذريعة إلى التوصل به إلى الآخرة، وقيّض له
شيطانًا يغرُّه فحذّره منه، فمن راعى أمره وتناول ما أُبيح له فإنه
قد لا يتعدى إلى ما زينه الشيطان، وقد تقدّم الكلام في بعض
ذلك في قوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).

قوله عز وجل: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
منتهى المنبأ قيل هو قوله: (مِنْ ذَلِكُمْ) وقيل هو (عِنْدَ رَبِّهِمْ).
وقيل: هو آخر الآية، وهذه الأقوال على قراءة من رفع (جنّات).
فأما من جرّها، فلاشك أن ذلك داخل في جملة الاستفهام، لأنه

(2/456)


بدل من قوله (بِخَيْرٍ).
وقال بعضهم: يجوز أن تكون جنات
نصبًا بدلاً من موضع بخير، كقولك: مررت برجلٍ زيدًا.
وقوله: (وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) قد تقدم، وقد نبَّه بهذه الآية على
نعمه الثلاثة، الأول: وهي الأدون، وذلك عروض الدنيا.
والثاني: الأوسط: وهو الجنة ونعيمها، والثالث: الأعلى، وهو
رضوان الله المشار إليه بقوله: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى).
وقوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ)، وقوله: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)

(2/457)


الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)

أي بهممهم وإرادتهم، فهو يجازيهم بحسب ما يستحقونه.

قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16).
(الَّذِينَ) جرّ صفة للعباد، أو رفع على تقدير: هم الذين.
أو نصب على المدح، وقوله: (يَقُولُونَ) ليس يعني أن ذلك
منهم بالقول فقط، بل باعتقادهم وفعلهم.

(2/458)


إن قيل: ما فائدة: (اغفر لنا ذنوبنا)؟
قيل: أما على مذهب الوعيديين فسؤال ما هو من حكمه أن يفعل ما هو بالمؤمنين
سئل أو لم يسأل، وقيل: هو فعل ما يقتضي الغفران والوقاية

(2/459)


الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

من النار، وهو الإِقلاع، وإن كان متعلقًا بالقول.
وقيل: هو مسألةُ لطفٍ، لا يفعله الله بالعبد إلا إذا سأله.

قوله عز وجل: (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
قد تقدَم وصفُ الصَّبر ومنازله، وأن كل منزل هو أعلى فثوابه أعلى.
وأن أرفعه صَبرُ العارف الذي هو الرضى والتسليم.
والصادقون: هم الذين صدقوا في الاعتقاد والقول والعمل، وذلك غاية الإِيمان، والقانت:

(2/460)


الدائم العبادة في السرِّ والجهر، والمنفقون: عُني به: في الفرائض
والنوافل، ومن المال والبدن، والمستغفرون: طالبو الغفران
بإتيانهم بالطاعات، وتخصيصُ الأسحار لكون العبادة فيها أشق
والقلوب أحضر وأرق.
وروى جعفر بن محمد: أنّ من صلى من الليل، ثم استغفر في آخره سبعين مرة، كُتب من المستغفرين

(2/461)


بالأسحار، وروي أن ابن عمر كان يصئي فإذا أسحر قعد
يستغفر، وقال زيد بن أسلم: المستغفرين بالأسحار هم
الذين يشهدون الصبح في جماعة، وذلك داخل في عموم الآية،

(2/462)


شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

فإن شاهد الصبح في جماعة يستحق الصبح.

قال عز وجل: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
الشاهد بالشيء يقتضي حضوره بعلمه، والإِنباء عنه، والحكم بما عليه.
ولهذا تُفسَّر الشهادة تارة بالحضور، وتارة بالعلم.
وتارة بالإِعلام، وتارة بالحكم.
إن قيل: ما وجه قوله: (شَهِدَ اللَّهُ) وقوله: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ)، وشهادة المدعي بما يدعيه لا تقتضي زيادة على دعواه.
مع أن هذه الشهادة

(2/463)


إن كانت للجاحدين فغير مقبولة، وإن كانت للمؤمنين به ففضلة؟
وهل يكفي النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طولب بالدلالة أن يقول: الله شاهد لي بذلك؟
قيل: الشاهد العالم بالشيء، المبين لغيره، وأصدق شاهد
من يعلم المشهود عند الدلالة المنبئة عن صدقه، وعن كون الأمر
على ما شهد به، والبارئ عز وجل لما جعل في كل شيء تنبُّؤاً عن
وحدانيته صار له في كل شيء لسان يشهد أنه واحد، وهذا ظاهر،

(2/464)


وبين بقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ) أنهم قد عرفوا ذلك
وينبئون عنه، فإن الأدلة التي يذكرها العلماء، وتأتي بها الملائكة
والأنبياء شهادة منهم، فحثهم الله تعالى بهذا القول على التأمل.
ليعرفوا صحة ما شهدوه، وكذا الآية كأنه أقال، لنبيِّه:
لا تستوحش من تكذيب الكافرين لك، فقد أْبدى الله عز وجل
من الآيات ما ينبئ أنه تعالى شاهد لك بصدق دعواك.
وقوله: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) أي هو تعالى مراعٍ للعدالة بكل حال، وذلك
حال مؤكدة.

(2/465)


فإن قيل: ما وجه تكرير (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) في الآية؟
قيل: لما كان منتهى إدراك الإِنسان للبارئ تعالى أن يعرف الموجودات.
فيعلم أنه ليس إياها ولا مشبَّهًا بشيء منها، صار صفات التنزيه
له أشرف من صفات التمجيد له، إذ كان عامة صفات التمجيد
في ألفاظها مشاركة، يصح وصف العباد بها، ولأجل ذلك
عظم ما ورد من صفاته على لفظ النفي، نحو: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)

(2/466)


قيل في سورة الإِخلاص: "إنها تعدل ثلث القرآن "، لكونها تنزيهًا محضًا، فإن لفظي: الأحد والصمد وإن كانا على صورة الإِثبات - فنفي للتثنية والتشبيه)، ثم أبلغ ما يوصف به من التنزيه: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فتكريره هاهنا
لأمرين: أحدهما: لكون الثاني قطعًا للحكم، كقولك: أشهد
أن زيدا خارج وهو خارج.
والثاني: لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه، إذ قد يوصف بهما المخلوق.

(2/467)


إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

قوله عز وجل: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
قد تقدَّم وجوه الدين، وأن للإِسلام ثلاث منازل:
الأول: الاعتراف الذي يحقنُ الدمَ.
والثاني: أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ صحيح ووفاء بالفعل.
والثالث: أن يكون مع ذلك استسلام فيما يجري عليه من

(2/468)


قضاءِ ألله، وهو المسؤول بقوله عز وجل: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)
وغاية الإِنسان في ذلك أن يكون كإبراهيم حين قيل له: أسلم.
(قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) بيَّن تعالى أن حقيقة طاعة الإِنسان
بحسب ما يكون منه من الاستسلام في المنازل الثلاث، وقد
قُرِئ (أَنَّ الدِّينَ) بالفتح، فيصح أن يكون بدلاً من الأول.
واستغني عن الضمير الراجع إلى الله لإِعادة ذكره، ويجوز أن
يتعلَّق بفعل مضمر دلّ عليه الأول، ومن قرأ (شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ)

(2/469)


فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

فشهد يعمل في قوله (إِنَّ الدِّينَ) وإنه كالعلة.
وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) كقوله: (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) والكلام فيه قد تقدم.

قوله عز وجل: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20).

(2/470)


الوجه: العضو المعروف، وعبّر به عن الجملة.
وقيل: هو القصد، نحو وجهي إلى فلان.
والذين أوتوا الكتاب: قيل هو عام فيمن نزل إليهم الكتاب.
والأمِّيُّون مَنْ سواهم من اليهود ومن النصارى ومن العرب.
إن قيل: كيف يصحُّ

(2/471)


الاقتصار في المحاجّة على أن يقول: تقبل ما أقوله أم تردّه، فإن
رددتَه أعرضت عنك؟
قيل: المحاجّة ضربان: ضرب للاستهداء
وضربٌ للعناد.
ولما كان الله قد بيَّن لهم الأدلة، وبين أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
قال حينئذٍ: إن عاندوك فعرفهم مخالفتك لهم.
وهذا كما يقال لمن أوضحت له الحجة:
إن قبلتَ وإلا أعرضنا عنك.
وقال بعضعهم: إنما نبَّه بهذه الآية على الحجةِ اللازمة لهم.
ووجه ذلك أنه قال: قل لهم: إني توجهت إلى الله بعبادة.
فهل تُنكرون كونه معبودًا، فإنه لا يمكنهم إنكار
ذلك إذ كان وجوب عبادته والتوحّد له محمودًا عند الكلِّ، وإنما
اختلاَفهم في غيره، فبَيِّنْ أنهم إن أسلموا للحجة فقد اهتدوا، فإن

(2/472)


حجتَك لازمة - وليس لهم ما يدعونه حجة، وفي ذلك اهتداؤهم.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أبوا أن ينقادوا للحجة فليس عليك إلا البلاغ.
كقولك: ليس عليك هداهم ونحوه، وقدَّم الذين أوتوا
الكتاب، لأن الحجة تلزمهم من وجهين:
من الوجه الذي يلزم الأميين، ومن وجه أنهم يدَّعون الإِيمانَ بإبراهيم وغيره.
وعلى هذا قال إبراهيم: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا)

(2/473)


وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ): أي عارف بمقاصدهم.
وقوله: (وَمنِ اَتبَعَنِ) معطوف على التاء أي، (أَسْلَمْتُ).
ولم يحتج إلى تأكيد الضمير، كما أُكد في قولهم: خرجت أنا وزيد.
للفصل القائم مقام التأكيد، وحذف الياء من قوله.
(اَتبَعَنِ) لدلالة الكسْرِ عليه.

(2/474)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)

قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
هذا تعريض ببني إسرائيل، وذاك لأن أبا عبيدة بن الجراح قال:
قلت: يا رسول الله، من أشد الناس عذابًا يوم القيامة؟
قال: "من قتل نبيٍّا أو رجلًا أمر بمعروف ونهى عن منكر"، ثم قرأ الآية، وقال: "يا أبا عبيدة قتل بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا في ساعة من صدر النهار، فقام مائة واثنا عشر رجلًا من عُبَّادهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقُتِلُوا جميعهم آخر النهار".

(2/475)


إن قيل: لِمَ أعيد يقتلون ولم يقل: ويقتلون النبيين ويقتلون الذين
يأمرون؟ فقل: لأمرين:
أحدهما تفظيعًا لشانهم.
والثاني: أنه يجوز أن يكون أحد القتلين تفويت الروح والآخر الإِهانة وإماتة
الذكرِ، وذلك كثير في كلامهم.
إن قيل: لِمَ قال: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)، وقتلهم لا يكون بحق على وجه حتى يحتاج إلى تقييده بذلك؟
قيل: قوله (بِغَيْرِ حَقٍّ) ليس يتعلق بقوله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ)، بل هو من صفة الذين يكفرون، كأنه قال: هم يقتلون، وهم غير محقين، ووصفهم بذلك من أنهم

(2/476)


غير محقين في جميع أحوالهم، وتخصيص أنها للاستقبال في
قوله: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) كتخصيصه في قوله: (تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ)، قد تقدَّم الكلام فيه.
وكذلك قد تقدم تخصيصُ لفظ البشارة في العذاب.
مع كونه موضوعَا لما يسر.

(2/477)


فإن قيل: ما فائدة قوله (مِنَ النَّاسِ)؟
قيل: عنى بذلك وجود الفضيلة المختصة بالإنسان في النبيين، والآمرين
بالقسط، وذلك نحو قولهم: فلان هو إنسان، وعلى ذلك
قول الشاعر:
إذ الناسُ ناس والزمان يَعِزُّ به.

(2/478)


أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

قوله عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
الحبوط: فساد العمل، وأصله من الحَبطِ، أي فساد بطون الماشية من مأكل الربيع، ولذلك قال عليَه الصلاة والسلام: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل
حَبَطاً أو يُلمُّ".
يعني بقوله (أُولَئِكَ): هم الذين يكفرون ويقتلون.

(2/479)


بطلت في الدنيا والآخرة أعمالهم، أما في الدنيا فلأنهم لم يحصِّلوا
منها محمدةَ، وأما في الآخرة فلم يحصِّلوا منها مثوبة، وذلك، نحو
قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا).
إن قيل: لم قال: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ولو قال: ما لهم
من ناصر كان ذلك عامًّا لكونه نكرة منفية؟
قيل: لما كان القصد بهذه الآيات تثبيت الوحدانية ونفي الكثرات، نبّه بلفظ الجمع على أن ناصر الناس واحد، فكأنه قال: ما للناس ناصرون، بل لهم
ناصر واحدٌ، فيجب أن يُطلب مرضاته ويُتحرى مرسوماته.
وذلك نحو قوله: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ) و (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ)، وما أشبه ذلك من الآيات.

(2/480)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

قوله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
الحكم: القضية التي تردع المبطل، ومنه حَكَمَةُ اللجام.
والآية تتناول أليهود والنصارى وإن كانت واردةً في اليهود.
قال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى جماعةً من اليهود فدعاهم، فقالوا: على أي ملةِ أنت يا محمد؟
قال: "على ملّة إبراهيم" فقالوا: إن إبراهيم كان يهوديا.
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: كان ذلك
في سبب اليهوديين اللذين رجمهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت اليهود: إن ذلك ليس في التوراة، فأكذبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا بالتوراة، فقرأ منها آيةَ الرجم، وقيل: كان في سبب نبوته وتكذيبهم

(2/481)


إياه، وقوله: (الَّذِينَ أُوتُوا) وإن كان لفظه عافًا فمعناه
خاص، لأنه ليس كلهم فعلوا ذلك، ألا ترى إلى قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).
إن قيل: لِمَ قال: (مِنَ الْكِتَابِ)، ثم قال: (كِتَابِ اللَّهِ).
وهل الأول هو الثاني أم غيره؟
قيل: قد قال بعضهم: الأول والثاني

(2/482)


واحد، وهما التوراة، لقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا)
الآية، وذكرها باللفظين تعظيمًا لها، وقيل: عنى بالأول
التوراة، وبالثاني القرآن وغيره من كتبه، تنبيهًا أن كل كتاب
يقضي بصحة ما هو فيه.
وقيل: عنى بالذين أوتوا الكتاب: الذين أعطوا حظا من المعرفة
بكتاب الله، أي كتاب كان من كتبه.
إن قيل: هل بين التولي

(2/483)


والإِعراض فرق؟
وهل المعرضون هم المتولون أم غيرهم؟
قيل: تولّي الشيء أن تليه، فإذا عُدي بعن صار لترك ذلك.
والإِعراض في الأصل أن تجعل عِرضك إليه، أي جانبك.
ومنه قيل: أعرض لك الصيد فارمه فيجوز أن يعني بالتوليّ
تولّي فريق من الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، وبالإِعراض
جماعتهم، ويجوز أن يكون التولّي والإِعراض جميعًا
للفريق، فيكون معنى التولي عنه ترك موالاته.
والإِعراض يكون بالبدن، وذلك لئلا يحتج عليهم إذا حضروا
فيلزمهم حجة.
وعلى ذلك قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ).

(2/484)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

قوله عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قد تقدَّم الكلام فيما حُكِيَ عن أهل الكتاب بقولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)
والذي غزهم ما حُكى عنهم من قوله عز وجل: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) والغرُّ: الأثر الظاهر من

(2/485)


الشيء، ومنه الغُرَّة، والغرار حد السيف اعتبارًا بالأثر، ولهذا
سُمى أثره السيف، وغرُّ الثوبِ أثرُ كسره، يقال: اطوِ على
غَرة، واستعير للخديعة، فقيل: غزه واغتره كقولهم: طواه إذا
خدعه، وسُمِّيَ الدنيا والشيطان غرورًا، لكونهما غارين للإنسان.
والغِرُّ المغرور، والغُرَر الخطر المتقدم، كأنه الذي به يُغتر، وأِما غرَّ
الطائرُ الفرخَ فاستعارة من الصوت الذي يكون منه عند زقِّه.
والغرغرة: ترديد الصوت من الحلق، فجعل لفظه مرددًا على

(2/486)


سبيل الحكاية، كحكاية كثير من الأصوات.
والفُري: قطع الأديم، واستعير للكذب، استعارة الخلق
والاختلاق له.
إن قيل: هل علموا أنهم كاذبون فيما يقولون؟
قيل: إما أنهم علموا واغتروا برئاستهم وأعراضهم الدنيوية، أو تمكنوا من
علمه فلم يتحروه اغترارَا بما هم بصدده، وعلى كلا الوجهين
يستحقون الذم.
قوله عؤ وجل: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
ما سُئل عنه بكيف محذوف، كأنَّه قيل: كيف حالهم أو قولهم وافتراؤهم.
فحُذف لدلالة الكلام عليه، كحذفه في قوله

(2/487)


قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ)
ومعناه: كيف حالهم إذا جوزوا بفعلهم، ولم يُظلموا في بخس
ما استوجبوا من ثواب، أو زيادة ما استحقوا من عقاب.
ودلّ بالآية أن الكفار لا تغفر ذنوبهم، وعلي ذلك (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا) الآية.
وقد تقدم معنى قوله: (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) في سورة البقرة.

وقوله عز وجل: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
اللهم: تقديره عند سيبويه يا الله،

(2/488)


والميمان بدل من ياء، ولا يستعمل ذلك إلا في هذه اللفظة فقط.
وعند الفرَّاء تقديره: يا الله امنا بخير، فجعلا بمنزلة لفظ
واحد، وحذف الهمزة منه، كقولهم: هلّم، وأصله: هل أم،

(2/489)


وقال البصريون: لو كان كما ذكر الفرّاء لاستغنى به عن جواب
الشرط. إذا قيل: يا الله امنا بخير. لكون ذلك مكررًا.
والنزع: جذب الشيء من الشيء، وفصله عنه، ومنه المنازعة.
وسُمى الشوق نَزَّاعَا ونزوعًا لما تُصور في ذلك أن المحبوب ينزع
قلب المحب منه، والنزع ضربان: نزع إلى الشيء وهو الاشتياق.
ونزع عنه، وهو الكفُّ، وقيل للغريب: نزيع، لكونه منزوعًا
عن مسقط رأسه، أو لكونه نازعًا إليه، أي مشتاقًا، وقيل لمن
يشبه أعمامه وأخواله: نزيع لنزع الشبه منهم، أو لكونه منزوعًا
بالشبه عنهم، وسمي السهم مِنْزَعًا.
والنَّزْعَةُ: الموضع من رأس الأقرع، لكون شعره نزيعًا عنه.
وقد تقدَّم الكلام في المُلك،

(2/490)


والمِلك وأن المُلكَ كالنوع للملِكِ، فإن كل مِلْك مُلْك ما.
وليس كل مُلْك مِلْكا، وقد عظَّم الله أمره، وقرن بالكتاب والنبوة
ذكره، ففال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا).
وقال: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا)
وقيل: الدين أسٌّ والمُلك حارس، لكون أحدهما غير مستغن عن الآخر من وجه، وقد يسمى المتسلط ملِكًا وإن كان على ضرب من المجاز، وعلى هذا
قوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)، فسماه ملكًاً مع كونه غاصبًا.

(2/491)


واختُلفَ: هل يؤتى الملك الفاسق والكافر؟
فمنهم من قال: لا يُؤتاهما.
وإليه ذهب البلخي والجبائي، وذلك لنظرهم
إلى الملُك الأول، ولاعتبار قوله (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
ومنهم من قال: يُؤتاهما ذلك، وذلك لنظرهم إلى الثاني الذي هو
التسلُط، وكون ذلك أحد الأغراض الدنيوية، ولهذا قال

(2/492)


ربُّنا: (إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا)، والأظهر
في الآية أنه يعني الملكَ، الحقيقى لقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)
فأضافه إلى نفسه تعظيمًا له
والملك المطلق هو الملك الإِلهي، الذي لا جور فيه بوجه، ولذلك قرنه
بالعزِّ والذُلِّ، وإخراج الحي من الميت، والميت من الحي، وإيلاج
الليل في النهار، والنهار في الليل، وإعطاء الرزق، ونبه بقوله:
(مَالِكَ الْمُلْكِ) أن الملك في الحقيقة له وما لغيره عارية مستردة.
ولم يعن بالملك هاهنا سياسةْ العامة فقط، بل ملك الإِنسان
على قواه وهواه، فقد قيل: لا يصلح لسياسة الناس من لا يصلح

(2/493)


لسياسة نفسه. وقيل لبعضهم: من الملك؟ فقال: من ملك هواه
فقهره، وقوله: (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) أي تُعزه بإعطائه الملك.
(وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) باسترجاعه منه أو حرمانه إياه.
وقيل: تُعزُ من تشاء بأن تصونه عن تمكينه من الملك في الدنيا.
وتذل من تشاء بإعطائه ذلك، وهذا التفسير على النظر إلى ما قال عليه
الصلاة والسلام: "ستحرصون على الإِمارة، ثم تكون حسرة
وندامة إلى يوم القيامة"
وما قال أبو بكر رضي الله عنه:

(2/494)


"إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك، إن الرجل إذا ملك
زهَّده الله فيما في يده، ورغَبه فيما في يد غيره، ونقصه شطر أجله
وأُشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل، ويتسخَط
الكثير، فإذا وجبت نفسه حاسبه الله فأشدَّ حسابه وأقلّ غفره "
وقال بعض المفسرين: أمر نبيه في هذه الآية أن يدعوه، بأن يُحول
عِزَّ فارس إلى العرب، وخضص الملك بالنبوة، فقال معناه:
تؤتي النبوة من تشاء وتصرفها عمن تشاء.
وقيل قوله: (تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)

(2/495)


ليس براجع إلى المُلك، وإنما معناه:
من يشاء بطاعته، ويُذِلّ من يشاء بمعصيته، والأظهر أن يكون
ذلك عامًّا في كل عز وذل دنيويا كان أو أخرويا.
إن قيل: كيف قال: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) والخير والشر بيده؟
فقيل في ذلك أجوبة:
الأول: أراد الخير والشر، لكن الآية لما كانت في الحمد
والشكر لا للحكم ذكر الخير، إذ هو المشكور عليه، وعلى ذلك -

(2/496)


قوله (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، وفيه تعليمنا كيف نمدح
أبناء جنسنا بأن نذكرأشرف خصالهم.
والثاني: أنه نصّ على المعظّم ليُفهم منه الضد الآخر.
كقوله: (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)، وكقول الشاعر:
فما أدري إذا يممتُ وجهاً. . . أريدُ الخير أيُّهما يليني
والثالث: أنه أراد بالخير: الخير والشر، وسمَّاهما خيراً، لأنه
ليس في العالم شرٌّ خالص، كما أن فيه خيرا خالصاً، وذاك أن ما
هو شر بكذا هو خير لكذا، فالخير والشر يصدق عليهما الوصف
بالخير من هذه الجهة، ولا يصدق عليهما الوصف بالشر، فلو
قال بيده الشُر، لم يدخل فيه الخير.
ووصْفه بالقدرة على كل

(2/497)


تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

شيء في آخر الآية تنبيه على أنه أراد الأمرين، فإن سعة القدرة
تقتضيهما.

قوله عز وجل: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27).
الولوج: الدخول في مضيقِ، فهو أخص من الدخول.
يقال: تَوْلَجُ الظبي، والوَلَجَة: بناء بين يدي فناء القوم، كالمدخل
إليه. واستعير الوليجة لبطانة الرجل كالدَّخيل وإيلاج

(2/498)


الليل في النهار والنهار في الليل، يتناول تعاقبَ أحدهما الآخر.
والزيادةَ من كل واحد منهما في الآخر، وقد فُسِّر بهما.
وقوله: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)
يتناول خروج الإنسان من النطفة، نحو: (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ)، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا)، وهذا هو

(2/499)


الذي قال الضَحاك والسدي وابن زيد: الدّجاجة من

(2/500)


البيض، والبيض من الدجاج ..
وقال الحسن: عنى إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وقال بعضهم: يتناول ذلك كل شيء من الأركان.
إذا استحال إلى غيره.
ولهذا قال السدي: يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة.
والأظهر في قوله: الحي منَ الميت. تصور اثنين.
وقد قيل: عنى بذلك شيئاً واحداً تتغير به الحال.
فيكون ميتا ثم يحيا، وحيّاً فيموتْ، كقولك: جاء من فلان أسد.
وليس الأسد إلا هو، وقد تقدم الكلام في قوله (بِغَيْرِ حِسَابٍ).

(2/501)


لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

قوله عز وجل: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28).
قد عظم الله موالاة الكافرين وموادتهم والركون إليهم في آيات
كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)
وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)
وقال: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وقال: (لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ).
وقال: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)
وأمرنا بالإِعراض عنهم.
فقال: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)
وقال عليه الصلاة والسلام:

(2/502)


"لاتراءى ناراهما " وقال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك "
إن قيل: ما وجه جواز مواصلتهم والاستعانة بهم واتخاذهم
عبيداً، وذلك ضرب من الموالاة، فالجواب منْ أوجهٍ:
الأول: أن هذه الآيات تقتضي المنع أمن، موالاتهم، إلا ما
خُصّ، وفُسِحَ لنا فيه.

(2/503)


والثاني: أن الموالاة المطلقة هي أن تواليهم في جميع الأمور.
فأما في شيء دون شيء فليس ذلك بموالاة.
الثالث: أن يكون ذلك مخصوصا في الموالاة الدينية.
الرابع: أن الموالاة على ضربين: موالاة الأرفع للأوضع، وذلك

(2/504)


باستخدامه إياه ورعايته والحماية عليه، وموالاة الأوضع للأرفع
وذلك بالخدمة. والذي نهُي عنه المسلم جزماً هو أن يوالي الكافر
موالاة الأوضع للأرفع بالخدمة له والاستعانة به استعانة الذليل
بالعزيز، لا أن يستعين به استعانة العزيز بالذليل والمخدوم
بالخادم، فذلك مرخَص فيه، وذاك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسلام يعلو ولا يُعلى" ومن هذا رُخص أن ننكح منهم دون أن ينكحوا

(2/505)


فينا، وأن نملك أرقاءهم ولا يملكوا أرقاءنا، وأن نرثهم
في قول من يرى ذلك، ولا يرثونا بوجه، ثم قد يكره لمن لم

(2/506)


يَقِرّ في الإِسلام المصاهرة إليهم، والاستعانة في المهن بهم
تفادياً أن يُغروه، وذلك ما قال عليه الصلاة "والسلام لحذيفة
لما تزوج بمشركة: "دعها فإنها لا تحصنك"، بل

(2/507)


لذلك قال: "مثل الجليس الصالح كمثل الداريِّ إن لا يحذك
من عطره تَعَلَّقَك من ريحه، ومثل الجليس السوء كمثل القَيْن إن
لا يحرقك بشرره يؤذك بدخانه "، وقال بعض الحكماء:

(2/508)


"إياك ومجالسة الشرير، فإن طبعك يسرق من طبعه، وأنت لا تدري ".
وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)
إياس من الموالاة التي أثبتها بقوله: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)
ونحوه، وقوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) فرخصه في إظهار
الموالاة باللسان دون القلب، حيث يحصل تقية، كقوله: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)
ولاحرج في مداراة الكافر حيث يُخاف شّره، أو يُرجى صلاحه، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(2/509)


أنه استأذن عليه بعض الناس، فقال: "بئس أخو العشيرة
هو"، فلما دخل أكرمه، وسألته عائشة بعد خروجه، فقال: "إن شر
الناس من يُكرم اتقاء لسانه".
واختلف هل يجوز الإفصاح بالحق في حال التَقية؟
فأجاز ذلك بعضهم استدلالاً بما روى الحسن: أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(2/510)


فقال لأحدهما: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم.
فخلَّاه، ثم دعا الآخر، فقال له ذلك، فأبى أن يقوله فقتله، فقيل
ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أما المقتول فمضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة، فهنيئاً له.
وأما الآخر فأخذ برخصة الله، فلا تبعة عليه "
وجملة الأمر أن الإِفصاح عند التَقية إيفاءً بالحق، مستحسن حيث كان فيه نفع ديني، فأما إذا لم يكن في ذلك نفع ديني بوجه، فالعدول إلى كلمة الكفر على وجه التعريض أولى،

(2/511)


إن قيل: ما تعلق هذه الآية بما قبلها؟
قيل: لما عرفنا أنه مالك الكل والقادر عليه نهانا عن موالاة من يعاديه.
وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) فالحذر: الاحتراز من السطوة.
وذلك على ضربين: أحدهما: حذر الإنسان إياه برؤية ذنوبه.
وإليه قصد بقو له: (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ)، والثاني: حذره برؤية
تقصيره في طاعته، وإياه قصد بهذه الآية، وعلى هذا ذكر التقوى.
فقال في موضع: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ).
وفي موضع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ).
قال الحسن: من رحمته أن

(2/512)


حذرهم نفسه، ولتحذيره إياهم قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)
فإنه حذّرنا، بخلاف ما بفعل الماكر، وإلى مقتضى معناه أشار العرب
بقول: أعذر من أنذر، وفائدة قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ) في
هذا المكان أنه لما ذكر قوله: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) بيَّن أنكم وإن
اتقيتموهم فاحذروا الله، فإنه يحذركم أن توالوهم بقلوبكم.
قوله عز وجل: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
الأصل في الصّدر: الجارحة، فاستعير لصدر المجلس والكتاب
والكلام، وصدره إذا أصاب صدره، أو قصد نحو ظهره، وكتفه.
وإذا عُدِّي بعن اقتضى الانصراف عنه، والصدر يقال للمصدر
اللفظي ولموضع الصّدر، ولزمانه، والصِّدار الصُّدْرَة يُغطى

(2/513)


بها الصّدر على بناء الدِّثار واللباس، ويقال له الصّدْرَة، ولا
نهى تعالى عن موالاة الكفار - وذلك يكون بالقلب قبل أن يكون
بالجوارح - حذرهم أن يوالوهم بقلوبهم، فيكونوا كمن وصفهم
بقوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)، وكمن وصفهم بقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ) الآية، بين أنه لا يخفى عليه ذلك، بل لا يخفى عليه ما في السموات والأرض، وهو قادر عليهم، وإذا كان قادراً وعالماً بالسرائر فحق أن يُحْذَرَ.
إن قيل: لِمَ قدَّم الإِخفاء على الإِبداء، ومن البادي يُتَوَصَّل
إلى الخافي، وقضيّة المتمدح أن يقول فلان لا يفوتني: مشى أو
عدى ولا يكاد يُقال: عدى أو مشى؟ قيل: لما كان العلم يظهر في
النفس، ثم يبرز بالقول أو بالكتاب صار الخافي سبباً للبادي،

(2/514)


يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

فنبه بذلك أنه يعلم الشيء منا قبل أن نُظهره، وأنه يستوي عنده
السر والجهرُ، وعلى هذا قال: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ)، وقال: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، فقدم الشر في هذا الموضع.
وقال في موضع: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) فقدم الإبداء تنبيها أنهما عنده سواء.

قوله عز وجل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30).
تقديره: يحذركم نفسَه يومَ تجد، أو اذكر يومَ تجد،

(2/515)


أو الله على كل شيء قدير يوم تجد.
وقوله: (مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ) مفعول تجد، (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) معطوف عليه، كأنه قيل: وما عملت من سوء محضراً، وتوفىّ: في موضع
الحال، وقيل: و (مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) استئناف، إما جزاء
و (تَوَدُّ) جوابه، وعلى هذا لو قرى (تَوَدُّ) بالفتح أو بالكسر
لجاز، وإما أن يكون بمعنى الذي متضمنا لمعنى الشرط،

(2/516)


وإن لم يكن في تقدير الجزم، نحو: الذي يأتينى له درهم.
والأولى أن يكون معطوفا كما تقدَّم، ووجودُ الأنفس ما
عملت: تصوره لها من حيث لا يخفى عليها، ونحوه مما دل على
ذلك قوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
وقوله: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ)
فاستنساخه وإحصاؤه: إذكارهم به حتى يعلموه، فإن من صفة

(2/517)


علم الإِنسان أن تحصل صورة المعلوم في قلبه وثبوت الصورة في
، القلب أوكد كتابة، ويجوز أن يكون معنى (تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ).
أي جزاء ما عملت من خير وشر.
إن قيل: ما فائدة حذف الجزاء في هذا المكان ونحوه من قوله: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)، وقوله: (ذُوقُوا مَا كنُتُم تَكْسبُونَ).
وقوله: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)؟
قيل: لما أراد أن ينبِّه أن الإِنسان لا يُبخس حظه فيما يفعل من خير، ولا يُزاد عليه في جزاء ما يفعل من شر، ذكر نفس الفعل دون الجزاء؛ تنبيهاً له أن فعله مستوفى بالجزاء، حتى كأنه هو، كقولك: زيد هو أبوه بعينه.
إذا أريد المبالغة في التشبيه به، وإعادة قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)، توكيد
واستظهار عليهم.
فإن قيل: وكيف علَّقه بالرأفةِ؟

(2/518)


قيل: تنبيها لأمن المحبوب من حبيبه، ولهذا قال النبي عليه
الصلاة والسلام مخبراً عن الله: "لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به.
وبصره الذي يبصر به " الخبر.

(2/519)


قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

قوله عز وجل: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
هذا إلزام "كالأول، لكنه أعم، لأن طاعته أعمّ من اتباعه، إذ قد يكون الإنسان مطيعا لغيره، ثم لا يكون متبعا له في أفعاله، وذكر ها هنا الرسول تنبيها أن كل من كان رسولاً من جهة فطاعته واجبة، \ثم قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، أي من تولى فقد خرج عن التحبب إليه، ومن لم يتحبب إليه بطاعته فهو لا يحبه بإثابته، والكافر غير متحبب إليه بتولِّيه عنه، فمحال أن يحبه، فصار تقديره: إنكم إذا كفرتم بالإعراض عنه وعن

(2/520)


إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

رسوله، فإنه لا يحبكم. وفي ذلك إبطال دعواهم، حيث قالوا:
(نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، وقوله: (لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) تنبيه
أنه ينقطع عنهم توفيقه، وبانقطاع توفيقه عنهم يضلون ويعمهون.

قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33).
قد تقدَّم الكلام في معنى الاصطفاء، وأن ذلك منه تعالى

(2/521)


على وجهين: أحدهما: على سبيل الثواب بحسب الاستحقاق.
والثاني: على سبيل التفضيل والابتداء بالترشيح، الذي يؤدي إلى
العمل المرضي، وذلك على ضربين:
أحدهما: أن يكون ذلك على سبيل الاجتباء، وهو أن تفيض العناية الإِلهية عليه، فيجعله على نهاية الكمال بلا اجتهاد منه، ويجعله سببا لتخريج غيره.
وذلك للأنبياء ومن داناهم من الأولياء.
الثاني: على سبيل الاهتداء، وهو أن يوفّقه برسله ليتبلَّغ درجة. فدرجة على سبيل

(2/522)


الاكتساب، حتى يقرب من هؤلاء لتحمل المشاق، وذلك للحكماء
ومن داناهم من المؤمنين، ويقال فيهما الاصطفاء، ولوجود
هذين الطريقين، قال تعالى: (يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) وقول الفرَّاء: اصطفاؤهم اختيار دينهم.
وقول الزَّجَّاج والجبائي: اختيارهم للنبوة.
وقول البلخي: هو تفضيلهم على غيرهم بما أولاهم من الأمور الجليلة.
كل ذلك

(2/523)


داخل في الاصطفاء، وقد تقدم الكلام في الآلِ وأنه أخصُّ من
الأهل، فإن الآل يتناول الأخِصَّاء الذين يَجْرُون من الإنسان
مجرى ذاته، ولهذا يقال لذات الإِنسان ولخصائص عشيرته: الآل.
ولم يتناول آل محمد الكافرين من ذويه، وعنى بالمذكورين

(2/524)


ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

في هذه الآية جُملة مَنْ فضلهم في قوله: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الآية، فذكر اثني عشر نبيًّا، وسنذكر إذا انتهينا إليه تخصيصهم بالذكر، وكيف رُتبوا هذا الترتيب، ومخالفة ذكرهم في الترتيب لأزمنتهم.
إن قيل: كيف تعلُق هذه الآية بما قبلها؟
قيل: تعلُقها بها من وجهين.
أحدهما: أنه لما أمرهم تعالى باتباع نبينا وهم
يُقرُّون بوجوب اتباع الذين ذكرهم، بيّن أن جماعتهم في كونهم
متساوين في النبوة سواء، وأن الذي دلَّ على وجوب اتباع
أهؤلاء يدلُّ على وجوب اتباع، سائرهم.
والثاني: أنه نبَّه أن اصطفاءه تعالى لهؤلاء لَكونهم مطيعين له، مستحقين لمحبته
بذلك.

قوله عز وجل: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
الذرية: قيل: من ذرأ الله الخلق فترك همزه نحو روية وبرية ونبى

(2/525)


وخابية وملك من روأ وأنبأْ وخبأ ومَلأك، وقيل: بل هو من
ذَرْو الريح، وأصله ذُرُّويَة، وقيل: هي فُعْلِيَّة من الذر نحو قمرية.
ويُقال: ذرية للواحد والجمع، ويقال للأصل والنسل، قال تعالى:
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ) أي إياهم، ويُقال للنساء:
الذراري، قال عليه الصلاة والسلام: "حجوا بالذراري، ولا تأكلوا مالها وتذروا أرباقها في أعناقها " أي بالنساء،

(2/526)


فأما الصبيان فلا أرباق في أعناقها؛ إذ لا حج عليهم.
قوله: (بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) يعني في الموالاة الدينية، لقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) وقوله: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وقوله لنوح: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ردًّا عليه لما قال في الكناية عن هذا العدو.
والضعة: الخساسة، في مقابلة الرفعة، ولذلك استعير
صعود الجبل وبلوغ السماء ونحو ذلك للرفعة، والوقوع في
الثرى ونحوه للضعة.

(2/527)


فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

والرجيم: المرجوم، وأصل الرجم: الرمي بالرجام أي
الحجارة، وقيل ذلك للنجم المنقض، لقوله: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ) وقيل للظن والكلام المقرِّع: رجم، ومنه (رَجْمًا بِالْغَيْبِ).

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
وقوله: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) أي وضعت حملها، وأنثها على
المعنى، وقولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) لكون الأنثى ناقصة
العقل والدين، ولهذا قالت: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) ولأنه

(2/528)


روي أنه لم يكن يستصلح للتحرير من قبل إلا الذكور.
وبين بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أن إخبارها بذلك لم
يكن على سبيل الإِعلام، بل على معنى أن الله أعلم بمآلها، وحقيقة
أحوالها، وذلك يحتمل أن يكون من قولها، وأن يكون من قوله

(2/529)


تعالى، وإذا قرئ (بما وَضَعتُ) فإخبار عن قولها على سبيل
التوجُّع، إذ لم يكن ما في بطنها على ما أحبّت، وفائدة قوله:
(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ) قيل: هو أن هذا الاسم في لغتهم اقتضى
معنى التحرير، وتضرَّعت امرأة عمران إلى الله تعالى أن يحفظها
وذريتها من الشيطان، الذي قال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لكون
الأنثى أطوع له، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مولود يولد إلا والشيطان ينال منه طَعْنةً، ولها يستهلُّ الصبي إلا ما
كان من مريم وابنها، فإنها لما وضعتها قالت: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

(2/530)


فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

فضُرب دونها حجاب".
ونبه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) إنك تسمع نذري، وتعلم
حالي ونيتي، فتقبل مني ما قلت.

قوله في وجل: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
القبالة: الكفالة، فقوله: (تَقَبَّلَهَا) قيل: تكفَّل تربيتها،

(2/531)


وقيل: رضيها، ولفظ التقبّل يقتضيهما.
قال الحسن: قبوله إياها أنه صانها عن كل أذى وقبول مصدر قبل، نحو:
وضوء وطهور، ولما كان تقبّل وقبل يتقاربان جمع بين التقبّل
والقبول، تنبيها أنه جمع من الأمرين التقبُّل الذي يقتضي الرضا
والإِثابة، وقيل: القبول من قولهم: فلان عليه قبول.
إذا أحبّه من رآه.
وقوله: (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) أي ربّاها تربية حسنة.
وتقدير الكلام: أنبتها فنبتت نباتاً، وروي أن أمّها لما وضعتها

(2/532)


لفّتها في خرقة وبعثت بها إلى مسجد بيت المقدس فقال:
زكريَّا: أنا أحق بها، لأن خالتها تحتي، وقالت الأحبار: لو
تركت لأحقّ الناس بها لتُرِكت لأمها التي وضعتها، فاختصموا
فيها فتقارعوا، فقرعهم زكريا.
واختلف الرزق، فقيل: إنه كان يوجد عندها طعام الشتاء في الصيف، وطعام الصيف في الشتاء، من غير أن كان يدخل إليها آدمي.
وقال الجبّائي: يجوز أن كان

(2/533)


رزقاً يأتيها به غير زكريا من حيث لا يعلمه، ولو كان الأمر
على ما ذكر لما أعاد الله ذكره تعجباً من أمرها.
وقوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يدل على أنه ليس كما ذكر.
وقال بعضهم: كان ذلك فيضاً من الله يأتيها من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقاً، وهذا أعجب من إتيانها الطعام في غير أنه، لمن عرف
فضيلة العلم، واللفظ محتمل، ثم بين تعالى أن ذلك ليس

(2/534)


هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

بعجيب، فرزق الله للعباد على وجوه تقصر عنها معرفة الناس.

قوله عز وجل: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
هنالك: يقع على الزمان والمكان، وإن كان المكان أملك له، يقال: هنا، وهناك، وهنالك، كقولك: ذا، وذاك، وذلك، ولما رأى زكريا من أحوال مريم تلك العجائب، وكان به حاجة إلى الولد مع كبر سنه ووهن من
عظامه، سأله أن يهب له ذرية طيبة، أي صالحة، واستعمال الطيب
في الصالح: كاستعمال الخبيث في ضده، في نحو قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح وقوله:

(2/535)


(مِنْ لَدُنْكَ) أي من نعمك وفضلك الإِلهي، وذاك أن إيجاد الأشياء
وإن كانت كلها بقدرته وفضله فعلى ضربين: إبداع، وهو الذي لم
يجعل لغوه إليه سبيلا، لا للملائكة ولا للناس، وفِعْل جَعَلَ
للروحانيّ أو الجسمانيّ إليه سبيلًا، فبين بقوله: (مِنْ لَدُنْكَ) أنه
يسأل ما يتفرَّد بإيجاده.
وقوله: (مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) أي مجيب
لمن دعاك على الشرائط التي بها تُدعى، وقد تقدَّم الكلام في
شرائط الدعاء في قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).

(2/536)


فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

قوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
المحراب: قيل: سُمّي بذلك لأنه موقع محاربة
الشيطان والهوى، وقيل: لكون الإِنسان حريباً من أشغال
الدنيا.
وقيل: الأصل فيه أنه موضع حريبة الرجل أي ماله، وذلك أنه
كان اسماً لصدر المجلس، ثم لمَّا اتُّخذت المساجد سمي به
منها ذلك الموضع، وقوله: (بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) قيل: هي
كلمةُ الإِيمان، وهو قول قتادة، وقال أبو عبيدة: كتاب الله

(2/537)


وقال غيرهما: عنى به عيسى، وتسمية عيسِى بالكلمة
قيل: لكونه موجدًا بكن، المذكور في قوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
وقيل: سُمّي بذلك لكلامه في صغره، والسيد

(2/538)


السايس لسواد الناس، أي معظمهم، ولهذا يقال: سيد العبد.
ولا يقال: سيد الثوب، وقيل: سيداً أي عالما وتقيًّا وحليمًا.
وذلك من شروط السيادة، فمن لم يوجد فيه ذلك فسيادته زور.
وقال بعض الصوفية: قوله: (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)

(2/539)


تنبيه أنه قل ما يأتي الإِنسان توفيق وفيض إلهي إلا بالالتجاء إليه.
والحَصُور: يُقال تارة في معنى الفعول.
وتارة في معنى الفاعل، فيجوز أن يكون هو الذي حصر نفسه.
ويجوز أن يقال حصره علمه وعقله.
وقد روي أنه كان ممنوعا من قبل الله تعالى عن النساء.
وأنه كان معه مثل هدب الملاءة،

(2/540)


والأول أشبه باستحقاق المدح.
وقرئ: (نادته)، و (ناداه)، نحو (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ) و (يَعْرُجُ).
وروي أن عبد الله

(2/541)


ذكَّر الملائكة في كل القرآن.
وقال أبو عبيدة: وذلك خلاف الكفار، حيث أنثوا الملائكة، وقالوا: بنات الله. وليس تأنيث العرب الملائكة، وتعيير الله إياهم لتأنيث اللفظ، إنما ذلك لجعلهم إياها له بنات، إن قيل: ما معنى (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)،

(2/542)


قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

وذلك يقتضي جواز نبي ليس بصالح؟!
قيل: قوله: (مِنَ الصَّالِحِينَ) متعلق بمضمر، أي وهو من الصالحين.
وذلك مما أكد به قوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ).
ومعناه من أولاد الصالحين.

قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
الغلام يجوز أن يكون أصلا في بابه، وعنه أخذ الاغتلام، لكون المغتلم شبيها به في المعنى المخصوص، ويجوز أن يجعل الغيلم - وهو منبع الماء - من
ذلك، وسُمّي الغلام لكونه ذا رونق، ولذلك يُقال: فلان عليه
ماء الشباب، والعقر: أصل البنية للدار والإِنسان، وعقرته

(2/543)


أي أصبت عُقره، أي أصل بنيته، وذلك يقتضي معنى القتل، ثم
سمي الجرح - أي جرح كان - عقراً، وسُمي الخمر عُقاراً لكونها
كالعاقر للإِنسان.
وجُعل بناؤه بناء الإِرواء كالخُمار والكُباد
والمعاقرة: المشاربة، كأنَّه يطلب كل واحد منهما عَقْر صاحبه بإسكاره. وامرأة عاقر كأنها تعقر النسل، لإِفسادها ماء الفحل.
وجعل العُقْر اسما للدية، وكنى به عن بذل البضع.
وقال ها هنا: (بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) وفي موضع آخر: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، وذاك أنك إذا بلغتَ الكبر فقد بلغك الكبرُ،

(2/544)


نحو أدركني الجهدُ وأدركتُ الجهدَ، ولا يقال: أدركني المكان.
لأن حقيقة إدراك المكان من الإِنسان دون المكان، وإدراك الجهد
والكبر مجاز في الطرفين، فصار انتساب كل واحد منهما إلى

(2/545)


الآخر سواء، وقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) ليس بإنكار لقدرة
الله، بل لما كانت عادته تعالى في إيجاد الأولاد أن لا يكونوا من
الهَرِم والعاقِر، أراد التعرف أن ذلك هل يحصل وهما باقيان على
حالتيهما، أو يكون بإعادة الشباب إليهما، أو يكون ذلك من
امرأة أخرى أو يحصل ذلك على سبيل لم تجر به العادة؟
وقال بعضهم: إنما قال أنى يكونُ لي ذلك؟ استعظاماً لنعمة الله.
كقولك: من لي بكذا؟ ومن أين لي كذا؟
وقال بعضهم: قال ذلك لأنه لما سمع نداء المَلك
قدّر أن ذلك وسوسة من الشيطان، واستبعد بعضهم ذلك.
وقال: إن الأنبياء لا يشتبه عليهم ما يكون من قِبَل الملائكة
بما يكون من قِبَل الشيطان)،

(2/546)


قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

وقوله: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ) على الجواب الأول: أي أنه يهب لك
الولد وأنت بحالتك، وعلى الثاني: أن نعمته في خلق ذلك
كنعمته في غيره، وعلى الثالث: إن تعجّبت من ذلك فتعجب من
سائر أفعاله المبدعة، فإن خلقه لذلك كخلقه لما يشاء.

قوله عز وجل: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
العشي: من لدن غروب الشمس إلى انقضاء صَدْر الليل.
وخصّ العشاء بالطعام المتناول فيه، وتعشى تناول
العشاء وعَشى صار في عشاً لظلمةِ عينه، وآية في وزنها

(2/547)


ثلاثة أقوال: الأول: أنها فَعلة، وحق مثله أن يُجعل لامه معتلًّا
نحو: حياة ونواة، ونظيرها راية، والثاني: فِعلة إلا أنها قلبت
كراهية التضعيف، نحو طائي في طَيْئي، والثالث: فاعلة، وأصلها
آيية فخَففت وذلك ضعيف لقولهم في تصغيرها أيية، ولو كانت
فاعلة لقيل: أويّة، والرمز: الإِشارة بالشفة.
والغمز بالعين والحاجب.
والإِبكار: مصدر أبكر، يُقال: أبكر وبكَر وبكَر
وابتكر، والبُكرة من وقت طلوع الفجر إلى ضحوة النهار.
وقوله: (اجْعَلْ لِي آيَةً) قيل: طلب علامة لوقت الحمل.
فجعل تعالى أن لا يمكنه مكالمة الناس إلا إيماءً مع تمكنه من ذكر
الله، وقيل: بل سأله أن يبين له قربة يجعلها شكراً لما خوَّله،

(2/548)


فأمره أن يجعل شكره الاشتغال بالعبادة، وترك مكالمة الناس إلا
رمزًا ثلاثة أيام، وهو المذكور في قوله: (ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا).
وفي هذا دليل أن في ذكر اليوم أو الليلة غنىً عن ذكر الآخر عند
الإِطلاق، وإذا أُريد الخلاف بمن حينئذ نحو (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ)، وعلى هذا الآية عبارة عن الفريضة، فإن زكريا سأل

(2/549)


أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً له، وتسبيحه: قيل هو
الصلاة، وسميت الصلاة سُبحة.
وقوله: (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) قيل: عنى في هذه الأيام الثلاث.
ولم يعنِ التسبيح في طرفي النهار فقط، بل إنما أراد إدامة العبادة في هذه
الأيام.
وقرئ (أَلَّا تُكَلِّمَ) بالرفع والنصب، نحو:

(2/550)


(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بالرفع والنصب.
قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
تكرير الاصطفاء قيل لمعنيين: الأول فرَّغها لعبادته وأغناها عن الكسب، والثاني أن جعلها أمًّا لعيسى وآية له، وقيل الأول الاصطفاء الذي هو

(2/551)


الاجتباء. والثاني الاصطفاء الذي هو على سبيل الهداية، وقد
تقدم ذكرهما آنفاً.
وتطهيرها قيل: من الحيض.
وقيل: من نجاسة الكفر، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).
وقول الملائكة لها قيل: كان بالإِلهام، فإنه ما أوحى الله إلى

(2/552)


امرأة وحي النبوة، فلذلك قال:

(2/553)


(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)
وقيل: بل قد أوحي إليهن ولكن لم يبعثن رسلا.
وقال الجئائي: إنما يجوز أن يكون أوحي إليها معجزة
لزكريا أو توطئة لنبوة المسيح، وقوله هذا إيماءً لمذهبهم أن

(2/554)


المعجزات والوحي لا تصح إلا في أزمنة الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، وذلك دفع منه لكرامة الأولياء، وقوله: (عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، قيل: هو على العموم، وقيل: عنى اللاتي في زمانها.

(2/555)


يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

قوله عز وجل: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
القنوت: إدامة الطاعة صلاة كانت أو غيرها من
العبادات، ولهذا قال: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا)
فجعل من جملة القنوت، وتقديم السجود على الركوع.
قيل: لكونه كذلك في شريعتهم، وقيل: تنبيهًا أن الواو لا تقتضي
الترتيب، وقيل: عنى بالسجود الصلاة، لقوله: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)
وعنى بالركوع الشكر، لقوله تعالى في قصة داود:
(وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) أي شاكرًا، وهذا تخصيص للركوع بحال
مقترنة به، وقيل: نبّه بقوله: (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي كوني

(2/556)


ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

مع العابدين والمصلين، وخصها بفضل إيجابٍ اقتضاه قوله.:
(اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي)
إن قيل: كيف أخر هذا الذكر لمريم عن ذكر قصتها؟
قيل: لما ذكر آيتها قرن بها آية زكريا وعبادته، ثم أتبعها بعبادة مريم متمما لقصتها؛ لئلا يحتاج إلى قطع قصة زكريا، فيكون قد قرن ذكر الآية بالآية والعبادة بالعبادة.

قوله عز وجل: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

(2/557)


قد تقدَّم أنواع الوحي، وأن أصله الإِشارة، ويقال
للكتابةْ: وحي، إذ هي إشارة ما، وقد يكون الوحي بالإِلهام
كما يكون بضرب من الكلام، وعلى ذلك قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)
وقد يقال ذلك للوساوس نحو قوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)
وكثيراً ما يشبه الوساوس بالإِلهام، فلا يُميز بينهما إلا أولو العقول
الراجحة.
والقلم: القص من الصلب كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قِلْم، كقولهم للمنقوضِ: نِقْض،

(2/558)


وخُص ذلك بما يكتب به وبالقَدَح، وأكد بقوله: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ)
أن هذا مما أبلغت من الغيب، لقوله عز وجل في قصة موسى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا)
وقوله: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)
ومقارعتهم عليها:
قال قتادة: كانوا من حرصهم على كفالتها يتقارعون عليها لفضلها.
وقيل: لتدافعهم إشفاقا من أزمة كانوا فيها.

(2/559)


إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

قوله عز وجل: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
تسمية عيسى بالكلمة لقوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
ولفظة كن وإن كانت للأمر فموضوعة للابداع، وذاك أن
فعل الله ضربان: عادي وإبداعي
فالعادي ويسميه قوم الطبعي: هو الذي أجرى الله تعالى به العادة أن يكون في زمان ومكان، ومن أصل، وعلى وجه مخصوص وشيئا بعد شيء.
كخلقة الولد من النطفة والزرع من البذر.
والإبداعي: ما يوجده

(2/560)


دفعة من غير حاجة إلى زمان ولا من أصل كخلق آدم بل كخلق
العالم. وعبّر عن ذلك بكن إذ كان أسرع مفعول فيما بيننا ما كان
قولاً وأعم الألفاظ معنى الكونِ مع وجازة لفظ، وعلى ذلك قال:
(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
وقال الأصمّ: سُمّي عيسى كلمة، لأنه تعالى خلق كلمة، فجعل منها عيسى، كما خلق آدم من تراب، وسائر الناس من نطفة، وهذا كما
ترى، وقال الجاحظ: وصفه بذلك من حيث إنه تقدم
الإِخبار به وبشارته في الكتب المتقدمة، وهذا كما سَمَّى وعده

(2/561)


كلمة بقوله: (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)
وقيل سُمي كلمة؛ لكونه متكلماً في المهد، وخُص بذلك لفظ الكلمة للمبالغة: كوصف الفاعل بالمصدر.
وقال النظَّام: جعل ذلك لقباً له لا لمعنى أشار إليه.
وسُمي مسيحًا، لأنه مُسِحَ بالبركة.

(2/562)


وقيل: لأنه ماسحاً للأرض لسياحته فيها، وقيل: لأنه مُسِحَ
بالجمال، وعنى بذلك الجمال النفسي والبدني جميعاً، من
الأخلاق الجميلة والفضائل الكثيرة، نحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في جرير "عليه مِسحة مَلَك ".
وقيل: لأنه كان ممسوحاً بالدّهن

(2/563)


لمّا وُلد" وقيل: سُمي به لأنه كان ممسوح القدمين لا أخمص
لهما، وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، كأنه سُمّي به لأنه كان
يمسح الأكمه والأبرص فيبرأ.
والجاه مقلوب عن الوجه،

(2/564)


وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

لكن الوجه يقال في الحظوة وفي العضو، والجاه لا يقال إلا في
الحظوة، ووجاهته: ما خُصّ به من أوصافه المعلومة.
والقرب من الله تعالى في الدنيا: التخصيص بالصفات التي هي
من صفاته تعالى كالكرم والعفو والمغفرة، وفي الآخرة أن
يصير في جواره، وقد تقدم ذلك.

قوله عز وجل: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
تكليمه النّاس في المهد: ما أنبا عنه تعالى بقوله: ْ

(2/565)


(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ) الآية، وذلك من الأفعال الإلهية، حيث جعل لطفلٍ عقلًا وعلما وكلاماً.
وقوله: (وَكَهْلًا) قيل: معناه كلامه في حال طفولته وكهولته سواء.
وقيل: يكلمهم طفلاً، وبعد نزوله من السماء كهلًا، لأنه رفع قبل أن اكتهل.
وقيل: يكلم الناس في المهد بكلام الكهول عقلًا.
وقوله: (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي هومن جملة المذكورين في قوله: (وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
وموضع: (وَيُكَلِّمُ)، نصب، كقول الشا عر:

(2/566)


قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

يقصر يمشي ويطول باركا
أي ماشياً.

قوله عز وجل: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
القضاء: الفصل، وذلك إما بالتدبير، وإما بالقول، وإما بالفعل.
فالأول لا يصح على الله عز وجل إلا بمعنى الحكم إذ كان
التدبير: التفكر في الشيء وارتياد الصلاح فيه، وذلك لمن كان
ناقص العلم، فقوله: قضى، ها هنا إما للقول، وإما للفعل.
أولهما جميعا، ومعنى قوله: (كُنْ) أي يبدعه على ما تقدم،

(2/567)


وقال الأصم: عادة الله جارية فيما أخبر عن كونه، أن يقول في
وقت ما يحدثه كن كخلقه لآدم كما قال للملائكة (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا)
قال له: كن. لما أراد إحداثه تنبيهاً لهم، وكذلك لمّا
أخبر أنه سيبعث نبياً خلقه من غير ذكر، قال له: كن لما أراد
إحداثه، وذلك ليعرف الملائكة انتهاء الأجل ونزوله.
وقال أبو الهذيل إن ذلك قوله يقوله عند كل مكوّن.
وحكي عنه أنه يجري مجرى الإِرادة،

(2/568)


قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
فقوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تعجب منها لما ذكره لها من أمره
بها، وكيف لا تتعجب وأمرها أبدع من أمر زكريا، فأجابها
بقوله: (كَذَلِكِ)، فمن وقف عليه جعل ما بعده كالتفسير
له، ومن وصل: فمعناه أن الله كذا قضى أو كذا يفعل.
إن قيل: لم قال ها هنا: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) وفي قصة زكريا: (يَفعَلُ مَا يَشَاءُ)؟ قيل: لما كان الخلق أخص من الفعل خصه، بما هو إبداع.
وذكر الفعل فيما هو أقرب إلى المعتاد في إيجاده.

(2/569)


وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)

قوله عز وجل: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
الهيئة: الحالة المحسوسة التي تحدث للشيء، والهيء: الحسن
الهيئة، ومنها أخذ المهايأة فيما يتراضى به على وجه التخمين.
والنفخ: جعل الريح في الشيء ومنه النفخة، وعنه استعير نفخة
الصور، والنفخة للورم تشبيهاً بما ينفخ فيه، والنُّفَّاخَة للحجاةِ.
والادخار: افتعال من الذَّخر وهو إعداد الشيء لنائبةٍ قال

(2/570)


الفرّاء: قُرئ (تَدْخرون) خفيفة، وقال بعض العرب:
(تذخرون) فعوقب بين الذال والدال نحو تدَّكر وتذَّكر.
والأكمه: الذي وُلد أعمى.
وقول الحسن: الأكمه الأعمى صحيح، وكل كَمَه عمى، وإن لم يكن كل عمى كمهاً.
وقول مجاهد: الأكمه الذي لا يبصر بالليل دون النهار، فليس بشيء،

(2/571)


وقوله: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ) يجوز أن يعني بحال طفوليته إن
قيلَ: كيف ذكر الكتاب، ثم عطف عليه التوراة والإِنجيل، وهما
من جملة الكتاب؟
قيل: قالوا: عنى بالكتاب القراءة والكتابة، وعُلِّم تعليماً إلاهيًّا في حال الطفولية، وقيل: عنى بالكتاب كتب الله المنزلة وخصص التوراة والإِنجيل كتخصيص ذكر جبريل وميكائيل بعد الملائكة تفضيلًا لهم، وقد تقدّم الفرق

(2/572)


بين الكتاب والحكمة، وقرئ و (يُعَلّمه) عطفا على قوله:
(كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ)، وبالنون عطفا على قوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ)، وقوله: (وَرَسُولًا) عطف على قوله: (وَجِيهًا) وقيل تقديره: ويجعله رسولا

(2/573)


إن قيل: كيف تعلق هذه الآية بما قبلها، وما قبلها حكاية حكى
الله عن نفسه، وهو: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ)، وهذه حكاية حكاها
عن عيسى عليه الصلاة والسلام، وهو (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ)
قيل: تقديره: وبعث رسولاً يقول: إني قد جئتكم، ودل على إضمار
القول ذكر الر سول وترك ذكر مريم، وابتدأ بإرسال عيسى، وما
قال له، وذكر معجزاته.
إن قيل: لِمَ ذكر في الخلق وفي إحياء الموتى (بِإِذْنِ اللَّهِ).
ولم يذكر في غيرهما؟
قيل: لكون هذين الفعلين إلاهيين، لم يجعل للمخلوقين إليهما سبيلًا.
بخلاف النفخ والمداواة والإِخبار ببعض الغيب، فقد جعل للإِنسان كثيرا من
المداواة، وجعل لهم شيئاً من الإِخبار بالغيب كالفِراسة

(2/574)


والإِلهام ولم يجعل لهم الخلق ولا إحياء الموتى، فنبَّه بقوله:
(بِإِذْنِ اللَّهِ) أن ذلك فعل في الحقيقة صادر منه تعالى، وإن
كان يظهر من غيره كالفِراسة والمداواة، وإن كانا قد يحصلان من
سائر البشر، فذلك قد يكون باعتماد على تجربة واعتبار أمر.
ولا يكون في كل وقت وعلى كل حال، ولا في دفعة واحدة.
وما كان يفعله عيسى كان بخلاف فعل البشر، فلهذا كان معجزة،

(2/575)


ْوقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أنّ المؤمن هو الذي يتفكر في
ذلك، فتحصل له الآية.
وقُرىء (إني) على الاستئناف، ويكون تفسيراً للآية.
كما أن قوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) تفسير للوعد.
وإذا قرىء (أني) بالفتح، فعلى تقدير الجرّ بدلاً من آية
أو على قَدرِ الرفع خبر ابتداء مضمر، كأنَّه قال: الآية

(2/576)


وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)

أني قد جئتكم.

قوله عز وجل: (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
فقوله: ومضدقاً معطوف على ما دلّ عليه
قوله: (بآية من ربكم أني قد جئتكم) مستصحباً آية، ومصدقاً.
كقولك: جئتك بما تحُب ومكرماً لك، وليس بمعطوف على
(وجيهاً) ولا (رسولاً)، لقوله: (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ) أني أحقق ما أتيت
به من التوراة، فيكون ذلك معدوداً من جملة معجزاته.
وقال قتادة والربيع

(2/577)


وابن جريج؟ كان المحرَّم عليهم في شريعة موسى لحوم الإِبل
والأشياء من الطير والحيتان، فاحلَّها عيسى لهم.
وقال أبو عبيدة: عنى ببعض الذي حُرِّم الكل، واحتج بقوله:

(2/578)


. . أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وقال الزجّاج: هذا فاسد، لأن البعض لا يكون، بمعنى الكل.
وعنى لبيد ببعض النفوس نفسه خاصة فعرّض.
ولأن عيسى حلّل بعض المحرمات، وهو الذي كانوا حرّموا على أنفسهم،

(2/579)


وقوله: (وَلِأُحِلَّ) معطوف على موضع (وَمُصَدِّقًا) لأن تقديره:
لأصدِّق وَلِأُحِلَّ، كقولك: جئتك معتذرا ولأطيِّب قلبك.
وعلى ذلك تقدير قوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).
وقوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) ف ي قراءة عبد الثه (آيات) في
الموضعين، وإنما لم يقل: من ربي أو ربنا. لأن ذلك أخص من المخاطبين.
وقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ) قيل: وحِّدوا الله.
وتقواه أخص من توحيده، إذ هي مبنيّة عليه.
ودعاؤه إلى طاعته دعاء

(2/580)


فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

فيما دعاهم إليه من تقوى الله.

قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
لما وصف عيسى نفسه بأفعال إلهية، وأتى على ما ذكر.
وكان قد قال: (وَأَطِيعُونِ) خطر له ما فعلته جماعة من
النصارى، وهو اتخاذهم إياه معبودهم، فقال: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)
ولم يقل: ربنا، ليكون أبعد من التأويل فيما ادعوه.
وأمر بأن يُعبَد الله وحده، وقال: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) تنبيها
أن العدول عن ذلك ليس بالمستقيم.

قوله عز وجل: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
الإحساس: الوجود بالحاسة، وحسّه: قتله، كأنَّه أصاب حسه نحو قلبه وبطنه، وقال الفرَّاء: يقال
حسَسْت، وحسِسْت، وحسِيت وأحسْتُ، فأما حَسَسْته

(2/581)


فأصبتُه بحاستي نحو: عِنتهْ ويديتُه أي أصبتُه بهما.
فأما حسِسْت، فنحو علمت وفهمت، وأمّا حسيت فبقلب إحدى
السينين ياء، وأما أَحَسْتُ فبحذف، إحداهما نحو: ظَلْتُ في
ظَلِلْتُ، وكلا اللغتين تحريا للتخفيف، وإنما قال: (فَلَمَّا أَحَسَّ) دون عَلِمَ تنبيهًا أنه ظهر منهم الكفر ظهوراً بادياً لذي الحاسة فضلًا لذي العقل.
وقوله: (إِلَى اللَّهِ) أي

(2/582)


متوجها إلى الله، وقيلِ: مع الله نحو الذود إلى الذود إبل.
وقيل: لئه، نحو (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) والوجه هو الأول.
والأنصار جمع نصير - نحو: أشهاد في جمع شهيد، والحواريون
قيل: سُموا لبياض ثيابهم، عن ابن جبير، وقال بعضهم:

(2/583)


عنى ببياض ثيابهم نقاء نفوسهم، نحو (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ).
وقولهم: فلان طاهر الثوب، وفي ضده: دنس الثوب.
وقيل: كانوا قصّارين يبيعون الثياب.
وقال بعضهم: عنى أنهم كانوا يُطهرون نفوس الناس.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الزبير ابن عمتي
وحواري " تشبيها بهم، وقول أبي عبيدة: الحواريون صفوة

(2/584)


رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

الأنبياء فنظر منه إلى حواري عيسى عليه السلام، وإلى قول
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدَّم القول في الإيمان والإسلام، وعنى بالإِسلام ها هنا الاستسلام لله عز وجل، كقول إبراهيم:
(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

قوله تعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53).

(2/585)


الاتّباع: الاقتداء بالمتبَع، وهو أخصُّ من الإِجابة، إذ قد
يكون مجيباً من لا يكون تابعاً، وإنما قال: (ربنا) ولم يقل:
رب العباد؛ لأن الموضع موضع اعتراف وشكر، لا الإِخبار عما
عليه الشيء في نفسه، فلذلك خص (ربنا)، وقد تقدم أن الشاهد
هو المخبر عن الشيء مشاهدة: إما حسًّا أو عقلًا، وأنه استعير
للشهادة في الأحكام، والشاهدون ها هنا هم الذين على طريقة
من قال فيهم: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
ونبه بقوله: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أنهم منهم،

(2/586)


وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

وقوله: (ربنا) متصل بالحكاية عنهم.
وأخبرنا تعالى بذلك لنقتدي بهم في متابعة
النبي - صلى الله عليه وسلم - والتضرُّع إلى الله في طلب الثواب كما طلبوه.

قوله عز وجل. (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
المكر في الأصل: حيلة يُجلب بها الإنسان إلى مفسدة.
وحيلة قد تقال فيما يُجلب به إلى مصلحة، وقد يُقال في ذلك المكر
والخديعة اعتباراً بظاهر الفعل دون المقصد، والحكيم قد يفعل
ما صورته صورة المكر، ولكن قصده المصلحة لا المفسدة، وعلى
هذا سئل بعض المحققين عن مكر الله فأنشد:

(2/587)


ويقبح من سواك الشيء عندي. . . وتَفْعَلُه فيحسن منك ذاكا
فإذن مكر الله قد يكون تارة فعلًا يُقصد به مصلحة، ويكون تارة
جزاء المكر، ويكون تارة بأن لا يقبِّح مكرهم في عينهم، وذاك
بانقطاع التوفيق عنهم وتزيين ذلك في أعينهم، حتى كأنه زيَّنه في
أعينهم ومكر بهم، ويكون تارة بإعطائهم ما يريدون من دنياهم.
فإذا أعطاهم واستعملوه على غير ما يحب، فكأنه مكر بهم،

(2/588)


واستدرجهم من حيث لا يعلمون.
ولأجله قال: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)
وهذا من المعنى الذي اقتضى الذي قال تعالى:
(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
وقال اِلكلبي: مكرهم كان تدبيرهم في قتل عيسى (وَمَكَرَ اللَّهُ) أنه ألقى شبه عيسى

(2/589)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

على رجل كان يقال له يهوذا عهد لقتل عيسى، فدخل بيتا فظن
أن عيسى عليه الصلاة السلام فيه فتبعه القوم فصلبوه.
وقال الأصمّ: مكره بهم أن سلَّط عليهم فارس، فقتلوهم، وسبوا
ذراريهم، لقوله: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا).

قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
إن قيل: كيف قال: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) وقد قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)؟ قيل: جملة الأمر أن ليس في

(2/590)


ذلك منافاة، إذ ليس كل متوفى يكون مقتولا.
وقد قال الفرَّاء: معناه: ورافعك إليَّ ومتوفيك، فقدَّم وأخرَّ.
وقال الربيع: توفَّاه، ووفاته النوم.
وقال غيرهما: آخذك وافياً لم ينقص منك شيء.
وقال الحسن: وفاة الرفع، لا وفاة الموت.

(2/591)


وقال ابن عباس ووهب: وفاة موت، فإنه أماته ثم أحياه فرفعه.
وقال بعضهم: معنى متوفيك آخذك عن هواك، ورافعك إليَّ عن
شهوتك، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا، وإنما هو رفعة المحل "،

(2/592)


وإن كان قد رُفع إلى السماء، وعلى هذا قوله تعالى: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم.
وقيل: تخليصه من قتلهم، لأن ذلك طهرة منه.
وقوله: (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فوقهم بالبرهان والحجة.
وقال ابن زيد: عنى أنه جعل النصارى فوق اليهود في العِزة.
فقد جعل لهم مملكة ولم يجعلها لليهود.
وقيل: عنى بقوله: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ):

(2/593)


من اتبع نبينا عليه الصلاة والسلام منهم، فإن من لم يتبعه بعد
بعثته فهو في الحقيقة غير تابع لعيسى، وقيل: معنى قوله:

(2/594)


فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)

فوقهم: أي يوم القيامة في الجنة، إذ هم في الغرفات آمنون.
والذين كفروا في أسفل السافلين!
وحينئذ تتعلق (إلى) بما تقدم، وقد تقدّم الكلام في الرجوع إلى الله.

قوله عز وجل: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
تعذيب الله الكفار

(2/595)


وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)

والأشرار في الدنيا ضربان: ضرب عرفوه عذابا كالأمراض
والخسف والمسخ وتسليط المؤمنين عليهم.
وضرب حسبوه نعمة وهو في الحقيقة نقمة.
وذلك كتمكينهم من مال وجاه وسائر أعراض الدنيا، التي حظهم منها الهموم والغموم، وإياه عنى بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا).

قوله عز وجل: (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
الإيمان: فعل ما يقتضي الأمن من عذاب الله.
والصَّلاح: فعل ما يقتضي الصلح بينه وبين الله عز وجل.
والتوفية: إعطاؤه ما لا ينقص عما يقابلبه،

(2/596)


والإِيفاء الزيادة عليه، إن قيل: كان من حق المقابلة أنه لما عاقب
ذكر الكافرين بقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) أن يذكر ها هنا ما
ينافيه فيقول: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ). ونحو ذلك من الكلام لا قوله:
(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
قيل: إن قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) من صفة الذين كفروا.
ونبّه بالصفتين جميعا، أعنى هذه وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) على كون المؤمنين منصورين ومحبوبين.
وقد دل على ذلك من فحوى الكلام في هذه الآية وغيرها من
الآيات، وفي قوله: (لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تنبيه أنه لا يظلم خلقه.
فمن لا يحب شيئاً لا يتعاطاه مع استغنائه عنه.
إن قيل: ما وجه إعادة ذكر عذاب الكافرين وثواب المؤمن العاقل الصالح في هذا المكان؟
قيل: إن ذلك مقترن بمخاطبته عيسى، وهو قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)
وتقديره: الذين كفروا بك، آمنوا بك. لكن حُذِف ذلك اختصار.

(2/597)


ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

قوله عز وجل: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
التلاوة والتنزيل والقص متقارب، لكن يقال:
التلاوة اعتباراً بمساوقة بعض الكلام بعضاً بالولاء، والإِنزال
اعتباراً بإخبار الأعلى الأدون، والأرفع للأوضع.
والقَصُّ اعتباراً باقتطاع الخبر على ما هو به، وقصَّ أثره.
والحكيم: المحكم، إشارة إلى قوله: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ).
ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كأنه ناطق بالحكمة وفاعل لها، لا لاقتضائه إياها.
وقوله: (ذلك): مبتدأ، و (نتلوه): خبره، وقيل: ذلك تقديره:
الذي، و (نتلوه): صلته، والخبر قوله (من الآيات)

(2/598)


إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)

وتلاوته: إنزاله، ويجوز أن تُجعل تلاوة جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه تلاوة لمّا كان بأمره، فأفعال أوليائه قد تنسب إليه، كقوله
عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا).
وقوله في موضع آخر: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ).

قوله عزِ وجل: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
لما ذكر تعالى مكان عيسى من الفضيلة، وما آتاه من المنزلة.
كَذَّبَ النصارى فيما ادعوه من بنوته،

(2/599)


وبيّن كيفية خلقه من غير ذكر.
إن قيل: كيف يكون عيسى مثل آدم وآدم لم يضمّه رحِم؟
قيل: إن ذلك تكذيب للنصارى فيما ادعوه.
وذلك أن أهل نجران قالوا: ما رأينا ابناً بلا أب؟
فأنزل الله ذلك تبيينا: أن ليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم.
إذ هو لم يُخْلق من ذكر ولا أنثى وعلى نحوه دلّ قوله:
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).
إن قيل: لِمَ قال: (عِنْدَ اللَّهِ). أهو يشبهه عند الله دون غيره؟
قيل: عنى بقوله: (عِنْدَ اللَّهِ). في حكمه، وأن ذلك لا يشق عليه كما
لم يشق عليه أن خلق آدم من غير أبوين.
إن قيل: ما معنى قوله:

(2/600)


(كُنْ) بعد أن خلقه من تراب؟
قيل: معناه كن إنسانا حيّا ناطقا، وهو لم يكن كذلك، بل كان دهرًا جسدًا ملقى لا روح فيه.
على ما رُوي في الخبر، ثم جُعل فيه الروح، وجعل كن عبارة

(2/601)


عن إيجاد الصورة التي بها صار الإِنسان إنسانا، وعلى هذا
قال: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
فالمقول له الجسد، وقد تقدم الكلام في كن.
إن قيل: لِمَ قال: (فيكون) ولم يقل فكان؟
قيل: يكون عبارة عن حال كونه، وحكاية الحال هكذا يُخرجُ نحو قولهم: فلان قال أمس كذا فيُفعل به كذا.
إن قيل: لِمَ رُفِعَ يكون ولم يُنصب على جواب الأمر؟
قيل: جواب الأمر يجب أن يكون غيره، نحو: ائتني

(2/602)


الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

فأكرمك، وتقديره: ائتني فإنك إن تأتني أكرمك، ولو جُعل
فيكون جواباً لكان، تقديره كن، فإنك إن تكن تكن، وهذا لا
يصح؛ لأن معنى الجواب معنى الشرط، وإذا رُفِعَ فتقديره: فهو يكون.

قوله عز وجل: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
الامتراء: استخراج الرأي للشك العارض، ويُجعل عبارة عن
الشك، وإنما قال: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ولم يقل ممترياً.
ليكون فيه ذم من شك في عيسى.
وقوله (الْحَقُّ) خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره (مِنْ رَبِّكَ).
ونبّه أن الحق في

(2/603)


فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

ذلك، بل في الأمور كلها ما يكون مصدره من الله تعالى.
وقوله: (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وإن كان خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالمقصد به عام.

قوله عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
أصل البهل: ترك الشيء غير مراعى، من قولهم بهلْتُ الناقة: تركتها
بلا صرار.
واللعن: الطرد، وقد يستعمل البهل بمعنى

(2/604)


اللعن، وقد تقدّم أن لعن الله قد يكون بمنع التوفيق عن
الكافر وتركه وشؤمه، وهذا نهاية الخذلان.
وتَعَالَ: قال أهل اللغة أصله أن يدعو إلى - مكان رفيع.
ثم جُعِلَ عامًّا في الدعاء إلى كل مكان.
والأولى أنه دعاء الإِنسان إلا ما فيه علو منزلة:
إما على الحقيقة، وإما على سبيل الفضول، كقولهم:
هلّم إلى السعادة.
وقوله: (حاجّك فيه) أي في كون عيسى عند الله كآدم.
وقيل في قوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

(2/605)


وكلا القولين واحد في التحقيق، لأن كليهما في
أمر عيسى، والآية نزلت في نصارى نجران، إذ عارضوا النبي
- صلى الله عليه وسلم - في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام.
ويقال: لما نزلت أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين

(2/606)


وعلي وفاطمة. ثم دعا النصارى إلى المباهلة فأحجموا.
وقال بعضهم لبعض: إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارًا.
فلم يبق نصراني ولا نصرانية.
وقال بعضهم: وفي هذا إشارة إلى

(2/607)


إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

ظهور بطلان الدعاوى الكاذبة عند أهل الحقائق.

قوله عز وجل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
أي أن ما قصّ الله عليكم من أمر عيسى هو الحق، وأن المستحق لعبادته هو الله، لا إله غيره، وأن لا عزّة ولا عزّ ولا حُكم ولا حِكمة إلا له تعالى في الحقيقة، فهو الذي لا تلحقه ذِلّة ولا تعتريه جهالة، وكل من حصل له شيء
من العزّ والحكم فمنه مستفاد.
والقصص: كل خبر مقتطع

(2/608)


على وجهته من قولهم: قصصت أثره، وقصصتُ الظفر.
وهو اسم للمقصوص: كالقبض والنقص، للمقبوض والمنقوص.
وظاهر قوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) أبلغ من قولنا:
وما إله، لاستغراقه، ولا يصح جرّ لفظ الله على البدل من إله، لأن من
هذه لا تدخل إلا على كل نكرة غير موجبة، فإذن لا يكون إلا
رفعاَ رداً على موضع (مِنْ إِلَهٍ)، وأعاد ذكر الله ظاهراً على

(2/609)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

طريق التعظيم، وخص (الْعَزِيزُ) تنبيهاً أنه تعالى مستغن عن
التكثر بالولد على ما تقدم، وفيه تنبيه أنه أظهر عزته عما ينسب
إليه من الولد بما قدمه من الحجة، وأنه حكيم لا يفعل ما ينافي
حكمته، واتخاذ الولد مما ينافي حكمته.

قوله عز وجل: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
أي إن أعرضوا عن الإِصغاء إلى الحق والتزامه، وعن الإِجابة إلى
المباهلة، فإن حالهم في كونهم مفسدين ظاهرة، وعقوبتهم
واجبة، فهو تعالى معاقبهم.

قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
قال محمد بن جعفر والحسن والسدّي: عنى بأهل الكتاب هاهنا

(2/610)


نصارى نجران، وقال قتادة والربيع: عنىِ يهود المدينة.
وقيل: عنى الفريقين، لقوله في ذمهما: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)

(2/611)


و (سَوَاءٍ) وسوى: وسط، ويعني به العدل.
وقول الربيع وأبي العالية (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ)
هي لا إله إلا الله، فصحيح، لأن أبلغ العدالة التوحيد، وهي

(2/612)


الكلمة التي يجب أن يتساوى الناس فيها، وفي أن يكونوا
عابدين غير معبودين، بخلاف ما ادعته النصارى، ونبه بقوله:
لا نشرك أن قولهم يقتضى الشرك، وإن كانوا منكرين أنهم
مشركون، وموضع (أَلَّا نَعْبُدَ) خفض بدل من كلمةِ، أو رفع
على أنه خبر ابتداء مضمر، كأنه قيل: وهي ألا نعبد، ولو
رُفع سواء، نحو قوله (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) جاز

(2/613)


وكذلك يجوز رفع (أَلَّا نَعْبُدَ) على معنى: أنه لا نعبد.
وقال بعض الصوفية: نبهّنا الله تعالى بهذه الآية على طريق
التعبد، وأن لا نقصد بسرنا سواه عند عبادته، ولا نفزع في شيء
من الحاجات إلى غيره، فنكون كمن وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ".
إن قيل: فأي حجة في قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا) قيل: إنه تعالى أدبنا بأن المعاند متى لزمته الحجة وبانت له المحجة فليس إلا التقضي منه وترك

(2/614)


محجته وملاحاته.
إن قيل: كيف قال: (وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) وكلاهما أفاد ما أفاد قوله (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ)؟
قيل: ليس كذلك، فإن الشرك بالله قد يكون في غير العبادة.
ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

(2/615)


"الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء".
من ذلك قول القائل: لولا الديك لأتانا اللص.
وقال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).
وقوله: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ).
فقد شرط من دون الله

(2/616)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)

وهنا هو الكفر، فأما المملوك إذا اتخذ صاحبه ربًّا لا أنه معبود
فليس بمنهي عنه.

قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
قال ابن عباس والحسن والسدي: اجتمع أحبار اليهود ونصارى
نجران عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا في إبراهيم.
فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديَّا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيَّا، - فأبطل الله دعواهما، وبيّن أن ذلك محال، لأن المتقدم لا يكون

(2/617)


منسوباً إلى المتأخّر ومقتدياً به.
إن قيل: فإن اليهود والنصارى لم يدّعوا أكثر من أن شريعتنا مساوية لشريعة إبراهيم، وهذا قد ادعاه المسلمون، فإن أمكننا أن نلزمهم. ذلك أمكنهم أن يعارضوا بمثله؟
قيل: إنّا لم ندّع أن إبراهيم منسوب في الشريعة إلى محمد
- صلى الله عليه وسلم - كما ادعوه، وإنما قلنا كان حنيفا مسلما، والحنيف المستقيم والمائل إلى الحق، والمسلم المطيع والمستسلم للحق، وهذا
من الأسماء التي يتخصص بها كل ذي حق، ولهذا قال:

(2/618)


(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)، واليهود منسوب إلى يهودا.
والنصارى إلى ناصرة، وهما نسبتان حصلتا بعد إبراهيم.
فكذبوا في نسبته إليهما، ثم المسلمون موافقون لإِبراهيم في كثير
من الأحكام: كحج البيت، والختان، والمضمضة وغير ذلك.
وهم يخالفونه في أكثر ذلك، وأيضا فقد ورد في القرآن أن شريعتنا

(2/619)


هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

موافقة لشريعته فيما حكى، وهذا ظاهر، ونبّه بقوله (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
أن ما يقولونه ويفعلونه بخلاف مقتضى العقل.
وأن العقل يزجر عن اتباع دعوى بلا حجة.

قوله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
ها للتنبيه عمّا يضلّ عنه الإِنسان أو يغفل، تقول ها أنا ذا. تنبيهاً
لمن غفل عنك.
فإن قيل: فهب أن الإِنسان يغفل عن غيره، فكيف يغفل عن نفسمه، حتى يقال: ها أنتم؟
قيل: فليس حقيقة (هَا أَنْتُمْ) تنبيه المخاطب على وجود ذاته، وإنما هو تنبيه على أحواله التي غفل عنها، فالإِنسان قد يغفل عن كثير من معايبه
لشغفه بنفسه، فيحتاج أن ينبّه عليه، ولهذا لا يقتصر علي قوله:

(2/620)


مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

(هَا أَنْتُمْ) حتى يُضم إليه حالة ما، مما غفلواْ عنه، وفي الآية تنبيه
على حالة غفلوا عنها، وهي أنهم حاجوا فيما لا علم لهم به.
ولم ترد به التوراة والإنجيل، فيقول: هب أنكم تحتجون فيما ورد به كتب
الله المتقدمة فلِمَ تحتجون فيما ليس كذلك؟ ونبَّه أن المحاجة
إعلام الحجة، ومن لا يعرفها فكيف يُعَرّفُها؟
وفي قوله (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
استدعاء لأن يسمعوا، كقولك لمن أخبرته بشيء لا يعلمه:
اسمع فإني أعلم ما لا تعلم، و (هَؤُلَاءِ)
هاهنا جار مجرى الذين و (حَاجَجْتُمْ) صلته.
وقيل: بل هو تابع لأنتم جار مجرى عطف البيان، و (حَاجَجْتُمْ) هو
الخبر، والمعنى لا يتغير باختلاف التقديرين.

قوله عز وجل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
أنكر الله عليهم محاجتهم في

(2/621)


إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

إبراهيم، واستجهلهم فيما ادعوه، وأنه كان على إحدى الملتين
اليهودية والنصرانية، وبتّ الحكم على كونه حنيفاً مسلماً على ما
تقدم، ثم بيّن أنه لم يكن من المشركين؛ تنبيها أن اليهود
والنصارى فيما ابتدعوه وادعوه مشركون ..

قوله عز وجل (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
قد تقدم معنى الولاية والاتباع، وأنه تارة يكون بالسنن
وتارة يكون بالاعتقاد.
وهذا الثاني هو المراد، ومعنى الآية أن أصدق الناس موالاة لإِبراهيم
من تبعه في اعتقاده وأفعاله، وهذا النبي والذين آمنوا هم المتبعون
له، فإذن هم أحق به، فعلى قوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا)

(2/622)


مبتدأ محذوف الخبر، وقيل: عنى بقوله الذين اتبعوه:
المتبعون له في زمانه، وقوله: (وَهَذَا النَّبِيُّ) معطوف عليه.
إن قيل: لِمَ أفرد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المؤمنين؟
قيل: لأنه هو المقصود بالولاية، والمؤمنون غير الذين آمنوا وهم تابعوه، ويجوز أن يُجعل المؤمنون عاماً، ويكون إفراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيما له كإفراد جبريل وميكائيل عن الملائكة، وقدم ذكره تشريفا له، كقوله:

(2/623)


(وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ) فقدم ذكرهما، وإن كانا
من جملة النبيين، وإنما قال: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل: وليهم.
تنبيها أن موالاة الله تعالى تُستحق بالإِيمان، وأنها ليست بمقصورة
على من تقدم ذكرهم، بل ذلك لكل مؤمن في كل وقت.
والولي هاهنا يُحتَمَلُ على وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى الفاعل.
ولما ذكر حال إبراهيم ومشاحّة الناس في الانتساب إليه نبّه
بقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أنّ إبراهيم استحق منزلته.
والثاني: أن يكون بمعنى الموالىَ، أي المؤمنون هم الذين يوالون الله.
فأما الكفار فيوالون الشيطان، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

(2/624)


وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

قوله عز وجل: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
الطائفة: جمع طائف وهو الذي يطوف، وذلك اعتبارا بطوافهم بالبيت وغيره من متعبدْاتهم، ولطوافهم في أسفارهم، ثم سُمي كل جمع طائفة.
طافوا أو لم يطوفوا، كتسميتهم بالرفقة، ترافقوا أو لم يترافقوا.
والإِضلال: فعل ما يحصل عنده الضلال، ويقال ذلك له لقَصْدِ
الفاعل ذلك أولاً، لأنه يقال مفازة مضلة، كما يقال: أضلني
فضللت، ويقال: أضله، سواء فعل ذلك بِدعًا أو بغيره، كما
يقال: أضله الشيطان، قال تعالى حكاية عنه:

(2/625)


(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)
لكن الإضلال متى كان معه الضلال لا يصح أن يُنفى، فيقال:
ما أضل المؤمن، ويقال تارة الشيطان، وإذا لم يكن معه الضلال صح النفي فيه والإثبات جميعا، ويقال تارة: الشيطان أضلّ المؤمن ولم يضل.
والود ضرب من المحبة، ويستعمل في معنى التمني، فمتى
قُصدَ به التمني استُعمل معه: أن، وتارة: لو، يقول: وددت

(2/626)


لو خرجت، ولا يجوز إدخال لو فيه إذا أُريد معه المحبة.
وإذا كان بمعنى المحبة يتعلق بالأزمنة الثلاثة، وإذا كان للتمني
فليس إلا للاستقبال. بيَّن تعالى أن طائفة من اليهود والنصارى
يتمنون أن يفعلوا ما يؤدي المسلمين إلى ضلالهم وهلاكهم، وكل
ما يفعلونه يؤديهم إلى هلاك أنفسهم، ثم بيَّن أنهم لا يشعرون

(2/627)


أنهم يضلون أنفسهم، وإنما قال: (لَا يَشْعُرُونَ) مبالغة في
ذمهم، وأنهم افتقدوا المنفعة بحواسهم، كقوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وقول من قال: الآية تدل على أن المعارف مكتسبة
بقوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ)، فبعيد عن تصور الفرق بين قولهم:
يشعر ويعلم، ورُوي في سبب نزول هذه الآية: أن قوما من
اليهود دعوا عمار بن ياسر

(2/628)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

وحذيفة بن اليمان إلى اليهودية.

قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
الشهادة: الإخبار بالشيء عن مشاهدة: إما ببصر.
أو ببصيرة، ثم يُعبر بها عن المعرفة القتضية لصحة ما يدعي، وإن
كان المدعى عليه منكرا بلسانه كقولك لخصمك: أنت تشهد أن
الأمر بخلاف ما تذكره.
فقوله: (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)
منهم من خص، فقال: عنى بذلك الآيات المنزلة على محمد - صلى الله عليه وسلم -

(2/629)


ومنهم من قال: عنى الآيات التي تدل من الكتابين على صحة
نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -
(وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) يعني شهادة بالقلب دون اللسان، أو عنى ما يكون من شهادتهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ).
وقيل: معناه: وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب: لم تلبسون الحق بالباطل، تنبيها أنهم يفعلون ذلك حماية على رياستهم وعصبية لملّتهم، لا جهلًا بالحق، بل هم يعلمون.

(2/630)