تفسير الراغب
الأصفهاني يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71).
لبس الحق بالبطل على ثلاثة أوجه:
الأول: أن يُحرِّف الحق، فيُجعل في صورة الباطل.
والثاني: أن يُزين الباطل، فيُجعل في صورة الحق.
الثالث: أن لا يُميّز أحدهما عن الآخر مع الإمكان.
وقد فُسّرت الآية على الأوجه الثلاثة.
قال الحسن وابن زيد: هو تحريف التوراة والإنجيل،
(2/631)
وقال بعضهم: هو الكفر بمحمد - صلى الله
عليه وسلم - مع المعرفة بصدقه، وقيل: هو ما ذكره تعالى من بعدُ
في قول بعضهم لبعض (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ).
وأما كتمانهم الحق فما كتموه من صفات النبي - صلى الله عليه
وسلم - التي دَلّ عليها إشارات التوراة والإِنجيل، وقد نهى
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتمان العلم بقوله:
(2/632)
"من سُئل عن علم فكتمه. . . " الخبر، وعنى
بالآية كتمانه مع
وجوب إظهاره:
فأما صيانة الحكمة عمن لا يستحقها؛ إما لقصوره عن الوقوف
عليها، أو خوفاً أن يجعلها ذريعة إلى فساد، فذلك واجب.
وقوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعرفون الحق
(2/633)
الذي تكتمونه، والتلبيس الذي تاتونه.
إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقال فيما
قبله:
(وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)؟
قيل: الذي نفى عنهم ما ادعوه من كون إبراهيم يهوديّا أو
نصرانيا.
وليس ذلك في كتابهم.
وما أثبت لهم هاهنا وقفوا عليه من كتابهم من أمر النبي - صلى
الله عليه وسلم - فجحدوه، وهذا غاية الذم، إذ جحدوا ما علموا،
وادعوا ما جهلوا.
(2/634)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
قوله عز وجل: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (72)
الوجه: أصله الجارحة، ولما كان هو أول ما يستقبلك، وأشرف
ما في البدن، تارة يُستعملُ في أشرف الشيء، فيقال: هذا وجه
كذا، وتارة في مبدئه، نحو: وجه النهار.
وقوله: (آمِنُوا) أي أظهروا الإِيمان، وقوله: (الَّذِينَ
آمَنُوا) أي آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
والطائفة التي قالت ذلك قال قتادة والربيع: هم اليهود بعضهم
لبعض،
(2/635)
وقال الحسن: يهود خيبر، قالوا: ليهود
المدينة فخصص.
ومعنى الآية قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة
الفجر إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله ذلك في آخر النهار، فقال:
آمنوا بصلاتهم وجه النهار إلى بيت المقدس، واكفروا بصلاتهم في
آخر النهار إلى الكعبة، لعلهم يتركون إذا رأوا التواءكم عليهم،
وعبَّر عما فعله المسلمون بالإِنزال إليهم.
لا أنهم أقروا بأن ذلك منزل، ولكن على حسب ما قاله المسلمون
واعتقدوه.
وقيل: ليس القصد في الحقيقة إلى صدر النهار وآخره.
بل لما عجزوا عن صرف المؤمنين عن موافقة النبي - صلى الله عليه
وسلم - مكاشفة، قالوا: إذاً مروهم بأن يساعدوهم مرة ويخالفوهم
مرّة؛ ليحتالوا
على صرفهم عن اتباعه بذلك، فحذّر الله المؤمنين منهم
(2/636)
ليحترزوا. ومنهم من حمل وجه النهار وآخره
على مجاز
آخر، فقال: معناه آمنوا في الظاهر، واكفروا به في الحقيقة.
وذلك هو المُعبر عنه بقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا) الآية.
وقيل: فيه وجه رابع، وهو أن علماء اليهود وكانوا قد حدّثوا
قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخبار له وُجِدَت على
ما أَخبروا به، ثم لما رأوا رياستهم تبطل به ندموا، فقال بعضهم
لبعض: قد أخبرنا اليهود
بما أخبرنا، فإن كذبّناه دفعة اتهمونا، ولكن نؤمن ببعض، ونكفر
(2/637)
وَلَا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى
اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ
يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(73)
ببعض، أي نوهمهم أولا أنا نظنّه صادقا ثم
يكذبونه، فهذا
معنى (آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).
ولإِظهارهم الإيمان طورًا والكفر طورًا، قال تعالى: (إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) الآية.
قوله تعالى: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ
مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ
إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
في قوله (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ)
قولان: أحدهما: أن يتصل بقو له: (وَلَا تُؤمنُو).
(2/638)
والثاني: أن يتصل بقوله: (قُلْ إِنَّ
الْهُدَى) فإذا جعلته متصلًا بقوله:
(وَلَا تُؤْمِنُوا) فتقديره: ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد، لكن
حُذف
الجار لكثرة حذفه مع أن.
إن قيل: كيف يصح أن يكون (تُؤْمِنُوا) مفعوله (أَنْ يُؤْتَى)
وقد عُدي إلى قوله: (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) و (ءَامَنَ) لا
يصح أن يُعدى إلى مفعولين بغير حرف
العطف؟
(2/639)
قيل: إنّ اللّام تتعلق به، لا على حدّ
المفعول به، وتقدير
الكلام: لا تُقرُّوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع.
وقول من قال: اللام زائدة نحو (رَدِفَ لَكُم) فبعيد، لأن
آمن هنا لا يتعدى إلا بالجار.
وفي قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) على
هذا
(2/640)
قولان: أحدهما: لا تُقِرُّوا أن أحداً عرف
محمّدًا كما قد عرفتموه.
والثاني: أن خُصّ أحدٌ من العلوم والكراما) بمثل ما خُصصتم.
وقوله (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) أي أو أن يجعل الله للمسلمين حُجةً
يحاجونكم
بها عند الله، فأكذبهم الله تعالى في الأمرين جميعاً وردّ
عليهم.
أما في الأول فبقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ)
تنبيهاً أن ذلك
يعطيه من يشاء، نحو (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
أمّا في الثاني، وهو قوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) فبقوله: (قُلْ
إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ).
فقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى) اعتراضٌ بين بعض الجملة وبعضها.
تسديدا لها وجواباً لهم، وكذلك قوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللَّهِ)
(2/641)
جواب لهم.
والاعتراضُ بين المتصلين من الجملة بما فيه تحقيق
لمقتضاها، أو رد لها من بلاغاتِ كلامهم، وعلى ذلك قوله:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ) فقوله:
(إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) فصل بين
اسم إن وخبره، لتحقيق مقتضى الكلام.
والثاني: وهو أن يجعل أن متصلًا بقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى
هُدَى اللَّهِ)، ويكون كلام اليهود قد انقطع عند قوله: (وَلَا
تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ).
(2/642)
وفيه أوجه، الأول: ما قاله الكسائي
والفرّاء
وهو: أنَّ أنْ هاهنا تقتضي معنى لا، كما تقتضيه في قوله:
(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ومعناه: البيان
بيان الله، وقد بين أن لا يُخَصُّ أحدٌ من الأمم بمثل
ماخُصِصْتم به أيها المؤمنون،
(2/643)
إذ دين الإِسلام أكمل الأديان، ومصون عن
الإِفراط والتفريط.
وقد تقدم أن شريعة الله قبل نبينا عليه الصلاة والسلام كانت في
حكم النشوء والتكميل، وبه عليه الصلاة والسلام كَمُلت.
ولهذا قال. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)
وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)
ويقوي أن معنى (أَنْ يُؤْتَى) لا يؤتى قول الحسن: إن معناه:
فلن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المؤمنون.
قال المبرد: لا يكون أن في كلامهم مقتضيا لـ "لا"، وإنما تقدير
(2/644)
ذلك: كراهة أن يؤتى أحد، وجعل المعنى بهما
تقدم، وهذا
التقدير بعيد، لأجل أن أحداً هذا يختص بالنفي وما في معناه.
وعلى تقديره، ويكون مستعملًا في الإِيجاب. على أن بعض
النحويين ذكروا أن أحداً هاهنا هو المستعمل في الإثبات في نحو
قوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ) تقديره عند الفرّاء: حتى يحاجّوكم
أو إلي أن يحاجّوكم، وذلك على سبيل التبعيد.
وعلى قول الكسائي: معطوف على قوله (أن يؤتى)
على تقدير أو أن يحاجوكم.
وحُكي أنه في قراءة عبد الله: (أن)،
(2/645)
وذكر بعضهم أن قوله: (أَنْ يُؤْتَى) متعلق
بفعل مضمر، وتقدير
الكلام: قل إن الهدى هدى الله، فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل
ما أوتيتم، أو أن يحاجّوكم، فإن الله عنده الفضل يؤتيه من
يشاء.
فهذه ثلاثة أوجه في قوله: (أَنْ يُؤْتَى) إذا لم يُجعل متعلقا
بما
تقدم، وذكر بعض المفسرين أن قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا) كله
خطاب الله المؤمنين، لا حكاية عن الكفار، وذَكَر في تفسيره
(2/646)
أوجهًا: الأول: أن يكون تقديره: ولا تؤمنوا
إلا لمن تبع دينكم
أن يؤتى. ويكون ذلك تبيينا أن هذه الشريعة أكمل الشرائع على
ما تقدم.
والثاتي: أن يكون ذلك حثًّا على موالاة المؤمنين، ونهيا
عن مخالطة الكافرين، نحو: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) أو
نحوها من الآيات.
والثالث: أن يكون فيه مع المعنى المتقدم
حثَّ على أن لا يصاحب المؤمن من لا تكون طريقتُه طريقتَه.
فيُشغل عما هو بصدده، وقال بعض الصوفية: لا تفشو أسرار
(2/647)
يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(74)
الحق إلى غير أهله، ولا تُصدقوا بظهور
كرامة على غير المحافظين
على ظاهر الشريعة، إبطالا لمن يدعي الوصول إليه بلا مشقة
يتحملها وعبادة يتكلفها، وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ) تنبيه
على سعة غناه وجوده وعلمه بما يأتيه ويدعه، فلا يتهم فيما
يفعله ويذره.
قوله عز وجل: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
الاختصاص: انفراد بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة.
والفضل في الإِعطاء: الزيادة على المستحق الذي هو العدل،
(2/648)
وهو المعبر عنه با لإحسان في قوله: (إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)
ولأنه من تمام قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تنبيها أنه
إذا كان واسعا وعالما، فسعته تقتضي أن يوسع على عباده.
وعلمه يقتضي أن لا يحرم رحمته مستحقها، وفضله يقتضي أن
يتجاوز تحري العدالة إلى تحري الإفضال، وهو أن يفضل على
غير مستحقيه، وإلا لم يكن فضل عظيم.
وقول الحسن ومجاهد والربيع: إن الرحمة هاهنا النبوة.
وقول ابن جريج: هي
(2/649)
القرآن صحيحان. لأن كليهما داخلان في
الرحمة، ولا شك
أن من أعطيهما فقد خُصَّ برحمة منه، وكذلك قول من قال:
عنى بالرحمة الحسنى المذكورة في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقول من قال: عنى به
الوقوف على حقائق كلامه، الذي خص به خواص عباده الموصوفين
بقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)، فكل ذلك داخل في عموم
رحمته.
(2/650)
إن قيل: ما فائدة ترك التبيين في نحو قوله:
(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)، وإبهام القول فيه؟
قيل: الفائدة في ذلك أن يبقى رجاء الراجي وخوف الخائف الممدح
بهما في قوله: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ)، وليقطع بذلك ملاحظات
المجاهدات، وليبين أن الإِنسان وإن بذل غاية الجهد في العبادة.
فرحمته هي التي تنقذه، كما قال عليه الصلاة والسلام:
"لا يدخل الجنة أحد بعمله "، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
"ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته".
(2/651)
وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي
الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
قوله عز وجل: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (75)
يقال: دُمْتَ تدوم ودِمت تَدَامُ.
وقال بعضهم: مِت ودِمت، وكل يقول: تدوم وتموت،
(2/652)
وقوله (قائماً) قال قتادة: (قائماً)
بالتقاضي والمطالبة.
وقال السدي: بالاجتماع معه، وقال غيرهما: القائم بالشيء:
المواظب على الشيء، المجتهد في حفظه، نحو قوله: (أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ)
وذلك يدخل فيه ما تقدم من الأقوال، وقد تقدم
الكلام في القنطار، ولما ذكر الله تَبَجحَ اليهود بأنهم أوتوا
ما لم
(2/653)
يُؤت أحد، أكذبهم الله فذكر خيانتهم، لكن
فضَلهم لِمَا كان من
جملتهم من له أمانة، وقال قائل: عنى بالذين يؤدون الأمانة
المسلمين منهم، مثل عبد الله بن سلام وأشكاله، ورد عليه
بعض الناس، وقال: إن الآية نزلت بعد إسلام عبد الله، وهذا
الرادّ يتصور أن أهل لا يُطلق على من أسلموا، وليس الأمر كذلك.
بل حقيقة أهل الكتاب يتناول من لا يُنكر صدقاً ولا يجحد حقًّا.
ولا يتناول من بقي بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - على
دينه ولم يتبعه إلا مجازا، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
(2/654)
أي يخونون، ويقولون: لنا إصابة أموال العرب
لشركهم، وإلى هذا
ذهب ابن عباس فقد قال له رجل:، إنا نمر بأهل الكتاب
فنأكل من طعامهم، ونذبح لهم الدجاج، فقال: وتقولون كما
قال أهل الكتاب: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ)، لا يجوز إلا بطيب
النفس).
قال الحسن وابن جريج: كانت اليهود عاملوا العرب.
فلمّا أسلموا امتنعوا من ردِّ أموالهم، وقالوا: لا يحق لكم بعد
أن دخلتم في الإِسلام، وقيل معناه: ليس علينا سبيل لكوننا
أبناء الله وأحباءه، ومن عدانا عبيدٌ لنا، ومالهم مالنا فلا
حرج
(2/655)
بَلَى مَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
(76)
علينا في تناوله، وهذه أقوال متقاربة،
وكانوا قد زعموا أن
ذلك دين شرعه الله لهم، فأكذبهم بقوله: (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ)، وذكر أنهم يعلمون أن الأمر بخلاف ما
يقولون تعظيما لكذبهم.
قوله عز وجل: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
عهده: يصِحُّ أن يُقدَّر مضافًا إلى الفاعل، وأن يكون مضافًا
إلى
المفعول، فالإِنسان مدعو إلى الوفاء بهما، وقيل: وفي لغة
(2/656)
نجد، وأوفى لغة الحجاز، وقيل: هما كمحمد
وأحمد.
و (بَكَ) قيل: هو إضراب عن الأول، أي بلى عليهم سبيل، فيكون
وقفا، وقيل: فيه مع الإِضراب عن الأول اعتماد على الثاني.
نحو أن يُقال: قدم فلان. فتقول بلى طلب كذا فلا يوقف عليه.
(2/657)
إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(77)
إن قيل: ما وجه قوله: (وَاتَّقَى) بعد
قوله: (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ)؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما: أي يجُعلُ التقوى عامًّا، وإذا جعلت
التقوى خاصَّا فلأنها هي المقصودة.
إن قيل لِمَ: (يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، ولم يقل: يحبهم؟
قيل: تنبيهًا أن محبته إياهم لأجل التقوى، فإنك إذا
قلت: جاءني يزيد الظريف فأكرمته، لم يقتضِ صريح اللفظ أن
إكرامك إياه لظرفه، وفي الآية تنبيه على قياسٍ نتيجتُه أن الله
تعالى لا
يحبُّ اليهود بوجهٍ، وبيانه أن الله يحب المتقين، ومن لا يوف
بعهده
أفليس بِمُتَّقٍ، واليهود غير موفين، فإذن لا يحبُّهم الله.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا
يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
عهد الله متضمن
لكلِّ عهد عَهِد إليهم بما ركبَّه تعالى في عقولهم، وما عهد
إليهم على
لسان أنبيائهم، ولما أخذه الإِنسان على نفسه من أمرٍ التزمه
بنذرٍ، أو
يمين، أو حلف، أو عقد مما لا يلزمه من جهة الشرع بغير التزام،
(2/658)
وقد تقدمُ في قوله: (لِيَشْتَرُوا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا) أنه لم يعن
به القلة المعتبرة بإضافة بعض الأثمانِ إلى بعض، بل ذلك
باعتبار
منافع الدنيا بمنافع الآخرة، فذم الله تعالى من توصَّل إلى نفع
عاجل بإضاعة عهد الله، ولكون الوفاء سبباً لعامة الصلاح.
والغدر سبباً لعامة الفساد، عظم الله أمرهما، وأعاد في عدة
مواضع
ذكرهما، فقال: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ
مَسْئُولًا).
وقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) وقال:
(2/659)
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)
وقال: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ
الْمِيثَاقَ).
وكدْلك عظم أمر الإيمان لذلك، فقال: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، وقال عليه الصلاة والسلام: "من حلف
على يمين فاجرة؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه
غضبان "، وبيَّن تعالى أن من تحرَّى غدراً آثر به الحياة
(2/660)
الدنيا فذلك بانه لا خلاق له في الآخرة، أي
لا معرفة له بها، ولا
نصيب له فيها، تنبيها على ما قال: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ).
وقوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) فمكالمة الله للعبد
قسمان:
مكالمته إياه في الآخرة، وذلك على أضرب:
الأول: مكالمته إياه من غير واسطة، وذلك كحال
موسى عليه الصلاة والسلام، حيث وصفه بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ
مُوسَى تَكْلِيمًا).
والثاني: مكالمته إياه بواسطة بشرية، وذلك لمن وصفهم بقوله:
(فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ).
والناس في سماع كلام الله تعالى على أضرب:
الأول: من يسمع كلامه ويعقل معناه ويعمل بمقتضاه.
وهم الذين ذكرهم بقوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ).
والثاني: من يسمعه أو يعقله ولا يعمل به، وهم
(2/661)
الذين ذكرهم بقوله: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ
اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ).
والثالث: من يسمعه ولا يعقله ولا يعمل به، الذين ذكرهم بقوله:
(يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا).
وأكثر المفسرين حملوا قوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ)
على الآخرة، فقال بعضهم: عنى أنه لا يكلمهم كلاما يسرهم.
وأما ما يسوؤهم فبلى، فقد قال: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال بعضهم: لا
يكلم الكفار بوجه.
وإنما يسائلهم بلسان الملائكة،
(2/662)
وقال بعض المفسرين: يتناول ذلك في الدنيا
والآخرة، فإنه
تعالى يُكلم أولياءه في الدنيا لانتفاعهم بما يسمعونه من كتابه
وسائر آياته وآثار صنائعه، ومن لم ينتفعوا بعظاته لم يحصل منه
لهم مكالمة، ولهذا قال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
وَنِدَاءً)
وقوله: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) فنظر الله إلى العبد يكون
في الدنيا
بإفاضة النعمة، وفي الآخرة بالإِثابة،
(2/663)
وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (78)
ولما كانت نعمة الله الدنيوية عامة للمسلم
والكافر، أو نعمته
الأخروية محرمة على الكافر، قال: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
فخص، وأما التزكيةُ فقد تكون في الدنيا بتوفيقه وإرشاده إلى
ما يزداد به العبد بصيرة وفي الآخررة بالإِثابة، وكل ذلك ممنوع
من
الكافر، ثم قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، تنبيها أن ثمرة
منع
هذه الأشياء إيجاب العذاب لهم، أو تنبيها أنهم مع منعه إيّاهم
هذه النعم، يجعل لهم زيادة في العذاب الأليم.
قوله عز وجل: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
(2/664)
الليّ: من لويت يده، وعنهم لويت الغريم
ليًّا ولياناً، فَتَلْتُه
عن حقه بمطلة، ولي الألسنة: قيل تحريف اللسان عمّا في القلب.
وهو الكذب، وقيل: هو التنطُع والتجمُّل بالكلام لتشبيهه بغيره.
وقيل: ليهم بألسنتهم: تحريفهم بالتأويل الباطل، وكما ذم
تعالى بعضهم بقلة الوفاء بعهد الله ذم بعضهم بالكذب على الله
تعالى، الذي هو أفظع كذب وأشنعه، وعنى بالكتاب الأول ما
كتبوه بأيديهم المعني بقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ)، وبالكتاب الثاني التوراة، ونفى
أن يكون ذلك من الكتاب الذي هو المنزل (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ)
أي من حكمه وإنزاله، إن قيل: ما فائدة (هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ) بعد قوله: (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) أفاد أنهم
يشبهون ويروون ذلك.
وهذا تعريض منهم، وقوله: (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ) تصريح منهم بالكذب، فوصفهم بأنهم يكذبون
(2/665)
تعريضا وتصريحا، أو تلاوة وتأويلًا، وفي
هذا دلالة أن إيهام
الكذب قبيح، كما أن التصريح به قبيح، وأيضاً فإن الشيء قد يقال
هو من عند الله ولا يكون من الكتاب، فإن كل صواب وحكمة
فمن عند الله، وإن لم يكن منزلاً في كتاب، وعلى ذلك قال النبي
- صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم عني حديث يدل على هدى ويكف
عن ردى فاقبلوه، قلته أو لم أقله، فإني قلته".
وفائدة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)
(2/666)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا
كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ (79)
بعد الذي تقدم ذكره تنبيا أن كلا الأمرين
منهم كذب؛
لي الألسنة، وقولهم: هو من عند الله، وإعلام أن ليس كذبهم
مخصوصًا بهذين فقط، بل هم كَذَبة كقولك: فلان تقول على كذا
وهو كاذب، ثم قال: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) تشنيعا عليهم، وأنهم
غير
معذورين بوجه إذ قد يعذر الإِنسان في بعض ما يظنه، ومن كذب
عامدَا إليه وعالما به وهو يقصد به استجلاب نفع دنيوي فهو
مستحقّ للذمّ.
قوله عز وجل: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ
الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ
كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
(2/667)
البشر يستوي فيه الواحد والجمع لكونه
كالخلق.
والرباني: قيل: هو منسوب إلى الربَّان، وهو المتخصصُ بالعلم
الذي يربُّه باستفادته وإفادته، وفعلان أكثر ما يجيء عن فَعِل
للمبالغة نحو نعسان.
وقال الزجاج: الرباني منسوب إلى الربِّ، لكن زِيد فيه ألف ونون
للمبالغة في النسبة، كما زيد في: لحياني وجماني قال مؤرج:
هو لفظة في الأصل سريانية وأخلِق بذلك فقل ما يوجد في
(2/668)
كلامهم القديم، وإلى ما قدمنا من معناه
قال الحسن: معناه: كونوا علماء فقهاء.
وقال ابن جبير: حكماء فقهاء.
وقال ابن زيد: مدبِّري أمر الناس في الولاية بالإِصلاح.
وقال الزجاج: معلمي الناس وهذا كله ألفاظ مختلفة عن
(2/669)
معنى واحد، بيَّن تعالى أنه لن يصطفي علام
الغيوب لرسالته
من يعلم من حاله أنه يكذب، وأن يأمر الناس أن يعبدوه.
وإلى هذا أشار بقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ).
وإنما قال: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) فذكر باللام لأن قولك: فلان
ليس له أن يفعل كذلك. أبلغ من قولك: هو لا يفعل؛ لأن في
قولك ليس له أنه ممنوع منه، إما منعا من خارج كالقهر، وإما من
داخل من جهة العقل والتزام الشرع، وقد نبّه تعالى بذلك أن
الأنبياء ممنوعون عن ذلك من جهة العقل المسدّد، والحظر
الوارد عليهم من قبله تعالى، لا منعا من جهة عدم التمكن.
وعلى ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)
وأما قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ)
فإنه لما أراد تعالى المبالغة في
(2/670)
النفي أخرج الكلام هذا المخرج، تنبيهًا أن
الحكمة تمنع من
ذلك، وإن كان منزها عن أن يوصف بمنعِ على وجه.
وقال الجبّائي: ليس قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) على سبيل
التحريم.
لأن هذا محرّم على جميع الخلق، قال: ولو كان ذلك تحريماَ لم
يكن
تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح، لأن من ادعى
على إنسان قولا، فقال: فلان لا يحلُّ له كذا. لا يكون مكذّبا
لدعواه، قال: وإنما أراد الله بهذا القول تكذيبهم، وما قاله
فيه قصور نظر، فإن النصارى أقرُّوا بأن المسيح لم يكن يدعي ما
لم
يكن له أن يدعي، فإذا أقروا بذلك، وبيّن تعالى أن ليس له ولا
لأحد من البشر أن يقول ذلك، كان فيه إلزام واضح، وكأنه قيل:
قد ثبت أن المسيح لم يكن يدعي ما ليس له دعواه، وثبت أنه كان
بشرا بما تقدم في هذه السورة وغيرها، ولم يكن لأحد يؤتيه الله
الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله.
وإن المسيح قد أوتي الكتاب والنبوة، فإذن محال أن يدعو أحدا
إلى
(2/671)
عبادته، وقوله: (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ)
بالرفع على الاستئناف
وبالنصب على العطف، أي لا يجتمع الأمران: إثبات النبوة.
وقوله: (كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقوله:
(وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، يعني: ولكن يقولوا: كونوا
ربانيين، حكماء أولياء لله.
فقد قيل: إن لم يكن العلماء أولياء لله فليس لله في الأرض ولي.
وقيل: كونوا متخصصين بالله تخصصا تُنسبون إليه، وتوصفون
بعامة أوصافه نحو الجواد والودود والرحيم.
وقيل: كونوا من المتخصصين بالله الذين وُصِفوا بقوله:
"فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به "
الخبر.
(2/672)
وقيل: كوثوا متخصصين بالله غر ملتفتين إلى
الوسائط
كأبي بكر لما قال حين موت النبي - صلى الله عليه وسلم -،
واضطربت أسرار عامة الناس: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد
مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".
وقد قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ .. ) الآية، وقوله: (وَبِمَا
كُنْتُمْ) أي بكونكم عالمين أو معلّمين على حسب القراءتين في
تعلمون وتُعلِّمون، ولا تحتاج لفظة ما هاهنا إلى ضمير، كما هو
في
قوله: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ
يَوْمِهِمْ هَذَا)، لكونه في
(2/673)
تقدير أن، ومعنى (تَعْلَمُون الكتابَ) أي
تعرفونه كقوله:
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ).
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ).
وإذا قرئ (تُعَلِّمُونَ) فمعناه تعلمون الناس الكتاب، وقوله:
(وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) مما يصح أن يوصف به العلم
والمعلم، ومعنى (بِمَا كُنْتُمْ) أي كونوا معلمي
(2/674)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(80)
الخير بما علمتم، أوكونوا حكماء علماء
عاملين بما علمتم.
فإن الحكيم في الحقيقة من عمل بما علم، وكان محكماً لعمله
إحكامه لعلمه.
وإذا قرئ (بِمَا كُنْتُمْ تَعَلَمُونَ) فمعناه كونوا
عاملين بما تعلِّمون غيركم إشارة إلى فحوى قوله:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ).
قوله عز وجل: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا
الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
(وَلَا يَأْمُرَكُمْ) قرئ مرفوعاً على الاستئناف، ومنصوبا على
رده إلى قوله: (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ).
وفي قراءة عبد الله: "ولن يأمركم".
وقوله: (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(2/675)
أي بعد أن كنتم على دين إبراهيم، أو بعد أن
تبعتم النبي فيما
دعاكم إليه، وهذا كلام يقتضي قياسا بيانه: النبي لا يأمر
المسلمين
بالكفر، وهذه مقدمة دل عليها قوله: (أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ).
لأن هذا الإنكار يقتضي أبلغ نفي والأمر باتخاذ النبيين
والملائكة
أربابا أمرٌ با لكفر، فإذن لا يكون ذلك من الأنبياء.
(2/676)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
قوله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ
وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا
قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ) إذا قرئ بالفتح فلفظة ما تحتمل
وجهين.
أحدهما: أن تكون موصولاً وتقديره: ما أتيتكموه، كقوله:
(أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أي بعثه الله،
والراجع إليه من قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَكُمْ) أحد شيئين: إما محذوف، أي جاءكم
رسول به، وإما لأن قوله: (لِمَا مَعَكُمْ) هو في المعنى:
الكتاب
(2/677)
فاستغنى به عن الضمير، كقولك: الذي أتاني
لا أضرب عمرا.
إذا كان عمرو هو الذي أتاه، وهذا أجازه الأخفش، وعليه
حمل قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
أي لا يضيع أجرهم، وجاز ذلك لما كان من يتقي ويصبر هم
المحسنون. والوجه الثاني: أن تكون ما للجزاء وتكون مفعولا من
(آتَيْتُكُمْ)، و (جَاءَكُمْ) في موضع الجزم معطوف عليه،
واللام الداخلة على (ما) هي الموطئة للقسم،
(2/678)
والتي في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ) للقسم كاللامين في قوله تعالى:
(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي)، وعلى هذا حمل
سيبويه
الآية، وقال: وسألته - يعني الخليل - عن قوله: (وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ)
فقال ما هاهنا بمنزلة الذي، ودخلتها اللام كما دخلت على
إنْ حين قلت: لئن فعلت لأفعلن. وعنى بقوله: إن ما بمنزلة
الذي، أنه اسم لا حرف، كما هو حرف في قوله: (لَمَّا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ولم يرد أنها موصولة كالذي، وإنما لم
يجعله
كالذي لعدم الضمير الراجع إليه في قوله: (ثُمَّ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ)
(2/679)
فإن قيل: فمن جعل ما موصولاً في قوله:
(لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) وجب أن يكون
ابتداء، فما خبره؟
قيل: خبره (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)، والضمير في (بِهِ) هو راجع
إلى ما، وفي قو له. (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى الر سول، ولا يجوز
أن يرجع
في قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) إلى الرسول أيضاً، لأنه يبقى
المبتدأ بلا
عائد إليه، فأما من جعل (ما) جرًّا فلا يحتاج إلا ضمير، لأنه
حينئذٍ
مفعول، والمفعول لا يحتاج إلى ضمير يرجع إليه، وأما من قرأ
"لمِا أتيتكم" بالكسر فمعناه: أخذ الله الميثاق منهم لأجل الذي
آتيتكم، وما لا تكون هاهنا إلا موصولة، والكلام في رجوع
الضمير إليه قد تقدم وقُرى "لمّا آتيتكم" أي أخذ الله ميثاق
(2/680)
النبيين حين آتيتكم الكتاب، ثم جاءكم رسول،
ولما ذُكر حكى
لفظ الميثاق المأخوذ عليهم أي، قوله: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ) إلى قوله: (مِنَ الشَّاهِدِينَ).
واختلف فيمن أخذ عليه الميثاق، فقال بعضهم: أخذ من الذين منهم
الأنبياء، وتقدير الكلام أخذ الله ميثاق أمم النبيين.
ورُوي أن الربيع قرأ "وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب.
وقال: هكذا أنزل وأخطأ الكاتب، ألا ترى أنه قال: (ثُمَّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ)،
(2/681)
وحُكي أنه هكذا في قراءة ابن مسعود، وقال
بعضهم: أخذ
ميثاق النبيين أن يُبشر المتقدم بالمتأخر، ويُصدق المتأخرُ
(2/682)
المتقدم، وأن يخبروا كلهم بكون محمد خاتم
النبيين.
قال السدي: ما بُعث نبي من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه لتؤمنن
بمحمد
إن خرج وهو حي، وفي هذا تنبيه أن كل زمان بالشريعة التي
خصه الله بها أولى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لو كان موسى حيًّا لما وسعه إلا اتباعي ".
والصحيح أن العهد مأخوذ من الفريقين من الرسل والمرسل إليهم،
لكن خص الأنبياء بالذكر لكونهم الرؤوس وكون الأمة تبعًا لهم،
وكذلك خص النبي في كثير من المخاطبة التي تشاركه فيها أمته نحو
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ)،
(2/683)
ولأنه إذا أخذ الميثاق على الأنبياء فقد
أخذ على أممهم لمشاركتهم
أنبياءهم في عامة ما شرع لهم، وأما كيفية أخذ هذا العهد، فقد
قيل: كان ذلك بقول وأمرٍ من الله للأنبياء بأن يخبروا قومهم
بذلك، وقد قيل: إن ذلك بما ضمنه عقولهم أن الحق حيث ما وجد
يجب أن يتبع، ولما أخبر الله تعالى في الآية المتقدمة أن ليس
لأحد
ما ادعاه من قوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ
اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ)
ذكر هاهنا أنه تعالى لم يخلِ الأنبياء مع كونهم مأمونين
على الغيب من أخذ ميثاقهم بمظاهرة البعض البعض.
وقوله: (فَاشْهَدُوا) قيل معناه اعلموا، فإن الشهادة وقت
التحمل هو
العلم، ووقت الإِقامة هو الإِخبار، وقوله: (وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ)
على حد ما تقدم في قوله: (شَهِدَ اللَّهُ).
(2/684)
أَفَغَيْرَ دِينِ
اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
قوله عز وجل: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ
ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
لما كان الفسق هو الخروج عن أمر الله وطاعته، وكان بين أدنى
منزلة وبين أقصاها بون بعيد صار له منازل كثيرة، فيطلق تارة
على الذنب الصغير، نحو قوله: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا
شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)، وتارة
على الكفر والشرك، نحو
(أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا)، وقوله:
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)، وعلى
هذا استعمال الفاسقين هاهنا).
ودخول الفاء في قوله فاولئك لتضمن (مَن) معنى الشرط.
قوله عز وجل: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا
وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
حمل (أَسْلَمَ) على الاستسلام وعلى الاعتقاد والإِقرار
باللسان،
(2/685)
والتزام الأحكام، وقيل في ذلك أقوال:
الأول: له أسلم من في السموات طوعاً، وهو أن علمهم بوحدانية
الله وصفاته ضرورة لا استدلال، وعامّة أهل الأرض كرهاً بمعنى
أن الحجة
أكرهتهم وألجأتهم كقولك: الدلالة أكرهتني على القول بهذه
المسائل، وليس هذا من الكره المذموم.
الثاني: أسلم المؤمنون له طوعاً، والكافرون كرها، إذ لم يقدروا
على أن يمتنعوا عليه مما يريده بهم، ويقضيه عليهم.
الثالث: عن قتادة: أسلم المؤمنون له طوعاً في حال الصحة
والأمن، والكافرون كرهاً عند الموت،
(2/686)
حيث قال: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا).
الرابع: عنى بالكره من قوتل، وأُلجى إلى أن يؤمن.
الخامس: عن أبي العالية ومجاهد أن كلَّا أقرَّ بخلقه إياهم،
وإن أشركوا
معه، لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ).
السادس: عن ابن عباس: أسلموا باحوالهم الناطقة جميهم.
وذلك في الذرْء الأول)، حين قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى)
(2/687)
وقيل: معنى ذلك دلائلهم التي فطروا عليها،
التي هي العقل
والتمييز المقتضيان لإِسلامهم طوعا أو كرها، وإلى هذا أشار
بقوله: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
السابع: عن بعض الصوفية أن من أسلم طوعا هو من طالع المثيب
والمعاقب دون الثواب والعقاب، فأسلم رغبة ورهبة، ونحو هذه
الآية
قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
طَوْعًا وَكَرْهًا)
وفي هذه الآية حجة بينة أن طاعة الله هي التي يجب أن تكون
المبتغى والمطلوب،
(2/688)
قُلْ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ
مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
لأن كل ما سواه مما يتقرب إليه، فقد أسلم
لله طوعاً أو كرهاً.
قوله عز وجل: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
قد تقدم القول في ذلك في سورة البقرة إلا أنه
يقال: كيف قال هاهنا: (قُل) وهناك: (قُولُوَا)، وذكر هاهنا
(عَلَيْنَا) وثَمَّ (إِلينَا)، وذكر هناك (وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ).
وترك ما أوتى هاهنا؟
والجواب: أن (قل) هاهنا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن
يعتقد ذلك ويبلّغ قومه، وهناك خطاب للأمة أن يعتقدوا
وليس يأمرهم أن يبلغوا، وإنما قال هاهنا (عَلى) لأن ذلك لما
كان خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان واصلًا إليه من
الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية، كان لفظ على المختص بالعلوّ
أولى به، وهناك لما كان
خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بوساطة النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان لفظ إلى المختص بالإِيصال أولى، ويجوز أن يقال:
أُنزل عليه إنما يحُمل
(2/689)
على ما أُمر المنزَّلُ عليه أن يبلّغ غيره،
وأُنزل إليه على ما خُصّ به
في نفسه، وإليه نهاية الإِنزال وعلى ذلك قال: (أَوَلَمْ
يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ)، وقال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فخُصّ بإلى
هاهنا لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيانُ المنزل، وهذا كلام
أي الأولى، لا في الوجوب، وأما إعادة لفظ (ما أوتي) هناك فلأنه
لما كان لفظ الخطاب عاماً، ومن حُكْم خطاب العامة البسط دون
الإِيجاز
بسط اللفظ، ولما كان الخطاب هاهنا خاضًا للنبي - صلى الله عليه
وسلم - على ما قدمنا اكتفى فيه بالإِيجاز.
وإن قيل: إذا كان ذلك أمراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن
يقوله، فكيف قال: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)؟
قيل: إنما ذكر ذلك تنبيهاً أن أمته غير منفردين عنه في هذا
الاعتقاد، وغير مكروه لهم أن يبلّغوا ذلك تبليغ النبي - صلى
الله عليه وسلم -
فكيف فسح لهم التبجح بذلك مع كون التبجح مذموماً؟
قيل: التبجح هو إظهار الإِنسان
(2/690)
وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
ما يتطلب به رفعةَ عند الناس، وليس هذا من
ذلك، بل هو
إظهار التحمد المندوب إليه بقوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
فَحَدِّثْ).
وإظهار مباينة الكفار بالاعترافِ بالإِسلام، وقصد أن الاستسلام
في الإِيمان بهم هو في الحقيقة لله تعالى لا لغيره.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا
فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (85)
في الآية قولان: أحدهما: أن الأسلام هاهنا الاستسلام إلى الله.
وتفويض الأمر إليه، وذلك أمر مراد من الناس في كل زمان
ومن كل أمة وفي كل شريعة، وقدْ
(2/691)
كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ
لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
تقدم أن الدين في اللغة الطاعة وفي
التعارف: وضع إلهي
ينساق به الناس إلى النعيم الدائم، فبيّن تعالى أن من تحرى
طاعة وانسياقاً إلى النعيم من غير الاستسلام له على ما يأمره
به.
ويصرفه فيه فلن يقبل منه دنيء من أعماله، وهو في الآخرة من
الذين خسروا أنفسهم.
والثاني: أن المراد بالإِسلام شريعة محمد عليه الصلاة
والمسلام، فبيّن أن من تحرى بعد بعثته شريعة أو طاعة لله من
غير متابعته في شريعته فغير مقبول منه، وهذا الوجه داخل في
الأول، فمعلوم أن من الاستسلام الانقياد لأوامر من
صحّت نبوته وظهر صدقه.
قوله عز وجل: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(86)
(2/692)
هذه الآية واللتان بعدها، قيل: نزلت في رجل
ارتد.
ثم أرسل إلى قومه: اسالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لي
من توبة؟ فأنزل
الله تعالى ذلك، فعاد إلى الإِسلام وحسن إسلامه.
وقيل: نزلت في اليهود، الذين اعترفوا بنبوة محمد - صلى الله
عليه وسلم - قبل بعثته، ثم أنكروه بعدها، فعلى هذا قوله:
(كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) أي
(2/693)
جحدوا بعد معرفتهم، لا أنهم ارتدوا بعد
دخولهم في الإِسلام.
وقد تقدّم أن الهداية من الله على أضرب: الهداية التي عمَّ
بها كل مكلّف، وهو إعطاؤه العقل المميّز بين الخير والشر وبين
الصدق والكذب، وهي المعني بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى).
والثاني: "زيادة الهدى التي تأتي بقدر استعمال الأول العنيّ
بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)
(2/694)
والثالث: التزكية لأعمالهم أو توفيقه في
أحوالهم.
وهو المعني بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)،
والرابع: إدخال الجنّة المعني بقوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
والله تعالى لا يؤتي هؤلاء شيئا من ذلك).
أما الثاني والثالث والرابع فلأنهم لا يستحقونه إذ لم يهتدوا
بالأول.
وأما الأول فلأنهم قد أتاهم ما أمكنهم الاهتداء به.
ومن أُوتي من الهداية ما فيه من الكفاية فلم يهتد به،
(2/695)
2271 ب
فالزيادة لا تغني ما لم تكن على سبيل القهر المنافي للتكليف.
ولذلك قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ
الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا
عَلَيْهِمْ) الآية.
ثم قال: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
تنبيهاً أن الهداية من الله.
والظلم من العبد، يتنافيان ولا يجتمعان.
فإن الظلم ترك الاهتداء، ومن يهُدى ويترك الاهتداء عناداً
لا سبيل إلى هدايته إلا قهراً.
وعلى هذا قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ
يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ
طَرِيقًا (168).
إن قيل: كيف نفى عن الكافر الهداية في هذه المواضع.
وأثبت له في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ)؟
قيل: المتْبت لهم هاهنا هو العقل والتمييز دون الأخرى، التي لا
تحصل إلا بعد الاهتداء بهذا، وهذه تارة تُثبت للكافر إذا
(2/696)
أريد أنه مطبوع عليها ومعرض لاستعماله
إياها، وتارة تُنفى
عنه، بمعنى أنه لم يستعملها، ولم يحصل قبوله على ما يحب.
فكأنه في حكم ما لم يعط.
وقوله: (لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فهو على لفظ
الاستقبال.
ومعناه لا يفعل به ذلك ثانياً، إذ قد أتاه ما فيه الكفاية.
ولفظ (كيف) وإن كان استفهام، فالقصد به
(2/697)
النفي هاهنا، وعلى هذا قول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. ألا هل أخو عيشٍ
لذيذٍ بدائم
فأدخل الباء في خبر هل لما أراد معنى ليس، إن قيل: على ماذا
عطف قوله: (وَشَهِدُوا) فإن ظاهره من حيث المعنى أنه معطوف
على قوله (بَعْدَ إِيمَانِهِمْ)، لا يصح عطف الفعل على الاسم.
ولا يصح أن يكون معطوفا على قوله: (يَهْدِي اللَّهُ)، لأنه لم
يرد كيف يهدي الله قوماً هكذا وكيف شهدوا أن الرسول حق؟
قيل: في ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون تقديره بعد إيمانهم
وإن شهدوا، فيكون أن مقدرا، كما هو في قول الشاعر:
(2/698)
للبس عباءة وتقرّ عيني. . .
إلا أن إضمار أن في البيت أظهر لانتصاب تقر.
والثاني: أن يكون (وَشَهِدُوا) في موضع الحال.
أي وقد شهدوا، نحو قوله: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ
صُدُورُهُمْ)
وقول الشا عر:
تقول وصكَّت نحرها بيمينها. . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . ..
وقوله: (أَنَ ألرَسُولَ حق) أي أنه سيبعث، وأنه منتظر.
(2/699)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
قوله عز وجل: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
قد تقدّم الكلام في ذلك في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)
إلا أنه بتَّ الحكم، ثَمَّ قال: (عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ)
لِمَا كان ذلك حكماً على قوم ماتوا على الكفر، وقال هاهنا:
(جَزَاؤُهُمْ) لما كان حكماً على قوم باقين يرجى صلاحهم
تنبيهاً
على تضمُّن معنى الشرط، لأن ذلك لهم إن ماتوا على الكفر.
قوله عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
إن قيل: " لِمَ اقتصر هاهنا على التوبة والإِصلاح.
وقال في البقرة: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا) أن
(2/700)
يُعَفِّي المذنب ما تقدّم من ذنبه بما
يُوفَّى عليه من أفعاله الخير، وكان من
ذنب الأحبار الذين ذكرهم في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ)، أن قالوا
للناس: ليس في التوراة ما يدل على نبوة محمد.
فصار من تمام توبتهم أن يبينوا للناس ما كتموه، ولما لم يكن في
الموضعين
ها هنا ذلك اقتصر في توبتهم على الإِصلاح.
وإنما أتبع التوبة في
(2/701)
عامة المو اضع الإِصلاح، فإن التوبة راجعة
في الأصل إلى الاعتقاد
والإِصلاح إلى الأعمال. وكلاهما مرادان، وعلى ذلك اتباع
عمل الصالحات بعد الإِيمان في كل موضع ذُكِرَا معا.
إن قيل: لِمَ قال ها هنا: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال ثمَّ:
(وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) و؟ قيل: كل واحدة من
الصفتين؛ أعني اَلتَوَّاب
(2/702)
والغفور يتضمَّن الأخرى، لكن التوّاب أخصّ
والغفور
أعم، فذكر حيث ما ذكر أعظم الذنبينْ الضلال والإِضلال
التوّاب، وحيث ما ذكر أصغرهما - وهو الضلال دون الإِضلال -
ذكر الغفور.
إن قيل: لِمَ قال ههنا: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) ولم يقل ثّمَّ؟
قيل: لما وصف ههنا قوما كان منهم إيمان متقدّم.
ثم حصل منهم كفر بعد إيمانهم، قال: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)
ليبيّن أن
الإِيمان المتقدم لا ينفعهم إذ قد أحبطوه وأبطلوه، وأن الذي
يُعتدُّ به هو ما يفعلونه من بعد،
(2/703)
ولما لم يكن ثم كفر بعد إيمان متقدم استغنى
عن ذكر (بَعْدِ ذَلِكَ).
(2/704)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ
تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
ودخول الفاء في قوله: (إِنَّ اللَّهَ)
لتضمُّن الكلام معنى
الجزاء، كأنه قيل: إن تابوا وأصلحوا يُغْفرْ لهم.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
(2/705)
قيل: معناه لن تُقبَل توبتهم بعد الموت.
وقيل: عند الموت والمعاينة، نحو (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)
وقيل: توبتهبم المتقدمة فإن تلك أحبطها الكفر المتعقب.
وقيل: نزل في قوم ارتدوا.
سورة آل عمر ان، الآية: 90.
وهذا مووي عن مجاهد انظر: زاد المسير (1 419)، والبحر المحيط
(2 542). وقد رذَ الطبري ذلك قاثلَا: "أنكرنا ذلك، لأن التوبة
من
العبد غير كاثنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة).
جامع البيان
(6 583).
وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، وهو مووى عن مجاهد أيضا، انظر:
جامع البيان (6 578، 579)، والوسيط (1 1 46)، ومعالم التنزيل
(2 65)، ز زاد المسير (1 419)، والبحر المحيط (2 542)، وتفسير
القرآن العظيم لابن كثير (1 359)، وقد ردَّ ابن جرير الطبري
هذا
القول أيضا مبئنا أنه لا خلاف في أن ك) افراَ لو أسلم قبل خروج
نفسه
بطرفة عين، أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة
وساثر
الأحكام مما يدل على صحة إسلامه. جامع البيان (6 583).
سورة النساء، الآية: 18.
وهذا مروي عن عكرمة وابن جريج انظر: جامع البيان (6 580.
581) والبحر المحيط (2 542). قال الطبري:. "وأما قول من زعم أن
معنى ذلك: التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن
الله عز وجل=
706
(2/706)
وقالوا: إنا إذا رجعنا قبل توبتنا. وظنوا
أن ذلك منهم توبة.
فبيّن تعالى أن هذه النية غير مقبولة، وأنها ضلالة.
وقيل: معناه: لا تكون منهم توبة مقبولة، كقول الشاعر:
على لاحبٍ لا يُهْتَدَى بمناره. . .
أي لا يكون فيه منار فيهتدى به، وهذا إخبار عن علمه
(2/707)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ (91)
تعالى بحالهم، وقيل: إن توبتهم غير مقبولة
في حالِ ما هم
ضالون، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان، فالواو في قوله:
(وَأُؤلَئكَ) على هذا واو الحال.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ
ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91).
الفدية: بذل شيء احتراساً من أذى، ومنه فداء الأسير.
وقولهم: فديتك. وإدخال الواو في قوله: (وَلَوِ افْتَدَى بِهِ)
(2/708)
لعموم المعنى، ومعناه لا يقبل منهم ذلك وإن
أخرجه على
وجه القُرْبة في الدنيا، إذ كان لا يتقبّل الله إلا من
المتقين.
ويجوز أن يعني ذلك في الآخرة، ومعناه: لو ملك ذلك فأخرجه
لم يكن ينفعه، وليست الواو بزائدة كما ظن بعضهم، لأنه
(2/709)
لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
حينئذ يسقط معنى عموم الحالين، وملء الأرض
- قيل: هو
مقدار ما يملأ الأرض، وقيل: معناه كل ما يتعامل به في
الأرض من الذهب، وذلك حسم لطمع من مات على كفره في رحمته.
وقيل: وهذه الآية والتي قبلها كالآيتين في سورة النساء
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ .. + إلى
آخر الآيتين.
قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
(2/710)
البر: التوسع في فعل الخير، وقد تقدم في
قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ)
إن البر ينسب إلى العبد تارة، وذلك إذا أطاع الله.
وإلى الله تارة إذا أنعم على العبد.
وقد حُمِلَ ههنا على الأمرين، فقيل: البر من الله الثواب.
وقيل: الجنة، وقيل: الطاعة، ومن الناس من اعتبر ذلك
في المال فقط، فالإنسان محبٌّ للمال بالطبع، ولهذا قال تعالى:
(2/711)
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)، ثم
منهم من قال: هذا خطاب
للأغنياء، ولذلك قال الحسن: عنى الزكاة الواجبة وما فرض في
الأموال خاصة، ومنهم من قال: خطاب للكل، وحثٌّ لهم على ما
قدروا عليه من الإِنفاق، وكمن مَدَحَ يقوله: (وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، ولذلك لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن
حارثة بفرس، فقال: هذا مما أحبَّه الله، وقد جعلته في سبيل
الله، فحمل
(2/712)
عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أسامة، ومنهم من اعتبر ذلك في متاع الحياة الدنيا كله، فقال:
لن تنالوا البرَّ إلا بالإنفاق، وبذل الجاه
والبدن والنفس، قال: وذلك حثٌّ على جميع المحامد، فإن
من تشجَّع وبذل المهجة في طاعة الله فقد أنفق ما أحب،
(2/713)
ولذلك قيل:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . الجود بالنفس
أقصى غاية الجود
وقال بعضهم: أحب الأشياء إليك روحك، فأنفقها في الوصول
إلى البّر.
وقيل: برُّ الله لعبده اطلاعه على دقائق حكمته وحقائق
المعقولات، ولا يكون ذلك إلا بترك ما تميل إليه النفوس من
المحسوسات من المطعم والمنكح والملبس.
وقيل: أعظم البر مجاورة البارّ وقربه، وذلك بإنفاق ما لنا في
الدنيا.
وقوله:
(2/714)
كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ
إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
(فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي
مجازيكم، ولدلالة ذلك على المجازاة
جُعِلَ جواباً للشرط.
قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
كان اليهود أنكروا تحليل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوم
الإِبل، وقالوا: إنها كانت محرّمة على إبراهيم على ما نطقت به
التوراة، فكذبهم تعالى، وذكر أنها كانت محلّلة عليه وعلى
أولاده إلى أن حرَّمها إسرائيل على نفسه، وهو يعقوب، - وأمرهم
بإحضار التوراة، فامتنعوا، ولم يجسروا على ذلك،
(2/715)
لصدق ما أخبر تعالى به، وسبب تحريمه ذلك -
قيل: إنما كان
مرضا أورثه لحم الإِبل فتركه، وحرّمه على نفسه تحريم المريض
طعاما لا يوافقه، لا تحريم شرع.
وقال ابن عباس والحسن: أصابه عرق النَّسا، فنذر أن يترك إن
عافاه الله أشهى طعام إليه تقربًا إلى الله تعالى، وتحريم
اليهود ذلك كان اقتداء منهم به،
(2/716)
وقيل: إنه لما حرَّم على نفسه حرّم الله
عليهم، ولذلك قال:
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
طَيِّبَاتٍ) في الآية حجة
عليهم على هذا في جواز النسخ، لأنه حرَّم عليهم ما كان مباحا
في شريعة إبراهيم.
إن قيل: كيف حرَّم هو على نفسه ما كان
(2/717)
مباحا فأقره الله عليه، وحرّم النبي - صلى
الله عليه وسلم - جاريته فعاتبه ومنعه؟
قيل: إن إسرائيل إما أنه حرَّم على نفسه لحم الإِبل، لأنه لم
يكن يوافقه.
وكان واجباً عليه تركه.
فإن الله تعالى جعل الطعام ليتوصل به إلى صلاح البدن.
وما يؤدي إلى فساده فواجب علينا تركه؟ وإما أنه حرَّم ذلك
تقربا إلى الله كما يُحرم الصائم الطعام، وكما يُحرم المعتكف
على نفسه بعض التصرفات، ولم يكن تحريم النبي - صلى الله عليه
وسلم - علي أحد هذين الوجهين، بل لما ذكره تعالى: (تَبْتَغِي
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، ولأن في تحريم النبي - صلى الله عليه
وسلم - تضييع حق متعلق به للغير، وهو حق الجارية. وليس ذلك في
فعل إسرائيل، وأيضاً فإن
(2/718)
إسرائيل لما حرَّم أشهى الطعام إليه قصد
بذلك قمع الشهوة، وبنحو
ذلك يهذب الحكيم نفسه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم
جاريته تبع هوى غيره، وهو مرضاة أزواجه، وذلك مكروه، فلم يقرَّ
عليه،
(2/719)
ذكر بعض الصوفية أن في ذلك تفضيلًا للنبي -
صلى الله عليه وسلم - من وجهين.
(2/720)
أحدهما: أنه لما حرَّم إسرائيل على نفسه ما
أحبه أمضاه، وحرم
النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه فعافاه.
والثاني: أن بني إسرائيل ما كانوا يلتزمونه مما لم يكن قربة في
الشريعة يلزمهم الوفاء به تشديدا عليهم، وعلى ذلك دل قوله:
(مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ
اللَّهِ)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "شددوا على أنفسهم فشدد الله
عليهم "، ورُفِعَ عن هذه الأمة ذلك فضيلة للنبي - صلى الله
عليه وسلم -. إن قيل: ما وجه اتصال هذه الآيات بعضها ببعض،
لأنه ذكر أولا:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) الآيتين ثم
ذكر: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ) ثم عقبها بتحريم إسرائيل الطعام، وذم اليهود؟
(2/721)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (94)
قيل: لما ذكر في الآيتين المتقدمتين ذم
اليهود وغيرهم من الكفار.
وبين أن انفافهم مع كفرهم غير مقبول منهم، وصل ذلك بقوله:
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ)، لئلا يقرر أن الانفاق غير مغنٍ على
جميع
الوجوه، فقال: وأنتم أيها المؤمنون إذا أنفقتم فإنما نقبل منكم
على هذا الشرط، ثم رجع إلى ذم اليهود وتعديد ما ارتكبوه.
فصار قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ) بين الآيتين من الاعتراض
المسمى في كتب البلاغة الالتفات.
قوله تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
(2/722)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (95)
الافتراء والاختلاق: افتعال للكذب الذي لا
أصل له، من افتراء الأديم واختلاقه.
والكذب ضربان:
اختراع قصة لا أصل لها وزيادة، أو تغيير فيما له أصل.
والأول أعظمهما، والمُفترى عليه ضربان: رفيع ووضيع.
فالمفتري على الرفيع أعظم ذنبا، ثم المفتري له ضربان: عارف
بالفرية.
وجاهل بها، فالمفتري العارف بالفرية أوقحهما وجهاً، فبين الله
تعالى بالآية أنهم اختلقوا الكذب على الله تعالى، الذي يعلم
السر
وأخفى، وفعلوا ذلك بعد أن أطلع الله الناس على كذبهم، وبين
أن متخذي ذلك في نهاية الظلم، وعلى ذلك في غير موضع:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
قوله تعالى: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
(2/723)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ (96)
معنى قوله: قل اعتقد وأخبر أن ذلك من قول
الله
تعالى، وهو صادق. وحقيقة قوله: (صَدَقَ اللَّهُ) إقرار بأن
الله
قد أخبر، فإنه إذا ثبت كونه من خبره ثبت. كونه صدقا، ونبّه أن
ما أخبر من قوله: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا) وسائر ما
تقدّم
صدق، وأنه ملة إبراهيم، وأوجب عليهم اتباعه في تحنّفه أي
في استقامته، وفي قوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
تعريض بهم.
كأنه قيل: أنتم مشركون في اتخاذ بعضكم بعضاً أرباباً، وإبراهيم
لم
يكن مشركاً، فإذن ليس دينكم دين إبراهيم، وكما نفى في
قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا) أنه منهم نفى في هذه
الآية كونه مشركا.
قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ
آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ
آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
(2/724)
قيل: بكة هي المسجد، ومكة الحرم، وقيل: بكة
هي البيت.
وقيل: هي بطن الحرم وقال مجاهد: هما واحد
(2/725)
كقوله سَبَّد رأسه وسَمَّدَه، أي حلقه،
وضرب لازم ولازب.
وأصل بكة من التَّباك أي التزاحم، وذلك اعتبارا بازدحامهم
لقصده، والطواف به، وقيل: لبَكهِ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا
(2/726)
فيه، ومكة من أمتَك الفصيل ما في الضرع،
كأنَّه يجمع أهل
الآفاق ويؤلفهم، ولذلك سميت أم الزحم.
والبركة: ثبوت. الخير في الشيء ثبوت الماء في البِرْكة.
وسميت البركة لثبوت الماء، وأصل الكلمة البرك، وبرك البعير
ألقى بركه وبُركاءُ
(2/727)
القتال ملازمته، وتبارك الله تخصُّص بلزوم
فعل الخيرات.
واختُلِف في بناء البيت، فقال مجاهد وقتادة: هو أول بيت بُني
في الأرض،
(2/728)
وقال عليّ: أول بيت وُضِع للعبادة، وهذا
الاختلاف لاختلاف
التقديرين في الآية، لأنه على الثاني: إن أول بيت وضع للناس
مباركاً وهدى للعالمين للذي ببكة، ثم اختلفوا في معنى
(أَوَّلَ). فمنهم من اعتبر ذلك بالشرف والمنزلة، فكأنه قيل:
أشرف بيت، وعلى ذلك قال مجاهد: هو كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ). ومنهم من اعتبر أوليته
بالزمان.
قال: أول
(2/729)
بيت بعد الطوفان، وهو الذي قال: (وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ). ومنهم من
قال: أول موضع اتخذته الملائكة قبلة
(2/730)
في الأرض، وروى في ذلك أخبارا، وهذا لا
يقتضيه الظاهر.
لأنه قال: (وُضِعَ للِنَّاسِ)، فخُص بالناس، وعلى هذا اعتبروا
(الْعَتِيقِ) في قوله: (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، ونبّه بقوله:
مباركاً، أن فيه ثبوت الخير والهداية، وأبهم هاهنا، ثم فسره
بما
بعده، واختلفوا في المقام، والأمن، فمنهم من حمل المقام على
المحسوس)، وقال: إنه أثر قدم إبراهيم على الحجر الصلد.
(2/731)
ومنهم من حمله على الأحكام، وقال: هو موضع
الطواف
والسعي وسائر أركان الحج، ولهذا قال: (آيَاتٌ)، ثم فسره
بمقام وإن كان لفظه مفردا، ومفهم من قال: الآيات هي
المعاني المضَمنة فيه التي يستدل بها العارف، والمقام ما
تخصَّص
به إبراهيم من الخُلَّة التي اكتسبها ببذل النفس والمال
والولد.
فعلى هذا قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) من العقوبة،
وقال
(2/732)
بعض الصالحين: كنت أطوف فخطر لي قوله:
(وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)
ترى من أي شيء يأمن؟ فسمعت هاتفاً يقول: من النار.
وقيل (كَانَ آمِنًا) من بلايا الدنيا وأعراضها التي
تصيب من قال فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
ومنهم من حمل: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) على الحكم.
ثم اختلفوا. فمنهم من جعله خبراً، وقال: معناه أن من
دخله كان آمناً، وذلك كان في الجاهلية، لأنه لم يكن يُتعرض
(2/733)
لجانٍ يلتجئ إلى الحرم بوجه حتى يخرج، وقال
الحسن
والأصمّ: من دخله يأمن الاصطلام، ومنهم من حمل ذلك
على التعبد، أي في حكم الله، وإن كان في نفسه وجلًا، كقولك:
هذا مباح، وهذا محظور، فعلى هذا من جعل الضمير في قوله:
(وَمَنْ دَخَلَهُ) للبيت قال: لا يتعرض له بوجه إلى أن يخرج،
ومن جعله
للحرم فمنهم من قال: من قَتَل في غير الحرم ثم دخله لم يقتصّ
منه
إلى أن يخرج، لكن لا يبايع ولا يواكل حتى يضطر إلى الخروج.
وقال الحسن: يقتص من الكل، وهذا كان حكماً في الجاهلية.
ولم يختلفوا أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذاً بجنايته، وعلى
(2/734)
قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) يحمل
قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)،
وقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ
وَأَمْنًا)،
(2/735)
وقوله: (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)،
وقُرئ (آيَةٍ بَيِّنَةٍ).
وكأن قارئه نظر إلى لفظ ما أُبدل منه، وهو مقام إبراهيم، فلما
كان
مفرداً جعل الآية مفردة، والصحيح ما عليه الكافة، فالمقام
(2/736)
فِيهِ آيَاتٌ
بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ (97)
مصدر، ويتناول الواحد والجمع، فإذا اعتبر
بالمحسوس فهي
المناسك، وإذا اعتبر بالمعقول فأفعال إبراهيم المتقدم ذكرها.
قوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
السبيل: إمكان الوصول إليه، كقوله تعالى: (فَهَلْ إِلَى
خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) والاستطاعة: استدعاء الطاعة، كان النفس
بالقدرة تستدير طاعة الشيء لها، والقدرة والطاقة، والاستطاعة
والجهد والوسع متقاربة، وقد
(2/737)
تقدم ذلك، وقولهم: لا يستطيع كذا. تارة
يقال لنفي القدرة.
وتارة لنفي الخفة، فإن قوله: (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أي
يستثقلونه، لا لأنهم لا يقدرون عليه، وتمام استطاعة العبادة
(2/738)
ثلاث: الأول: استطاعة نفسية، وهي المعرفة
بها، أو التمكن
من معرفتها.
والثاني: استطاعة بدنية، وهي أن يكون صحيح البدن قادراً على
إقامتها. والثالث: استطاعة من خارج، وهي وجود الآلة التي بها
يتمكن من فعلها، ومتى اجتمعت الثلاثة فقد حصل تمام الاستطاعة.
وإلا فالاستطاعة معدومة أو قاصرة.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الاستطاْعة: الزاد
والراحلة"
(2/739)
متناولة للخارجة دون البدنية والنفسيّة،
وخصّها - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لما كان معلوماً عندهم
أن بافتقاد الأوليين لا يُكلَّف.
وكأن القوم قد شكوا أن الفقير الذي تبعد مسافته، ولا يتمكن من
زاد وراحلة هل يلزمه الحج؟ فراجعوه، فبيّن - صلى الله عليه
وسلم - لهم ذلك، ولم تتناول الآية العبد، لأنه لا ملك له في
قول جُل الفقهاء، وفي قول بعضهم سيده أولى بما في يده، وله أن
يمنعه باتفاق، وكذا المرأة إذا لم يكن
لها محرم، هذا قول الفقهاء، فأما الصوفية فقد قالوا: الزاد
(2/740)
التقوى، لقوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
والراحلة صحةُ البدن، وقد عبر عن البدن بذلك في قوله: "إن
المنبّت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".
وقال بعضهم: فيه مع إرادة هذا المعنى تنبيه على معنى أبلغ من
ذلك البيت جنة المأوى،
(2/741)
لقوله: (ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي
الْجَنَّةِ) ولما لم يكن للإِنسان
سبيل إلى ذلك إلا بحسن، عبادته صار ذلك حقّا على الناس.
ولذلك أكَّد لفظه، وخصّه بما لم يخص به شيئاً من العبادات.
فقال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ).
وقال بعض الصوفية: في الحج إشارات اقتضت تأكيد لفظ الأمر به.
وذاك أن في العقد به إشارة إلى معاقدة الولاء المعني بقوله:
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، وبالتلبية إلى الإِجابة
له فيما دعا إليه، وبالتجرد إلى التجرد من
الدنيا، وأنه عاد كما خرج من بطن أمه، وبالوقوف إلى الوقوف
ببابه، وبالسعي إلى السعي إليه، وبالطواف إلى محلِّ القربة
منه، قال: ولذلك حقّ على المسلم أن يتغير حاله بعد حجه
عما كان عليه قبل، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من حج
فلم يفسق ولم يرفث كان كيوم ولدته أمه "، يعني لم يفسق ولم
يرفث بعد رجوعه من
(2/742)
الحج، ولم يعن في الحج، فإن ذلك مدلول عليه
بقوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي
الْحَجِّ).
وقوله: (وَمَن كفَرَ) قال ابن عباس: من كفر بوجوب الحج عليه،
وعلى هذا ما ورد أن رجلًا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
ذلك فقال: "مَنْ إن حج لم يَرجُ ثوابه، وإن جلس لم يخف عقابه "
وأما من تركه ممن يري وجوبه لم يكن كافرا
(2/743)
وإن كان عاصيا، وقيل: الكفر كفران: كفر
تام، وهو إنكار
الوحدانية، أو ما يجري مجراه، وكفر ناقص، وهو الإِخلال
ببعض العبادات، التي هي أركان الدين: كالصلاة والزكاة والحج.
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من ترك الصلاة فقد كفر"،
(2/744)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات
وعليه حج الإِسلام فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديًّا وإن شاء
نصرانيًّا".
وإنما قال: (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) تنبيهاً أن قوله:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) ليس لحاجة به، وإنما ذلك
(2/745)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
لحاجتهم ونفعهم، إذ هو تعالى الغني المطلق،
وغيره وإن استغنى عن شيء
ما فغير غني عنه تعالى في شيء من الأحوال، وهو القائم على كل
شيء.
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
(98)
الذي اقتضى مخاطبتهم بهذا إنكارهم نبوة محمد، ووجوب الحج،
والآيات المقتضية لذلك من الكتب المتقدمة ومن القرآن، وبين
بقوله: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) أنكم تسترون
ما لا يستتر، إذ هو لا يخفى عليه خافية.
إن قيل: لم قال في موضع: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) وهاهنا قال:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ)؟
قيل: الأول استدعاء إلى الحق فجعل خطابهم منه استلانة للقول،
ليكونوا أقرب إلى انقيادهم، وهاهنا لمّا قصد إلى الغض منهم ذكر
(قُلْ) تنبيهاً
أنهم غير مستأهلين أن يخاطبهم بنفسه تعالى، وإن كان كلا
(2/746)
الخطابين موصلًا على لسان النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
إن قيل: لِمَ صار أهل الكتاب يطلق في القرآن تارة على سبيل
الذم، وتارة على سبيل المدح، ولا نجري قولنا: أهل القرآن وأهل
السنة هذا المجرى؟ قيل: الكتاب لما كان قد يراد به ما افتعلوه
دون ما أنزل الله نحو: (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ)، وقد يُراد به ما أنزل الله تعالى، فيكون على
سبيل الذّم لأهل الكتاب، وقد يُراد به ما أنزله الله، ويكون
على سبيل التهكم، نحو قوله:
(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) فعلى هذا لو قيل:
أهل القرآن
وأهل السنة على سبيل الذم والتهكم لجاز، وقوله: (لِمَ) وإن كان
أصله
استفهاماً فالقصد به هاهنا الإِنكار والتنبيه؛ أن لا جواب لهم
ولا عذر.
(2/747)
قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا
عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ (99).
يقال: بغيته كذا أي طلبته له، وأبغيته أعنته على بُغَائه، نحو
لمسته كذا
وألمسته، وحملته كذا وأحملته، والعِوج ما يدرك بالفكر من
الاعوجاج.
والعَوج ما يدرك بالطَّرف، وقوله: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا
وَلَا أَمْتًا).
يعني الظلم وما يجري مجراه مما يكون في الدنيا،
(2/748)
ومعناه لا تصُدّوا المؤمنين طالبين لطريقهم
الإِعوجاج.
وقوله: (وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) الشهادة تارة بالعقل نحو (أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)
أي عارف بعقله، وتارة بالعقد، نحو قوله: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وتارة بإقامة ذلك، وقد فُسّر
الآية
(2/750)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ (100)
بثلاثتها؛ فقد قيل: وأنتم عقلاء تعرفون ذلك
بعقولكم.
قيل: وأنتم قد أخذ عليكم العهد بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ)
قيل: وأنتم شهدتم نبوته قبل بعثته، وكل ذلك مراد فلا تنافي
بينها.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا
فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
قال السديّ: نزلت في قوم من اليهود، سعوا بين أوس وخزرج
بالفساد، وذكّروهم من الأحقاد والأوتار)، فأنزل الله تعالى
ذلك، وتلاه عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحجموا عما
هَمّوا
(2/751)
به، والطاعة: بذل الانقياد والإِجابة
نحوها، غير أن الإِجابة قد
تكون بالقول مرة وبالفعل مرة، ومتى كانت بالفعل فهي موافقة
الداعي
دون الانقياد، ولهذا يقال: أجاب الله عبده، ولا يقال أطاعه،
وإنما
خص فريقاً منهم لئلا يدخل فيه من قال فيهم:. (مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ
اللَّيْلِ)، وعنى بالإِيمان هاهنا الخوض فيه
دون استكماله المعني بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، فإن من
بلغ هذه المنزلة فمحال أن يُردّ على عقبه، ولهذا
قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق.
(2/752)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ
وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ
رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ
وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ
رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
العصم والعصب يتقاربان، لكن العصم أبلغ، فإن معه الشدّ إمساكا،
والأعصم: الوعل المعتصم بالجبل، والعِصَام على بناء الزمام
والسِّخَاب، وجمعه عُصُم، واعتصمت به واعتصمته نحو تعلقت به
وتعلقته،
(2/753)
والعصمة من الله على ثلاثة أضرب: عامة لكل
مكلف، وهي ما
يفيض له من العقل، وهدايته بالأمر والنهي والوعد والوعيد.
والثانية: لمن اهتدى بالأولى، وهي التي يرغب كل مؤمن أن
يجعل الله له منها حظًّا. وإياها قصد بقوله: (وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
والثالثة: للأنبياء وكيفيتها مختلف فيها.
والاعتصام، والتفويض، والتوكل، والإِسلام - أي الاستسلام -
مترتب بعضها على بعض، فالاعتصام قبل التفويض.
والتفويض قبل التوكل، لأن معنى فوضت أمري إلى فلان، أي
جعلت له الفوض فيه، ومعنى توكلت عليه: اعتزلت، وجعلته
المعتمد، وأما الإِسلام فغايته ما كان من إبراهيم عليه السلام.
حيث قال: (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، ولكون الاعتصام
أول منزلة من هذه المنازل.
قال بعض الصوفية: الاعتصام
(2/754)
للمحجوبين (1)، فأما أهل الحقائق فهم في
القبضة (2)، واستبعد
__________
(1) المحجوبون: عند الصوفية هم من احتجبوا عن قرب الله بسبب من
الأسباب. وعند غلاتهم: المحجوبون هم العامة. انظر: مدارج
السالكين
(1 282)، والمعجم الصوفي ص (74).
(2) لم يبين الراغب رحمه الله قائل ذلك، ويبدو أنه أحد غلاة
الصوفية، لأن كلامه مخالف لقوله تعالى في هذه الآية: (وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ)، فالله تعالى أثبت له الهداية، وذاك جعله مع
المحجوبين.
غير أن مصادر التصوف التي بين يدي ليس فيها شيء من تنقص تلك
المنزلة، فهذا ابن عربي يفول: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ)
بالانقطاع عما سواه والتمسك بالتوحيد الحقيقي (فَقَدْ هُدِيَ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ الصراط المستقيم، هو طريق الحق
تعالى، كما قال: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
ثفسير ابن عربي (1/ 122).
وقال القشيري: إنما يعتصم بالله من وجد العصمة من الله، فأما
من لم يهده الله فمتى يعتصم بالله؟ فالهداية منه في البداية
توجب اعتصامك في النهاية، لا الاعتصام منك يوجب الهداية. لطائف
الإِشارات (1/ 277، 278).
أما الهروي فقد قسم منزلة الاعتصام إلى ثلاث مراتب:
قال: "وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر، استسلاما
وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد، وتعظيم الأمر والنهي، وتأسيس
المعاملة على اليقين والأنصاف.
واعتصام الخاصة: بالانقطاع، وهو صون الإِرادة قبضا، وإسبال
الخلُق بسطا، ورفض العلائق عزما، وهو التمسك بالعروة الوثقى.
واعتصام خاصة الخاصة بالاتصال، وهو شهود الحق تفريدا، بعد
الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا، مدارج السالكين (1 498
- 551). فكلام الهروي هنا يدل على
تعظيم جميع مراتب الاعتصام لمان كان بعضها أفضل من بعض بخلاف
كلام من ذكره الراغب، فإنه غض من شأن تلك المنزلة وجعلها
للعوام المحجوبين الذين لم يصلوا إلى مرتبة أهل الحقائق.
(2/755)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
الله تحولهم مع ظهوو الآيات التي هي
المعجزات العقلية، وكون الرسول
الشاهد فيما بينهم الذي يظهر من العجزات المحسوسة.
وقيل: معنى قوله: (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي دلائله لا ذاته،
فعلى هذا خطاب لمن في زمانه، ولمن بعده.
وقوله: (فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي الطريق
المسئول
أن يهدينا إليه في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ).
والمدعو إليه بقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ).
والمأمور به في قوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
(102)
(2/756)
التقوى: أن تجعل بينك وبين المعاصي ما يصير
واقياً
لك عن تعاطيها، فتصير واقيا لك في الآخرة عن العذاب.
وقال بعض الناس: التقوى من ثلاثة أوجه: تقوى من غرور
الدنيا، والتقوى من النفس، والتقوى من الله.
وكل واحد منها على ثلاث منازل:
أما التقوى من الدنيا فأن تتقي محرماتها، ثم شبهاتها.
ثم الزهد في مباحاتها.
وأما التقوى من النفس فأن تتقي أولاً عقوبته.
ثم استدراجه نحو: أن يملي للعبد ويوسع عليه فيغتر به.
ثم حجابَه، نحو: أن يسأله العبد
(2/757)
فتتباطأ إجابته فيعيرّ ذلك قلبه، فمن
استكمل هذه المنازل فقد اتقى الله حق.
تقاته، وحرر ذلك بعض الصوفية على وجه آخر.
وقال: التقوى على ثلاث منازل: تقوى العقوبة بالصبر عن المعاصي.
وإياه قصد بقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ).
وتقواه بشكر آلائه، وإياه قصد بقوله: (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص
لفظ الرب المنبئ عن تربيته إياه ونعمته عليه، وتقواه برؤية
وحدانيته من غير تلفّت ثواب أو عقاب، وإياه قصد بقوله:
(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) قال: ولهذا حيث ما ذكر
(اتَّقُوا اللَّهَ) خص المؤمنين بالمخاطبة، وحيثما ذكر
(اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خص الناس الذي هو أعم اللفظتين.
وتقسيم التقوى على ئلاث منازل هو على حسب الظالم
(2/758)
والمقتصد والسابق، وقوله: (حَقَّ
تُقَاتِهِ) حثٌّ أن يبلغ
الإِنسان في ذلك مبلغ السابقين، قال عبد الله والحسن وقتادة:
هو
أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
(2/759)
وقال قتادة والربيع: الآية منسوخة بقوله:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
وقال غيرهما: بل معناهما واحد، فإن حق التقوى
هو التقوى على حسب الاستطاعة، واستدل بما روى
(2/760)
معاذ قال: أردفني رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، وقال: "هل تدري حق الله على العباد؟
" قلت: الله أعلم ورسوله، فقال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به
شيئاً".
ثم قرأ: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)،
(2/761)
ومن قال: هذا منسوخ تصور من قوله: (حَقَّ
تُقَاتِهِ) غاية الجهد من
العبد، وإن (مَا اسْتَطَعْتُمْ) هو قدر العفو، فصار مقتضى ما
استطعتم
أخف من مقتضى حق تقاته، واستقبح أبو علي الجبّائي قول من
قال: الآية منسوخة، وقال: هذا جهل، لأنه لا يجوز أن يبيح الله
للناس أن يفعلوا بعض المعاصي وهذا تصور له وقع من قلة التثبت.
فقد عُلِمَ أن فعل ما حظر الله في الشرع معصية ما دام الحظر
قائماً.
كتحريم الأكل والجماع بعد النوم في الصوم، ثم لما زال الحظر
زال
كونه معصية. فكذا تقوى الله بغاية ما بلغه الجهد لا يُمنَع أن
(2/762)
تُوجَبَ في وقت، فيكون تركها معصية، ثم
يقتصر من الناس علي
مقدار الوسع، فلا يكون ترك الجهد معصية.
وقوله: (وَلَا تَمُوتُنَّ) حث على الاستسلام قبل الموت.
وإن كان لفظه نهياً عن الموت كقولهم: لا أرينك هاهنا.
إن قيل: هل بين قولك: لا تموتن إلا مسلما، وقولك: إلا وأنت
مسلم فرق؟
قيل: قولك مسلماً يقتضي ظاهره أن يكون الإِسلام مقترنا به
الموت، لا متقدمًا
(2/763)
وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ
فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
عليه ولا متأخراً عنه، وقولك: وأنت مسلم
الأظهر منه أن
يكون ذلك حاصلًا من قبل، ومستصحباً في تلك الحال.
قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى
شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(103).
حبل الله: هو الذريعة المتوصل بها إليه من القرآن والنبي
والعقل والعلم، والاعتصام ضربان: اعتصام بالله بلا واسطة
بشرية، وذلك للأنبياء، واعتصام بواسطة بشرية، وهو بمنزلة
غيرهم من الناس، ثم منهم من يتوصل إليه بواسطة واحدة من
(2/764)
الوسائط، كالصحابة والأولياء والحكماء،
الذين لم يأخذوا
الدين بالتقليد، ومنهم من يحتاج مع ذلك إلى من يعتمده في
كثير من دينه، وإلى هذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم -
بقوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ".
إن قيل: لِمَ قال أولاً: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ)، ثم
قال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)
وجعل بين الكلمتين و (اتَّقُوا اللَّهَ)؟
قيل: لما كان القصد في
(2/765)
عبادة الله إلى الاعتصام به ولا سبيل إلى
ذلك إلا بالتقوى عقبه
بقوله: و (اتَّقُوا اللَّهَ)، ولما كان حقيقة التقوى فعل
الطاعات.
ولا سبيل للإِنسان إلى معرفة ذلك إلا بحبل الله: أي كتابه
ورسله
أمر أن يعتصموا بحبله ليتوصلوا إلى تقواه، ومن تقواه إلى
الاعتصام به، ومن توصل إلى الاعتصام، ثم إلى التوكل، ثم إلى
الإِسلام استغنى حينئذ عن الوسائط، الذين هم حبل الله، ويصير
(2/766)
ممن قال - صلى الله عليه وسلم - فيه حكاية
عن الله: "فإذا أحببته كنت سمعه "، الخبر.
(2/767)
وقوله: (وَلَا تَفَرَّقُوا) حث على الألفة
والاجتماع، الذي هو
نظام الايمان واستقامة أمور العالم، وقد فضل المحبة والألفة
على
الإِنصاف والعدالة، لأنه يحُتاج إلى الإِنصاف حيث تفقد المحبة.
ولصدق محبة الأب للابن صار مؤتمنا على ماله، والألفة أحد ما
شرف الله
به الشريعة سيما شريعة الإِسلام، ولهذا قال: (لَوْ أَنْفَقْتَ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
وقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وقال -
صلى الله عليه وسلم -: "لا تقاطعوا ولا تدابروا، وكونوا عباد
الله إخواناً"،
(2/768)
وقال: "من شذَّ شذَّ في النار".
ولطلب الألفة شُرع الاجتماعات في المساجد والجمع والجماعات
والأعياد.
وقوله: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي
على ما يؤدِّيكم إلى
النار، وهو خطاب عام للمسلمين كافة، وإن كان قد جعله
بعضهم خاصًّا للأوس والخزرج على ما تقدم ذكره، وبعضهم
(2/769)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
جعله للعرب، وأنهم كانوا في شدة وعُري وجوع
وتقاتُل
بينهم، فأزال الله تعالى عنهم ذلك بالإِسلام، وقد تقدم الكلام
في قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
المعروف: ما يستحسنه العقل ويرد به الشرع.
والمنكر: ما يستقبحه العقل
(2/770)
ويحظره الشرع، وعلى ذلك يقال للسخاء
المعروف في نحو
قول الشاعر:
ولم أرَ كالمعروف أمّا مذاقه. . . فحلو وأمّا وجهه فجميل
ويقال لهما: الحق والباطل، والحسنى والسوءى، والصلاح
والفساد، والجميل والقبيح، وإنما اختلفت العبارات في ذلك
بحسب اختلاف العبارات.
واختُلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل ذلك واجب على
كل إنسان أو على بعضهم دون بعض، فمنهم من جعله واجباً على
العموم، وقال: إن مِنْ في
(2/771)
قوله (مِنْكُمْ) للتبيين، كما في قوله:
(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)
وقال: لأن حق الناس كلهم أن يكونوا خلفاء الله
في أرضه، وسُوَّاساً لبعض خلائقه، لكن السياسات ثلاث:
سياسة الإِنسان نفسَه، وسياسته أهلَه وما يخصه، وسياسته بلده
وصُقْعه، فسياسة البلد والصُّقع من وجهٍ إلى الأئمة، وهو أخذهم
الناس بالقهر، ومن وجه إلى الحكماء والعلماء. - فقهائهم
ووعظتهم -
وهو أخذهم بالوعظ، وكل ذلك فرض على الكفاية.
وأما سياسةُ الإِنسان نفسه فواجب على كل مكلف على التضييق.
وكذا سياسة الأهل واجبة على من يملكه، ومنهم من جعل ذلك فرضاً
على
(2/772)
الكفاية، واستدل عليه من الآية بقوله:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)،
وذلك يقتضي التبعيض، واعتبر ذلك في سياسة
(2/773)
الإِنسان لغيره دون سياسته نفسه، وأجرى ذلك
مجرى الجهاد
وطلب العلم، وهذا أقرب على اعتبار الفقهاء، والأول أعم على
اعتبار الحكماء، والذي تستحق به العقوبة هو ترك ما يلزم من
حق غيرهم، وإياه قصد بقوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) إلى قوله (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ
عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)، وخصّ تركهم النهي عن المنكر دون
الأمر بالمعروف، فإنه أعظم الأمرين إثماً، وأوكدهما وجوباً،
ففعل المعروف ليس بواجب على كل أحد، وترك المنكر واجب على كل
حال.
ثم إنكار المنكر ثلاثة أضرب:
إنكار باليد، وإنكار باللسان، وإنكار بالقلب.
على حسب ما رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من رأى منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيره بيده، فإن لم
يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإِيمان "،
(2/774)
فقيل: إن الأول للسلاطين، والثاني للعلماء،
والثالث للعوام.
فإن قيل: كيف حثَّ هاهنا على الأمر بالمعروف،
(2/775)
وقال في غيره: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)؟
قيل في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قولان: أحدهما:
إن ذلك حثٌّ على أن يغيّر الإِنسان على نفسه قبل أن ينكره على
غيره، وهو خطاب للعامة.
والثاني: ما قال أبو ثعلبة الخشني، وقد سئل عن هذه الآية فقال:
سألت عنها خبيراً، لقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقال: " ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر،
(2/776)
فإذا رأيت شحًّا مطاعاً، وهوى متبعًا،
وإعجاب كل ذي رأي
برأيه، فعليك نفسك، ودع عنك العوام ".
وجعل تعالى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم المفلحون،
لأن
من تولى إصلاح نفسه، ثم صلاح غيره بغاية وسعه، فقد زكى
نفسه، وزكى غيره، وقد قال تعالى فيمن يهذب نفسه: (قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)، وقد تقدم أن الفلاح الحقيقي هو
البقاء الأبدي والنعيم السرمدي.
(2/777)
وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
(105)
قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
التفرّق على ثلاثة أضرب:
تفرّق بالأبدان، وتفرّق بالأقو ال والأفعال، وتفرّق
بالاعتقادات.
وكذلك الاختلاف؛ إلا أن الأظهر في الاختلاف أن
يكون بالأقوال والأفعال والاعتقادات، وفي التفرق أن يكون
بالأبدان، وذكر تعالى اللفظين، ليبين أن أهل الكتاب تجادلوا
بكل ذلك، وعلى هذا قال ابن عباس والربيع: تفرّقوا واختلفوا
في أحكام مبتدعة وأهواء متبعة بعد أن كانوا إخواناً، وإن من
كان قبلهم هلكوا بالمراء والخصومات، ثم ذكر ما لهم من عظيم
(2/778)
العذاب في الآخرة بالنار الدائمة، وفي
الدنيا بمحنها ونُوبها.
ونبه بقوله: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) أن سبب
استحقاقهم
العذاب افتراقهم واختلافهم، تنبيهاً أنكم إن فعلتم فعلهمْ
استحققتم العذاب استحقاقهم.
إن قيل: كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"الاختلاف في أمتي رحمة" مع ما ذكر من ذم الاختلاف؟
(2/779)
قيل: الاختلاف ضربان: اختلاف في الأصول
الجارية من الطرق
مجرى طريق الشرق من طريق الغرب، وذلك هو المذموم، فإن
ما عدا الجهة المأمور بسلوكها مؤد إلى الباطل. وإلى هذا يوجه
قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ).
والثاني: اختلاف في الفروع الجارية من الطرق مجرى بنيات طريق
إلى مقصد واحد يسلكها، كل على حسب اجتهاده، ومقصد جميعهم واحد،
فإن إباحة الله سلوك كل واحد من تلك الطرق فسحة لهم ورحمة،
وإياه قصد بقوله:
(2/780)
يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ
وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا
الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ).
قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (106)
ابيضاض الوجه عبارة عن المسرة، واسودادها عن الغم.
وعلى ذلك (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا)، ثم قال: (مِنْ سُوءِ
مَا بُشِّرَ بِهِ).
(2/781)
وعلى ذلك قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْهَا غَبَرَةٌ).
وهذا الابيضاض والاسوداد أبلغ من المحسوسين.
وقال بعض المتكلمين: يحمل ذلك على المحسوس.
لكونه حقيقة فيه، وهذا خطأ، وذلك لأنه لم يعلم
أن ذلك حقيقة فيهما جميعاً، فليس الاسوداد والابيضاض
أكثر من كيفية عارضة في الوجه، قلّ ذلك أم كثر،
(2/782)
ومعلوم أن من ناله غمّ شديد يعرض لوجهه -
لتبرّمه وتكدره -
اسوداد في وجهه، وليس قلّة السواد والبياض مما يخرج اللفظ
عن الحقيقة، ثم حمل الآية على هذا أولى، لأن ذلك حاصل لأهل
القيامة باتفاق، سواء كانوا في الدنيا سودانا أو بيضانا، وعلى
ذلك (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) وقوله: (وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ).
وأما كفرهم بعد إيمانهم فقد قال الحسن: بعد إظهارهم الإِيمان
بالنفاق)، وقال قتادة: كفروا بالارتداد بعد
(2/783)
الإسلام، وقيل: بعد الإِقرار الذي اقتضاه
قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
وقيل: كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أقرّوا به
قبل
بعثته، وعموم اللفظ يقتضي كل ذلك، ولا تنافي بينها.
وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) تقديره: فيقال لهم: أكفرتم؟، وحذف القول
من نحو ذلك كثير نحو: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي
غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ).
وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو
رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا
وَسَمِعْنَا)
(2/784)
أي يقولون، ولما حذف الفعل حذف معه الفاء
الذي يكون جواب أما، ويوم ظرف لقوله عظيم، ولا يكون
عند البصريين ظرفاً لقوله عذاب، لأن الاسم إذا وُصِف لا يعمل
عندهم.
إن قيل: لِمَ كرر لفظة (فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ)؟
قيل: قال بعض النحويين: إن ذلك للتأكيد.
وتمكين المعنى في النفس، وقيل: (قوله: (فَفِي رَحْمَةِ
اللَّهِ) تمام
الكلام، و (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تنبيهاً أن ذلك لهم مؤبدا،
(2/785)
وقيل: قوله: (هُمْ فِيهَا) راجع إلى مقتضى
قوله: (ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهو المسرة، تنبيها أن تلك
المسرة دائمة لا كمسرّات الدنيا التي تنقطع.
وإن بقيت أسبابها. فأحوال الدنيا وإن كانت سارة متبرم منها
بدوامها.
ولهذا قيل: لَلعافية تمُل أكثر مما يُملُّ البلاء.
إن قيل: المقابلة في الاثنين غير صحيحة، فإن التقابل الصحيح أن
يكون المذكور في الثانية عكس المذكور في الأولى، وليس قوله:
(فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) عكسا لقوله:
(أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)؟
قيل: مراعاة التقابُل على ضربين: تقابل اللفظ، وتقابل المعنى.
وهو أفضلهما عند أصحاب المعاني.
فالتقابل حاصل من حيث المعنى، وعدل عن لفظ الخبر في قوله:
(أَكَفَرْتُمْ) وقوله: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ) إشارة إلى ما
يقال لهم،
(2/786)
ونبّه أنهم يُقابلون مع العقوبة بالتبكيت،
وقد قيل: التبكيت
أعظم العقوبتين، وأن يقال لهم: (ذوقوا)، وذلك دلالة على مبالغة
الغضب عليهم.
إن قيل: كان الوجه أن يقال: ألستم قد كفرتم؟
فلفظ الاستفهام في القرآن محمول على الإِنكار، والإِنكار متى
تجرد
عن حرف النفي يكون للنفي نحو قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ) وإذا
كان للإِثبات قرن به حرف النفي؟
قيل: الألف في الأصل للاستخبار، والاستخبار أعمّ من الاستفهام.
وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً.
والمستخبر قد يقصد إلى أخذ إقرار المستخبر أو إلى إلجائه إلى
الإِقرار بما ينكره، وقوله: (أَكَفَرْتُمْ) استخبار على هذا
الوجه، وتقريع لهم، وعلى ذلك
(2/787)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعَالَمِينَ (108)
قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ
مِنَ الْعَالَمِينَ).
قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ
(108)
قال الفراء: معناه هذه آيات الله، وقد تقدم الكلام في
قوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)، وآيات الله يصح
أن تكون
الكتاب، وأن تكون جميع الآيات المسموعة والمعقولة مما يظهره
الله.
ويكون معنى (نَتْلُوهَا) نُبينُها بوجوه التبينات،
(2/788)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (109)
قوله: (بِالْحَقِّ) أي الحق يقارنه، أو هو
الحق، وفي قوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا) تنبيه على
اعتبار ما تقدم ذكره لما اقتضى عدله في معاقبة الكفار.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قد تقدم تفسير ذلك، ونبه بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ) على شيئين: أحدهما: إبطال قول من زعم أن الأشياء
تبقى عناصرها فلا تفنى.
والثاني: على أنه يصحُّ أن يتوهم ارتفاع الأمور كلها مع بقائه
تعالى.
وأنه لا ينكر عدمها انتهاءً، كما لا يُنكر ذلك ابتداءً.
إن قيل: وما وجه إيراد هذا القول
(2/789)
كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ
آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
في هذا الموضع؟
قيل: إنه لما بيّن تعالى ما اقتضى عدالته وعقبه
بذكر التبرؤ من ظلمهم بيّن بهذا القول استغناءه عن الظلم، وأن
الظلم يتحرّاه من يروم ما لغيره، ومحال أن يُعتقدَ في مالكِ
الكلِّ
ومن منه البدءُ وإليه العودُ الظلمُ.
قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
إن قيل: لمَ قالْ: (كُنْتُمْ) ولم يقل: أنتم؟
قيل: في ذلك أجوبة: الأول:
كنتم فيما قضيت وقدرت وبنيت عليه الشرائع خير أمة بشريطة
أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله)،
(2/790)
فقد تقدم إن هذه الشريعة أكمل الشرائع،
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
"أنتم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى".
والثاني: أن الإِشارة بذلك إلى من آمن بالنبي - صلى الله عليه
وسلم - في ابتداء الإِسلام، وإلى هذا ذهب عمر، وقال: هذا
لأولنا، ولو شاء الله لجعله لآخرنا أيضاً.
فقال: أنتم، فكنا كلنا أخيارا.
ويؤكّد ذلك ما روي
(2/791)
عن عبد الله قال: جمعنا رسول الله، ونحن
أربعون رجلا، فقال:
"إنكم منصورون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك منكم فليأمر
بالمعروف ولينه عن المنكر".
الثالث: أن ما تشارك فيه الأحوال الثلاث: الماضي والحال
والمستقبل.
لا فرق بين أن تقول: كنت كذا أو أنت كذا، لأن القصد ليس إلى
تخصيص الزمان، بل إلى ذكر ثبوت ذلك الشيء، وأيًّا من ذلك ذكرت،
فإنه لا يقتضي من حيث اللفظ نفي الآخر، وإذا كان كذلك كان أولى
الألفاظ بمثله: كان، لأنه يقتضي الحصول، ولا يقتضي تغيير ذلك
الشيء من حيث
اللفظ، وإذا أورد تعالى جل أوصافه على ذلك، نحو (وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وقيل: (كُنْتُمْ) في اللوح
(2/792)
المحفوظ، وهذا كالأول.
إن قيل: لأي شيء وصفهم بأنهم خير أمة.
وقد علم أن أشرار الناس في هذه الأمة أكثر من
الأخيار، وأن كثيراً من الأمم المتقدمة كانوا حْيراً من كثير
هذه الأمة؟
قيل: ليس الاعتبار بأشخاص الناس، وإنما الاعتبار بما
صارت الأمة به أمة، والشريعة به شريعة، وقد تقدم أن هذه
الشريعة أفضل الشرائع إذا اعتبرت بها، على أنه قد قيد
فقال: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)، أي أنتم خير أمة على هذه
الشريطة لأن قوله: (تَأْمُرُونَ) في موضع الحال.
(2/793)
قال ابن عباس ومجاهد وأبو هريرة: كونهم
خيرا هو أنه لم
يؤمر نبي قبله بالقتال، وقهر الناس على الدخول فيما فيه
صلاحهم إلا هذه الأمة، فإن الله يقودهم بالسلاسل من
الكفر إلى الإِيمان، وقال غيرهم: لم يكن في أمة من الآمرين
(2/794)
بالمعروف، والناهين عن المنكر أكثر مما في
هذه الأمة.
إن قيل: لم أخَّر الإِيمان بالله عن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر؟
(2/795)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ
ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
قيل: الإِيمان هاهنا ليس هو الإِقرار بالله
فقط، بل هو الوفاء
بشروطه والقيام بشرائعه، الذي هو تمام الإِيمان وكماله
على ما ذكرناه فيما تقدم، وقال: (وَأَكْثَرُهُمُ
الْفَاسِقُونَ)
فقابل به المؤمنين، لأن الفسق أعم من الكفر، فبيّن أن
المؤمنين المخلصين قليل جدًّا، وأن أكثرهم فاسق: إما كافر.
وإما منافق.
قوله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ
يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يُنْصَرُونَ (111)
قال ابن عباس والحسن: عنى بالأذى الكلام المؤذي.
وجعل بعضهم الآية مخصوصة
(2/796)
في بني قريظة، قال: ووحد المخبر على ما
أخبر به تعالى، وجعلها
بعضهم عامة، وقال: إن كان ما ينال المؤمنين من الكفار كلاما
كان أو قتالاً فهو أذى عارض (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)،
كما
قال في غير موضع.
وقوله: (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ) لم يجزمه، لأنه إذا جُعِلَ
جواباً اقتضى أن النصرة عنهم ممنوعة في حال المقابلة فقط،
(2/797)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ
وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا
يَعْتَدُونَ (112)
وإذا رُفِعَ اقتضى أنهم ممنوعون عنها في كل
حال.
وقال بعض النحويين: رفع ذلك ليكون كماخر سائر الآيات المتقدمة.
وهذا القول هو بحسب مراعاة اللفظ دون المعنى.
قوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا
ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ
وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
قيل: هي مخصوصة في بني قريظة على ما تقدم.
وقيل: هو أمر وإن كان لفظه خبراً، فأمر بتذليل أهل
الكتاب، وأخذ الجزية منهم على ما ذكره الفقهاء وبينوه.
وقيل: هو خبر عام عن جميعهم.
فإن قيل: كيف يصحُّ ذلك
(2/798)
مع أنه قد يُرى من أهل الكتاب من لا يكون
في مذلة ولا فقر.
قيل: المذلّة هي التي تلزمهم ليس يجب أن تُعتبر في الأشخاص.
ولا في الأعراض الدنيوية من الجاه والمال، بل يجب أن يُعتبر
ذلك
بالأحوال الشرعية، والعز والذل الحقيقيين، اللذين يقتضيهما
الدين.
وإياه قصد بقوله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)
وقد قيل: كل عز مصيره إلى ذل فهو ذل، وما يتصوره بعض الناس
عزًّا من غرور الدنيا فهو المذلة عند التحقيق.
وكذلك المسكنة ليست قلة المال، وإنما هي الحرص، وفقر النفس.
ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"الغنى غنى النفس "
(2/799)
وقيل لحكيم: هل لفلان غنى؟
فقال: أما الغنى فلا أدري، إلا أن له مالا كثيراَ.
وقال الشاعر:
. . . قد يكثر المال والإِنسانُ مفتقر.
وقيل: إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم، كقوله تعالى:
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وقوله: (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ)، وهذا في الحقيقة يرجع إلى الأول، فالدعاء من
الله واجب.
إن قيل: لم قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ
النَّاسِ)
فأعاد ذكر الحبل، وفصل؟
قيل: لأن الكافر يحتاج إلى حبلين أي عهدين، عهد من الله.
وهو أن يكون من أهل كتاب أنزله الله، وإلا لم يكن مقرًّا على
دينه بالذمة، ثم يحتاج إلى حبل من الناس،
(2/800)
أي أمان وعهد يبذلونه على ما بيّنه
الفقهاء.
والناس هاهنا خاص للمسلمين، وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ
اللَّهِ)
أي استحقوا عقابا منه، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي نالهم
ذلك بكفرهم.
وقوله من بعد: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) قيل: هو بدل من الأول.
فإن كفرهم ليس هو إلا عصيانهم، واعتداؤهم.
وقيل: بل جعل الكفر علّةً لما نالهم من الذِّلة والمسكنة.
وجعل عصيانهم علة لكفرهم، وذلك أن الذنوب الصغائر
إذا استمر عليها الإنسان أفضت إلى الكبائر.
والكبائر تفضي إلى الكفر، ولهذا قال
(2/801)
تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ
أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الذنب على الذنب حتى يسودّ
القلب ".
وفي قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا) تحذير لنا وتنبيه، كأنه قال:
اجتنبوا
المعصية، وهي التي أدّت بهم إلى الكفر المقتضي لعظم العقوبة
إن قيل: كيف قال: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ)، ولا يصح في
الإِثبات
أن يقال: اعتصمت إلا بحبل فلان، والاستثناء في الإِثبات لا
يكون
إلا من لفظ عام؟
قيل: إن قوله: (أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) مقتض لمعنى
(2/802)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ
آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
العموم، كأنَّه قيل: بكل حال، فيصح أن
يقال: إلا بحبلٍ.
قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ (113)
الأمّة: الجماعة، وقد تقدم.
وجعلها الزجاج هاهنا الاستقامة.
وقال: تقديره: ذوو طريقة مستقيمة، والأول أولى.
لأنه لا يحتاج فيها إلى إضمار.
والقائمة: العادلة،
(2/803)
وقال مقاتل: مطيعة، وقال بعضهم: مسلمة،
وهذا
كلة واحد، فإن العادل لا يكون عادلا حتى يكون مسلما مطيعا.
والمطيع لا يكون مطيعا حتى يكون مسلما عادلا.
والآناء: جمع إنْي كانحاء في جمع نِحْي، وقيل: هو جمع إِنى نحو
مِعًا وأمعاء.
وقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً) كلام تام أي لا يستوون.
ثم قال: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ) أي منهم أمة قائمة.
وقال بعضهم: تقديره:
(2/804)
أي ليسوا سواء هم وأمة قائمة، يعني أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهب ابن مسعود، وقال: لا
يستوي أهل الكتاب، وأمة محمد.
وقال الفراء: ذكر أمة قائمة، وحذف الأخرى كقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فما أدري
أرشد طلابها
وتقديره: أم غي، وما قاله إنما يصح إذا جعل (أُمَّةٌ) بدلاً
(2/805)
من الضمير في (لَيْسُوا)، أو جعل الواو فيه
كالواو في أكلوني
البراغيث، ويجعل (أُمَّةٌ) اسم ليس، وتكون المفاضلة
بين أمة قائمة وأمة غير قائمة.
وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ)
قيل: عنى به صلاة العتمة، لأنها لم تكن إلا لهذه الأمة.
واستدل بما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخْر صلاة
العشاء
ليلة، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرونه.
فقال: "إنه ليس أحد من أهل الأديان يذكر الله في هذه الساعة
غيركم ".
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: عنى الصلاة بين
(2/806)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
العشائين، وقيل: تلاوة القرآن بينهما،
والسجود.
قيل: عبارة عن الصلاة.
وقوله: (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ)
كلاهما في موضع الصفة لـ (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ).
قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ (114)
(2/807)
ذكر تعالى حال الأمّة التي تقدم ذكرها،
وابتدأ بذكر الإِيمان بالله.
وعنى الإِيمان الذي لا تصحُّ عبادة من دونه.
والمسارعة والمبادرة والعجلة تتقارب، لكن السرعة أعمها
والمبادرة لا تكاد تستعمل إلا في البدن، والعجلة أكثر ما
تستعمل فيما يتحرى عن غير فكر ورويَّة، أو في إمضاء العزيمة
قبل استكمال الروية، ولهذا يقال: "العجلة من الشيطان "،
(2/808)
وقال تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)
فإن قيل: لو كانت مذمومة لما قال موسى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضَى).
قيل: موسى عليه السلام أورد ذلك على سبيل الاعتذار إبانة أنه
قصد فعلا محمودا، وإن تحرى العجلة فيه، ومن قصد فعلا محمودا
فقد يعذر في وقوع ما يكره منه، والمسارعة في الخير هي أن يتدرج
الإِنسان في ازدياد العرفة بفضله، واختياره والسرور بتعاطيه،
وتقديمه على الأمور الدنيوية، وأن لا تؤخره عن أول وقت إمكان
فعله وعلى ذلك قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ)، ومدح تعالى قوماً فقال: (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ).
أي يسابقون بهممهم وأبدانهم، فلذلك كرره، ولمراعاة
المسارعة وكون بعض المسارعين أعلى منزلة من بعض،
(2/809)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
(115)
قال تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ
اللَّهِ)، وبين تعالى في آخر الآية أن
فاعل ذلك من الصالحين، والأقرب في مِن أن تكون للتبيين.
وأنهم هم الصالحون، ولذلك قال في الأول (وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ).
قوله تعالى: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
قُرئ بالياء ردَّا إلى قوله: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ).
وقُرئ بالتاء لإِدخال المخاطبين فيهم وتغليبا للخطاب،
(2/810)
وقوله: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) كقوله: (وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ)
وقوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)، كل
ذلك تنبيه على
أن عمل المحسنين لا يضيع المدلول بقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ)، وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
وقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
وأنهم بخلاف الكفار الذين قال فيهم: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) الآية. وقوله: (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) الآية.
وقال الجبّائي: (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) مجاز في هذا الموضع، لأن
(2/811)
وصف الله بانه يشكر مجاز، وقوله ذلك لتصوره
الشكر على
وجه واحد، والشكر باعتبار الشاكر والمشكور على ثلاثة أوجه:
شكر الإِنسان لمن فوقه، وذلك بالخدمة والحمد، وشكره لنظيره.
وذلك بالمقابلة، وشكره لمن دونه، وذلك بالإِثابة، ولذلك يمدح
تعالى بأنه شكور، وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ)
تنبيهاً أنه يقابله بالشكر الذي هو الثواب، ولعله تصور أن
الشكر لا يكون إلا بالقول، ومن الأدون للأعلى، وذلك فاسد
(2/812)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
لقوله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ
شُكْرًا) فجعل الشكر
معمولا، ووصَفَه بأنه شكور وشاكر.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ
أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
أغناه: إذا جعل له غنى، وأغنى عنه: جعل له غَنَاءً في
الدفع، ولما ذكر في الآية الأولى أن ما يفعله الإِنسان من
الخير لن
يُكفَر، بيّن أن ما يعدونه خيراً إنما ينفع بعد الإِيمان، فأما
مع
(2/813)
مَثَلُ مَا
يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ
فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
افتقاده فلا نفع، وذكر أجلّ ما هو عندهم
خير، وهو الأموال
والأولاد، وأنها لا تغني عنهم، وعلى ذلك ما حكى عن الكفار:
(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) وجعلهم أصحاب النار لملازمتهم
إياها.
قوله تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ
اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
الصّر: برد يحرق النبات.
وقال مجاهد: هو النار.
(2/814)
وأصله صوت النار، وكأنه حكى به الصرير
والصرصرة.
ونحوهما، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان وأهل مكة
(2/815)
لإِنفاقهم المال في معاداة النبيّ - صلى
الله عليه وسلم -، لما بيّن في الآية الأولى أن مالهم لا يغني
عنهم، بين أن إنفاق هؤلاء مع كونه غير نافع ضار
لهم، وراجع بالوبال عليهم، فمن المفسرين من قال القصد
إلى تشبيه ما لهم المنفق بالحرث. المحرق، وكفرهم المهلك بريح
ذات صِرٍّ، لكن أخرج التشبيه ملفوفاً لا مكشوفاً، على تحقيق
مطابقة لفظ المشبّه والمشبّه به، وذلك نحو ما تقدم.
ومنهم من قال: القصد في ذلك تشبيه أموالهم في إهلاكها إياهم
بريح
ذات صِرٍّ في كونها مهلكة لحرث قوم، ثم اختلفوا في هذه
النفقة، فمنهم من جعلها لما أنفقه هؤلاء وأمثالهم في معاداة
(2/816)
المسلمين، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
ثُمَّ يُغْلَبُونَ).
ومنهم من جعلها لكل ما ينفقه الكافر، أي شيء أنفقه فإن
الكافر معاقب في ذلك كله، كما أن المؤمن مثاب على ما أنفقه على
أي وجه أنفقه، وعلى هذا قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد:.
"إنك لتؤجر في نفقتك كلها، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ".
ووجه ذلك أن المؤمن
(2/817)
لا يأخذ إلا من حيث على ما يجب وكما يجب،
ولا يضع
إلا كذلك، والكافر بخلاف ذلك، ومنهم من قال: (مَا يُنْفِقُونَ)
عبارة عن أعمالهم كلها، لكن خصّ الإِنفاق لكونه أظهر
وأكثر، وإنما خصّ حرث قوم ظلموا أنفسهم من أجل أن
الناس فيما يصيبهم أمن، الجائحة ضربان:
صالح لا يستحق عقوبة، فإذا نالته صار ذلك له أجراً مُدَّخرا.
فكأنه لم يضع ماله، وسيِّئ يستحق عقوبة، فإذا نالته فقد ضاع
ماله في الحال وفي المآل، ومنهم من قال: معنى (ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) أي زرعوا
الحرث في غير وقته، تنبيها أن الكفار أساءوا فيما كان ينبغي
لهم أن يفعلوه إساءة هؤلاء الحرّاث في حرثهم من تقديم أو
تأخير.
إن قيل: كيف قال: (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ)، وقد قيل: متى
هبت الريح لم يؤثر الصِرُّ؟
قيل في ذلك أجوبة:
(2/818)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ
لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (118)
الأول: أن كل صر لا ينفك من ريح معه، لكن
التي معها الصرُّ ضعيفة بحيث
لا يحُسُّ بحركتها، وإنما تمنع الصرّ إذا تحركت حركة شديدة.
والثاني: أنه تعالى خصَّ ذلك تنبيهاً أن أموالهم بطلت من حيث
لم
يحتسبوا: كبطلان حرث هؤلاء من حيث لم يحتسبوا، فإنهم كانوا
آمنين من الصرِّ لوجود الريح.
والثالث: أنه عنى بالصرِّ صوت الريح وشدة عصوفها، وعنى أنها
أصابته الريح ففرقته، كقوله: (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ
الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)، ونحو هذه الآية في بطلان عمل
الكفار قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ).
وقوله: (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ) فإنما عقب به لأنه لما كان
أخذ مال الغير وإبطاله قد يتصوره من لا يعرف حقيقة الأمر بصورة
الظلم بين أنه لم يظلمهم، بل هم ظلموا أنفسهم، حيث لم يضعوا
مال الله حيث أمرهم.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا
مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ
الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
(2/819)
البطانة في الثوب بإزاء الظهارة، ويستعمل
لمن اختصصته كالشعار والدثار، ويقال: لبست فلاناً إذا اختصصته،
وعلى ذلك قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ)
وألوتُ في الحاجة: قصَّرت، وألوت، فلانا ألواً أي أوليته
تقصيراً بحسب الجهد، فقولك جهداً تمييز -
(2/820)
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ) أي لا
يقصروا، آلى أي حلف، هو أفعل من
ذلك، كأنه أزال التقصير ببذل ذلك القول.
فقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي لا يقصرون في إيصال
الخبال إليكم.
والخبال: الفساد، الذي يلحق ذات الحيوان.
يقال: في قوائم الفرس خبل وخبال، أي فساد من جهة الاضطراب،
وفلان مختبل الرأي، وقول زهير:
هنالك إدْ يستخبلوا المالَ يخبلوا. . .
(2/821)
أي إن طلب المال منهم إفساد شيء من إبلهم
فعلوا، والعنت
تحرّي المشقة، يقال: عَنِتَ فلان عنتاً، وأعنتة غيره، وعنّته.
قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ).
وأكمةُ عنوت: صعبة المسلك، وعنود والمعاندة والمعانتة
يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة: أن يتحرى مع
الممانعة مشقة.
قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن قوماً صافوا جماعة من
اليهود، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، والآية تقتضي النهي عن
الركون إلى من وما
(2/822)
يتحرى بك طريقة فساد: إنساناً كان أو
شيطاناً أو قوة من قوى
نفسك تحيد بك عن الحق، كالهوى ونحوه، وقال - صلى الله عليه
وسلم -: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له
بطانتان.
بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه
عليه ".
ونهى عمر عن الاستعانة بالكفار، واحتج بهذه الآية،
(2/823)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ
بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
وقد تقدم الكلام في أنه على أي وجه لا يصح
الاستعانة بهم.
ونبه بالاستدلال بكلامهم على فساد اعتقادهم، وأن ذلك لا يخفى
منهم، كقوله: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)،
وعلى نحوه قال
الشاعر:
ولا حن بالبغضاء والنظرِ الشزر
ثم بيّن أن مالا يبدو منهم أكثر، وأخبر بقوله: (قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ)
أنه أظهر ما يمكنهم الاستدلال به على معاداتهم.
قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا
لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ
الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119).
(2/824)
العضُّ معروف، ومنه رجل عف: شديد الخصومة،
كقولهم:.
أزوم، وفلان يازم المأزم ونيّب على كذا، والعضُّ: علف الأمهار
مما له مضغ شديد كالنوى والقت اليابس. والأنامل واحدتها
أُنملة، ولم يأت أفعل مفرداً إلا قولهم: بلغ
(2/825)
أشده، وقد كثر ذلك في الجمع، نحو: أكلُب
وأفلُس.
ويعبر عن التأسف بقرع السن وعض الأنامل، وذلك لا نشاهد من
حال المتأسف، قال الشاعر:
عضضت أناملي وقرعت سني
أكلت يدي لما جنته تندما
(2/826)
والغيظ هو الغضب والغم، فإن الغضب يقال
فيما معه القدرة.
على الانتقام، والغمّ فيما ليس معه قدرة الانتقام، والغيظ فيما
ليس معه تمام القدرة على الانتقام، ولذلك يُستعمل في صفات
الله الغضب دون الغيظ، والكتاب كله يعنى الكتب المنزلة.
فوضع موضع الجمع، إما لكونه للجنس كقولك: كَثُرَ الدرهم
في أيدي الناس، أو لكونه في الأصل مصدرا.
ولفظ الإِفراد أولى في هذا الموضع، لأنه يتضمن أنهم يؤمنون بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ويتضمن أنهم يؤمنون بتفاصيل كل
كتاب.
بخلاف من قال فيهم: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ).
وقوله: (أُولَاءِ) قيل: معناه الذين، وتحبونهم صلته،
(2/827)
وقيل: معناه هؤلاء، وفيه وجهان: الأول: أن
يكون كقولك
ها أنا ذا، وها أنتم هؤلاء، فيكون هؤلاء خبر الابتداء.
و (تحبونهم) في موضع الحال، وهم راجع إلى ما تقدم ذكره.
والثاني: أن يكون هؤلاء مبتدأ ثانيا، و (تحبونهم) خبره.
والجملة خبر للأول، كقولك: أنت زيد تحبه، ويكون هم راجعاً إلى
هؤلاء. ومحبتهم لهم: إرادة الإِسلام لهم، لأن ثمرة المحبة
النصيحة وإرادة الخير، وبين أنهم لا يحبون ذلك لكم، لأنهم لا
يريدون لكم الإِسلام الذي هو الخير المحض، ثم بيّن أنكم
تؤمنون بكتب الله، وهم لا يؤمنون ببعض الكتاب.
وقوله: (وَإِذَا لَقُوكُمْ) كقوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ
آمَنُوا)،
(2/828)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا
بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(120)
وقوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا
لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
وقوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ)
وقوله: (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) دعاء عليهم وإيجاب ذلك لهم، وإن
لم يكن إيجاباً
عليهم، وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) كقوله (يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفَى).
وقوله: (يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)
وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي
الصُّدُورُ) ونحو ذلك.
قوله تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ
تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
(2/829)
الحسنة: عبارة عن كل ما يستحسنه الإِنسان
مما يسّره
من نعمة ينالها في بدنه وماله، وجاهه، والسيئة تضادها.
والمسّ والإصابة يُستعملان في الخير والشر، إلا أن المصيبة
اختُصَّت، بما يسوء، ويقال: ضرّه يضره وضارّه
(2/830)
يَضيره، وقُرئ: لا يَضُرُّكُم، والضمة فيه
إتباع للضاد.
نحو مدُّ، ويجوز الفتح والكسر كما يجوز في مدّ.
وقال بعض النحويين لا يضركم مرفوع رفعاً صحيحاً، وتقديره: فلا
يضركم، وحذف الفاء كقول الشاعر:
(2/831)
من يفعل الحسنات الله يشكرها. . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . .
وهذا إنما يجوز في ضرورة الشعر، والكيد: الاحتيال
للغير بمكر ومقاساة، وعلى سبيل تصور هذا المعنى قيل: فلان
يكيد بنفسه، والمكر مثله إلا أنه أعم، لأنه قد يقال في اجتلاب
المنفعة.
إن قيل: على أي وجه يمنعْ صَبرهم وتقواهم من أن
(2/832)
يضيرهم كيدهم، قيل: من أوجه: الأول: من
الفيض الإِلهي
والنصرة الموعود بها في نحو قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) وقوله: (مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ).
والثاني: أن من عُرف منه الجد أحجم عنه العدو.
كما قال رجل ضئيل أسر رجلًا قويًّا، فسأله أمير المؤمنين:
كيف تمكنت منه؟
فقال: وقع في قلبي أني آخذه ولا أبالي بالقتل، ووقع
في قلبه أنه مأخوذ وخاف القتل، فنصرني عليه خوفه وجرأتي.
والثالث: أن المتذرّي بالصبر والتقوى تتحمل نفسه الشدائد.
فلا يبالى بمكايدة عدوه.
والرابع: أن الثقة بنصر الله أعظم ناصر.
والإِحاطة بالشيء يقال على وجهين:
أحدهما: في الأجسام.
والثاني: في العلم بالشيء والقدرة عليه.
فأما العلم فبأن يعلم حقيقة المحاط به ووجوده وجنسه وأوصافه،
والغرض
(2/833)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
المقصود منه، وعلى ذلك: (أَحَاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْمًا) فصار
قوله: (بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) كقوله: (لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ).
وقو له: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ونحوه.
قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (121)
التبوء: التمكن، يقال بوَّأته مكان كذا، أو لمكان كذا، وقيل:
في حرف ابن مسعود:
(2/834)
تُبوئ للمؤمنين، وإذ قيل معطوف على قوله:
(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) آية في غلبتكم - مع
قلتكم - الكفار مع كثرتهم.
وآية إذ غدوت ترتاد للمؤمنين مكانا للقتال، فانكشف الحال عما
كان لهم فيه آية، ولما أمرهم بالصبر والتقوى ذكّرهم ما خوّلهم
ببدر حيث صبروا واتقوا، وبأحد حيث كان منهم ما كان.
وذاك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور أصحابه حيث قصده
المشركون: هل يخرج إليهم أو يقيم بالمدينة فيقاتلهم فيها، وذلك
هو معنى تبَوُّئه للقتال أي موضع المشاورة، ولهذا خص المقاعد
دون المقاوم، فقال له
(2/835)
إِذْ هَمَّتْ
طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
عبد الله بن أُبيّ: نقيم بالمدينة، فإن
قاتلونا قاتلنا في الأزقة وإلا
رجعوا عنا بالمذلة، وقال أكثرهم: نخرج إليهم، فدخل - صلى الله
عليه وسلم - ولبس لأمته، وأعاد عبد الله قوله، فقال - صلى الله
عليه وسلم -: "ما كان لنبي أن يلبس لأمته ثم ينزعها حتى يقاتل
"
فخرج النبي، وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع بما
يقول مؤمنهم ومنافقهم، عالم بما ينوي كل منهم.
قوله تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
(2/836)
الهمّة قد تكون عزماً، وقد تكون حديث
النفس من غير أن يصير عزيمة، والفشل: الضعف الذي يكون من
تحير الإِنسان ظهر أو لم يظهر، وقد يقال لا يظهر من الإِنسان
من
الإِحجام فشل أيضا.
والطائفتان، قال المفسرون: هم بنو سلمة وبنو حارثة، لما رجع
عبد الله همّا بالرجوع،. ثم لم يفعلا،
(2/837)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) أي وليهما
في أن عصمهما عن الانصراف، ووليهما في أن جازاهما إذ لم يفعلا
ما هما به، ورُوي أنه لما نزل ذلك قالت الطائفتان: ما يسرنا
أنا لم نهم بالذي هممنا، وقد أخبر الله أنه ولينا.
ونبّه بقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) أن التوكل على الله
هو العاصم، وهو الفرض الأقصى من العباد في الدنيا.
قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ
أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
بدر: اسم ماء
(2/838)
كان لرجل يقال له: بدر، فسُمي به، فصار ذلك
الحرب
مسمى به، وجعلهم أذلة لا على الحقيقة والمصدوقة، - فمن
نصره الله فغير ذليل، ولكن على اعتبار العامة لقلتهم وقلّة
عِدّتهم، وهذه أيام تابع الله ذكرها وذكّر المسلمين بعظم ما
أولاهم فيها تثبيتاً لقلوبهم، وتذكيراً بنعمه عليهم، وأمرهم
بالتقوى المؤدية إلى شكرهم لها.
(2/839)
إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ
(124)
قوله تعالى: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ
آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا
يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ (125)
الكفاية: مقدار ما فيه سد خُلة، والفرق بين الاكتفاء
والاستغناء:
أن الاكتفاء ما فيه سد الخُلة وسع أو ضاق، والاستغناء ما فيه
** السعة فهو أعم.
والإِمداد: اتصال الشيء بالشيء، وأصله من مد الحبل
والمد يقال تارة في الماء، ومده ماء آخر، وتارة في السير.
والمدة امتداد الوقت، والمادة زيادة ممتدة، والمداد المُدّ
الذي هو
المكيال منه، والفَوْر أصله من فارت القدر والتنور، والفور
(3/840)
منهم من تصور منه الوجهة والعجلة، وإليه
ذهب ابن عباس
والحسن وجماعة، ومنهم من تصور منه فوران الغضب.
وإليه ذهب مجاهد والضحاك، والتسويم ترك الشيء وسومه،
(3/841)
ومنه قيل: أسمت الإِبل وسومته، والتسويم
أيضأ إظهار
سيماء في الشيء، وقد فُسر المسومة على الأمرين.
وقُرئ: مسوِّمَة أي معلمة لأنفسها.
وقد روي أنه نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق، وعليهم عمائم.
. . . . . . . . .
(3/842)
صفر، قال ابن عباس وغيره: عنى بذلك يوم
بدر.
قال: ولم تقاتل الملائكة إلا في ذلك اليوم، وقال الحسن: أمدّهم
بخمسة آلاف، لأنه عنى مع الأولين، وقال غيره: بل خمسة
آلاف غير الثلاثة آلاف، وكانوا ثمانية آلاف، وقال بعضهم:
(3/843)
إنما أمدهم بألف، لقوله: (فَاسْتَجَابَ
لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ)
ولم يمدهم بخمسة آلاف، بل المسلمون قالوا: إن كرز بن جابر يمدّ
المشركين. فأنزل الله ذلك تسكيناً للمسلمين، ثم لم يُمِدّ
المشركين.
فلم يمدّ الله المسلمين بهم،
(3/844)
وَمَا جَعَلَهُ
اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ
بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ (126)
ولهذا قال: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ).
قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
الضمير في قوله: (جَعَلَهُ) للإِمداد والوعد، ونبَّه أنه إنما
أراد بوعدهم
وإمدادهم الملائكة نعمة عليهم، وهي مسرتهم وسكون
جأشهم، فأما النصر في الحقيقة فليس إلا منه بلا حاجة إلى
استعانة، وفيه حثٌّ أن لا يبالوا بمن تأخّر عن نصرتهم.
وتنبيه أنه يعين تارة بالمدد وتارة بغير المدد، وأنه ناصر كل
منصور أينما كان، وممن كان، إذ هو المسبب لجميعه، والفاعل
(3/845)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا
خَائِبِينَ (127)
الذي لا يستغني فاعل عنه، ثم وصف نفسه
بالعزة والحكمة.
تنبيها أن كل عِز منه، وكل حكمة عنه.
قوله تعالى: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ
يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
الكبت: الصرع على الوجه والرد.
والخيبة: حرمان البغية. وتخصيص قطع الطرف من حيث
إنّ نقص الأطراف من الشيء موصّل إلى توهينه وإزالته، وعلى
ذلك قال: (نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا).
وقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ).
وقيل: عنى بالأطراف
(3/846)
لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
أعيانهم وصناديدهم.
وقوله: (ليقطع) أي نصركم ليقطع، أو وما النصر إلا من عند الله،
ليقطع.
قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
هو راجع إلى قوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ)، أي ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء، وهو نجو
(3/847)
قوله: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ قَتَلَهُمْ)
وقال بعضهم: ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر وإنما إليه.
ونبّه أنك مأمور لا آمر، ومرتسم لا مُرسِم، قيل: بل أراد النبي
- صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر للمشركين.
وقيل: بل أراد أن يدعو عليهم بالاستئصال لما كسروا رباعيته،
فقال الله ذلك.
وقوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معطوف على قوله:
(لِيَقْطَعَ).
وقيل: بل معناه: إلا أن يتوب
(3/848)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
أو يعذب، تنبيهاً أن أمرك تابع لأمر الله.
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
بيّن بهذه الآية تحقيق ما قدّمه بأنه هو المالك للكل، وله
المشيئة في غفران من شاء وتعذيب من شاء.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا
الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
إن قيل: ما اتصال هذه الآية بما قبلها؟
قيل: إنه لما نهى عن الكفر فيما تقدَّم، وقبَّح صورته.
وحذَّر منه، وبيّن قدرته عليهم حث قال: (وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ) نهى هاهنا عن تعاطي أفعال الكفرة، وقد
(3/849)
تقدم الكلام في قُبح الربا، وأما أكله
أضعافا فقد قال عطاء
ومجاهد هو أنهم كانوا في الجاهلية إذا باعوا أو أقرضوا إلى مدة
ثم تأخر القضاء زادوا على أصل المال لزيابة الأجل
المضروب.
إن قيل: لِمَ قال: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فجمع بين
اللفظتين؟
(3/850)
قيل: قال بعضهم ذلك للتأكيد.
وقيل مضاعفة من الضَّعْف لا من الضِّعف، ومعناه ما تعدونه
ضِعْفا
هو ضَعْف، أي نقص، كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا
لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو) وقوله:
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا).
ومن هذا أخذ بعض المحدثين:
زيادة شيبٍ وهي نقصُ زيادتي. . . وقوة جسمٍ وهي من قوتي ضعفُ.
(3/851)
ثُمَّ حثَّ على تقوى الله، وذكر أن ببلوغها
ترجون الفلاح.
واستدل بعض الحنفية بهذه الآية على فساد بعض ما يدعيه الشافعية
من دلالة الخطاب، فقال: لو كان ذلك صحيحا لكان يجوز أكل
الربا إذا لم يكن أضعافا، وهذا لأن يكون دلالة عليهم أولى.
لأنه لما زهَّدنا في الكثير منه فلأن نزهد في القليل أولى، على
أن
القضية بذلك على مقتضى العموم، فمجيء ما ترك دلالة خطابه
في بعض المواضع لا يفسد هذا الأصل، كمجيء لفظ عام ترك
عمومه، وتكرير النهي عن الربا تفظيع لأمره، وتقبيح لشأنه.
(3/852)
وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
إعداد الشيء تهيئته قبل الحاجة إليه.
وإنما أراد تقديره وإيجاده، فلا حاجة به تعالى إلى الإِعداد.
وأصله من العدّ، وقولك: أعددت كذا لكذا، أي اعتبرت قدره
بقدره.
إن قيل: ما وجه ذكر اتقوا النار بعد قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ)؟
قيل: قد تقدّم أن قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ) يقال باعتبار
ذاته، واتقوا النار باعتبار عقابه، فالأول للأولياء الأصفياء.
ولذلك وصله بالفلاح الذي هو أعلى درجة الثواب.
والثاني للمذنبين، فلذلك وصله بالرحمة، ولما كانت المنزلة
الأولى لا تحصل إلا لمن حصلت له المنزلة الثانية، حثَّ كافة
(3/853)
وَسَارِعُوا إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
الناس على الاستعانة بتقوى عقوبته، والطاعة
له ولرسوله في ترك
الربا وغيره من المعاصي؛ ليصلوا إلى الرحمة ذريعةً إلى الفلاح.
إن قيل: الفلاح لا يخرج من أن يكون رحمة؟
قيل: صحيح، ولكن الرحمة أعم من الفلاح، فكُلُّ فلاح رحمة، وليس
كُلُّ رحمة فلاحاً، ومن قال في قوله: (أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ) دلالة أن لا فاسق فيها، فليس باستدلال يوجب
الركون إليه، لأن ما يصحُّ أن يشترك فيه أقوامْ إذا
قيل: أُعِدَّ لفلان. فليس فيه أنه لم يُعدّ لغيره.
ثم قد ثبت أن النار دركات، فأكثر ما في ذلك أن النار المعدَّة
للكافر ليست للفاسق.
قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (133)
إن قيل: ما الفرق بين
(3/854)
الطول والعرض؟ وهل هما على تقديرك ووضعك
كالصعود
والحدور، أم هما شيئان مختلفان بالذات؟ وذاك أن الطول
والعرض من خواص الجسم، فالطول معتبر بالجانب الذي منه
ينشأ وإليه ينشأ. والعرض بالجانبين الآخرين، وذلكْ متصور في
الحائط والثوب والبيت، وقد يقال ذلك باعتبار الوضع في أشياء
كثيرة، وقد وقع شبهة على من لم يتمهر في المعقولات، ولم
يتجاوز منزل المحسوسات، وقال: إذا كانت الجنة في السماء
الرابعة على ما رُويَ في الخبر فكيف يكون عرضها عرض
السموات؛ فجاء قوم من اليهود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم
- فقالوا: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟
فأجابهم - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سبحان الله إذا جاء
النهار فأين الليل "؟،
(3/855)
وهذه معارضة تقنع العامة بما فيه المقنع،
وتطلع الخاصة على ما
نبه عليه بقوله: "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت "
وقد رُويَ عن ابن عباس: أن لله عوالم، هذا أحدها.
(3/856)
وقال أبو مسلم بن بحر: العرض هاهنا من
قولهم: عرضت الشيء
بالشيء في البيع، وذلك قائم مقام المساواة.
والمعنى: لو عرضت الجنة بالسموات والأرض لكانتا ثمناً لها،
وذلك
(3/857)
يفسده قوله في غير هذه الآية: (كَعَرْضِ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وقال بعضهم: هو من قولهم: فلان في جاه عريض، وفي سعة
ورحب، وقد يقال للكبير عريض، نحو: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ).
والمغفرة أصلها إزالة العقوبة، وإن كان قد يقال لها وللإِعطاء.
ولمّا أمَر تعالى بالاتقاء من النار، والاتقاء منها مقتضٍ
للمغفرة، وذلك منزلة التاركين للذنب، أمره في هذه الآية أن لا
يقتصر على التقوى من النار، التي هي مقتضية للمغفرة، بل
يتجاوز إلى طلب الجنة، فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ).
(3/858)
|