تفسير الراغب الأصفهاني

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
السّرّاء والضرّاء إشارة إلى حالي السعة والضيق، كاليسر
والعسر، وإلى حالي السرور والاغتمام، وقد فُسر بهما.
واللفظ يتناولهما، فإن السراء يقابلها الغم، والضراء يقابلها
النفع، فأخذ اللفظان المختلفا التقابل ليدل كل واحد على
مقابله، وهذا من دقائق إيجازات البلاغة، فمن نظر إلى معنى
السراء قال السرور والغم، ومن نظر إلى معنى الضراء قال النفع
والضر، ولما كان الناس في الإِنفاق أربعة أضرب:
ضرب لا ينفق في حالي السّعة والضيق، وهو اللئيم على الإطلاق.
وضرب ينفق في حالي الضيق دون السعة، كما قال الشاعر:
وكان غنيَّ النفس في حال فقره. . . فصار فقيراً في الغنى خيفة الفقر

(3/859)


وضرب ينفق في السعة دون الضيق، وهو من وجه جبان يخاف
الفقر، ومن وَجه حازم يأخد بالوثيقة في أمور الدنيا، وضرب ينفق في
الحالين، وذلك أحد رجلين: إما متهورَ لا يتفكر في العواقب، ولا
يُبالي من أين يأخذ وأين يضع، وذلك هو الموصوفِ بأنه من إخوان
الشياطين، وإما واثق بكفاية الله ينفق ما يحصل في يده اعتماداً على
خزائن ربه، لكن لا يتناول إلا من حيث ما يجب وكما يجب، ولا يضع
إلا كذلك، وهو الذي يتناول كل آية مُدحَ فيها المنفقون.
وكظم الغيظ: هو الحلم، فقد قيل: الحلم: كظم الغيظ، وهو والعفو
منزلتان شريفتان، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كظم الغيظ وهو يقدر أن ينفذه خيَّره الله في أي الحور شاء".

(3/860)


وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)، وقال: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"ينادي يوم القيامة مناد: من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس "، ثم تلا هذه الآية.
والفرق بين الحلم والعفو، أن الحلم راجع إلى حال
الإِنسان في نفسه، والعفو إلى ما بينه وبين غيره، وإن كان قلما
ينفك أحدهما عن الآخر، ووجه الآية أن الله حث في الآية الأولى

(3/861)


على طلب الجنة المعدة للمتقين، ثم بيَّن حالهم وأفعالهم، فذكر
ما دلّ على جماع مكارم الأخلاق، وهو السخاء في حالي السرّاء
والضراء والحلم والعفو، وذلك أشرف ضربي الشرع، وذاك أن الشرع
ضربان: أحكام ومكارم، ولن يستكمل الإِنسان مكارمه إلا بعد أن
يستكمل أحكامه، فإن تحرِّي أحكام الشرع من باب العدل، وتحرّي
العدالة فرض، ومكارمه من باب الإِحسان، أي التفضل، وتحرِّي
التفضل نفل، ولا تقبل نافلة من أهمل الفرض، ولا يفضل من
ترك العدل، بل لا يصح تعاطي التفضل إلا بعد العدل، فإن العدل
فعل ما يجب، والفضل الزيادة على ما يجب، وكيف تصح الزيادة
على الشيء الذي هو غير حاصل في ذاته، وبيَّن تعالى أن من تخصص
بمكارم الشرع فهو محسن، والله يحب المحسنين، وإحسان العبد ومحبته
الله إياه هو أن يُرى متخصصاً بعامة أوصاف الله على غاية وسع

(3/862)


وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)

البشر، فيصدق عليه أن يقال: هو جواد وكريم وحليم، وودود
إلى سائر ما يصح أن يوصف به أولياء الله.

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
الفاحشة: ما تناه قبحه مما يدرك بالبصر أو بالبصيرة، ولكونها
مستعملة فيهما قيل: فلان فاحش الطول. اعتبارا باستقباح
البصر إياه، وقيل للزنى والبخل المتناهي: فاحشة. اعتباراً
باستقباح البصيرة إياهما، ويقال: فلان ظلم نفسه. على ثلاثة أوجه:

(3/863)


أحدها: إذا جنى على نفسه جناية لا يتخطاها.
والثاني: إذا ظلم ذويه الذين هم بمنزلة نفسه.
وعلى نحو ذلك قال الشاعر فيمن ظلم ذويه:
وما كنت إلا مثل قاطع كفِّه. . . بكفٍّ له أخري فأصبح أجذما
وعلى هذا الوجه قد يُقال ذلك فيمن ظلم واحدا من كافة الناس.
إذا كان الناس كنفس واحدة وآحادهم كأعضائها.
والثالث: أن ظلم الإِنسان غيره لما كان وباله راجعاً إليه.
يقال فيمن ظلم غيره:
قد ظلم نفسه، وعامة ما ذكر تعالى: ظلموا أنفسهم.
ذكره مقرونا بنفي ظلمه تعالى إياهم، نحو: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، وقد ذكر حيث نهى
عن ظلم الغير تنبيهاً على المعنى المتقدم، نحو قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا)، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)

(3/864)


والإِصرار: الإِقامة على القبيح. مأخوذ - من الصّرار
والصُّرَّة، كأن المصر على الذنب جعل ذنبه مصروراً على نفسه.
أي معقودا لا يجد سبيلًا إلى حله.
وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في موضع الحال، أي لم يكن منهم إصراراً مع العلم، واشتراط العلم أنه قد يُعذر الإِنسان مع الجهل في ارتكابه بعض المآثم.
كمن تزوج أخته من الرضاعة وهو لا يعلم ذلك، وهذه الآية
مع الأولى مشكلة، يقال: هل قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا) صفة للمتقين
كقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أم استئناف حكم؟ ولم أُعيدَ
ذكر الجنة منكّراً مقروناً بوصف آخر؟ ووجه ذلك أن الله تعالى

(3/865)


لما أمر الناس بتقواه وتقوى ناره أولاً، وأمرهم بالمسارعة إلى
المنزلتين أولا: إلى طلب المغفرة التي يستحقها المتقي من النار، ثمِ
إلى الجنة العريضة التي يستحقها المتقي من الله، ذكر بقوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) حال المتقين لله، المستحقين لتلك الجنة.
وقال: هم الذين تجاوزوا تعاطي أحكام الشرع إلى تعاطي
مكارمه، والذين اقتدوا بالله على غاية جهدهم في اكتساب
صفاته، ثم ذكر حال المستغفرين لوقوع فاحشة منهم أو
ظلم، وبين أن لهم جنات أدون من تلك الجنة، فقال: الذين إذا
أخلوا بشيء من الواجبات ذكروا الله فأقلعوا، كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)

(3/866)


ولم يستمروا على فعل الشر، ثم قال: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) على سبيل الاعتراض بينه وبين تمام الكلام؟
تنبيها أن الإِنسان لا يجب أن يلتجئ إلا إلى الله، وبين أنه
من فعل ذلك لم يقتصر تعالى معه على ترك الذنب عليه، بل
يجعل له جنات، وجعل هذه الجنات على أوصاف يتصورها
الوهم، ويدرك مثلها الحس، وجعل للفرقة الأولى جنة لا
يتصورها الوهم، ولا يحيط بها الحسّ، فإن جنّة عرضها
السموات والأرض مع كونها في السماء إشارة إلى ما قاله - صلى الله عليه وسلم -:
"ما لا عين رأت "، وذلك مما لا يتصوّره الوهم، ولا كانت
الفرقة الأولى عاملت أنفسهم وعباد الله بضرب عامل الله به عباد الله
وهو الجود والحلم والعفو، سماهم هو تعالى بما استحقه، وهو
المحسن، وقابلهم بمقابلةٍ يطلبها هو من العباد أن يقابلوه بها.
وهي المحبة، فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
والفرقة الثانية: عاملت أنفسها وعباد الله بما لا يصح أن يوصف الله به.
بل يوصف به العبد المتدارك لتقصيره، جعلهم من العَمَلة

(3/867)


المستحقة للأجر، وسمى نفسه حيث ذكر مقابلة الفرقة
الأولى فقال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، وهو أعم الأسماء
وأخصها به، تنبيها أنهم يراعونه بالإِلهية، وسمى نفسه
حيث ذكر مقابلة الفرقة الثانية ربهم، تنبيهاً أنهم يراعونه
بالنعمة الواصلة إليهم، التي هي سبب تربيتهم، وعلم أن
منزلة الفرقة الأولى منزلة الشاكرين الموصوفين بقوله:
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)، ومنزلة الفرقة الثانية منزلة
الصابرين الموصوفين بقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، فذكر في الشاكرين المجازاة الجارية بين الأحباء، وذكر في الصابرين الأجرة كفاءَ ما يجعل للأجراء، وإن كان قد جعلها بلا حساب، وشتّان ما بين الأجير والحبيب، وهذه من المواضع التي لم أر من تحرى مذهب
التحقيق، واشتغل به مع صعوبته، غير أن ابن بحر لما انتهى
إلى قوله: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ)، قال: إن المغفرة المذكورة

(3/868)


قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)

هي المذكورة في قوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)
وكذلك الجنات هي الجنة التي عرضها السموات، وإن ذلك أجرتهم بتلك الأفعال، وهو مع أنه لم يتدبر التفصيل واختلاف المجازين والجزائين وأوصافها لم يتفكر في أن الفكرة إذا أُعيد ذكرها تُعاد معرفة،، وإلا كان الثاني غير الأول، فلو كانت المغفرة والجنات هي التي تقدم ذكرها لقال المغفرة والجنات.

قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
الخلاء: المكان الذي لا ساتر فيه، من بنية وغيرها، وقد يقال للمكان الذي لا ساكن فيه، وخليته تركته في خلاء، ثم يقال لكل تَرْكٍ: تخلية حتى
قيل: ناقة خلية: مخلاة عن الحلب، وامرأة خلية مخلاة عن
الزوج، وسميت السفينة المتروكة تمر بذاتها خلية، وزمان خالٍ
أي ماض، كأنه خلا عما كان فيه، وأصل السُّنّة من السنيّ أي

(3/869)


صب الماء على وجه الأرض، وعلى التشبيه به قيل: سننت
الدرع، ووجه مسنون، والسنّة: الطريقة المجعولة للاقتداء
بها محسوسة كانت أو معقولة، وعُنِي بالسنة هاهنا ما كان من
القرون الأولى، أخيارهم وأشرارهم، وما كان في مقابلتهم

(3/870)


منه تعالى ومجازاته إياهم إن خيراً فخيراً، وإن شرًّا فشرًّا في الدنيا
تارة وفي الآخرة تارة، على ما بينه تعالى بكلامه، وشُوهد من
أحكامه، فنبهنا على اعتبار ما جرى به سننه، وأمرنا بالسير في
الأرض والنظر إليه، ولم يعن بالسير السعي بالأرجل، ولا
بالنظر نظر العين، فذلك غير مغنٍ بانفراده في معرفة سنة الله في
الذين خلوا، وإنما عنى إجالة الخاطر فيها، والنظر بالبصيرة
للمتحرين للحكم، والمنبهين على العبر، وعلى هذا قوله:
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، وقوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)، وقد

(3/871)


هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

حمل بعض الصوفية قوله - صلى الله عليه وسلم - "سافروا تغنموا" على هذا.

قوله تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
جعل تعالى القرآن بياناً للعامة والخاصة، فلهذا قال للناس لأنه
ما من ذي فكرة استمع إليه إلا حصل منه بيان ما، وجعله هدى
وموعظة للمتقين خاصة، وقد تقدم الكلام في تخصيصه هدى
لهم في قوله: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، فالفرق بين الهدى والموعظة:
أن الهدى يقال باعتبار معرفة الشريعة وسلوك طرقها إلى ثواب
الله تعالى، والوعظ يقال باعتبار معرفة الثواب والعقاب، إن

(3/872)


وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)

قيل: أيراد بذلك أنهم يهتدون ويتعظون، أم انهم يهدون ويعظون؟
قيل: يحتمل الوجهين، ويضحّ حمله عليهما، فهم
في الحقيقة يهتدون به ويتعظون، ويهدون به غيرهم ويعظون.

قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
الوَهن والوهْي يتقاربان، لكن الوهْن ضعف، والوهْي يقال فيه وفي التخرق، فهو أعم.
والحزن: ألم موجع للنفس من فوت مطلوب أو فقد محبوب.
إن قيل: كيف أُمِرَ

(3/873)


الإِنسان بأن لا يهن ولا يحزن، وليس ذلك باختياره، بل هو شيء
يعرض له بالاضطرار؟
قيل: النهي في الحقيقة متوجه إلى تعاطي فعل ما يورث ذلك، وإن كان في اللفظ متناولا للحزن والوهن، وذلك أن الحزن يعرض بأن لا يستشعر الإِنسان ما عليه جُبلت الدنيا.
ولا يعرف أن أموالنا وأبداننا عارية مستردَّة، ولا يحتمل صغار
المكاره، فيتوصل بها إلى احتمال ما هو أعظم منها، وعلى هذا
قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ).
وقوله: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ): قيل: عنى في الاستقبال إشارة إلى
نحو قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، فيكون هذا وعداً لهم،

(3/874)


وقيل: أراد في الحال فإنهم الأعلون بالحجة ورجاء المعفرة.
إشارة إلى نحو قوله: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) ومثله: (لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى).
وسبب نزول ذلك، قيل: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أمر بطلب القوم بعد يوم أحد، وقال: "لا يخرج معنا إلا من شهدنا
بالأمس "، فاشتد على المسلمين، وقالوا: فينا جرحى، فأنزل الله
تعالى ذلك، ونبَّه بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أن من شرط

(3/875)


إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)

الإِيمان رفض الوهن والحزن وأنتم مؤمنون، فواجب أن لا تهنوا
ولا تحزنوا سيما والعلو لكم.

قوله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
الفرق بين المسّ واللمس:
أن اللمس أخص، فإنه بالحاسة، والمس به وبغيره، وهو ههنا

(3/876)


عبارة عن الإِصابة والقرح أعم من الجرح، فإن الجرح إصابة
الجارحة في الأصل، والقرح يقال له ولما يحدث من ذاته، نحو
قَرِحَ البعير إذا خرجِ به قَرْحَة، وهي شِبه جرب.
والقرح مصدر ثم يسمى المقروح قرِحا.
والقُرْح الاسم، وقال بعض أهل اللغة: القَرْح: الجراحة.
والقُرْح: ألمها.
والدول والدور يتقاربان، لكن الدور أعم، فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي،

(3/877)


وكذلك الجد، ولهذا قيل: "لا ينفع ذا الجدَ منك الجد"
أي الحظوظ الدنيوية غير نافعة في القيامة،، نحو: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ)، وقوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) قيل ليعرف، ولهذا تعدى إلى مفعول واحد.
وقيل: إن مفعوله الثاني محذوف ومتى قيل في الله: إنه علم كذا أو لم يعلمه، فليس القصد إلى إثبات علمه أو نفيه.
وإنما القصد إلى إثبات ذلك الشيء أو نفيه، وإذا استعمل في غيره

(3/878)


فإنه يقال على الوجهين، وأما الشهداء فقد قيل: هم المذكورون
في قوله (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
وقال الحسن وقتادة: عنى بها المقتولين في الحرب، وسُمُّوا بذلك لقوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) الآية،

(3/879)


لما جعلهم أحياء عند ربهم سُموا شهداء، وأصل ذلك أن غاية ما
يستحقه الإِنسان في الآخرة القرب من الله، وكونه عنده، ولما
وعد الله القتيل في سبيله بذلك سُمي شهيداً، ونبَّه تعالى بالآية أنه
غير إنصاف لمن ساوى العدو في المغالبة الدنيوية أن يحزن، فكيف
بمن كان غالباً، وبين بقوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا) أن
من حق العاقل أن لا يبالي بما يفوته مالاً كان أو جاهاً أو قهراً.
فإن الله جعل بِنْيَةَ الدنيا على أن تكون أعراضها دولاً بين أخيارهم
وأشرارهم، وليصبر الأخيار فيما يصيبهم من المحن، ويشكروا
ما ينيلهم من المنح، فيصلوا بذلك إلى ثوابه، وعلى ذلك
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ)
إن قيل: هل يصح أن تكون الدولة للكافرين على المؤمنين؟
قيل: يجوز ذلك إذا كانت الدولة من الحظوظ الدنيوية، التي قد يُعطى الكافر منها أكثر مما يُعطى المؤمنون، قال قتادة: ولولا الدولة ما أوذي المؤمنون،

(3/880)


وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)

لكن قد يدال الكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليتميز
المطيع من العاصي، وقد حكم تعالى في كل ذلك أن الغلبة
للمؤمنين في الحقيقة بقوله: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
وفي قوله: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، تنبيه أنه لا ينصر الكافرين
في الحقيقة، وإن تصور بعض الناس ما يعطيهم في بعض
الأحوال نصرة منه، تنبيه أنه لا يظلم، فمحال أنه مع حكمه بأنه
لا يحب الظالمين يفعل فعلهم.

قوله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
المحص كالفحص، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء من

(3/881)


خلال أشياء منفصلة عنه، والمحص في إبرازه عن أشياء متصلة به.
قال الخليل: التمحيص: التخليص، عن العبث، يقال:
محِّص عنا ذنوبنا، والمحق هو إبطال الشيء حالا فحالا.

(3/882)


والقصد بتمحيص المؤمن ما ذكره في قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
وقوله: (وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) وعلى معنى المحص ما ورد من لفظ
الفتنة والابتلاء، والقصد بمعني الآية أن المؤمن والفاسق كسبيكتي
ذهب: إبريز كَلف، وبهرج من خزف إذا فتِنَا خلص
الإِبريز، وانمحق البهرج، فكما أن السبك سبب لاختيار الإِبريز
وإعداده في خاصّ الخزانة، وسبب لاجتواء البهرج وطرحه
بالمبعد، كذا التكليف سبب لاصطفاء المؤمن لكريم جوارِه، وطرد
الكافر إلى حرق ناره، كما قال في المؤمنين. (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)، وقال في الكافرين: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).

(3/883)


أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)

قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
معنى أم حسبتم: لا تحسبوا، واستعارة الاستفهام للنهي، مبالغة في المعنى،

(3/884)


و (أَمْ): على وجهين: معادلة للألف، ولاستئناف استفهام، ويُفسر ببل، ومن النحويين من قال: لا تنفك من أن تكون تابعاً للألف.
إما ملفوظاً به أو مقدراً، وقال: وتقدير الكلام ههنا لما ذكر قوله:
(وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أعلمتم ذلك (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ).
وقد تقدم أن كل موضع نُفي فيه علم الله فإنما هو نفي
لما يتعلق به، ويدل على صحة ذلك قولهم: ما علمت أحداً

(3/885)


يخرج إلا زيدٌ، فجاز الرفع في زيد لما كان معناه ما يخرج أحد فيما
علمت إلا زيد، وأما قوله: (وَيعْلَمَ) فمنصوب على الصرف،

(3/886)


وقد قُرئ (وَيَعْلَمْ الصَّابِرِينَ) بالجزم، والفرق بين العطف
والنصب على الصرف هو أنه إذا كان عطفا يراد حصول الفعلين
مجتمعين كانا أو مفترقين، وإذا نصب فالمراد حصول الفعلين
معاً، ونفيهما معا، على ذلك قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله. . .
معناه لا تجمع بين الأمرين معاً، ويحتمل أن يكون (وَيَعلَمَ)

(3/887)


وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

معطوفاً على قوله: (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، وذاك أنه لما ضمن
للصابرين دخول الجنة في غير موضع، بين ههنا أن لا يدخلوها
محكوماً لهم بالصبر، ولما يجاهدوا، إذ كان الصبر لا يثبت إلا
بمجاهدة النفس، ولم يعن بالمجاهدة الجهاد في حرب الكفار
فقط، بل أراد ذلك ومجاهدة الشيطان والنفس المدلول عليها
بقوله - صلى الله عليه وسلم - "جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم "، ونحو هذه الآية قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ).

قوله تعالى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
سبب نزولها أن قوماً لم يحضروا بدراً كانوا يقولون: ليت لنا يوماً مثله، حتى نجاهد.

(3/888)


وقيل: سببه أن قوماً سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لهم أن يأتوا المشركين في رحالهم ويقاتلوهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"لم أؤمر بذلك ".
والموت عبارة عن الحرب، كقول الشاعر:
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا. . . إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
وأراد أنكم تمنيتم الحرب فلِمَ تحيّرتم؟ والنظر يكنى به عن
التحيرّ، نحو:

(3/889)


. والموت خزْيان ينظر
وقيل: وأنتم تنظرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه بين أظهركم، وذلك تبكيت لهم، وقول النحويين: أراد بالموت سببه، فحذف
المضاف، فقريب، وقول أبي علي الجبائي: إنه لا يجوز أن

(3/890)


وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)

يتمنّوا قتل المشركين لهم، "فإن قتل المشركين لهم كفر بالله، ولا
يجوز للمؤمن أن يتمنّى الكفر بالله، وإنما تمنّوا الموت الذي هو
فعل الله في الحال، التي يكون فيها أبعد من العاصي، فهذا تحَيُّل
لمراد القوم إنما تمنوا حرباً ليبلوا فيها بلاءً حسناً.

قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
رُوي أنه لما كان يوم أحد نادى منادٍ: قُتِلَ محُمّد، فقال قوم: علام نقاتل وقد قُتِلَ رسول الله؟! فأنزل الله ذلك.
والإِشارة بالمعنى إلى ما قال أبو بكر لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان يعبد محمداً فإنه قد مات، ومن كان

(3/891)


وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

يعبد الله فإن الله حي لا يموت، أيها القوم إن الله قد نعى إليكم
نبيكم " ثم تلا الآية، ولفظ الاستخبار يتناول: (انْقَلَبْتُمْ).
وقوله: (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا) تعريض بهم بأنهم يضرون أنفسهم.
إن قيل: كيفْ تعلق قوله: (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) بما قبله؟
قيل: إن ذلك قضية حُذِفَ بعضُها، تقديرها: ومن أحسن يجزه الله.
فإنه سيجزي الشاكرين.

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145).

(3/892)


اللام في قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ) على سبيل نسبة الانفعال إلى المنفعل، كقولك: الموت للنفس والنسج للثوب، ولما توهَّم المنافقون أن القتل غير
الموت، وأن الإِنسان سيجد سبيلًا إلى الخلاص منه، ولم يتصوروا
تقدير الله وأن ذلك مقضي لا انفكاك منه، حتى قالوا: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)، بين تعالى أن الموت شيء مقضي محكوم به، وهذا
معنى (كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، فلا تأخير له، ودل على ذلك بآيات الله.
نحو قوله تعالى: (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ)
وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
وقوله: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ)

(3/893)


وقوله في هذه السورة: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)
وعلى ذلك قول الشاعر:
. . . أن الفرار لا يزيد في الأجل
ولما كان أكثر الأعمال مشتبه الصور، وإنما يتميز الخبيث من
الطيب بالنيات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمال بالنيَّات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " الخبر.
والمجاهد في سبيل الله ثلاثة:
إما قاصد به الآخرة غير ملتفت إلى الدنيا،

(3/894)


وإما قاصد عرضا دنيويًّا مراعيا فيه حكم النّه على ما ورد الأمر في
قوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).
وإما قاصد عرضاً دنيويَّا غير مراع فيه حكم الله على ما دل عليه قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) فُسِّر على الوجهين:
أحدهما: أن لفظ الثواب ههنا على التوسع، وإنما هو على نحو الحرث في
قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)
ويكون المعنى على نحو ما بينه في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).
والثاني: أن الثواب هو الذي يحصُل للإِنسان ولا يلحقه فيه تبعة.
فالمراد به ما ذكره في قوله:

(3/895)


وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"من طلب الدنيا استعفافاً عن المسألة، وسعياً على أهله، بعثه الله ووجهه كالقمر ".
وقو له: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) قد تقدم الكلام فيه.

قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146).
كأين: بمعنى كم، وأصله أي دخله الكاف، والنون في

(3/896)


آخره هو التنوين، قيل: وإذا وقف يقال كأيْ على قول من قال
مررت بزيدْ، وكأيى على قول من قال بزيدي، وقال بعض
النحويين: يجوز أن يُقال كأيِّن في الوقف، لأنه لمّا تركبا صار التنوين.
كحرفٍ من الكلمة، كقولهم: رعملي ولعمري.
والرِّبيّ: قيل: التقيِّ العالم المنسوب إلى الربّ، وكذلك الرّباني وغُيِّرَ في النسبة كقولهم في أمس إمْسِيٌّ، وفي الجُمَّةِ جُمّانيّ، وقيل الرِّبيّون
الجماعات الكثيرة، ومنه قيل للجماعة رِبَّة، ولما يجمع فيه القِداح
رِباية، والفرق بين الوهن والضعف: أن الوهن إخلال يغير

(3/897)


الإِنسان، ويضادّه الشّدة، والضعف أختلال بنقصه ويُضادّه
القوى، والاستكانة: الخشوعُ والتضرعُ للمخافة.
وقيل: قُتِل هو فعل مسند إلى قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ)، " و (مَعَهُ رِبِّيُّونَ)، استئناف في موضع الحال، كأنه قُتل ومعه.
وقال الحسن: ما قُتل نبي قط في حرب.
وقال بعضهم ما قال الحسن؛

(3/898)


وإن صح فإنّه لا ينفي أنه قُتل في غير حرب.
وقيل: إن قوله: (قُتل) فعل لقوله (ربيون) أي قُتِل جماعة منهم، فلم يهن الباقون منهم، ومن قرأ: (قَاتَلَ) فيحتمل الوجهين.
وقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
فقد جعلهم محبوبيه تعظيماً لقدرهم، وإلى معنى المحبة أشار بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الصبر خير كله ".
وقال: " الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد".

(3/899)


وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
الفرق بين الدْنب والإسراف من وجهين:
أحدهما: أن الإسراف نجاوز الحد فى فعل ما يجب، والذنبُ عام فيه وفي التقصير، فإذاً كل إسراف ذنب، وليس كل ذنب إسرافاً.
والثاني: أن حقيقة الذنب: التقصير وترك الأمر حتى يفوت، ثم يؤخذ بالذنب. والذنب إذن في الأصل مقابل الإِسراف، وكلاهما مذمومان، أحدهما: من جهة التفريط. والآخر: من جهة الإِفراط.

(3/900)


والمحمود هو العدالة، والقصد المنفك منهما، وثباتَ القدم في الأمر
اللزوم، وعلى هذا قوله: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، وكيفيّة
تثبيت الأقدام، قيل بإلطاف من جهته، وقيل بإنزال الملائكة
عليهم، وذلك عام في كل نصرةٍ ينصر الله بها عبده من قوة نفسه.
ومما يعينه من خارج.
وقيل: أشار بذلك إلى سؤال الصيانة عما يحبط ما تقدم من الأعمال.
وهذا السؤال نحو ما رُوي

(3/901)


فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ".
والآية هى من جملة الحكاية عن الرِّبيين، وتحقيقٌ لما قال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية، وحثٌّ على الاقتداء بمن
تقدّم في أحوالهم التي وصفوا بها، وهذه الجملة من التضرّع إلى
الله وهو جِماع سؤال الخيرات، فقد سألوا الله العفو عنهم فيما
كان منهم من إفراطٍ وتفريط، والحراسة في أنفسهم ونصرهم
على أعدائهم.

قوله تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148).
ذكر في ثواب الآخرة الحُسن تنبيها أن ثواب الدنيا بالإِضافة إليها غير
مُستحسنٍ لانقطاعه، ونبّه بالآية أنّ من أراد ثوابَ الدنيا

(3/902)


لم يحصل له ثواب الآخرة، وأنّ من أراد الآخرة حصلت له الدنيا
والآخرة معا، وعلى هذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت همّته للدنيا شتت الله عليه أمره، وجعل فقره بين عَينيه، ولم يؤته من الدنيا إلا ما كتِبَ له، ومن كانت همّته الآخرة جمع الله شمله، وجعل غِناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"
وهذا المعنى الذي اقتضاه الخبر ذكره

(3/903)


ابن الرومي في قوله:
وتاجر الأجر لا يزال له. . . أمران كل متجرٍ تجره
أجر وحمد وإنما قصد الـ. . . أجر ولكن كلاهما اعتوره
وسئل سفيان بن عيينة: هل يُعطى المسلم ثواب عمله في
الدنيا؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية، وقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
وقوله في قصة يوسف: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ. . .) الآية، تْم

(3/904)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)

قال: (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا. . .) الآية.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149).
هذا هو المعنى المذكور في قوله: (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ)، لكنه لما ذكر هناك باللفظ العام وهو أهل الكتاب الواقع على مؤمنهم وكافرهم خصَّ فريقاً منهم.
فإن قيل: لم غيّر العبارتين؟ ولم كرر ذلك؟
قيل: إنه عرّض في الأول بالنهي، فلما بيّن أحوال المنهيّ عن
طاعتهم، ونبّه على فساد طريقتهم وإرادتهم الشر بالمسلمين أعاد
النهي عن طاعتهم مصرِّحًا، وهذه الطريقة يسلكها الوعظة
المهرة، فنهي الإِنسان عما يهواه إذا لم يعرف قبحه إغراء بفعله،

(3/905)


بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)

فحقٌّ للواعظ أن يتوصل أولاً إلى كشف قبحه، وما يعرض فيه
من الفساد، ثم يصرحُ بتحريمه، والنفي عنه.
وقول الحسن: إنه عنى بالذين كفروا: اليهود والنصارى.
وقول السدّي: إنه أراد المشركين أبا سفيان وأصحابه، فكلاهما صحيح.
فاللفظ عام، ومطاوعتهما ترد على الأعقاب وتورث الخسران.

قوله تعالى: (بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
لما تقرر في العقول: أن المولى يَعُزُّ بحسب عِزَّة مواليه.
وتقرر عند المسلمين أن الله هو العزيز في الحقيقة، وأن كل
عزيز فمنه وبه يَعزُّ، وقد كان نهاهم في الآية المتقدمة عن
موالاة الكفار، والدخول تحت طاعتهم بيّن، أن من

(3/906)


سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)

كان، الله مولاه فهو غني عنهم فهو خير مولى وناصر.
وهذا المعنى قد نبه تعالى عليه في مواضع بألفاظ كثيرة، نحو (نِعْمَ الْمَوْلَى)، وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا).
وفي لفظة بل تلطف وتنبيه أن من المحال أن يكون من تخصص
بموالاة الله، وعرف أن العزَّ منه أن يعتمد غيره أو يقصد سواه.

قوله تعالى: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
الرعب: استرخاء القوى وتقطُعُها من الخوف، ومنه:

(3/907)


جارية رعبوبة، ورعبت السنام قطعته، وبهذا النظر
قالوا: تقطَّع نياط قلبه، وانخلع قلبه، وتوزَع خاطره.
والسلطان: الحجة، وقد تقدم.
والمثوى: إطالة الملازمة.
وقوله: (بِمَا أَشْرَكُوا) أي إشراكهم،

(3/908)


وقوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بدل من ما الأولى، لكن بمعنى
المصدر، إذ لا ضمير يرجع إليه، والثاني بمعنى الذي، إذ
فيما بعده ضمير، ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر.
أو على تقدير: أعني شيئا لم ينزل به سلطانا.
والمعنى لا يختلف، ونبّه أنه لم يجعل لهم حجة فيما قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ولقوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، ولظهور حكمه، وما شوهد

(3/909)


من صدقه. قال - عز وجل -: "نُصرتُ بالرُّعبِ ".
وتصديق ذلك قد شوهد، فقد كان الصناديد يقصدونه عليه السلام لمكاوحته أو الاغتيال عليه، فما كانوا إلا أن يُمكِّنوا أبصارهم منه فيذلوا.
ولمشاهدة الحالة قال فيه الشاعر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة. . . كانت بداهته تُغنيك عن خبر
وهذا أحد دلائل للنبوات التي يعتمدها من عرف الحقائق.
وليس هذا الرعب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، بل لأحزابه والمقتدين به، حتى نرى من رجح عقله وحسن في قمع الشهوة حاله مهيب.
وجعل جهنم مثوى مذموما بالإِضافة إلى الطباع، واعتبارها
بكراهتها لها،

(3/910)


وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

وعلى ذلك قوله: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152).
الحسُّ: يُقال للإِصابة بالحاسّة نحو عِنْتُه ويَدَيْتُه، أي أصبته بهما.
ويُقال تارة لإِصابة الحاسّ نحو بطنته وظهرته، أي أصبتهما.
ولمّا كان إصابة الحاسّة قد يتولد منه فقد الروح استُعير للقتل،

(3/911)


وإذنه هاهنا يصح أن يكون أمره، وأن يكون تسهيله وتوفيقه.
والفشل: ضعف النجيزة، وذلك يكون عن الحرب، وعن
السخاء، بل عن تحمل المضض، وجعل تعالى ميلهم إلى
الغنيمة فشلًا، فإن الحرص والبخل من فشل النجيزة، وسبب
نزول هذه الآية فيما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد وعد المؤمنين بقهر الكفار يوم أحد، ولما صفّ الصفوف جعل أُحُداً خلف ظهره.
واستقبل المدينة، وجعل عَيْنَينَ وهو جبل عن يساره، ورتب

(3/912)


عليه رماة خمسين، واستعمل غليهم عبد الله بن جبير، وأوعز
إليهم أن قوموا في مصافكم، فإن رأيتمونا وقد غنمنا فلا تشاركونا.
وإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، فلما رأوا الكفار يهزمون.
اختلفوا فبادر بعضٌ إلى المعركة، ونظر خالد بن الوليد إلى
الجبل وكان كمينًا للمشركين، فكَرَّ بالخيل، فقتل من بقي من
الرماة، وانتقضت صفوف المسلمين حتى كان ما كان، فقال

(3/913)


قوم: إن الله قد وعدنا نصرنا، فتغيّرت قلوبهم، فبيّن تعالى أنه
قد صدقكم وعده، وأخذتم تقتلونهم إلى أن اعتراكم الفشل.
ووقع بينكم تنازع، فصرفكم عنهم.
وقوله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا) قيل: الغنيمة.
(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي نصرة النبي في ترك
المكان والمبادرة إلى القتال.

(3/914)


وقيل: بل عنى بمن يريد الآخرة من أقام حافظاً لما استُحفظ.
وقوله: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) قيل: صرفهم إنما كان.
بمنع النُّصُرة وترك إنزال الملائكة عليهم والسكينة، وبإخراج
ما في قلوب الذين كفروا من الرعب، فبيّن أن لم يكن صَرفكم
عنهم خذلاناً لكم، بل كان مؤاخذة لميلكم إلى الدنيا وابتلاءً
لكم، كما بينه بقوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)

(3/915)


وذكر أنه عفا عما كان منهم من مخالفتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإخلالهم بالمركز، قال الحسن: عفا عنهم، إذ لم يستأصلهم.
فقد قتل منهم من قتل، وكسر رباعيّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: (عَفَا عَنْكُمْ) حيث عاقبكم في عاجل الدنيا، وأفضل
عليكم بذلك لكونه موعظة لكم في معاودة مثله)، ثم بيّن أن

(3/916)


الله ذو فضل في عفوه عنكم في انهزأمكم وفي صرفكم عنهم، الذي
صار سببا لتهذيبكم وتمحيصكم، وسبباً لأن تصيروا مجاهدين
في المستقبل، فيعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، فكل
ما هو سبب خير وإن كُره ففضل.
واختُلفَ في جواب (إِذَا) فقال الفرّاء: تقديره تنازعتم.
والواو مقحمة، قال: وذلك يكثر مع إذا نحو (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ) أي: فتحت.
وقوله: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ) أي ناديناه.
وقال ابن بحر:
ثم صرفكم جواب، وتقديره صرفك، وقال: ودخل (ثُمَّ)

(3/917)


إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

في الكلام، لأنه في المعنى مثل: إذا، وكأنه رد لفظ إذا لما طال
الكلام، كقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ثم قال:
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) فأعاد لمَّا لمَّا طال.
فكذلك القول في (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) وهذا القول أستطرفه.
فإني أراه تصور ثُمَّ بمعنى ثَمَّ على التقدير الذي ذكره.
وقال البصريون: جوابه في هذه الأمكنة كلها محذوف.

قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
إذ: متعلق بقوله: (عَفَا) وبقوله: (ذُو فَضْلٍ).
والإصعاد: الإِبعاد في الأرض، سواء كان

(3/918)


في صعودٍ أو حدورٍ، وإن كان أصله من الصعود كقولهم:
تعال في أنْ صار في التعارف، قد يقال لغير معنى العلو.
والصعود: الذهاب في صعود. ولما روى قتادة والربيع: أن

(3/919)


من هرب من المؤمنين ذهبوا في الوادي.
وروى الحسن أنهم صعدوا في الجبل.
وقرئ (تُصْعِدُونَ) اعتباراً بالرواية الأولى
و (تَصعَدون) اعتباراً بالرواية الثانية، وإنمّا ذلك باعتبار علوِّ
الإِنسان في أمرٍ تحرَّاه، كقولك: أبعدت في كذا، وارتقيت في
كذا كل مرتقى، فكأنه قيل: إذ تبعدون في استشعار الخوف،

(3/920)


الاستمرار على الهزيمة.
وقوله: (وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) تعريض بهم في الهزيمة.
ونحوه تحرّاه حسان، بقوله.
ترك الأحبةَ أن يُقاتل دونهم. . . ونجا برأس طِمِرَّة وثّاب

(3/921)


وقرأ الحسن: (وَلَا تَلْوُونَ) من ولي.
وقال بعضهم: هو خطأ.
ووجهه أن ذلك تبكيت لهم، وأنهم لم يلو ما وُلُو بل أخلّوا.
وقوله: (يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)، أي هو بين جماعة
المتأخرين منكم.
وروي أن رسول الله) مم كان يناديهم: "يا عباد الله ارجعوا".
إن قيل: كيف قال (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ)،

(3/922)


والإِثابة تُقال في المحبوب دون المكروه؟!
قيل: قد قال بعضهم: إن ذلك يستعمل في المكروه على أحد وجهين:
إمّا لأن الثواب في الأصل ما يرجع إلى الإِنسان من ثمرة فعله خيراً كان أو شرّاً، ولكن تعورف في الخير، فإذا استعمل في المكروه فعلى اعتبار الأصل.
والثاني: أن ذلك على الاستعارة، وضرب من التهكُّم
في كلامهم، كقوله:

. . . تحيه بينهم ضرب وجيع

(3/923)


وقال بعض المحققين. إنما ذكر لفظ الإثابة هاهنا في الغمّ، لأن
غمّهم وإن كان مكروهاً بالطبع فهو ثواب من الله من وجه، لأنه
كان سبب تهذيب نفوسهم، الذي بيّنه تعالى بقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)، وكل أمر يؤدي بالإنسان إلى أن يجعله بحيث
لا يقلقه فوت مطلوب وفقد محبوب فيا له من ثواب، ولهذا
قال حكيم: جماع الزهْادة في قوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)
فقوله: (غَمَّا) من المفسرين

(3/924)


من اعتبر الغمّين بالمسلمين وقال: أحدهما: ما وصل إلى قلوبهم من الفشل.
والثاني: الخوف. وقيل: أحدهما: مخالفتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثاني: فوت الغنيمة.
وقيل: ما سمعوا من قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقيل: إشراف أبي سفيان عليهم.
والوجه: أن كل

(3/925)


ذلك مراد، لأنه ليس يعني بذلك غمّين، بل غموماً كثيرة متتابعة
متوالية كقولهم: لبّيك وقوله: (بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ)
أي نعمه متوالية، ومنهم من اعتبر أحد الغمين بالمسلمين

(3/926)


ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

والآخر بالكافرين. فقال: أنالوكم مثل ما أنلتموهم، تنبيهاً
على معنى قوله: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)
وقوله: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي عالم به يخبركم به، تنبيهاً
على ما قال: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

(3/927)


قرئ (تغشى) ردًّا على لفظ (أمنة)، و (يَغشى) إلى لفظ (نُعاسًا).
وقُرئ (كُلَّهُ) على الابتداء، و (كُلُّهُ) على التأكيد، وقيل: السبب في
نزولها أن يوم أحد تواعد المشركون بالرجوع، وكان المسلمون

(3/928)


متهيئين للقتال، فأنزل الله تعالى على المؤمنين أَمَنَةً فنام بعضهم.
ونفى عن المنافقين الأمنة، فسهروا منزعجين، فمن حمل
النوم على الحقيقة قال: جعل ذلك رأفةً بهم،

(3/929)


وتخصيص النعاس تنبيه على صيانتهم من الحالة المذمومة من
الامتلاء من النوم، ومنهم من جعله استعاوة لطمأنينة جأشهم.
وزوال خوفهم، وذلك لما ترى من حال المطمئن، ويوصف
المغموم بالسهر، ومنهم من تجاوز ذلك، وقال: إنّه لمّا ذكر في
الأول قوله: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)
بيّن هاهنا أنه تعالى هذَّب طائفة من المؤمنين، حتى صارت نفوسهم آمنة مطمئنة تحت قضاء الله، وهذه حالة الرضى، فقد قيل: الرضى أن يكون العبد ساكنا تحت قضاء الله، مطمئناً عند كل وارد سَرَّ أم ساء، وهذه الحال ادعاها الشاعر صادقاً أو كاذباً في قوله:

(3/930)


فسرَّ ولم ابتهج. . . وساء ولم أشتكي
وقوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) تنبيه على
خبث أنفسهم، وأنها أمارة بالسوء، وذاك أن المنافق شرير.
والشرير لم تتهذب نفسه وأحواله من الغضب والشهوة والحرص
وسائر الرذائل، وكأن ما معه عدو يؤذيه، ولهذا لا يمكنه أن يخلو
بنفسه، لأنه لا يجد شاغلًا له، وكأنه خُلِّيَ مع أُسود وأساود.
وقوله: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) تنبيه على جهلهم وعدم معرفتهم
بحكمة الله ونعمته في قهر الكفار للمسلمين في بعض الأحوال.
وأنها نعمة. وظنهم غير الحق: ظنُّهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدقهم، ويأسهم من نصرة الله تعالى.
وقوله: (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) أي ظن

(3/931)


الكفار، أن هؤلاء المنافقين بعدُ في حيّز الكفار، وفي قِلَّةِ
معرفتهم الله بحكمة الله تعالى، وأنهم لا يعرفون الخير والنعمة
إلا المال والجاه والغلبة الدنيوية، فإذا فاتهم ذلك ساء ظنهم.
وقوله: (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ):
هل لنا طمع الغلبة، تنبيها أنهم استشعروا اليأس الذي يستشعره القوم
الكافرون، فأكذبهم الله تعالى، فقال: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
أي الغلبة الحقيقة له ولأوليائه، فإن حزب الله هم الغالبون.
وقيل: عنى بالأمر الاستئمار، أي لو شُووِرنا لأشرنا بترك هذا
المورد، فقال الله تعالى: (الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي هو أعرف بالتدبير.

(3/932)


وقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)
معناه لولا أنا أكرهنا لما خرجنا، وفصل بين الحكايتين
عنهم، أعني (هَل لنا) وقوله: (يَقُوُلون) بجملتين:
إحداهما: جواب لهم، وهي قوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ).
والثانية: تنبيه على ما في ضمائرهم، وهي قوله: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ).
ولمّا فصل بينهما أُعيد في الحكاية عنهم لفظ (يَقُولُونَ) لئلا تشتبه
الحكاية عنهم بما هو إخبار منه تعالى،

(3/933)


وقال بعض المعتزلة: عنى بقوله: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)
أنه كقوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) وهذا إن كان
كما قاله هذا القائل، فقوله: (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) تصديق لهم.
وقوله: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)
تكذيب لهم، وأنه محالٌ - أن لا يُقتلوأ مع أن قتلهم بذلك المكان
جارٍ في قضائه وتقديره، وقد حُمِلَ ذلك على وجهين: إما أنّ من
فدر له القتل لو لم يخرج لأتاه القتل، وهو في مضجعه في داره،

(3/934)


والثاني: أنه لو كنتم أيها المؤمنون قعدتم في بيوتكم، ولم تخرجوا
للمحاربة لخرج من قُدِّر له القتل بسبب خفي إلى مضاجعهم في
الحرب أي مصارعهم فيُقتلون، تنبيهًا أن قضاء الله وتقديره
وعلمه لا يتغير، وأنه لا ينفع حذر من قدر، وإلى هذا أشار
الشاعر بقوله:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة. . . دعته إليها حاجةٌ فيطيرُ
وقال الأصمّ معناه: لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم، ولم
تخرجوا لبرز المسلمون الذين كتب عليهم أي أوجب أن يقاتلوا
محتسبين، ويكون هذا ثناء من الله تعالى على من استُشهد.
إن قيل: ما حقيقة الابتلاء والفصل بينه وبين المحص؟

(3/935)


قيل: الابتلاء في الأصل هو الاختبار، الذي يفصل به بين الخير والشر
فهو اسم الفعل مبدأ ونهاية، فمبدؤه الاختبار، ونهايته الفصل بين
الخير والشر إذا استُعمل في الله تعالى، فإنّه يُراد به النهاية دون
المبدأ، الذي هو التوصل إلى الفصل.
وأما التمحيص فإزالة ما قد انفصل من الخير عن الشرّ.
وكان المقصود به ما ذكره الله تعالى في قوله: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

(3/936)


إن قيل: على ماذا عطف قوله: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ)؟ ولمَ كرّر الابتلاء بعد أن ذكره في قوله: (لِيَبْتَلِيَكُمْ؟ ولمَ علّق الأول بالذات كلها، والثاني
بما في الصدور؟ وما الفرق بين قوله: ما في الصدور، وبين قوله:
ما في القلوب، وخصّ ما في القلوب بالتمحيص؟
قيل: أما ما عطف الابتلاء فعلى قوله: (لِكَيْلَا تَحْزَنُوا)، وفصل
بينهما بما هو تسديد الكلام وإشباع للمعنى، وهذا جائز، وقد
تقدم الكلام في نحوه، ويجوز أن يتعلق بمضمرٍ دلَّ عليه ما
تقدم من قوله: (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)، وأما تكريره
وتعليق الأول بالذات والثاني بما في الصدور، فإن لله تعالى
تكليفين: الأحكام والمكارم كما تقدم، والأحكام قبل المكارم.
وجُلُها متعلِّق بالضمائر، وعملُ الجوارح فيها قليل، فحيث

(3/937)


ما أراد منهم الحكم وهو الثبات في الحرب والجد بالجوارح، علّق
الابتلاء بالجملة، وحيث ما قصد المكارم من إصلاح الضمير.
من نقض الحزن ورفض الذعر ذكر الصدر، وحينما ذكر الإِيمان
المحض ذكر القلب، وكل موضعٍ يذكر الله في القرآن العقل.
والإيمان، فإنه يخصُّ ذكر القلب، وإذا أراد ذلك وسائر
الفضائل والرذائل ذكر الصدور، وهذا إذا اعتُبر بالاستقراء
انكشف، نحو قوله: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ).
وقوله: (فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وقوله: (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم).
وقوله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ).
وقوله: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ).
وقوله: (فِي صُدُورِ النَّاسِ)، ولما كان التمحيص أخصَّ من الابتلاء
كما تقدم خصَّه بالقلب، وهذه الأحوال الثلاث يترتب بعضها
على بعض، فبإصلاح العمل يُتوصل إلى إصلاح ما في الصدور

(3/938)


إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

من الشهوة والغضب، وبهما وبإصلاح ذلك يَتوصل إلى إصلاح ما
في القلوب من الاعتبارات التي لا يعتريها شك وريب، وذلك
ما يبلغه العبد، وبه يستحق اسم الخلافة لله المذكور في قوله:
(وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، ثم قال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، أي عالم بجميع ما ينطوي عليه من الضمائر الطيبة والخبيثة.
وخصَّ الصدور دون القلب إذ هي أعم.

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

(3/939)


قال السدّي: هو خاصّ في الذين انهزموا إلى المدينة.
وقال عمر وبه قال الربيع وقتادة: بل في الذين ولوا المشركين أدبارهم.
فيكون عامًّا فيمن أبعد ومن لم يبعد، وبيَّن أن الشيطان استزلهم
بخطيئة كانت منهم.
قال الزجاج: إنما أذكرهم خطايا سلفت لهم.
فكرهوا أن يُقتلوا قبل أن يتوبوا.
وقيل: بل كان منهم خطيئة صارت مسهلة لسبيل الشيطان إليهم.
فإن الإِنسان إذا حصّن ثغره بالعمل الصالح والعلم فقد سدَّ طريق الشيطان على

(3/940)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

نفسه، ومتى أهمل ثغره سَهَل سبيل عدوه إليه، وجعل له ثلمة
يدخل منها عليه، وذلك بأن يُفسد إرادته، وبيّن أنه تعالى عفا
عنهم، وقيل: ذلك بحلمه عن تعجيل عقوبتهم.
وقيل: بل بالغفران عنهم عاجلاً وآجلاً، وهو الصحيح، لأنه جعل
علة عفوه الأمرين، فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156).
41)
51)
ثُلمة: الملْمة با لضم ": فرجة المكسور والمهدوم. القاموس ص (1452).
لْصحفت في الأصل إلى (بحمله) والصواب ما أثبته.
ذكره ابن عطية عن ابن جريج. انظر: المحرر الوجيز (3 274).
واختاره السمرقندي في بحر العلوم (1 310).
قال أبو حيان: "ألجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في
الدنيا والاخرة 00. (إ تً أفَهَ غَفور زَصِير) أي غفور الذنوب.
حليم لا يعاجل بالعقوبة، وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن
هؤلاء الذين تولوا يوم أحد. . . " البحر المحيط (3 99) وانظر: جامع
البيان (7 327)، والمحرر الوجيز (3 274)، وتفسير القرآن العظيم
لابن كثير (1 395).
سورة آل عمران، الإية: 156. ونصُّها: (يايخا اَلًذِينَءَامَنُوا لَا تَ) ولؤُا
؟ لَذِينَ كَفَرُوأ وَفَالُوأ لِإخوَنِهِتم اذَاضرًبُرا فِى اَ لازضِى أَؤ كاَلُؤا غُزً ى) ؤكاَلؤُأغَدَنَا
مَا مَالؤُاوَمَاقُتِلُوأ لِ) خحَلَ اَلمَهُ ذَلِكَ حَمتحر لى قُلوُبِهِتم وَاَلئَهُ قُيِءلَيمُميث وَأللَهُ سا
لغمَلُونَ بَصِيُرُ).
941

(3/941)


الذين كفروا عام، وإن كان قد قال السدّي:
عُني به عبد الله بن أُبيّ وأصحابه.
والضرب في الأرض: الإِبعاد في السفر.
وغُزًّى: جمع غازٍ، نحو شُهّد وقُوّل في شاهد وقائل.
وإخوانهم: من سلك طريقهم في الكفر والنفاق،

(3/942)


والحسرة: الغمّ على ما فات، وأصلها الإِعياء عن إدراك المطلوب.
وسُمّي الغمُّ بذلك: إذ لا يفيد الإعياء، وعلى هذا قيل:
. . . إن ليتاً وإن لوًّا عناء
إن قيل: إذا كان الإِخوان هم المقول لهم، فالوجه أن يُقال:
لو كنتم، لأنه يقال: قلت لزيد: لو فعلت كذا، ولا تقول فَعَلَ وأنت
تعنيه، قيل معناه: قال بعضهم لبعض لأجل إخوانهم، أو
يعني قالوا لبعض إخوانهم إذا ضرب بعضهم في الأرض لو كان
الضاربون في الأرض عندنا. وتقدير الكلام: إذا ضربوا في
الأرض فماتوا أو كانوا غُزًّى فقتلوا: لو ظَلُّوا عندنا لما حدث

(3/943)


ذلك بهم، وبيّن الله تعالى أن ذلك لا يثمر لهم إلا حسرة في
قلوبهم مع العلم بأن الله هو المحيي والمميت، وعلى نحوه قال
أبو ذؤيب:
يقولون لي لوكان بالرمل لم يمت. . . نُشيبة والطرّ أو يكذب قيلُها
ولو أنني استودعته الشمس لارتقت. . . إليه المنايا عينُها أو رسولها
إن قيل: لِمَ قال: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ولو علّق ذلك
بالسماع لكان أليق، لأن ما كان منهم قول مسموع لا فعل مرئي؟
قيل: لما كان قول الكافرين ذلك قصداً منهم إلى عمل يجادلونهم
خص البصر، كقولك لن يقول شيئاً وهو يقصد به فعلا يحاوله:
أنا أرى ما يفعله، إن قيل: إذا للمستقبل، وقد جُعِل ظرفا
لقوله قالوا، ولا يجوز أن يقول: جئتك إذا زرتني، فما وجه ذلك؟
قيل: إذا متى لم يُقصد به وقت معين، كان متضمّناً للشرط.
فيكون الفعل الذي هو في تقدير جوابه بمعنى

(3/944)


وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)

الاستقبال، وكأنه قيل: إن ضربتم في الأرض، أو كلما ضربتم
قالوا، واللام: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ) لام العاقبة.

قوله تعالى: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157).
يقال: مِت ومُت، والضم أقيس، والكسر كثير، والآيتان

(3/945)


تضمنتا إلزاما هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص

(3/946)


فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

على القتل في سبيل الله، وبيانه ما أقول: إن قُتلتم في سبيل الله أو
متم فيه حصلت لكم المغفرة والرحمة تنبيها أنه أوجبهما للثواب.
ولمّا عنى في الثانية الموت المطلق والقتل العارض قدم أبينهما
عندهم إذ لابد منه، فكأنه قيل: إن حصل ما لابد منه بوجه وهو
الموت حتف الأنف، أو ما هو عارض، وعندكم أنه قد يكون
منه خلاص، وهو القتل، فالحشر لا محالة حاصل.

قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159).

(3/947)


قال النحولِون (ما) زائدة، وعلى هذا (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ).
وقوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ)، وأفاد التأكيد.
ووجه تأكيده أنه نكرة تدل على إبهام ما عُلِّق به، وإبهامه يقتضي التعجب.
فكأنه بعظيم من رحمته (لِنْتَ لَهُمْ) واللّين عبارة عن حسن الخلق.
وحسن الكلام بالصفو والزلال، حتى قال الشاعر:

(3/948)


. فتى مثل صفو الماء ليس بباخل.
استعمل في ضده الفظاظة.
وغلظ القلب: عبارة عن قلة الرحمة. وبإزائه رقّة القلب.
والانفضاض: التفرق، وانفضَّ وارفضَّ يتقاربان إلا أن انفضَّ اعتباراً بانكسار بعضهم عن بعض، وارفضَّ اعتبارا برفض بعضهم بعضاً.
والمشاورة: استخراج صائب الرأي عن الغير.
واششقاقه من شور العسل، وشرت الدابة وشورتها،

(3/949)


والعزم: ثبات الرأي على الأمر، نحو إجماع الرأي، والتوكل
على الله الثقة به والوقوف حيثما وقف، وبين أدنى منزلة له
نحو ما قاله للأعرابي "اعقله وتوكل" وبين غايته التي هي
كحال إبراهيم عليه السلام بون بعيد.
ونبّه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
على فعمته على النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا وعلى أمّته ثانيا.
كقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وأمره بالعفو عن
تقصيرهم فيما يلزمهم له، وأن يستغفر لهم من ذلك، كقوله:

(3/950)


(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
ثم أمره بإجراء نفسه مجرى أحدهم في الرأي الذي هو خاصّ بالإِنسان.
ثم قال: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي وإن قاربتم هذه المقاربة فليكن اعتمادك على الله، وتقويتك به، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله".
واختُلِفَ في مشاورة النبي لأصحابه على أي وجه، فقال سفيان بن عيينة: ليقتدي به غيره، وقال قتادة: تطييباً لقلوبهم، ويجب أَن نقدّم مقدمة
تبيّن في أي أمر أولا تدخل الاستشارة؟ ثم من استشار غيره فلأي

(3/951)


قصدٍ يستشير؟ فيقال: أمّا ما يُستشار فيه فهو الأمور الممكنات
المتعلقة باختيار الفاعل، وأما القصد بالاستشارة فتارة لاستضاءة
المُستشِير برأي المُستشَار، أو لئلا يُلام إذا استبدَّ بالأمر، فيتفق
وقوعه بخلاف المراد، ولهذا قيل: الاستشارة حصنٌ من الندامة.
وأمن من الملامة، وتارةً طلبا لهداية المستشار، إما لأن يتبين له
خطأ رأيه إن كان له رأي خطأ في ذلك الأمر، وإمّا أن لا يعتقد هو
أو غيره أن الاستبداد فضيلة فيستبد برأيه فيما ربما يؤذي إلى
فساد: إما لإِكرامه أو تعظيمه، فإذا تقرر هذا فأمور النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تنفكّ: إما أن تكون شيئاً دينيَّا أو دنيويًّا.
فإن كان دينيا فمعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير محتاج إلى الاستضاءة برأي غيره من البشر، لما أمدّه الله تعالى به من النور الإِلهي، وما كان يستشيرهم في أصول الشريعة، لكن ربما كان يستشيرهم في شيء من فروعها، التي هي من مسائل الاجتهاد لنا، نحو ما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار

(3/952)


إصحابه في شعارٍ يرفع للصلاة، ومثل ذلك تشريف لهم أولا.
وتنبيه أن ما سبيله الاجتهاد فحقُّه الاستعانة فيه بالآراء الكثيرة
الصحيحة، لينقدح منها الصواب، وأمّا ما كان من الأمور
الدنيوية كالمساحة والكتابة والحساب، فمعلوم أنه كان مستغنياً
بغيره في كثير منها، بل قد صرّح في ذلك بقصوره (1) فيما رُوي أنه
__________
(1) الأولى مراعاة الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثَمَّ كان الأولى عدم استخدام هذه العبارة. والله أعلم.

(3/953)


عليه السلام لما ورد المدينة ووجد أهلها يؤبِّرون (1) نخلهم، فقال:
"ما أرى أن ذلك ينفع " فتركوه، فتبين ذلك في نقصِ أثمارهم
فشاوروه فقال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأنا أعلم بأمور
آخرتكم" (2).
وعلى هذا. ما كان يتعلّق بأمور الحرب المتعلقة
بتهييجها تارة وتسكينها تارة، وبالمنِّ فيها تارة وبالافتداء تارة.
ولذلك لما همَّ بمصالحة عُيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة.
قال بعضهم: أبوحي هذا أم برأي رأيته؟ قال: "برأي رأيته"
فراجعوه وبينوا له موضع الصواب، وترك رأيه لرأيهم.
__________
(1) يؤبرون: يلقّحون: المصباح المنير.
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب - الفضائل - باب "وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره عنيم في معايش الدنيا" رقم (2363) دون قوله: "وأنا أعلم بأمر آخرتكم " من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما.

(3/954)


إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

وكذا مراجعة عمر له بما همَ به من كتاب القضية عام الحديبية.
فثبت أن ما يتعلق بالأمور الدنيوية حال الرسول عليه السلام
وغيره فيه سواء، والمشاورة مستحبة له كما هي مستحبة لغيره.

قوله تعالى: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
أكثر المفسرين جعلوا نصرة الله للعبد في الحقيقة تقويته بأعظم السلطانين
الذي هو الحجّة القاهرة وأعظم التمكينين الذي هو العاقبة المذكورة
في قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وفي أشرف الدارين

(3/955)


حيث لا ينفع مال ولا بنون. فقالوا: معناه: إن حصل لكم النصرة فلا تعتدُّوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غَلَبة، وإن
خذلكم في ذلك فلا تعتدّوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا
نصرة، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل.
ومنهم من اعتبر ذلك في أمر الدنيا، فقال: معناه: إن نصركم الله في الدنيا بموافقتكم - صلى الله عليه وسلم - فلا غالب لكم، وإن لم ينصركم فلا ناصر لكم.
وحَمله على الأول يدخل فيه الثاني، فإن من نُصِر في آخرته فهو في
الدنيا منصور، وإن لم يدرك نصرته إلا بالبصيرة دون البصر، وحمله
على الثاني قد ينفك من نصرة الآخرة.
وقوله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أمرهم بالتوكل عليه، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية الأولى، وأن يستجلبوا النصرة منه بذلك.

(3/956)


وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)

قو له تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
الغلول: تناول مال الغير بضرب من المكيدة، وكثر استعماله
في الغنيمة، وسبب نزول ذلك، قال ابن عباس: هو أن فُقِد
قطيفة حمراء يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها، وقال الضحاك: هو عتاب لمن استُحفظوا الثنيّة

(3/957)


يوم أحد، حيث قال بعضهم: ربما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من تناول شيئاً فهو له " فَنَبقى بلا غنيمة، فعلى هذا يكون هذا القول ثناء
عليه - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: بل ذلك حثٌّ، للنبي على التعفف، وإن كان معلوماً أنه لا يغُل، كقوله: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).
ومن قرأ (يُغَلَّ) فقد قيل: نهي للناس أن ينسبوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

(3/958)


من قولهم: أغللت فلانا. كقولهم: أكذبته.
وقرأ رجل بحضرة ابن عباس "يُغَل" فقال: بلى ويُقَتل.
فكأنه حمله على الخبر، ولم يرتض قراءته.
وقال الحسن: نَهْي أن يَخُونوه.
فإن قيل: فلم خصّه والخيانة معه ومع غيره مذمومة؟
قيل: قد قال بعض الناس: إن تخصيصه تعظيم له.
فإن الخيانة وإن كانت مستقبحة مع كل أحد.
فمع من يُرشح لهداية الناس أقبح،

(3/959)


وقال بعض الناس: إن ذلك في الحقيقة نهي عن الخيانة رأسا في
كل ما أتى به النبيِ - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام، كقوله: (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ).
وقال بعض الناس: قراءة من قرأ؟ (يَغُلَّ) أولى، لأن كل ما جاء في التنزيل من هذا النحو فمسندٌ إلى الفاعل دون المفعول.
نحو (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ).
وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ).
وقوله: (وَمَن يَغلُل) تعظيم للغلول، وأنه لا انفكاك له من جزائه، فكأنّ ما قد غلّه يَصحبُه، وعلى هذا ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"لا أعرفنُّ رجلًا يأتي بفرسٍ له حَمْحَمة").
وعلى هذا ما قاله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا أعرفن رجلًا يأتي ببعير قد غلّه له رغاء".

(3/960)


أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

، وعلى هذا ما حُكِي عن لقمان: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) وقد تقدم الكلام في باقي الآية.

قوله تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

(3/961)


قَرِئ: رُضوان، وهما مصدران نحو: كفران وحسبان.
وهو غاية الرضا، و (باء) بكذا رجع به، ومنه البَوَاء في القصاص.
إذا كان فيه مرجوع فيمن قتل.
والسخط: حصول غضب يقتضي عقوبة.
وإذا استعمل في الله فبمعنى إيجابه العقوبة.

(3/962)


هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

والغيظ يقاربه، إلا أنه يُقال إذا كان معه تغيّر منكر، ولا يُوصف به
الله، والفرق بين المصير والمرجع: أن الرجوع هو انقلاب
الشيء إلى حال كان عليها، أو ما هو مُقدّر تقديرها.
والمصير: التنفل من حال إلى حال أخرى، فهو أعمُّ من الرجوع.
والقصد بالآية تبعيد ما بين الفريقين كقوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ).

قوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

(3/963)


قيل: هي صفة لـ (من اتبع رضوان)، وبيّن أنه كما أن من باء بسخطٍ
من الله مأواه جهنم، فمن اتبع رضوانه هم ذوو درجات عند الله
أي ثواب كبير، والصحيح أنه قسّم الناس في الأولى قسمين: فائزاً
برضوانه وبائياً بسخطه، وبيّن في هذه أن القسمين كل واحد بين
البعض والبعض تفاوتا، وذاك أن الناس إذا اعتبروا فمن بين
ملكٍ مقرب، كما قال: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).
وبين أخسّ بهيمة، كما قال: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ).
وما بينهما بحيث لا يمكننا حصره، ولذلك قيل في المثل:

(3/964)


الناس أخيافٌ وشتّى في الشيم وكلُهم يجمعهم بيتُ الأدم
ولتفاوت درجاتهم وتفاوت ثوابهم وعقابهم ما روي أن
الجنة درجات والنار دركات، ونبَّه بقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)، أنه لا يخفى عليه ما يتحرّاه كل واحد، فإذن

(3/965)


لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

يقف كل موقفَه الذي يستحقه.

قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
المِنَّة: استكبار النعمة بالفعل أو بالقول، فأما بالفعل
فحسن، وأما بالقول فما لم يكن فيه وعظٌ ممن له الوعظ
فمستقبح، ولذلك قيل: المنّة تهدم الصنيعة، وقوله:

(3/966)


(رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، وقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
قيل: عنى من أهل بيتهم ومن العرب.
وقال بعضهم: ليس هذا بسائغ، إذ لم يُخصّ أهل بيته به ولا العرب
خاصة، بل هو مبعوث إلى العالمين، فالوجه في قوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
أي من البشر، وذاك أن كل ما أوجده الله في هذا
العالم لا يأخذ نفعه إلا مما بينه وبين المأخوذ منه ملاءمة ما، وذلك
حكم مستمر في كل شيء، فلما كان كذلك جعل الله تعالى الأنبياء
المبعوثين إلى كافة البشر بشراً مثلهم في الخلقة والصورة، وخصّهم
بفضل قوة التمييز والمعرفة، يأخذون من ملائكته وحْيَهُ.
ويولونهم، ولولا كونهم من جنسهم لما قدروا على أخذهم

(3/967)


أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

منهم، ولهذا قال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا)، فبيّن
تعالى نعمته عليهم أن رشح لهم من سَهُل تناولهم منه.
وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) لم يعن تلاوة آيات القرآن فقط.
بل عنى بذلك تنبيههم على آيات الله في السموات والأرض.
وفي أنفسهم، ولهذا حَسُنَ عطف قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)
عليه، وقد تقدم الفصل بين الكتاب والحكمة، ومعنى التزكية.

قوله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)

(3/968)


دخل ألف الاستفهام على واو العطف ليفيد مع الاستفهام
تعلق ما بعده بما قبله، وكذلك إذا قلت: أوَ كانَ كما تقول؟ إذا
أردت بناء كلامك على كلام المخاطب، وكان المسلمون قتلوا
من المشركين يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، فلمّا كان يوم
أحد، وقُتل جماعة من المسلمين تغيّر قلوب قوم، فخاطبهم الله
بذلك، وعنى أنكم أنكرتم أن نالكم منهم شطر ما نالهم منكم.
وأخذتم تقولون: آَنى نالنا ذلك؟! فأجابهم الله بأن ذلك من عند
أنفسكم، فإن الله وعدكم أن ينصركم بشريطة أن تصبروا وتتقوا،

(3/969)


فخالفتم، وقد قيل: مخالفتهم أنهم دُعُوا إلى التحصُّن بالمدينة
فأبوا إلا الخروج، وقيل لاختيارهم الفداء يوم بدر.
وقيل لمخالفة الرماة، والأولى أن يكون عامّاً في جميعها، وهو

(3/970)


وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)

إشارة إلى ما فضله قبل بقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) الآية.
إن قيل: ما وجه قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عقب هذه الآية؟
قيل: نبّه بذلك أن لم يصبكم ما أصابكم لوهن في دينكم أو ضعف في قدرة الله، فكأنه قيل: هو من عند أنفسكم، لا من خلل دخل في أمره، فإن الله على كل شيء قدير، ومن كان هذه حاله فهو قادرعلى دفاعهم.

قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
دخول الفاء في قوله: (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) لتضمن الذي معنى
الشرط، كأنَّه قيل: إن أصابتكم مصيبة فإصابتها بإذن الله،

(3/971)


وقد أصابتكم، فإذا كان بإذن الله، وأصل الإِذن العلم بالشيء
من أذنت له، أي استمعت إليه فعلمته، ثم يُقال في التعارف
لمن لا يمنع من فعل شيء مع العلم به، والقدرة عليه على منعه.
سواء أمر به أو لم يأمر: فعل كذا بإذنه، فإذا حُمل على العلم
فنحو قوله: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) وإذا حُمِلَ
على الأمر فليس يعني أنه أمر الكفار بذلك، وإنما عنى أنه أمر
الملائكة المذكورين في قوله: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا).

(3/972)


إن قيل: وإذا حُمِلَ على الأمر فليس يعني العلم.
فكيف يصح وقد قال بعده: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ)؟
قيل: ليعلم المؤمنين أي ليحصل إيمان المؤمنين، وقد تقدم حقيقة ذلك.
ثم بيّن تعالى ما كان من ذنوبهم، فقال: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي استعملوا النفاق في أعمالهم.
ولمّا قيل لهم إمّا أن تحاربوا أو تحضروا مكثّرين للسواد دافعين عن
الحوزة، قالوا مجيبين بما حكي عنهم، وقول السدّي: ادفعوا
بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا، وقول غيره: رابطوا

(3/973)


بالقيام على الجبل إن لم تقاتلوا، وقول غيرهما: احضروا موضع
الحرب. ليست بأقوال مختلفة في المعنى، كما قدره بعض
النَقَلَة، وإلا ذلك اختلاف عبارات وتعيين أمثلة لمقصد واحد.
وحمل بعض الصوفية ذلك على الجهاد فيَقول: معناه إما أن تبلغوا
منازل الصديقين في مجاهدة وإماتة الشهوات أو ادفعوها عن

(3/974)


ارتكاب المحارم، وزُفُوها عن احتقاب الماَثم إلط لم تقدروا على
الأول، ثم عيّرهم بقولهم: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)، أي لو
صادفنا من أنفسنا منكرا لارتسمنا ما رسمتم، تنبيهًا أنه خفي عليهم
عيوب أنفسهم، وقوله: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ) تنبيه على نفاقهم؛ وذاك أن المنافق كأنه بين الكافر والمؤمن، فإنه من حيث ما يُظهر الشهادتين، ويلتزم ظواهر الشريعة بالقول، وظواهر الأعمال محكوم له بالإِيمان، ومن حيث يتحرى في اعتقاده تحري الكفار كافر، وبين أحوال المنافقين تفاوت، بيّن تعالى بهذا القول أنهم في هذا القول بالكفار أشبه منهم بالمسلمين،

(3/975)


وأقرب: قيل: هو من القُرب وقيل: من القَرَب من الماءِ.
ثم بيّن تعالى علة قربهم من الكفر، فقال: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، تنبيهاً أن الاعتبار في الإِيمان المستحق به الثواب
بالنيات والضمائر، لا بالأقوال المجردة عن الاعتقاد، ولهذا شهد
للمنافقين في قولهم: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) بالكذب، فقال:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وحكم لمن تلفظ
بالكفر من غير مطابقة الاعتقاد له بالإِيمان، فقال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)، ثم حذّرهم عن اعتقاد غير الحق بقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)،

(3/976)


الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

كقوله: (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ).
وقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ).
وهذه الآية كالشرح لما أجمله في الأولى، حيث قال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
هذه الآية من تمام صفة المنافقين عبد الله بن أُبّي وأصحابه.
قالوا: إن قتلى أُحُد لو أطاعونا في التأخُّر عن القتال ولزموا
بيوتهم ما قُتلوا، وإعراب (الَّذِينَ): إما نصب على البدل من
(الذين نافقوا)، أو رفع على خبر الابتداء المضمر، أو بدل من
الضمير في (يَكتمُونَ).
إن قيل: لم أخّر ذكر القعود عن القول

(3/977)


وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
مع كونه مُقدّما في المعنى؟ قيل: إن قوله: (وَقَعَدُوا) في تقدير
الحال، أي قالوا وهم قاعدون، كقولك:، خرج زيد وقد ركب.
ويكون ركوبه قبل الخروج، وقد أكذبهم الله في ذلك بقو له: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) وكأنه قال: القتل ضرب من
الموت، فإن كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري
فادفعوا عنها الموت، وإذ لم يمكنكم ذلك دلّ أنكم مبطلون قي
دعواكم.

قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)

(3/978)


روي عن ابن عباس والحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لما أُصيب إخوانكم بأحُدٍ جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضرٍ ترِدُ أنهار
الجنّة، وتأكل من أثمارها، وتأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش.
فلما وجدوا طِيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يُبلِّغُ إخواننا
عنّا: أنّا أحياء في الجنّة، نُرزق، كي لا ينكلوا عن الحرب؟ فقال
تعالى: أنا أبلّغهم عنكم، فأنزل هذه الآية".
فدل ذلك أن الأرواح أحياء تُثاب وتُعاقب قبل أن تُعاد إلى الأجسام يوم القيامة، وعلى هذا قال في صفة آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، ودل عطف قوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)

(3/979)


أن عرضهم على النار قبل يوم القيامة.
وروي: "إنّ أحدَكم إذا مات عُرضَ عليه مقعده بكرة وعشية.
فيقال: هذا مقعدُك حتى تُبعثَ إليه ".
وهذا قول السلف وأصحاب الحقائق، الذين عرفوا حقيقة الروح المعنيّة هاهنا، وكونه جوهرا.

(3/980)


له بذاته قوام، وأما متأخرو المعتزلة الذين لم يتجاوزوا منزلي
الِحسّ والوهم، ولم يروا الروح إلا ريحا أو عرضا، فبعضهم

(3/981)


قال: يعني أحياء يوم القيامة، ووصفهم بذلك في الحال لقرب
القيامة عند الله، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ)
أي في علم الله، وبعضهم قال: أحياء بالذكر، وبعضهم قال:
أحياء بالإِيمان، وإرادة هذه المعاني بالآية غير ممتنعة، فإن
المؤمنين أحياء بكل ذلك، كما قالوا، ولكنهم مع ذلك أحياء
بالأرواح على ما ورد به الخبر، وزعمهم أن ما ورد من الأخبار
في أرواح الشهداء ليس بصحيح، فإن العقل لا يقتضي ذلك.
فهم إن عنوا العقول الصدئة التي عناها من قال:

(3/982)


فلان لم يؤت من العقل إلا مقدار ما يلزم به حجة الله فقد صدقوا، وإن
عنوا العقولَ المجلوة السليمة من درن الهوى المعنيّة بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
وبقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) فليس كما ظنوا.
ومن زعم أن القول بحياة الأرواح يؤدِّي إلى القول بالرجعة
فوهم فاسد، ولئن كان ذلك يؤدي إلى ما قالوه فإحياء الله مَن
وصفهم بقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) الآية.

(3/983)


وإحياء عيسى الأموات أكثر تأدية إليه، وأما على طريقة
المتصوفة المذكورة في قوله: (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا)
فإنهم قالوا: لما كان الإِنسان مركباً من بدن وروح، والعقل تابع للروح.
والهوى تابع للبدن، وبتوهين أحدهما تقوية الآخر، نبّه تعالى أن
من جاهد نفسه، وقتل هواه في سبيل الله فلا تحسبنّه ميتاً، وعلى
هذا قيل: قتل النفس في الدنيا حياة الآخرة.
إن قيل: لم وصفهم بالفرح، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)؟ قيل: الفرح تجاوز الحد في السرور بالملاذّ، ولما كانت

(3/984)


الملاذّ الدنيوية غير متنافس فيها ذمّ الفرحين بها، ولما كانت
الملاذّ الأخروية متنافساً فيها، كما قال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) أباح لهم الفرح بها، حتى قال: (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا).
وأما استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم، فتنبيه أنهم يعرفون نعمة
الله بالموت والقتل في سبيله، ويسرون إذا أخبروا بقتل أو موت
إخوانهم بخلاف أبناء الدنيا، وقوله: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) متضمنٌ لذكر كل شيء يكدر الحياة، فإن ما يعرض
في الدنيا: إما خوف لوقوع محذور، أو حزن لفوت محبوب.
والضمير في: (عَلَيْهِمْ) يجوز أن يكون ضميراً للذين لم يلحقوا بهم، وأن
يكون للمستبشرين، وأن يكون لهما.
إن قيل: لم رفع (أَحْيَاءٌ) ونصب (فَرِحِينَ)؟
قيل: لأن (فَرِحِينَ) حال للذين قتلوا، والنصب به أولى، و (أَحْيَاءٌ) استئناف، ولو نصب لكان معناه: بل احسبهم أحياء، ولم يُرد ذلك، وإنما أراد بتّ الحكم بكونهم أحياء.

(3/985)


يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

قوله تعالى: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
إن قيل: ما الفرق بين النعمة والفضل هاهنا؟
قيل: الإشارة بهما إلى المذكورين في قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، فالنعمة هي الحسنى والفضل هاهنا الزيادة.
إن قيل: لِمَ نكرهما؟
قيل: التنكير في مثله على وجهين:
أحدهما: ليدل على بعض غير معين.
والثاني: قصد إلى إبهام المراد تعظيما لأمره، وتنبيهًا أنه

(3/986)


يصعب إدراك شرحه، وكأن التنكير في هذا إشارة إلى نحو ما
قال: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت "
إن قيل: ما حقيقة (لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)؟
قيل: لما كان من الأعمال التي صورتها في الدنيا صورة العبادات التي يستحق بها الثواب ما هو في الحقيقة غير عبادة يستحق بها الأجر.
وإياها قصد بقوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)
بيّن هاهنا أن عمل المؤمنين لا يجري مجرى أعمال هؤلاء.
إن قيل: ما الفرق بين الإِفضال والإِحسان؟
قيل: كلاهما اسم الزيادة على فعل العدالة.
وتجاوز ما يجب إلى ما يستحب، لكن الإِحسان يُقال
باعتبار جمال الفعل في نفسه وتحرِّي تحسينه، والإِفضال يقال
باعتبار فعل بفعل أو فاعل، فيقال للزائد على الإجزاء فاضل.

(3/987)


الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

فالاستجابة لله وللرسول، وإن جمع بينهما في
الإِيجاب فالواجب بالقصد الأول استجابة الله، لكن لمّا لم تتم
استجابته إلا باستجابة رسوله صار ذلك واجباً، لأن ما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب، والاستجابتان مختلفتان، فإن استجابة
الله بتوجيده وعبادته، واستجابة رسوله بتلقي الرسالة عنه وقبول
النصح منه.

قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

(3/988)


قيل: سبب نزول ذلك أن أبا سِفيان وأصحابه تقدموا إلى نُعيم
ابن مسعود ورضخوا له شيئاً، وقالوا: إذا مررت بمحمدٍ
وأصحابه، فقل: إنا قد أجمعنا على قصدهم بخيلٍ لا قبل لهم بها.
فلما أتاهم، وقال لهم ذلك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
إن قيل: لِمَ: (قال لهم الناس) وإنما قال ذلك رجل واحد؟
قيل: لمّا كان القائل لنُعيم أبا سفيان وأصحابه المعبرّ عنهم بقوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) سُمي الُمنبّئ عنهم بذلك (النَّاسَ)، تنبيهاً
أن المخوِّفين في الحقيقة هم المخوَّف منهم، والآية وإن نزلت فيهم

(3/989)


فالمعنيُّ بها هم ومن جرى مجراهم، ونبّه بما حكى من جوابهم
وفعلهم على نهاية ما يُطلب من إيمان العبد وتوكله لما أظهروا
قولاً وفعلًا، وبيَّن أنهم عادوا بنعمة وفضل في دنياهم وأخراهم
في أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا أنهم لا يَعْرض لهم في
الدنيا ما يُحزن ويُخوّف من سوء، ولكن لا يؤثر فيهم، والمقصود
بهذه النعمة والفضل أعظم مما قال بعض المفسرين من أن المسلمين
لما حضروا بدراً الصغرى، ولم يحضروا للموعد صادفوا بها سوقاً،

(3/990)


فاشتروا ما ربحوا فيه، فكان ذلك هو الفضل والنعمة، فإن
أرباح التجارة الدنيوية أدون من أن يكون مقتصراً عليها في مقابلة
المتوكلين على الله، الراضين عن الله تعالى، المرضي عنهم.
وقوله (رِضْوَانَ اللَّهِ) يجوز من حيث تقدير الكلام: أن يكون على معنى،

(3/991)


إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

أن رضي الله عنهم، وأن يكون على أن رضوا عن الله، فإن من رضي
عن الله فقد رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وذكر تعالى في الآيات الثلاث ثلاث فرق، بعضهم أخصُّ من
بعض، وذاك أن المؤمنين المستجيبين لله عام، والذين أحسنوا واتقوا
أخصّ،، فجعل تعالى للمستجيب لله أجرا غير مُعين، وللمحسن
المتقي في ذلك أجراً عظيماً، وهذا شبيه بما تقدم في قوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (وَاللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

قوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
إن قيل: إلى ماذا أشار بقوله: (ذَلِكُمُ)؟
قيل: فيه أقوال:
الأول: أنه إشارة إلى من قال: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)

(3/992)


فسمّاه شيطاناً لمشابهته في فعله، والثاني: أنه إشارة إلى الشيطان
المتعارف بين الناس، أي الشيطان الذي عرفتموه هو الذي يُخوّف.
والثالث: إشارة إلى ما دل عليه قوله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
أي ذلك العارض الذي هو الوهن والحزن شيطان: كقول الشاعر:
ما ليلة الفقير إلا شيطان. . .

(3/993)


وأمّا (أَوْلِيَاءَهُ) فقد قال ابن عباس: معناه: يخوفكم
أولياءه، فعلى هذا حذف المفعول الأول، كقوله: (لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) ووقولهم: فلان يعطي الدراهم، فالأولياء على هذا هم المخوف بهم،

(3/994)


وقيل: بل أولياؤه هم المخوَّفون، وذاك أن الناس ضربان:
ضرب لا سبيل للشيطان عليه، وهم المعنيون بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وضرب بخلافهم، وهم الذين قال فيهم: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)، وقد صرّح تعالى بذلك في قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
إلى قوله: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).
وحقيقة خوف الله أمتثال أمره، وعلى هذا

(3/995)


وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)

قال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ثم قال: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، تنبيها أن من فرط الإِيمان التحققُ أن ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا، ومن علم ذلك علم أوامر الله، فاتّبعها في ترك ما يأمر به الشيطان.

قوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
كما نهى تعالى عن الخوف مما يُتوقع من حزب الشيطان، نهى عن
الحزن على ما يفوته منهم، ووصف الكفار بالمسارعة في الكفر.
كما وصف المؤمنين بالمسارعة في الإِيمان، فقال: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)، وحقيقة المسارعة في ذلك أن يترقى الإِنسان فيما يتحرّاه منزلة فمنزلة، خيرا كان أو شرا، فيتعوَّده فيتقوَّى به

(3/996)


على المنزلة الثانية، لأن الشر حاصلٌ بعضه عن بعض، وحاملٌ
بعضه بعضاً، وكذا الخير، وعلى هذا قال أمير المؤمنين: تبدو
نكتة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإِيمان ازداد البياض، فإذا
استكمل الإِيمان ابيض القلب كلّه، وإن النفاق يبدو نكتة سوداء.
كلما ازداد النفاق ازداد السواد، فإذا استكمل النفاق اسودّ
القلب كلّه، وبيّن أن لا يعود إلى الله من مسارعتهم في الكفر

(3/997)


مضرة، كقوله: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
إن قيل: كيف جعل العلَّة في قوله: (وَلَا يَحْزُنْكَ) أنهم لن يضروا
الله شيئاً، ولم يكن المسلمون يحزنون، لأجل أن خطر لهم أن
هؤلاء يضرُّون الله، إنما كان حزنهم أن يضروهم؟
قيل: معنى ذلك لن يضروا أولياءه، ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى يقول: من آذي لي وليّا قد آذاني ".
وعلى التتبيه على هذا المعنى قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
وقوله: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)

(3/998)


إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

يريد إحباط عملهم بما استحقوه من الذنوب.
وقيل: يريد الحكم بحرمان ثوابهم، وأن لا يجعل
لهم ما يستحقه المطيعون، والفرق بين السرعة والعجلة إذا
اعتبرنا بنفس الفعل، هو أن السرعة أن لا يترك الأمر يتأخر عن
وقته، والعجلة فيه أن يقدمه على وقته، وإذا اعتبرنا بقوى النفس
فالعجلة ما يفعل على مقتضى الشهوة، والسرعة تقال فيها وفيما
يُفعل على مقتضى الرأي والفكرة، ولذلك ذم العجلة على
الإِطلاق، وقد حَمِدَ السرعة في مواضع.

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)

(3/999)


قد تقدَّم حقيقة الشرى والبيع إذا استُعملا في الكفر والإِيمان.
وقال كثير من المفسرين: هذه الآية في معنى الأولى، وقد أعيدت
تأكيدا، والصحيح أن الأول ذمٌّ للذين تحرّوا الكفر وتزايدوا
فيه متسارعين، وهذا ذمٌّ لمن حصّل الإِيمان فأفرج عنه، واستبدل
به كفراً، وهم الذين وصفهم بالارتداد على أعقابهم، وذمّ لمن
مُكَن من الإِيمان فرغِب عنه، وآثر الكفر عليه، فصار كالبائع
إيمانه بكفر.
وقوله: (شَيْئًا) في موضع المصدر، أو تقديره

(3/1000)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

بشيء، فحذف الجارّ ونصبه، وجعل لمن بدّل الكفر بالإيمان
عذابا أليماً، وهو أبلغ مما جعله للفرقة الأولى، حيث وصفه
بالعِظَم، إذ يقال العظيم اعتباراً بغيره مما هو من جنسه، وقد لا
يكون شديد الألم، وأليم يقال لما تناهى في الألم، إذ هو بناء
المبالغة، ويقال: هو أليم، سواء اعتُبر بغيره أو لم يُعتبر.

قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)

(3/1001)


الإملاء إطالة المدة، ومنه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).
وتملّيت حبيبا، وإملاء الكتاب على أحد القولين، والملوان.
وإذا قرئ بالياء فسهل، واذا قرئ بالتاء فصعب، فالذين كفروا
هو المفعول الأول، ولا يصح أن يجُعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) المفعول
الثاني، لأن هذه الأفعال تدخل على مبتدأ وخبر.
ويجبُ أن يكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى.
و (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) ليس في المعنى (الَّذِينَ كَفَرُوا)، ولا يصح أن يجعل بدلاً كما جُعِل في

(3/1002)


قوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).
وفي قوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ) فإنه حينئذ يلزم أن ننصب (خيراً) حتى يصير المفعول الثاني، فيجب أن يكون بالياء
أجود، وقد اختلف في تأويل الآية من حيث إن ظاهرها يقتضي

(3/1003)


أن الله تعالى يريد بإملائهم أن يكفروا.
قالوا: والله يتعالى عن هذا القصد، مع كون هذه الآية منافية لمقتضى قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

(3/1004)


فمنهم من قال: الآية على التقديم والتأخير.
وتقديرها: لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً.
بل إملاؤنا خير لهم، ويكون مفعول (وَلَا يَحْسَبَنَّ)
هو (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وعلق أن، وجعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) كالعِلّة لتأخيرهم، تنبيهاً أن ذلك أولاهم ليصير معونة
لاكتسابهم الخير لأنفسهم، وهذا فاسد، لأن إنما يصح أن
يعلق حيث ما يدخل لام الابتداء في خبره، ومنهم من قال:

(3/1005)


الكلام على الترتيب، والمفعول هو (أَنَّمَا) وجعل اللام لام
العاقبة، وتحقيق لام العاقبة هو أن اللام تارة تجيء تبييناً لقصد
الفاعل بفعله نحو (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وتارة تبييناً لما أدى إليه الفعل، لا لقصد الفاعل، نحو (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
إن قيل: لِمَ قال هاهنا: (عَذَابٌ مهِين)؟
قيل: لما ذكر هاهنا إملاء الإِنسان في الأعراض الدنيوية.
وذلك قد يكون في الدنيا هواناً وعذاباً

(3/1006)


مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

لصاحبه، وهو لفقدان بصيرته يقدر أن الهوان في فقدانه فلا يُفرج
عنه؛ ذكر الهوان الذي هو أعمُّ الألفاظ الثلاثة من (العَظِيم)
و (اَلأَليم) و (ألمُهِينِ) ليعم الدارين، وعلى هذا قال:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).

قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
الخبيث: مستعار للعمل السيئ، والطيّب: للعمل الصالح

(3/1007)


تشبيهاً للذِكر المسموع بالنشر المشموم، وعلى هذا قال الشاعر:
تبحثت عن أخباره فكأنما. . . نبشت صدأه بعد ثالثة الدفن
وقال اَخر:
. . . ثناء مثل ريح الجورب
وعلى هذا حمُل (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ)، (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ)
أي الأعمال في الخبث والطيب جارية مجرى فاعليها، وقيل: المؤمن
أطيب من عمله، والكافر أخبث، والاجتباء: كالاصطفاء،

(3/1008)


وأصله الجمع، فكأن من اجتباه الله ضمَّه إلى نَفْسِه حتى يكون له
بأجمعه، بخلاف من قال: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)
وإلى ذلك الإِشارة بقوله: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وتحقيق التمييز من الله لا على سبيل التعرف، بل ليحصِّل الخبيث خبيثاً والطيب طيبا، وذلك حقيقة التكليف، وقد كرر الله تعالى هذا المعنى مع كل فصل، فقال:

(3/1009)


(وَلِيَعلَمَ)، (وَليَبتَليَ) و، (وَليمحصَ) و (لِيَمِيزَ).
وقال من بعد: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ)، كل ذلك
تنبيهاً على أن التكليف في الحقيقة هذه الأشياء، وأما الغيب فكل
ما لا تدركه الحواس وبداهة العقول، وهذا على القول
المجمل ثلاثة أضرب: ضربٌ استبد تعالى به ولم يُطلع عليه
أحداً لا الملائكة المقربين، ولا من دونهم، لاستغنائهم عنه.
وضرب قد يُطلِع عليه أصفياء عباده، وهو حقائق العلوم، وذلك
بحسب ما عُرف من حاجتهم إليه ومصلحتهم فيه، وإياه عنى
بقوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وبيّن في الآية أن اطلاع العامة على غيبه وأقضيته

(3/1010)


وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

منافٍ للحكمة، وذلك أن جماعة من الكفار سألوا النبى - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: هل نحن ممن يؤمن؟
ثم قال: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) تنبيهاً
على التوكل على الله وحُسن الظن بنبيه، والتحقق أنه يفعل بعباده
ما هو أصلح لهم، وأنّ بالإِيمان والتقوى يُستحق الأجر العظيم.

قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
قُرئ بالياء على تقدير: لا يحسبن الباخلون البخل هو خير

(3/1011)


لهم، فحذف البخل الذي هو المقعول الأول، لدلالة (يبخَلونَ)
عليه، كقولك: من كذب كان شرًّا له، وإذا قُرئ بالتاء فتقديره
لا تحسبّن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم، فحذف المضاف
لظهور المعنى، وبيّن بالآيتين أنهم جعلوا أعمارهم وأموالهم
مصروفة إلى ما أورثهم إثما أو عقوبة يوم القيامة، وتطويقهم ما
بخلوا به على طريق التشبيه والتقريب، نحو ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - "يأتي كنز أحدهم يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيطوق
في حلقه،

(3/1012)


فيقول: أنا الزكاة التى منعتني ".
وعلى هذا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) إلى قوله: (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)، ونبّه بقوله: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على انتقال ما في أيديهم إليه، كما قال:
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، ونبّه أن ما خوَّلهم
لو أنفقوا على ما يجب وكما يجب لاستحقوا ثواباً، فلمّا لم يفعلوا
ذلك انتقل عنهم، وصار عقوبة لهم، وكأنه إلى مقتضى معناه
أشار من أوصى، فقال: اكتبوا هذا ما خلّف فلان يسوءه وبنوه

(3/1013)


لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)

انتقل عنه نفعه، وخفي عليه وزره، وبيّن أنه عالم ببخلهم، وما
يؤول إليه حالهم، وما يخبرهم به.

قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
لمّا أنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قال قوم من
اليهود تهكماً على النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله فقير ونحن أغنياء، يستقرض منّا، فأنزل الله تعالى ذلك، ولم يُعَيرِّهم أنهم اعتقدوا فقر الله.
وإنما عيّرهم تجاهلهم وتكذيبهم وصرفهم الكلام إلى غير الوجه المقصود به، وعلى هذا قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا).

(3/1014)


ونبّه بقوله: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ) أنهم ارتكبوا
من المعاصي ما هو مثل هذا القول، أو أكثر منه، ولم يقل (بغير
حق): أن في قتل بعض الأنبياء حقًّا، ولكن جعل ذلك حالهم
على العموم، أي هو في كل حال على غير حق، وكَتْبُ ذلك
قيل: هو على الحقيقة، وقيل: هو على طريق المثل، عبارة عن
حفظه، وأنه لا ينسى، واعلم أن الكتابة جعلها الله لنا عوناً

(3/1015)


لحفظنا، وذاك أن اللفظ لا يُفهم إلا القريب دون البعيد، وإلا
الشيء بعد الشيء، ويسرع إليه مع ذلك الاضمحلال، فربما لا يعيه
السمع، وإذا وعاه فربما لم يتصوره، وإذا تصوَّره فربما أخلّ به
الحفظ فأعانه الله بالكتابة، لتكون تكملة لقوة النطق، وواعية لما
يضيع من الفهم، ومدركة جملةً في حالة واحدة، فعُلِم من ذلك
أن الكتابة وإن كانت شريفة فإنما احتجنا إليها لنقصنا وتكميل
أفهامنا، فمن حمل الكتابة على الحقيقة قال: كتب الملأ الأعلى
أعمالنا، لا لجبران نقصهم وضعف فهمهم وخوف نسيانهم؛ ولكن
لجبران نقيصة البشر، وليتذكَّر به ما لعله نسي، وليرى صورة
أعماله المتفرِّقة دفعة، ومن حمله على التشبيه فإنه ذكر أن نقص
القريحة والسهو والنسيان الموجودة فينا في الدنيا معدومة عنّا في
الآخرة؛ فلا حاجة بنا إلى الكتابة، وحينئذ قال: وعلى ذلك وصف
الكتابة بالنطق في قوله: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ).
وقوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وعلى هذا سمّى

(3/1016)


الوحي كتابا، فقال: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ)، ومعلوم أن
المنزل لم يكن وقت الإِنزال مكتوبا، قال: وعلى هذا معنى قوله:
تعالى (كِرَامًا كَاتِبِينَ) أي حافظين، وقال: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ).
قال: وعلى هذا قول الشاعر:
صحائف عندي للعتاب طويتها. . . ستُنشر يوماً والعتاب يطول
وهذا القول وإن كان له مساغ في مجاز اللغة، فأهل الأثر
على الوجه الأول، والله أعلم بحقائق أحوال القيامة، ومعنى

(3/1017)


ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)

(وَنَقُولُ ذُوقُوا) أي نُذَوِّقهم ذلك، ونوجب لهم.

قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
أي نكتب ما قالوا ونعاقبهم عليه جزاء لما ارتكبوه.
إن قيل: لِمَ خصّ اليد، وفيما ذكره عنهم أفعال بغيرها من الجوارح؟

(3/1018)


قيل: لما كانت اليد هي الآلة الصانعة المختصة بالإِنسان، فإنه لما
كفى كل واحد من الحيوانات بما احتاج إليه من الأسلحة
والملابس، وسخّره لاستعمالها في الدفع عن نفسه، وخلق
الإِنسان عارياً من كل ذلك، جعل له الرؤية واليد الصانعة.
ليعلم برؤيته، وليعمل بيده فوق ما أعطى الحيوانات، فلما كان
لليد هذه الخصوصية صارت تُخص بإضافة عمل الجملة إليها.
إن قيل: لِمَ خص لفظ ظلَّام الذي هو للتكثير في نفي
الظلم في هذا المكان، ولم يقل على ما قال في قوله: (لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، الذي هو يقتضي نفي الظلم قليله وكثيره؟
قيل: إنما خص ذلك لأنه لما كان في الدنيا قد يُظن بمن يعذب غيره عذابا

(3/1019)


الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)

شديداً أنه ظلَّام قبل أن يُفحص عن حال جُرمه، بيّن تعالى
ذنبهم، وأنه إذا عاقبهم عقوبة شديدة فليس بظلَّام لهم، وإن كان
قد يظن في الدنيا بمن يفعل ذلك أنه ظلَّام. تعالى الله عن الظلم.

قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
القربان: أصلُه مصدرٌ كالشُكران والكُفران، وفي التعارف

(3/1020)


اسم لما يُتقرَّبُ به إلى الله تعالى، وكَثُر استعمالُه في
النسيكة، والعهدُ كالعقد، ولمّا تعورف في الوصية والأمر.
كثُر استعماله مع: إلى، فقيل: عَهِدَ إليه، ولمّا ادعى اليهود
على ما أوقع شبهةً للجهلة، وكان حلُّها يصعب عليهم على
التحقيق، وربّما كان اليهود مع ذلك يشغبون فيه، سلّم
دعواهم كتسليم جدل وناقضهم فيها، وكأنه قيل:

(3/1021)


فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

هَبِ الأمر كما قلتم أليس من الحق أن لا تقتلوا من الأنبياء من جاءكم
بالبيّنات وبالذي قلتم، وإذا قتلتموهم ولم تقبلوا قولهم، دلَّ
ذلك أنكم كاذبون في دعواكم؟ أنه عَهِدَ إلينا بذلك، فهذا معنى
قوله: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، وهذا أوضح
دلالة وأقربها مأخذاً وأخزاها لهم.

قوله تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
إن قيل: لم قال: (وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ) والزبور هو الكتاب.
لقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كخطِّ زبور عسيب يمان

(3/1022)


قيل: قد قال بعضهم: الزبور هو الكتاب المقصور على الحكمة
العقلية دون الأحكام الشرعيّة، والكتاب في تعارف القرآن
ما يتضمن الأحكام، ولهذا جاء في عامة القرآن كتاب وحكمة.
ففصل يينهما لهذا، واستعمل الكتابة في معنى الإيجاب، فعلى هذا
اشتقاقه من زبرت الشيء أي حكمتُه.
وقيل: الزبور اسم لما أجمل ولم يفصَّل، والكتاب يُقال لما قد فُصِّل.
قيل: واشتقاقه من الزُّبرة أي القطعة من الحديد التي تُرِكت بحالها.
وعلى هذا قال الشاعر:

(3/1023)


وما السيفُ إلا زبرة لو تركتها. . . على الحالة الأولى لما كان يقطع
وقيل: الزبور ها هنا اسم للزاجر من قولهم: زبرته أي زجرته.
قال: وبيّن أنه تعالى أتاهم بالآيات الدالة على الوحدانيّة والنبوة.
وبالمزاجر المعنيّة بقوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)
وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعتاب له.
فقد رُوِيَ أنه قال: "ما لقي أحد في الله ما لقيت".
فنبّه أن حال الأنبياء قبله كحاله، وحال أقومهم كحال قومه، وليس الشرط في نحو هذا الموضع للشك، كما تصوره بعض المفسرين، فأخذ يتخبط في جوابه، وإنما ذلك

(3/1024)


كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)

للتحقيق، ومورده كقياس شرطي موجب للحكم، وبيانه
إن كذَّبوك فقد كذبوا من صدَّقك، وقد صدَّقك الرسلُ قبلك.
فإذا كذَّبوك فقد كذَّبوا رسُلًا من قبلك.

قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
الفوز،: إدراك الأمنيّة. والمفازة في قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ) مصدر، ويُقال للمهلكة: مفازة تفاؤلاً، والصحيح أنهم لمّا رأوها تارة سببا للفوز، وتارة سبباً للهلاك سمّوها بالاسمين، وذلك بنظرين مختلفين، وكذا قولهم: هلك، وفاز، إذا مات،

(3/1025)


كأنه رُئيَ الموت في بعض الناس هلاكا له، وفي بعضهم فوزا
له، إما لكونه متبلغا بذلك إلى فوز الآخرة ونعيم الأبد.
وإما لخلاصهم من شدَّةِ يَرَى الموتَ في جنبها فوزا.
وكذا النيّة أراها والأمنيّة من أصلِ واحد بنحو هذين النظرين.
وتخصيص الذوق هاهنا من حيث إنه ذكر الباخلين بالمال.
وهو قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ. . .) الآية.
وأعظم البخل بالمال يكون خشيةً من فقدان الطعام الذي به قوام الأبدان، ولهذا ذكر

(3/1026)


ألأكل في عامة المواضع التي ذكر فيها احتجاز المال، نحو (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى) فبيّن بالذوق أن الذي يخافونه طعام لابد منه، والغرور: مصدر أو جمع غارّ، كرقود، وقعود، في
جمع راقد وقاعد، والمتاع: التمتع،

(3/1027)


لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

فنبّه أن السكون إلى الدنيا والتمتُّع بها غُرور، وأن الكيّس من دان
نفسه وعمل لما بعد الموت، واقتصر على زاد يتبلَّغ به.

قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قيل: سبب نزولها أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم -

(3/1028)


ويحرِّضُ المشركين عليه حتى قتله محمد بن مسلمة.
وقيل: بل هو أن سمع أبو بكر يهوديًّا يقول: ترى إله محمدٍ فقيراً
حتى يستقرض منّا، فلطمه أبو بكر، وجُملة الأمر أنّ جميع
ما يُبتلى به الإِنسان ويُتعبَّد به ثلاثة أشياء: إما متعلّق بالمال.
وإمّا بالنفس، وإمّا بمجاهدة العدو، وأعظم المجاهدة الصبر

(3/1029)


على الأذى المسموع من الأعداء، إذ هو سبب الشرور، ولهذا
قال الشاعر:
. . . وإن الحرب أولها كلام
فبيّن تعالى أنكم إن صبرتم - واتقيتم في هذه الأمور التي تُبلون
بها، فإن ذلك من عزم الأمور.
إن قيل: ما معنى: من عزم الأمور، وما الأمور التي جعل تعالى هذه الأشياء من عزمها؟
قيل: العزم: ثبات الشيء على الشيء، وإمضاؤه، والحزم
يقاربه، إلا أن العزم بالإِمضاء أشبه، إذ هو من العزم،

(3/1030)


أي القطع، والحزم بجمع الرأي أشبه، إذ هو من حزمت الحطب
والقصب، أي جمعتُ، ولذلك قيل،: أحزم لو أعزم.
وأما الأمور التي عناها فيجوز أنها الثواب الذي جعل للصابرين
والصالحين والمتقين، وما أشبه ذلك، ويجوز أن تكون الأمور
إشارة إلى ما تقدم، ونبَّه أن بالصبر والتقوى يُتوصَّل إليه.

(3/1031)


وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)

قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
النبذ: طرح الشيء لقلّة الاعتداد به، وقولهم: جعلت كذا
خلف ظهري أي أهملته.
وقيل: تقدير الآية على ما يقرب من فهم العامة.
وإذ نَبَذَ أهل الكتاب وراء ظهورهم ما أخذ الله عليهم من الميثاق من تبيين ما أوتوه من الكتاب للناس، واشتروا به ثمناً قليلًا، وقد تقدّم الكلام في أخذ الميثاق عليهم، وكيفية ذلك

(3/1032)


لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)

وفي معاني الثمن القليل.

قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
المفازة من العذاب: هي المنجاة في قول الشاعر:
تحل بمنجاة من اللوم بيتها. . .
والكلام في تكرير (لَا تَحْسَبَنَّ)، ودخول "الفاء في الأخير

(3/1033)


منه صعب، وقد قال الزجاج: لا تحسبن، مكرر لطول القصة.
قال: والعرب تعيده إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها.
إعلاما أنّ الذي جرى متصل بالأول، تقول: لا تظنن زيداً إذا
جاءك وكلمك بكذا فلا تظننّه صادقا.
وقيل: الفاء زائدة.
والوجه في ذلك عندي أن قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ) على الخبر وتقدير
الكلام فيه، وذلك إشارة إلى يوم القيامة بعد أن يدخل الكفار
النار، ويقال لهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)
والمعنى: والله إنك لا تحسبهم حينئذٍ أنهّم بمفازةٍ من العذاب.
أي لهم سبيل إلى الخلاص فلا تحسبنهم الآن، وهذا نهي والأوّل خبر،

(3/1034)


وحذف مفعول أحد الفاعلين، وإذا قُرئ بالياء، فكذلك، ويكون
بتقديره: لا تحسبنّ أنفسهم كذلك.
والآية قيل: نزلت في قوم دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فنافقوه، فلمّا خرجوا، أثنى عليهم بعض الناس ففرحوا بذلك.
وقيل: نزلت في الذين كتموا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وادعّوا علماً وعبادة أثنى عليهم بها قومهم،

(3/1035)


وقيل: نزلت في المنافقين المتخلفين عن الجهاد، المدعين دعاوى يُحبون
أن يُحمدوا عليها، وكيف ما كان. فالآية عامة في النهي عن
الرياء والتشبُّع، والذمّ لمن فعل خيراً ففرح به، وإلحاق الوعيد
بمن أحب أن يُحمد بما لم يفعل.
وقد رُوي أنّ إبليس قال: إذا ظفرت من ابن آدم بثلاث لم أطالبه بغيرها:
إذا أُعجب بنفسه،

(3/1036)


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

واستكثر عمله، وسُرَّ بمدحه بما لم يفعله.
إن قيل: - فكيف قال عليه السلام: "من سرّته حسنته
وساءته سيئته فهو مؤمن "؟
قيل: السرور بذلك محمود، والفرح به مذموم.
وقد تقدَّم الفرق بينهما، وبين بقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
مع أنهم لا ينجون، فإنهم يعُذَبون عذاباً أليما.

قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

(3/1037)


إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)

أتبع تكذيبهم فيما قالوا: إن الله فقير. وتبكيتهم
فيما فعلوه، وما وعدهم به من العذاب بما أنبأ
عن قدرته عز وجل وسعة ملكه.
وأن لا سبيل لهم إلى النجاة وإلى الخروج
عن ملكه وسلطانه، وهذا هو المعنى
الذي تحرّاه النابغة بقوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي. . .
لكن على الآية رونق الإِلهية وتعميم الملك والقدرة بلا مثنويّة.
وإضافة الفعل إلى موجد الليل والنهار.

قول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)

(3/1038)


نبه تعالى أن التفكر في ذلك يدل على وحدانية الله تعالى، وأن
جميع هذه الأشياء لا تنفك من ثلاثة أضرب:
إمّا موجود العين، قائم الجوهر، قابل للانتقال
وتبذل الأمكنة بأجزائه: كالسماء والنجوم.
وإمّا قابلٌ للاستحالة والتغير بجملته وأجزائه.
وذلك كالأرض وما عليها، وإما أن يكون مما لا بقاء له بحاله.
بل ينصرم، ويقابله نظيره كالليل والنهار، وقد ذكر ثلاثتها.
ونبه على حدوثها، لأن المتنقل لا ثبات له، والمستحيل لا بقاء له.
وما كان هذا حاله فغير منفك من دلالة الحدث، وما لم يخل من
محدِثٍ فمسخّر له، ومحال أن يكون المسخَّر المُحدَث أزليًّا واجب
الوجود، فإذن لابد له من موجد يوجده، وموجده واجب
الوجود، وذلك هو الباري تعالى، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

(3/1039)


ونبّه بقوله: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أن من لم يكن ذا لُبٍّ قلَّ عناؤه في التفكُّر فيها، واللب هو اسم للعقل أزيل عنه الدرن، وذاك أن العقل وإن كان أشرف
مُدرك من الأشياء فهو في الأصل كسيف حديد لم يُطبع ولم يُصقل.
فإذا تُفُقِّد وتُعُهِّد بالحكمة صار كسيف طبع، فأُزيل خبثه، وشُحذ
حَدُّه، وكل موضع يذكر الله تعالى فيه أجلَّ مُدرَكٍ لا يمكن إدراكه
إلا بأجلِّ مُدرِك.
قال بعض الصوفية: هذه المنزلة وإن خُصَّ بها أولوا الألباب فمنزلة الأنبياء والأولياء أشرف منها، لأنهم ينظرون من خالق السموات والأرض إليها، ولهذا قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -

(3/1040)


(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وهذا الذي قاله صحيح.
فإن الإِنسان يمكنه أن يعرف حكمة الصانع أولاً بتدبر
مصنوعه، ومتى عرف حكمة الصانع حينئذ عرف مصنوعاته
به، فيصير ما كان دالا مدلولاً، وما كان مدلولاً دالا، وبهذا
النظر قال من سُئل: بِمَ عرفت الله؟ فقال: به عرفت كل ما
سواه.

(3/1041)


الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)

قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
الذكر: ذكر باللسان، وذكر بالقلب.
وذكر القلب ذكران: ذكر عن نسيان، وهو إعادة ما انحذف عن الحفظ، وذلك هو التذكر في الحقيقة، وذكر هو إدامة مراعاة ما ثبت في الحفظ.
وقوله: (وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) عبارة عن حال الاضطجاع، وعلى
ذلك قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا)
فمن حمل الآية على الصلاة، وقال: معناه لا يخلون بها
في شيء من أحوالهم قائمين إذا قدروا، قاعدين إذا عجزوا،

(3/1042)


وعلى جنوبهم إذا مرضوا.
وقد رُوي في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسهل بن حنيف: "صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ".
ثم تلا الآية، ومنهم من جعله أعم من

(3/1043)


ذلك، وقال: لا ينفكون من ذكر الله في جميع أحوالهم.
كقولك: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).
ومنهم من جعله أعمّ من ذلك أيضا، وقال: معناه لا يتحرُّون بجميع
أفعالهم إلا وجهه، وبيان ذلك أن مباحات أولياء الله كلها
قُرَبٌ يُستحق بها الثواب، وذاك أنهم لا يأكلون ولا ينامون إلا
وقت الضرورة، ومقدار ما يستعينون به على العبادة، وما لا تتم
عبادتهم إلا به فذاك واجب كوجوبها.
وذلك قوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -:

(3/1044)


"تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله ".
وقوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)
أي يقولون وليس يعني بذلك القول من دون العلم.
فإن ذلك إقامة شهادة، ومن شهد بشيء وهو على ما
شهد به، لكن لا يعلم كونه كذلك فشهادته مردودة بدلالة
قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
ومن عرف حقيقة ذلك وأقام هذه الشهادة فكأنهم شهدوا الله وهو يخلق

(3/1045)


السموات، ولهذا قال تعالى في ذم الكفار حيث ثكلوا هذه
الفضيلة، فقال: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وفي قوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) تنبيه أنه قصد تعالى بخلق هذه الأشياء قصداً صحيحا.
وذلك ما قاله الحكماء أن القصد بخلق السموات والأرض
إنّما هو الإِنسان، وإنّما خلق النبات والحيوانات قواماً له.
قال: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا).
والقصد بخلق الإِنسان أن يستخلفه في الأرض، فيقوم بحق الخلافة.
ويبلغُ بها إلى أعظم السعادة في جواره.
وعلى ذلك قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فلما تحقق المتفكرون ما لأجله خُلقت السموات والأرض، وعرفوا مآلهم سبَّحوه، واستعاذوا به من النار.

(3/1046)


رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)

قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
يقال: خَزِي الرجل: إذا لحقه انكسار.
إمّا من نفسه بإفراط، يقال في مصدره الخزاية.
وإمّا من غيره، ويقال في مصدره الخزي.
وعلى هذا هان وذل، متى كان ذلك من نفسه.
يقال له الهُون والذُل، ومتى كان من غيره يُقال له الهوان والذل،

(3/1047)


رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)

والآية من تمام الحكاية عن المتفكرين في خلق السموات والأرض.

قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
الأبرار جمع بر وبارٍّ، نحو جَدّ وأجدادٍ، وصاحبٍ وأصحاب.
وأصله من البرّ أي المكان الواسع، فبرّه خوله برًّا، أي سعْة.
ويُقال للإِنسان إذا أكرم من دونه وأكرمه من فوقه برّه،

(3/1048)


كما يقال فيهما: أحبَّ ووالى، والأبرار: هم الموصوفون
بقوله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).
والمنادي للإِيمان والداعي إليه: قد يكون العقل.
وكتابه المنزَّل، ورسوله المرسل، وآياته الدالة.
وإن كان الأظهر في هذا الموضع أن يكون الرسول.
لقوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)،

(3/1049)


وقوله: (أَنْ آمِنُوا) يعني أي آمنوا، أو بأن آمنوا.
إن قيل: فعلى أي وجه قال: (فَآمَنَّا)؟ أعلى طريق الامتنان، أو
الإِعلام. فإن كُلًّا مستشنع إيراده على الله تعالى؟
قيل: بل على طريق الامتثال، وليس هذا إشارة إلى أنهم قالوه نطقاً فقط، بل إلى أنهم حققوه فعلًا.
إن قيل: كيف جعل غُفران الذنوب وتكفير السيئات قبل التوقِّي؟
قيل: لأن تمام غُفران الذنوب وتكفير السيئات أن يوفّق العبد في الدنيا لمرضاته، ويحرسه عن تعاطي السيئات، ليكتسب ما يترشح به
لاستحقاق الثواب.
وقوله: (وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) نحو ما حكى عن غيره في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

(3/1050)


رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

وفيه تنبيه أنهم لا يكرهون لقاء الله.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ".

قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
إن قيل: ما فائدةُ استنجازِ وعده مع العلم بأنه لا يُخلف؟

(3/1051)


قيل: إن وعده تعالى عِبادَه على طريق الجملة، نحو قوله تعالى:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
وليس هذا السؤال خوفاً من إخلاف وعده، ولكن سؤالا أن
يرشحه لأن يكون من جملة من دخل في الوعد.
ولهذا قال: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) تنبيهاً أني لست أخشى خُلْفَ وعدك، لكني أخشى أن لا أكون من جملة الموعودين.
وقد قيل ذلك هو على جهة العبادة، وقد تقدم أن ليس القصد التفوُّه بذلك، بل فعل ما يقتضيه.
وقوله: (عَلَى رُسُلِكَ) أي على ألسنتهم، وعلى ما وعدت بإجابتهم.

(3/1052)


فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
استجاب: أراد إجابتهم، والاستجابة في الحقيقة غير الإِجابة.
وإن كان يفهم منه ذلك، وقول الشاعر:
وداعٍ دعا بعد الهدوءِ من السرى. . . فلم يستجبه عند ذاك مجيبُ

(3/1053)


فهو أبلغ من قولك: لم يجبه، إذ فيه تنبيه أنه تعالى لا يضيع
عمل من لم يخرج عن الإِيمان بشرك، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
وذَكَر الذكر والأنثى، فقد رُوي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول الله، ما بال
الرجال يُذكرون في الهجرة دون النساء؟
فأنزل الله ذلك،

(3/1054)


و (مِن) للتبيين، أو لاستغراق الجنس لتقدُّم النفي.
إن قيل: ما معنى قوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في هذا الموضع؟
قيل: تنبيهاً أن الأنوثية والذكورية لا تقتضي اختلاف الحكم في هذا الباب، وإنما الاعتبار بالأعمال والنيات، فمن قصد فيما يتحراه وجه الله فله
بقدره ثواب، ثم بيّن أنّ للذين هاجروا فضل رتبة، كما قال:
(وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً).
ولم يعن بالمهاجرة والإِخراج من الديار ما كان من الكفّار فقط.
بل عناه ومن هاجر الأفعال القبيحة

(3/1055)


والأخلاق الكريهة، وقاتل نفسه حتى قهرها.
والظاهر من قوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)
أن ذلك حكم الآخرة، وعليه أهل الأثر.
وقال بعض الصوفية: عنى بتكفير سيئاتهم إزالة درنهم عنهم في الدنيا.
قال: وهذا المعنى هو المراد بقوله:
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وإدخالهم الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار التمكين من زهرات العلوم والاطلاع على كثير من الغيوب، التي وصفها حارثة في حقيقة الإِيمان.
حيث قال: وكأني بعرش ربي بارزا.
وقال: والأنهار هي أنهار الماء

(3/1056)


المذكور في قوله: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً).
قال ابن عباس: قرآنا، ثم قال: (ثَوَابًا فِن عِندِ اَللَّه) تنبيهاً أن هذا ثوابه
عاجلًا في الدنيا.
ثم قال: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
إشارة إلى ما له في الآخرة من الثواب، والله أعلم بما ادعاه هذا
القائل).
إن قيل: ما وجه قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)

(3/1057)


بعد قوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) على القول الأول؟
قيل: يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أنه بيّن بقوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أن ما ذكره ثواب لهم.
ثم أخبر أن هذا الثواب لا يوجد إلا عنده.
فيكون قوله (أحسن، الثواب) إشارة إلى المذكور قبله.
والثاني: أن يكؤن حسن الثواب غير المذكور أولاً، فنبه أنّ ما
ذكرت أولاً هو الذي عرفتكم، وعند الله حسن الثواب، الذي لم
يُعَرِّفْكُموه لعجزكم عن الوقوف عليه إشارة إلى المذكور في
قوله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)
وفي قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).

(3/1058)


لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)

قوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
أصل الغًرِّ: الطيُّ الذي ينكسر عليه المطوي، فجُعِلَ عبارة
عمن انطوى على اعتقاد يمنع عن رفع بصيرته، ولذلك سُمي
الاعتمّاد طَوِية، ونحو الغرِّ الاستدراج تشبيها بالمدرج، ومن
هذا قال: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)؛ والتقلب في البلاد ليس يعني
المشي فيها، وإنما يعني التوسع في أعراض الدنيا،

(3/1059)


والمتاع: ما فيه تمتع ما، والآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن جعل ما يتمتع به في الدنيا وإن كَثُرَ.
قليلًا في جنب ثواب الله تعالى.
فلا يجب أن يُغتر به، إذا اعتُبر بما يحصل
لأربابها في المآل من العذاب.
والثاني: أنه أراد بالقليل قلة الفناء.
وأراد بجهنم: جهنّم الدنيا وجهنّم الآخرة، تنبيهاً أن من حصل
له مال لا ينفك من شُغلٍ لا ينقضى عناؤه، وفقر لا يُدرك
غناؤه، وحزنٍ على فوت محبوب، وخوفٍ على فقد مطلوب.
كأنهم في جهنم من سَلْب ما لهم، وفي جهنم عند مآلهم، كما
قال: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
وذكر (الْمِهَادُ) على سبيل المثل،

(3/1060)


لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

كقوله: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ).

قوله تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
ذكره تعالى لـ (لَكِنِ) لكون حكم ما بعده منافياً لما قبله.
وقد ذكر في قوله: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)
الوجهان اللذان ذكرا في قوله: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). وقيل: عنى به أنهم من طيب عيشهم في القناعة.
ورفضهم فضولات الدنيا في جنّاتٍ صفتها كذلك.
وذلك على التشبيه، وإياه قصد بقوله: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).

(3/1061)


قال: والذي يدلّ على هذا قوله: (نُزُلًا).
والنزُلُ ما يجُعل للإِنسان في طريقه، ليستعين به على سفره.
وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أو تفسير، كقولك:
هذا لك هبة، وفي قوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)،

(3/1062)


الوجهان المذكوران في قوله: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
وقيل: عنى بذلك ما قاله - صلى الله عليه وسلم -:
"الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن ".
تنبيهًا أن المؤمن يتبرم بها شوقا إلى ما أُعِدَّ له.
والكافر يطمئن إليها، ويشتاق إليها عند فراقها مع ما فيها من
الشوائب لما أُعِدَّ له من العذاب.
وقال عبد الله: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها.
ثم تلا هذه الآية في الأبرار.
وتلا قوله: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) في الفجار.

(3/1063)


وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)

قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
الخشوع: كالخضوع، لكن أكثر ما يقال في الخشوع ما اعتُبر
فيه حال القلب، والخضوع فيما اعتُبر فيه حال الجوارح.
وإن كان يُستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر.
فقول الحسن: الخشوع ثبات الخوف في القلب.
وقول غيره: هو ما يظهر من الخضوع الدال على الخوف
من عقاب الله، واحد في الحقيقة،

(3/1064)


ولما ذم فيما تقدم كفار أهل الكتاب بيَّن هاهنا: أن من خالفهم
في سوء اعتقادهم وأفعالهم فحكمهم بخلاف حكمهم.
وذكر ما فيه تنبيه على الإِيمان والأعمال الصالحة، وترك تتبُّع دِقَاق
المطامع، وذلك أحكام الشرع.
إن قيل: ما فائدة قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ها هنا؟
قيل: الحساب إشارة إلى الثواب المجعول لهم في مقابلة فعلهم.
وسقاه حساباً لقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)
وبيّن بقوله: سريع الحساب أن ذلك لا يتأخر عنهم.
لما كانت النفس مولعة بحب العاجل.
ونبّه على أمرين: أحدهما: ما يجعل لهم في الدنيا المدلول عليه بقوله:
(فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ).

(3/1065)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

الثاني: أن المدعُوَّ به في الآخرة سريعٌ وقوعه وإن كان في ظنِّ الكافرين بطيئاً حصوله.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
الصبر أعمُّ من المصابرة، إذ كان يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعل واحد، والمصابرة، يقال فيما يُتصوَّر فيه فاعلان متقابلان.
والصبر: حبس النفس على ما يحمد،

(3/1066)


وعما يُذمُّ، ولهذا قيل: هو اسم لأعم الفضائل.
وله ثلاث منازل:
إمساك الجوارح الظاهرة عن الإِقدام على ما يُكره.
وإمساك اللسان عن إظهار التألُم منه.
وإمساك القوى عن تحرُّكها بالتألُم منه.
وهذه منزلة الصدّيقين.
والمصابرة ضربان:
مصابرة العِدى، وإليه ذهب الحسن ومجاهد في الآية.
ومصابرة قوى النفس في مدافعة الحرص والبخل والجبن وسائر الرذائل.
وهي عظماهما، والمرابطة كذلك على ضربين:

(3/1067)


مرابطة في ثغور المسلمين، ومرابطة النفس البدن، فإنها كمن أُقيم في
ثغر، وفُوِّض إليه مراعاته، فيحتاج أن يراعيه غير مُخل به إلى أن
يُعزَل عنه أو يُستردّ منه، وقد دخل في عموم ما قلناه قول من
قال: اصبروا في أنفسكم، وصابروا عدوكم، ورابطوا الثغور.
وقول من قال: اصبروا بجوارحكم على الطاعة، وصابروا
بقلوبكم مع الله، ورابطوا بأسراركم في سبيل المحبة، وقد نبّه

(3/1068)


على - عموم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال:
"من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة".
إن قيل: كيف أخّر ذكر التقوى؟
قيل: يحتمل وجهين: أن يكون ذلك إشارة إلى غاية التقوى.
وهي التبرؤ من كل شيء سوى الله، وذلك لا يكون إلا بعد هذه
الأشياء، وكأنه قال: إذا فعلتم ذلك فاتقوا الله راجين أن تدركوا
الفلاح، إشارة إلى ما ذكر من الصبر والمصابرة والمرابطة.
فلمّا أمر تعالى بهذه الثلاثة، قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتركوا
القبائح له، فبتركها تُدرك هذه الثلاث، ويكون الفلاح عبارة

(3/1069)


عن هذه الثلاث، فعلى هذا التقوى في المعنى متقدم، وعلى
الأول متأخر. والله أعلم.

(3/1070)