تفسير الراغب الأصفهاني

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

سورة النساء
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قد تقدّم الكلام في الفرق بين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وأنه ذكر مع النّاس (الربُّ) ومع الذين آمنوا (اللهُ)، فيا أيها الّناس خطاب عام، ويا أيها الذين آمنوا أخصّ منه، ويا عبادي أخصُّ منهما، وحيث يقصد خاصَّ الخاصِّ قال:

(3/1071)


(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) و (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) وإن كان الخطاب له
ولغيره نحو (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ).
وقد تقدّم البهلام في أن أدنى منازل التقوى اجتناب الكفر.
وأعلاها أن لا تراعي من الدنيا والآخرة سوى الله.
وقوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ذكر عامة المفسرين أنه عنى بالنفس
آدم، وزوجها: حواء.
وذكر بعضهم أنه عنى بالنفس الروح المذكورة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق الأوواح قبل الأجسام بكذا سنة".
وعنى بزوجها البدن.
وقيل: عنى به التركيب، وإلى

(3/1072)


نحوه أشار بقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ).
وقوله: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ)، ولا يصحُّ معنى ذلك في النبات إلاّ على
معنى التركيب، ونبّه بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على
أنها لا تنفك من ترتيب ما، وأن الواحد في الحقيقة ليس إلا هو
تعالى، قال: وعلى هذا نبّه بقوله: (وَاَلشَفعِ وَاَلوَترِ)، وقال
معنى الشفع: الخلق، والوتر: الخالق.
وهذا القول في الآية

(3/1073)


وإن كان متجهًا، فأهل الأثر على"ما تقدم.
إن قيل: على أي وجه خلق زوجها منها أخذ جزءًا فجعل زوجها؟
قيل: قال بعضهم: الشيئان قد يُقال لأحدهما:
هو من الآخر. إذا كان من عنصره وأصله.
كقولك: هذا القميص من قميصك.
وقد يقال ذلك إذا كانا مشتركَين في صفة، نحو (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
وقال بعضهم: أخذ جزءًا من آدم، وجعل منه حواء.
وعلى ذلك رُوِيَ: "خُلِقَتْ حواء من ضلع من أضلاع "،

(3/1074)


وقال بعضهم: نبّه بقوله: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) أن المرأة بعض من الرجل.
تنبيهًا على نقصانها وكماله، وآنجه نبّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله ذلك أنها مخلوقة خلقة مُعْوَجة، لا ينتفع بها إلا كذلك، فلا يهمنّك تنقيتها، وعلى
ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن المرأة خُلقت من ضلع، وإنك إن أردت أن تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ".
وبهذا النظر قيل: أَخسُّ صفات الرجل الشحُّ والجبنُ، وهما أشرف
صفات المرأة.
إن قيل: ما وجه عطف الأرحام على الله، والتقوى في الحقيقة
من الله ومن عذابه، لا من الرحِم، وقد كان الوجه أن يُقال:

(3/1075)


اتقوا الله في الأرحام أو للأرحام؟
قيل: أجيب عن ذلك بأوجه:
الأول: أنه لما كان يقال: اتق الله، أي اتق عقوبة عصيانه.
واتق ذنبك، أي عقوبة ذنبك، قال ههنا: (اتَّقُوا اللَّهَ)، أي اتقوا
عقوبته على طريق الجملة.
ثم قال: والأرحام. أي عقوبته في قطع الأرحام.
وخصّها بالذكر تعظيمًا لأمرها، وكأنه قيل: اتقوا
عقوبات الله عامة، وعقوبته في قطع الأرحام خاصة، وذلك
لتعظيمه أمر الرحم.
والوجه الثاني: أن تقديره: اتقوا الله في الرَّحِم، لكن حُذِف
الجارّ، وأُقيم حرف العطف مقامه، كقولهم: يدك والسكين.
أي احفظ يدك من السكين.

(3/1076)


والوجه الثالث: أن تقديره: اتقوا الله وقوا الأرحام.
فأحدهما متقى، والآخر موقى، نحو قولهم: أعور عينك والحجر.
أي: قِ عينك، واتق الحجر.
إن قيل: ما وجه إعادة التقوى وعطف أحدهما على الآخر؟
قيل: إنه أمر في الأول بالتقوى أمرًا عامًا، ولهذا قال: (رَبَّكُمُ)
تنبيهًا على أفضاله، وإحالتهم على ما لا يمكن لأحد إنكاره.
ولما قصد الحث على الحافظة على الرَّحِم قذم ذكر الموجد باللفظ الذي
فيه التنبيه على القدرة التامة.
إن قيل: ما وجه ذكر (تَسَاءَلُونَ بِهِ)؟

(3/1077)


قيل: زيادة في الترغيب في تقواه، وتنبيهًا على كون تعظيمه
منغرسًا في قلوبنا، حتى إنا إليه نفزع إذا سألنا، ونبّه أنا كما نقول:
أسألك بالله. نقول: أسألك بالرحم، وتقدير الكلام: اتقوا الله
الذي تسألون به، والأرحام التي تسألون بها، لكن نبّه بوصف
الأول على وصف الثاني، وللقصد إلى هذا المعنى قرأ من قرأ:
" الأرحامِ " بالخفض.
إن قيل: ما فائدة قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)؟
قيل: تنبيهًا على وجوب مواصلة بعضنا بعضًا، لكوننا من ذات واحدة، وأنا

(3/1078)


كبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، وأمّا بخفض قوله: (وَالْأَرْحَامَ) فقد
قيل: فيه ضعف من حيث الإِعراب، ومن حيث المعنى (1)؛
أمّا من حيث الإِعراب فلأن ضمير المجرور لمّا كان على حرف واحد قائم
مقام التنوين، والتنوين لا يصحُّ أن يعطف عليه، كذلك الضمير
المجرور، وأيضًا فلأنّ كلَّ ما يُعطف عليه يصحّ أن يُعطف هو.
ولمّا كان ضمير المجرور لم يصحَّ أن يعطف عليه، وبيان ذلك أنّ
للمرفوع والمنصوب ضميرًا منفصلًا، نحو: هو وهما وإيّا. فيصح
أن يُقال: رأيتك وزيدًا، أو رأيت زيدًا وإياك، وأتيتني وزيد.
وأتاني زيد وأنت، ولم يكن للمجرور ضمير منفصل يقع موقع
المتصل فيُعطف به، فلم يجز لذلك أن يُعطف عليه أيضًا.
__________
(1) القراءة بالجر متواترة، ومن ثم فلا يسوغ الاعتراض عليها.

(3/1079)


وأمّا من حيث المعنى: فإن إعادة الأمر بالتقوى فلاقتران
ذكرها بصفة تحثُّ سامعها على استعمال التقوى، كقولك: اتقِ
الله الذي تخافه، واتقِ الله الذي بيده الخير.
فهذه الصفات هي التي تُحَسِّنُ التكرير.
فإذا نصبت الأرحام ففيه هذا المعنى.
وإذا جررته لم يكن في ضمنه من التحذير ما فيه إذا نصبتَه.
وإنما قال: (وَخَلَقَ مِنْهَا) ردًّا إلى لفظ النفس، وكلُّ اسم جنس، لفظه

(3/1080)


مخالف لمعناه أي، التذكير والتأنيث، فلك اعتبار اللفظ طورًا
والمعنى طورًا، نحو: حمامة ونفس، وإذا كان عَلمًا نحو:
طلحة. أو صفة نحو: علَّامة ونسَّابة، فليس إلا اعتبار المعنى
دون اللفظ.
والرَّقيب. قال مجاهد: هو الحفيظ، وقال ابن زيد: عليم).
وكلاهما صحيح، فحافظ الشيء يقتضي أن يكون عالمًا
به ليمكنه أن يحفظه، وبيَّن بقوله: (كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) أنه قبل
أن خلقكم وأوجدكم كان مراعيًا لكم، تنبيهًا أنه لا يخفى عليه
أمركم في كل حال.

(3/1081)


وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)

قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
الخبيث والطيِّب: عبارتان عن الحرام والحلال، أي تدفعوا
إليهم شيئًا هو طيِّب لكم، وتأخذوا من مالهم ما هو خبيث لكم.
طلبًا للربح. هذا قول الضّحّاك والسُّدِّي.
وقيل: لا تتبدلوا الهزيل بالسمين.
وقيل: الطيِّب مقدار ما أبُيح تناوله من مال

(3/1082)


اليتيم، والخبيث ما لم يُبح منه، وهو المشار إليه بقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا).
وكل هذه الأقوال إشارات إلى ما يقتضيه عموم الخبيث والطيب.
والحَوب: الإِثم لكونه مزجورًا عنه، من قولهم: حاب حَوْبًا
وحُوبًا وحِيَابة، والأصل فيه حَوْب لزجر الإِبل، وتحوّب
نحو تأثم، وإيتاء اليتامى أموالهم، قيل: دفعها إليهم بعد
البلوغ، وسمّاهم حينئذ يتامى استصحابًا للحالة المتقدمة،

(3/1083)


ويكون ذلك كقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وقيل: هو إنفاقها عليهم، ودفعها شيئًا
بمعد شيء على قدر الحاجة.
والضمير في قوله: (إِنَّهُ) قيل: للأكل. وقيل: للتبدُّل.
وقيل: للأموال، لكن اعتُبر المعنى

(3/1084)


وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)

لمّا كان المال والأموال في هذا الموضع سواء، كقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .، فإن الحوادث أودى بها
لمّا كان معنى الحوادث والحدثان واحدًا.

قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
العَولُ: الخروج عن حد الاستقامة، والعول في الفريضة خروج
عن حدِّ السهام المسماة، والعويل: الصياح الخارج عن حد الاستقامة
في الكلام، وذلك نحو الألفاظ التي يتحرّاها المصاب.
وعوَّلت عليه مِلتُ نحوه بالاعتماد، والِمعْول على بناء الآلة، كأنه آلة العول.

(3/1085)


والآية تُؤوِلَتْ على وجهين:
أحدهما: قيل: إن الرجل قبل الإِسلام إذا مات كان وليُّه يسير في أيتامه سيرة غير قاصدة، ويأكل أمو الهم إسرافًا وبدارًا، وكانوا يسيرون في يتامى النساء
خاصة بأقبح سيرة، فإنها متى كانت اليتيمة ذات مال وجمال
تزوّجوا بها بأقلّ من مهرها، ثم لم يحُسنوا إليها، وإن كان أحدهم
لا يرغب فيها عَضَلها عن النكاح، طمعًا في مالها، فلما جاء
الإِسلام نُهوا عن ذلك بهذه الآية.
وقوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ) أي إن خفتم أن لا تستعملوا العدالة -
أي إذا تزوّجتم بهن فتزوجوا من غيرهن. وإلى هذا ذهب ابن
عباس وعائشة.
والثاني: أنهم يتحرجون في أموال اليتامى، لمّا

(3/1086)


عظَّم الله تعالى من أمرهم في نحو قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) الآية.
ولم يكونوا يتحرّجون من التزوُّج بعدد من النساء، فقال
تعالى إن تحرَّجتم عن تناول مال اليتيم خشية أن لا تُقسطوا.
فتحرجوا النساء أن لا تعدلوا بينهن، وانكحوا مقدار ما يمكنكم
الوفاء بحقوقهن.
وقيل: معناه إن خفتم أن لا تُقسطوا في حفظ أموال اليتامى.
وأن تجوروا في الإِنفاق على نسائكم.
فانكحوا عددًا مخصوصًا لا يحوجكم إلى أن تقسطوا.
إن قيل: فما معنى ذكر هذه الأعداد إن كان الأمر على ما وصفت؟
وهلّا قيل: فانكحوا ماطاب لكم من النساء سواهن؟

(3/1087)


قيل: يجوز للحكيم إذا سئل عن حكم أن يجيب عنه، ويقرن إليه ما
علم أنّ بالسائل حاجة إليه. فلمّا سُئل عن ذلك، وكان فيهم من لا
يُبالي أن يتزوّج بالعدد الكثير من النساء، بيّن العدد الذي لا يجوز أن
يتعداه الإِنسان في وقت واحد، ولذلك أحيلوا على هذه الآية لما
استفتوا في يتامى النساء، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) الآية.
وقد اختُلف في العدد الذي يجوز أن ينتهى إليه في النكاح.
فمذهب عامة الفقهاء أنه لا يجوز مجاوزة الأربع، ومذهب بعض
الشيعة أنه يجوز بلا عدد كالسراري.
وقال: الآية ليست بتوقيفٍ، بل هي إباحة: كقولك: تناول ما أحببت واحدًا واثنين وثلاثة، وأنّ تخصيص بعض مقتضى العموم على طريق
التبيين لا يقتضي الاقتصار عليه، وذهب بعضهم ممن لا يعرف
شرط الكلام إلى أن المباح منهن تسع، وقال: الواو تقتضي
الجمع، فصار كقولك: اثنين وثلاثًا وأربعًا، وذلك تسع.
وأكد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات عن تسغ نسوة.
قال: وغير منكر أن

(3/1088)


يذكر عدد واحد بلفظين، كما قال: (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
وهذا فاسد، أما أولاً: فإن العدول عن ذكر الشيء بلفظة
واحدة إلى لفظين، إما أن يكون لغرض نحو (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ)، لمّا خالف بين حكميهما أورده بلفظين.
أو يكون ذلك للعيّ والاستدراك عن نسيان، وكلام الله تعالى منزَّه
عن ذلك، ومنهم من ردَّ إلى واحدة، لتأويلٍ انتزعه من
الآيتين: إحداهما هذه، والأخرى قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) الآية. قال: فبيَّن أنكم لا تستطيعون
تحري العدالة في النساء، وقال ههنا: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً).
فكأنه قال: انكحوا واحدة إن لم تستطيعوا أن تعدلوا.

(3/1089)


فقد ثبت أن لا تستطيعوا، فإذًا، فانحكوا واحدة، وهذا القائل
خفي عليه الفرق بين العدلين، فإن العدل في تلك الآية تركُ ميل
القلب، وذلك مرفوع عن الإِنسان، لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).
وقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) عنى به العدل الذي
هو حق القسم والنفقة، ولهذا قال: (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن الخوف
يُقال فيما فيه رجاء ما، ولهذا لا يُقال: خفت أن لا أقدر
على بلوغ السماء أو نسف الجبل.
وهذه الأقوال المتقدّمة يُبطلها ما رُوي أنه لمّا نزلت هذه الآية
كانت تحت قيس بن الحارث ثمان نسوة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "خل سبيل أربع ".

(3/1090)


وكذا قال لابن مسعود الثقفي، وكان قد أسلم وتحته تسع
نسوة، واستدلَّ أهل الظاهر بالآية على وجوب النكاح.
واستدل بها بعض الفقهاء على أنه غير واجب، وبيان هذا أن

(3/1091)


ما في قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) إمّا أن يكون عبارة عن
المنكوحة، أو عن الزمان، أو العدد. فلا يصح الأول.
لأن (ما) لا يُعبَّر به عن أعيان العقلاء مجردًا، ولا عن العدد، لأنه محال أن يعني نكاح العدد، وإن عنى المعدود فالكلام راجع إلى أن يكون عبارة
عن العقلاء، فيجب أن يكون عبارة عن الزمان، فكأنه قال: اعقدوا
وقت ما يطيب لكم، والمخالف يوجبه طاب لنا أو لم يطب.

(3/1092)


فإن قيل: معناه ما تاقت أنفسكم إليه، قيل: إن عنى ما تاقت
نفسه إلى العقد فليس ذلك مذهبًا لأحد، وإن عنى المخالف: ما
تاقت نفسه إلى الجماع، فلم يجر للجماع ذكر.
وقد تقدَّم الكلام في العول، فقول من قال:
ذلك أدنى أن لا تجاوزوا ما فرض الله.
وقول من قال: أن لا تميلوا، يرجعان إلى أصل واحد.
وقول الشافعي معناه: أن لا يكثر عيالكم.
وقد ذهب إلى هذا التأويل

(3/1093)


زيد بن أسلم، وأجازه الأصمعي، وابن الأعرابي.
ومنه قيل: فلان يعول عشرة، وقال ابن داود: غلط
الشافعي، لأن صاحب الإِماء في العيال كصاحب الأزواج.

(3/1094)


وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

وابن داود لم يتصوّر ما قاله الشافعي، وذاك أنه لم يُرِد إلا ما أراد
غيره من حقيقة المعنى، وإنما تحرّى اشتقاق اللفظ، ولم يُرِد بالعيال
الأولاد، وإنمّا أراد النساء، فقد يُسمَّى كل من تسمونه العيال، وإن
لم يكن أولادًا، وأراد تعالى إن خفتم أن يكثر نساؤكم، فتحتاجوا
إلى تفقدهن بأمور تقصرون عنها، ولا يكون في مراعاتها إقساط.
وهذا راجع إلى ما ذهب إليه الآخرون.

قوله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
فالنحلة: العطية التي لا يُطلب بها عوض، وأصله عندي من النحل.
فكأنَّ نحلتهُ: أعطيته عطية النحل، وذلك ما قصده الحكماء من
وصف النحل في أنه لا يضر بشيء، وينفع أعظم نفع، وكأنه إلى
ذلك أشار بقوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية،

(3/1095)


والنِّحلة أخصّ من الهبة، إذ كل هِبة نِحلة، وليس كل نِحلة هِبة.
وسُمّي الصداق بها من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتُّع دون
عوض مالي. وقول قتادة وابن زيد: النّحلة: الفريضة.
فنظر منهم إلى حكم الآية، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق.
واقتضت إيجاب إيتائهن الصداق.
ثم حكمه وقدره قبل الدخول وبعده، وقبل التسمية وبعدها.
فمأخوذ من غير الآية.
ودلّ بقوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ) أن لا يتحرّج الإِنسان من قبول
هبتها عن طيب نفس منها بها، ودلَّت الآية على أنه يجوز لها أن
تهب صداقها إذا كانت بالغة، خلافًا لما قال مالك: إن ذلك إلى وليّها.

(3/1096)


وللأوزاعي حيث قال: لا يجوز لها حتى تلد.
أو يحول عليها الحول في بيت زوجها.
ولليث بن سعد حيث قال: لا يجوز عتق ذات الزوج ولا هبتها.
إلا في اليسير من غير إذن زوجها.
وذُكِرَ عن شريح أن رجلًا أتى بيّنة أن امرأته

(3/1097)


أبرأته من صداقها عن طيب نفس، وأنكرت المرأة ذلك.
فقال شريح: هل رأيتم المال وقد دفع إليها؟ فقالوا: لا.
فقال: لو طابت نفسها لم ترجع فيه، فلم يجُزه.
إن قيل: لِمَ قال: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) فأفرد
وقال في الأخرى: (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) فجمع؟
قيل: التمييز على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يدلَّ ما قبله على عدد فلا يجُمع، نحو: عشرون درهماً.
والثاني: أن يشتبه، فلابد من جمع إذا أريد الجمع نحو قولهم: أفره القوم عبيدًا.
والثالث: أن يستوي الواحد والجمع لكونه معلومًا منها المعنى على حد، نحو
قولهم: فلان أحسن القوم عينًا، لأنه يعلم أن القوم لم يشتركوا

(3/1098)


وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)

في عين واحدة، والآية على هذا فلا يحتاج فيها إلى الجمع.
والضمير في (مِنْهُ) راجع إلى مصدر (فَأْتُوهُنَّ).

قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
السُّفَهَاء قيل: النساء،

(3/1099)


وقيل: الصبيان، ومنهم من اعتبر ذلك في كل من لم يكن حصيفا
في تدبير المال، ومنهم من اعتبر ذلك مع الحصافة في الدين.
وكُلّ واحد أشار إلى بعض من يتناوله الاسم على سبيل المثال.
فمعلوم أنه لا يصحُّ صرفها إلى النساء مفردات، لقوله: (وَارْزُقُوهُمْ)
والنهي عن إيتائهن المال على سبيل تفويض تدبير الأموال إليهن.
وقيل: على سبيل تمليكهن على وجه التمكين، لا على نهي الإِعطاء
بقدر ما يحتاجون إليه.
وقال ابن جبير: معناه لا تعطوهم أموالهم.
وإضافته إلى المخاطبين على اعتبار الجنس، نحو قوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، ونظر بعضهم نظرًا آخر، فقال: عنى

(3/1100)


بالسفهاء الوارثين، الذين يُعلم من حالهم أن يتسفهوا في استعمال
ما تناله أيديهم، فنهى عن جميع المال الذي يرثه السفهاء، ونبّه
بقوله: (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) على الغرض الذي فصَّله الحكماء
من فائدة المال الموصل به إلى السعادة الحقيقة، بل قد أبانه النبي
- صلى الله عليه وسلم - بأوجز لفظ، فقال:
"من طلب الدنيا استعفافًا عن المسألة، وسعيًا على أهله.
وتعطُّفًا على جاره، بعثه الله ووجهه كالقمر ليلة البدر.
ومن طلبها حلالًا، مكاثرًا، مفاخرًا، مرائيًا، لقي الله وهو
عليه غضبان ".
والقيام يكون مصدرًا واسمًا، والقوام لا يكون إلا اسمًا.

(3/1101)


إن قيل: لِمَ قال: (فِيهَا) ولم يقل: منها. مع كون ذلك أظهر؟
قيل: قد ذكر بعضهم أن فيه تنبيهًا على ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "ابتغوا في أموال اليتامى، لا تاكلها الزكاة".
وأن المستحب أن يكون الإِنفاق عليها من فضلاتها المكتسبة.
والقول المعروف متضمن للأمر بتأديبهم وإرشادهم ووعدهم الجميل، الذي ذكره ابن جريج، وقال: هو أن يُقال له: إن رشدت مكنَّاك من مالك،

(3/1102)


وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

وفيه المنع عن قهرهم، وإليه ذهب مجاهد استدلالاً بقوله تعالى:
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)

قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
الإِيناس فيما رُئي مرّة بعد أخرى فأُنس به.
وقد فسّره ابن عباس بالمعرفة.
والخليل فسره بالإِحساس. والرشد،

(3/1103)


قال الحسن وقتادة: وهو الصلاح في الدين والإِصلاح للمال.
وقال مجاهد: هو الإِصلاح للمال فقط، وأمر تعالى بدفع المال إلى اليتامى
بعد البلوغ وإيناس الرشد منهم، وبعد الابتلاء، وجعل ذلك كلّه
شرطا في تسليم المال إليه، ومعلوم من الآية أن من دُفع إليه المال، ثم
فُقد منه الرشد أن يُعاد الحَجْرُ عليه، لأن الغرض بذلك حفظ
ماله، فلا فرق بين أن يكون المعنى الموجب للحَجْرِ ابتداء أو انتهاء.

(3/1104)


والآية تقتضي أن كلَّ من حصل في يده مال لغيره لزمه حفظه له
كمال المفقود، ومال الفقراء في بيت المال، واللُقطة في يد الملتقط.
والابتلاء المراد في الآية، قيل: هو حال الصغر بأن يُدفع إليه
قليل من المال، فيرُى حفظه له وتصرفه فيه.
وقيل: هو بأن يجُرَّب في أمورِ أُخر.
وقيل: هو أن يختبر بعد البلوغ، وسفاهم يتامى
استصحابًا للحالة المتقدّمة، وقوله: (وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا)
أي متجاوزين حد القصد المباح لكم، ومبادرة أن يكبروا، فيمنعوا
أموالهم).
وقوله: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ).
قيل: لا يتناول منه شيئًا.

(3/1105)


(وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) من مال نفسه لا من مال اليتيم، لئلا يحتاج إلى مدِّ اليد إلى ماله.
وقيل: فليأكل بالمعروف من مال اليتيم.
وقيل: ذلك منسوخ بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) الآية، وقال الأصمُّ: فليأكل من مال اليتيم قرضًا.
وإليه ذهب عمر، فقال: إني في مال الله كوالي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف،

(3/1106)


فإذا أيسرت قضيت. وقيل: يتناول الفقير
الأقل من قدر حاجته، أو قدر أُجرةِ مثله.
وقيل: ليس لوالي اليتيم أن يتناول ذلك، وإن تولى إصلاحه إلا بأمر من له الأمر، وإليه ينصرف ما رُوي أن رجلَا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن في حجري يتيمًا أفآكل من ماله؟
قال: "نعم، ما لم تقِ مالك بماله، أو تتخذ منه ذخرًا"،

(3/1107)


لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

وإلى نحوه صُرف قوله: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
والأمر بالإِشهاد عليهم عند دفع أموالهم إليهم على سبيل الإِيجاب.
وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، تنبيه منه تعالى أنه رقيب عليهم.
يعلم أسرارهم، وأنه يحاسبهم على ما يكون منهم، فليس للولي أن يخون، ولا لليتيم أن يدعي ما ليس له.

قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

(3/1108)


المفروض: المقطوع بإيجابه، والفرض الحزُّ في شِية
القوس، والفُرْضَة مقطع الماء، إمّا اعتبارًا بقطع الماء أو قطع
الخصومة فيه.
وبعض الفقهاء فرّق بين الفرض والواجب، فجعل الفرض أخصّ.
وقال: إنه يقتضي فارضا، والواجب لا يقتضيه.
قال: ولذلك يُقال: ثواب المطيعين واجب على الله.
ولا يقال: فرض عليه، ورُوي أن العرب كانوا يورثون الذكور
دون الإِناث، وقيل: كانوا لا يورّثون إلا من طعن من الرُّمَّاح
دون المستضعفين من الولدان، قيل: إن أوس بن ثابت مات

(3/1109)


وخلَّف بنات وابني عم، فعمدا إلى المال وأخذاه.
فجاءت امرأة أوس ببناته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلمته ذلك، فأخبرها أن لا شيء لها ولا لهن. فأنزل الله تعالى الآية، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابني عم أوس، فأمرهما أن لا يُخرجا من المال شيئًا، ثم نزلت آية الميراث، فقسّم المال عليهم، فاستدل بهذه الآية أصحاب الإِمام
أبي حنيفة على توريث ذوي الأرحام.
وقالوا: الأخوال والخالات وأولاد البنات من الأقربين.
وتعلَّق بذلك أيضًا من ورَّث الإِخوة مع الجد، وكذلك من ورّث العامل والمماليك.

(3/1110)


وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

وقوله: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا) يقتضي خلاف من ورّث ذوي الأرحام.
إذ ليس لأحد منهم نصيب مفروض.
فإن قيل: لِمَ أُعيد ذكر النصيب؟
قيل: لما أراد أن يبين كون نصيبهم مفروضا أعاد الموصوف معه.
ليستبين أن المفروض هو النصيب لا غير.

قوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
أراد بالقسمة المقسوم، ولذلك: (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) ردّ إلى المعنى.
واختُلِفَ في الآية على أقوال: الأول: أنه عنى من ليس بوارث
من أولي القربى، وذلك على الاستحباب، فإما أن يُعطوا،

(3/1111)


أو يُقال لهم قول معروف، وقيل: يجُمع لهم بين الأمرين.
والثاني: قال مجاهد: هو واجب، لكن يُعطون على قدر ما تطيب
به نفس الورثة، إذ كانوا وارثين.
قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس وهم يُقسّمون على الأقارب واليتامى والمساكين من الورِق والفِضة، فإذا صاروا إلى الأرضين والرقيق ونحوها، قالوا لهم قولاً معروفاً، أي قالوا لهم: بُورِك فيكم.
الثالث: أن أولي القربى ضربان: وارث يُعطى، وغير وارث.
فيُقال له قول معروف.
الرابع: يُعطى الحاضر البالغ، ويتُحرَّى في أمر

(3/1112)


الغائب والصغير قولٌ معروف أي مصلحة.
الخامس. قال زيد من أسلم: هذا شيء أمِرَ به الموصي في الوقت
الذي يوصي، واستدلّ في ذلك بقوله بهد هذه الآية: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً) الآية.
السادس: أنّ ذلك كان في الورثة واجبًا، فنسخته آية الميراث.
والصحيح أنه ليس بمنسوخ، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)، ثم قال: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا).

(3/1113)


وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)

قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
أصل السداد: إزالة الاختلال، يقال: سددت الخرقَ. إذا ردمته.
والسهمَ إذا قومته، والفقرَ إذا أزلته، والسّداد ما يسدُّ به، والسداد
يُقال في معنى الفاعل، وفي معنى المفعول، ورجل سديد متردد
بين المعنيين، فإنه مسدد من قبل متبوعه، ومسدِّد لتابعه، وفي
الآية أقوال: الأول: أنه نهي للحاضرين عند الموصي أن يأمروه
بما لا يجوز الوصية به.
والثاني: أنه نهي لهم أن يأمروه بترك الوصية.

(3/1114)


الثالث: ما قد رُوِي عن ابن عباس أن ذلك وارد في
الحث على حفظ مال اليتيم، وأن عليهم أن يعملوا فيه بمثل ما
يحبون في ذريّتهم بعد موتهم.
الرابع: أنه نهي للموصي أن يوصي بما لا يجوز.
وكُلُّ هذه الأقوال يصح أن تكون مرادة بالآية، لأنه واجب أن لا يوصي بأكثر من الثلث، وواجب على من يحضره أن يحثَّه على ذلك، وأن لا يُوصي بأكثر من الثلث، وأن لا يخلّ بالوصية.

(3/1115)


إن قيل: لِمَ قال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا)، ثم قال:
(فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ)؟ وهل بين الخشية والتقوى فرق؟
قيل: الخشية الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم.
ولذلك وصف به العلماء في قوله تعالى:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
والتقوى جعل العبد نفسه في وقاية مما يخشاه، ولذلك قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فالخشية مبدأ التقوى، والتقوى غاية الخشية.
فأمر الله تعالى بمراعاة المبدأ والنهاية، إذ لا ينفع الأول دون الثاني.
ولا يحصل الثاني من

(3/1116)


إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

دون الأول، ثم أمر تعالى مع ذلك بتحرِّي القول السديد، وذلك
متناول لكل قول مأمور به، وقول من قال: هو تلقين المحتضر
الشهادة، وقول من قال: هو ترك الرفث في تولي القسمة.
وقول من قال: هو الصدق في الشهادة - داخل في عموم الآية.

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
الصّلا: النار، وصلي فلان بها وصليته: أدنيته منها.
وصليت اللحم: شويته.
فقوله: (وَسَيَصْلَوْنَ) من صِليَ، ويُصْلَون من أَصلَيتُ.
نحو (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا)، والسعير: المسعور.
واستعرت النار والحرب تشبيهًا بذلك، وهذه الآية مؤكَدة لما قبلها من

(3/1117)


الأمو بالخشية والتقوى، ووعيد لمن تعدّى، وذكر الأكل لكونه
أكثر ما يرُاد له المال.
وقيل: إنه لما نزلت هذه الآية تحرَّج الناس من طعام اليتيم
حتى أنزل الله تعْالى: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)، وليس هذا ناسخًا للأول، كما ظنّه قوم، لأنه ليس في قوله: (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ) إباحة لأكل مال اليتيم ظلمًا، فتكون هذه ناسخة لها، في

(3/1118)


قوله: (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) وجهان:
أحدهما: أن ذلك تشبيه، إذ كان ذلك مؤدياً إليه.
كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"يتهافتون في النار تهافت الجراد".
وكقول الشاعر:
إذا صُبَّ ما في الوَطْب فاعلم بأنه. . . دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دعا
فسمّى اللبن دما لكونه بدلاً منه.
والثاني ما رُوي أن النار تجُعل في بطنه يوم القيامة.
والقولان صحيحان وسيان، فإنه من

(3/1119)


يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

كان حاله في الآخرة هذه، هو الذي حاله في الدنيا ما قاله الأولون.

قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
الوصية: تُقال فيما كان حتمًا، نحو قوله

(3/1120)


تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ثم قال:
(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ).
وقال ابن عباس: كان المال للولد في الجاهلية.
والوصية للوالدين والأقربين، فنسخه هذه الآية.
واستُدِلَّ بما رُوِيَ أنه لمّا نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله قد أعطى كُلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث ".
وقال غيره: الآية غير ناسخة، بل هي تفسير لقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ).
واختُلِفَ: هل يدخل ولد الابن في

(3/1121)


إطلاق الولد؟ فمنهم من قال: يدخل فيه، لقولهم: أولاد آدم.
ولأن جميع ما علق بالولد من الأحكام فابن الابن داخل فيه، نحو
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ)، ثم قال: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ).
وقوله: (أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) ولا خلاف أن حكم ولد
الابن إذا لم يكن ولد صلب حكمه، وقد استثني من ظاهر
قوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
الكافر والمملوك والقاتل وأهل ملَّتين، إلا عند معاذ.
فإنه يُورِّث المسلم من الكافر.
وقوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) فإنَّ الله جعل للبنات إذا
كُنَّ فوق اثنتين الثلثين، وللواحدة النصف، ولم يذكر فرض

(3/1122)


البنتين، قال ابن عباس: حكمهما حكم الواحدة.
وقال سائر الفقهاء: حكمهما حكم ما فوقهما.
ثم اختُلِفَ من أيِّ وجه صار حكم الاثنتين حكم ما فوقهما؟
فقال بعضهم: إن ذلك أُجْرِيَ مجرى الثلاث بالقياس، لأنه به أشبه.
وقال بعضهم: بل اللفظ اقتضى ذلك، وهو الصحيح.
وبيان ذلك أنه قال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).
ولا فرق بين أن يقال ذلك أو يقال: للأثثيين مثل حظ الذكر.
وقد ثبت أن حظ الذكر إذا كان مع أنثى الثلثان.
فاقتضى ذلك أن فرض الأنثيين الثلثان، فصار ذلك
مدلولاً عليه بفحوى الكلام دون الصريح، وفرض الواحدة
وما زاد على البنتين فبالصريح، قال: ويقوي ذلك أن القسمة
العددية ضربان: مركب ومفرد، وقد ذكر حكم المركب بقوله:
(فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً)، وحكم المفرد بقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)، والاثنان بدءُ المركب من الأعداد، فيجب أن يكون حكمه ملحقًا به.
ويدلُّ على ذلك ما قاله في آخر السورة قوله:

(3/1123)


(وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)، ثم قال: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ)، فجعل حظ البنتين الثلثين، ولم يبيّن حكم ما زاد عليهما.
وبيّن في فرض البنات حكم ما فوق الابنتين، ليعلم من نطق
كل واحد من الاثنين حكم المسكوت عنه في الأخرى.
فإن قيل: متى جعل حكم الاثنتين حكم الثلاث فصاعدًا
سقط فائدة قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)؟
قيل: مثل هذا راجع إلى المخالف، لأنه يقال له: متى جعلت حكم الاثنتين حكم الواحدة سقط فائدة قوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)؟
وجوابه في ذلك جوابنا عما سأل، على أن ذكر ذلك على التنزيل الذي نزلناه ْلابد من ذكره، لأنه بيّن حكم الاثنتين بقوله: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، ثم بيّن حكم ما فوق الاثنتين، ثم حكم الواحدة.
ومن قال: تقدير الكلام: فإن كن نساء اثنتين، وإن قوله (فَوْقَ)
زائد كقوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ)، لأنه أراد فاضربوا
الأعناق، فغير موافق في ادعاء الزيادة في الموضعين، وغير موافقٍ
في تأويل الابنتين، وبهلام الله تعالى منزه عن ذكر لفظ خلوةً عن
قصد معنى صحيح، إذكان ذلك لغوًا، تعالى الله عنه.

(3/1124)


إن قيل: لِمَ ذكر فرض البنت إذا انفردت، ولم يذكر الابن
على الانفراد؟
قيل: لأن العرب كانوا يورّثون البنين دون البنات، فاحتيج إلى تبيين ذلك، دون ما بقوا على ما كانوا عليه.
وقوله: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ظاهره يقتضي أن يكون
للأب السدس مع الولد: ذكرًا كان أو أنثى، كما أن فرض الأم
كذلك، لأنه لا خلاف متى كان الولد بنتا لا يستحق أكثر من
النصف، لقوله: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فيُعطى
الأبوان السدسين بحكم النص، وبقي سدس يناوله الأب بما
نبّه عليه بقوله: (وَوَرِثَهُ ؤأَبَوَاهُ فَلِأُئِهِ اَلثلمشأ)، لمّا جمع نصيبهما.
ثم أفرد نصيب الأم على أن الباقي للأب.
وقوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فالإِخوة ههنا
متناولة للإِخوة والأخوات، لكن غلب التذكير، وبين تعالى ميراث

(3/1125)


الأم عند وجود الإِخوة، والظاهر يقتضي أن الأم تستحق السدس
إذا كانت للميت ثلاثة إخوة فصاعدًا.
وأما إذا كان أخوان فالظاهر لا يقتضي ذلك.
وقال ابن عباس: إن الآية لا تتناول ذلك، فلم
تحجب الأم عن الثلث بدون الثلاثة، ولا بالأخوات
منفردات، وخالفه سائر الصحابة، وحجبوها باثنين من
الإِخوة والأخوات، كما حجبوها بأكثر من ذلك.
وقالوا: المراد بالأخوة حصول من له الإِخوة دون العدد.
ودون الذكورية والأنوثية.
ولا خلاف أن الواحد لا يحجب الأم.

(3/1126)


وقوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:
الوصيّة مقدّمة في اللفظ مؤخّرة في المعنى.
فإن مراعاة الذين قبل مراعاة الوصية، وإنما قيل (أَوْ دَيْنٍ)

(3/1127)


ولم يقُل أو، دين، ليقتضيهما مجموعين ومفردين.
وقوله: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ)، قيل: القصد بذلك أن المنفعة بهما
متفاوتة، فإن المنفعة بالآباء في الصغر، وبالأبناء في الكِبَر.
وقيل: معناه تحرَّوا ما أُمرتم، ولا تعتبروا نفع الولد والوالد، فإن
ذلك يختلف عند اعتبار الآحاد.
وقيل: معناه لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة، فينتفع ولده بماله.
أم الولد أقرب وفاة فينتفع

(3/1128)


الوالدان بماله، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر:
ما عِلمُ ذي ولد أيثكله. . . أم الولدُ اليتيم؟
وهذا الذكر في الآية كالاستطراد، والقصد به يجب أن يتحرَّى
في ماله الوجه الذي جُعل له المال، فلا يمنع ذا حق من حقّه، شفقة
على ورثته، ولا يضعه في غير حقه "تفاديًا من انتقال ماله إلى ورثته.
بل يجب أن يتحرى القصد في ذلك، فليس يدري عواقب الأمور.
وجملة ذلك أن في الآية حثّا على تفويض الأمر إلى الله، والرضا
بحكمه، وقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) اسم موضوع موضع
المصدر، نحو قوله: (كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، و (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).
ومعناه قسمة مقدرة، وقيل: معناه حتمًا

(3/1129)


وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

لازمًا، وكلا المعنيين يقتضيه لفظ الفريضة.

قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
الكلالة: اسم لمن عدا الولد والوالد.
وقال ابن عباس: اسم لمن عدا الولد وورث الإخوة مع الأب، وإليه كان

(3/1130)


يذهب ابن عمر ثم رجع عنه، ويدل أن الأب ليس بكلالة
قول الشاعر:
وإن أبا المرء أحمى له. . . ومولى الكلالة لا يغضب
ورُوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن ذلك، فقال:
"من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة".
وقال بعضهم: الكلالة من لا ولد له ولا والد.
فجعله اسم الميت، وكلا القولين صحيح،

(3/1131)


فإن الكلالة مصدر، وهو اسم للمعنى الذي يجمعهما.
فسُمّي به الوارث تارة والموروث تارة، وتسميتها بذلك إما
لأنَّ النسب قد لحق به من طرفيه، أو لأنه كلَّ عن اللحوق
به، وذلك أن الانتساب ضربان:
أحدهما: بالعمق كنسبة الأب والابن.
والثاني: بالعرض كنسبة الأخ والعم.
وقال قطرب: الكلالة لمن عدا الأبوين والأخ

(3/1132)


وليس بشيء، وقال بعضهم: هو اسم لكل وارث.
لقول الشاعر:
. . . وللكلالة ما يُسيم
ولم يقصد الشاعر ما ظنّه هذا القائل، فإنه إنما خص الكلالة
ليزهد الإِنسان في جمع المال، لأن تخليف المال لهم أشد من
تركه الأولاد، وإذا قُرئِ يورِث فكلالة مفعول، وإذا قُرئِ

(3/1133)


يورَث فحال للميت.
فرض الله تعالى للزوج النصف إذا لم يكن للميتة ولد، دخل بها
أو لم يدخل، وجعل له الربُعَ إذا كان لها ولد، سواء كان منه أو من
غيره، وفرض الربُعَ للزوجات إذا لم يكن للميت ولد، والثمُنَ إذا
كان له ولد، وأجمعوا أن ولد الابن يقوم مقام ولد الصلب في حجب
الزوجين، إلاّ حكاية عن بعض المتقدمين، وأجمعوا أن للزوجة
الواحدة إذا انفردت ما للزوجات إذا اجتمعن، وذهبت طائفة إلى
أن من لا يرث من مملوك وقاتل يحَجب الزوجين والأم، لأن اسم
الولد يتناولهم، كما يحجب الإِخوة الأم مع الولد، وإن لم يرثوا،

(3/1134)


وقوله: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ)، جعل لواحدهم السدس.
وأشرك بين جماعتهم في الثلت، ولم يُفضِّل ذكرهم على
أنثاهم، وعنى بذلك ولد الأم بدليل قوله في إخوة الأب
والأم، (وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)
ورُوِيَ أن سعد بن مالك قرأ: وله أخ أو أخت من أم.

(3/1135)


قال بعضهم: لعله فسَّر الإِخوة بذلك، فظنَّ السامع أنه
قرأه في القرآن، كما روي عن عمر: فامضوا إلى ذكر الله على
معنى التفسير للسعي، فظنَّ أنه قرآن.
وقوله: (فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ) فذلك لتغليب المذكَّر.
وقُرىء يوصِي بها، فإذا قُرِئ يوصَى بالفتح فصفة الوصية، وإذا قُرئ بكسر الصاد احتمل أن تكون صفة للوصية وأن تكون حالاً للموصي
وقرأ الحسن: غير مضار وصيةٍ بالإِضافة.
والباقون بالتنوين، ونصب وصية على المصدر أو على المفعول به.
والإِضرار أن يُقرَّ بمالٍ لأجنبي، ردّا

(3/1136)


تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)

للميراث، أو يبيع ماله أو شيئا منه محابيا فيه، أو يهب، أو يُعتق.
أو يوصي لوارثه قصدًا للإِضرار بغيره.

قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
بيّن بذكر الحدّ أن ذلك يؤدي بالإِنسان إلى العصيان.
ونبّه بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) على وجوب مراعاة ما بيّنه تعالى في الكتاب من أحكام المواريث، وما بيّنه - صلى الله عليه وسلم - من نحو قوله: " لا وصية لوارث "، وقوله: "لك الثلث والثلث. . . ".
قال ابن عباس: الضرار

(3/1137)


في الوصية من الكبائر، ثم قرأ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ).
وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة، فإذا أوصي حاف في وصيته، فيُختم له بسوء عمله ".
ووصف الفوز بالعظيم اعتبارًا بفوز الدنيا

(3/1138)


وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

الموصوف بقوله تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) والقليل والصغير
في وصفها متقاربان.

قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
كما وصف في مراعاة الحدود ثواب مراعيها وصف في
تضييعها عقاب متعديها، وأطلق القول فيهما ليكون عامًّا في
ذلك وفي غيره من الحدود التي بيّنها، وذكر في العذاب الهوان.
كما ذكر في غيره الخزي لما عُرِف من عادة كثير من الناس أن
تقل مبالاتهم بالشدائد ما لم يضامَّها، الهوان حتى قالوا: المَنيَّة
ولا الدنيَّة، والنار ولا العار.
فبيّن أنه يجُمع لهم الأمران.

قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)

(3/1139)


فائدة الإِضافة في قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ) تنبيه على الحرائر.
وقيل: تنبيه على المحصنات دون الأبكار.
وقيل: على المزوجات أبكارًا كن أو ثيِّبات.
قال ابن عباس في هذه الآية، وفي قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) إن الزانيين كانا يُؤذيان بالتعيير والتعزير، والمرأة كانت تُحبس في البيت إلى أن أنزل الله قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) الآية.
وقيل: المراد بالآيتين البكران.
وقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا):
"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثّيب بالثّيب جلد مائة

(3/1140)


والرجم "، وهذا مما استدلّ به من ادّعى جواز نسخ القرآن
بالسنة، ومن أنكر ذلك فله من ذلك أجوبة:
أحدها: أن هذا كان حكمًا مقيدًا بوقت، لقوله: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)، وتقديره: أمسكوهن إلى أن يتبين لكم حكمهن، فصار ذلك
بالكتاب معلومًا، وإنما حظ السنة فيه بيان قدر الزمان، الذي
وقَّته الكتاب مجملًا.
والثاني: أن الأذى كان في الأبكار اللاتي لم يتزوجن.
والحبس في التزوجات منهن قبل الدخول، بدلالة

(3/1141)


قوله: (مِنْ نِسَائِكُمْ)، ثم نُسِخَ حكم الحبس والأذى في
الأبكار بآية الجلد، وأما الرجم فقد أُخذ حكمه عن السنة.
ولهذا قال عليّ عليه السلام حيث جلد محصنًا ورجمه، فسُئل عن
ذلك؟ فقال: "أجلده بكتاب الله، وأرجمه بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فدلَّ أنه لم يفهم من سنة النبي نسخ الآية.
والثالث: أن حُكم النسخ وقع بقرآن، قد رُفع تلاوته، وبقي حكمه.
وهو ما رُوي عن عمر رضي الله عنه: كان مما يقرأ في القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم.
فهذه أقوال عامة المفسرين، وأما ابن بحر فإنه قال: المراد بقوله:
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)، وبقوله:

(3/1142)


(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) ما يتعاطى الرجال بعضهم من بعض.
والنساء بعضهن مع بعض، وبقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ما يتعاطى الرجل
مع المرأة، قال: ولا نسخ في ذلك، قال: ويدل على ذلك أن
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ) متضمنة للإِناث فقط، (وَاللَّذَانِ) يتضمن
المذكرين، قال: ولا يصحُّ أن يقال: إن الذكر والمؤنث إذا اجتمعا
غلب المذكر، لأن ذلك إنما يكون حيث تقدم لهما ذكر، نحو
قوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)
قال: وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم -:
"مباشرة الرجل الرجل زنى، ومباشرة المرأة المرأة زنى".
وهذا الذي قاله وإن ساعده اللفظ فعدول عن سنن السلف.

(3/1143)


وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

قوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
قد ذُكر تفسيرها في الآية المتقدمة.
وقال مجاهد: هما الرجلان
الزانيان، يعني المتعاطيين اللواطة، يُعبَّر عنها بالفاحشة.
وقد رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن "اللواطة الزنى الصغير "، وظاهر قوله: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) يقتضي أن التوبة
تُسقط الحبس والأذى عن الزانيين، وقد قيل: الإِعراض عنهما
هو ترك التثريب المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إذا زنت أمة أحدكم .. " الخبر إلى قوله: "فليبعها ولو بضفير، ولا يُثرِّب عليها".

(3/1144)


إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)

قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
تعني أن قبول التوبة قد أخذ الله على نفسه تفضُّلًا لمن تاب
من قريب إذا بدر منه سوء، وقوله: (بِجَهَالَةٍ) فيه أقوال:
الأول: يأتيه سهوًا من غير قصد إلى الفاحشة.
الثاني: عن جهل بكونه ذنبًا.
الثالث: أن يعلمه لكن لا يعلم كونه كبيرة، ولا قدر
عقوبته.
الرابع: أن يعلمه ويعلم عقوبته، لكن يتبع شهوته،

(3/1145)


ومرتكب الذنب وإن كان يعلم كونه ذنبا يقال له جاهل، ومن
هذا الوجه قال مجاهد: الجهالة: العمد، وقول من قال: الجهالة:
المعصية فعلى هذا، لأن كل معصية جهالة، وإن لم يكن كل
جهالة معصية، وقوله: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) أي قبل
الموت، بدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب ".

(3/1146)


قيل: يا رسول الله: وما وقوع الحجاب؟ قال:
"موت النفس مشركة".
وروي: "من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ".
وسُمِّي مرةً قليلًا لقوله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) والقريب والقليل
في نحو ذلك يتقاربان.
وقال بعضهم: نبّه بقوله: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) على لطيفة، وهي أن الإِنسان إذا ارتكب ذنباً صدأ قلبه، فإن أقلع زال صدأه.
وإن استمرَ رِين على قلبه، وإن لم ينزع طُبعَ عليه وأُقفل.
ثم يتعذر عليه الرجوع، وعلى ذلك نبَّه بقوله في قصة
المنافقين) (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ)
فإذا كان كذلك فحق لمن بدرت منه بادرة أن يتداركها قبل أن

(3/1147)


وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

تصير الشهوة مستولية عليه، فتأبى الطباع على الناقل.

وقوله تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
أعتدنا. قيل: أصله: أعددنا، فأبدل من إحدى الدالين تاء.
وقيل: هو أفعلنا من العتاد أي العدة.
وهو ادخار الشيء قبل الحاجة إليه.
والله تعالى غني عن الإِعداد.
وإنما القصد أنه لا يعجزه عذابهم حيث شاء.
والسيئات ههنا عبارة عن الشرك والكبائر.
وحضور الموت: معاينة مَلَكِ الموت.
بيّن تعالى أن التوبة تفوت إذا أُخِّرت إلى ذلك، ولذلك لم ينفع
إيمان من آمن عند رؤية العذاب، حيث قال تعالى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، وقال: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ) الآية، وقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) الآية.

(3/1148)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

وجعل الناس قسمين: مقصرين في العمل غير تاركين للإِيمان.
وهم الذين عناهم الله بقوله: (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)
وتاركين للعمل والإِيمان وهم المعنيون بقوله: (وَهُمْ كُفَّارٌ).

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
العضل: التضييق عليها بالمنع من التزويج، وعضلت
الدجاجة بيضها، والمرأة بحملها، والبقعة بأهلها، وداء عضال
منه، ومعنى قوله: (أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) ما روي أن الرجل إذا
مات في الجاهلية يرث امرأتَه ورثتهُ: أخًا كان أو ابنًا من غيرها، فإن
شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوّجها وأخذ مهرها،

(3/1149)


وقوله: (كَرها)، وقرئ: (كُرها). قال الفرّاء: ما أكره عليه
الإِنسان فكَره وما كان من قبيل نفسه فكُره.
وقوله: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) قيل: هو نصب معطوف على قوله: (أَن تَرِثُواْ).
وذكر أن في قراءة عبد الله (ولا أن تعضلوهن)،

(3/1150)


وقيل: هو جزم على النهي.
قال ابن عباس وقتادة: المنهي عن العضل الزوج إذا لم يحتج إلى المرأة، فيمسكها رغبة في مالها.
وقيل: بل الوارث المانع لها من التزوُّج على سُنَّة الجاهلية.
وقيل: بل الولي، وكل هؤلاء منهيون في الشرع عن العضل.
فيصحُّ أن يكون خطاباً لجماعتهم.
والفاحشة المذكورة ههنا.
قال الحسن: هي الزنا، وللزوج أخذ الفدية إذا اطلع منها على ذلك،

(3/1151)


وقال ابن عباس: هي نشوزها، وقد تقدَّم الكلام في الخُلع وجواز
أخذ الفدية عن البضع.
وقال الزبيري: الاستمناء من العضل، وكان للزوج منعها على ما أمر به تعالى في قوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ)، وذلك قبل نزول الحد.
وقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي حسب ما يعرفه العقل

(3/1152)


والشرع، وقيل: هو النصفة والنفقة والإِجمال في القول.
وفي قوله: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا) الآية.
أي ربّ شيء تكرهه، ويكون في ذلك خير، تنبيهًا على أمرين:
أحدهما: أن لا يجب للإِنسان أن يتبع الهوى، بل يفعل ما يقتضيه
العقل والشرع.
والثاني: التنبيه على كراهية الطلاق المدلول عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق ".
ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -:
"تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات ".
وقال بعضهم: ذلك تنبيه أنه ربما كانت الكراهية

(3/1153)


وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)

تعرُض لمصلحة، قال: وذلك حث على مفارقتها حيث عدم
موافقتها، وإن كانت النفس تكره ذلك، وعلى هذا نبّه بقوله
تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ).

قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
البهتان: الكذب الذي يبهت سامعه لفظاعته.
ويُستعمل في الفعل استعمال الصدق والكذب.
ولذلك قال ابن عباس: بهتانا: ظلما كبيرًا.
(وَإِثْمًا مُبِينًا): ذنباً ظاهرًا، بيّن أنه لا يجوز لكم

(3/1154)


الرجوع فيما أعطيتموهن طلقتموهن أو أمسكتموهن، وخصَّ
حال الاستبدال ليدخل فيه الحالة الأخرى، وذلك توكيد لقوله:
(وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) وقد استثنى من ذلك المطلقات قبل الدخول
بهن، لقوله: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) واستثنى منه أيضًا حال الافتداء المذكور في قوله: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) الآية منسوخة بقوله: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا)، والصحيح أنها ليست منسوخة، وقد تقدم ذلك في سورة البقرة،

(3/1155)


وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)

وروي أن رجلًا كان عليه لامرأته من صداقها ألف دينار، فوضعتها له.
فطلقها وتزوج غيرها، فارتفعا إلى عبد الملك فقال: رد عليها.
فقال:
أليس الله يقول: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ).
فقال: اقرأ الآية الأخرى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ) الآية.

قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
يقال: أفضى إلى فلان أي وصل إلى فضاء منه أي سعة غير محظورة.
فمن الفقهاء من جعل ذلك عبارة عن الخلوة حصل معها المسيس أو بم يحصل، ومنهم من جَعَلَهُ

(3/1156)


كناية عن المسيس، وإليه ذهب ابن عباس ومجاهد والسدي.
ونبه أن المهر بإزاء ذلك المعنى، وقد نلتموه منهن فلا حق لكم إذًا
عليهن، والميثاق الغليظ: قيل هو ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: "أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".
وقال مجاهد: الميثاق كلمة النكاح.
وقال الحسن: هو قول: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)

(3/1157)


وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

وقيل: قول الذين يزفونها، وكل ذلك يصح إرادته بالميثاق.

قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
اختلفوا في النكاح ههنا، فحمله أصحاب أبي حنيفة على الجماع.
وقال: هو حقيقة فيه، فَحَرَّموا كل امرأة باضعها الأب حلالا أو
حراما على الابن.
وحمله الشافعي على العقد، وقال: هو حقيقة فيه.
ولم يحرم من النساء على الابن إلا ما تزوج بها أبوه دون

(3/1158)


من زنى بها، والصحيح أنه للعقد، لأن أسماء الجماع والفرج
والغائط في لسانهم كنايات، وذلك أنهم لما عنوا بإخفاء هذه
الأشياء أخفوا أيضاً أسماءها، فعدلوا عن التصريح إلى الكنايات.
حتى إنهم متى عُرف فيما بينهم كناية في شيء من ذلك عدلوا إلى
كناية أخرى، ومن تتبع كلامهم عرف ما قلته، فكيف يستعيرون
لفظ الجماع لما هو أحسن عندهم منه، ثم لا خلاف أن العقدية
مراد، ولا خلاف أيضا أن الوطء بملك اليمين يجري مجرى العقد
في العقد بها، وقوله: (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) قيل: هو في موضع
المفعول، فوضع ما الذي هو للجنس موضع من الذي هو

(3/1159)


للنوع، وقيل: معناه لا تنكحوا كنكاح آبائكم، فما في موضع
المصدر، وقوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
قال: بعضهم: معناه بعدما قد سلف كقولك: لا تبع من متاعي إلا ما قد بعت.
وقول الشاعر:
هجاؤك إلا أنّ ما كان قد مضى. . . عليَّ كأثوابِ الحَرَامِ المُهيْمِ
وقيل: هو بمعنى لكن على الاستئناف، كأنه قيل: لكن ما قد

(3/1160)


سلف أنه كان فاحشة ومقتا.
وقال بعضهم: تقديره ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم، إنه كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلًا، إلا مَا قَد سَلَفَ أي ما قد سلف ليس بفاحشة، وهذا لا يصح من أجل اللفظ، فإن ما يتصل بما بعد (أن) لا يقدم عليه، لا تقول:
عمرًا إن زيدًا يضرب، وتعنى أن زيدا يضرب عمرًا.
وتحقيق هذا الاستثناء أن قوله: (وَلَا تنكحُوا) دل على أنه محرم، وتعاطي
المحرم يقتضي العقوبة، فكأنه قيل: تستحقون العقوبة بنكاح ما
نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، فإن، ذلك متجافى عن عقوبته عنكم.
ولا يجوز أن يكون معناه متجافى عن الإِقرار عليه، فإنه مجمع
أن لا يُقَارّ عليه أحد إلا حكاية عمن لا يعتد به.

(3/1161)


وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً)، قيل: معناه نكاحهن بعد النهي فاحشة.
وكان زائدة، وقيل: عنى أنه كان فاحشة.
من قبل تنبيهًا أن ذلك لم يكن من الأشياء التي ورد بها الشرع.
ثم نسخ، كذا كثير من الأحكام، بل كان ذلك من المستشنع
الممقوت، ولذلك كان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه المقتي.
وقوله: (إِنَّهُ) أي إن ذلك النكاح، ودل عليه بذكر الفعل،

(3/1162)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

كما دل على السفه بلفظ السفيه في قول الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
قال ابن عباس: حرم الله أربع عشرة امرأة:
سبعًا من جهة النسب، وسبعًا من جهة السبب،

(3/1163)


فالمحرمات من جهة النسب: الأمهات والبنات والأخوات
والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، ومن جهة
النسبب: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة.
وأمهات نسائكم، وربائبكم اللاتي في حجوركم، وحلائل
، أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الأختين، وقد
قال قبل: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ).
فقوله: (أُمَّهَاتُكُمْ) تناولهن والجدات وإن علون، وكذا البنات:
تناولهن وبنات الأولاد وإن سفلن، وكذلك الأخوات يتناول
التي للأب والتي للأم والتي لهما، وكذلك بنات الأخ وبنات
الأخت: يتناول بناتهما على ذلك الحد بناتهما وإن سفلن، وخص
تحريم العمات والخالات دون أولادهن، وجاز أن تكون بنات
الأخ وبنات الأخت مفردين، لأن الأخ والأخت يتناول كل واحد
منهما، وكان لفظ الواحد ههنا أخص لإِضافة الجمع إليهما،

(3/1164)


وإنما قال: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) تنبيهاً على تأكيد
تحريم الرضاع أنها تجري مجرى النسب، ولأن في ذكر
(وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي) تنبيهًا أن ليس كل رضاع يحرم، إشارة
إلى ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تحرم الإِملاجة والإِملاجتان "

(3/1165)


وقوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) لا خلاف أنه صفة
لربائبكم، وأنه لا يحرم التزوج بهن إلا بالدخول بأمهاتهن.
واختلف هل يرجع إلى قوله: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) مع كونه
شرطاً في الربائب؟، فروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام
أنه يرجع إليهما، وأن من طلق امرأته قبل الدخول بها فله أن
يتزوج بأمها، وقال عمر وابنه وابن مسعود: ليس يرجع إلا إلى
الربائب، وذكروا أن أم المرأة تحرم بنفس العقد، وأكد ذلك

(3/1166)


بما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال:
"أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها".
وحكي عن زيد أنه فصل بين أن يطلقها قبل الدخول أو تموت عنه.
ولم يحرم بالطلاق وحرم بالموت.
وأجرى الموت مجرى الدخول، كما جعل الفقهاء في استقرار المهر،

(3/1167)


وذهب عامة الفقهاء إلى أن لا فرق بين تحريم ربيبتك في حجرك
كانت أو لم تكن إلا ما حكى إسماعيل بن إسحاق: أن
امرأتي توفيت فلقيت عليّا عليه السلام فقال: ألها بنت؟ فقلت:
نعم، وهي بالطائف، فقال: أكانت في حجرك؟ فقلت: لا.
فقال: انكحها، فقلت: فأين قوله: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)
فقال: إنما ذلك إذا كان في حجرك، وما قاله

(3/1168)


فهو ظاهر الآية.
واختلف في قوله: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) هل يقتضي الزنا؟
فمنهم من قال: يتناوله وعليه تأول (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) ومن قال: لا يتناوله، وقد تقدم ذلك.
وقوله: (وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) إنما خص ذلك
ليخرج منه المتبنى، فذلك في معنى قوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) الآية.
والحلائل ههنا كالأزواج، ثّمَّ.
وفي قوله: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)
تنبيه أنه لا يصح العقد عليهما معًا في الإِسلام.
ومتى فعل فعقدهما باطل، ومتى عقد على إحداهما فعقد الثانية باطل،

(3/1169)


وعند أبي حنيفة: لا يجوز التزويج بإحدى الأختين إذا كانت الأخرى منه في عدة، ولا يجوز وطؤهما بملك اليمين عند عامة الفقهاء، ومتى وطئت
إحداهما لا يجوز وطء الأخرى إلا بإخراج الأولى من ملكه.
وقال أمير المؤمنين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أي عموم

(3/1170)


وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) يقتضي تحليلهما، وعموم قوله:
(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) يقتضي تحريمهما.
قال: وأما أنا فأحرم ذلك، وروي عن ابن عباس أنه أجاز ذلك.
وقوله: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَف) يراد به ما يراد بقوله (مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).

قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

(3/1171)


أصل الإِحصان والحُصن من الحِصن، ومنه درع حصينه
لكونه حصنًا للبدن، وكذلك فرس حصان، وبهذا النظم قال
الشاعر:
. . . أن الحصون الخيل لا مدر القرى
والحصان في الجملة المحصنة أي الممنوعة، إما بعفتها أو
بزوجها أو بمانع من شرفها أو حريتها، ولما كان الحِصْن في

(3/1172)


أكثر المواضع يصح أن يكون من جهة الإِنسان نفسه، وأن يكون
من جهة غيره صح أن يقال محصَن ومحصِن، وهذا الموضع لما كان
المقصود به التزويج قُرئ (المحصَنات) لا غير، إذ كان سبب
إحصانها الزوج، والسفاح الزنا، وسمي بذلك لكون ذلك الماء
مضيعًا، إذ وضع في غير الموضع الذي يجب أن يوضع فيه.
وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) منهم من أجرى على العموم.
وقال: حدوث الملك في الأمة يفرِّق بين الأمة وزوجها.
ورُوِي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، ورُوِي في ذلك أن

(3/1173)


النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بيع الأمة طلاقها".
ومنهم من خص ذلك في المشركات.
وجعل قوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) استثناء منها.
وقال: كل امرأة سُبِيت فقد حلَّت لسابيها، واستدلَّ في
ذلك بما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعث جيشًا إلى أوطاس فأصابوا سبايا لها أزواج من المشركين، فتحرّجوا من

(3/1174)


غشيانهن، فأنزل الله (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
وظاهر ذلك يقتضي أن الزوجين إذا سبيا معاً أو مفترقين
أن النكاح يبطل، كما قال مالك.
بخلاف ما قال أبو حنيفة حيث قال:
إذا سُبِيَا معًا لا يبطل النكاح.
وظاهر الآية يقتضي أنه يصح وَطْؤُها على كلِّ حال.
وإنما علم وجوب استبرائها بالسنة.
وقال طاوس:

(3/1175)


وابن المسيب: القصد بالآية نهي عن الزنا.
والمحصنات محرّمة على كل واحد منكم إلا امرأته المعقود عليها
بالنكاح أو ملك اليمين، فهذا معنى (إلا ما ملكت أيمانكم).
ويكون هذا أمرًا إنما مدح به في قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ).
وقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)
قيل: هو مصدر مؤكد من غير لفظ الأول.
وقيل: هو إغراء وحثٌّ والعامل فيه فعل مضمر.
وقال الكوفيون: هو إغراء

(3/1176)


والعامل فيه عليكم، كأنه قيل: عليكم كتاب الله، وعلى ذلك
حملوا قوله:
يا أيها الماتح دلوي دونكا. . . إني رأيت الناس يحمدونكا
وقوله: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)
قال السدي: ما وراء المذكورات،

(3/1177)


وقال عطاء: ما وراء ذات المحارم، قيل: والصحيح أن المراد
ما وراء كل ما حرّم الله كتاباً وسنة.
واختُلف هل في قوله: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) نسخ؟
فقال بعضهم: نسخ منه بعضه بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا الصغرى على
الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى".
وقال بعضهم: لا نسخ

(3/1178)


فيه، وإنما ذلك تخصيص للآية، وقيل: ولأنه لما حرم الجمع
بين الأختين للنسب الذي بينهما نبّه على تحريم ذلك، لأن إحداهما
لو كانت ذكرًا لم تحل له الأخرى من قبل النسب.
ولا ينتقض ذلك بأن يجمع الرجل بين المرأة وبين ابنة زوجها الأول، وإن كانت إحداهما لو كانت ذكرًا لم تحل له الأخرى، لأن ذلك التحريم ليس من جهة النسب.
وقوله: (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ) يقتضي أن لابد من المهر
سُمِّي أو لم يسم في العقد.
واستدلّ أصحاب أبي حنيفة في أن لا يصح أن يجعل مهرًا
إلا ما وقع عليه اسم المال، وعلى ذلك

(3/1179)


قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).
وقوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ)
كناية عن الدخول، وأصله الانتفاع به.
وقوله: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي مهورهن.
ورُوي عن ابن عباس أنه حمل ذلك على متعة النساء.
ورُوي عنه أنه قال: نزل "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"،

(3/1180)


وقال قتادة: كذلك هو في قراءة أبيّ.
وحمل ذلك عامة الصحابة على النكاح.
وقد ورد في تحريم المتعة أخبار كثيرة، ذكرها الفقهاء في كتبهم.
ونبّه بقوله: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ)

(3/1181)


وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

أن لا جناح في وضعه بعد التسمية وإعطائه إياها والزيادة فيه.

قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
الطول: سعة في العطية، وهو أخصُّ من النيل.
فإن النيل يقال في القليل والكثير.
والطَول لا يقال إلا فيما يزيد على غيره كالطول في أنه يقال اعتبارًا بغيره.
وقال ابن عباس وعامة الصحابة: هو

(3/1182)


الغنى، وذلك أن يجد من المال ما يجعله صداق حرة.
وإليه ذهب الثوري، والشافعي.
وقوّى ذلك بما رواه جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من وجد ما يتزوج به حرّة فلا ينكح أمة".
ومال أبو حنيفة: هو أن يكون تحته حرة.
وقال بعض الصحابة: هو أن يجد في قلبه غنى عنها بأن لا يهواها.
وحُكي عن مالك:

(3/1183)


لا بأس أن يتزوج الحُرَّةَ على الأمة، والأمة على الحُرَّةِ.
وأصل العنت: الشِّدَّة نحو العَنَد، لكن العِناتَ أبلغُ من العِنَادِ.
لأنه هو المؤدي إلى الهلاك.
وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) ومنه قيل: أَكَمَةُ عَنُوتٌ.
وقد فسر بالزنا تفسير عموم بخصوص

(3/1184)


إذ هو المقصود منه، وهو المؤدي إلى هلاك الآخرة.
ولما بيّن الله تعالى المحرَّمات، وأحل ما وراء ذلك
بشروط ذكرها عقب ذلك بمن لا يستطيع مهر الحرائر ونفقتهن.
فأباح لهم تزوج الأمة، إذ هي أخف مهرًا ونفقة.
وشرط في جواز التزوُّج بها شرطين:
عدم الطَوْل، وخوف العنت.
وفصل بين بعض هذا الحكم وبعضه بفصلين:
أحدهما: قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ).
والثاني: حكم الأمة كيف ينبغي أن تكون صفتها حتى يجوز التزوج بها؟
ومثل هذا الاعتراض يسمى في البلاغة الالتفات.
وقوله: (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) فمنهم من جعل الإِيمان شرطًا.
وقال: يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة، وإن وجد طول الذمية الحرة.
وقوي بقوله: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ).
ومنهم من قال: ذكر المؤمنات على طريق الفضل،

(3/1185)


ولا يجوز التزوج بالأمة مع طول الذمية، قال: لأن العلة التي
لأجلها منع من التزوج بالأمة تعرض الولد للاسترقاق، وذلك
معدوم في الكتابيات الحرائر، فيجب أن يكون التزوج بها أولى
من الأمة.
وقوله: (فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
قال الأصم: أجمعوا أنه أريد به التزوج، وشرط الإِيمان في الأمة.
وقال الحسن ومجاهد والثوري وأبو حنيفة: هو على الاستحباب، فأجازوا
التزوج بالأمة الكتابية.
وقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية المؤمنة.
لأن ما أبيح بشرط فلا يجوز ذلك على غير ذلك الشرط، سيما إذا كان الشرط بيانا لحكم.
وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ) تنبيه على أن الاعتبار بالمواصلات
في الأحكام الدنيوية بظاهر الإِيمان لا بحقائقه، فإن الله يتولى السرائر،

(3/1186)


وقوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) تنبيه على أمور منها:
معنى ما قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)
ومنها ما دلَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"مولى القوم ".
ومنها أنهم كانوا يعيرّون بالهجنة، فأراد أن يزيل هذا الاعتقاد عنهم،

(3/1187)


وقوله: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)، أي أربابهن، وذلك يقتضي
أن لا يصح تزوج الأمة إلا بإذن أهلها، ويقوي ذلك قوله
- صلى الله عليه وسلم -:
"إذا تزوج العبد بغير إذن، سيده فهو عاهر".
وقال عطاء: إذنه على الاستحباب لا على الوجوب.
وقوله تعالى: (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)
قيل: تقديره بإذن أهلهن، لكن حذف، كقوله (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)

(3/1188)


وقال بعضهم: أجورهن: نفقاتهن والأول هو الوجه، لأن
النفقة تتعلّق بالتمكين لا بالعقد.
وقال مالك: تستحق الأمة المهر.
واستدل بهذه الآية على أن الرقيق يملك.
وقوله: (بِالْمَعْرُوفِ) هو أي على ما عرف من حكم الشرع.
وقيل: على سبيل الهبة، فإن المعروف يعبَّر به عن العطية.
وذلك كقوله (نِحْلَةً).
وقوله: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ) أمر بأن يكون
وطؤها لازمًا، ولا على سبيل المخادنة، واشتر اط الأمرين أن
قومًا كانوا يبيحون اتخاذ الجارية خدنًا،

(3/1189)


وقرأ الحسن: "مُحْصِنَاتٍ"، وقال: معناها عفائف.
ولم يُجوِّز نكاح الأمة الزانية التي أُقيم عليها الحد.
وقوله: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) أي زوّجن.
وقُرئ: "أَحصَن"، أي تزوَّجن، وقيل: أسلمن.
والأول أصح، وعلى التفسير الثاني

(3/1190)


يقتضي أن الأمة إذا زنت - وإن لم تكن مزوّجة - تحدُّ
بحكم الآية، وأن الكتابية لا تحد وإن كانت مزوّجة.
وقوله: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ)
قد تقدّم أنه يتعلق بما قبله.
وقوله: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)
إبانة أن الاختيار ترك نكاح الأمة رأسًا.
لئلا يكون ولده رقيقا لغيره.
وبين بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

وأحكام القرآن لابن العربي (1 4 5 4)، والمحرر الوجيؤ (4 86).
والجامع لأحكام القرآن (5 143).
أي أسلمن وهو قول ابن مسعود والشعبي والزهري والسدي والجمهور
كما ذكر ابن عطية. انظر: جامع البيان (8 99 ا - ا 20)، وأحكام
القرآن للجصاص (2 68 1)، والنكت والعيون (1 473)، وأحكام
القرآن لابن العربي (1 4 0 4)، والمحرر الوجيؤ (4 86)، والجامع
لأحكام القرآن (5 143).
انظر: أحكام القرآن للجصاص (2 168، 69 1)، وأحكام القرآن
لابن العربي (1 405، 505)، والمحرر الوجيؤ (4 86)، والجامع
لأحكام القرآن (5 43 1، 44 1)، وتفسير غر ائب القرآن (2 397).
انظر: اْقوال العلماء في تفسير العنت في: معاني القرآن للزجاج (2 42).
وأحكام القرآن لابن العربي (1 407).
انظر: جامع البيان (8 207، 208)، ومعاني القرآن للزجاج (2 42).
وأحكام القرآن للجصاص (2 175)، وأحكام القرآن لابن العربي
(1 7 5 4)، ومعالم التنزيل (2 98 1)، والمحرر الوجيؤ (4 88!.
والجامع لأحكام القرآن (5 147).
1191

(3/1191)


يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

أن هذا وإن كان مكروها فقد غفر لكم، ورحمكم في إباحته.
فالأول هو تبين العادة، والثاني وهو قوله: (تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)
حث على مكرمة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"إياكم وخضراء الدمن ".
وكثيرًا ما يجمع تعالى بين الحكم المراد وبين الفضل ليكون قد
أدّب عباده بالأمر.

قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
السنن: جمع السنة أي الطريقة المستقيمة.
وأصلها من سن الماء، وعنه استُعير من سن السيف
لما كان يشبه عند صقله بالماء.
واستُعير منه سن الفرس، كما يقال: صقل الفرس.
واللام في قوله: (لِيُبَيِّنَ)

(3/1192)


فيه قولان؟ قال الفرَّاء: أردت أن يكون كذا
وأردت ليكون، (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ).
وأمرت أن أعدل.
قال: ويُعَدَّى هذان الفعلان باللام تارة.
لكونهما طالبين للفعل المستقبل.
وقال بعضهم: بل الفعل محذوف، واللام للعلة على تقدير:
يريد الله ما يريد لأن يبين.
وقوله: (سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
منهم من خص وقال: أراد أن يحرم علينا ما حرم عليهن
بالنسب والرضاع والمصاهرة.
وقيل: عنى ول ما ذكره في قوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)

(3/1193)


وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)

ومنهم من أخذه أعم من ذلك، فقال: إن الله تعالى شرع لكل
أمة عبادة ومكارم، ولم يختلف حكم أصولها، وإن اختلفت
فروعها، وعلى ذلك قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
فبين أنه يريد أن تكون هذه الأمة جارية مجرى هؤلاء في ذلك.
وقيل: عنى أنه يبين لكم طريق من قبلكم إلى الجنة.
وهو المسئول في قوله تعالى: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
وبين أنه أراد به ذلك لعلمه وحكمته.

قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
الميل وإن كان عامًا في الميل إلى الخير والشر.
فالمقصود به ههنا الجور عن قصد السبيل.
ولما كان جميع عبادة الله بالقول المجمل ضربين،

(3/1194)


صقل العقل، وقمع الشهوة، وكلُّ أمر ونهي فذريعة إليهما.
صار اتباع الشهوة سبب كل مذمة، فلذلك عبر بمتبع الشهوات عن
الفاسق والكافر، وعلى هذا قوله: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ).
فإن قيل: فليس اتباع الشهوات مذمومًا في كل حال.
بل منها ما هو محمود؟
قيل: قد قال بعض المتكلمين وبعض المفسرين:
عنى بذلك بعض الشهوات.
وقال بعضهم: عنى من يتبع الشهوات كلها.
والصحيح أن اتباع الشهوة في

(3/1195)


كل حال مذموم، لأن ذلك هو الائتمار لها من حيث ما دعت.
وما سوّغ من تعاطي ذلك، فليس جواز تعاطيه من حيث دعت
الشهوة إليه، بل من حيث سوغ العقل أو الشرع، فذلك هو
اتباع لهما، ويؤكد ذلك قوله: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
وقوله: (وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)
وقيل: عبد الشهوة أذلُّ من عبد الرق.
إن قيل: كيف أدخل اللام في قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)
ولم يدخله في قوله: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)؟
وكيف أعاد ذكر إرادته التوبة؟ ولمَ قال: (وَاللَّهُ يُرِيدُ)
فقدم ذكر المخبر عنه، ثم قال: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ)
فأخر المخبر عنه؟
قيل: أما إدخال اللام في الأول فلأنه عنى أنه يريد ما يريد
لأجل التوبة عليهم، وأراد بقوله (أن يتوب) أنه كما أراد ما هو
سبب التوبة عليهم، فقد أراد التوبة عليهم، إذ قد يصح إرادة
سبب الفعل دون الفعل نفسه، ففي هذا ظهور فائدة اللام وحسن

(3/1196)


إعادته، واقتضى إعادته أيضا ذكر قوله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ)
ليبين أن إرادة الله لكم مضادة لما يريدونه.
وأما تأخير المخبر عنه في قوله: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ) فيجوز أنه
جعل الواو للحال لا العطف، تنبيهاً أنه يريد التوبة عليكم
في حال ما يريدون أن تميلوا، فخالف بين الإِخبارين ليبين أن
الثاني ليس على العطف.
وتخصيص الميل العظيم هو أن الإِنسان قد يترك تحري الخيرات
من الإِيمان والأعمال الصالحة، إما لعارض شغل وإما لكسل.
وإما لضلالة، وهو أن يسبق إلى اعتقاد باطل فينشأ عليه.
وإما لفسق وهو أن يكون مع الاعتقاد يستلذ تعاطي الشر.
ومن تركه للشغل فهو أسهل معالجة ممن يتركه لكسل.
ومن تركه للكسل

(3/1197)


يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

فهو أسهل ممن تركه للضلال، وكذا ما بعده، وكأنه قال:
إنهم أرادوا أن يجوروا جورًا عظيمًا، ليكونوا أبعد من الرشاد.
والإِشارة بالمعنى إلى نحو قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)، وعلى ذلك قوله: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)
فإن قيل: فهلا خصَّ الميل ليزيل الإِشكال، إذ الميل تارة إلى الحق
وتارة إلى الباطل؟
قيل: لما كانت العدالة وسطا وكان أطرافها كلها جوزا.
ولذلك سميت وسطا، وسواء، وعدلاً، وصراطًا مستقيمًا.
نبّه بإطلاق لفظ الميل: أن الكفار يريدون منكم الميل
عن العدالة على أي وجه كان، إفراطا كان أو تفريطًا.
وكل ذلك ضلال، ولهذا وصَّى الله تعالى بقوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ).

قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

(3/1198)


قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ) في موضع الحال، كأنه قال:
والله يريد أن يتوب عليكم، مريدًا أن يخفف عنكم.
وفي الآية أقوال: الأول: قول من خصصها وحملها على ما تقدم.
وقال: عنى أنه أباح نكاح الأمة تخفيفا عنكم.
فالإِنسان ضعيف في تَحَيُّرهِ عن "إمساك نفسه عن مشتهاه.
الثاني: أنه خفف عنكم تكلف النظر، وأزال الحيرة فيما بين لكم
مما يجوز من النكاح.
الثالث: أنه قصد به ما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"جئتكم بالحنيفية السمحة".
وما ذكره في قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ).
والرابع: أنه تبين لكم مقصودكم وما دعيتم

(3/1199)


إليه من الثواب العظيم لتعرفوه، فيخف عليكم الصبر في تحريه.
فالإِنسان لا يمكنه الصبر فيما لا يعرف ثمرة الصبر فيه، ولهذا
قال: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا).
الخامس: يريد الله أن يخفف عنكم بما يحُمّلكم من التعب.
فإن كل تعب يفضي إلى راحة عظيمة، فذلك في الحقيقة راحة.
ولهذا قيل للرجل يتحمل تعبًا عظيمًا في عبادة: ألا تريح نفسك؟
فقال: راحتها أريد.
السادس: إنه لم يعن بالتخفيف ما يستخفه الطبع وتميل إليه
النفس، وإنما عنى ما يخف به تحمل ما يبلغنا إلى ثوابه، وعلى نحو
هذه الآية قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)
وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
ووصف الإِنسان بأنه خلق ضعيفًا إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو:

(3/1200)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) أو باعتباره بنفسه دون ما يقويه من
فيض الله ومعونته، أو اعتبارًا بكثرة حاجاته، وافتقار بعضهم إلى
بعض، أو اعتبارًا بمبدئه ومنتهاه، كما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)
فأما إذا اعتُبر بعقله، وما أعطاه الله من القوة التي يتمكّن بها
من خلافة الله في أرضه، ويتبلّغ بها في الآخرة إلى
جواره تعالى - فهو أقوى ما في هذا العالم.
ولهذا قال تعالى: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
روي أنه لما نزلت هذه الآية امتنع بعضهم من أن يأكل عند غيره.
حتى نزل قوله:

(3/1201)


(وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى آخر الآية.
ولم يكن نسخًا لكن تبيينا.
وقوله: (بِالْبَاطِلِ) إشارة إلى الوجوه التي حظر تناول المال منها ووضعه فيها، واستثنى التجارة تنبيهًا على إباحة الكسب إذا كان من وجهه.
فمن نظر نظرًا فقهيًّا قال: ظاهرها يقتضي أن لا يجوز تناول الغير منها، كالصلاة والزكاة والميراث وغير ذلك.
وقال بعضهمْ: لم يعن بالتجارة المبايعة فقط.
بل عنى كل معاملة مباحة من قرض وفرض، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"لا يحل مال امرى مسلم إلا بطيب نفس منه "،

(3/1202)


ومنهم من عنى بذلك المنع من وضع المال وإنفاقه في غير الوجه المباح.
وقال: عنى بالتجارة الوجهة المباحة التي يحلُّ صرف المال إليها.
وأما من نظر نظرًا أدق من ذلك، فإنه جعل أكل المال بالباطل تناوله
من حيث لا يسوغه العقل، ولا يجوّزه الشرع، من استنزال الناس
عما في أيديهم بالخدع، ومساعدتهم على الباطل طمعًا في نفع.
وجعل من ذلك أيضاً وضعه حيث لا يجوز، وإنفاقه رياء كما قال
تعالى: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ)، وجعل هذه التجارة هي التجارة المذكورة بقوله تعالى:
(هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الآية.
وفي قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)
الآية.

(3/1203)


وشرط فيها التراضي، تنبيهًا أنه يحمد ذلك متى أنفق
الإِنسان في سبيل الله عن طيب نفس على الوجه الذي ينبغي وبمقدار
ما ينبغي، حسب ما بيّنه الله تعالى، ودل على رضاه في صرفه إليه.
وقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) نظر إليه نظرات مختلفة.
ففسر بحسبها، الأول: لا يقتل بعضكم بعضًا.
قال: والنهي لا يصح إلا على هذا.
فإن الإِنسان مضطر إلى أن لا يقتل نفسه ما لم تعرض له شبهة
كشبهة أهل الهند في قتلهم أنفسهم.
قال: واستعار لفظ الخطاب في قوله (أَنْفُسَكُمْ) تنبيهًا أنه يجب أن
تكون نفس كل واحد منكم عند صاحبه كنفسه، قال: وعلى

(3/1204)


ذلك نبّه بقوله: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ).
قال: وعلى هذا قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ).
الثاني: من حمل الخطاب على ذلك لكن خصّص، وقال: لا يأكل
بعضكم مال بعض، الذي به قوامه، فيكون فيه قتله.
الثالث: لا يقتل بعضكم بعضا فيقتص منه فيكون كمن قتل نفسه.
الرابع: لا تقتلوا أنفسكم بضجر وغضب.
الخامس: لا تركبوا ما يؤدي بكم إلى القتل.
فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
وهذا كالرابع إلا أن مأخذه أعم منه.
السادس: قول من نظر نظرًا أشرف فقال:
لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى هلاك الأبد، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
وذلك بتصريف النفس في غير ما خُلِقَتْ له، وبيَّن للناس من

(3/1205)


وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)

العلم والعمل الصالح المدلول عليه بقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
ولذلك سمى من صرف نفسه في غير ذلك خاسرًا.
حيث قال: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية.
قال: وقتل النفس في الحقيقة ترفيهها في الدنيا.
وباعتبار الدنيا والآخرة أُمِر الإِنسان تارة بقتل نفسه أي
قمعها وتذليلها، ونهي تارة عن قتلها، ومثل هذه الآية قوله
تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ)
ويجري مجراها في احتمال النظرين قوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
العدوان تجاوز العدالة بإفراط، وذلك أن العدل هو الوسط الذي تجاوزه الإِفراط والقصور عنه جميعا، فمن حاد عنه قيل: جار، ومن بالغ في

(3/1206)


الجور قيل: طغى، ومن تخطاه بإفراط قيل: تعدى، وقيل لجميع
ذلك: الظلم، فالظلم أعم الأسماء.
إن قيل: كيف جمع بين الظلم والعدوان، وقدم العدوان مع كونه أخصَّ من الظلم، وحكم العام والخاص إذا اجتمعا أن يقدم العام على الخاص.
نحو قوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)؟
قيل: في ذلك جوابان:
الأول: أن يكون العدوان إشارة إلى الظلم الذي يتجاوزه الإِنسان إلى غيره، وعنى بالظلم ظلم النفس المعني في قوله: (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)
وهو الإِثم المذكور في قوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)
فبيّن أن من جمع بين الأمرين فقد ظلم نفسه، وظلم غيره، فهو مستوجب للنار، على هذا يكون العني بالظلم غير المعني بالعدوان.
الثاني: أنه قدم العدوان الذي هو أخص من الظلم تنبيهًا أن من ارتكب صغيرة ولم يقمع نفسه عنها جرَّته إلى ما هو أعظم منها، فنبه أن حق

(3/1207)


إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

الإِنسان أن يحفظ نفسه عن الصغيرة خشية أن يقع فيما هو أعظم
منها، ومعنى الآية أن من يفعل ما نهُي عنه من قتل النفس وأكل
المال بالباطل وسائر ما تقدم النهي عنه فسوف يجعله صلا كما
قال: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).
ونبّه بقوله (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)
أنه لا يتعذر عليه عقابهم.

قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
من المفسرين - وهو أكثرهم - من حمل السيئات على الصغائر.
وقال: معنى الآية: إن تجتنبوا كبائر الذنوب نُكفّر عنكم صغائرها.
ثم اختلفوا على أي وجه اعتبار الصغيرة والكبيرة.
وذاك أن الصغير والكبير من الأسماء المتضايفة التي
لا يعرف أحدهما إلا باعتبار الآخر،

(3/1208)


وقال بعضهم: في الذنوب كبيرة لا أكبر منها كالشرك، وصغيرة
لا أصغر منها كحديث النفس أو همّه بسيئة ونحو ذلك.
وبينهما وسائط كل واحد بالإِضافة إلى ما فوقه صغير، وبالإِضافة إلى
ما دونه كبير، وقال: ومعنى الآية أن من عنَّ له أمران فيهما
مأثم، واضطر إلى ارتكاب أحدهما فارتكب أصغرهما وترك أكبرهما:
كمن أكره على أنْ يقتل مسلمًا، أو يشرب قدح خمر فارتكب
أصغرهما كُفِّر عنه ما ارتكبه.
وقال بعضهم: الذنوب كلها ضربان:
ضرب: كبيرة كالشرك، وقتل النفس بغير حق، والزنا.
وضرب: صغيرة، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال: الصغيرة
غير معلومة، وهي كل ما عُلِّق به وعيد في

(3/1209)


الآخرة، أو جُعِل له عقوبة في الدنيا، وبعضها غير معلوم.
قالوا: والصغائر كلها يجب أن تكون غير معلومة، وإلا كان
إغراءً بالمعصية، وذلك أن الله تعالى وعد أن يغفر بتجنُّب الكبائرِ
الصغائرَ، فلو بيّنا جميعًا لكان المكلَّف لا يبالي بارتكاب الصغائر
مع تجنب الكبائر، فكان يؤدي ذلك إلى مفسدة، ومنهم من
قال: يجب أن يكونا معلومين، وإلا لم يصح أن تكون الكبيرة
معلومة من حيث ما هي كبيرة لما تقدم أن ذلك من الأسماء
المتضايفة، التي لا يُعرف أحدهما إلا بالآخر، قال: فالكبائر هي

(3/1210)


محارم الله التي علم كونها محجورة، والصغائر ما هو متشكك فيه
المعني بقوله: "دع مما يريبك إلى ما لا يريبك ".
وعليه) دل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك أمور مشتبهات.
وسأضرب لكم مثلًا: إن الله حمى حمىً، وإن حمى الله محارمه.
ومن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه ".
فمرتكب الكبائر

(3/1211)


جار مجرىً داخل الحمى، ومرتكب الصغائر جار مجرىً حوله.
والإِنسان منهي عن الدنو منه، ومن لا يعرف ذلك فهو مُعَرَّض
الوقوع فيه، ثم كما قد بين تعالى في كتابه أن يغتفر الصغائر بشرط
اجتناب الكبائر، فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الصغيرة إنما تكون صغيرة ما لم يكن عليها إصرار. فقال:
"لا صغيرة مع إصرار".
وقال: "إن المحرمات تجتمع على الرجل فتهلكه".
وإذا كانت الصغيرة منهيّا عنها محذرًا منها فلا ضير بتعريفها.
بل يجب تعريفها، فالإِنسان بتجنُّب الكبيرة يصير مطيعا غير فاسق.
وبتجنُّب الصغيرة وهي المتشكك فيها يصير ورعًا، ولذلك قيل لبعض الصحابة: ما أشد الورع؟
فقال: ما أيسر الورع، إذا شككت في شيء فدعه،

(3/1212)


وقال بعض الصوفية: اعتبار الصغيرة والكبيرة بمرتكب الذنب.
فقد يكون الذنب من زيد صغيرًا ومن عمرو كبيرًا، وذلك بحسب
مراتبهم في المعارف والأحوال، فالأولياء الذين بلغوا المنازل
قد يستعظم منهم ما لا يستعظم ممن لم يترشح لمنزلتهم، وذلك
معروف في السياسة الدنيوية، قال: ولهذا عاتب الله تعالى نبيه
في كثير من خطراته التي قد تجاوز بها عن غيره.
وقال بعض المفسرين: معنى الآية: إن تجتنبوا هذه الكبائر التي
نهيتم عنها في الآيات المتقدمة كفَّرنا عنكم ما قد أسأتم فيه من

(3/1213)


وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

قبل، والمدخل الكريم: ما وعد به من الثواب العظيم، وأشار
به إلى جميع منازله على اختلاف مراتبها، ونبه أن كل مدخل
لا يخرج عن كونه كريمًا أي مكرمًا.

قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
التمني: تشهي الإِنسان أن يُمنى له شيء، أي يُقدر، وذلك مذموم.
فإن تمنيّه إن كان لشيء قَدَرُهُ أن لا يُبلَغ إلا بالطلب
فيجب أن يطلبه لا أن يتشهّاه، وإن كان لشيء يأتيه بغير طلب
فتشهيه محال، وإن كان الشيء لم يُقدَّر ففي تشهيه معارضة حكمة

(3/1214)


الله فيما قدر، ولذلك قيل: من تمنى فقد أساء الظن بالله.
ولكون ذلك غير مغن، قال الشاعر:
. . . إنَّ لَيْتًا وإنَّ لواً عناء
وقال:
. . . وما يغني عن الحدثان ليتُ
وهو مع ذلك ذريعة إلى التحاسد والبخل والظلم.
وقد رُوِيَ في الآية أن أم سلمة قالت: ليتنا كنا رجالاً فنجاهد،

(3/1215)


فأنزل الله تعالى ذلك، وقوله: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ)
قيل: إنها قالت: ليتنا لم يجعل ثوابنا في الآخرة على نصف ثواب الرجل.
كما جعل نصيبنا من الميراث، فأنزل الله تعالى تنبيهًا على أن
لا اعتبار في مجازاة الأعمال بالذكورية والأنوثية.
وقيل: هو تبيين لفضل الرجال كقوله: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
وقيل: هو تبيين أن الحسد لا يُغني، وأن الله لا يغير لحسد حاسد.
وقيل: هو حث على طلب منزلة الحسود بالعمل الصالح دون الحسد والتمني، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"ليس الإِيمان بالتمني ولا بالتحلي "
وقال محمد بن بحر: معناه ليس كل ما للميت واجبًا للورثة.
بل له نصيب يوصي به.
قال: وذلك نحو ما ذكر الله تعالى في قوله:

(3/1216)


وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
وبين بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) أنه أعلم
بما يستحق كل إنسان، كقوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).

قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
المولى من الولاء، وهو تتابع الشيء من غير حائل.
وجعل المولى لمن تولى حفظ الشيء، وتُعورف في المعتِق، والمعتَق.
وابن العم، والحليف، وولي الأمر، والعصبة،

(3/1217)


قال ابن عباس: هم الورثة ههنا، وقال مجاهد وقتادة: العصبة
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"من مات وترك مالًا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلًّا فأنا وليه ".
بيّن أن لكل مال تركه الوالدان والأقربون موالي يرثونه.
وقوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) قيل: عنى به

(3/1218)


عقد الحلف، وكانت العرب تتوارث به، ثم نُسِخَ بقوله:
(وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)
وذلك عن ابن عباس والحسن وسعيد وقتادة.
وقال أصحاب أبي حنيفة: الآية تقتضي أن المعاقدة يُستحقُّ بها الإرث.
قالوا: ويقوِّي ذلك قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ).
فجعلِ ذوي الأرحام أولى من المعاقد، فدل ذلك أن المعاقد فيه حقّا.
قالوا: وروى تميم الداري أنه قال: يا رسول الله:
ما السنّة في الرجل يسلم على يد مسلم؟
فقال: "هو أولى بمحياه ومماته ".

(3/1219)


وقيل: عنى الذين عقدت أيمانهم في الجاهلية، فجعل تعالى
لهم نصيبًا كنصيب الأخ من الأم، وسقط حكمهم بموتهم.
وقيل: جعل لهم النصيب من النصرة دون الإِرث.
وقد روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وعطاء. قالوا:
وحكم الأول قديم بقوله: (وَالْأَقْرَبُونَ).
واستؤنف قوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)
قال ابن الحسن: عنى بالذين عاقدت أيمانكم: الأزواج لقوله تعالى:
(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ)
قال: وصار المذكور في هذه الآية جملة ما فصَّله في آيات المواريث.
فصار هذه الآية كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أعطى كل ذي حق حقَّه "،

(3/1220)


الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

قال: والأيمان جمع اليمين التي هي الجارحة.
وسُمي الحلف بها اعتبارًا بالصفقة في المبالغة.

قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
القنوت: القيام على وجه الطاعة، ويُستعمل في كل واحد منهما.
والنشوز: بغض المرأة للزوج، وأصله من النشز.
فكأنها هي المرتفعة بنفسها أو طرفها عن التزام ما يلزمها للزوج.
وبهذا النظر قال الشاعر:

(3/1221)


إذا جَلسَت عند الإِمام كأنها. . . ترى رفقةً من ساعة تستحيلها
بيّن تعالى أن السياسة للرجل دون المرأة، وأن لكلِّ واحد
من الرجل والمرأة فضيلتين: إحداهما: تسخير من الله تعالى.
والأخرى من كسبه، فإحدى فضيلتي الرجل: ما خصّه به من علوه على
المرأة، والثانية: بإنفاق المال، وإحدى فضيلتي المرأة: قيامها بما يلزمها
من طاعة الأزواج، وحفظ غيبهم، وتحصين ما سلّموه إليهن.
والثانية: إسبال الله ستر رحمته عليها وحفظها بوصية الزوج بها، وتسخيره
للقيام بمراعاتها.
وقرأ أبو جعفر المدني: "بما حفظ اللهَ" بالنصب،

(3/1222)


أي فعل ذلك بهن بحفظهن الله، وجعل بما بمنزلة المصدر.
وقوله: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ) قال بعض أهل اللغة: أي تعلمون.
وأنشد:
فلا تدفنني في الفلاة فإنني. . . أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

(3/1223)


وأرى قائل هذا تصور الظَن بصورة العلم، فأطلق عليه اسمه.
فأكثر الخوف مضمّن بالظن.
وقوله: (فَعِظُوهُنَّ) تنبيه على أنها تُوعظ أولاً، ثم تُهجر، ثم تُضرب.
وهذا مقتضى حكمة السياسة، وعليه بني قول الشاعر:
أناة فإن لم تغن عَقَّبَ بعدها. . . وعيد فإن أتغن أغنت عزائمه
وقوله: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) كالتصريح في الكناية عن الجماع.
وقول من قال: هجر الكلام فليس بشيء،

(3/1224)


وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:
"لا تهجروا النساء إلا في بيوتهن، ولا تهجروهن إلا في المضاجع.
فإن أبين فاضربوهن ضربًا غير مبرح ".
وقوله: (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) تنبيه على أن الذي يلزم هو بذل الطاعة في
الظاهر.
فأما المحبة بالقلب فليس من فعلها فتؤخذ به.
ونبّه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) على أن الله تعالى مع هذه
الحالة يقتصر من عباده في كثير من عبادتهم على الظاهر،

(3/1225)


وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

وقيل: نبه أن لا يظن أحد الزوجين إن كلفه إلا الحق، فإنه يتعالى ويكبر
عن الظلم.

قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
الشقاق: التعادي، ومنه قيل: شقّ فلان العصى، إذا تباعد في الخروج
عن الطاعة، ومنه المشقة، وشقّ على فلان كذا.
والتوفيق كالمساواة، ومنه توفيق الله تعالى، فإنه موافقة قضائه فعل العبد
فيما يقصده، ويقال الاتفاق في كل متطابقين على بعض الوجوه،

(3/1226)


ولما بيّن تعالى من حال نشوزها ما يمكن للزوج إصلاحه، بين
ههنا ما يشتبه الحال فيه، واحتيج إلى ناظر فيما بينهما.
وأكثر العلماء على أن المأمور ببعث الحكمين الإِمام أو صاحبه.
وإليه ذهب مالك، والأصم، وجعلوا للحاكم الطلاق والخلع
كالوكيل، وإليه ذهب ابن عباس.
ومن الفقهاء من لم يجوِّز لهما الخلع والطلاق.
فإن ظاهر الآية لم يقتضهما، ولا فرق

(3/1227)


وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

بين أن يكون الحكمان من أقاربهما، أو من قبلهما.
وقال ابن عباس: إرادتهما الإِصلاح أن يخلو كل واحد
من الحكمين بأحد الزوجين، فيتعرف حاله في السِّرِّ ليبني الأمر عليه.
وفي الآية دلالة على أن كُلّ أمرٍ وقع فيه تنازُع يجوز فيه التحكيم.
وبهذه الآية استدل في أمر الحكمين.
ونبَّه بقوله: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) أن من أصلح نيته في أمر يتحرّاه أصلح الله مبتغاه، كما رُوِيَ في الخبر أن "من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ".
وقيل: إذا فسدت النيّة وقعت البلية.

قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
الجار اعتبارًا بكونه من ناحية دارك، من قولهم: جار
عن الطريق، ثم جُعِلَ أصلًا في بابه، فقيل: استجرت فلانًا

(3/1228)


وآجرته. إذا رعيته مراعاة الجار.
والجنب أصله في الجارحة، ثم قيل في المكان اعتبارًا به.
فقيل: جنبته إذا أخذته في ناحية
الجنب، واجتنب عنه إذا تركه وتباعد عنه.
والأجنبي: الغريب، والجنابة: الاعتزال والتباعُد.
ومنه قيل للحالة المقتضية لترك الصلاة: جنابة.
والجار ذي القربى والجار الجنب: قيل: عنى به قرب الرحم وبعده.
وقيل: عنى به قرب المسافة

(3/1229)


وبعدها، والصاحب بالجنب: قيل: جار البيت، دانيا كان نسبه
أو نائيا.
وقيل: هو الرفيق في السفر، وقيل: هو المنقطع إليك
رجاء خيرك، وقيل: المرأة.
(وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)
قيل: وقد أمر بالإِحسان إليهم، وأن لا يكلَّفوا ما لا يطيقون،

(3/1230)


إن قيل: لم قدم الأمر بالإِيمان على النهي عن الشرك.
ومعلوم أن تجنُّب الشرك مقدَّم على حقيقة الإِتيان با لإِيمان؟
قيل: إن الشرك يقال على ضربين:
أحدهما: الشرك الأكبر، وهو إثبات صانع غير الله.
والثاني: الرياء، وإياه

(3/1231)


عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى شداد بن أوس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أمران أتخوَّفهما على أمتي من بعدي: الشرك، والشهوة الخفية.
ألا إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولكنهم يراءون ".
فقلت: أشرك ذلك؟ قال: " نعم "، وإياه عنى تعالى بقوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) الآية.
إن قيل: لِمَ ذكر ههنا تسعة أصناف وأمر بالتوفُّر عليهم.
وذكر في سورة البقرة: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ)

(3/1232)


وقال بعده: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ)؟
قيل: إن المذكور أولاً في سورة البقرة ما أمر به بني إسرائيل.
وأما قوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) فهو أمر بإيتاء المال الذي
يقتضيه البر، لأنه قال: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، وهذه الآية
حتّ على فعل الإِحسان كلّه، نصرة كان أو صلة.
وقيل: إن قوله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) عنى المال كله على سبيل التبرُّع.
وذلك إذا طلب الإِنسان غاية البر، ولهذا قال الشعبي: ما
بَقَّى قول الله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) على

(3/1233)


أحد شيئا من المال، ولإِرادة إخراج المال كلّه على التبرُّع خصَّ
الزكاة بعده بالذكر، فقال: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ).
وأراد بهذه الآية ما يحصل للإِنسان به تمام العبادة.
وفعل الإِحسان. وذلك لعبادة الله المتعرية عن الرياء، ومراعاة هؤلاء بالإِحسان.
فإن قيل: لم قدم الجار على ابن السبيل وله حق واجب في المال؟
قيل: ابن السبيل الذي له حقٌّ في المال هو الفقير، ولم يقصده بهذه
الآية، وإنما المقصود تفقُّد المذكورين على سبيل التبرُّع، وحقُّ
الجار أوكد من حقِّ الغُرباء. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورثه "؟
إن قيل: كيف قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)؟

(3/1234)