تفسير الراغب الأصفهاني

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

قيل: المختال هو الذي يظن أن له بماله كرمًا، من قولهم: خِلْتُ، وكأنما
إلى معناه أشار تعالى بقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3).
والفخور: من يتبجح بالقُنْيَات الزائلة، فبيَّن تعالى أن من أمسك ماله، وصرفه عن الوجوه المذكورة فذلك لظنه أن له بماله خيلاء وفخرًا فيضنّ به، ويُبيِّن أن هذين سبب البخل ما روي:
"أهلك الناس شيئان: حبّ الفخر، وخوف الفقر ".
ولهذا عقبه بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) الآية.
فجعل تفسير الاحتيال والفخر البخل بالمال، والإِنفاق على وجه الرياء.

قوله تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

(3/1235)


البخل: أعظم المعايب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"أي داء أدوى من البخل؟ "
وأعظم منه حثُّ الغير عليه، وكأن الشاعر بهذه الآية ألمَّ في قوله:
وإن امرأً ضَمنَّت يداه على امرئ. . . بنيل يد من غيره لبخيل
وقالوا: فلان يمنع دَرَّه ودرَّ غيره، والحرُّ يعطي والعبد يألم
قلبه، ولم يرُد تعالى بالبخل البخل بالمال فقط، بل بجميع ما منه
نفع الغير، من نصرة وعلم، ودخل في عموم الأمر بالبخل: من
ترك شكر من أحسن إليه، أو أخل بقضاء دين فيصير سببًا لمنع
الإِسداء إلى الغير، ولهذا قيل: لعن الله قاطعي المعروف.
وقال بعضهم: معناه يبخلون ويتأمرون على الناس، ويأمرونهم

(3/1236)


بشكرهم مع بخلهم، فيكون قوله (بِالْبُخْلِ) في موضع الحال.
وإلى هذا أشار الشاعر بقوله:
جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما. . . تيه الملوك وأفعال المماليك
وقوله: (وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
يدخل فيه من يستحقر ما آتاه الله من نعمته مالاً كان أو عافية، ومن
خُوِّل علمًا ولم يفده مقتبسه منه، ومن ينسى كثير ما أنعم الله
عليه ويتذكر قليل ما يناله من نائبة، كقوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قيل في تفسيره: ينسى النعم وي) كر
المحن، ونبه بقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) أن من

(3/1237)


وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)

فعل ذلك فهوكافر للنعمة، ومن كفر نعمة الله فقد أعدَّ له عذابَا.

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
ذم في هذه الآية السّرف، كما ذمّ في الأولى البخل.
فمن السرف أن يتشبَّع الإِنسان بإنفاقه، فلا ينفقه على ما يجب.
وكما يجب فصار الإتيان كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)
وليس يعني بقوله: (وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) جحود ذلك باللسان فقط، بل عنى معه ترك ما تقتضيه هذه المعرفة، تنبيهَا أن المنفق رياء لو كان له حقيقة إيمان
لتذكر في تناول ما يتناوله، ولأدّاه ذلك إلى أن يتفكّر أين يضعه،

(3/1238)


فإن قيل: فأيّ تعلُق لقوله: (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا)
قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، كأته قيل: الذين ينفقون أموالهم
رياء الناس زين لهم الشيطان الذين هم قرناؤهم (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا) كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)، وعلى ذلك قوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)
ولم يعن بالشيطان إبليس فقط، بل عناه والهوى.
وكل ما دعاه إلى باطل، وصرفه عن حق.
وقوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) في قوله: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ) استدعاء
لطيف إلى تحرّي الإِيمان والإِنفاق على ما يجب، لأن لفظه استخبار
يستدعي جوابًا، ولا يمكن جواب المستخبر عنه المشتبه إلا بعد
التفكُّر فيه، والتفكُّر فيما ذكره تعالى يؤدّي إلى أن ليس على

(3/1239)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)

متحري ذلك ضير، بل له كل خير.
إن قيل: لِمَ قدّم الإِنفاق في الآية الأولى وأخَّره ههنا؟ قيل: لما
قصد في الأولى إلى ذمهم بالإِنفاق رياء لكونهم غير مؤمنين، قدّم
ذكره، وجعل قوله: (وَلَا يُؤمِنُونَ) في مو ضع الحال تنبيهًا أن
ذلك منهم لكونهم غير مؤمنين، ولما حثّهم في هذه الآية على ما يجب
أن يتحروه ابتدأ بذكر الإِيمان، تنبيهًا أن إنفاقهم غير معتد به إلا
بعد الإِيمان بهما.

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
عنى بالظلم

(3/1240)


ههنا بخس الحق ومثقال: مفعال: من الثقل، وضرب تعالى
الذَّرَّ مثلًا للشيء الصغير، تقريبًا على المخاطب.
واستُعمل لفظ المثقال تنبيهًا أن ذلك يعظم جزاؤه وإن صَغُر قدره.
وفي قراءة ابن مسعود: مثقال نملة. وإذا قرئ (حَسَنَةً) بالنصب فتقديره: إن
تكن الذرة حسنة، وردّ الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف.
وإذا رفع فمعناه: إن تقع حسنة، ولا تحتاج كان ههنا إلى

(3/1241)


خبر، ويضاعِف ويُضَعِّفُ يتقاربان.
وقال القتيبي: يُضاعِف للمرة ويُضِعِّف للتكثير، وقد قال

(3/1242)


تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)، وقال: (أَضْعَافًا كَثِيرَةً)
و (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً).
وفائدة قوله: (مِنْ لَدُنْهُ) أن كلَّ ما أريد تعظيمه ينسب إلى
الله، فيقال: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، و (مِنْ لَدُنْهُ)، و (له).
و (بيت الله)، و (نَاقَةُ اللَّهِ)، وعلى هذا قوله تعالى:
(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)، ووصْفُ الأجر بالعظيم اعتبار
بالأجور الدنيوية.

(3/1243)


فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)

تقديره: كيف حالهم في ذلك الوقت استعظامًا لأمرهم؟!
وقوله: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فيه أقوال:
أحدها: أنه أشار إلى أُمته، ويكون قوله: (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) عامًّا.
وخصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته بالذكر تعظيمًا لهم.
والثاني: ما قاله ابن عباس: إن هذه الأمة تشهد للأنبياء، والنبي
- صلى الله عليه وسلم - يشهد لأمته تزكيةً لهم.
واستدلَّ بقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً).
والثالث: إن قوله: (عَلَى هَؤُلَاءِ)

(3/1244)


إشارة إلى الأنبياء الذين هم الشهداء على أممهم.
إن قيل: كيف يصح أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدًا للأنبياء الذين قبله وهو لم يحضرهم؟ وأي فائدة لشهادته وشهادتهم؟
قيل: إن الأنبياء لم يختلفوا في أصول ما دعوا إليه.
بل كلُهم لسان واحد في الدعاء إلى التوحيد.
وأصول الاعتقادات والعبادات، وسائر جمل الشريعة.
وعلى ذلك نبَّه بقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الآية.
وكل واحد منهم معتقد لما اعتقده الآخر، ومبلِّغ ذلك مثل ما بلَّغه الآخر.
ثم شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعة لأصول شرائع من تقدّمه، ولذلك قيل له: خاتم الأنبياء، وعليه نبّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتًا، وترك موضع لبنة منه، فكنت موضع اللبنة"،

(3/1245)


يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

وبهذا المعنى ألم بعض المُحدثين فقال:
نُسِقوا لنا نَسْقَ الحساب مقدّمًا. . . وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا
وأما فائدة إقامتها عليهم فتبكيت للعاصين، وتشنيع عليهم.
وتزكية للمؤمنين، على ما ذكر في قوله: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ).

وقوله: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
منهم من جعل الصفتين لفريق واحد، أي الذين جمعوا بين الكفر ومخالفة
الأمر، ومنهم من جعلهما وصفين لفريقين، أي الذين كفروا
وعصوا الرسول؛ فالأول للكفار، والثاني لأهل الكبائر،

(3/1246)


وقوله: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي تمنوا أن لم يُبعثوا من القبور.
وقيل: أن جعلوا ترابًا كالبهائم، وقيل: أن لم يخلقوا رأسًا.
ونحوه قوله تعالى: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)،

(3/1247)


وقوله: (لَوْ تُسَّوَّى) بتشديد السين على إدغام التاء في السين.
وتُسَوّى بالتخفيف على حذف إحدى التاءين.
وقوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) قيل: فيه أقوال:
أحدها: ما رُوِيَ عن ابن عباس وقد سُئِلَ عن هذه الآية.
وقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فقال:
إن المشركين يوم القيامة لما رأوا أن لا يدخل الجنة إلا من كان مسلمًا.
قال بعضهم لبعض: تعالوا نجحد، نقول: ما كنا مشركين.
فلما قالوا ذلك ختم الله على ألسنتهم، وتكلّمت جوارحهم، فشهدت
عليهم، فودّوا لو ساخت بهم الأرض ولا يكتمون الله.

(3/1248)


والثاني: ما قاله الحسن: إن الآخرة مواقف، وفي بعضها يظهرون.
ورُوِيَ عنه أن في بعضها لا يتكمون.
والثالث: أنهم لا يكتمون الله حديثًا، لنطق جوارحهم بذنوبهم.
فعلى هذا لا يكون قوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ) داخلًا في التمنِّي.
بل هو استئنافُ كلام.
والرابع: أنه لم يقصد بقوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ) أنهم لا يقصدون كتمانه.
بل عنى أنه لا يتكتم، وذلك كقولك لمن كتم عنك شيئًا
فاطلعت عليه: لِمَ تكتم أسرارك عني.
والخامس: أن ذلك داخل في التمني، ولكن إشارة إلى حالهم في الدنيا وجحودهم، فإن كفرهم جحود لما ركَّز الله تعالى في فطرتهم.
ونقضٌ لما أخذ عليهم من الميثاق المدلول عليه بقوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

(3/1249)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
السُّكر: هو من السَّكْر، أي سُدّ مجرى الماء، وذلك لسد البخار
الصاعد من المعدة قوة الفهم، وسكرت الريح:
أي سكنت، تشبيهًا بسكون الماء إذا سُدّ مجراه، وكذلك سكرت
أبصارنا: أي سُدّ مجراها، والسكر قد يقال لما يعرض من الهوى
والشباب والغنى.
قال الشاعر:
سكران سكر هوى وسكر شراب.

(3/1250)


ويقال: سُكارى وسكرى.
والغائط: المنهبط من الأرض فكنى به عن الحدث؛ كالنجو
في كونه للمرتفع من الأرض.
والعذرة للفناء، والحشُّ للبستان، والكنيف للحظيرة.
والصَّعيد كالصعود، لكن الصعيد يقال لوجه الأرض.

(3/1251)


والصعود للعقبة، ولما كان الصعيد يقال لوجه الأرض وللساطع منه.
اختلف الفقهاء لاختلاف نظرهم في أنه هل يجب أن يعلق باليد
شيء من التراب أم لا؟
فجوز الكوفيون أن لا يعلق باليد شيء من الأرض.
لكون الصعيد اسمًا لوجه الأرض.
ولم يجوِّز الحجازيون ذلك اعتبارًا بالصعود.
ولقوله: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)
وكذلك اختلفوا في أنه هل يجوز التيمم بما يخرج من الأرض
سوى التراب كالخل والزرنيخ؟
فجوز ذلك بعضهم ومنع منه آخرون.
فمن جوّزه قال: لأن الصعيد اسم لما تصاعد من الأرض.
والتيمُّم والتأمُّم: " التعمُّد، وفي قراءة عبد الله "فتأمَّموا".

(3/1252)


و (عابري سبيل): قال علي وابن عباس: هم المسافرون.
قالوا: ويجوز لهم التيمم عند الجنابة.
والصلاة عندهما اسم الفعل.
وقال الحسن وسعيد: عابر السبيل: المجتاز.
والصلاة يريد به موضعها، كقوله: (لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ).

(3/1253)


والمريض الذي جُوّز له التيمّم: الجريح والقريح دون المحموم والمصدّع. والملامسة: الجماع، عن علي وعن ابن عباس.
وقيل: اللمس

(3/1254)


باليد وما دون الجماع؛ عن ابن مسعود، وابن عمر.
وقُرِئ: "لمستم"، والأول في الجماع أكثر.
وقوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) ليس بنهي للسكران عن قربان الصلاة، كما تصوره بعض الناس فأطال فيه الكلام.
وقال: كيف يصح نهي من لا يعقل ما يقول، وإنما ذلك نهي المؤمنين عن السكر المانع

(3/1255)


من الصلاة، كقوله تعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
وقيل: إن ذلك نهي عن الشرب، وكان هذا تعريضًا بالتحريم.
فلما أنزل الله ذلك تحرَّج قوم فتركوها، وشربه قوم في غير
أوقات الصلوات إلى أن ورد تصريح التحريم.
وقال بعض أهل الورع: ليس النهي عن تعاطي الخمر.
بل ذلك عنه، وعن مقتضى سكر الهوى.
وسكر الاشتغال بالدنيا، وأمر بأن يجمع الإِنسان

(3/1256)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)

نفسه ويفرِّغ للعبادة همّه، قال: وليست الجنابة للحالة المعروفة
فقط، بل هي عبارة عن نجاسة النفس بالذنوب، وحثٌّ على
تجنُّبها وتطهير النفس منها بقوله: (لِيُطَهِّرَكُمْ).
فإن قيل: فما وجه تعلق هذه الآية بما قبلها.
والإِتيان بحكم التيمُّم عقب ما تقدم؟
قيل: لما أمر فيما تقدّم بالعبادة بقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وأعظم العبادة الصلاة، ولا تصحّ بغير طهارة بين عقيبها حكم ما يُطَهِّر، وحكم ما ينوب منابه إذا فُقِدَ.

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
رَأَيت: يُعدّى بإلى تنبيهًا على معنى النظر والاعتبار.
وذلك في رؤية القلب دون الحاسة.
واشتراء الضلالة بالهدى:

(3/1257)


وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)

استبدالها به بغد حصوله، والرغبة في الضلالة بعد التمكّن من
الهدى، وقد أعاد تعالى هذا المعنى في مواضع تحذيرًا منهم.
وتخويفًا من الاغترار بهم، وعلى ذلك قوله من قبل: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا).
ونحوه قوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)

وقوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
ظاهره كالبعيد من الأول، وكذلك قوله: (كَفَى بِاللَّهِ) وذلك
لتحرِّي الاختصار فيه، وتقدير الكلام: يريدون أن تضلوا السبيل.
وإذا أرادوا ذلك فهم أعداؤكم، والله أعلم منكم بعداوتهم لكم.
وهو تعالى وليكم ونصيركم، فإذن الواجبُ عليكم أن تتركوا

(3/1258)


مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

موالاتهم، واستنصارهم، وتَسْتكْفوا بولاية الله ونصرته، وكفى
به وليا ونصيرًا.

قوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
الليّ: أصله الفَتْلُ فاستعير لصرف الإِنسان عما يريده، وصرف الكلام من
وجه إلى وجه استعارة الجدل في الجدال، ومنه ليّ الغريم، ولواء الجيش
لكونه في الأصل خيطًا ملويا.
واللِّوى: الملوئ من الرمل؛ لا يصنعه البشر.
وقوله: (بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي جارحتهم أوكلامهم، وكلا هما في
الحقيقة واحد (وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) أي يطعنون بِأَلْسِنَتِهِمْ في الدين،

(3/1259)


وقوله (غَيْرَ مُسْمَعٍ) يقال على وجهين:
أحدهما: دعاء على الإِنسان بالصمم.
والثاني: دعاء له، فقد تُعورِف قوله: أسمعته؛ في السب.
ورُوِيَ أن أهل الكتاب كانوا يقولون ذلك.
يرون أنهم يعظمون النبيَّ، وأنهم يدعون له، لأن قولهم (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) يقتضي ظاهره: أنا قْد عصينا من أمرتنا بعصيانه.
واسمع غير مشتوم؛ وحافظنا، وهم يقصدون بقولهم
(وَعَصَيْنَا) أنا عصيناك، واسمع لا سمعت، وراعنا أي
رَاعنًا، وذلك شتم فيما بينهم، فذكر تعالى أن ذلك ليّ

(3/1260)


وطعن في الدين بألسنتهم، أي لُغتهم، ولو عدلوا عن هذه
الألفاظ إلى ما أُمِرُوا به لكان أنفع لهم، ولكن لما كفروا لعنهم
الله، أي منعهم التوفيق وشرح الصدر، وقد تقدّم معنى
اللعنة وتفسير قوله: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا).
وقوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) فيه قولان:
الأول: أنه متعلّق بما تقدَّم، كأنه قال:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من الذين هادوا فيكم.
فتكون (مِن) للجنس أو للتبيين، وتكون للوقف على قوله:
(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا).
والثاني: أن تكون استئنافًا على تقدير:
من الذين هادوا فريق، كقوله: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ).

(3/1261)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)

واستقبح المبرّد هذا الوجه لحذف الموصول وترك الصلة.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
الطمس والطلس والدرس يتقارب، ولكن الطمس زوال
الأعلام المماثلة، قال: وبلدة طامسة أعلامها، والطلس زوال
الصورة، ومنه قيل: درهم مطلس، إذا لم يكن عليه نقش، والدرس
قد يقال في الأثر الخفي.
وطمس الوجوه منهم من أخذه

(3/1262)


محسوسًا ثم اختلفوا؛ فمنهم من قال: عنى ذلك في الدنيا، وهو
أن ينبت الشعر على وجوههم فتصير صورتهم كصورة القردة
والخنازير، وتكون وجوههم إلى أقفائهم، ومنهم من قال:
عنى ذلك في الآخرة، وعلى ذلك قوله: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)، لأن وجوههم التي فيها العيون إلى ظهورهم.
ومنهم من أخذه معقولا، ثم اختلفوا: كيف يكون ذلك؟
فمنهم من قال: عنى أنا نردهم عن الهداية إلى الضلالة لما ارتكبوه من المعاصي،

(3/1263)


نحو قوله: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) الآية.
والثاني: أن تكون الوجوه الأعيان والرؤساء.
والمعنى قيل: أن يجعل الرؤساء منكم أذنابًا.
وعلى ذلك قوله تعالى: (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) الآية.
وقيل: إن ذلك في الآخرة، وهو أن قومًا من الكفار كانوا
يسخرون في الدنيا من المؤمنين، فيعرضون على الجنة ثم يُردّون على
أعقابهم فيدخلون النار.
وقوله: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) إشارة إلى ما تقدّم ذكره في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) في سورة البقرة.

(3/1264)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

(وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)
أي نافذًا في حكم المفروغ منه.
وقيل: هو إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -:
"أول ما خلق الله القلم، فقال له: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وقيل: الأمر ههنا إشارة إلى الإِبداع، وهو اختراع الشيء من غير أصل.
لا في زمان ولا في مكان، ولا بآلة، وذلك يعبر عنه بالأمر.
وعلى ذلك قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

(3/1265)


معنى أن يشرك به: أن يديم الإِنسان الشرك، فلا خلاف أن من لم يُدم
ذلك بل أقلع عنه بالتوبة على الوجه الذي يجب يُغفر له.
لكن اختُلِف في قوله (لِمَنْ يَشَاءُ) لكونه مجملًا.
فقال بعضهم: عنى به غير المشركين، فكأنه قيل:
يغفر ما دون ذلك لغير المشركين، ففيه توعُّد أن المشرك
مأخوذ بكل ذنب مع الشرك بخلاف المؤمنين، الذين قال لهم: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
ومنهم من قال: عنى به التائب بدلالة قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
وقول من قال: (لِمَنْ يَشَاءُ) يقتضي ذلك، أن فيما دون الكفر
ما يُغفر، وهو الصغائر، وفيه ما لا يغفر وهو الكبائر، وإلا لم
يكن لقوله: (لِمَنْ يَشَاءُ) فائدة، فليس بصحيح لأن قوله:
(مَا دُونَ ذَلِكَ) عام للذنوب صغائرها وكبائرها، والمغفور له هو

(3/1266)


الذي جعله خاصَّا منهما، فيقتضي أن ما دون الشرك كله يُغفر.
لكن يُغفر لبعض دون بعض، واشتراط (لِمَنْ يَشَاءُ) لئلا يقرر
أن ذلك عامٌّ للمشرك وغير المشرك، فصار قوله: (لِمَنْ يَشَاءُ)
عبارة عن غير المشركين.
وقولهم: إن الكبائر دون الشرك لو صح غفرانها لم يثبت فيها اللعن
ولا الحد على وجه النكال ليس بشيء.
فليس في ذكر اللعن ما يقتضي أن لا يُغفر لصاحبه.
وأما النكال في الدنيا فتعلُقهم به جهل أو تجاهل، لأن موضوع النكال
ليكون قمعًا للمنكَّل به عن معاودته وقمع غيره عن أن يحذو
حذوه، وليس ذلك من عقوبة الآخرة في شيء، بل قد قيل هو
مُسقطٌ لعقوبة الآخرة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الحدود كفّارات لأهلها "،

(3/1267)


ألا ترى أنه قد يُحدّ التائب مع أن العقوبة في الآخرة قد سقطت
عنه بالتوبة؟!
وما رواه جابر أنا كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى نزل قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. دلالة على فساد قولهم، وما قالوه بأن هذا من أخبار الآحاد فلا يقبل فيما هو من باب التدين والعلم، فإن أخبار

(3/1268)


الآحاد تُردّ فيما تعافه العقول الصحيحة، وقد علم أن العفو
من باب الإِحسان الذي حثنا عليه العقل والشرع، وبتحريه يصير
العبد من الصديقين والشهداء والصالحين.
والافتراء: يقال في القول والفعل كالصدق والكذب.
بل الافتراء وإن تُعوُرِف في القول فهو بالفعل أولى.
وكذا الاختلاق، لأنهما من فريت الأديم وخلقته.
ومعنى الإِثم العظيم هو الذي إذا اعتبر بالآثام كان

(3/1269)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)

أكثرها عقوبة.

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
التزكية ضربان: أحدهما: بالفعل، وهو أن يتحرى الإِنسان ما فيه تطهير بدنه، وذلك يصحّ أن ينسب إلى العبد تارة نحو قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) وإلى من يؤمر بفعله، نحو قوله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا).
والثاني: بالقول، وذلك بالإِخبار عنه بذلك، ومدحه به.
ومحظور على الإِنسان أن يفعل ذلك بنفسه، لا بالشرع فقط.
بل بمقتضى العقل، من غير داعٍ إلى ذلك، ولمّا قالت اليهود
والنصارى (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ذمّهم الله تعالى بذلك، وذمّ من

(3/1270)


يفعل فعلهم، وحظر أن يمدح الإِنسان نفسه، بل أن يزكي غيره
إلا على وجه مخصوص، فالتزكية في الحقيقة هي الإِخبار
عما ينطوي عليه الإِنسان، ولا يعرف ذلك إلا الله تعالى.
ولهذا قال: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)
ونبّه بقوله: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أن تزكيته ليست لضرب من الميل.
فهو منزه عن كبير الظلم وصغيره.
والفتيل: هو الخيط الذي في شق النواة.
وقيل: هو ما فتل من الوسخ بين الأصبعين.
تشبيهًا بالفتيلة هيئة وصغر قدر،

(3/1271)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)

قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
ذكر ذلك تعظيمًا لزعمهم (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)
ونبّه بقوله: (وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) أنه لايخفى كونه مأثمًا.

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
الجبت والطاغوت: في الأصل اسمان لصنمين، ثم صارا يستعملان
في كُل باطل، ولذلك قيل: ما عُبِدَ من دون الله فهو طاغوت،

(3/1272)


ولذلك فُسِّر مرة بالصنم، ومرة بالشيطان، ومرة بالسحر، ومرة بكل
معظّم من دون الله، وإنما ذكرهم بإيتاء نصيب من الكتاب تقبيحًا
لفعلهم، فمن جحد الحق مع معرفته به فهو أقبح فعلًا وأعظم مأثمًا.
وعنى بالذين كفروا مشركي العرب، حيث زعموا أنهم أهدى
سبيلًا من المسلمين، ومعنى قوله: (لِلَّذِينَ) أي لأجلهم وفيهم،

(3/1273)


أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)

ولهذا قال: هؤلاء ولم يقل: أنتم، وباقي الآية مفهوم.

قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
النقير: النقطة في ظهر النواة، وقيل: حبة فيها، وقيل:
ما نُقِرَ بالأصبع من الحصى، وكيفما كان فذلك كالفتيل
والقطمير فيما يضرب به المثل في الشيء الحقير، و (إذن) متى
تقدّمه حرف عطف فقد يُترك إعماله، نحو قوله:

(3/1274)


أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)

(وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا).
وعطف بالجملة على ما قبله بأم على تقدير كلام قبله.
كأنه قيل: أهم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك.
فيلزم الناس طاعتهم؟
وقيل: أم بدل على معنى بل.
وكذلك قيل في قوله تعالى: (الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، ونبَّه على بخلهم مع تمكُّنهم من المال.

قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
الحسد: غم يلحق الإِنسان بسبب خير ناله مستحقه،

(3/1275)


قال ابن عباس: عنى بالناس ههنا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
وقال قتادة: عنى به العرب، وقيل: عنى به المسلمين.
والفضل: ما خصّ به - صلى الله عليه وسلم - من النبوة.
وإنما ذكر الناس - وإن قصد به مخصوصًا -
لأنهم إذا كرهوا ما آُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد حسدوا الناس بما

(3/1276)


أولاهم كمال الإِنسانية، وفيه تنبيه أنهم خارجون عن جملتهم.
ونبّه أنه كما آتاهم الفضل فقد آتى آل إبراهيم ما ذكره.
وأنه لو كان ما آتى محمدًا يقتضي أن يحسد عليه فما آتى
آل إبراهيم أولى بذلك، فيكون الكتاب والحكمة راجعًا
إلى ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما.
ويجوز أن يكون الكتاب والحكمة إشارة إلى ما أوتي النبي
- صلى الله عليه وسلم -، ويكون فيه تنبيه.
وما أنعم الله عليه هو إنعام عليهم إذ كان معرضاً لانتفاعهم به.
والملك العظيم قيل: ملك سليمان، والأصحّ أنه عامٌّ.
وأنه لم يعن به تملُك الغير، بل هو عام في ذلك.
وفيما اقتضى تملُك الإِنسان على نفسه
وقمعه لحرصه وسائر شهواته، فذلك هو أعظم الملكين.
وقوله: (فَمِنهُم) قال مجاهد: أي من أهل الكتاب من آمن بمحمد
- صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: منهم من آمن بإبراهيم من أمته، كما أنكم في أمر

(3/1277)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)

محمد كذلك تنبيهًا أنه ليس في صدّ بعضهم عن محمد توهين
لأمره، كما لم يكن في صدّ بعضهم عن إبراهيم توهين لأمره.
وفي قوله: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) تنبيه أنهم وإن لم تلحقهم
العقوبة معجّلة فقدكفاهم ما أُعِدَّ لهم من سعير جهنم.

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
إصلاؤهم بالنار: جعلهم صَلىً لها، كقوله:

(3/1278)


(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).
وقوله: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) فيه قولان؟
أحدهما: أنه يُعاد ذلك الجلد بعينه على صورة أخرى.
كقولك: بدّلت الخاتم قرطا، إذا خالفت بين الصورتين.
الثاثي: أنه يُخلَق لهم جلود إذا نضجت لهم جلود، فالعذاب والألم يصل إلى ما تحت الجلود من الروح وغيرها بوساطة الجلود كوصول النار إليه بوساطة سرابيل القطران المذكور في قوله: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)، وتبيين ذلك أن الجلد واللحم متى تعريا

(3/1279)


عن الروح لم يلحقهما ألم، فعُلِمَ أن المقصود بالألم ما فيه الروح
دون الجلود والأغشية، ولكون البدن للروح كالثياب للبدن.
يعبّر بالثياب عن البدن كقوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)
وقول الشاعر:
ثياب بني عوف طهارى نقية. . . . . . . . . . . . . . .
وقو له تعالى: (لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) استعارة متناهية في وصول
الألم إلى الباطن، وعلى ذلك استُعير لهم الطعام في قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا) ذُكِرَ مع الذوق المس في قوله: (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) تنبيهًا أن ذلك استعارة، ونبَّه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)
أن لا سبيل إلى الامتناع عليه والفرار من عذابه.
وبقوله: (حَكِيمًا) أن ذلك تقتضيه الحكمة.

(3/1280)


وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قد تقدّم الكلام في ذكر الإِيمان والأعمال الصالحة، ومعنى الجنات
التي تجري من تحتها الأنهار، وذكر الخلود فيها أبدًا، والأزواج
المطهّرة، فأما قوله: (ظِلًّا ظَلِيلًا) فإشارة إلى النعمة، والنعمة
الدائمة، كما يقال: أنا في ظلك، وكما رُوي في الخبر: "سبعة
يظلهم الله في ظلِّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله "، والظليل إشارة

(3/1281)


إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

إلى تمام وجود معنى الظلّية فيه، كقولهم: شمس شمامس.
وليل ألْيَل.

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
قال ابن جريج: نزل ذلك في عثمان بن طلحة رضي الله عنه
لما أخذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة.
فأمره الله أن يردَّه

(3/1282)


إليه، وقال: زيد ومكحول: نزل في ولاة الأمر.
قال ابن عباس: في كل مؤتمن على شيء، وهو أصحّ. فإنه عام،

(3/1283)


وقد عظَّم الله أمر الأمانة، وبين أنه من خصائص الإِنسان، حيث قال
تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ)
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
"ثلاث يؤدين إلى البَّر والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم ".
وتأدية الأمانة استحفاظ المستودع ووضعه حيث ما أمر بوضعه فيه.
وليس ذلك في ردّ الوديعة فقط، بل في جميع ما خصّ الله تعالى به الإِنسان من ماله ونفسه، فكلُّ ذلك أمانة من الله عليه بحفظه حيث ما يجب حفظه، ويضعه حيث ما يجب وضعه، ولذلك قال تعالى:

(3/1284)


(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
"كلُكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ".
وقد دخل في عمومه: النهي عن كتمان العلم عن أهله.
وحفظه عن غير أهله، ولهذا قيل: لا تضع الحكمة في غير أهلها
فتظلمها، ولا تمنعها أهلها فتظلمهم، وقد حثَّ الله تعالى على
حفظ جميع العدالات بهذه، وبيانه أن العدالة في شيئين:
أحدهما: في حكم يختص به الإِنسان في نفسه، أو فيما بينه وبين

(3/1285)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

غيره، وقد تناول ذلك قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)، والثاني: في حكم يتولاّه ألإِنسان بين اثنين، وذلك
قد تناوله في قوله: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).
ثم قال: (إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) تنبيهًا أن من سمع وعظه، واستعمله فقد فاز فوزا عظيمًا، ونبّه بذكر السمع على حكم الأول على علمه بما يحدِّث الإِنسان به نفسه، وبالبصر على حكم مشاهدته لما يتعاطاه.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قيل: أولو الأمر الأمراء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولذلك قال: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).
وقيل: الأمراء في زمانه وبعده، ورده إليهما إنما هو إلى حكمهما.
وحمل الشيعة ذلك

(3/1286)


على الأئمة من أهل البيت.
وقال أبو هريرة: أولو الأمر أمراء السرايا.
وقد رُوِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ".
وقال ابن عباس: هم أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وكل هذه الأقوال صحيح، ومراد بالآية، ووجه ذلك

(3/1287)


أن أولي الأمر الذين يرتدع بهم الناس أربعة:
الأول: الأنبياء، وحكمهم على ظواهر الخاصة والعامة وبواطنهم.
والثاني: الولاة، وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم.
والثالث: الحكماء، وحكمهم على بواطن الخاصة.
والرابع: الوعاظ، وحكمهم على بواطن العامة، وعلى ذلك
قوله: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)
قيل: هو خطاب للكافة.
وقيل: بل لأولي الأمر منهم إذا وقع تنازع فيما بينهم في حكم،

(3/1288)


وقوله: (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
أي راجعوه بالسؤال في زمانه، وإلى كتاب الله وسنة نبيه بعده.
وقال الأصمُّ: معناه ما لا تعلمونه فقولوا: الله ورسوله أعلم.
وهذا إن أراد به فيما لا سبيل لبشر إلى معرفته.
أو فيما لا يبلغ إلى مرتبته فصحيح.
وإن أراد أنه يقتصر على ذلك مع وجود سبيل إليه.
أو احتياجه إليه فرضى بأخسِّ منزلة.
وقد تعلّق بذلك مثبتوه أيضًا، وقالوا: جعل الله
أحكامه ثلاثة أقسام: مثبتًا بالكتاب، ومثبتًا بالسنة، وعليهما
دل قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، ومثبتًا بالاجتهاد
والاستنباط، وهو ما يرد إلى الكتاب وسنة نبيه، قال:
فالرد إليهما هو البناء علي حكمهما، وهذا هو القياس الشرعي، والرد

(3/1289)


على هذا محمول على فائدة غير مستفادة من قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).
قوله: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) أي من شرط الإِيمان أن لا يتخطَى
مرسوم الله تعالى ومرسوم نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فمن
ترك ذلك فقد ترك الإِيمان.
وقوله: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
قال مجاهد: أحسن جزاء وعاقبة.
وقال قتادة والسُّدّي: عاقبة.
وقال الزجاج: أحسن من تأويلكم من غير رد إلى كتاب الله والسنة.

(3/1290)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
قد تقدّم أن الزعم مطية الكذب. والطاغوت مبنيّ من
طغى، كالجالوت من جال، وقيل: كل ما عُبد من دون الله
فهو طاغوت، وقيل: هو اسم لكل ما شغل عن الله من نحو

(3/1291)


الهوى ونحوه، وعليه نبه بقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"الهوى إله معبود"، ثم تلا: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ).
ورُوِيَ أن. ذلك نزل في رجل من المنافقين دعاه يهودي في خصومة إلى حكم
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال المنافق: بل نتحاكم إلى الكاهن، وقيل: بل قال إلى الصنم، وهو أنهم كانوا يحضرونه ويضربون بالقداح، فمن خرج قدحه حكم له، ونبّه بقوله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)

(3/1292)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)

بعد قوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)
أن إرادتهم بهذا الفعل مقرونة بإرادة الشيطان أن يضلهم ضلالاً
بعيدًا، وأن بفعلهم ذلك يجد الشنيطان إلى ضلالهم سبيلًا، وهذا
تنبيه أنه لولا اتباعهم الشهوات وإخلالهم بالعبادات لما وجد
الشيطان إليهم سبيلًا، كما قال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)
الآية. والضلال البعيد هو الذي يصعب الرجوع عنه.
وهو المشار إليه بقوله تعالى: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).

قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
الصد: كالسد: إلا أن السد بحائل محسوس.
والصد بحائل في النفس من إرادة أو كراهة، ونحو ذلك من الحوايل.

(3/1293)


فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)

والآية من تمام القصة الأولى، ومن الأشياء التي
دعوا إليها فصدّوا عنها آيات القتال، كقوله تعالى: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ).
والتأكيد بالمصدر كقوله: (يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا)
(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) هو أن الفعل له حقيقة
ما وتجوُّزٌ به كاستعماله في بعض ما وُضِعَ له أو في غير ما وُضِعَ
له، وإذا أريد أن يبين أنه مستعمل على وجهه وحقيقته ضُمَّ إليه
مصدره. هذا فائدته.

قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
رُوِي أن ذلك المنافق مع اليهودي لما تحاكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكم لليهودي قال المنافق: لا أرضى بذلك.
ثم "تحاكما إلى أبي بكر فكان كمثل، ثم تحاكما إلى عمر.
فقال المنافق: كان من الأمر كذا، فقال له عمر: قفا لأخرج إليك.
فدخل وأخذ السيف فخرج وقتله،

(3/1294)


فشكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سأله؟
قال عمر: قتلته لأنه ردَّ حكمك، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"أنت الفاروق ".
ثم جاء أصحابه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلفون
كذبًا إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا.
إن قيل: ما المسئول عنه بقوله: كيف؟
وما الذي يتعلق به إذا؟ وعلى ماذا عطف قوله: (ثُمَّ جَاءُوكَ)؟
وأيّ مصيبة أريدت بذلك: التي نالتهم في الدنيا
بقتل صاحبهم أم شيء منتظر؟
قيل: أما المسئول عنه فمحذوف كما حُذِفَ في قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)، وبقوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ)
وتقديره: كيف حالهم ومقالهم؟
وأما إذا فإنه يتعلق بذلك المضمر.
وأما قوله: (ثُمَّ جَاءُوكَ) فمعطوف على قوله: (أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ)،

(3/1295)


وتقديره: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة بما قدّمت أيديهم
بارتكابهم وبمجيئهم من بعد إليك حالفين كذبًا: إننا ما أردنا إلا
إحسانًا وتوفيقًا، وأما المراد بالصيبة المذكورة فما ينالهم في الآخرة
من العذاب والحسرة والندامة، فيقول: إن تألَّموا من هذه فكيف
تألمُهم إذا أصابتهم مصيبة في الآخرة، وقد تقدَّم أن الإِحسان
هو الفضل الموفي على العدالة، والتوفيق: موافقة أمر الله
والرضا بقضائه، وهما غاية ما يراد من الإِنسان، فنبه أنهم

(3/1296)


أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

يدّعودن هاتين الحالتين كذبًا.

قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
القول البليغ: إذا، اعتُبر بنفسه، فهو ما يجمع أوصافا ثلاثة:
أن يكون صوابًا في موضع لغته، وطبقًا للمعنى المقصود به.
لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، وصدقًا في نفسه.
وإذا اعتبر بالمقول له والقائل فهو الذي يقصد به قائله الحق.
ويجد من المقول له قبولاً، ويكون وروده في
الموضع الذي يجدر أن يورد فيه، فكل قول اجتمع فيه هذه
الأوصاف فهو البليغ من كل وجه، وقول العرب: أحمقُ بُلْغٌ
وبَلْغٌ، إذا بلغ مع حماقته حاجته، وقد يقال ذلك للمتناهى في
حماقته، وقول من قال: القول البليغ هو أن يقال لهم:

(3/1297)


إن، أظهرتم ما في أنفسكم قتلناكم.
وقول من قال: خوِّفهم بمكاره تنزل بهم في الدنيا والآخرة.
فإشارة إلى بعض مقتضنى الآية، ونبه بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)
على أمرين: أحدهما: نهي الناس أن يُخفوا في أنفسهم غير الحق.
والثاني: أن يقتصر من كل واحد في أحكام الدنيا على ما يظهره.
وترك الفحص عما يضمره، وفي قوله تعالى:

(3/1298)


(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية، قولان:
أحدهما: أنه أمر أن يقابل جماعتهم بهذه المعاملة الثلاث، من الإِعراض عنهم، والتجافي عن ذمهم، وقول المعروف لهم.
والقول الثاني: أن كل واحد من الأحكام الثلاثة إلى فرقة على حدة، فالإِعراض عمن يظهر الإِسلام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
" أمرت أن أقاقل الناس. . . " الخبر.

(3/1299)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)

والوعظ للأوساط. والقول البليغ للخواص. وهؤلاء الفرق
الثلاث هم المذكورون بقوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91).
إلى آخر القصة.

قوله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
استغفار الإِنسان وتوبته يمكن أن يقال: هما في الحقيقة واحد، لكن
اختلافهما بحسب اعتبارهما بغيرهما؟
فالاستغفار يقال إذا استُعمل في الفزع إلى الله تعالى، وطلب الغفران منه. والتوبة ْتقال إذا اعتُبر بترك العبد ما لا يجوز فعله وفعل ما يجب.
ولا يكون الإِنسان طالباً في الحقيقة لغفران الله إلا بإتيان
الواجبات، وترك المحظورات، ولا يكون تائبًا إلا إذا حصل
على هذه الحالة، ويمكن أن يقال: الاستغفار مبدأ التوبة.
والتوبة تمام الاستغفار، ولهذا قال تعالى:

(3/1300)


(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).
وأما استغفار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم فهو
الدعاء لهم، وهو ضرب من الشفاعة في الدنيا، وعلى ذلك
حثَّ تعالى بقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)
والقصد بالآية لما قتل عمر ذلك المنافق، وكان ظاهره الإِسلام
ووقع شبهة على من لم يتصوَّر حاله، بيَّن تعالى جواز قتله
بألطف حجة، دل عليه بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، وبيانه أن خصوصية الرسول عليه الصلاة والسلام طاعته فيما يحكم به، تنبيهًا أن من لم يطعة لم يؤمن به، وهذا المقتول لم يطعه.
فإذًا لم يؤمن به، ومن لم يؤمن برسوله من غير مانع فمستحقّ للقتل.
فإذًا هذا المنافق

(3/1301)


فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

مستحق للقتل.
إن قيل: لِمَ قال (جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)
ولم يقل: فاستغفرت؟
قيل: تنبيهًا على مقتضى فضيلة الرسالة، وأن بفضيلتها يستحق قبول شفاعته وموقع استغفاره.

قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
المشاجرة: المنازعة، وأصله من اختلاط الأشجار.
وشَجَر بيته رفعه بالشجر، والشِّجار اسم ما يرفع به من الشجر.
ومصدر شَاجَره أي نازعه، والتشاجُر يكون بالأبدان بالحرب
وباللسان في القول.
والحرج: الضيق، وأصله الحرجة الملتفة

(3/1302)


من الأشجار، وسأل عمر رضي الله عنه أعرابيًّا عن الحرج.
فقال: هو أن يلتف الشجر ويناشب فلا يصل إليه شيء.
قال: فكذلك قلب الكافر محظور عليه الإِيمان، ممتنع امتناع هذه
الحرجة.
وقوله: (لَا) في أول الكلام هو ردّ لزعمهم: أنا آمنا.
فقال: لا، أي ما آمنوا، ولفظة: لا، قد ينفى به الفعل
الماضي إذا لم يذكر معه الفعل، كقوله: أخرجتَ؟ فتقول: لا.
ويجوز أن يكون نفيًا للثاني، لكن حذف معه الفعل اكتفاء
بما ذكر من بعده، وعلى الوجهين قول الشاعر:
لا وأبيك أبنت العامري. . . لا يدعي القوم أني أفِرُّ

(3/1303)


والآية من تمام القصة المتقدّمة، وقول من قال: نزل في حاطب
ابن أبي بلتعة حيث اختصم مع الزبير بن العوام في سبب

(3/1304)


الماء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فحكم للزبير.
فسخط حاطب، فإنه يجوز أن شأن نزوله هذه الحال، ويجوز

(3/1305)


أن يكون قد نزل فيهما، وبيَّن تعالى أن التوقُّف في إلزام حكمك
فيما وقع بينهم من المشاجرة هو مخرج لهم عن الإِيمان، وإنما
يكون حصول الإِيمان الحقيقي بعد أن لا يروا ضيق صدر في جميع
ما تحكم به، (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا): أي يسلمون ظواهرهم
وبواطنهم، والتسليم منّا هو الإِسلام المأمور به في قوله:
(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)،

(3/1306)


وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)

وهو المسئول في قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا).

قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
نبّه تعالى على عقيدتهم ووهن إيمانهم.
وأن المؤمن في الحقيقة من يسلِّم تسليمًا كما تقدّم ذكره.
وبين أن هؤلاء لم يؤمنوا، بعد، بحيث لو أوجب عليهم قتل
أنفسهم أو الإِخلال بدورهم لكان أكثرهم ممتنعين، ثم أخبر أنهم
لو قبلوا الموعظة لكان ذلك خيرًا لهم وأشدّ تثبيتًا، أي أشد
لتحصيل عملهم ونفي جهلهم، وقيل: أثبت لأعمالهم واجتناء
ثمرة فعالهم، وأن يكونوا بخلاف من قيل فيهم:

(3/1307)


(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)
ورُوِيَ أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قالوا: لو أن ربنا تعالى فعل لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك منهم حقٌّ فقال:
"والذي نفس محمد بيده للإيمان أثبت في قلوب المؤمنين من الجبال الرواسي "، ورُوِيَ أنه أشار إلى عبد الله بن رواحة، وقال: "إنه من القليل ".
ورُوِيَ أنه

(3/1308)


وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)

قال: "إن ثابت بن قيس من القليل الذي استثنى الله تعالى".

قوله عز وجل: (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
بيّن أنهم لو قبلوا الموعظة لجمع لهم بين خير الدنيا والآخرة، وذلك هو المعني بقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)
والصراط المستقيم الذي وعدهم هو الذي حرضَ على سؤاله في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
وإنما قال: (مِنْ لَدُنَّا) لأنه تعالى لا يكاد ينسب إلى نفسه من النعم إلا ما
كان أجلَّها قدرًا وأعظمها خطرًا، نحو: وروحنا.

قوله عز وجل: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)

(3/1309)


أصل الرفق: التفكُّر في الأمر والتثبُّت، ويضاده الخرق.
وقيل ذلك للمعاونة، ومنه الِمرفق والمَرفق، والرفقة
للجماعة المعاونة في السفر، والرفيق كالصديق، ويقالان للواحد والجمع.
والفرق بين الرسول والنبيّ أن الرسول أخصّ.
فكل رسول نبي وليس كل نبيّ رسولاً.
فإنّ الرسول يختص بمن جعله واسطة بينه وبين عباده
لتبيين أحكامٍ بوحيٍ مسموع عن مَلَكٍ.
والنبيّ قد يقال لمن يجدد علىْ الناس شريعة من تقدمّه
وإن كان يوحى إليه بإلهام أو منام.
وأخصّ من الرسول أولو العزم من الرسل.
وقد تقدّم ذكر ذلك،

(3/1310)


وقد قسّم الله تعالى المؤمنين في هذه الآية أربعة أقسام.
وجعل لهم أربعة منازل، بعضها دون بعض، وحثّ كافة الناس
أن لا يتأخروا عن منزل واحد منهم:
الأوّل: هم الأنبياء: الذين تمدهم قوة إلهية.
ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من قريب.
ولذلك قال تعالى في صفة نبينا عليه الصلاة والسلام:
(أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى).
والثاني: الصديقون: وهم الذين يتاخمون الأنبياء في المعرفة.
ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من بعيد.
وإياه عنى أمير المؤمنين حيث قيل: هل رأيت الله؟ فقال:
ما كنت لأعبد شيئًا لم أره، ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان.
ولكن رأته القلوب بحقائق الإِيمان.
والثالث: الشهداء: وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب، كحال حارثة، حيث قال: كأني

(3/1311)


أرى عرش ربي. وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: "اعبد الله كأنك تراه ".
والرابع: الصالحون: وهم الذين يعلمون الشيء بإقناعات وتقليدات للراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى

(3/1312)


الشيء من بعيد في مرآة، وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
أي كن من الشهداء بما تكتسبه من العلم والعمل الصالح.
فإن لم تكن منهم فكن من الصالحين.
وتقدير الآية على وجهين:
أحدهما: من أطاع الله ورسوله منكم ألحقه الله بالذين يقدمهم ممن أنعم عليهم من الفرق الأربع في المنزلة والثواب.
النبي بالنبي والصديق بالصديق، والشّهيد بالشّهيد والصّالح بالصالح،.
والثاني: أن قوله: (مِنَ النَّبِيِّينَ) يتعلق بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ)، وقوله: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى الملأ الأعلى، ثم قال: (وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) ويبين ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام في
حين الموت: "اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى"، وهذا

(3/1313)


ظاهر، وهذه الآية كأنها مردودة إلى ما تقدّم من قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فلما تمّم القصة بيّن ما لمطيعهم من الثواب
بهذه الآية، ورُوِي أن رجلًا من الأنصار جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كئيبًا، فقال: يا رسول الله نحن نغدو عليك ونروح ننظر في وجهك
ونجالسك، وغدًا ترفع إلى النبيين فلا نصل إليك. فسكت النبي
- صلى الله عليه وسلم - فجاءه جبريل عليه السلام بهذه الآية.

(3/1314)


قوله عز وجل: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا).
لما كانت نعم الله تعالى ضربين: دنيويًّا ولا يصل إلينا من الله إلا
بواسطة، أو وسائط كالمال والجاه وغير ذلك. وأخرويًّا يصل
إلينا - لا بواسطة، بين الله تعالى أن ذلك الفضل الذي ذكره بقوله:
(أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) هو من الله علِي الإِطلاق، فنُسبَ إلى نفسه
تفخيمًا لأمره، كما قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
وقوله: (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) ونحو ذلك، فخبر الابتداء على
هذا هو (مِنَ اللَّهِ)، ويجوز أن يكون مبتدأ، و (الْفَضْلُ)
خبره، كقولك: ذاك هو الرجل،، وهذا هو المال، تنبيهًا على
كماله، فإن الشيء إذا عظم أمره يوصف باسم جنسه، كقوله:
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ).
ويكون قوله: (مِنَ اللَّهِ) في موضع الحال، أو خبر ابتداء مضمر، ثم قال:

(3/1315)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)

(وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) تنبيهًا أنه هو أعرف بمقادير الفضل، وقد حكم
بأن الفضل المعتد به هو ذاك.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
حذركم: قيل: معناه أسلحتكم، وقيل: معناه احذروا.
والثبة للجماعة المنفردة، قال الشاعر:
وقد أعْدو على ثبةٍ كرام.

(3/1316)


ومنه ثبت على فلان إذا ذكرت متفرق محاسنه، وتصغر ثُبة
على ثُبَيَّة، وتجمع على ثُبات وثُبين، وأما ثُبة الحوض فوسطه
الذي يثوب إليه الماء.
وأصل النفر: الانزعاج، وذلك على ضربين:
انزعاج عن الشيء، وانزعاج إليه، وعلى ذلك
الفزع: فزع عن الشيء، وفزع إليه.
قال: إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم.
والنفر: للجماعة الذين ينفرون إلى حرب، والمنافرة في

(3/1317)


الحكم أصله أن يتحاكم اثنان - أيهما أفضل نفرًا.
قال ابن عباس: هذه الآية نسخها قوله تعالى ة (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)
وإنما عنى بذلك التخصيص والتنبيه أن ليس يلزم النفر جماعتهم، ونحو
ذلك قوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) الآية، أنها في الحرب
وفي الحقيقة فيها وفي المبادرة إلى جميع ثواب الله.
وقوله: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) نحو (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
وقوله: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ)، (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ).
ونحو قوله: (فَانْفِرُوا)، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).

(3/1318)


وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)

وفي قوله: (ثبُاتٍ) أو (جَمِيعًا) تنبيه أنه لا يجب أن يعتبر طالب الحق كثرة مصاحبيه وقلتهمِ، نحو قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).

قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
البطء والريث والأناة والثبات واللبث تتقارب،، ولكن الثبات يقتضي الزوال، ويقالان متعديين عن بطء تقول يبطئن أي يثبط غيره.
وقيل: يكثر هو التثبيط في نفسه.
بيّن تعالى أن قوما بعد فيكم ومنكم أي يتأخرون عن الحرب أو
يؤخرون غيرهم، فإن أصابكم جهد وبلاء من الدنيا يُسرّون
بتأخرهم عنكم، ويريدون أن ذلك نعمة نالتهم، تنبيهًا أنهم لا
يعدون النعمة إلا من أعراض الدنيا،

(3/1319)


(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ)
أي غنيمة وظفر يتحسرون على تأخرهم عنكم
ويحسدونكم على الفضل الذي أوتيتم.
وفي قوله: (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أقوال:
الأول: أن يكون حكاية عنهم، أي ليقولن لمن يثبطكم:
كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة، حيث لم يستعينوا
بكم، ثم يقولون: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) فيكون القول الأول
منهم إثارة للشر.
والقول الثاني منهم إظهارًا للحسد.
والثاني: أن ذلك اعتراض متعلق بالجملة الأولى، وتقديره
يقولون: قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدًا، كأن لم تكن
بينكم وبينهم مودة، فأخّر ذلك، وذلك مستقبح في العربية،

(3/1320)


فإنه لا يفصل بين بعض الجملة التي دخل في إثباتها، وتقديره:
يقول: يا ليتني كنت معهم فأفوزَ فوزَا عظيمَا كأن لم تكن، أي
قولهم ذلك قول من ليس بينكم وبينهم مواصلة دينية.
وذلك تنبيه على ضعف عقيدتهم، وسوء نيتهم.
وقيل في قوله: (قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ) مِنَّة منه على قومه من المنافقين.
إذ يثبطهم عن الخروج، وإنه قد ظهر ثمرة نصيحته في قوله: (يَا لَيْتَنِي)
إيهام للذين قالوا لهم: إن ذلك كان بإيثار الرسول لمن أخرجهم
من دونه، وفي الآيتين تنبيه أن عامة الناس لا يعدّون إلا أعراض
الدنيا، فيفرحون بما ينالهم منها، ولا من المحن إلا مصائبها.
فيتألمون بما يصيبهم منها، وذلك قوله: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الآية.

(3/1321)


فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

قوله تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
الذين يشرون: أي يبيعون وهو المعني بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)
وقوله: (الَّذِينَ) هو فاعل (يُقتِل)، والمفعول محدْوف.
وقيل قوله: (فَلْيُقَاتِلْ) أمر لمن يُبَطّئ وهم الذين يشرون.
ومعناه يشترون، فحثوا على ترك ما حكي عنهم في الآية المتقدمة.
وأن يجاهدوا في سبيل الله،

(3/1322)


وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)

فإن قيل: لِمَ لَمْ يقتصر على قوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بل عقبه
بقوله: (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ)؟
قيل: تنبيهًا أن من تحرّى القتال سواء قَتل أو قُتل، غَلب أوغُلب فقد وقع أجره على الله، وتقدير الكلام: يقتل أو يُقتل أو يغِلب، لئلا يتوهم السامع أن التزام الغلبة والبَراح من المعركة في كل حال سائغ.
ألا ترى أنه قد عظم التولي عن القتال بقوله: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية، ومنهم من جعل المقاتلة في سبيله
مجاهدة للنفس، نحو ما رُوِيَ عنه عليه الصلاة والسلام:
"جاهدوا أهواءكم ".
وجعل سبيل الله هو المذكور في قوله:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
والأجر العظيم ثواب الآخرة، ووصفه بالعظيم اعتبارا بعرض الدنيا.
كما وصف الثمن بالقليل.

قوله عز وجل: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)

(3/1323)


قال ابن عباس: القرية الظالم أهلها: مكة.
وقال: كنت من الولدان، وإني كنت من المستضعفين فيها.
فإن قيل: ما الفرق بين المولى والنصير؟
قيل: المولى هو الذي يتولى حفظ الشيء في كل حال.
والنصير هو الذي. ينصره إذا حزبه أمر، فكان الولي
هو النصير في كل حال، والنصير هو المولى حال دون حال.
ومن هذا الوجه قال بعض المفسرين: أريد بالولي النبي وبالنصير
الملائكة، وقال بعضهم: جعل الله وليَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم -

(3/1324)


الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

ونصيرهم التابع الذي ولَّاه عليهم، ونبه بعطف المستضعفين
على أن الحماية عليهم هو المقاتلة في سبيل الله، وأنّ
نصرتهم نصرته تعالى، وعطف قوله: (الْمُسْتَضْعَفِينَ) على
الله تعالى تعظيمًا، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)، فعطف (وَالْأَرْحَامَ) على لفظ (اللَّه) تعظيمًا لأمره.

قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
المقاتل في سبيل الله يتناول المحارب بالسيف والمدافع عن الدين بالقول، والمنازع لهوى النفس ولوساوس الشيطان،

(3/1325)


وقد تقدّم أن الطاغوت عام في كل ما شغل عن الله.
والمراد به وبالشيطان واحد، ونبّه أن من قاتل في سبيل الله فهو وليّه.
ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو ولي الشيطان.
ونبه بقوله (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)
على ضعف أوليائه، ووصف كيده بالضعف إذ لا بطش له.
وإنما سلطانه بيّن باطل، ولضعفه في الحقيقة قال تعالى حاكيا عنه:
(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) الآية.
قال بعض المفسرين: وصف كيد الشيطان بالضعف عند مقاتلة
الإِنسان في سبيل الله، فكأنه قيل: إن كيد الشيطان كان ضعيفًا على

(3/1326)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)

من يقاتل في سبيل الله، وقال بعضهم: وصف كيد الشيطان
بالضعف لضعف نصرة أوليائه بالإضافة إلى نصرة الله المؤمنين.
وقال بعضهم: الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت هم الذين
ينكرون ما تدعو إليه الحُجَج.

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
رُوِيَ أن قومًا استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم -
في قتال المشركين قبل أن فرض عليهم القتال، فلم ياذن الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما فرض ذلك عليهم وهم بالمدينة
صعُب على قوم منهم ذلك،

(3/1327)


فقالوا: (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)
أي: هلَّا؟ وهذا يجوز أن يكون قد تفوَّهوا به، ويجوز أنهم اعتقدوه:
وقالوه في أنفسهم، فحكى الله تعالى عنهم تنبيهًا أنهم لما استصعبوا
ذلك دلّ على استصعابهم أنهم غير واثقين بأحوالهم ولا مقدمين
لما يعتقدونه من حسن أعمالهم، ومن نحو هذا التمنِّي
حذّر في قوله: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
قال الحسن: هذا من صفة المؤمنين وما طُبعَ

(3/1328)


أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)

عليه البشر من المخافة لا على إظهار العصيان وكراهة الحق.
وقال غيره: بل هو من صفة المنافقين، الحُرَّاص على البقاء في
الدنيا، وبيّن أنهم يخشون القتل منهم كخشية الموت من الله.
وفيه تنبيه على جبنهم، وأنهم يخشون جيشهم الذين هم أمثالهم.
وذلك نهاية الخوف، وعلى هذا دلّ الشاعر في ذمّ قومٍ وجبنهم
حيث قال:
القوم أمثالكم لهم شعرء. . . في الرأس لا يُنشرون إن قتلوا

قوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

(3/1329)


البروج: بيوت في قصور، وبها شُبِّه بروج السماء، وسُميت بها.
والمُشيَّدة المبنيّة بالشِّيد والمزينة بها، ومن قال المشيدة المطولة فنظر منه
إلى صفتها لا إلى حقيقة لفظها.
وفقهت كذا أي علمته بالتفكُّر، ومنه سمّي الفقه.
وقد حمل البروج في الآية على

(3/1330)


القصور، فيكون معناه كقول الأسود بن يعفر:
ولو كنت في غُمران يحرسُ بَابَه. . . أَرَاجيلُ أُحْبوشٌ وَأسْوَدُ ألِفُ
إذًا لأتتني حيث كنت منيتي. . . يَخُبُّ به حَادٍ لإِثري قَائف
وحمل على بروج السماء، فيكون كقول زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها. . . ولو نال أسباب السماءبسلَّم
فعلى هذا وصف البروج بالمشيّدة على طريق التشبيه، ولاعتبار

(3/1331)


ذلك فُسِّرتْ بالمطوّلة، والقصد بذلك إلى نحو ما قيل: والموت
ختم في رقاب العباد، وإلى نحو معناه قصد بقوله: (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ).
وقوله: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا).
أي لا يفهمون ما يوعظون به.
وقيل: عنى بالحديث الحادثة من صروف الزمان.
والمعنى ما لهم لا يتدبرون ما يحدث حالاً فحالاً من صروف الزمن.
كقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
وقوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) الآية.
قد طعن في ذلك قوم من الملحدة، وزعموا أن الآيتين متناقضتان.
قالوا: ويدل على تناقضهما على وهم مُوردها ونسيانه في الوقت

(3/1332)


ما قد سبق من كلامه، وإلا فأي ذي مسكة من العقل يقول:
(كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ثم يقول منكرًا على ما قال ذلك (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فيثبت ما قد نفاه.
وينقض ما قد بناه، هذا من طعن الملحدة، فأما أهل الشرع
فقد تعلق بالآية الأولى الفرقة التي لقبها المعتزلة بالجبر.
فقالوا: إن قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) عام يدل على أن الأفعال
الظاهرة من العباد هي من الله، وتأولوا قوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يقتضي أن لا ينسب فعل السيئة إلى الله تعالى
بوجهٍ، وجعلوا الحسنة والسيئة في الآية الأولى بمعنى

(3/1333)


الخصْب والجدب والفقر والغنى، فأما طعْن الملاحدة فظاهر
الوهن، وذلك أن الحسنة والسيئة من الألفاظ المشتركة:

(3/1334)


كالحيوان الذي يقع على الإِنسان والفرس والحمار، أو من
الأسماء المختلفة كالعين، ولو أن قائلًا قال: الحيوان متكلم.
والحيوان غير متكلم، وأراد بالأول الإِنسان، وبالثاني الفرس
والحمار - لم يكن مناقضًا، وكذا إذا قيل: العين في الوجه.
والعين ليست في الوجه، وأراد بالأولى الجارحة، وبالثانية عين
الميزان أو السحاب، فكذلك الآية إذا أريد بالحسنة والسيئة في
الآية الثانية غير الذي أريد بهما في الآية الأولى، وفي هذا
قناعة لإِبطال هزيل هذا المعترض، ثم إذا تُؤمِّل مورد الكلام.
وسبب نزول الآية بأن ألا تعلّق لأحد الفريقين بالآية على وجه
يثلج صدرًا أو يزيل شكًّا، وسبب نزول ذلك أن قومًا أسلموا
ذريعة إلى غنى ينالونه، وخصب يجدونه، وظفر يحصِّلونه، فكان
إذا ناب أحدهم نائبة أو فاته محبوب، أو ناله مكروه أضاف سَيئُه
إلى النبي عليه الصلاة والسلام متطيرًا به، فقال تعالى: (تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي خصب وسعة (يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ)

(3/1335)


أي جدب وفقر، لقالوا بك ونسبوها إليك.
الحسنةِ والسيئة هاهنا هما المذكورتان في قوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، وفي قوله: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ).
ونحو هذه الآية قوله في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ)،

(3/1336)


وفي قوله في صالح: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ).
إن قيل: ما الفرق بين قولك: هذا من عند الله، وهذا من الله.
حتى قال في الأول: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
وقال في الثاني: (فَمِنَ اللَّهِ)؟
قيل: قد قال بعضهم: إن قوله هذا من عند الله أعم.
فإنه قد يقال: فيما كان برضاه وبسخطه وفيما يحصل.
وقد أمر به ونهى عنه، ولا يقال: هو من الله إلا ما كان
برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر: إن أصبت فمن الله، وإن
أخطأت فمن الشيطان، ثم ذكر تعالى ما يصيب الإِنسان من
ثواب وعقاب ومحابّ ومكاره، مما في سببه صنع بشر، فقال:
(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).
وعنى بالنفس المذكورة هاهنا المذكورة في قوله: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).
ومقتضى الآية كقوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ).

(3/1337)


وكقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وعلى هذا فسَّر ابن عباس فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ): يوم بدر (فَمِنَ اللَّهِ)، (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ): يوم حنين (فَمِنْ نَفْسِكَ).
إن قيل: كيف سمَّى العقاب سيئة، ومعلوم أنه في الحقيقة ليس بسيئة؟
قيل: إن ذلك كقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)
وقد تقدم مثل ذلك.
إن قيل: إذا كان معنى الآية الثانية على

(3/1338)


ما ذكرت في أنه أريد به الثواب والعقاب فهلّا قال: ما أصابك
من حسنة وسيئة فمن نفسك، إذا كان مقتضى ثوابه وعقابه فعل
العبد؟
قيل: إنما نسب الله تعالى الحسنة إلى نفسه في الثواب.
تنبيهًا أنه سبب الخيرات، ولولاه لما حصل بوجه، فإنه يكسبه
للعبد بإرادة من الله وأمر وحثّ وتوفيقٍ، وأما السيئة وإن كانت
بإرادة من الله عند قوم فليست بأمر منه ولا حث ولا توفيق، ومع
ذلك أدّب بذكر ذلك عباده، ليراعوا فيما ينالهم نعمته عليهم.
وينسبوا الحسنات إليه، ويعلموا أنه سبب كل خيرات، وأنه لولاه
لما حصل منها شيء، وعلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام:
"ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله ".
قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تخش إلا ذنبك، ولا ترج إلا ربّك "، إن قيل: ما الفرق بين الحسن

(3/1339)


والحسنة والحسنى، والسيئ والسيئة والسوءى؟
قيل: الحسن والحسنة يقالان في الأعيان والأحداث.
ولكن الحسنة إذا استعملت اسمًا فمتعارف في الأحداث دون الأعيان.
والحسنى لا تقال إلا في الأحداث، ومتى قيل: رجل سيِّئ
فإنما يعني به المسيء.
إن قيل: كيف قوبل الحسنة بالسيئة، وحقُّها أن تقابل بما يقتضي
معنى المسرة كما قال: مساءة ومسّرة، وساءه وسّره، ولا يقال في مقابلة ساء شيء من لفظ حسن؟
قيل: الحسن لفظ عام كما تقدم، والحسنة والحسنى المقابل بهما السيئة والسُّوءى مخصوصان في الأفعال ولما كان كل
فعل حسن يسّر صاحبه، وكلّ فعل قبيح يسوء صاحبه، صار
القبح والسوء في الأفعال متلازمين فيصح أن يُقال: الحسنة بالسيئة.
إن قيل: من المخاطب في قوله: (مَا أَصَابَكَ)؟

(3/1340)


قيل: قال بعضهم: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعناه للقوم الذين يبكتهم.
وفي هذا النوع من الخطاب ضرب من التعريض، ولأجل قصد
التعريض في نحوه. قيل: إياك أعني واسمعي يا جارة.
ويدلّ على كونه خطابًا له قوله من بعده: (وَأَرْسَلْنَاكَ).
وقيل: هو خطاب لكل إنسان، وذلك نحو قول القائل:
أيها الإِنسان وكلكم ذلك الإنسان.
وقال ابن بحر: هو خطاب للفريق المذكور في قوله:
(إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ)
قال: ولما كان لفظ الفريق والحي والجند مفردًا صحَّ أن يخاطب

(3/1341)


ويخبر عنه بلفظ الواحدة تارة وبلفظ الجمع تارة، كلفظ كل ونحوه
من الألفاظ، وعلى هذا قول الشاعر:
تفرق أهلانا بُثَيْن فمنهم. . . فريق أقام واستقلَّ فريق
وكل هذا كلام في مقتضى حكم اللفظ، فأما من حيث المعنى
فالناس خاصهم وعامهم مراد بقوله: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)
إن قيل: ما وجه قوله: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا) بعد ذلك الكلام؟
قيل: لما كان قوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)
إنذازا لهم، نبه بذلك أنه قد أزاح عللهم به، وأنهم متى عصوا فلا
حجة لهم، إشارة إلى قوله: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي يشهد تعالى ما يفعله

(3/1342)


مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)

ويفعلونه، ويشهد يوم القيامة، وكفى به مشاهدًا وشاهدًا.

قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
نبّه بذلك على حجة ظاهرة في وجوب طاعة نبيه.
وبيانه أنه إذا كان طاعة الله واجبة، وطاعته لا تتم إلا بطاعته.
لأن عامة أوامره لا سبيل إلى الوقوف عليها إلا من جهته.
وما لا يتم الواجب إلا به فواجب كوجوبه، اقتضى
ذلك أن من أطاع رسول الله فقد أطاعه، فنبّه بذلك على مقابله.
وهو أن من عصى رسوله فقد عصى الله، وكالأمر بطاعة الله
ورسوله الأمر بالإِيمان بهما في نحو قوله:

(3/1343)


وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

(يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، فكذلك الأمر باستجابته في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
ثم قال: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) حثَّا على إبلاع ما ندب
إليه من المأمور به في قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وتنبيهًا أن ليس يعود عليك مضرة ما يفعلونه في أنفسهم.
المدلول عليه بقوله: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
وقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ).

قوله عز وجل: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
المعني بقوله: (وَيَقُولُونَ)

(3/1344)


الذين يخشون الناس، وقد تقدّم أِن ذلك قيل من صفة المنافقين.
وقيل من صفة الناس كافة.
والتبييت: كل فعل أو قول دُبِّر بالليل.
ولأجله قيل: دع الرأي تَبِتْ، قال الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيّتوا. . . وكانوا أتوني بأمر نُكُرْ
وقيل: اشتقاقه من بيت الشعر، أو البيت المبني، وهو الذي
سوى من القول أو الفعل تسوية بيت شَعرٍ أو بيت شِعرٍ.

(3/1345)


ونحو قوله: (بَيَّتَ طَائِفَةٌ) قوله: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ).
قال الكلبي: التبييت في لغة طيّ: التبديلُ.
ومعنى الآية أنهم يبذلون من أنفسهم الطاعة قولاً.
فإذا خرجوا من عنده عليه الصلاة والسلام دبروا أن
يفعلوا خلاف ما قالوا، (والله يكتب ما يُبتتون)، أي يعلمه
ويحفظه) فيجازيهم به،

(3/1346)


أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)

والكتابة هاهنا كالاستنساخ في قوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، ونسب ذلك إلى نفسه هنا، وإلى ملائكته في قوله: (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)، وفي قوله: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ).
وقد تقدَّم أنه تعالى قد ينسب فعل أوليائه إلى نفسه تنبيهًا على ارتضائه، وكونه آمراً نحو قوله: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ).
وقوله: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا).
وقوله: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ)، ثم أمره بالتوكل عليه، وقد تقدم أن من التوكل ملازمة أوامره والانتهاء عن نواهيه، وأن لا يرْجى ولا يخاف سواه، ونحو
قوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، قوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

قوله عز وجل: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)

(3/1347)


التدبير: النظر في دُبُر الأمور وتأملها، وقد يقال ذلك في تأمل الشيء بعد حصوله ومعرفة خيره من شره، وصلاحه من فساده، كقولك: تدبرت ما فعل فلان فوجدته سديدًا، وأصل التدبر من الدَّبر، ومنه الدّبور.
والدَّبر: المال الكثير الذي يخلفه الإِنسان ويجعله عدة: إما لنفسه
في مستأنف عمره، أو لعقبه.
إن قيل: كيف قال: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وما من كلام لعل فيه من الاختلاف ما في القرآن، فما من آية إلا وقد اختلف فيها الناس؟
قيل: لم يعن بالاختلاف ما يرجع إلى أحوال المختلفين، لاختلاف تصورهم لمعناه، أو اختلاف نظرتهم، ولا الاختلاف الذي يرجع إلى تباين الألفاظ والمعنى والإِيجاز والبسط، وإنما قصد إلى معنى التناقض، وهو إثبات ما نفى أو نفي ما أثبت، نحو أن يقال: زيد خارج، زيد ليس بخارج.
والمخبر عنه والخبر والزمان والمكان فيهما واحد.

(3/1348)


ادعت الملحدة - لعنهم الله - فيه التناقض، من نحو قوله: (لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ).
فذلك خبران قد اختلفا، إما في الزمان أو في المكان أو في
المخبر عنه، أو في الخبر، وهذا ظاهر.
وقيل: معنى قوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)
أنّ للإِنسان هاديين: الشرع والعقل.
كالأصل للشرع، فبيّن تعالى أن الذي أتاكم به من
الشرع لو كان من عند غير الله لكان مقتضى العقل يخالفه، فلمّا
لم يوجد بينه وبين العقل منافاة عُلم أنه من عند الله،

(3/1349)


فإن قيل: فقد ورد في الشرع أشياء يقتضي العقل خلافها؟
قيل: كلا، فإن جميع ما ورد به الشرع لا ينفك من وجهين.
إما شيء يحكم به العقل لكونه حسنًا، مثل استعمال إله في الجملة.
وعبادة الرّب، أو يكون غير مهتد إلى معرفته لا أنه يستقبحه، فيُبين
- الشرع حسنه، وذلك كأعداد الصلوات وهيئاتها وأركانها، في
كونها عبادة على وجه دون وجه، وإما أن يأتي الشرع بشيء قد
قضى العقل بكونه قبيحًا فليس ذلك بموجود، وبعض الناس
تصور أشياء ينفر الطبع منها لعادات جارية، أو اعتقادات فاسدة.
ولم يفرِّقوا بينه وبين حكم العقل، فظنوا أن العقل حكم بضد
الشرع، كذبح البهائم.
إن قيل: ما وجه تعلُق هذه الآية بما تقدّم؟
قيل،: لمّا ذكر فيما تقدّم أحوال الذين يتحاكمون إلى الطاغوت، ويتركون
كتاب الله ورسوله، ويقاتلون في سبيل الطاغوت، وذكر الذين
يخشون الناس ومقالهم فيما نالهم من حسنة أو سيئة.
ومخالفتهم في الطاعة، وكان كل ذلك منهم - لقلة تأمّلهم كتاب
الله، وتقديرهم أن ما أمروا به في ثاني الحال من القتال مناقض لما
أمر به قبل، من كفّ اليد وغير ذلك، بما يختلف لاختلاف
الأحوال، نبههم تعالى في هذه الآية أن كل ذلك لقلة تدبرهم،

(3/1350)


وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)

وأنهم لو تدبّروا لعلموا أن ذلك حق نزل عليهم من الله، كما
قال: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ).

قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83).
الاستنباط: استخراج الشيء من أصله، كاستنباط الماء من
البئر، والجوهر من المعدن، وذلك كالإِثارة في إخراج التراب.
واستعير للحديث، قال الشاعر:
. . . يكفيك أثرى القول واستنباطي
قال الفرّاء: يقال نبطه، قال: ومنه النبط لاستنباطهم

(3/1351)


الأرض عمارتها، والذين يستنبطونه منهم، قيل: هم أولو
الأمر الذين لهم معرفة استنباطه، فيكون ذلك حثا على ترك
من لا يعلم لمن يعلم ليستنبط هو بمعرفته، فإذا عرف عرفهم
ما يجب تعريفه، وقيل: عنى بالذين يستنبطونه الذين يبينونه.
ويكون ذلك نهيًا لهم عن الاستنباط بالتخمين والنظر، وحثًّا
على رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، وقد تقدم الكلام
آنفًا في أولي الأمر منهم، وقيل: سبب ذلك أن قومًا كانوا إذا

(3/1352)


سمعوا من أفعال المؤمنين أو الكافرين ما فيه أمن أو خوف بادروا
إلى إشاعته، قبل أن يتحققوا معناه.
قال الفرّاء في سرايا النبي عليه الصلاة والسلام: وأنه كان إذا
نفذ سرية بحث المنافقون عنها، فأشاعوا حديثها.
قال الحسن: قد كان يفعل ذلك ضعفاء المسلمين، ويقولون
أقوالاً تخمينًا، فنهوا عن ذلك، والآية تقتضي أن لا يقدم
الإِنسان على ما لا يتحقق جواز الإِقدام عليه، ولا يقول إلا عن
بصيرة، وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)
الآية، وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)، اختلف في قوله: (إِلَّا قَلِيلًا) عمّا استثنى، وذلك لاختلاف تصوُّرهم لمعنى الفضل، فالأول عن الحسن

(3/1353)


وقتادة تقديره:، يستنبطونه منهم إلا قليلًا.
الرابع: لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا منكم.
الخامس: لاتبعتم الشيطان إلا اتباعًا قليلًا.
إن قيل: كيف القول الرابع والخامس، وقد علمنا أنه لولا
فضله لاتبع الشيطان، بل ماكانوا يوحدّون، فضلًا عن
أن يضلوا، فإنا لو تصوَّرنا فضله مرتفعًا لارتفع وجود الناس.
بل وجود العالم؟
قيل: إذا جرى الفضل على العموم فهو كما يقول، ومنِ أجله تحاشى من امتنع من أن يكون ذلك استثناء من قوله (لَاتَّبَعْتُمُ) فأما إذا جعلت فضله خاصا في هذا الموضع

(3/1354)


فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)

فمعناه صحيح، وبيان ذلك أن فضل الله وإن كان لا تُحصى
تفصيلاته، فالذي به هدانا إلى البلوغ إلى ثوابه فضلان: فضل
العقل وفضل الشرع، وعنى هاهنا بالفضل الشرع دون العقل.
وبيّن أنه لولا ما أنعم به على الناس من رسوله وكتابه لما اهتدى
من خلائقه بالعقل المجرد إلا قليلٌ من الناس، والقليل الذين لم
يكونوا يتّبعون الشيطان لولا فضل الله، هم الحكماء
والأولياء، الذين تتلو منزلتهم منزلة الأنبياء عليهم السلام.
وهذا ظاهر.

قوله عز وجل: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)

(3/1355)


التنكيل: مصدر نكلت به، والنكال العقوبة التي تنكل المعاقب
وغير المعاقب عن إتيان مثله، وأصله من النكل، وهو ضرب من
القيد، ومنه نكل عن الشيء.
إن قيل: كيف قال: (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكلّف الناس؟
قيل: لم يعنِ التكليف الاستدعاء الذي رشح له، ألا ترى أنه قال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية تقتضي أن على الإنسان أن لا يني في نصرة الحق وإن تفرد، يعد أن لا يني في فعله.
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: "لو خالفتني يميني جاهدتها بشمالي" وتلا هذه الآية.
وقال بعض الحكماء: من

(3/1356)


طلب رفيقًا في سلوك طريق الحق فلقِلة يقينه، وسوء معرفته.
فالمحقق للسعادة والعارف بالطريق إليها لا يفرح على رفيق ولا
يبالي بطولِ طريق، فمن خطب الحسناء لم يغلها مهر.
والفاء في قوله: (فَقَاتِلْ) قال الزجاج: هو جواب لقوله: (وَمَن
يُقتل)، ووجه ذلك أنه محمول على المعنى كأنه قال: إن
أردت الفوز بذلك فقاتل، وقال بعضهم: هو متصل بقوله:
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
وقوله: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
أي كن راجيا في دفع أذاهم،

(3/1357)


مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)

وقول المفسرين: عسى من الله واجب، أي الكريم إذا رُجِي
حقّق، وقوله: (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا)
تنبيه أنك لا تحتاج أن تقصر عن قتالهم، فالله معك، وهو أشد بأسًا
من عداك، فلا يجب أن يَنكادك من تاخر عنك.

قوله عز وجل: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
الشفاعة: من الشفع أي ضم الشيء إلى غيره.
وضد قولهم شفعه: أفرده، ولهذا قال الشاعر:
ومن يفرد الإِخوان فيما ينوبهم. . . تصبه الليالي مرة وهو مفرد

(3/1358)


والشفعة متعارفة في ضم ملك بِيعَ إلى ملكك، والشفاعة في
انضمام إنسان إلى آخر فيما يطلبه، والشفاعة المذكورة.
في نحو قوله: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) هي في الآخرة معروفة
وأما في الدنيا فبأن يهدي الإِنسان غيره، فمن هدى غيره إلى
طريق خير فقد شفع له.
وأصل الكِفل الكَفل، فجعل اسمًا لمركبٍ من خِرَقٍ
وكساءٍ يوضع على الكِفْل، وقد يسمَّى ما يُكْسى العضو
باسمه، كقولهم: يد القميص وبدنُه، ورجل السراويل، والساقُ
والساعدُ لما يُلْبِسُ هذين العضوين، ثم استعير الكفل تارة

(3/1359)


إن نبا ركوبه تشبيها بذلك المركب. قال الشاعر:
غير مِيلٍ ولاعواوين في الهَيـ. . . جا ولا عُزَّل ولا أكْفَالِ
ثم سُمي الفاجر في أي أمر كان كفلا، ولما كان ذلك الكفل
يجعل على قدر الكفل تصور فيه المماثلة، فقيل للمثل في العدد كفل.
فإن قيل: فلم فرق بينهما فقال في الحسنة: (نَصِيبٌ)، وفي السيئة (كِفلٌ)؟
قيل: يجوز أنه لما كان النصيب يقال فيما

(3/1360)


يقل ويكثر، والكفل لا يقال إلا في المثل جاء في السيئة بلفظ
الكفل تنبيهًا على معنى المماثلة، وإشارة إلى ما قال: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا).
وقد قيل: الكفل المذكور هاهنا أكثر ما يقال في الشيء الرديء، فنبّه بلفظه على ذلك تنبيهًا على قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا).
فإن قيل: فقد قال (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، وليس ذلك بمذموم؟
قيل: إنه عنى بالكفلين هاهنا أي له كفيلان من رحمته يتكفلان به من العذاب،

(3/1361)


فيضَارع اللفظان، والمعنيان مختلفان، ولما حث الله تعالى في الآية
المتقدمة على تكلُّف ما أمر وتحريض المؤمنين، ورجاء الظفر
بالكفار، بين هاهنا أن من أعان غيره في فعل حسن فله نصيب في
ثوابه، وإن أعانه في فعل سيئ فله كفل منه، وذلك عبارة عمّا
بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
"من سنَّ سُنَّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها" الخبر.
وقال بعضهم: القصد بذلك أن من يدعو لغيره دعاءً حسنًا
فله فيه نصيب، ومن فعل بخلاف ذلك فكذلك.
قال: والسبب في هذا أن اليهود والمنافقين كانوا إذا دخلوا
على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: السام عليكم، يوهمون أنهم يقولون:

(3/1362)


السلام عليكم، فأنزل الله ذلك، واستدل قائل هذا بقوله تعالى
بعد ذلك: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا).
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا)
قال السدي: المقيت: المقتدر، وأنشد الكسائي فيه:

(3/1363)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكنت على مساءته مقيتا
وقال ابن عباس: الحفيظ، وقوّاه الرجّاج.
وقال مجاهد: الشهيد، ورُوِيَ عنه: الحسيب،

(3/1364)


وقال الضحاك: الرازق.
وقال غيرهم: المجازي، وحقيقته الذي يجعل للإِنسان قوتًا.
وفي الحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت "
- ويقيت - كأن الله تعالى يجعل لكل إنسان قوتا من
الجزاء بقدر فعله، ويجعل له في الدنيا والآخرة قدر ما يستوجبه.
وما قالوه فصحيح من حيث المقصد، لأن ما قدّره الله
تعالى للعبد فقد حفظه وشهده.
ورُوِيَ أن رجلًا سأل عبد الله بن رواحة عن المقيت؟
فقال: يقيت كل إنسان بقدر علمه.

(3/1365)


وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

كأنه إشارة إلى ما قال عليه الصلاة والسلام:
"إن الله يحاسب عباده بقدر عقولهم ".

قوله عز وجل: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
التحية: من قولهم حيَّا الله فلانًا، أي جعل له حياة، وذلك
إخبار، ثم يُجعل دعاء، ثم يقال: وحيَّا فلان فلانًا إذا قال له
ذلك، وحكم به، كما يقال: أضللت فلانًا وأرشدته إذا
حكمت له بذلك، وأصل التحية من الحياة، ثم يقال لكل دعاء
تحية، لكون جميعه غير خارج عن كونه حياة، أو سبب حياة.
إما دنيوية وإما أخروية.
إن قيل: علي أي وجه

(3/1366)


جعل قولهم: السلام تحية الملتقين؟
قيل: السلام والسِّلم واحد، بدلالة قوله: (فَقَالُوْا سَلَامًا قَالَ سِلْم) (1)
ولما كان الملتقيان من الأجانب قد حذر أحدهما الآخر استعملوا هذه
اللفظة تنبيهًا من المخاطب، أي بذلت لك ذلك وطلبته منك.
ونبه المجيب إذا قال: وعليك السلام. على نحو ذلك، ثم صار
ذلك مستعملًا في الأجانب والأقارب والأعادي والأحباب، تنبيهًا
أني أسأل الله ذلك لك، وأكثر المفسرين حملوا الآية على التحية
المجردة، فقالوا معناه: من حيّاكم بتحية فحيوا بأحسن منها أو
ردّوها أي قابلوه بمثلها، قالوا: ورد ذلك أنه متى قال قائل:
السلام عليكم، فإنه يقول: وعليكم السلام، أو يقول:
وعليكم، فهذا هو ردُّه، ويدلّ أنه إذا قال: وعليكم. فقد رد، أن
رجلًا دخل على عمر فقال: السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته، فقال عمر: وعليكم، فظن الرجل أنه لم يسمع عمر.
__________
(1) هي قراءة حمزة والكسائي.

(3/1367)


فأعاد عليه، فأعاد عمر مثل ما قال، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين
ألا ترد عليَّ كما أقول؟
قال: أو لم أفعل؟ وأما أحسن منها فأن يقول له أكثر من ذلك ما لم يستوف المسلِّم ألفاظ التحية، وذلك أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليكم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"عليكم السلام ورحمة الله ".
ثم أتى آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ".
فجاء ثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم ".
فقيل له في ذلك، فقال: "إن الأول والثاني أتيا من التحية شيئًا فرددت عليهما بأحسن مما سلَّما، والثالث حيّاني بالتحية كلِّها فرددت عليه مثلها".
ومن المفسرين من قال له: إن من حيّاكم ببعض التحية

(3/1368)


فحيوا بها تامَّة، ومن حياكم بالتحية تامة فردّوا مثلها، ومنهم
من قال: بل خُير كلهم بين الأمرين، وقال قتادة: بأحسن منها
للمسلمين، وبمثلها أهل الكتاب، وهو أن يقال: وعليكم.
وقال ابن عباس: من سلَّم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن
كان مجوسيا.
ومن المفسرين من حمل ذلك على الهدايا واللطف،

(3/1369)


وقال: حقّ من تولى شيئًا أن يولِّي مثله وأحسن منه.
ومنهم من قال: السلام هاهنا السِّلْم، وهو أصله، قال: وهذا أمر منه
أن من بذل لكم السلم من الكفار بأن يروم الدخول في الشرع.
فابذلوا له، كقوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا).
قال: وأمر بأن يرد على باذِلها مثلها أو أكثر منها.
قال: ومثله أن يبذل له الأمان مما خافه، وأكثر منه أن يبين أن له ما لهم، وعليه ما عليهم من النصرة والموالاة، وذلك مما قد بيّنه في قوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
قال: وذلك هو الذي بسطه من بعد في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا).

(3/1370)


وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) أي يحاسبكم
على كل شيء قلَّ أو كثر، فلا تتغافلوا عن صغيرة وكبيرة.
وقول عطاء: حفيظًا، وقول ابن جبير: شهيدًا فإشارة إلى
هذا المعنى، وقيل: (حَسِيبًا) أي كافيًا، من قولهم:
أحسبني هذا الشيء - أي كفاني - حتى قلت حسبي.
ومن قال ذلك جعله من باب: الداعي السميع. أي المسمع،

(3/1371)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

وفيه (عَطَاءً حِسَابًا) أي كافيًا، والمعنى أن الله يعطي كل
شيء من المعرفة والحفظ والرزق ما يكفيه إذ هو حافظه.

قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
سمّى يوم القيامة لقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا).
إن قيل: ما وجه هذه بعد تلك الآية؟
قيل: لمّا أمر المسلمين أن يقبلوا من بذل لهم السلام.
بيّن لهم بهذه الآية أن ذلك حكم للظاهر.
فأما السرائر فإن الله يتولاها يوم القيامة.
تنبيهًا أن الله لا يحب المنافق أن يغتر بهذا.
بل يتحقق أن الله له بالمرصاد.
إن قيل: كيف قاله: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)

(3/1372)


فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)

وما كان صدقًا من الحديث لا يتضارب، فيكون من بعض
قائليه أكثر صدقا من قائل آخر؟
قيل: إن الصدق من صفة القائل لا من القول.
والقائلون إذا اعتبروا بأقوالهم فمنهم من يكون
صدقه في أحاديثه أكثر، فكأنه قيل إذا اعتبر الصادقون في أقوالهم
فليس فيهم أكثر صدقًا من الله، فإنه لا يقع في خبره كذب بوجه.

قوله عز وجل: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
الرَّكسُ والنَّكْسُ: الرَّذلُ، والركس أبلغ، لأن النكس ما جعل
أسفله أعلاه، والركس أصله ما جعل رجيعا بعد أن كان

(3/1373)


طعاما فهو كالرجس، وقد وصف أعمالهم به، كما قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).
ويقال: ركسه وأركسه، وأركس أبلغ، كما أنَّ أسقاه أبلغ من قولهم سقاه.
إن قيل: كيف قال: (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) فنفى نفيًا مطلقًا، وقد أثبت للكفار سبيلا؟ فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ).
وقال: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)؟
قيل: اسم الجنس إذا أطلق فليس يتناول إلا الصحيح.
ولهذا يقال: لا صلاة إلا بكذا.
وقالوا: فلان ليس برجل. لما كان أخلاق الرجل تتناول للكامل.
فلذلك لا يعد قائل ذلك كاذبًا.
واختلُف في سبب نزول هذه الآية على

(3/1374)


أوجه: الأول: قال زيد: هي في الذين تخلَّفوا يوم أحد.
وقالوا: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ).
الثاني: قال الحسن ومجاهد: هي في قوم قدموا المدينة وأظهروا الإِسلام.
ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك.
الثالث: قال ابن عباس وقتادة: في

(3/1375)


قوم أسلموا بمكة، ثم أعانوا المشركين على المسلمين.
الرابع، قال السدي: في قوم بالمدينة أرادوا الخروج منها.
الخامس: قال ابن زيد: في قوم من أهل الإِفك، وما بعده نزل أنه
في شأن الهجرة، وجملة الأمر أن الناس كانوا اختلفوا في فئة
من المنافقين فئتين، أمَّنهم بعضهم ووالاهم بعضهم، فقال
تعالى: ما لكم قد صرتم فئتين مختلفتين فيهم، وقد خذلهم
الله، فبيّن أن لا سبيل لهم بعد أن أضلهم الله، كقوله
تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
وقوله: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)،

(3/1376)


قال الحسن: معناه: أتريدون أن تجعلوا لأهل الضلال ما جعله الله
لأهل الهدى.
وقيل: أتريدودن أن تسموهم مهتدين، وقد سمّاهم الله ضالين.
وقيل: أتريدون أن تهدوهم كرهًا وقد جعلهم الله بما اكتسبوه حالاً فحالاً ضالين، وذلك إشارة إلى نحو قوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وقوله: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ)، وقوله: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)
فقد تقدّم أن الله تعالى لما أجرى العادة أن من
تحرى الخير حالاً فحالاً ازداد هداية بسبب ذلك نفسه، إذ كان
فاعل أسباب الشيء قد يقال إنه فاعل للشيء، فإنه هو
أولى بأن يُسمّى فاعلًا، وقد تقدّم الكلام في الهداية والضلال
بما فيه الكفاية.
وانتصاب قوله: (فِئَتَيْنِ) على

(3/1377)


وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)

الحال عند البصريين، وعلى تقدير (كانوا) عند الكوفيين.
وعلى هذا القولين قولهم: مالك خارجًا؟.

قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
الهجرة: ترك الشيء والإعراض عنه مكانًا أو خليطًا، وسُمِّي
القبيح من الكلام هُجْرًا لكونه مقتضيًا لهجره، والرفث
هَاجِرَةً لكونه حاملًا على أن يهجره، وسُمّي المهاجر لتركه
وطنه، وصار اسم مدح في الإِسلام، وسُمّي من رفض فضولات
شهواته مهاجرًا، عنى تعالى أن الذين تقدّم ذكرهم ممن بقوا
بمكة وادعوا الإِسلام أنهم كفار، ويريدون لكم الكفر الذي هم

(3/1378)


عليه، ومن أراد لكم الكفر فمحال موالاتهم، فلا تتخذوهم
أولياء حتى يسلموا، ويحققوا إسلامهم بالهجرة، ثم قال:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن كشفوا الغطاء فقط صاروا مرتدين، (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، ولا تكونن بينكم وبيتهم موالاة ونصر بوجه.
إن قيل: فما قائدة قوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) بعد أن قال: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ)؟
قيل: قد قال بعضهم ذلك على التوكيد، والصحيح أن الذين دخلوا في
الإِسلام من الأعراب فرقتان، فرقة هاجروا وفرقة أقاموا.
وبيّن الله تعالى أن من أقام ولم يهاجر فلا ولاء له، إلا أن يستنصروكم
على قومهم فتنصرونهم، وذلك في قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) فمنع تعالى عن موالاتهم بقوله:
(فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ) كما منع بتلك الآية، ولم يمنعهم من
نصرتهم، ثم بيّن أنهم إن تولوا، أي ارتدوا عما أظهروه من

(3/1379)


الإِسلام، وكشفوا الغطاء بالكفر، فلا يجوز أن توالوهم، ولا أن
تنصروهم بوجه.
قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
الحصر: حبس في ضيق، وعبّر عن البخل والجبن لانحصار النفس.
وكذلك عبر عنهما بضيق الصدر وعن ضدهما بسعة الصدر.
وبالبر المشتق عن البر أي السعة، والحصور الممنوع
عن الجماع بحبس شهوته، وعن الشراب بحبس ماله لبخله.
وفي اتصال هذه الآية بما قبلها وحكمتها صعوبة، ووجه ذلك

(3/1380)


أنه لما أمر تعالى الناس فيما تقدم بالهجرة، ونهى عن موالاة من
تأخر، استثنى بهذه الآية من يحصل له إحدى حالتين؛ إما أن
يصلوا إلى قوم بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -
عهد لتعذر لحوقهم به، فيقيموا إلى وقت الإِمكان به؛ وإما أن يهاجروا ويأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين
فتحصر صدورهم أن يقاتلوا المسلمين لعلمهم بكونهم على الحق.
وأن يقاتلوا قومهم لكونهم غير آمنين على مالهم وذويهم، فهذا
معنى قوله: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ).
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) إظهار من الله تعالى لنعمته
على المسلمين وأنه لو لم يهدهم لكانوا في جملة المتسلطين عليكم.
ثم بيّن أنهم إذ قد اعتزلوا وأظهروا الإِسلام فاتركوهم؛ فهذا
على ما ذكر هذا القائل هم الذين أسلموا ولم يستحكم إيمانهم،

(3/1381)


ولم يبلغوا الحدَّ الذي لا يحرجون في نصرة الدين إلى أهلٍ.
وقال قتادة - وقد رُوِيَ عن ابن عباس: - أن قوله:
(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ) هو في قوم من الكفار
اعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة فلم يكونوا من الكافرين.
ولا مع المسلمين، قال: وهذا معنى (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)
قال: ثم نسخ ذلك بآية القتال، والقول الأول أظهر وأحسن.
وقوله: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) في موضع الحال عند الفرّاء.
قال: وتقديره قد حصرت صدورهم، وتقوَّى ذلك بقراءة الحسن
(أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ)، وقال بعضهم:

(3/1382)


هو خبر بعد خبر، كأنه قيل: أو حصرت صدورهم.
وقال الجرجاني في كتاب النظم: تقديره: وإن (جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فحذف إن.
قال: والفعل الماضي يقع في الشرط موقع المستقبل.
وفيما ادعاه إضمار إن عُهدة، فما أرى أهل اللغة يطابقونه عليه.
وقال المبرد: هو دعاء عليهم، وردّ

(3/1383)


ذلك أبو علي الفسوي، وقال: قد أُمرنا أن نقول:
"اللهم أوقع بين الكفار العداوة والبغضاء".
فلا يجوز أن يُحمل على الدعاء، فيكون في قوله: (أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ)
نفي ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم.
وهذا القول من المبرد، ومن الرادِّ عليه مبني على أن الآية في الكفار على ما تقدّم من القول الثاني فيه.
ولقائل أن يقول: كما يجوز أن يُدعى عليهم بإيقاع العداوة.
يجوز أن يدعى عليهم بأن يجعلهم الله حيث لا يقاتلون أعداءهم
ولا قومهم، ويكون ذلك سؤالاً لموتهم، ويدلك على جواز
ذلك أنه لو جمع بين المقاتلين لم يمتنع، فكأن يقال: أوقع بينهم
العداوة والبغضاء، وأوهن كيدهم، واجعلهم بحيث لا يقاتلون
المسلمين ولا بعضهم بعضا، على أن قوله (قَوْمَهُمْ) قد يُعبّر به
عمن ليس منهم، بل هم من معاديهم كقولك: فلان صاحبك
وهم قومك، أي المناصبون لك.

(3/1384)