تفسير الراغب
الأصفهاني سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ
مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
قوله تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ
مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الركس والرجسُ يتقاربان، لكن الرجس الحس.
وقيل: ركسه وركزه بمعنى؛ إلا أن الركس يقال في مكروه.
وقيل: الفتنة هاهنا الكفر، وقيل: الاختبار، والسلطان: الحجة
(3/1385)
والبطش، وقد تقدّم حقيقته.
والآية قيل: نزلت في نعيم بن مسعود، وكان ينقل حديث النبي -
صلى الله عليه وسلم - إلى كفار مكة.
وقال ابن عباس: نزلت في قبيلتي أسد وغطفان)،
(3/1386)
وقال قتادة: في حيٍّ من تهامة، وجملة الأمر
أنه لمّا ذكر فيما تقدم من له
عذر بأحد الأمرين اللذين ذكرهما، ذكر هاهنا فرقة لا عذر لهم
كانوا يظهرون الإِسلام ثم يرجعون إلى عبادة اِلأصنام، كمن
ذكرهم في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا
آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ)، فذكر (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ)، ويطلبوا
(3/1387)
وَمَا كَانَ
لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
بدخولهم الإِسلام، ويكُفوا أيديهم عنكم،
فقد أُبيح لكم
قتلهم، وقد جعل الله لكم عليهم حجة بما بينه.
وقوله: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) أي إذا ردوا إلى
الكفر عادوا إليه فتنجّسوا به.
وقيل: إذا رُدّوا إلى الاختبار أي الإِسلام وجدوا يركسون
فيها، ويكون قوله: (أُرْكِسُوا) وجدوا كقولهم: أُحمدُوا
وأُذِمُّوأ، وقيل: الفتنة الاختبار إنما أريد به ما قصد بقوله:
(الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).
ومعناه أنه إذا نالتهم محنة ارتدوا، كما قال تعالى: (وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ
عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) الآية.
قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا
إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
(3/1388)
إن قيل: هل يجوز أن يقتل المؤمن خطأ حتى
قال:
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا
خَطَأً)؟
قيل: إن قولك يجوز أو لا يجوز. إنما يقال في الأفعال
الاختيارية المقصودة، فأما الخطأ فلا يقال فيه ذلك.
وقولك: ما كان لك أن تفعل كذا، وقولك: ما كنت لتفعل كذا
متقاربان، وهما تعليلان بمعنى، وإن كان أكثر ما يقال للأول لما
كان الإِحجام عنه من قبل نفسه، ويدلّ على أنه قد يقال: ما كان
لك أن تفعل كذا - لمِا ذكرنا - قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ)، لأن معناه: ما كان لله ليتخذ ولدا
في أنه لا نهي، وعلى هذا قوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ
تُنْبِتُوا شَجَرَهَا).
(3/1389)
فقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ
يَقْتُلَ مُؤْمِنًا) أي ما كان المؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ،
وهذا ظاهر، وهذا المعنى أراد من قال معناه: ما ينبغي للمؤمن أن
يقتل مؤمنًا متعمدًا، ولكن يقع ذلك منه خطأ.
وكذا من قال: ليس في حكم الله أن يقتل المؤمن مؤمنا إلا خطأ.
وقال الأصم: معناه ليس القتل لمؤمنٍ بمتروك لا يقتص له إلا
أن يكون قتله خطأ، وهذا يرجع إلى الأول.
وقول بعض النحويين: إن هذا استثناء خارج فليس على التقدير الذي
ذكرناه، كذلك، بل هو واجب، وذكر على بن موسى القمّي
(3/1390)
أن معنى ذلك: ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنًا
إلا أن يراه في دار
الحرب، فيظنه كافرا فيقتله خطأ، فيكون الخطأ راجعًا إلى القاتل
في كونه غير عالٍم بحال المقتول، وأما من قال: معنى (إِلَّا
خَطَأً) ولا خطأ، واستدلاله بقول الشاعر:
وكلّ أخ مفارقه أخوه. . . لعَمْرُ أبيك إلا الفَرْقَدانِ
أي: ولا الفرقدان، فذلك تشبيه فيه ما أرى أن محققي
(3/1391)
النحويين يوافقونه.
وقيل: الخطأ في الأصل على وجوه، منها:
أن يقع بلا قصد من القاتل إلى القتل، ولا إلى الإِتيان به
بوجه.
كمن سقط من يده شيء فأصاب نفسه فقتله، ومنها أن يقصد
ْإصابة الشيء غير المقتول، فاتفق إصابته فقتله، كمن يرمي صيدًا
فأصاب إنسانًا فقتله، أو يقصده ولكن لا بسلاح يقتل مثله، أو
يقصده بسلاح لكن لا يريد قتله، أو يقصده بسلاح ويريد قتله
لكن لا يعلمه محظور القتل، كمن يرمي مسلمًا في صف المشركين.
أو يقصده بسلاح ويريد قتله لا في دار الحرب، لكن القاصد غير
مكلف كالصبي والمجنون، وكل ذلك يقال له: قتل الخطأ، لكن
لذلك تعارف في الشرع هو المُراعى، وقد وبيّن ذلك في كتب الفقه.
والرقبة المؤمنة: أن يكون مولودًا في دار الإِسلام صغيرًا كان
أو
(3/1392)
كبيرًا، أو سباه من دار الحرب مسلم قبل
البلوغ، أو أسلم بعد
البلوغ، وهذا الإِيمان هو الإِسلام، دون كمال الإِيمان
المتقدّم
ذكره في غير هذا الموضع.
قال الحسن: ما في القرآن مؤمنة فلا يجزئ إلا من صام وصلى وحسن
إسلامه، وما عدا ذلك فيجزئ فيه الصغير والكبير.
وقال إبراهيم: لا يجزئ في ذلك إلا البالغ.
وقدر الدية مختلف فيه والمفزع فيه إلى السنة.
وظاهر الآية يقتضي شيئًا مقدرًا.
والتتابع في صيام الشهرين مشروط، والظاهر
(3/1393)
أن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يبطل
التتابع كالحيض والمرض
الطارئ والإِغماء، وأما مصادفة الأيام التي حُظر فيها الصوم
كيوم العيد، وأيام التشريق، والإِفطار في السفر، أو الشهر الذي
يستحق صومه بالشرع كشهر رمضان، فإن ذلك يقطع التتابع.
ويوجب الاستئناف، وحكي عن مسروق أن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ) عنى من لم يجد الدية والرقبة، وسائر أهل
العلم بخلافه.
فالدية حق الآدميين، والكفارة حق
(3/1394)
الله، فلا تنوب إحداهما عن الأخرى.
وقال الأصمّ: ظاهر الكتاب يدل على أن الدية تلزم القاتل.
لأنه قال: (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) فعطفها على
الكفارة.
ومعناه: عليه ذلك.
وإنما بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن دية الخطأ تتحمل
العاقلة عن
القاتل على سبيل المواساة، لا أنه نسخ الكتاب بالسنة.
وقوله: (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي: يعفوا عن الدية، فجعل
العفو
عنها صدقة منهم، تنبيهًا على فضيلة العفو وحثا عليه، وأنه جار
مجرى الصدقة في استحقاق الثواب الآجل به دون طلب العوض
(3/1395)
العاجل، وهذا حكم من قُتل في دار الإِسلام
خطأ.
وقوله:
(فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي
من أهل
الحرب في الدار والمعركة، وفي فقد التمييز لا في معنى القرابة.
ولا فرق بين أن يكون مسلمًا دخل دار الحرب، أو أسلم هناك ولم
يهاجر.
وقيل: قد دخل في ذلك من أسلم في دار الإِسلام من
المشركين ولم يعلم القاتل به.
وخبر الحارث يدلّ على ذلك، لأنه قتل بالمدينة وقد كان أسلم.
وقيل: إنما أسقط الدية فيه إذا كان أولياؤه كفارًا وهو مؤمن.
فإن ديته راجعة إلى المؤمنين
(3/1396)
فلا معنى لإِلزامهم.
وقوله: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ)
أي كان المقتول خطأ من قوم كذلك.
واختلفوا هل الإِيمان شرط فيه؟
فقال الحسن ومالك: هو شرط، تقديره: إن كان المقتول خطأ مؤمنًا.
قال مالك: ولا كفارة في قتل الذمي.
ومنهم من قال: الآية واردة فيمن
(3/1397)
كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم
- عهد فْاسلم.
ثم قتله مسلم من غير حرب، قالوا: وكان هذا في زمن الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، فأما بعد فقد أمروا بقتالهم.
ومنهم من قال: عنى بالميثاق الذمة إما بالعهد أو الاستئمان.
والظاهر أن كل قَتْل في عهد جائز بين المسلمين ففيه الدية
والكفارة.
وتعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه لما ذكر فيما قبلها حُكم من
أسلم فمنعه عذر من مقابلة أعداء المسلمين، وحُكم من لم يسلم،
وإنما يريد أن يَسْلَمَ على
(3/1398)
وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا (93)
الفريقين، فأمر في الأولى بالتجافي وفي
الثانية بقتلهم، بيّن هاهنا
خطر قتل المؤمنين، وجعلهم صنفين: مقتولاً خطأ، ومقتولاً
عمدًا. فبيّن حكم الخطأ وجعل المقتولين ثلاثة أصناف على ما
فسرناه، ثم بيّن حكم قتل العمد، فقال تعالى:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
العمد: فعل الشيء عن إرادة واختيار، ويضاده الخطأ.
وصفة قتل العمد أن يقصده بحديدة أو حجر يقتل غالبًا، أو توبع
عليه بخنق أو بسوط فتوالى عليه حتى يموت.
والآية قيل نزلت في رجل فقده الكفار، وذاك أنه خرج في سرية
فنزلوا ماء، فخرج من أصحابه عليه السلام رجل فحمل عليه فقتله.
وقيل: هي في رجل رآه أخوه مقتولاً في بني النجار،
(3/1399)
فشكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
فأمر أن تُدفع إليه الدية فدفعت
إليه، ثم حَمَل على مسلم فقتله فهرب إلى مكة، ولا خلاف بين
عامة المسلمين أن التائب يخرج من هذا الحكم، وقد روي عن
(3/1400)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا جاء
فقال: هل للقاتل توبة؟
فقال: "نعم ".
ثم جاءه آخر فسأله عن ذلك، فقال: "لا توبة له "، فراجعه بعض
أصحابه في ذلك، فقال: "إن الأول كان قد قتل فكرهت أن
أؤيسه من رحمة الله، فيتملّكه الشيطان فيهلكه، وأما الثاني
فرأيته
عازمًا على قتل رجل اعتمادًا على أن يتوب من بعد، فكرهت أن
يمني عزيمته ".
وأهل الوعيد يجرون الآية على العموم، ويخصصون به قوله: (إِنَّ
اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
ومخالفوهم يخصصون قوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا) بقوله:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية،
ويجرون تلك على العموم.
والمفزع لمن يريد تحقيق ذلك إلى غير الآيتين، والله أعلم.
(3/1401)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(94)
وقد تقدّم أن القصد بغضبه تعالى إلى إنزال
عقابه.
دون تغيّر حال يعتري ذاته تعالى الله عن التغيّرات.
ولعنته في الدنيا: إبعاده من لَعَنَهُ عن الصفات النفيسة التي
يتخصص به أولياؤه، وفي الآخرة عقابه وتبعيده عن ثوابه.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ
مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قرئت: (تثبتوا) و (تبينوا)، وقيل: التبيُّن أبلغ؛ لأنه قل ما
يكون إلا بعد التثبُّت، وقد يكون التثبُّت
(3/1402)
ولا تبين، وقد قُوبل بالعجلة في قولهم:
التبيُّن من الله، والعجلة
من الشيطان فتبينوا، وقُرِئ (السَّلَم) و (السلام).
والسلام قيل: التحية، وقيل: الاستسلام.
والسَّلَم والسِّلْم: الصلح.
وقيل: هو بمعنى الإِسلام، ويقال للصلح: السلم، فلا يكون مرادًا
هاهنا، لأن المسلم مخيّر إذا طلب الكافر منه السلم بين أن
يبذله له، وبين أن يمنعه، ورُوِيَ أنه خرج مقداد في سريته فمر
برجل في غُنَيِمات، فقال: إني مسلم.
(3/1403)
فلم يلتفت إلى قوله، فقتله وأخذ غنيماته،
فلما رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكره، فقال:
"هلَّا شققت عن قلبه ".
والآية تدل على أن المجتهد في مسائل الاجتهاد معذور، ولولا ذلك
لما قارَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(3/1404)
لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ
الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
وقرأ أبو جعفر: (لست مَأْمنًا) أي مبذولاً
له الأمان.
قوله عز وجل: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ
اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى
الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً
وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
الدرجة معروفة، ومنها أدرجت الكتاب: طويته طيًّا
يشبه الإِدراج، و (غير) يوصف به النكرة، وما فيه الألف
واللام إذا دلّ على الجنس، وقد يُستثنى
(3/1405)
به، فإذا قُرِئ منصوبًا فعلى الاستثناء أو
على الحال، وإذا
جُرّ فصفة للمؤمنين، وإذا رُفع فصفة للقاعدين.
والضرر: اسم عام لكل ما يضر بالإِنسان في بدنه ونفسه.
وعلى سبيل الكفاية عبّر عن الأعمى بالضرير.
فإن قيل: كيف يصحُّ حمله على الأمراض "النفسية.
وقد قال في ذم الكفار: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)؟
قيل: إن الذي عذرهم الله تعالى فيه هو ما لم يكن الإِنسان نفسه
سببه.
وما ذموا به فهو المرض، أي الجهل الذي يكون هو سبب استجلابه من
ترك إصغائه إلى
(3/1406)
الحق، وإهمال نفسه من العادات الجميلة.
ولذلك قال ابن عباس أولي الضرر: هم أهل العذر، فعمَّم.
وقد ذكر عامة ما أجمله هاهنا في قوله: (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ) الآية.
إن قيل: لم كرر الفضل وأوجب في الأول درجة، وفي الثاني درجات.
وقيدها بقوله: (منهُ)، وجعل معها المغفرة والرحمة؟
قيل: في ذلك أجوبة: الأول:
أنه عنى بالدرجة ما يؤتيه في الدنيا من الغنيمة، ومن السرور
بالظفر وجميل الذكر، وبالثاني ما يخولهم في الآخرة، ونبه
بإفراد الأول، وجمع الثاتي أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة
يسير.
والثاني: أن المجاهدين في ثواب الدنيا يتساوون فيما يتناولونه،
كمن يأخذ سلب مقتوله، وكتساوي نصيب كل واحد من الفرسان، ونصيب
كل واحد من الرجالة، وهم في الآخرة يتفاوتون بحسب إيمانهم،
فلهم درجات
حسب استحقاقه، ومنهم من يكون له الغفران، ومنهم من تكون له
(3/1407)
الرحمة فقط، وكأن الرحمة أدنى المنازل،
والمغفرة فوق الرحمة، ثم بعده
الدرجات على الطبقات، وعلى هذا نبه بقو له: (هُمْ دَرَجَاتٌ
عِنْدَ اللَّهِ).
ومنازل الآخرة تتفاوت، وقد نبّه على ذلك بنحو قوله:
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) إلى قوله: (انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ). والثالث: أن الجهاد
جهادان: صغير وكبير.
فالصغير مجاهدة الكفار، والكبير مجاهدة النفس، وعلى ذلك دلّ
قوله عليه الصلاة والسلام: "رجعنا من جهاد الأصغر إلى جهاد
الأكبر ".
وبقوله: "جهادك هواك".
(3/1408)
وإنما كان مجاهدة النفس أعظم، لأن من جاهد
نفسه فقد جاهد الدنيا، ومن غلب الدنيا هان عليه مجاهدة العدى.
فخص بمجاهدة النفس بالدرجات تعظيمًا لها.
والرابع: أن الأول عنى به الجهاد بالمال، والثاني الجهاد
بالنفس.
إن قيل: لِمَ ذكر مع الدرجات المغفرة والرحمة معًا؟ وما الفرق
بينهما؟
قيل: إن المغفرة تُقال اعتبارًا بإزالة الذنوب، والرحمة تقال
اعتبارًا بإيجاب التوبة، وإدخال الجنة،
(3/1409)
والدرجات هي: المنازل الرفيعة بعد إدخال
الجنة.
وقيل: إن الرحمة هي: أن يتوب عليه أمن، الذنب وإن كان بعد
تبكيت
وعقاب، والمغفرة هي: أن يستر ذنوبه فلا تبكيت به.
والدرجات: هو أن يجعل لكل واحد درجة بقدر ما يليق به.
وهي المعبرة عنها بالغرفات، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء
والأرض.
أعدّ الله أعلاها للمجاهدين في سبيله "، فقال رجل: ما الدرجة؟
فقال عليه الصلاة والسلام: "أما إنها ليست بعتبة".
__________
(1) تمام الحديث: أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين
مائة عام.
(النسائي. 6/ 27) كتاب الجهاد، باب ثواب من رمى بسهم في سبيل
الله.
(3/1410)
إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(97)
إن قيل: كيف قال: (وكلًّا وعد الله الحسنى)
والكفار من جملة الكل؟
قيل: إن كلًّا هاهنا لم تتناول إلا من تقدّم ذكره من المؤمنين
والمجاهدين
والقاعدين.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ
سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
(تَوَفَّاهُمُ) قيل: هو ماض، وقيل: تقديره تتوفاهم الملائكة.
وذلك في وصف قوم أظهروا الإِسلام ولم يهاجروا.
بل كثروا سواد المشركين يوم بدر فقتلوا،
(3/1411)
فادعوا لما سألهم الملائكة الذين توفُوهم
أنهم كانوا مستضعفين.
فكذبهم الله، وقيل: هم الذين نهى عن موالاتهم بقوله:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)
إن قيل: كيف لم يعذرهم لما اعتذروا بالاستضعاف وقد قال
من قبل: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ)؟
قيل: لأنهم كذبوا في دعواهم، والذين عذرهم هم الذين سلبهم الله
القوى والقدرة، أو لم يعطهم ذلك كالصبي.
وقال بعض المحققين: ظلم النفس في الحقيقة هو التقصير في
تهذيبها وسياستها المذكورة في قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ
دَسَّاهَا) وذلك أن كل إنسان
سائسُ نفسِه، فمتى لم يوف حق السياسة
(3/1412)
فقد ظلمها ظلم الوالي رعيته، قال: وخاطب
بذلك من أعطاه
القوة ومكّنه أن يبلغ الدرجات الرفيعة، فرضي لنفسه بأخس
منزلة، وكذبهم فيما ادعوه من استضعافهم تنبيهًا أن من أمكنه
استفادة ما به يقدر فهو في حكم القادر فلا يعذر، ثم استثنى
الأصناف الثلاثة فقال: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُمْ)
فذكر لفظ عسى لئلا يركنوا كل الركون، وليكونوا ممن قال
فيهم: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ).
وقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)
أَخَّر ذكر الغفران إذ هو أبلغ، وقد تقدّم أن
(3/1413)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(100)
الوصفين إذا اجتمعا يقدمّ الأعم ويؤخر
الأخص، تنبيه
على أن مثل هذه الصفة ليست على وجه المطابقة، واعتبارًا
لحصول المعفو عنه والمغفور له، بل ذلك له على وجه أشرف من
ذلك، والله أعلم.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ
فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ
مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
المُرَاغَم: المتحَرَّكُ إما من الرغام أي التراب.
وقيل: هو من رغم أنفه إذا غضب.
والمراد به قريب من قول الشاعر:
(3/1414)
إذا كنت في دار يهينك أهلها. . . ولم تك
ممنوعًا بها فتحول
وقيل: نزل ذلك في رجل من بني ضمرة كان مريضًا.
فقال: أخرجوني، فأشرف في الطريق، وقيل: إنه أخذ يمينه
بشماله وقال: قد بايعتك يارسول الله، فبين تعالى أن
المهاجر وإن لم يبلغ المقصد فله بذلك ثواب، وكذا من نوى
(3/1415)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا
مُبِينًا (101)
خيرًا وعاقه عائق عن إتمامه.
قوله عز وجل: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ
الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
الضرب في الأرض من قولهم: ضرب العرق ضربًا.
إذا أسرع التحرك، والفتنة: المحنة وذلك يشتبه.
لذلك استعمل في القتل والإِحراق، ولأجل عمومها قال:
(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، لأن الفتنة قد تكون
قتلًا، وما هو أعظم من
القتل)، وأهل الحجاز يقولون: فتنته، وأهل نجد يقولون:
افتنته ففتن فتونًا.
قال أبو عبيدة يقال: قصرت الصلاة
(3/1416)
وقَصَّرتها وأقيصرتها.
والعدو يقال للوا حد وللجمع، كقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي)
واشترط في القصر السفر والخوف.
وقيل: إنه لما سأل عمر رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه
وسلم -:
ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ قال:
"صدقة تصدق الله عليكم بها، فاقبلوا صدقته ".
(3/1417)
والقصر: قيل: عنى به الهيئات وأن صلاة
المسافر ركعتان
تامتان، وذلك عن عمر وعائشة، وقيل: عنى قصر الركعات
عمَّا عليه في الحضر، قال ابن عباس وجابر: إن صلاة الحضر
أربع، والسفر ركعتان، والخوف ركعة، والضرب في الأرض
(3/1418)
بعضهم يجعله على التعارف، ويعتبره بما يسمى
سفرًا.
ولا خلاف أن الخارج إلى قرية بظاهر البلد لا يجوز له القصر.
وبعضهم قيده بمسيرة ثلاثة أيام بناء على تحديد مسح المسافر
وتحريم سفر المرأة بغير ذي محرم، وبعضهم حده بثمانية وأربعين
ميلًا، اعتبارًا بسفر النبي عليه الصلاة والسلام.
وظاهر الآية يقتضي أن لا فرق بين الحج والجهاد وغيره من
الأسفار، ولا بين المطيع والعاصي.
(3/1419)
وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا
سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى
لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
قد علَّمنا تعالى كيف نصلِّي صلاة الخوف، فظاهر الآية يقتضي
ما قال ابن عباس: إن الإِمام يلي بكل فرقة صلاة تامة، وهم
يصلُون صلاتهم) في سائر الأوقات.
وقيل: كانت الرخصة في
(3/1420)
ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط لفضل
الجماعة معه.
ومذهب عامة الفقهاء على خلاف ذلك، وكيفية صلاة الخوف، والخلاف
فيها مبينة في كتب الفقه.
وقال من يذهب إلى وجوب الجماعة: إن في شرع صلاة الخوف تنبيهًا
على وجوب الجماعة،
(3/1421)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا (103)
وقيل: في صلاة الخوف تنبيه على أن العمل
القليل لا يبطل الصلاة.
وأن تأخير أداء الصلاة عن وقتها لا يجوز، وأن إقامة الصلاة
كانت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مادام فيهم.
ونبَّه تعالى بقوله: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما لأجله أمر
بتناول الأسلحة للتحرُّز، وأن في حال المرض والمطر يجوز وضع
الأسلحة.
قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ
كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
(3/1422)
قيل: إن قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ)، وارد
في صلاة المريض.
والآية تقتضي غير ذلك، لأنه قال: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ
الصَّلَاةَ).
اللهم إلا أن يقول قائل ذلك: هو مثل قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي إذا أردت قراءة القرآن.
وقيل: هو حثٌّ على ذكر الله تسبيحًا وتعظيمًا، كقوله:
(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ.
وقوله: (مَوْقُوتًا) أي مؤدىً في أوقاته،
(3/1423)
وَلَا تَهِنُوا فِي
ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ
يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
وقيل: منجمًا في أوقاته، قال ابن عباس في
هذه الآية وفي
قوله: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)
إن الآيتين متضمّنتمان لأوقات الصلاة مجملة، وأن السنة شرحتها.
قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ
تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
لمّا كان بناء الكلام على فرض الجهاد، وكان ذكر الصلاة
كالاعتراض عاد إلى ما كان في ذكره، فقال: (وَلَا تَهِنُوا فِي
ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) والوهن: ضعف مع فتور)، وعاتبهم، فكأنه
قال:
(3/1424)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
(105)
إذا تساويتم في الألم وزدتم عليهم في أن
حصل لكم من الرجاء ما
لم يحصل لهم، وعرفتم كون الله عليمًا بما يفعلونه حكيمًا فيما
أمركم به فأمْرُكم إذًا أعلى، فيجب أن تكون قلوبكم أقوى.
والآية يقاربها قول الشاعر وإن كان هي أبلغ:
قاتلي القوم يا خُزاع ولا يَدْ. . . خُلْكُم من قتالهم فشلُ
القوم أمثالكم لهم شعر في الْـ. . . رأس لا ينشرون إن قتلوا
قوله تعالي: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
(3/1425)
قيل: نزل ذلك في أنصاري سرق درعًا لعمه،
فاتهُم بها فَرُئِي
في دار يهودي فأوهم القوم أن اليهودي سرقها، فأعان قوم من
المسلمين هذا الأنصاري، فاعتمد النبي - صلى الله عليه وسلم -
قولهم، فأطلعه الله على الأمر، وعاتبه، وأمر بالاستغفار مما
همّ به.
قال ابن بحر: يجوز أن تكون هذه الآية راجعة إلى قوله: (أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ
أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا)
فبيّن أنهم مع إظهارهم الإِيمان بما أنزل على الأنبياء يصدّون
عمّا
يُدعون إليه من حكم الكتاب.
قال: ومعنى (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) راجع إلى
قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا)، فنهى عن حسن الظن بأمثالهم،
ونهى في هذه الآية عن الدفع عنهم.
(3/1426)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ
مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
أعاد النهي عن الذب عنهم بقوله: (وَلَا تُجَادِلْ)
والمجادلة: المقاتلة، من قولهم: جدلت الخيل، وقيل: المنازعة من
الإِلقاء
على الجدالة والجدال المطلق مذموم، ولهذا لم يطلقه للنبي - صلى
الله عليه وسلم - حتى قيّده، قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ).
والاختيان: افتعال من الخيانة، واختيانهم أنفسهم
(3/1427)
جعلهم إياها خائنة بما يفعلونه، كقولك: ظلم
نفسه.
إن قيل: لم خصَّ لفظ الخوَّان بنفي المحبة عنه، وهو لا يحب
الخائن أيضا؟
وقيل: تخصيصه هاهنا تعريض بهم، وتعظيم لفعلهم.
وتنبيه أن من يتحرى خيانة ولا يستمر عليها فهو مُعرّض أن يقلع
فيحبه، ومتى استمر عليها صار مطبوعًا على قلبه، لا يقلع
فتُرجى له المحبة، فإذًا الخائن قد يكون محبوبًا على وجه.
والخوان لا يكون محبوباً بوجه.
وقوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)
أي الخونة أبدًا يسترون على أنفسهم خيانتهم، لكون قبحها
مركوزًا في
نفوسهم، ونبّه أنهم إن ستروها على الناس فليست تستتر على الله.
(3/1428)
وأنهم لنقصهم وجهلهم بالله يراعون الناس
أكثر
من مراعاتهم لعظمة الله، وإلى نحو هذا أشار النبي
عليه الصلاة والسلام بقوله:
"استحيوا من الله كما تستحيون من أحدكم ".
وهذا قريب من قوله: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا
مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي
تَقُولُ) الآية.
وقوله: (وَهُوَ مَعَهُمْ) نحو (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى
عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ).
قال ابن مسعود: من صلى صلاة عند الناس لا يُصلّي مثلها إذا خلى
فقد استهان بالله. ثم تلا هذه الآية.
(3/1429)
وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
قوله عز وجل: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ
جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ
يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
خاطب الذَّابِّين عن هذا الخائن، ونبه أنكم وإن اعتقدتم
الذَّبَّ عنه في الدنيا وستر خيانته، فالشأن في يوم القيامة
عند من
لا تخفى عليه خافية، وحيث لا ينفع إلا من أتى الله بقلب سليم.
ومن فسّر الوكيل بالكفيل فتفسير عام بخاص، فإن الكفيل
وكيل ما، وليس كل وكيل كفيلًا.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
(110)
عامل السوء وظالم النفس وإن كانا يعودان إلى معنى واحد،
(3/1430)
فذكرهما اعتبارًا بحالتين، وقيل: عمل السوء
إشارة إلى فعل
الصغائر، وظلم النفس إلى الكبائر.
وقوله: (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ) راجع إليه دون الأول.
فكأنه قيل: من فعل صغيرة أو استغفر من كبيرة يَجِدِ اللَّهَ
غَفُورًا رَحِيمًا. وقيل: عمل الإِساءة ما يُفعل بالغير، وظلم
النفس ما يختصُ به الإِنسان من ذنب لا يتعداه.
(3/1431)
وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
وقد تقدم الكلام في السوء والسيئات،
ومقابلتهما بالحسنات.
قوله عز وجل: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ
عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
الأصل في الاكتساب ما يجرّ به نفع، فاستعاره لما يجلب ضرًّا.
تنبيهاً أن صاحبه يقدر فيما تحراه أنه يكسب خيرًا وهو يكسب
شرًّا، ونحوه معنى قوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).
(3/1432)
وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا.
ونبَّه بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) على نحو
قوله: (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ
الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ).
قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ
يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا (112)
عنى بالخطيئة ما لا يكون عن عمد، وبالإثم ما كان عن
عمد، ونبّه أن من رمى بأحدهما بريئًا فهو في استحقاق العقاب
سواء، وإن كان في ارتكاب أحدهما بخلاف الآخر.
وبيَّن أنه يحصل له بذلك معاقبة مرتكب البهتان، ومعاقبة مرتكب
الإِثم.
وذلك تعظيم لنسبة الإِنسان ما ارتكبه إلى غيره عمدًا كان أو
خطأ.
قال ابن بحر: إن ذلك يرجع إلى المنافقين الذين حكى
(3/1433)
وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ
أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا
هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)، فقال تعالى في رده (قُلْ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا).
وقال تعالى في آل عمر ان: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ
عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)، فبين بالآيتين أن الذي أصابهم عقوبة
لما كان منهم، وأنه عفا عنهم، وبين هاهنا أن من
أضاف ما أصابه من سوء في متوجهاته إلى النبي فقد أتى ببهتان
وإثم.
قوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا
يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ
شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
كان همّهم أن يضلوه بشهادتهم للأنصاري أنه برئ مما قرن
(3/1434)
به، ومسألتهم إياه أن يقوم بعذره، وقد
تقدَّم الكلام في
الفرق بين الكلام والحكمة.
وذكر ابن بحر وجهين:
أحدهما: لولا فضل الله بما أنزله من الكتاب والحكمة لهّم
الكافرون بإضلاله وإدخاله معهم في عبادة الأصنام، لكن لما هداه
صاروا لا يضلونه، بل يضلون أنفسهم.
والثاني: أن الإِضلال عبارة عن الإِهلاك، كقول الشاعر:
فآب مضلوه بخمر جلبه. . . وغودر بالحولان حزم وقائل
(3/1435)
أي لولا أن الله حرسك لهمَّ طائفة بإهلاكك،
وما يهلكون بما
يفعلون إلا أنفسهم بما يكسبون لها من العذاب الدائم.
إن قيل: قد كانوا همُّوا بذلك فكيف قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ)؟
قيل: في ذلك جوابان:
أحدها: أن القوم كانوا مسلمين، ولم يهموا بإضلال النبي - صلى
الله عليه وسلم -، فقد كان عندهم على الصواب.
والثاني: أن القصد إلى نفي تأثير ما همُّوا به كقولك: فلان
شتمك، وأهانك، لولا أني تداركت، تنبيهًا أن أثر فعله لم يظهر.
(3/1436)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الجزء الرابع
الكتاب: تفسير الراغب الأصفهاني
(من الآية 114 من سورة النساء - وحتى آخر سورة المائدة)
تحقيق ودراسة: د. هند بنت محمد بن زاهد سردار
الناشر: كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
الطبعة الأولى: 1422 هـ - 2001 م
عدد الأجزاء: 2
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(4/146)
لَا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ
نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا (114)
يقال: لكل ما يستحسنه العقل ويعترف به معروف، ولكل ما يستقبحه
وينكره منكر، ووجه ذلك أنَّ الله ركز في العقول معرفة الخير
والشر وإليها أشار بقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ) و (فِطرَتَ
اللَّهِ) وعلى ذلك البر: ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه
النفس، واطمئنانها إليه لمعرفتها به.
(4/147)
والنجوى: تقال للحديث الذي تفرد به اثنان
فصاعداً أو للقوم المتنلجين،
قوله تعالى: (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) وأصل ذلك من النَّجْوه،
والنَّجَاةُ:
أي الخلاص منها لكون الملتجي إليها ناجياً عن السبيل ويقال: هو
في مضية
وتلفة من النوب، ولما كان المتناجيان كثيراً ما ينتبذان في
نجوة، قيل انتجيا
(4/148)
والنجا السرعة كقولهم: ارتفع في المسير
ونجوت الجلد، لقولهم: رفعت عنه
الجلد، وإذا جعل النجوى للقوم فمَنْ مجرور على البدل أومنصوب
على
الاستثناء، وإن جعلتها للحديث فتقديره: لا نجوى من أمر بصدقة،
ولما كان
التناجى مكروهاً في الأصل حتى قال: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ) صار ذلك من الأفعال التي تقبح ما لم يقصد به وجه
محمود
(4/149)
كالمكر والخديعة، فبيّن تعالى أن النجوى لا
تحسنُ ما لم تخص بها هذه الوجوه
المستثناه.
فإن قيل: فهاهنا أفعال أخر تَحْسن فلم خص هذه الثلاثة؟
قيل هذه الثلاثة متضمنة للأفعال الحسنة كلها وذلك أنه نبه
بالصدقة على الأفعال الواجبة وخص الصدقة لكونها أكثر نفعا في
إيصال الخير إلى الغير، ونبه بالمعروف على النوافل التي هى
الإحسان والتفضل وبالإصلاح بين الناس على سياستهم
وما يؤدي إلى نظم كلهم وإيقاع الألفة بينهم، ذلك أفضل الأفعال
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بأفضل من
درجة الصلاة والصيام والصدقة، قيل بلى يا رسول الله، قال: صلاح
ذات البين ".
فإن قيل: فلم خص مَن أمر بهذه الأشياء دون من تولاها بنفسه
وتوليها أبلغ من الأمر بها؟
قيل: في ضمن ذلك توليها، وذاك أنه إذا كان الآمر بالمعروف
يستحق الحمد فمتوليه معلوم أنه مستحق لذلك، فكأنه قيل إن من
تولي ذلك وآمن به، ونبه بقوله:
(4/150)
وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ) أن أفعال الخير يستحق بها
الأجر العظيم إذا قصد بها وجه الله، لا أن يفعل رياء وسمعة
واستجلاب منفعة أو محمدة من الناس، ووصف الأجر بالعظيم تنببهًا
على حقارة ما يفوت في جنبه من أعراض الدنيا.
قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
الشق: القطع طولا ومنه استعير
الاشتقاق، وشق العصا وشق عليه الأمر كقولهم مشقة الأمر، وشق
كرددت
عصاه، ومشاقة الرسول أن يصير في شق غير شقة كقوله: (إِنَّ
الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي يصيرون في حد
غير حده، وذلك
أشبه بالاعتقاد والديانة، وأصل الصلا الملازمة، ومنه الصلاة
للدعاء ومن أجله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ايصلوا يا
ذا الجلال والإكرام) أي الزموا مراعاة ذلك،
(4/151)
والصلا: ملازمة قرب النار للاصطلاء بها
فجعل عبارة عن ملازمتها للعذاب
، والصلوان العرقان المكتنفان لجانبي الوركين، يجوز أنه اعتبر
فيهما الاصطلاء
كتسمية اليد والرجل المصطلى، والآية قيل: نزلت في سارق الدرع
حيث
أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - حاله فأنكر وكذب، وقيل: في
طعمة بن الأبيرق لما عبد الأوثان، ولما ذكر قيل: (وَمَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللَّهَ)
(4/152)
ذكر هنا من عمل ذلك ولم يستغفر، وعظم تعالى
من يشاقق
الرسول بعد ما تبين الحق له، وعلى هذا قال بعض الحكماء: صغائر
الأولياء
أعظم من كبائر العامة، وذاك أنه لا يعذر العالم فيما يرتكبه
كما يعذر الجاهل.
فإن قيل ولم كان العالم أكبر جرماً؟
قيل: لأن من لا يعرف الحق يستحق العقوبة بترك المعرفة، لأن
العمل لا يلزمه حتى يعرفه أو يعرف من يصدقه، والعالم يستحق
بترك معرفته وترك استعماله، فإذن هو أعظم جرما.
وقصد تعالى بقوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ) أن من لم يتبين له
الهدى فقد جعل الله له نورًا يهديه، ومن صار معاندًا قطع عنه
التوفيق وتركه
هو وهواه، وانقطاع التوفيق هو المعنيُ باللعن والطرد وإليه
أشار الشاعر
بقوله: -
إذاَ لمْ يَكُنْ عَونٌ مِنَ الله للفتَى ... فَأكْثَرُ ماَ
يَجني عَلَيْه اجْتهَادَهُ
وبين بقوله: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) عظم حالها في العقاب، واستدل
(4/153)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
بالآية على ثبوت الإجماع، وقيل: إن الله
عظّم وعيد من يتبع غيرسبيل
المؤمنين " ولا حجة في ذلك لأن المراد بقوله (الْمُؤْمِنِينَ)
الإيمان لا ذويه،
فكل موصوف بوصف علق به حكم نحو أن يقال: اسلك سبيل الصائمين
والمصلين، يعني بذلك الحث على الاقتداء بهم في الصلاة والصيام،
لا في فعل
آخر، فكما إذا قيل سبيل المؤمنين يعني به سبيلهم في الإيمان لا
غير.
قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
إن قيل: لِم لَمْ يشترط فيه التوبة؟
قيل: إن المشرك إنما يلزمه الاسم ما دام يلزمه الوصف، فإذا زال
(4/154)
وصفه زال اسم الشرك عنه، فإذا كان كذلك،
فالمشرك ما دام مشركا لا يغفر له، ومن تاب زال عنه اسم الشرك،
فإذا التائب الذي يغفر له ليس هو المشرك، بل هو المؤمن في
الحقيقة، ومن أطلق عليه اسم المشرك فعلى اعتبار الماضي، وقوله:
(أَن يُشرَكَ بِهِ) موضعه النصب، كأنه قال: لا يغفر الشرك،
وقيل: لا يغفر من أجل أن يشرك به، أي لا يغفر من أجل الشرك
شيئا من
الذنوب تنبيهًا، أن الذنوب قد تغتفر مع انتفاء الشرك، كما قال:
(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، وقوله:
(ضَلَالًا بَعِيدًا)
فقد تقدم أن الحق والصواب والعدالة وغيرها من وجوه البر تجري
مجرى
(4/155)
النقطة من الدائرة ومجرى المقرطس من
المريء، وأن ما عداه كله باطل
وضلالٌ، لكن منه ما هو قريب ومنه ما هو بعيد، كما أن العدول عن
المقرطس قد يكون قريبا، وقد يكون بعيداً، كذلك العدول عن الحق
يكون قريباً وبعيداً، ولهذا قيل: سمى الله ذنوب الأنبياء،
وفجور الكفار حميعاًالضلال، وإن كان بينهما بونٌ بعيدٌ، ولما
كان كذلك وكان أفظع الضلال الشرك بالله، نبه بقوله: (ضَلَالًا
بَعِيدًا) أن الشرك إذا اعتبر بسائر الضلالات، فهو أكبرهن
وأعظمهن، فإن متحريه قد يضل عن الطريق المستقيم ضلالا يصعب
رجوعه إليه، فإن مرتكب الذنب الصغير يجري مجرى الضال عن الطريق
القريب يرجى عوده إليه، ومن قال إن هذه الآية مجمله، فإنه يجب
أن يبني على قوله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) وإن بناء هذه على تلك
يقتضي أن
يغفر ما دونها من الصغائر، فهذا تشبيه منه وترك للظاهر، فإنه
تعالى بيَّن أنه
(4/156)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا
مَرِيدًا (117)
لا يغفر الشرك، وأنه يغفر ما دون الشرك لكن
منهم المغفور له، وعلق بمشيئته فظاهره يقتضي أن الشرك لا يغفر
لا محاله، لكن الشبهة في أعيان المغفور لهم الا في الذنب
المغفور وهذا ظاهر.
قوله تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا
وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ
اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا
مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ
يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ
خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120).
من المفسرين، من اعتبر التأنيث ها هنا في اللفظ دون المعنى،
وقال: لما كان اسم معبوداتهم مؤنثة نحو اللات، والعزى ونحو
الملائكة، سماها مؤنثاً تسميتهم الأذنين والخصيتين والأنثيين،
حتى قال الشاعر:
............... ضَرَبْناهُ تَحت الأنثيْين على الكَرْدِ
(4/157)
أي وتحت الأذنين.
وقال آخر:
ومَا ذَكَرٌ فإنْ تَسْمَنُ فأُنثى ... شديدٌ الأذَم لَيْسَ له
بذي ضُرُوسُ
وعني بذلك القُراد لأنه ما دام صغيراً يقال له القراد، وذلك
لفظ مذكر،
وإذا كبر يقال له يقاريد، وذلك لفظ مؤنث، فجعله مؤنثاً مذكر،
ومنهم من اعتبر التأنيث من حيث المعنى وقال: الموجودات بإضافة
بعضها إلى بعض ثلاثة أضرب: فاعل غير منفعل وذلك هو الباري
تعالى فقط، ومنفعل غير فاعل وذلك هو للجمادات، ومنفعل من وجه
فاعل من وجه هو الإنسان، فإنه بالإضافة إلى الله منفعل
وبالإضافة إلى مصنوعاته فاعل، وعلى هذا الوجه
(4/158)
مذاهب العرب في التأنيث والتذكير فقالوا:
الواحدي ذكر واحدة أنثى،
قال: وقد علم أن أكثر ما عبده العرب من الأصنام كانت أشياء
منفعلة غير
فاعلة، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون
ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه، وعلى هذا نبه إبراهيم بقوله:
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا
يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
وقول السلف: يقتضي الأمرين فقد اتفق: أبو مالك والسدي
(4/159)
وابن زيد (الإناث اللات والعزى) وقال: ابن
عباس والحسن
وقتادة: هي الأموات، وهذا القول يقتضي أنهم اعتبروا التأنيث في
المعنى
(4/160)
وقال الضحاك: هي الملائكة لزعمهم أنها بنات
الله، وقرأ ابن عباس (إلا
أُنُثَا) أي وثناً، وهى جمع الوثن، والمارد، والمريد الذي لا
يعلق بشيء من
الفضائل، و (صَرحٌ ممَرَّدٌ). أي مملس لا يعلق به شيء لملاسته،
وشجرة مرداء اعتبارًا بتعريها عن الورق، وغلام أمرد لتعريه عن
الشعر، تعرى
(4/161)
الشجر عن الورق.
إن قيل: كيف قال: - (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِنَاثًا) ثم قال: (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا
مَرِيدًا) فاقتضى نفي ما أثبت؟
قيل: ليس في ذلك نفيٌ فإن دعاء هم للأوثان دعاؤهم للشيطان،
وكل باطل قال له تارة الشيطان، وتارة الهوى، وتارة الصنم، لما
كانت هذه
الأشياء متلازمة ومتشاركة في أنها تدعو إلى باطل، ولما كان
عبادة الشيطان في نفوسهم قطعية، تبين لهم أن ما تدعونه
وتزعمونه أنكم تقصدون به عبادة الله، وتقولون: (مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)
وتقصدون
به الشيطان، ثم قال: (لَعَنَهُ اللَّهُ) التفاتاً، وصرف الكلام
إلى وصف
الشيطان، وقوله: (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ) وذلك إما
حكاية عما
أورده نطقاً، أو عما أتاه فعلا، ً فيكون نحو:
امتلأ الحوض وقال قطني ................
(4/162)
ومعنى قوله: (مَفْرُوضًا) معلوما مقسوما،
وقيل: مقطوعا
منهم، وهم الذين سباهم الشيطان، ووصفهم بقوله: (وَلَقَدْ
صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) والبتك: القطع على سبيل
التفريق، وبتك الآذان؟
قيل:
هو الذي كانوا يفعلونه بالبحيرة، روي ذلك عن السدي، وقتادة،
وعكرمة: وقيل: فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملا بفطرته،
فجعله
(4/163)
الإنسان ناقصا بسوء تدبره، وذاك أن الإنسان
بالقوة مخلوق خلقة كاملة، قد رشحه الله أن يزكي نفسه ومن دساها
فقد خسسها، وتغيير خلق الله هو أن كل ما أوجده الله لفضيلة
فاستعان الإنسان به في رذيلة فقد غير خلقه، وقد دخل في عمومه
جعل الله للإنسان من شهوة للجماع، ليكون سببا للتناسل على وجه
غصوص فاستعان به في السفاح واللواط، وذلك تغيير خلق الله
تعالى، وكذا المخنث إذا نتف لحيته وتقنع تشبهًا بالنساء،
والفتاة إذا ترجلت متشبة بالفتيان، ودخل في عمومه أيضا كل ما
حلله الله تعالى فحرموه، أو حرمه فحللوه، وعلى ذلك قوله: (قُلْ
أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ
فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ
لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
وإلى هذه الجملة أشار المفسرون، وقد روى عن الحمن أنه قال: هو
تغيير أحكام الله، ومن قال مرة: هو الوشم إشارة إلى
(4/164)
ضرب التغيرات ليتبين به الغرض.
وكذا من قال بالخصاء، قول: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)
لفظه خبر ومعناه نهي، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّخِذِ
الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ) فموالاة الإنسان
غيره تكون على وجهين:
أحدهما: أن يقصد موالاته، والثاني: أن لا يقصد موالاته، لكن
يقع منه ما
يرجع إلى صاحبه نفع فهو مواليه فعلا وإن لم يكن مواليه قصدا،
وعلى هذا
المعاداة فقد يعادي الإنسان غيره قصدا، وقد يقصد موالاته لكن
يقع منه ما
يرجع إليه ضرره فهو معاد له فعلا، وإن لم يكن معاد له قصدا،
وعلى هذا
(4/165)
(إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
فاتخاذ الإنسان الشيطان مولى هو على الوجه الثاني، فإن الإنسان
لا يقصد بفعله موالاة الشيطان.
فإن قيل: كيف قال: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) واتخاذ الشيطان
وليا مع الله مذموم، كاتخاذه من دون الله؟
قيل: لم يقصد بالآية هذا المقصد، وإنما أريد من ترك تحري
موالاة، وفعل ما أدى به إلى موالاة الشيطان، فخسرانه ظاهر لا
يتكتم على ذي بصيرة، وقوله: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ)
تحذير، وهذا الوعد من الشيطان تارة بالإرادات الودية، والخواطر
الفاسدة، حسب ما ذُكر في كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة،
وتارة بلسان أولياء الشيطان، وسبب إمكان وصول ذلك إليه كون
القوة المفكرة عمياء من تدبر نور الله، وقد تقدم الكلام في
حقيقة الأمنية، وأما سبب الحسد، والنميمة، والظلم، وسائر
الرذائل، والغرور: إظهار ما تعذر، من ظاهره فيه نفع، وأصله:
الأثر الظاهر من الشيء لشيء غره حسنه مخالفة باطنه، ومن هذه
سمى الدنيا
(4/166)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ
اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
غرورا، فبين أن الشيطان لا يعدهم إلا
الدنيا وزخارفها، وقد قال تعالى:
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ)
قوله تعالى: (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ
عَنْهَا مَحِيصًا (121)
المحيص: المَعْدِلُ عَلى سبيل الهرب، بيّن أن هؤلاء صاروا في
أسر الشيطان، وكما لم يتفكروا من مولاته في الدنيا، لم يتفكروا
من مصاحبته في مقره في
الآخرة، كما قال تعالى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ).
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
قد تقدم الكلام في نحوه، فبين أنه قد وعد بذلك في غير موضع من
كتاب، بل في غير كتاب، وإذا كان هذا وعده، والوعد ضرب من
القيل، وقد ثبت أنه أصدق قيلاً، فإذًا هو أصدق وعدا، ونحوه
(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)
(4/167)
لَيْسَ
بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ).
وقوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ
أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا
يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا
يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
قد تقدم الكلام في حقَيقة الأمنية، ولما كان
أكثر ذلك قولا صادرا عن تخمين، لا عن تحقيق، جعل عما تخمن، قال
الضحاك: كما أخذ كل فرقة تقول قولاً لا على مقتضى العلم.
كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى
عَلَى شَيْءٍ) الآية.
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً) وقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ
مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) وخاطبهم مستجهلا لهم، كما روى:
" ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه
العمل). وقوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)
(4/168)
قال الحسن وابن زيد: هو في الكفار لأنهم
مؤاخذون بصغائرهم وكبائرهم،
وقيل: هي الكبائر، وقيل: هو عام في جميع الناس، فإن من حصل منه
سيء
جوزي به إما في الدنيا وإما في الآخرة، وقد روي أنه لما نزلت
هذه الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: (فمن ينجوا مع هذا يا
رسول الله؟
(4/169)
فقال عليه الصلاة والسلام: أما تحزن أما
تمرض، أما يصيبك
اللأواء، قال: بلى يا رسول الله، قال: هو ذاك "
وقد روي: " أن الأمراض تمحيص "
(4/170)
وكما أنه نبه أن شيئا من السيئات لا يبقى
غير مجازى
به أيضا، وذكر الذكر والأنثى على التوكيد، وقيل: نبه بذكرهما،
على سبيل المثل للسايس، والمسوس فيسمى المسوس أنثى، كما سماها
الله تعالى زوجا، في قوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْوَاجَهُمْ)، ونبه بقوله:
(وَلَا يُظلَمُونَ نَقِيرًا)، أنهم كانوا جوزوا بالشر فإنهم
يجازون
بالخير، فإنهم إن لم يجازوا بذلك فقد ظلموا ظلما عظيما، والله
تعالى متره عن صغير الظلم فكيف عن كبيره.
إن قيل: لم أطلق في الأول فقال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ
بِهِ)، وقيد في الثاني فقال: (مُؤمِنٌ)؟
قيل: تنبيها أن عمل السوء يضر على كل حال، وأن يجزى للصالحات
لا اعتداد به إلا مضامة الإيمان.
(4/171)
وَمَنْ أَحْسَنُ
دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا
(126)
الدين، والملة، والإسلام واحد من وجه، لكن يقال باعتبارات
مختلفة، فإن
الدين: هو الانقياد للحق وذلك معتبر بالعبد، والملة: القود إلى
الحق من أمللت عليه الكتاب، وذلك معتبر بالله تعالى، وعلى نحوه
قالوا: (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، وقال
ابن بحر: هو أن يعدوَ الذئب على
شيء ضربا من العدو، فجعله اسما معتبرا أيضا بالعبد كالدين،
وكأنه من نحو
قوله: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)، وقوله قال:
(4/172)
(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)،
والأول هو الوجه، والإسلام: يقال للإسلام
الحق والدخول في السلم والسلامة من جهة الله تعالى، والحنيفى؟
قيل: هو
المستقيم الطريقه، ومنه الأحنف: للمايل الرجل على سبيل
التفاؤل، وقيل
حنف أي: مال، وسمى إبراهيم حنيفا من حيث مال عما عليه جمهور
قومه
من المذاهب الباطلة، ولهذا قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)، ونبه بقوله (وَلَمْ
يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أن عدوله عنهم
لم يكن على وجه مذموم، وإسلام الوجه لله الإخلاص للعبادة، كما
قال
تعالى: (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) والذي مدح به إبراهيم
عليه الصلاة
والسلام هاهنا هو الذي حكى عنه، في قوله عنه: (إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذا هو الإخلاص
الذي هو أعظم مرتبة الإيمان
(4/173)
، كالمذكور في قوله عليه الصلاة والسلام
(الإيمان بضع وسبعون درجة)،
ومتحروا هذه المترلة هم المستثنون في قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106).
بين تعالى في هذه الآية أن تمام حسن الانقياد لله
الإخلاص له مع الإحسان، أي تعاطي مكارم الشريعة فضلا عن
الأحكام التي
هي العدالة، وقيل: معنى (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: حسن أن يسلم
وجهه لله
، منبها على فضيلة العلم، ونبه بلفظ الاستحسان في قوله:
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا) أن ذلك غاية ما يبلغه قوة البشر، ثم
قال: - (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي إذا فعل
هذا فقد اتبعه، وتخصيصه أن كلا من الأمم
ادعى على ملة إبراهيم، فبين أنه بهذا يصير على ملته، وقيل
معنى:
(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) أي: إذا فعل ذلك فقد قام
مقام إبراهيم
واستحق ما استحقه، (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)
أي: إنما
(4/174)
اصطفاه لما كان فيه لا لحاجة إليه فلله ما
في السموات وما في الأرض،
تنبيها على أنه غني عن عباده ومالك محيط بكل شيء، والواو في
قوله: (وَلِلَّهِ) واو الحال، وإن كان كثيرًا تصوره أنه كلام
مستأنف.
إن قيل: كيف أعاد ذكر إبراهيم ولم يقل واتخذه؟
قيل: لما كان ذلك كلاما مستأنفا، كان إعادة
ذكره أفحم، وأَدَلُ على موضع المدح، قال أبو القاسم البلخي:
الخليل
من الخُلَّة أي الفقر لا من الخلة، قال ومن قاسه بالحبيب فقد
أخطأ، لأن الله
(4/175)
تعالى يجوز أن يحب عبده فالمحبة منه هي
الثناء، ولا يجوز أن يخاله ما ليس بجنسه
، وهذا منه تشبيه لحقيقة موضوع المحبة لا يصح عليه كما لا يصح
عليه الخلة
، فإن الخلة من تملك الود نفسه وخالطه، كقولهم: تمازح روحنا،
ولهذا قال:
(4/176)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي
النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي
لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قَدْ تَخَلَلْتُ مَسْلَكَ الروح منّي ...
وبذا سُمِّيَ الخَليلُ خليلا
والمحبة: البلوغ بالود إلى حبة القلب، من قولهم: حبيته أي أصبت
حبة
قلبه، نحو فأدته ورأسته، ومنكر أن يقال: حبيتُ الله، أو حبني
الله، فإذا جاز في أبلغ اللفظ الاستعارة ففيما دونه أولى على
معنى الثناء، كما ذكر أبو على أو علي معنى الاصطفاء، كما ذكر
غيره.
قوله عز وجل: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ
فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا
كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
(4/177)
قوله: (وَمَا يُتْلَى)؟
قيل: هو استئناف، على تقدير: ما يتلى عليكم بين لكم، وقيل: هو
معطوف على الله أي: يفتيكم الله، ويفتيكم
ما يتلى عليكم، وقد تقدم في صدر الكتاب، أن فعلا واحدا يصح أن
ينسب إلى فاعلين باعتبارات مختلفة.
فالإشارة بذلك إلى قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا
فِي الْيَتَامَى)، وإلى - قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلَادِكُمْ)
(4/178)
وذلك أنه بين بالآيتين حكم المستفئ فيه،
بسبب نزول الآية
أن عيينة بن حصن أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
(أخبرنا أنك تعطي الصبي المال وتعطي الابنة النصف والأخت النصف
وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة، فقال عليه
الصلاة والسلام: كذلك)، فأنزل الله تعالى الآية.
قوله: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ)؟
قيل: تقدير: في أن تنكحوهن،
وقيل: عن أن تنكحوهن، قال أبو عبيدة: كلا التقديرين يصح
(4/179)
لأنك تقول: رغبت أن أصحبك، في معنيين،
وكانوا يرغبون في الحسان من
اليتامى فيتزوجوهن، وعن القباح فيعضلوهن ماكتب الله لهن؟
قيل: المهر، وقيل: الإرث، الذي لها ومن أجله يرغبون فيها أو
يعضلونها، استدل من الآية
(4/180)
وَإِنِ امْرَأَةٌ
خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
على أنه يجوز التزوج اليتيمة الصغيرة، وأنه
يجوز أن يزوجها غير الأب والجد.
ولا دلالة في الآية، لأنه قال: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ) وذلك بلا
استقبال، ولم يذكر في الآية من نزوجها، ومن يزوجها، ولا قصد
الآية إلى ذلك فبين حكمه فيها.
قوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا
نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(128)
النشوز: أصله من النًّشْزِ، وهو كالطموح، وأكثر ما يستعمل في
بغض المرأة الرجل، والأظهر هاهنا أنه بغض الرجل للمرأة، ويحتمل
أنها إن خافت أن ينشز عليها البعل، لإعادة غيرها عليها، فأباح
تعالى أن يتصالحا على ترك بعض حقها، قال ابن عباس: هي أنها
تكون قد طعنت في السن يرى الزوج استبدال غيرها بها، فتقول أرضي
منك بغير نفقة، أو بغير قسمة،
وقيل: نزلت في سودة، وكانت قد وهبت
(4/181)
يومها لعائشة.
فإن قيل: لم قال: (أَوْ إِعْرَاضًا) والنشوز منطًوً عًلًى ذلك؟
قيل: الإعراض أعم، فبين أن لا فرق من أن يكون النشوز، أو ما
دون
النشوز، ثم قال (وَالصّلحُ خَير)؟
قيل: خير من النشوز، وقيل: خير من
الفرقة، والأجود أن يكون ذلك عاما فيهما، وفي غيرهما، فإن
الناس مدعوون إلى التآلف، والتحاب، ولهذا قال عليه الصلاة
والسلام:
" لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا "،
وكل موضع يمكن فيه الصلح أحرى بالصلاح على ما يقتضيه العقل
والشرع، فالصلح خير، فصار ذلك اعتراضا عاماً، تنبيهاً أن هذا
الموضع منه فهو اذُن خير، وكذا قوله
(4/182)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا
رَحِيمًا (129)
(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ)
اعتراضا، تنبيها على ما في ذات الإنسان، والشح أبلغ من البخل
إذ هو غريزة.
فإن قيل: فلم ذم إذا الإنسان عليه؟
قيل: ذم الإنسان إنما هو باتباعه بأكثر مما يجب، كما يذم
باتباع الشهوة ووجوده في الإنسان محمود لوجود الشهوة، واتباعه
هو المكروه،
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث مهلكات شح مطاع)
فذم طاعة الشح لا ذاته ثم حرض على الإحسان والتقوى وضمن أنه
يجازي بها، بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا).
قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ
النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
(4/183)
نبه تعالى على قصور الإنسان عن تحري
العدالة بين نسائه، وأن يحرص على
تحريها سيما في الحب، ونهى عن كل الميل عن واحدة فتكون معلقة
لا زوجا
مطلقة ولا ذات بعل، لا بعضه، نبه الله تعالى على صعوبة تحري
الحق، وأن
الإنسان إذا لم يستطع العدل بينه وبين امرأته مع أن حقها
معلوم، فكيف يستطيع أن يعدل بينه وبين رب العزة ونعمه لا تحصى،
وحقوقه لا تستقصى، كما قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
(استقيموا ولن تحصوا)،
ثم قال: (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) أي: إن تحريتم
الصلاح، واستجملتم التقوى بقدر وسعكم، فهو ما كان منكم.
فإن قيل: إذا كان الله لا يكلف إلا الوسع، وقد حكم أنكم لا
تستطيعون
(4/184)
أن تعدلوا، فلا ذنب فيما لا يستطاع، فكيف
يغفر ذلك والغفران لا يكون إلا لذنب؟
قيل: الإنسان وإن كان لا يستطيع أن يعدل بين نسائه، فإنه يمكنه
أن
يحترز من ذلك بأن لا يتزوج بعدة منهن، وكل ما دخل فيما لا
يستطيعه فهو
مأخوذ بدخوله فيه، كمن شرب فسكر، ثم جنى جناية، فإنه مأخوذ
بجنايته، لما كان هو سبب سكره، وروى أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول (اللهم إني أعدل فيما أعدل واستغفرك فيما لا
أملك)،
وكان يطوف بين نسائه ليقسم بينهن، ثم استأذهن أن تمرضه عائشة.
(4/185)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
حَكِيمًا (130)
قوله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ
اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا
حَكِيمًا (130)
هوكقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ) وقولهم: إن لم يكن
وفاق فطلاق، كما أن لهما أن يصالحا بالوفاق، وبين أنه وإن
خلقهم، خلقهم يضطر كل واحد منهما إلى صاحبه، فقد أغنى كل واحد
منهما عن الآخر يبدل له آخر، فهذا معنى الغنى، وفيه أيضا إشارة
إلى الغنى المالي،
وقد روي عن الحسن بن علي أنه كان طلق زوجته، فقيل: له في ذلك،
فقال: إني رأيت الله تعالى علق على الأمرين غنى، فقال تعالى:
(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) الآية، وقال: (وَإِنْ
يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)
والواسع: عام في الغنى، والقدرة، والعلم، وعقبه بالحكم، منبها
أن السعة ما لم يكن معها الحكمة، والعلم، كان إلى الفساد أقرب
منها إلى الصلاح.
(4/186)
إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ
أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
لما قال (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)، نبه على قدرته
على ذلك بقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ)، وسلاه عما يفوته من أغراض الدنيا، بالاعتماد
عليه تعالى، وأكد ما قدمه من الأمر بالإصلاح بقوله تعالى:
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) تنبهًا
أنه لم يزل يوصي بفعل الخير، وبين أن ذلك لرحمته لا لحاجته فهو
غني وقوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)،
راجع إلى قوله: (يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا) أي: توكلت بكفايتكم،
وكفى به وكيلا، وأعاد قوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ) ثلاث مرات لثلاثة معانٍ:
الأول: تسلية للإنسان عما فاته، والثاني: أن وصيته لرحمته لا
لحاجته وأنهم إن كفروا به لا يضروه شيئاً، والثالث: دلالة على
كونه غنيًا.
قوله عز وجل: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا
(133)
أي: هو غني عن خلقه، ومع غناه قادر على
إفناء قوم والإتيان بآخرين، كما قال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)
(4/187)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ
ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
وكما قال: (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ
مَا يَشَاءُ)
قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ
بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)،
ويقال لما نزلت الآية ضرب يده عليه الصلاة والسلام على ظهر
سلمان
وقال: (فمن قوم هذا).
وقوله: (يُذْهِبْكُمْ) على هذا ليس يشير إلى الأعيان فقط، بل
إلى الأنواع الذين هم العرب والعجم.
قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ
اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
لما بيَّن أن
(4/188)
له ما في السموات وما في الأرض.
بين أنه يعطي منهما ما يشاء من يشاء فثواب
الدنيا يرجع إلى ملك الآخرة، وهو الغنيمة وغيرها، من الأغراض
الدنيوية
وثواب الآخرة يرجع إلى ملك السموات وهو الثواب الأخروي، ونبه
أن كليهما منه كقوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ)
الآية، وكقوله: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا) الآية،
وبين بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أنه عارف
بالأغراض، والمقاصد، فهو يجازي كلا بحسب مقصده فالأعمال
بالنيات،
ونبه أيضا أنه يؤتي كل واحد من أغراض الدنيا ما يراه أصلح له،
كما قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ
فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)
(4/189)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ
لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا
فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ
تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
وفي قوله: (فَضْلُ اللَّهِ) ثواب الدنيا
والآخرة تبكيت
للإنسان حيث اقتصر على أدق السؤالين، مع كون المسؤول مالكا له
ولا أشرف منه، وحث على أن يطلب منه ما هو أعلى، وأفضل من
مطلوبه، وأن من طلب خسيسا مع أنه يمكنه أن يطلب نفيسا فهو دنيء
الهمة. \قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ
يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا
فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا
أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا (135)
أمر تعالى كل إنسان مراعاة العدالة،
ونبه بلفظ (قوامين) على أن ذلك لا يكفي مرة ومرتين،
بل يجب أن يكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار لها ما
لم تكن على الدوام، ومن عدل مرة ومرتين لا يكون في الحقيقة
عادلاً وبين أن العدالة التامة أن يكون حكم الإنسان على نفسه،
وذويه، كحكمه على الأجانب، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله
عليه وسلم - بقوله: (أن تريد لأخيك ما تريد لنفسك)، ونبه على
أنه لا يجب أن ينتفع من إيجاب
(4/190)
الحقوق محاباة لفقر من عليه الحق، أو ميلا
لغئ غني فالله أرأف بعباده، وقوله:
(وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم) حث على إقامة الشهادة على نفسه
بالإقرار، وعلى
دونه، ونحوه قوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ
ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ونص بعض الناس أن ذلك شهادة
لهم، وقال: في صدر الإسلام كانت تقبل شهادة الإنسان لأبيه، ثم
نسخ، وليست الآية تقضي إلا إقامة الشهادة عليهم لا لهم وذلك
مقبول بكل حال، ونهي عن إلزام الحق والتزامه اتباعاً للهو ى،
وتقدير: (أَنْ تَعْدِلُوا) كراهية أن تعدلو، وقيل:
(4/191)
لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي: لتكونوا في
اتباعكم عدولا، تنبيها أن اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان
لا يجتمعان،
قوله -: (وَإِنْ تَلْوُوا) إشارة إلى التكبر عن قول الحق، نحو
قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ
رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) الآية، وإنما قال بهما
وأنت تقول رأيت زيدا أو عمرا فأكرمته، ولا تقول فأكرمتهما، فإن
الإكرام يتعلق بأحدهما، والآية تتعلق بالناس كلهم غنيهم
وفقيرهم، وجعلهم شهداء لله تعظيما لمراعاة العدالة وأنه بالحفظ
لها يصير من شهداء الله، وانتصابها على الحال لقوله:
(4/192)
(قَوَّامِينَ) أو صفة لها أو يكون قوامين
حالا، وشهداء خبر كان، ومن
قرأ (تلوه) فمن ولي يلي، كأنه قال: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ
تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
ومن قرأ (تلووا) فقد قيل: جعله من الَلي، أي: المطل، وفي ذلك
مخاطبة لمن عليه الحق في ترك المطل، وللحاكم إذا تقدم
إليه الخصمان أن لا يدفع الطالب عنه حقه، والشاهدان لا يمتنع
بالشهادة لهم
(4/193)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا
بَعِيدًا (136)
قيل: معناه يا أيها الذين آمنوا بمحمد أديموا الإيمان، وقيل:
معناه يا أيها الذين آمنوا بالأنبياء، قبل محمد آمنوا بمحمد،
وقال الزجاج: خاطب بذلك المنافقين الذين أظهروا الإيمان،
وتقديره: على
ما قال أن الإيمان ضربان: ضرب: هو يحكم به في الظاهر، وهو
الإتيان
بالشهادتين والتزام أحكام الشريعة، وهو الذي يُحصِّن دم
الإنسان وماله إلا بحقه، وضرب: هو التخصص بحقائقه التي
اقتضاها، قوله:
(4/194)
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)،
وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، وقد
بينت في مكارم الشريعة أن الإيمان كما قال عليه الصلاة
والسلام: (اثنان
وسجون درجة)، وبينت القانون الذي اقتضى ذلك، وأن تلك المراتب
بعضها على بعض، فالإنسان إلى أن يصل في آخر درجة منها مأمور
بالترقي إلى ما فوق منزلته، فالآية خطاب يتوجه على كافة
المؤمنين أن يترقوا في تلك الدرجات، وقد ذكر تعالى في هذه
الآية ما هو الإيمان الاعتقادي، وذلك الخمسة، وذلك هو الإيمان
بالله وبالملائكة والكتاب والرسول واليوم الآخر، وهي المذكورات
في خبر جبريل عليه الصلاة والسلام (حيث أتى النبي عليه الصلاة
والسلام في صورة أعرابي فقال له: ما الإيمان؟) وذكر أن الكفر
بهذا هو الضلال البعيد، فنبه أن
(4/195)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
الانسلاخ من الهداية والضلال الذي قلما
يرجي عود صاحبه، وقد ذكرت كيفية الضلال عن - الطريق في مكارم
الشريعة.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قال قتادة: يعني أهل الكتابيين اليهود، آمنوا بموسى ثم كفروا
بمن عداه، والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمن عداه، ثم ازدادوا
كلهم كفرا بمحمد، وقيل: آمنوا. بموسى ثم كفروا به لأنهم لم
يؤمنوا
بعده بعده فهم في حكم من لم يؤمن، وقال مجاهد: هو في المنافقين
المذكورين
في قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
(4/196)
وقيل: هي في الذين قال فيهم: (وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا
آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)،
ولم يرد أنهم آمنوا مرتين وكفروا مرتين وإنما ذلك إشارة إلى
أحوال كثيرة، كقولك: فلان فعل ثم امتنع إلى هذا كان دأبه،
وقيل: كما أن الإنسان يندرج إلى غاية الفضائل ثلاث درجات، وهو
أن
يحصل في أولها، ثم في أوسطها، ثم في منتهاها، كذلك يتضلع في
الرذائل ثلاث درجات، ولذلك جعل الله له ثلاث عقوبات الرَّين
والغشاوة والطبع، ومن
(4/197)
الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
ترك الإيمان مرة بعد مرة، ثم ازداد تماديا
في الغي، فقد صار من الذين وصفهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)،
ثم قال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فبين تعالى أن من انتهى في الغي إلى
هذا المنزل فقد صار بحيث لا يتوب، وإذا لم يتب لم يغفر له ولا
ليهديه إذ هو لا يهتدي لكونه مطبوعا على قلبه لما ارتكبه،
وقال بعض الفقهاء: إن المرتد تقبل توبته سار
بالكفر أولم يُسر، لأنه جعلهم مؤمنين بعد دخولهم في الكفر.
قوله تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
(139)
العِّزةُ: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، وهو من قولهم أرض
عزاز أي صلبة، وتعزز اللحم اشتد
(4/198)
وعزَّ كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه،
كقولهم: تظلف كأنه حصل
في ظلف من الأرض، وعزز المطر الأرض صلبها، وشاة عزوز قل
درُّها،
والبشارة: الخبر الذي ظهر أثره في بشر الوجه، وأكثر ما يستعمل
في
السرور، ويجوز أن يكون في مثل هذا الموضع رد إلى أصله، كالطرب
الذي هو خفة من الفرح والترح في الأصل ثم كثر في الفرح، فرد
الشاعر إلى أصله في قوله:
وأراني طَرباً في إثرهم ... طَرَبَ الوَالِهِ أو المُخْتَبَل
(4/199)
ويجوز أنه استعمل للبشارة، في ضده على سبيل
التهكم،
نحو قول الشاعر:
.................. تحية بينهم ضربٌ وجِيعُ
ووصف المنافقين بأنهم موالون الكفار كما قال تعالى: (أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ
أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) الآية، ثم قال:
(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) تنبيها أن لا عزة لهم
وإنما العزة لله ولرسوله والمؤمنين، فقد ذكر من منه العزة ومن
جُعل له العزة في الأولى، ذكر من منه العزة فقط دون من جعلت
له، ونفى ذلك عن الكفار تنبيها أنه وإن حصل لهم حوله
(4/200)
وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ
اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ
وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
تسميتها الجهلة عزا فليس ذلك في الحقيقة
بعز إذا اعتبرت الحقايق.
قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ
إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
منع تعالى المؤمنين من مجالسة من قصده العناد والهزؤ، وليس
له قصد إلى حماع الصدق ولا نية رجاء أن يسخر بلى حق، فأما من
رجي أن
يقلع عن رأيه فجائز مجالسته بل واجب، ولهذا قال الحسن: إنا كنا
إذا
رأينا باطلا تركناه حتى لا يسرع ذلك في ديننا،
وقول ابن عباس: لمن يجوز أن يقعد معهم بوجه حتى نزل قوله
تعالى:
(وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) نسخ ذلك،
فليس يقصد حقيقة النسخ، وإنما يعني أن الآية كانت تحمل على
العموم، فعلم بهذه الآية تخصيصها وأنه يجوز مجالستهم إذا رجي
منهم رشدا، ولا يجوز فيما يؤدي بهم إلى فساد
ولهذا قال تعالى: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
(4/201)
ونبه بقوله: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)
على أًن الاستماع إلى الباطل مكروه، كما أن التفوه به مكروه،
وبهذا ألم الشاعر فقال:
سَمعُكَ صُنْ عَنْ سَمَاع القُبْح ... كَصون اللسان عن
اللَّفظِ بهِ
والسامع للذم شريك له والمطعم للمأكول كالآكل. ونحو الآية قوله
تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ)
وبين أن المنافق الذي يظهر بلسانه الإيمان
دون قلبه، والكافر الذي يصرح بالكفر هما سيّان في استحقاق
النار، فإن
الاعتبار بإخلاص النية كما قال عليه الصلاة والسلام: (ولكل
امرئ ما نوى).
(4/202)
الَّذِينَ
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ
لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ
بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ
قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
الاستحواذ: الاستيلاء، وأصله من استحوذ البعير على الأتان، إذا
استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها، ويقال: استحاذ، وهو القياس،
وقد جعل تعالى ما للمؤمنين فتحا، وما للكافرين نصيبا، تنبيها
أن الذي حصل للكافرين هو من الدُّولة من أهل الدنيا، وذمهم
لأنهم يراوون الفريقين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (شر
الناس ذو الوجهين يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)،
(4/203)
ومن هذا قيل: إن ذا الوجهين خليق أن لا
يكون عند الله وجها،
وقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)
فإن أمير المؤمنين جعله معتبرا بقوله تعالى: (فَاللَّهُ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وقيل: (وَلَنْ
يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلًا) في القيامة
وقال غيره: لن يجعل الله له سبيلا في الفتح، الذي جعله
للمؤمنين لا في
النصيب الذي قد يجعله للكافرين من الأغراض الدنيوية،
وقال السدي: السبيل الحجة لم يجعل ذلك للكافرين،
وحمل الفقهاء: ذلك على الحكم،
فقالت الشافعية: الإسلام يعلوا ولا يعلى، قالو: أمر يقتضى ذلك
(4/204)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
أن لا يملك الكافر عبدا مسلما ولا يصح
شراءه، واقتضى أن لا يقتل مؤمن بكافر، واستدلت الحنفية على من
ارتد انقطعت العصمة بينه وبين امرأته، قبل انقضاء العدة فلا
يكون له إليها سبيل.
قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلَّا قَلِيلًا (142)
قد تقدم في مخادعة الله، وبين أنه متشبعون بنقل الخبر، وأن
كسلهم يدل على تشبعهم، والذكر ههنا الأولى أن يراد به ما يكون
باللسان، دون ما يكون بالقلب، ونفي ذلك عنهم يقتضي أن
ذلك ليس عن نية وطوية صحيحة، والرياء كالنفاق لأنه أعم.
قوله عز وجل: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى
هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
التذبذب: الاضطراب،
(4/205)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا
لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
قال النابغة:
تَرى كُل مُلْكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ
وصفهم بأنه مندفعون من الجانبين لا موجة لهم، ثم بين الإرشاد
ولا رشد
لهم كما قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا
فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40).
وقد تقدم الكلام في الإضلال.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
مُبِينًا (144)
(4/206)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا (145)
نهى عن اتخاذ الكافرين أًولياء من دون
المؤمنين، وذلك أن يستعان بهم استعانة المرؤوس بالرئيس،
والمنتصر بالناصر لاستعانة المستخدم بالحاكم، وعلى ذلك قوله:
(لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ
خَبَالًا) وبين أنكم إن فعلتم ذلك جعلتم على أنفسكم سلطانا
للعقاب، وجعل الحجة سلطانا نحو: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ
سُلْطَانًا)، (لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ)،
قال بعضهم يصح أن يقال لا سلطان لله على المؤمنين المخلصين،.
بمعنى أنه لا يعذبهم.
قوله عز وجل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا
(145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا
بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا (146)
(4/207)
الدركات والطبقات يقال في العقاب كالدرجات
في الثواب، ونبه بهذه الآية على نهاية رداءة المنافقين، وأنه
منتهى الكافر لأنه يساويه في اعتقاده، ويزيد عليه في كذبه،
لأنه يدعي ما ليس له والمنافق مرائي، وبين أنه تعالى لا ينصرهم
ولا يجدون من ينصرهم عليه كقوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ) واستثى ممن يجعلون في النار للتائبين.
جعل من تمام التوبة إصلاح العمل، والاعتصام بالله
وإخلاص الدين، وهذه الشرائط الثلاث من تمام التوبة، كما أن
الأعمال
الصالحة من تمام الإيمان، ومن لم يأت بذلك فإنه يقال له تاب
على المجاز،
وحذف الياء في الخط في قوله (يُؤْتِ اللَّهُ) اتباع اللفظ
لالتقاء الساكنين
كقوله: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ) وكقوله: (سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ).
(4/208)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
وحذفها من قوله: (ذَلِكَ مَا كُنَّا
نَبْغِ) للتخفيف، وقوله: (يَسْرِ) لكونه رأس الآية.
قوله عز وجل: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا
(147)
أي تعالى الله عن عذابكم فلا يعذبكم إذا عرفتم ووفيتم حقها،
إن قيل: لم أخر الإيمان عن الشكر؟
قيل: لأنه عني به معرفة النعمة التي يتوصل به إلى معرفة النعم،
ومعرفة المنعم هي الإيمان، فإذا الشكر على هذا الوجه مقدم على
الإيمان، لأنه أرفع منه وهو لا ينفك عن الإيمان، والإيمان قد
ينفك عنه، ووصفه نفسه بالشكر تنبيها أنه يقابلهم بما يكون
منهم، فقد تقدم أن الشكر قد يكون من المولى للعبد بمعنى
مقابلته بما يكون من خدمته،
ونبه بقوله: (عَلِيمًا) أنه لا يخفى عليه ما يتحراه العبد.
(4/209)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
قوله: (مَنْ ظُلِمَ) رفع على تقدير: لا يرضى أن يجهر بالسوء من
القول إلا المظلوم، أو على تقدير: أن يسوء في المقال إلا
المظلوم، وسمَّى المجاهرة بالسوء سوءا تنبيها أنه لو لم يكن
ذلك على سبيل المقابلة لكان سوءاً لفظه خبر ومعناه للإباحة،
كأنه قال: لا يجهر بذلك إلا المظلوم، وذلك كقوله:
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - (اذكروا الفاسق بما فيه)
رخصه لمن أذي بغير أن يذكَر فعله لا رخصة في اغتياب الناس من
غير حاجة إلى ذكرهم، ومثل قوله: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) تقديره:
لكن من ظلم فإنه له أن يذكر ظالمه بأن يدعو عليه، أو يغتابه.
بما فعل على سبيل الشكاية،
قال مجاهد: قد دخل في ذلك من ضاف
(4/210)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
رجلا فلم يؤد حق الضيافة.
قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ
تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا
(149)
جميع ما يفعله الإنسان مع غيره من الإحسان، إما إحسان يبديه أو
إحسان يخفيه، أو يخاف عليه لسوء يجنيه قد ذكره تعالى وبيّن أنه
يجازي به، ونبه بقوله: (عَفُوًّا قَدِيرًا) على مجازاة
المتعافي بالعفو عنه وقدرته عليه.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ
بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
(4/211)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
الإيمان بالله لا يتم إلا بتصديقه، مقاله
ومقال رسوله
والرسل كلهم يجرون مجرى واحد، فمن كفر ببعضهم كالكافر بكلهم،
من
حيث أنه لم يتحرَّ الحق، فالحق من حيث ما هو حق لا منافاة
بينه،
إن قيل لم أعاد ذكر الرسل ولم يقل بين الله وبينهم فيكون أوجز؟
قيل: لما عنى أنهم يفرقون بين الله ورسله وبعض رسله، وعنى
بقوله: (يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) كل رسله لأن كل من
كفر ببعضهم كفر بكلهم،
فلو لم يعد ذكرهم لاقتضي أن يكون معناه يفرقون بين الله وبين
جماعة الرسل، فإن المضمر لا يفيد إلا ما يفيد مظهره، فأعاد
ذكرهم لما كان الأول عاماً والثاني خاصًّا.
وقوله عز وجل: (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلًا) أي
يتحرون لطلب رئاستهم سبيلا ليس بحق،
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) إن آمنوا ببعض
الأنبياء، وهذا الكلام
مبنيّ عَلى قياس، كأنه قيل: كل من فرق بين الأنبياء فهو كافر
حقا أعتدنا له
عذابا مهينا، وهؤلاء قد كفروا ببعض الأنبياء فإذاً أعتدنا لهم
عذابا مهينا.
قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(152)
(4/212)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ
وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
كما بين في الآية الأولى حكم من فرق بين
بعض الأنبياء وبعضهم، بّين حكم
من خالفه: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
(136).
وَذكر أجرهم، كما ذكر في الأولى عقاب من فرق
بينهم، ونبه بذكر الغفران على غفران ذنوبهم وبالرحمة على
مجازاتهم بالإحسان.
قوله عز وجل: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى
أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا
مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا
مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
(4/213)
نبه تعالى على ما كان من تحكيمهم واقتراحهم
على
ما ينافي السياسة الإلهية، وبيّن أن ذلك ليس بأول جهالاتهم
وجناياتهم، فقد
اقترحوا على موسى ماهو أبعد وأشنع مما سألوك، ولأنهم سألوا
إدراك الباري
بالحاسة في الدنيا، فرجها الصاعقة لما ارتكبوه من الظلم في طلب
ذلك، وثانيا: أنهم عبدوا العجل بعد إتيانهم الحق وعبادتهم
للعجل بعد إتيان الحق أشنع وأفظع، مع أنه في كل حال أشنع،
وقوله: (وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) يجوز أن يكون
ذكر منه ثالثة ويجوز أن يكون اعتراضا وتوكيدا لما قبله، وأنهم
مع
ما أوتي نبيهم من المعجزات يرتكبون ما يرتكبون، ورفع الطور؟
قيل: كان
على سبيل تخويفهم، وقيل إظهاره المعجزة، وثالثا من كان
بمخالفتهم فيما
أمروا من دخول باب من أبواب بيت المقدس، وأن يقولوا حُط عنا
ذنوبنا،
(4/214)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ
الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلًا (155)
وقال بعض الناس: معنى ذلك خذوا الحق من حيث
ما يجب أخذه، ولا يطلبوه من غير وجهه، قال: وهذا استعارة، نحو
قول الشاعر:
أتيت المروة من بابها.
ومعنى (سُجَّدًا) أي متواضعين لقبول الحق، ورابعا ما كان من
تعديهم
في السبت، فأعاد ذكر الميثاق تنبيها أنه أخذ عليهم ذلك مرة بعد
أخرى.
قوله عز وجل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا
عَظِيمًا (156)
ما في قوله: (فَبِمَا) زائدة مؤكدة
(4/215)
ومعنى توكيدها أنها تقتضي تكثير معنى الفعل
الذي يدخل عليه، كما أن التشديد وزيادة الحروف في مفعيل ومفعال
وفعال يقتضي ذلك،
وقيل: بل (ما) ها هنا اسم نكرة اقتضى حالا مجملة،
وقوله (نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ) وما بعدهما بدل
منه، كأنه قيل: فبشيء ما لعنوا، ثم فصَّل ذلك الشيء وخص ما كان
منهم في هاتين الآيتين سبعة أشياء تقضي الميثاق المذكور في
قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ)
وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير الحق، وقولهم قلوبنا
غلف، وكفرهم المطلق، وقولهم على مريم البهتان، وادعائهم قتل
عيسى وقولهم قلوبنا غلف،
(4/216)
أي ادعوا أن قلوبهم أوعية العلوم، فكذبهم
الله، بقوله تعالى: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا
بِكُفْرِهِمْ) وقيل: معناه قلوبهم محجوبة عن العلم، كقوله:
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ)
وأثبت لهم ها هنا إيمانا قليلا، اعتبارا بظاهر أقوالهم حيث
قالوا نؤمن ببعض ونفى عنهم في الأول الإيمان اعتبارا بالحقائق،
وأن ذلك المقدار غير معتد به، ووجه ذلك أن من فعل بعض ما أمر
به فإنه يصح أن يقال: لم يفعل ما أمر به اعتبارا بالفعل كله،
ويصح أن يقال: قد فعل بعض ما أمره اعتبارًا بما ظهر منه، اعتد
به أو لم يعتد،
وقوله: (وَكُفْرِهِمْ) فإنه أعاد ذلك تنبيها أنهم كفروا
بالمسيح وبمحمد عليهما الصلاة والسلام،
وقيل: لارتدادهم مرة بعد أخرى،
والبهتان: الكذب الذي يبهت منه سامعه فظاعة وشناعة،
والباء في قوله: (فَبِمَا) قيل: هو متعلق بقوله: (حَرَّمنَا)
وقوله: (فَبِظُلمٍ) بدل
(4/217)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا
قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
منه وأدخل الباء فيه لما تباعدا بينهما،
وقيل: هو متعلق بمضمر، كأنه قيل:
سبب هذه الأشياء: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ
تُنَزِّلَ)
والمعنى ارتكابهم - لهذه القبائح أفضى بهم إلى هذا الاقتراح.
قوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا
(157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
(4/218)
إن قيل: كيف حكى عنهم أنهم قالوا قتلنا
رسول الله
ولم يقروا بكونه رسولا؟
قيل: هو أن يكون ذلك من جملة الحكاية وذكروه على سبيل التهكم
زعما منهم أنه لو كان رسولا لما قدرنا على قتله، ويجوز أن يكون
ذلك من قول الله تشريفا له لا حكاية عنهم، كأنه قال أعني رسول
الله ونفى قتله وذكر أن ذلك شُبِّه لهم،
واختلفوا في حال عيسى، فقيل: ألقي شبه على رجل فقدر أنه هو
فصلب، قالوا: فهذا معنى قوله تعالى: (شُبِّهَ لَهُم) فاعترض
على ذلك،
وقيل: ثبت أنهم يدعون صحة ذلك ويقولون أن هذا جائز في الأمور
الإلهية، وأن منه النبوة، كيف يصح أن يفعل ذلك فيرى الناس
بعيونهم صورة رجل وهو يصلب، ثم يذمهم، حيث قالوا إنه صلب، وهل
يلعن الإنسان مع ذلك أن يرى امرأة يقدرها أنها امرأته، فيدنوا
منها ثم يعاقبه الله بذلك؟
قيل: إن ذلك شيء يفعله الله فتنة بعد فتنة الحكمة تتعلق به
فليس يجب للإنسان أن يظن ذلك في كل وقت، وإنما ذمهم تعالى
بتبجحهم بقتل الأنبياء إلا أن الأمر شبه لهم،
وقال بعضهم: إذا رأى واحداً أو اثنان أو إنسانا من بعيد، وفيه
مماثل من عيسى فلما فقدوه من ظنوه إياه، فصار هذا الخبر ماض
فيما بينهم فإنه يستند إلى من يصح عليه الخطأ والكذب، وبين
(4/219)
أن المختلفين فيه يقولون عن تخمين واتباع
ظن،
إن قيل: كيف جعل اتباع الظن مستثى من العلم وليس بداخل فيه؟
قيل: حقيقة في كل اعتقاد ظنا كان أو وهما أو تخيلا أو حسا، ألا
ترى أن النابغة في صفة الطير:
جَوانِحَ قَدْ أيْقنَّ أنَّ قَبيلهُ ... ما الْتَقى الجَمْعَان
أوَّلُ غَالِب
فاستعمل في الظنون اليقين وهو أشرف العلم، وقد يقول لمن يدعي
العلم
وهو لا يعلمه، علمك ظن، فعلى هذين يصح أن يستعمل العلم في
الاعتقاد
وإن لم يكن معه سكون النفس، فلما ادعى القوم أنهم علموا قالوا
مالهم به من علم فأدخل عليه من، تنبيها على استغراق جنس
المعارف التي يحصل منها
الاعتقادات، ثم قال: (إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) فذكر أضعف
وجه يحصل به
الاعتقاد، ولهذا قال تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فجعل اتباع الظن سبب
للخرص أي الكذب.
(4/220)
قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا) أي ما
قتلوا ذلك لاعتقاد من قولهم قتلت كذا علما
أي بحقيقته، كأنه قيل: ما تحققوا معرفة ذلك؟
قيل: أراد به القتل الحقيقي وإنما قال يقينا لأنه يقال فلان
فعل كذا ظنا إذا توهم أنه فعله، وفعله يقينا إذا تحقق أنه قد
فعله،
وقوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِليهِ) قيل: معناه رقى
بشخصه كما هو إلى السماء، وإليه ذهب - جماعة من أصحاب الحديث،
وقيل معناه: مع ذلك أنه شرف مكانه من بين الأنام كقوله:
(وَرَفَعنَاهُ
مَكَانًا عَلِيًّا) وكقول الشاعر:
بلغنا السما حسابنا ... لولا السما لحر بالسملة
وقول لآخر:
لَنا بَيْتٌ على عُنُق الثريّا ..........
(4/221)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
وذكر قول (إليه) تنبيها على تعظيم المرفوع،
لا إلى إشارة إلى حد محدود،
تنبيها على أنه حصل له به أعلى الشرف، وإلى نحوه أشار (إِلَى
رَبِّكَ
المُنتَهَى) (وَإِلَيهِ المَصِيرُ) ومثل هذا يشار إليه ولا
يمكن
الكشف عن حقائقه باللفظ، وإنما يدركه الإنسان بحسب ما جعله له
من نوره.
قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
قيل: ما أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى عليه السلام قبل موت
عيسى إذا نزل من السماء، يكون أهل الكتاب خاصا لمن كان في زمان
نزوله، وقيل: بل ذلك عام.
والضمير في قوله: (قَبلَ مَوتِهِ) راجع إلى (أحد) المضمر في
قوله:
(4/222)
(قَبْلَ مَوْتِهِ) راجع إلى أحد المضمر في
قوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)
ويعني به وقت المعاينة حيث تصير العلوم بالآخرة ضرورية ويرتفع
التكليف.
فإن قيل: فأي تشريف لعيسى إذا قلتم إن الحقائق كلها تظهر في
تلك الحلل؟
قيل: تشريفه أنه جعله من جملة الحقايق التي من أُجِلَّ في
الدنيا بمعرفتها لم يعتمد لعمله كمعرفة الله، ومعرفة الملائكة،
والقيامة، وإلى نحو هذه المعرفة أشار تعالى بقوله: (فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)
وعلى هذا حكى عن فرعون (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ
بَنُو إِسْرَائِيلَ).
وقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)
أي شاهدا
أنه بلغهم رسالة ربهم كقوله: (فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا
عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى
هَؤُلَاءِ) وهو الذي قال:
(4/223)
فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
(وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ
فِيهِمْ) فهو يشهد على نفسه
بالعبودية، وعليهم بسماع الرسالة.
فإن قيل: فأي تعلق بقوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) بما تقدمه؟
قيل: نبه بما تقدم أنهم اعترفوا بصدقه في الدنيا، قبل خروجهم
منها يعقبه هذا، تنبيها أنه يلزمهم شهادته عليهم يوم القيامة.
قوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ
نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(161)
ظلمهم عام في جميع ما ارتكبوه مما لا يجوز، وتخصيص الأشياء
الثلاثة المذكورة بعده تعظيما لها.
واعلم أن تحريم الله على ثلاثة أضرب: الأول: تحريمه الخبائث
وكل ما ليس له هذا بوجه والبدن تعافه كالذباب، والخنافس،
والأشياء المخلوقة من فضول البدن
وهذا الجنس يحرم عقلا وشرعا.
الثاني: ما يعلم ضره أكثر من نفعه وقد يظن بعض الناس فيه نفعا
كثيرا، فهو متردٍ من التحريم والتخيل في العقل، وضرب نافع في
الأحوال الدنيوية جداً، إلا أن نفعه ليس بضروري، والعقل لا
يقتضي
(4/224)
بتحريمه، والشرع قد حرمه في حال دون حال،
تهذيبا للنفوس عبادة، ودفعا لسلطان شهوتهم كتحريم الشحم على
بني إسرائيل، وهو ما قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا) الآية، فنبه تعالى أنهم لما أسرفوا
وصاروا يظلمون، ويصدون عن سبيل الله، حرم عليهم بعض الأطعمة،
ليكون في ذلك عقوبة لهم من وجه وتهذيب يقمع شهوتهم من وجه،
فقلة الطعم سبب لتوهين الشهوة، ولتوهينها أمر تعالى في كل شرع
بصوم، ليكون ذلك سببا لمنعها عما تدعو إليه، فلا تكون كالبهائم
التي تأكل ما تشتهي، وإلى نحو هذا أشار قوله عليه الصلاة
والسلام: (صوموا تصحوا)، فإن في الصوم صحة
(4/225)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
للبدن، وصحة النفس،
وقوله: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ) لما نبهً بما تقدم
أنهم كفروا، ذكر ما أعد للكافرين ليكون فيه إشارة إلى أنهم
يستحقون
ذلك العذاب، أنهم من جملتهم.
قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا
عَظِيمًا (162)
الراسخ في العلم: هو الذي لا يعترضه شبهة لتمكنه في معرفته
وتحققه بها، وكونه من الذين قال فيهم: (الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) فنبه أن
الراسخين في العلم يعرفون معنى النبوة ويعتبرونه، فحيث ما
وجدوه يتبعوه، فالحق لا ينافي بعضه بعضا.
(4/226)
إن قيل: ما وجه لكن ها هنا؟ وهو لإبطال
الشيء وإثبات آخر، فما الذي أبطل ها هنا؟
قيل: لكن وإن كان كما قلت، فتارة تجيء بعد نفي، ما جاءني زيد
ولكن عمرو، وتارة تجيء بعد إيجاب، والإبطال فيه مقدر، نحو
جاءني زيد لكن أخوه أحسن إلي، والتقدير: أخوه لم يجئني لكن
أحسن إلي، فأغنى عن الإبطال بذكر الإيجاب، ولما اقتص عن اليهود
ما كان منهم، وألزمهم المذمة، بيّن أن الراسخين لم يذهبوا
مذهبهم، لكن يؤمنون بكل ذلك ويستحقون به الثواب، بخلاف هو لا
الذين يستحقون العقاب،
وقوله: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ)
قيل: هو عطف على قوله: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي:
وبالمقيمين الذين
يقيمون الصلاة.
وقيل: الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين وهذا إذا جعله
عطفا لم يجوزه سيبويه لعطف الظاهر على المضمر المجرور، وإن
جعلته على
تقدير من وحذفه لدلالة ما قبله عليه جوزه لتجويز قوله: ما كل
بيضاء شحمة، وسوداء تمرة، على تقدير: ولا كل سوداء تمرة.
وحكى أن عائشة قالت:
(4/227)
إني لأجد في كتاب الله لحنا من جهة الكاتب
وسيقيمه العرب بألسنتها وقرأت (وَالمُقِيمِين) (1).
ولسيبويه باب في كتابه يذكر فيه أن كل وصف يجيء على
المدح والذم، يصح فيه الاستئناف مرفوعا ومنصوبا، ويجوز منه
إتباع الموصوف
__________
(1) لا يصح ولا يثبت.
(4/228)
على هذا يحمل قول الشاعر:
النَّازلُون بكُلِّ مُعتَرك ... وَالطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزُر
(4/229)
إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا (163)
وقد ذكر تعالى عامة الإيمان الاعتقادي، فإن
جماعة ذلك هي المذكورة في
قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الآية
ولم يذكر الملائكة ها هنا في ضمن الإيمانَ (وَمَا أُنْزِلَ)
إيماناً بالملائكة الذين
نزلوا به وإنما قدم الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على
الإيمان بالله ها هنا لأن القصد من الآية إليه، والمذكور بعده
على سبيل التبع، وذكر من الإيمان العملي إقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، وأنهما ركنا العبادة، وعلى هذا يخصهما في عامة الآيات
من بين العبادات.
قوله عز وجل: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا
إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا
قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
(164)
ذكر تعالى في هذه الآية اثني عشر نبيا بأسمائهم وأجمل ذكر
باقيهم، وذكر بعض أولي العزم وبعضا من غيرهم، وذكر بعضهم على
الترتيب، وذلك أنه أراد أن
(4/230)
يبين أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم، وخصه
بما خص كل واحد منهم به
تفضيلا له وتشريفا، وأنه جرى معهم مجرى، فذلك من الحساب المبني
بجملته
عن تفصيل ما تقدم، فذكر نوحا الذي هو أول أولي العزم من الرسل
والنبيين
ومن بعده مجملا، ثم فضل النبيين فذكر إبراهيم الذي كان أول
النبيين من أولي العزم بعد نوح، وذكر معه من جرى منه مجرى
أبعاضه في كونهم تابعين له، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب
والأسباط، ثم ذكر الطرف الآخر من أولي العزم وهو عيسى ثم
الأواسط أيوب ويونس وهارون، ثم ذكر من أوتي الكتاب مجملا وهو
داوود، فإن الزبور وهو اسم الكتاب، إذ كتبه كتابة غير مفصلة،
وأفرد ذكر موسى من حيث إنه خص بالتكلم، وكل هذه الفضائل كان
للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
(4/231)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(165)
قوله تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
(165)
نبه أن بعثة الأنبياء إلى الناس مما لا يستغنون عنه، لقصوركلهم
عن إدراك جزئيات مصالحهم، وفضول أكثرهم عن كلياتهم وجزئياتها،
وبعث الأنبياء مبشرين ومنذرين ليكون قد أزاح عللهم، لذا قال
تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ).
قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى
يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا).
قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
(15).
(4/232)
لَكِنِ اللَّهُ
يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
(166)
قال: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ
مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا
لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا).
قوله عز وجل: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ
إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
اتصل ذلك بما قبله اتصال إثَبات الحق بعد إنكار من أنكره،
ومعنى شهادة الله: إقامة البينة الدالة على ثبوته، وعلى هذا
قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)
الآية، أي: أقام البينة الواضحة على وحدانيته، وأعظم الشهادة
ما يقتضي علم المشهود عنده، فالشهادة من الناس قد لا توقع
العلم، وشهادة الله إقامة البراهين المثلجة للصدور موقعة للعلم
مزيلة للشك، فمن أعظم شهادته إتيانه لمعجزاته كالقرآن الذي هو
كما قال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى
أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وقوله: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) قيل: بعلمه بك، وأنك
(4/233)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا
ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
مستحق للنبوة، كما قال: (اللَّهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وقيل: أنزله بالعلم الذي يحتاجون إليه، أي هو. متضمن للعلم،
وذكر شهادة الملائكة تنبيها أن العقول الصحيحة تعرف صحة نبوتك،
وأنكم لو استعملتم العقول لاطلعتم على ذلك، لإطلاعهم ووقوفهم
عليه، لمشاركتكم إياهم، ولأنهم أتوكم بما لا سبيل إلى معرفته
إلا من جهة الملأ الأعلى، فهذا معنى شهادة الملائكة.
ثم قال: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي بما أقام من الأدلة
على صحة نبوتك
عن الاستشهاد بغيره.
قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
الضلال أعم من الكفر، فكل كفر ضلال، وليس كل ضلال كفرا، والناس
في الضلال ضربان: ضال غير مضل، وضال مضل، وهو أعظمها جرماً
وأكبرها عقابا، والمضل بالإضافة إلى غيره قد ضل ضلالا بعيدا،
وهو الذي كفر وضل عن سبيل الله.
(4/234)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا
لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرًا (169)
قيل: عنى الله بالجمع بين الكفر الذي هو أعظم الظالمين وبين
ظلم العباد. وقيل: تقديره: إن الذين كفروا وظلموا الذين ظلموا،
نحو قول الشاعر:
ومنْ يَهْجوا رَسُولَ الله منكم ... ويَمْدَحَه ويَنْصُره
سَواءُ
أي ومن يمدحه بحذف (من).
وقوله: (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) أي
(4/235)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا
حَكِيمًا (170)
لا يوافقهم لغير ذلك إذ لا يستحقون بل لا
يقبلون.
وقوله: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) أي لا يصعب
عليه تعذيبهم، ولا يستعظمه، فالحكمة تقتضي ذلك.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ
بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ
تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
(الباءَ) في قوله: (بِالحَقِّ) للتعدية، كقوله: (يَكَادُ سَنَا
بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43).
(خَيْرًا) نحو (انتَهُواْ خَيْرًا لَّكم) وتقديره: آمنوا
وائتوا خيرا لكم.
فدل بلفظ الإيمان على إتيان الخير.
قال الكسائي: تقديره يكن الإيمان
(4/236)
خيرا لكم، وأجاز الكسائي مثله في الخير،
وقال: سمعت اتقوا من خيرا لكم.
وأنشد: -
فَوَاعِديْهِ سَرْحَتيْ مالِكِ ... أَوالرُبَا بَينَهُما
أَسْهَلاً
وقوله: (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي
نفع إيمانكم عائد عليكم وأما هو فغني عنكم، ونبه بقوله:
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على غناه، ولم
يعن الموضوع منهما فقط، بل يعني مع
ذلك ما ركب منه السماء والأرض، كقوله لفلان: ما في هذا الثوب
أي غزله ونسجه فمنه، تنبيه أن له السماوات والأرض كما أن له ما
فيهما اهـ.
(4/237)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ
إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا
تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا
اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
قوله عزَّ وجلَّ: (
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا
لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
الغلو: الخروج عن القصد، ومفارقة العدل، من قولهم: غلا السعر،
وغلت القدر.
خاطب بذلك النصارى فيما يدعونه من الافتراء على الله وعيسى،
وقد تقدم الكلام في منافاة الربوبية للولد، وسماه كلمة الله
كقوله: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ).
قيل: بشارة الله، وقيل: لأنه مدى كلمة الله وسماه روحا لقوله:
(فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)
وقيل: لأنه كان يحي الناس إحياء الروح،
وقيل: لأنه سبب للحياة الأخروية، كما أن الروح سبب
(4/238)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
للحياة الدنيوية.
وقيل: انتهوا خيرا لكم.
قيل: فيه الوجهان المقدمان، وقيل: انتهوا انتهاءاً خيرا لكم،
بقوله:
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)
على غناه عن الأولاد، وبقوله: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)
أنه القائم
بحفظ الأشياء، والولد يحتاج إليه، ليكون وكيلا لأبيه، وهو
تعالى مستغن
لأنه هو الحافظ لكل شيء.
قوله عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ
عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ
يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
الاستنكاف: الأنفة من قوله نكفت الدم أي نحيته بالإصبع حتى قيل
للدم
نكف، وقيل: بحر منكوف لا ينزح.
قيل: هو من النكف أي نحيته قطيف بالعنق، وقيل: من النكفين،
وهما لحمتان متدليتان من العنق، واستعمالها
(4/239)
في التكبر كالصعر ميل العنق والعزم بالأنف،
وعلى ذلك قال الشاعر:
إن الكَريمَ مَنْ بَلَغَتْ قُواهُ ... وإن اللئيمَ دَائِمَ
الطرْف أَقْوَدُ
والعبودية وإن كانت متضمنة بالمذلة إذا اعتبرت لغير الله،
فإنها مقر الشرف
إذا اعتبرت به تعالى، فلهذا الاستنكاف منها.
والاستكبار: طلب التكبر لغير استحقاق، التكبر قد يكون
باستحقاق، وذلك إذا كان طلبا لعزة النفس والتلطف عن الأغراض
الدنيوية.
نبه تعالى أن لا استنكاف لأحد في عبادته وأن
المستنكف عنها لا ينجو منه، بل يفتقر إليه فيجازي به.
والضمير في قوله تعالى: (فَسَيَحشرُهُم) راجع إلى كل من تقدم
فلهذا فصل من بعد.
واستدل بعض المتكلمين بالآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء،
وقال: مثل
هذا الكلام إذا ذكر على طريق التحمد مؤخرا الأشرف فالأشرف،
فيقال:
لا يستنكف الحاجب من خدمة فلان ولا الوزير ولا الأمير، ولا
يقال على
عكس ذلك، فاعترض على ذلك بأشياء أحدهما: أنه قد يذكر في مثل
هذا
الموضع في مرتبة واحدة، فيقال: الرشيد لا يستنكف من ذلك ولا
المأمون
(4/240)
أيضا، فقد خص الله تعالى عيسى من دون غيره
من الأنبياء، فلا دلالة أنه
أفضل من كلهم، وأيضا فقد قال: (وَلَا الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ)
ولا دلالة أن غير القربين أفضل من الأنبياء، فأجاب هذا المجيب
أن المسلمين
اختلفوا على وجهين: فمن قائل قال: الأنبياء أفضل، وقائل قال:
الملائكة
أفضل ولم يقل أنهما سواء وكذا قالوا: لا فرق بين عيسى وغيره،
في كونهم
فوق الملائكة، أو دونهم، وكذا لم يفرقوا بين المقربين، وغير
المقربين في هذا المعنى.
وهذا الجواب كما ترى، وقد اعترض على ذلك أيضا فقيل: إنما ذكرت
من
قولك لن يستنكف الحاجب من خدمتي، ولا الوزير، إنما يكون في
اسمين مفردين كما مثلت به، فأما إذا ذكرت مفردا أو جملة فليس
يقتضي ما ذكرت، كقولك: لن يسنكف الحاجب أن يخدمني، ولا الصغير،
والكبير من أصحاب
(4/241)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا
يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
(173)
الأمير، قال: فهنا لا يقتضي أن يكون
الصغير، والكبير أفضل من الحاجب،
فأجاب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن هذا الموضع قصد به التكثير، لا التكبير
والآية قصد بها التكبير، والثاني: أن ما ذكرت إنما يكون في
جملة يدخل
المعطوف عليه في عمومه كقوله: والصغير، وليس عيسى مما يدخل في
جملة
الملائكة، واعترض على ذلك تنبيها بقوله: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ
وَلِيجَةً) واستدل على تفضيل الملائكة هنا
بقوله: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ
الْخَالِدِينَ) فاثبتوا فلولا أنهم فوقهما لما اغتر بذلك،
وكذا أيضا استدل بقوله: (وَلَاَ أَقُولُ لَكم إِنِّى مَلَكُ)
فتبين
أنه لا يدعي لنفسه مرتبة ولا يليق به فهذا هو دلالته من حيث
الظاهر.
قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
الفرق بين الاستنكاف والاستكبار، الاستنكاف نكف في قوله
(4/242)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي
رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا (175)
أنفة وليس في الاستكبار نحو ذلك، والولاية
تقتضي إخلاص المودة والنصرة
معونة كان معها الولاية أو لم تكن، وقوله: (وَيَزِيدُهُم مِّن
فَضلِهِ)
إشارة إلى ما قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت).
إنما ذكر من دون الله تنبيها أن كل ولاية ونصرة فمنه مبدؤها
حتى ولو تصورناه مرتفعا لما صح ذلك بوجهه تعالى الله علوا
كبيرا.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا
(174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا
بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
عنى بالبرهان الآيات القاهرة المبنية عن المعجزات، وبالنور
القرآن لأنه به يعرف الطريق إلى الله.
خاطب بذلك الكافة، وبين أنه أزاح عللهم بالعقل والشرع
كما قال: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) من أن من عرف ذلك واعتصم به دخل
في
(4/243)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ
وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
رحمته التي يستحقها التائبون (فَضْلِهِ) أي
إحسانه الزائد على ما استحقه وأنه
يهديه إلى الصراط المستقيم الذي هو الطاعة في الدنيا ودخول
الجنة في الآخرة.
قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
الاستفتاء: طلب الفتيا للحكم.
وقد تقدم معنى الكلالة، وقوله: (وَلَهُ أُخْتٌ) أي أخت من أبيه
وأمه أو من أبيه وقد ذكر الحكم في أول السورة،
وقوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي لترجعوا
إلى كتابه إذا جهلتم فتعلموا منه، وتقديره: يبين لكم ضلالكم
الذي من جانبكم أن تتحروه إذا تركتم، ومن تبين له الضلال تبين
له الحق، فإن معرفة أحدهما متضمن بمعرفة الآخر ولا دونه، وقد
قال تعالى: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)
هو الزجر عن القبائح والإنسان إذا ترك عن المزاجر والنواهي،
ولم يأخذ بمقتضى العقل، صار بالطبع
(4/244)
بهيمة، ولذلك قال للكفار: (إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا
يَعْقِلُونَ (22).
قال: هذا أبلغ من قولكم يبين الله لكم أن لا تضلوا
لأن في معرفة الشر معرفة الخير، وليس في معرفة الخير المعرفتان
جميعا.
وقال الكسائي: تقديره لئلا يضلوا فحذف (لا)،
وقال البصريون: تقديره: حذر أن تضلوا.
(4/245)
|