تفسير الراغب
الأصفهاني يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ
مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ
مَا يُرِيدُ (1)
سورة المائدة
السورة التي يذكر فيها المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ
اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
أصل العقد في الحبل ونحوه كالربط فاستُعير للعهد المؤكد ولا
استعارة.
من ذلك قال الشاعر:
(4/246)
قَومٌ إِذَا عَقدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ
... شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوْقهُ الَكَرَبَا
وعلى ذلك قوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)
والعقود باعتبار العقود ثلاثة أضرب: عقد بين الله وبين العبد،
وعقد بين
العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر.
وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما
ركزه الله تعالى بمعرفته في الإنسان فيتوصل إليه، إما ببديهة
العقل، وإما بأدق نظر، وعليه دل قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية،
وضرب أوجبه الشرع: وهو ما دلنا عليه كتاب الله وسنة نبيه - صلى
الله عليه وسلم -. فذلك ستة أضرب،
وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء، أو يلزم بالتزام الإنسان
إياه،
فأما اللازم بالالتزام، فأربعة أضرب:
فالأول: واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقُربِ، نحو أن
يقول: عليَّ أن أصوم إن عافاني الله،
والثاني: مستحب الوفاء به ويجوز تركه: كمن حلف على ترك فعل
مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك.
والثالث: مستحب ترك الوفاء به وهو ما قال عليه الصلاة والسلام:
(إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير
وليكفر عن يمينه).
(4/247)
والرابع: واجب ترك
الوفاء به، نحو: أن يقول علىَّ أن أقتل فلاناً المسلم، وذلك
ستة في أربعة
وعشرين ضرباً من العقود.
فظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه
واجباً أو قربة، ومن المفسرين من حمل ذلك على حِلْفَ الجاهلية
دون
(4/248)
حِلْفَ الإسلام. وقد قال عليه الصلاة
والسلام: (لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ).
والصحيح أن ذلك عام، وأن معنى قوله: (لَا حِلْفَ فِي
الْإِسْلَامِ) أن
الإسلام قد بين ما يجب التزامه، وما لا يجب وإن ما كان يحتاج
إليه في الجاهلية من المحالفة للحماية قد كفوا في الاسلام، فقد
قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ) فبيَّن أن حماية بعضهم على بعض لازمة
تحالفوا، أو لم يتحالفوا
(4/249)
ونحو هذه الآية قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وذم المُخّل
بذلك حيث قال:
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ
فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
وقوله: (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ فالبهيمة: ما لا نطق له من
الحيوان كالعجماء، لكن اختص في المتعارف بما عدا السباع،
والطير والأنعام، وأصلها في الإبل ثم استعملت في الأزواج
الثمانية، إذا كانت معها الإبل، ولا يدخل في ذلك الخيل والبغال
والحمير،
(4/250)
فإن قيل: ما وجه إضافة البهيمة إلى
الأنعام؟
قيل: كقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ).
وقيل: لما كانت الأنعام في أصل اللغة تقع على كل نعمة جرت مجرى
الصفات، أضيفت البهيمة إليها إضافة اليوم إلى الجمعة، كأنه قال
البهيمة التي هي من جملة ما أنعم الله عليكم به.
وقيل: لما كان قد تقدم تحليل الله النعَّم في سورة الأنعام لأن
سورة المائدة تأخر نزولها عن الأنعام فيما روي نبه بقوله:
(4/251)
(بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) على تحليل
البهيمة الجارية مجرى الأنعام في كونها محللة
فيكون لهذه الآية دالة على تحليل البهيمة وتحليل الأنعام، وما
في سورة الأنعام دال على تحليل الأنعام فقط، ويدل على ذلك قول
من قال من السلف: بهيمة الأنعام هي بقر الوحش والظبي، لأن
المخاطبة للمسافرين إذا كانوا حللاً، وتخصيص المؤمنين بالخطاب
قيل: هو تنبيه أن المباحات محظورة على من ليس بمؤمن.
وقيل: بل ذلك تشريف لهم اعتباراً بالسياسات الدنيوية، لأن
الملك
يخص بالخطاب الشريف الأمثل فالأمثل.
ولا تفرع بلفظ الخطاب على
(4/252)
الأنام وإن كانوا في الحكم تبعاً للأماثل،
قال وعلى ذلك قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ) وحكم الكتابيات
حكمهن، وقوله تعالى: (إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيكُم) أي ذلك سوى
ما حرمته
مما يتلى، واعتبر بعضهم لفظ الاستقبال، وقال أراد ما سيحرمه
وذلك لمجهول بعد.
قال: فالآية مجمله، وليس كما ظن، فإن قوله: (مَا يُتلَى) تنبيه
على
تلاوة القرآن على التأبيد، وقد يتناول ذلك ما تقدم.
ذكر الله إياه، وما ذكره في هذه الآية.
وقوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) معناه كلوا ذلك على أن لا
يكون صيداً في حال الإحرام،
(4/253)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ
رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (2)
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا
يُرِيدُ) الحِكْمَةُ، والحَكْمَةُ من أصل الإبانة إذا كان في
القول قيل: له حكم وقد حكم، وإذا كان في الفعل، قيل: له
حِكْمَةٌ وحُكْمٌ وله حِكَمٌ فإذا قلت: حكمت بكذا، فمعناه قضيت
فيه بما هو حكمه، وإن كان يقال حكم فلان بالباطل، بمعنى أجرى
الباطل مجرى الحكمة، فحكم الله تعالى مقتضٍ للحكمة لا محالة
فنبه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) أن ما يريده
يجعله حكمه حثاً للعباد على الرضا به كما قال عليه الصلاة
والسلام: حاكياً عن ربه تعالى: (من لم يرض بقضائي ولم يصبر على
بلائي فليطلب رباً سواي).
فالله يحكم ما يريد، وحكمه ماضٍ ومن رضي بحكمه استراح في نفسه،
وهُدِي لرشده، ومن سخط نقد حكمه واكتسب بسخطه سخط الله
وإمقاته.
قوله تعالىْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا
شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ
وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ
قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ
تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا
تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
(4/254)
الشعائر: حمع شعيرة أي العلامة، وأصلها
إصابة
الشعر، كقولك عانه وكبده، يقال للحواس المشاعر، قال الحسن:
شعائر
الله دينه وفرائضه، وقول عطاء: هي مناسك الحج، فأشار إلى نحو
ما قال
الحسن.
وقوله: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي القتال فيه وقيل: هو
تحريم
النسىء المذكور في قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ).
(4/255)
والهدي أصله فيما يُهدى من النعَّم، وقد
يستعمل في كل ما يتقرب به إلى الله
وعلى ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المبكر للجمعة كالمهدي
بدنه، إلى أن قال ثم الذي يليه كالمهدي بيضة)، فجعل البيضة
هدياً.
والقلائد ما يطوق به الهدي شعاراً له، وقيل: نبه بذلك على
تحريم كل ما يحتص بالهدي فنص على أدناه الذي لا قدر له تنبيها
على ما فوقه، كقوله تعالى: (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)
وقيل: أراد به المقلدات فبين تحريم المقلَّد وغير المقلَّد
(4/256)
وقال بعضهم معنى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ
اللَّهِ): أي لا تمنعوا الكفار من
التمسك بشعائره، فقد كانوا مجتمعين مع المؤمنين في إقامة
المناسك فمن قال هذا قال الآية منسوخة لقوله:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
وعلى الأول خطاب للمسلمين لمراعاة أحكام الدين عاماً، أو أحكام
الحج، ولا يكون فيه نسح،
وقوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)
قيل: عنى الفضل الدنيوي المطلوب بالمكاسب المباحة.
وقيل: بل الفضل الأخروي.
(4/257)
(وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) رخصة
كقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ) ليجزم أن التكسب مكروه، ولا يقال ذلك للكسب المحمود
في عامة كلامهم.
وقول الشاعر:
جَرِيمَةُ نَاهضٍ في رَأسِ نَيْقٍ -
على طريق التشبيه. والتنبيه أن العقاب يرتكب بالجرائم، لا قبل
أدائها
(4/258)
كما ذكر بعض الحكماء ما ذو والد وإن كان
بهيمة إلا ويذنب لأجل أًولاده
وعلى هذا المعنى قيل: فلان يجرم لأهله، وقوله تعالى: (أَنْ
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي لأجل أن صدوكم.
وقولهه: (أَن تَعتَدُوا) أي على أن تعتدوا، ونهى المسلمين عن
الاعتداء على من ظلمهم فأبغضوهم لظلمهم إياهم، وقرأ إن صدوكم،
ويكون في تقدير المستقبل.
إن قيل كيف قال هاهنا هذا، وقد قال: (فَمَنِ اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ) قيل الأمور به في قوله: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)
إباحة المُجازاة للظالم بمثل فعله فسماه باسم الأول.
وقوله تعالى: (أَن تَعتَدُوا) نهى عما هو أكثر من المجازاة، أو
حث على العفو، وقوله:
(شَنَئَانُ) إذا قرأ بفتح النون فمصدرٌ، نحو نَزوَان وطَيَران،
وإذا قرأ
(4/259)
بسكونها فاسم، نحو عطشان أي لا يحملنكم
بغيض قوم، أي من يبغضون
منهم.
وقيل: شَنْآن وشَنَآن. بمعنى وأكثر ما يقال في المصادر،
والأوصاف
، والأفعال التعدية.
والتقوى في هذا الموضع اسم لغاية ما يبلغه الإنسان وهي
المذكورة في قوله: (لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) فكأنه قال تعاونوا
على أدنى المنازل من
الخير وأقصاها، وقيل: بل البِرُ أعلى المنزلتين فإنه ما اطمأن
إليه القلب من غير أن ينكره بجهة أو سبب، والتقوى: اجتناب
المآثم، فكأنه قيل تعاونوا على فعل الخير وترك الشر.
وقوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ) فالإثم يتناول جنايات العبد بينه وبين الله
وما بينه وبين العباد.
(4/260)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ
وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
والعدوان ما بينه وبين غيره وهو أخص، وعقب
ذلك بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ). زجراً عما نهى عنه.
قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
(الْمَيْتَةُ) هاهنا ما فارقته الروح من غير تذكيه مما له نفس
سائله، وقد يقال: ذلك لما ليس له نفس سائله، كقوله عليه الصلاة
والسلام: (أحل لنا@ ميتتان ودمان)، (وَالدَّمُ) هاهنا هو
(4/261)
الدم المسفوح بدلالة قوله (قُلْ لَا أَجِدُ
فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ
لَحْمَ خِنْزِيرٍ) فعرَّف في الآية الدم ولحم الخنزير، وإشارة
إلى ما ذكره هاهنا.
وتخصيص لحم الخنزير لا يقتضي تحليلَ شحمه وسائر ما فيه لأن ذلك
نص على أفضل ما فيه ليدل على ما دونه.
وقال بعض الفقهاء: لا يجوز الانتفاع
(4/262)
بثمنه، ولا باستعمال شيء منه في غير الأكل
والإهلال: التكبير: من قولهم
أهل الصبي كأن الصبي يكبر الله فعلاً، وإن لم يكبِّره قولاً؛
لدلالته على
الآية، كتسبيح الشجر والمدر فعلاً وإن لم يكن تسبيحه قولاً،
فحرم ما سُميَّ
عند ذبحه الأصنام، (وَالْمُنْخَنِقَةُ) ما وقع في حلقه ما خنقه
حبلاً كان
أو غيره، (وَالْمَوْقُوذَةُ): المقتولة بضرب، يقال: وقذته
ضرباً، ويدخل فيه كل مقتول بغير ذكوه، فأما المرمي من الصيد
بما يخرج بحدة فغير داخل في الموقوذة، بدلالة قوله عليه الصلاة
والسلام:
(إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب وخرق فكُل، فإن أصابه
بعرض فلا يحل فإنه وقيذه).
(4/263)
(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) الساقطة من سطح أو
جبل أو في بئر يُؤَديِّ
سقوطها إلى أذاها.
(وَالنَّطِيحَةُ) المقتولة بالنطاح، ناطحة كانت أو منطوحة.
(وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) مما افترسه سبع فمات.
وقوله: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) راجع إلى المنخنقة وما بعدها.
وإدراك ذكاته هو أن تؤخذ له عين تَطرف أو ذَنَبٌ يُحَّرك.
على ما روي عن أمير المؤمنين، والذكاة:
(4/264)
بقطع الحلقوم، والمريء ومستحب أن تقطع
معهما الوَدَجين،
و (النُّصُبِ) حجر كانوا ينصبونه ويتقربون بالذبائح له،
والاستقسام بالأزلام هو ما كانوا يفعلونه في الميسر، كقوله:
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ).
فإن قيل ذكر (ما) في قوله (ما أهل) (وما ذبح)، وذكر هاهنا (أن
تستقسموا) دون (ما)؟
قيل: لأن المحرَّم في الأول نفس المذبوح، والمحرم هاهنا
الاستقسام فأما المذبوح على الشريطة المشترطة في الشرع فإنه
وإن قسم بالأزلام لا يحرم عينه.
وقيل: الأزلام قداح تكتب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني
ربي فإذا أرادوا أمراً
(4/265)
ضربوا ذلك فاعتبروا ما يخرج منه.
والفسق والفجور: هما الخروج عن أمر الله
فالفسق من قولهم فسقت الرُطَبة من قشرها.
والفجور من فجر الماء،
وقوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ)
أي أن لا يحققوا أن لا يمكنهم
أن ينسخوا ما أمرهم من دين الحق.
وقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) قيل:
لما كان الإسلام شرع شيئاً منشئاً بيَّن تعالى بهذه الآية
كماله، وقيل: إن الأديان الحق كلها جارية مجرى دين واحد وكان
قبل الإسلام في الشيء بين إفراط وتفريط بالإضافة إلى شرعيتها،
وذلك على حسب ما كان يقتضي حكمة الله في كل زمان فكمَّله الله
تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعله وسطاً مصوناً
عن الإفراط والتفريط، كما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا)
وكمله وتممه به كما قال عليه الصلاة والسلام: (بُعثت لأُتمم
مكارم
الأخلاق).
وقال: (إن مثل الأنبياء كمثل بيت ترك بينه موضعُ لبنة فكنت
اللبنة).
(4/266)
فهذا معنى قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ)
وهذا هو الذي اقتضى أن تكون شريعته مؤبدة لا نسخ ولا تغيير،
فالأشياء في التغيير والتنقل ما لم تكمل فإذا كملت فتغيرها
فساد لها، ولهذا قال: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا
الضَّلَالُ) ونبه بقوله: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا)
على أمرين: أحدهما: أن الإسلام هو الدين المرتضى على الإطلاق
لا تبديل له ولا تغيير، وسائر الأديان مثله كان مرتضى في وقت
دون
وقت، وعلى وجه دون وجه، والقوم دون قوم، وهذا الدين بعد أن
شُرعِ
مرتضًا في كل وقت، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في موسى: (لو
كان حيا ما وسعه إلا اتباعي) ولأجل ذلك قال تعالى:
(4/267)
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
وقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الآية. فقوله
تعالى: (اليومَ) إشارة إلى زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -
أو إشارة إلى اليوم الذي أنزلت هذه السورة. فقد كان في النسىء
في زمن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً إلى آخر أيامه، فحينئذ كمل
وصار بحيث لا تغيير فيه ولا تبديل بنسخ ونسخ.
إن قيل: كمَّل الدين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد حكم
تعالى أن دينه هو دين إبراهيم حيث قال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هَذَا). قيل: ونبه تعالى أن هذا الدين الذي هو دين
إبراهيم من
حيث أنهما داعيان إلى الحق ومشتركان في أصول الشريعة، لكن ما
شُرِع على
(4/268)
لسان إبراهيم كان مبدأ الإسلام، وما شُرِع
على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتمة الإسلام.
فمن حيث إن هذا مؤيد ناسخ لفروع ما تقدم قال: (لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ومن حيث إنه شارك دين إبراهيم في
الأصول صار هو إياه، وهذا ظاهر
لمن عرف قوانين الكلام.
إن قيل: إن ذلك يقتضي أن يكون الأديان كلها
ناقصة، وأن يكون دينه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك اليوم
ناقصاً.
قيل: الكامل والناقص من الأسماء المتضايفة التي تقال باعتبار
بعضها بعض، فالصبي إذا اعتبر بالرجلِ فهو غير كامل، وإذا اعتبر
بمن هو على سنه فهو كامل، إذا لم يكن مذموما فكذلك دين
الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتبر بأهل
زمانهم كان كاملاً، وإذا اعتبر بدين النبي - صلى الله عليه
وسلم - وزمانه لم يكن كاملاً وليس النقصان المستعمل هو النقص
المذموم فلفظة ناقص تستعمل على وجهين.
إن قيل: ما وجه فائدة قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا)
بعد قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؟
قيل لما بين تعالى أنه أكمل دينهم بيَّن بعده أن ذلك الدين هو
الإسلام
وقد رضيته كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلَامُ).
وقوله: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أضاف النعمة إلى
نفسه تشريفاً لها.
وقوله: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) منه أن الخشية في
الحقيقة يجب أن تكون ممن
منه مبدأ النفع والضُر دون الوسائط فقد قيل: أعجز الناس من خشي
من
(4/269)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ
مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
لا ينفعه ولا يضره، دون الذي بيده الخير.
وقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي من ناله ضرورة ولم يجنف، أي: لم يمل
لما تبين إثماً بل راعى الحقَّ وقصد دفع أذى الجوع. فالله
تعالى لا يؤاخذه به فإنه كان غفوراً لذنوب عباده رحيماً بهم.
فهو أهل أن لا يؤاخذهم بما فسح لهم
فيه وعلى نحو هذه الآية دل قوله تعالى: (فَمَنِ اضطُرَّ غَير
بَاغٍ وَلَا عَادٍ
فَلا إِثمَ عَلَيه).
قوله عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا
عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
الطيب التام الذي يستلذ عاجلاً وآجلا، وذلك هو الحلال
الذي لا يُعْقِبُ إثما، وقوله:
(4/270)
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ)
مبتدأ. وقوله: (فَكُلُواْ) في موضع الخبر.
قال بعضهم: هو معطوف على الطيبات وتقديره: صيدوا ما علمتم،
والأول أجود، والجوارح: الصائدات الكاسبات من الكلاب والفهود
ونحوها بالجرح بناب أو مخلب، ومنها قيل جَرَحَ فلان واجترح إذا
اكتسب، والمكلَّب: المضرُّي على الصيد سواء أضرى كلباً أو
غيره.
وبعض المفسرين خص ذلك بالكلب وكره صيد جوارح الطير إذا قتلت،
وقال إن ذلك لا يستعمل فيه التكليب.
ومن شرط المعلَّم أنه إذا دُعِيَ أجاب وأن لا يأكل من الصيد
ومتى
(4/271)
كان ذلك فإنه يؤكل وإن قتله، وقال
الكوفيون: صيد جوارح الطير
يؤكل منه، وإن أكل.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سميت فَكُلْ وإن أكل
منه فلا
تأكل) يقتضي خلاف ما قالوه، ومعنى:
(4/272)
(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)
(4/273)
إشارة بقوله: (أَمْسَكْنَ) أن لا يأكلن.
وظاهر الآية أن لا فرق
(4/274)
بين كلب المجوسي والمسلم إذا أرسله المسلم،
بخلاف ما قال الثوري: أنه
يكره الاصطياد بكلب المجوسي، وأجمعوا أنه إذا قدر على ذبح ما
أمسكه
المُكلب فلم يذبح فلا يؤكل، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ
الْحِسَابِ)
(4/275)
الْيَوْمَ أُحِلَّ
لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا
مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
قال ابن عباس: يعني لأوليائه، وجعل ذلك
أمناً لهم، وقال: بل ذلك تخويف لمن خالف أمره.
قوله عز وجل: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا
مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
يعني اليوم ما تقدم ذكره في قوله: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا)
وفي قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وذلك إشارة
إلى
عام الوداع.
(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) عند الشافعى: - هم
(4/276)
بنو إسرائيل من اليهود والنصارى دون من دخل
في دينهم بعد الإسلام، لقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ).
وقال ابن عباس: فهم الصابئون.
وروي عن علي: أنه لا تحل ذبائح النصارى العرب.
وعند أبي حنيفة: أن ذلك يتناول أيضاً من يدخل بعد الإسلام في
(4/277)
دينهم احتجاجاً بقوله تعالى: (لَا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ) فحَكم
أنهم منهم. ويعني بطعامهم ما يذبحونه ويتولون الصنْعةَ، ومما
يملكونه، ولم
يحتج أن يشترط فيه رضا مالكه إذا لم يكن القصد إلى ذلك وقوله:
(وَطَعَامُكُم حِلٌّ لهُم) أي يجوز أن تطعموهم،
وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)
أي العفائف، وقال
(4/278)
الشافعي: عنى الحرائر منهم، ومنع الحر من
التزوج بإمائهن، ويقوَي قوله
: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ).
وكان ابن عمر رضي الله عنه: يكره التزوج بالكتابيات
وإذا سئل عن ذلك يقرأ هذه الآية قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ) ويقول في قوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من الذين
كانوا منهم فأسلموا كقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ) وغيره
حمل قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ) على أهل الأوثان
والمجوس
(4/279)
وقال ابن عباس: لا لمجل نكاح الحربيات منهن
لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ)
وأكد ذلك بقوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ).
والنكاح يقتضي المودة لقوله: (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ
مَوَدَّةً وَرَحْمَةً).
وقال: من جوز التزوج منهن أن المودة المنهي عنها هى المودة
الدينية، وأما المودة الزوجية فهي التبقية، وذلك غير محظور.
قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) أي بالدين الحق.
والحَبْطُ أصلهْ الحَبَطُ وهو داء يأخذ الإبل في أجوافها من
كلأٍ يستوبله.
وقيل معناه: من
(4/280)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(6)
لم يشكر الله بالإيمان، أي هو ذو إيمان فقد
حبط عمله تنبيهاً أن الاعتقاد لا يكفى ما لم يضامه شكر نعمه
بإقامة عباداته.
وقيل معناه: من لم يراع حقيقة الإيمان بالاعتقاد لم تنفعه
أعماله.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ
تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قال أصحاب أبي حنيفة: ظاهر الآية تقتضي أن لا يجب في
الوضوء النية، والقول بوجوبه يقتضي زيادة في النص والزيادة في
النص تقتضي النسخ، ونسخ القرآن لا يجوز اتفاقاً بخبر الواحد
والقياس فلا يصح إذاً إثبات النية، وقال بعض الشافعية: بل
الآية تقتضي إيجاب النية لأن معنى
(4/281)
قوله: (إِذَا قُمتُم) إذا أردتم ولو لم يكن
معناه ذلك لم يكن لذكره فائدة.
وقال بعضهم: الآية تقتضى الترتيب، لأن الفاء في قوله:
(فَاغسلُوا)
تقتضي ترتيب غسل الوجه على القيام، فإذا ثبت ترتيب الوجه على
القيام ثبت في غيره لأن أحداً لم يفصل، وليس ذلك بشىء فإن
الفاء وإن كانت تقتضي الترتيب فإنما اقتضى ذلك في الجملة لا في
البعض، ولم يقتضي ترتيب الأعضاء والمأمور بغسلها بعضاً على
بعض، والأظهر أن الترتيب اقتضتاه قول النبي
- صلى الله عليه وسلم -: (ابدأوا بما بدأ الله به) وفعله الذي
فعله تبياناً للآية، وقد رنب ثم قال:
(هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به)،
والمرفقان داخلان في الغسل بدلالة
(4/282)
ما روي من الأخبار، وظاهر الآية تقتضي مسح
الرِجل لولا ما روي في ذلك
من الأخبار سواء قرئ بالنصب أو بالجر، وذاك أنه إذا نُصِبَ فهو
كقوله
(4/283)
مررت بزيد وعمرواً، وروي أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكة
مسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقيل له: في ذلك.
فقال: (عمداً فعلت) وظاهر أول الآية أن كل صلاة تقتضي الطهارة
لكن لما
شرط في البدل وهو التيمم فقال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) عُلم أن ذلك شرط
في المبدل أيضاً، ولأن الإجماع
على أنه لا يجب الوضوء لكل صلاة ما لم يحصل حدث وقد استحب
تجديد
الوضوء لكل صلاة من أجل ظاهر اللفظ، ولأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (الوضوء على الوضوء نور على نور)،
وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بالوضوء).
(4/284)
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا) وهوكقوله:
(وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)
والجنابة بإنزال الماء
أو بالتقاء الختانين، وقوله: (فَاطَّهَّرُوا) أي تطهروا فأدغم
فسكن تاء
الفعل وأدخل عليه ألف الوصل.
وقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) أي مَرَضاً يمنع من استعمال
الماء (أَو عَلَى سَفَرٍ) أي سفراً يُعدم فيه الماء وظاهر
اللفظ يقتضى قليل السفر وكثيره ولكن الأَخبار خصته.
(4/285)
وملامسة النساء كناية عن الجماع عند عامة
الصحابة، وذكر عن ابن عمر: آية اللمس بأي موضع كان من البدن،
وإليه ذهب الشافعي، وقال قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) يقتضي
أن يطلب، لأن عدم الوجود يقتضي الطلب، وظاهر
الآية تقتضي أن لا يجوز التيمم إلا بعد عدم قليل الماء وكثيره،
ومستعمله وغير
(4/286)
مستعمله لكن استثنى المستعمَل، بدلالة قوله
تعالى: (وَأَنزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
طَهُورًا) ولا خلاف أن ذلك يقتضى الماء المطلق، إلا عند الأصم،
فإنه
أجاز التوضؤ بماء الورد وما يجري مجراه في الرقة،
وقوله: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي تراباً.
وقيل: وجه الأرض، وإن لم يكن عليه التراب، وقوله: (منهُ) يقتضي
ما قاله الشافعي أنه يجب أن يعلق باليد منه
(4/287)
شيء، وقوله: (طَيّبًا) أي طاهر والطيب في
وصف الأرض ما ليس
بسبخ، بدلالة قولَه: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ
نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)،
وقوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ) منهم من اعتبر ذلك
في الدنيا، وقال: ظاهره يقتضي أنه لا يريد أن يتطهروا ويغتسل
مع الخوف على النفس من الشدة والضنى.
وقائل ذلك يقتضي بطلان قول من يوجب الغسل من الجنابة مع
المرضى، ومنهم من
(4/288)
قال: معنى ذلك لا يعتبروا الجهل والمشقة في
هذه العبادات بالحال الظاهرة،
واعتبروا بالمال فإن ذلك ذريعة إلى تطهير نفوسكم، وما يفضى بكم
إلى النعيم
المعد لكم، لتعلموا أنه لم يرد حرجاً بما أوجبه عليكم، فإنكم
إذا اعتبرتم ذلك شكرتم الله على ما طلعكم وعلمتم أن ذلك ليس
بحرج ومشقة حملكموها، ونحو ذلك قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يعني الطهارة من
الذنوب، وقد
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت
ذنوبه من
وجهه وإذا غسل يده خرجت ذنوبه من يده) وذلك قوله: (إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
وقد حُمل على ذلك قوله: (وَثِيَابكَ فَطَهِّر).
(4/289)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله عز وجل: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ
إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
الميثاق: العهد المستوثق منه وميثاق الله تعالى: المأخوذ من
عباده على أضرب: الأول: ما أخذه عليهم بالفطرة: وهو ما رَكَزَه
فيهم من المعارف.
الثاني: ما أخذه عليهم بما أفادهم من العلوم المكتسبة.
الثالث: ما أخذه عليهم ببعثة الأنبياء وإلزامهم بالشرائع.
الرابع: ما يلزم بعضَهم عن بعض بما يجب عليهم
الوفاء به، وقد حمل الآية على كل ذلك.
وقوله: (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا) تفسير الميثاق الذي أخذه،
ووجهه ذكر النعمة. والميثاق بعد أصحاب الطهارة تذكير
(4/290)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
(8)
للنقمة، وتأكيد لوجوب طاعته. وإن قيل: لما
قال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) ولم يقل نعم الله؟
قيل: لفظ الواحد في هذا الوضع أبلغ ففيه تنبيه أن في ذكر
نعمة واحدة شغل عظيم مع أن لفظ الواحد في نحوه يقتضي الجنس.
وذكر نعمته هو شكرها.
وقوله: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي يقوي الإنسان من
العقل والفكر والتخيل الغضب والشهوة.
وذكر الذات للمبالغة وعلى ذلك قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5).
وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
(4/291)
(قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي خلفاءه شهداء
بالعدالة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ
عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ)
وذلك يقتضي الشهادة لحقوق الناس كما قال الحسن: وعلى قومهم
فبما يخالفون أمر الله فيه، كما قال غيره: ولأمر الله أنه حق.
كما قال الزجاج. وقيل: معنى الشهادة الحضور أي كونوا في جميع
ما يتحرونه مشاهدين لله. كما قال - صلى الله عليه وسلم - (إن
لم تكن تراه فإنه يراك)،
وعدي قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن لم تكن تراه فإنه يراك)
(4/292)
وعدي قوله (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) بـ على
- حملاً على معنى لا يحملنكم.
وقوله: (عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا) أي على ترك العدالة وذلك قريب
من قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ
صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)
فالاعتداء قريب من قوله: (أَلَّا تَعدِلُوا) لكن قوله: (أَلَّا
تَعدِلُوا) أبلغ.
وقوله: (هُوَ) أي العدل فأضمر المصدر لدلالة الفعل عليه
كقولهم: -
من كذب كان شراً له أي الكذب شراً له،
إن قيل كيف قال: (أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وأفعل إنما يقال في
شيئين أُشْرِكا في معنى واحد لأحدهما مزية.
وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا هو من جملة
العدالة.
فما معنى قوله: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)؟
قيل: إن أفعل وإن كان كما ذكرت، فقد يستعمل على تقدير بناء
الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء، لا على ما عليه
من حقيقة الشيء في نفسه، قطعاً لكلامه وإظهار التبكية، فيقال
لمن اعتقد مثلاً في
(4/293)
وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
زيد فضلاً وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا
يمكنه أن ينكر أن عمروا
أفضل منه، فقال أَجزِم عمروا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك قوله
تعالى: (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد عُلِم أن لا
خير فيما يشركون
بوجه والآية نزلت في يهود احتالوا النبي - صلى الله عليه وسلم
-.
وقيل: في قريش لما صدوا المسلمين. فأمر الله تعالى المسلمين
ألا يتركوا معهم مع ذلك استعمال العدالة.
إن قيل: كيف تصور الظلم وقد أُبيح للمسلمين أن
يقتلوهم ويسبوهم ويسلبوهم وقيل: كل ذلك أُبيح لهم على وجه دون
وجه، متى أُخِل لمراعاة الحكم المسنون في شيء من ذلك، فهو ظلم
بل من فعل الإنسان بالكافر مع ما أمر أن يفعل به قصداً إلى
التشفي منه تحرياً لأمر الله، ففى ذلك تعدياً فأوجب الله تعالى
تحري العدالة
مع كل محق، ومبطل وإقامة الشهادة بالحق في كل أمر، وبين الله
أنه
تعالى عالم بما يتحرونه، ولا يخفى عليه خافية.
قوله عز وجل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
في قوله: (مَغْفِرَةٌ) وجهان: أحدهما: أن يكون في موضع مفعول
وعد الله
(4/294)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
كقول الشاعر:
وَجَدْنا الصَّالِحينَ لَهُمْ جَزاءا ... وَجَناتٍ وَعَيْناً
سَلْسَبيَلا
فجعل قوله: (لهم) جزاء في موضع المفعول به وعطف على
موضعه قوله: (جَناتٍ) بالنصب والثاني أن مفعول وعد محذوف،
وقوله: (لَهُم مَّغفِرَةٌ) تفسير له وعلى كلا التقديرين لا
يختلف المعنى.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
ذلك استئناف كلامهم متضمن للوعيد بتضمن الآية الأولى للوعد.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (11)
(4/295)
قيل عنى قوماً من اليهود هموا بقتل النبي -
صلى الله عليه وسلم -
وروي: أن يهودياً انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسل
سيفه
وقال من يصونك مني، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: الله،
فشام سيفه وأذعن لى).
وذكر نعمة الله لشكره وقد تقدم ذلك ونبه بقوله تعالى: (وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أنه
(4/296)
وَلَقَدْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ
اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ
فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
لا يجوز للمؤمن أن يفزع إلى غير الله في
شيء من أموره.
قوله عز وجل: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا
وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ
وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
النَّقْبُ كالثقْبِ لكن الثقب يقال لما قضى من الجانب الآخر
والنَّقْب، قد يقال له ولغيره وباعتباره قيل: النقبة لأول ما
يبدأ من الحرب وقيل لضرب من السراويل نقبةٌ، وكلب نقيبٌ مثقوب
الحنجرة لئلا يرفع صوته.
والمناقب ما ينقب عنه من المفاخر والنقيب
كالعريف يقال نقب وعرف وهو الذي عنى أحوال الجيش.
قال أبو عبيدة: هو الضامن على القوم.
قال قتادة: هو الشاهد،
وقيل: هو فعيل في معنى مفعول وهو المختار، وذلك إشارة إلى
(4/297)
ما قال: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى
عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
والمذكور في قوله: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أَسْبَاطًا)
وأصل التعزير النصرة إما بأن لا يَظلم أولا يُظلم.
كما قال عليه الصلاة والسلام: (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً،
فقال بعضهم: - أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟
فقال: تمنعه من الظلم).
وتعزير السلطان عى بذلك كما سمي التأديب، وإقراض الله عبارة
عن كل إنفاق محمود أوجبه أو ندب إليه، وسمي ذلك قرضاً تلطفاً
بعباده وأن
(4/298)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى
خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
ما يطلبه منهم مع كونه في الحقيقة مُلكاً
له تعالى، يأخذه ليرد عِوَضًه خيراً
منه، وعلى ذلك: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا)
والقرض: اسم للمقرض كالعطاء في كونه اسم للمُعْطى.
وقيل: هو موضوع موضع الإقراض، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا)
(وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي ضمن نصرتكم.
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)
يتصل به قوله: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ).
وقوله: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ
اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ).
جملتان فصل بهما بين الكلامين المتصلين على سبيل الاعتراض
المؤكد للكلام،
وقال: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) أي إن أديتم الفرائض
ونصرتم الرسل
وأنفقتم في سبيل المكارم، تجوفي عن ذنوبكم ومكنتم من الجنة،
ومن كفر بعد أخذ الميثاق فقد ضل عن الصراط المستقيم.
قوله عز وجل: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا
تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا
مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (13)
(4/299)
قد تقدم ذكر نقض الميثاق وقلوبهم قاسية هي
كقوله: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). وقرأ
قَسيَّة وقيل هي فعيله منه، وقيل: معناه ليست بخالصة الإيمان
من قولهم درهم قسي إذا خالطه غِشية الخائنة.
قيل: مصدر كالخيانة، نحو عوفي عافية (والمؤتفكات بالخاطئة)، و
(أهلكوا بالطاغية).
وقائله: بمعنى قيلولة. وقيل معناه: تطلع على جماعة خائنة،
وقيل: على رجل خاص كقوله راوية وداعية ونابغة قال الشاعر:
(4/300)
حَدَثَتْكَ نَفْسُكَ بِالوفَاءِ وَلمْ
تَكُنْ ... للغَدرِخَائِنةَ مُغِل الأصبُعً
إن قيل لما قال: (وَنَسُوا حَظًّا) فنكَّر؟
قيل للإنسان حظان: حظ دنيوي، وحظ أخروي، فأشار بقوله (حظًّا)
إلى الأخروي.
ونبه بقوله: (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) على أن الله قد ذكرهم ذلك
بما وضع فيهم من العقل وبما أنزل عليهم من الكتب فنسوه أي
تركوه، واستعارة لفظ النسيان لتركهم إياه مبالغة في ذمهم وتمام
القصة عند قوله: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ثم
استأنف على سبيل الذم لهم (وَلَا تَزَالُ تَطَّلعُ)
وقوله: (فَاعفُ عَنهُم وَاصفَح) أمر بالعفو عما يضمرونه،
وقيل: أمر بالعفو عمن دخل في العهد.
وقال قتادة: ذلك منسوخ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ).
(4/301)
وَمِنَ الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا
حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ
(14)
وقال غيره: بل بقوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ).
والوجه أن يكون أَمَر بالعفو عن المستبطن وعمن دخل في العهد
فلا تكون منسوخة.
قوله عز وجل: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى
أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
ذم النصارى بنقض الميثاق، كما ذم اليهود وجعل عقوبتهم إيقاع
العداوة والبغضاء بينهم، وأصل الغِرَا: من أغرا به أي لصق،
وكيفية إيقاع الله الجداوة بينهم على ما تقدم من
(4/302)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
نسبته تعالى نحو ذلك الفعل إلى نفسه.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ
تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ
جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
أعاد بما يخفون من الكتاب إلى مثل إخفاء بنبوة النبي - صلى
الله عليه وسلم -، وحكم رجم الزاني، وأخذهم الرشى،
وقوله (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) أي يتجافى من إظهار كثير مما
يخفونه، وبَّين في
هذه الآية النعم الثلاث التي خص بها العباد وهي: - النبوة
والعقل والكتاب.
وذكر في الآية التانية ثلاث أحكام، يرجع كل واحد إلى نعمه مما
تقدم.
فقوله: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ
سُبُلَ السَّلَامِ) راجع إلى
(4/303)
لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ
أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) أي بهذا
البيان إلى طريق السلامة من
التبعة ممن تحرى مرضاة الله.
قوله تعالى: (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ) راجع إلى قوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ
نُورٌ).
وقوله: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) راجع إلى
قوله: (وَكِتَابٌ مُبِينٌ). كقوله: (هُدًى لِّلمُتَّقِينَ).
والسلام قيل هو: اسم الله تعالى نحو قوله: (السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ).
وقيل: هو السلامة نحو الخسار والخسارة
والضلال والضلالة.
سبل السلام هي المشار إليها بقوله: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ).
قوله عز وجل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ
مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وإن قيل: إن أحداً لم يقل الله هو المسيح، وإن قالوا:
(4/304)
المسيح هو الله، وذلك أن عندهم أن المسيح
من لاهوت وناسوت، فيقولون
يصح أن يقال: المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت، كما يصح أن يقال:
الإنسان هو حيوان وهو نبات لما كان مركباً منهما.
قالوا ولا يصح أن يقال اللاهوت هو المسيح، كما لا يصح أن يقال
الحيوان هو الإنسان.
قيل: إنهم قالوا هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت،
وهو ما روي عن عمد بن كعب القرظي: أنه
لما رفع عيسى عليه الصلاة السلام اجتمع طائفة من علماء بني
إسرائيل فقالوا
ما تقولون في عيسى فقال أحدهم: أتعلمون أحداً يحيي الموتى إلا
الله فقالوا
لا، فقال: أتعلمون أن أحداً يعلم الغيب إلا الله فقالوا: لا.
فقال: أتعلمون أن أحداً يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله، قالوا:
لا.
قال: فما الله إلا مَنْ هذا وصفه أي حقيقة الإلهية فيه.
وهذا كذلك. الكريم زيدٌ أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا
قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.
إن قيل: (فا) في قوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا)
(4/305)
مما يقتضي تكذيبهم فيما ادعوه قيل:
ذكر تعالى بذلك شيئين اقتضيا تكذيبهم. وذلك أنهم مقرون أن الله
تعالى هو
سبب وجود عيسى وأمه. وأنه تعالى غاية الموجودات وسببها ومالكها
ولا شيء هو سبب لوجود الله تعالى وأنه أهو مالك قادر على إهلاك
كل ذلك، فنبه تعالى بقوله: (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا) أنه لو ارتفع كل ذلك لصح
مع بقائه ولو تُوُهِمَ هو تعالى مرتفعاً لما صح وجودهم، وهذا
أوضح دلالة أن
لا يصح فادعوه في عيسى ثَمَّ.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) تنبيها أن
الإنسان يحتاج إلى الابن ليتقوى به أيام حياته ويخلفه بعد
وفاته، والله تعالى غني
عن ذلك إذ هو مالك السموات والأرض وما بينهما وموجودها.
وقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) أي اعتقدوا
اعتقاداً باطلاً عن ظن كاذب
لأن هذا هو حقيقة الكفر وقيل معناه جحدوا نعمة الله وهذا على
اعتبار معنى
الكفر في الأصل.
(4/306)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ
فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ
مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
ادعى كل واحد من اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه وقد
رُوي أنهم قالوا ذلك قولاً حذرهم النبي عليه الصلاة والسلام
نقمة الله، فقالوا: لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه وزعم
اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن وَلَدَكَ بكري من
الولد، وأمَّا النصارى فقد قيل إنهم قالوا ذلك لِمَا حُكِي عن
قول المسيح أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، ورُوي أنهم قالوا: ما
اقتضى معناه هذا القول وإن لم يتفوهوا بذلك تفوهاً كقولك: فيمن
يدعي تخصصاً بسلطان فلان يقول أنا يد السلطان ولسانه، قيل:
وكانوا يقولون إن غضب الله علينا كما يغضب الإنسان على ابنه
وحبيبه.
فكذبهم الله فيما ادعوه من محبتهم له ومحبته لهم، فإن المحبة
تقتضي ترك المخالفة ومن أحب الله لم يخالفه، ولهذا قال الشاعر:
(4/307)
تَعْصِي الإلَه وَأَنتَ تُظْهِرُ حُبَّه
... هَذا مُحال فِى القِياسِ بَدِيعُ
لَوكَانَ حُبُكَ صَادقاً لأطَعْتهُ ... إِن المُحبَ لِمنْ
أَحبَّ مُطِيعُ
ولو أنه يحبهم لما عذبهم.
فقد رُوي أنه إذا أحب الله عبداً تعهده وأحسن إليه. رُوي عنه
عليه الصلاة والسلام: (إن الله قال ما زال العبد يتقرب إليَّ
بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببتهُ كنت سمعه الذي يسمع به وبصره
الذي يبصر به).
إن قيل: كيف احتج عليهم بهذا ولم يقولوا إنا لا نعذب بل قالوا:
إنا لا نعذب إلا أياماً بقدر ما عبدنا فيه العجل؟
قيل: إنه إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الله إياهم، فكأنه قيل:
فلم عذب من كان قبلكم الذين كانوا أمثالكم ثم قال: (بَل أَنتُم
بَشَرٌ ممَّن خَلَق) أي نسبتكم إليه نسبة العبودية كسائر الناس
وإنما يَفْضُل من يفضل بالتقوى، كما قال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
(4/308)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ
مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ
وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وكرر مع هذه الآية قوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) توكيداً لكونهم مُلكاً له، ونبه
بقوله: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) على معنى قوله: (ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ) ونحوه من الآيات.
قوله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ
أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ
فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله: (أَن تَقُولُوا) أي كيلا تقولوا بيَّن الله لكم أن
تضلوا.
والفَترَة السكون والبطوء يقال فَتَرَ الشيء فُتُوراً.
(4/309)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
وقد تقدم أن بعثة الأنبياء من ضرورات
العباد الى لا يسًتًغَني
عنها فعامة الناس يجهلون جزئيات مصالحهم وكلياتهم، وخاصتهم
يعرفون كلياتها دون جزئياتها، ولا يمكنهم أن يفرقوا الكليات.
على التحقيق إلا بعد انقضاء كثير من
عمرهم، فسَهَّل الله السبيل على جماعتهم من هدايتهم
إلى مصالحهم وعلى ذلك قوله:
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي
أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)
فبين أنه تعالى أزاح علتهم فيمن بعث إليهم من البشير والنذير
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ
أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
قيل: ملوكاً أي أحرزوا من رزق المطامع الدنيوية،
وروي عن ابن عباس أنه قال: من كان له
(4/310)
زوجة وخادم ودار فهو ملك.
وقيل: من له ما يستغني به عن تكلف
الأعمال فهو ملك. وقيل: جعلهم ملوكاً من حيث ملكوا أنفسهم
بالتخلص من القبط بعد أن استعبدوهم.
وقيل عنى بقوله: (مُّلُوكًا) أي جعلكم بالقوة التي آتاكم
مستصلحين لذلك، فإن من له المعرفة بالسياسات الثلاث سياسة
لنفسه وسياسة لداره وسياسة لضعفه فهو ملك وإن لم يتولى سياسة
غيره.
فجعل النبوة فيهم خاصاً وجعل
الملوكية فيهم عاماً للمعنى الذي ذكرنا، وقوله: (وَآتَاكُمْ
مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) ممن تقدمهم،
وإنما قال ذلك بالإضافة إلى
الأديان فإن الله خلق الإنسان وجعل لهم ديناً ينشأُ حالاً
فحالا، فكل يوم
هو في كمال، فدين موسى - عليه السلام - كان أكمل من دين من
قبله، ودين عيسى - عليه السلام - أكمل من دين موسى، ودين محمد
- صلى الله عليه وسلم - أكمل الأديان إذْ كان به كمل كما
(4/311)
قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ)
وقيل: أراد آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين مما عدا
الإنسان،
فإن قيل: هذا لا يصح لأمرين أحدهما: أن يسقط تخصيص بني
إسرائيل، والثاني: أنه لا يقال: لما عدا جنس العقلاء أحد قيل
أما كون هذه النعمة على غير بني إسرائيل فليس يقتضي أن لا
يخصصوا بالخطاب، فقد يقال لكل واحد ممن يتنبه على نعمة الله
عليه أليس قد منَّ الله عليك بأن أعطاك يداً تبطش به، ولساناً
تتكلم به، وليس يقتضي مشاركة غيره في هذه النعمة أن
لا يكون للمخاطب فائدة، وأما قولنا: وإن كان يختص به جنس
العقلاء
فقد يقال ذلك لغيره إذا حمع بينه وبين جنس العقلاء كلفظة مَنْ
في قوله
(4/312)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
(21)
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)
فأطلق مَنْ على البهائم
لما كان تفضيلاً لجملة منها العقلاء.
قوله عز وجل: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ
الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا
مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ
نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا
مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
الأرض المقدسة: بيت المقدس، وقيل: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن.
وقال مجاهد: هي أرض الطور. وقال قتادة: هى الشام.
(4/313)
إن قيل كيف قال: (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
ثم قال: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ)
قيل: قال بعضهم: وهب الله ذلك لهم ثم حرمها عليهم لَمَّا تلقوا
نعمته
بالرد والكفران.
وقيل: كتب لهم أنهم إن دخلوها فهي لهم.
وقيل: معنى (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي أوجبها عليكم.
إن قيل: فقد كان يجب أن يقول كتب الله عليكم على هذا؟
قيل: إنما ذكر لكم معنى لطيف وهو أنه نبه أنه أوجب عليهم
وجوباً يستحقون به ثواباً يحصل لهم.
وذلك كقولك لمن يرى تأذياً بشيء أوجب فيقال: هذا لك لا عليك،
تنبيهاً
على الغاية التي هي الثواب. وإذا قيل كتب عليه فليس اللفظ
يقتضي
على الغاية التي هي الثواب بل يقتضي مجرد الإيجاب فذكر أنهم
امتنعوا من
دخولها لكون قوم جبارين فيها، واشترطوا أن لا يدخلوها إلا أن
يُخلُّوا
لهم.
وقولهم (وَإِنَّا لَن نَّدخُلَهَا) فقد قال بعضهم: إن ذلك ليس
(4/314)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ
الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (23)
بعصيان منهم بل بإظهار العجز عن دخولها،
ورُوي أن هؤلاء
الجبارين كانوا قوماً لهم بسطة في الجسم حتى أن رجلين من
النقباء ذهبا
يتجسسان فرآهما رجل منهم في بستانه فجعلهما في الكم من الفواكه
ونثرهما بين يدي ملكهم فقال: أنتم تريدون قتالنا، ارجعا إلى
قومكم
فأخبراهم بخبرنا.
وقال بعض الناس: الأرض المقدسة، عبارة عن الدين
الحق الذي رشحه الله لهم فامتنعوا من تحريه تفادياً من قوم
كانوا على
ذلك الدين، كانوا يُسْتحقَرُون. وهذا بعيد على ما يقتضيه رد
الكلام.
قوله عز وجل: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ
فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
(4/315)
قال قتادة: يعني رجلين من الذين يخافون
أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم.
وقيل: من الذين كانوا يخافون من الجبارين فأنعم الله عليهما
بالإسلام
فَأَمِنَهُماَ، وقيل: كان يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا وكانا
من
النقباء. وبيَّنَا أن الله تعالى يُنزل النُّصرة بقدر الجُهد،
وأنكم إذا
بذلتم من أنفسكم الاجتهاد في الدخول عليهم الباب وجدتم من الله
النصرة، ويجعل الغلبة لكم وأمراهم بالتوكل، فكأنه قال: إن كنتم
متوكلين على الله يكفكم على ما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
(4/316)
قَالُوا يَا مُوسَى
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
قوله عز وجل: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا
لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
ذكر جهلهم وقلة معرفتهم بالله، وأنهم ما قدروا الله حق قدره
حيث أُمروه أن يستصحبه إلى الجواب استصحاب الأشخاص وبكَّتَهم
بامتناعهم من الدخول إماً جُبناً وإما قصداً إلى العصيان،
وأيهما كان فمذموم.
إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: (أَبَدًا) وقوله: (مَّا
دَامُوا فِيهَا)؟
قيل: إن امتناعهم من دخولها لكون هؤلاء فيها، وإن اعتبار ذلك
ليس في وقت دون وقت بل كل وقت، ما يدخلونها من كونهم فيها وروي
أن المقداد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (أما والله ما
نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا
هاهنا قاعدون، ولكن نُقْتل حيث شئت).
(4/317)
قَالَ رَبِّ إِنِّي
لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
قولًهً عًز وجل: (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا
أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
أظهر موسى شرَّ ما به وبيَّن عذره في غيره وأن ذلك لقلة
انقيادهم له.
إن قيل: كيف يصح أن يقول لا أملك إلا نفسي، والإنسان في
الحقيقة لا يملك نفسه وأخاه، إذا الملك هو التصرف في الشيء
بالبيع والشراء؟
قيل: هذا سؤال من هو بعيد عن متصرفات كلامهم، بل عن معرفة
حقائق الأشياء، فإن الإنسان إذا انقاد له قواه فيما يَسُومُها
من فعل
الخير، يقال: هو مالك لنفسه وإذا امتنعت عليه قواه، يقال: هو
غير
مالك لها، وليس تصرف المِلِك والمَالك على وجه واحد.
وإعراب قوله: (وَأَخِى) محتمل له أربعة أوجه: الأول الرفع عطف
على
(4/318)
موضع (إنَّي).
الثاني: على الضمير في أملك،
الثالث: نصب على المضمر في (إنَّي)،
الرابع: نصب على قوله: (نفسِى).
وقوله: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا) أي بين مسكننا في الدنيا.
وقيل: بين منزلينا في الآخرة، ولم يقل بيننا وبينهم
بل قال: (وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ليكون دعاؤه أبلغ
وأقرب إلى استعمال الأدب في مخاطبة الله تعالى، ولأنه من يجوز
أن يصلح منهم بعضهم، فيجب أن لا يعين، بل يذكر
الوصف الذي هوالفسق فيتعلق به الحكم، وذكر
الفسق دون الكفر إذ
(4/319)
قَالَ فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
هو أعم منه.
قوله عز وجل: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قال الربيع: حرم عليهم أربعين سنة، وقال الحسن وقتادة: بل
حُرم عليهم على التأبيد، وإنما كانوا يتيهون أربعين سنة.
فقوله: (أَربَعِينَ سَنَةً) يتعلق بقوله: (يَتِيهُونَ) على
هذا،
وتحريم ذلك عليهم قيل: إنه كان
(4/320)
تحريم تعبد فإنهم أمروا أن لا يدخلوها.
وقيل: منعوا منها من جهة إضلالهم عنها فإنهم كانوا إذا أمسوا
ردهم الله بقوة إلهية إلى حيث ما ارتحلوا عنه فقوله:
(مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) كقوله: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ
الْمَرَاضِعَ) وأنهم ما خرجوا من التيه حتى مات هؤلاء
وانتقل أمرهم إلى أبنائهم.
وروي أن قدر الأرض التي تاهوا فيها ستة فراسخ.
وقد قيل: لم يكن موسى وهارون معهم في التيه، لأن ذلك
(4/321)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
كان عذاباً عليهم دونهما.
ومن لفظ التيه اشتق تَاه فلان وتَوَّهه.
(فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) قيل: هو خطاب
للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة تسلية له بأن المخالفة على
الأنبياء عادة الفسقة في
كل زمان.
وقيل: بل هو من حملة ما خوطب به موسى وإن كان فيه
تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله عز وجل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ
لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ (27)
القربان اختص في المتعارف، بالذبيحة المتقرب بها.
وإن كان في الأصل عاماً في كل ما يتقرب، فهو فعلان كالعدوان
(4/322)
والشكران والكفران.
قيل: ابنا آدم كانا هابيل وقابيل، وكانا من قصتهما أن حواء
ولدت مع كل واحد منهما بنتاً فالتي ولدت مع قابيل سميت إقليميا
والتي مع هابيل لبوخ، ثم إن حواء قالت ليتزوج كل واحد منكما
أخته المولودة مع أخيه وكانت إقليميا أحسن من لبوخ فقال هابيل
سمعت وأطعت، وقال قابيل لا أرضى بل أريد إقليميا التي ولدت
معي، وكان غرضه جمالها، فلما اختلفا قال لهما ليقرب كل واحد
منكما قربان فمن قبل الله قربانه يتزوج إقليميا، وكان هابيل
صاحب غنم وعَهِدَ إلى كبش أنتج فذبحه، وكان قابيل صاحب زرع
وعَهِدَ إلى سيء من الفوم رديء فقربه فنزلت نار من السماء
وأخذت الكبش وكان ذلك علامة قبول القربان.
ورد في الخبر: أن هذا الكبش حصنه الله في الجنة إلى أن فُدي به
ذبيح إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقيل: رعى في الجنة ثمانين خريفاً. وقيل: أربعين،
وقيل إن ذلك في
(4/323)
رجلين من بني إسرائيل يقال لهما ابنا آدم
فإن إحلال الله للقرابين في
زمن إسرائيل، واستدل هذا القائل بقوله: (الَّذِينَ قَالُوا
إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ
حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)، والأول
أصح، فقد روى مسروق عن عبد الله، عن النبي عليه الصلاة
والسلام: (لا تُقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من
دمها).
والذي لم يُقبل منه القربان إما لكونه، على
(4/324)
لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ
إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (28)
غير الوجه الذي كان يجب أن يكون عليه ما
لكون صاحبه مقصراً في
سائر عباداته ولما قال أخوه حسداً (لَأَقتُلَنَّكَ) قال:
(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) حثاً له
على التقوى، أي لا تقتلني فإنه إنما
لم يقبل منك لأنك لست بمتق، والله يتقبل من المتقين.
وفي الآية تعظيم أمر الحسد، وأنه يحمل الإنسان على أعظم
الكبائر، وقد قيل: أثاني الشرور ثالثه الحرص والكبر والحسد
فآدم (أولى) من الحرص وإبليس من الكبر وقابيل من الحسد.
قوله عز وجل: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي
مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
قال ابن عباس: يعني إن بدأتني بالقتل لم أبدأ بقتلك، ولم يعنِ
أني لا أمنعك عني، فمنع الإنسان القائل عن نفسه بقدر وسعه
واجب.
وقيل: إن من تعرض لقتله فله أن يدفع عن
(4/325)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
نفسه وله أن يستسلم. وعن أيوب قال: أول من
أخذ بهذه الآية في
هذه الأمة عثمان، وقيل: قد كان حِينئذٍ يجب أن لا يدفع أحد عن
نفسه، كما روي أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: (من
لطم من ناحية يمينه فليُمكن من ناحية شماله)، وذلك عن الحسن
ومجاهد.
قوله عز وجل: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ
جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
أي بإثم قتلي وإثمك الذي كان منك فلم يتقبل لأجله قربانك.
إن قيل كيف جاز أن يريد لغيره أن يفعل الشر، وأن يكون
من أصحاب النار؟
قيل: أراد ذلك بشرط القتل أي أريد إن قتلتني أن تبوء بإثمي
وإثمك وأن
تكون من أصحاب النار، وهذه الإرادة ليست بقبيحه.
(4/326)
فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ (30)
والبًوًاءُ الرجوع، والمباءُ المنزل الذي
يَنزلُ فيه الإنسان، وهم في هذا الأمر
بوأ أي سواء يرجع إليه كل واحد مثل رجوع الآخر ومنه فلان بوأ
فلان
في القود.
قوله عز وجل: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ
فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
قوله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) كقولهم أسمحت قرينته وانقادت
نفسه، وسولت، يقال: طاعت نفسه، وطوعت وتطوعت، والنفس توصف تارة
بأنها طوعت
فيما أمرت من الشر كهذه الآية، وتارة بأنها أمرت بالشر كقوله:
(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)، ونبه بقوله:
(فَقَتَلَهُ) أنه تبع
(4/327)
فَبَعَثَ اللَّهُ
غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ
مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
شيطانه الداعي إلى ذلك تنبيها أن متابعة
الشيطان والهوى سبب كل شَر
ولهذا قال: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ)،
وقال: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ).
وقوله: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) إشارة إلى نحو قوله:
(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ).
قال ابن عباس: أما في الدنيا فأسخط والديه وبقي بلا أخ،
وأما في الآخرة فأسخط ربه تعالى، وأمر به إلى النار.
قال قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
قال يُريهم من الإنس قابيل ومن الجن إبليس، فقد روى:
أنه لم يكن يدري قابيل كيف يقتل أخاه فأخذ يطعن رأسه فجاء
إبليس
فقال خذ هذه الصخرة فأشدخه بها.
قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي
الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ
يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ (31)
(4/328)
قال ابن عباس: لما قتل أخاه تحير لم يدرِ
كيف يفعل به فقيض الله تعالى
غرابين تقاتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه، فتنبه قابيل لدفن
أخيه،
ووجه ذلك أنه ما من صنعة يتعاطاها الإنسان بالتعلم إلا وقد سخر
الله لمثل ذلك الصنعة حيوانا يتعاطاه، وجعل الله تعالى ذلك
سبباً لتعلم الناس ذلك منه، فمن الحيوان ما يسبح ومنها ما يمشي
ومن عادة الغراب دفن الأشياء فلما رأى قابيل ذلك تنبه لما يجب
أن يفعل فاستصغر نفسه لقصوره عن معرفة
ما اهتدى إليه الغراب، فأخذ يتحسر، ويتولول وندم ندماً لا
يثنيه
ولا يحد به كما قال الشاعر: -
َ .............. ومَا يُغْنِي مِنْ الْحَدَثَانِ لَيْتَ
وليست هذه الندامة بندامة التوبة.
(4/329)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله عز وجل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
الأجل: قطع الماء والآجل وقت مقطوع يقطع من وقته، والآجل نقيض
العاجل وهو الذي جُعل له أجل ما، والأَجَلُ قطيع من الغنم،
وذلك لقولهم الصُّرمة والقطعية والفرقة ونحوها مما اشتق من
الأسماء المتضمنة لمعنى القطع. وأَجَّل فلان على فلان جنى
عليهم جناية. أجله حضر.
قوله: (مِن أَجلِ ذَلِكَ) أي من جناية ذلك، وقيل: من سبب ذلك
كقولهم من أجله وبَّين بقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أنه كان من
أول من سنَّ القتل.
وعنده شُرع هذا الحكم، وذلك كقولك من أجل ماعز شرع النبي - صلى
الله عليه وسلم - حكم الرجم، أي عنده شرع، وإنما خص بني
إسرائيل
دون غيرهم لأن كتابهم أول كتاب بيَّن فيه فيه الأحكام.
(4/330)
وقيل: لأنه كثر منهم القتل، وبيَّن أن
الساعي في قتل نفس لم يلزمها قتل
ما يقتضي الاقتصاص أو فساد وذلك إلى نحو ما قال عليه الصلاة
والسلام: (كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان).
وقوله: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)
(4/331)
فإن الناس لما كانوا كجسم واحد ونسبة
آحادهم إليه كنسبة
أعضاء الجسم الواحد إليه، صار الساعي في إهلاك بعض الجسم
كالساعي في
إهلاكهم، كما أن الساعي في إهلاك بعض الجسم كالساعى في إهلاك
كله، صار قتل الواحد كقتل الناس، ولهذا جاء في التفسير أن
المؤمنين
خصم للقاتل ولهذا قال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِ)، وقال مجاهد: فلو قتل الناس جميعاً لم يرد
في جزاءه على جزاء قوله: (وَمَن أَحيَاهَا) أي من نجاها من
الهلاك إمَّا
بالحماية عليها، وإمَّا بالعفو عنها إذا لزمها قِصاص يستحب منه
العفو.
قال مجاهد: (مَنْ أَحْيَاهَا) أي من ترك قتلها.
قال الحسن: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا) أي من أضله عن طريق الهدى،
(وَمَنْ أَحْيَاهَا) أي دعا مشركاً إلى الإيمان فهداه وأرشده
(4/332)
فكأنما أحيا آدم عليه الصلاة والسلام وولده
إلى القيامة.
قوله عز وجل: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). تنبيه أن الله لم
يخلهم من بشير ونذير على عبادته في الأمم.
والإسراف: الإبعاد في الخروج عن الحق، وعن الاستقامة التي هي
العدالة في كل شيء هذا أصله، وإن تُعورف في الخروج عن العدالة
في إنفاق
المال، وقد وصف قوم لوط بالإسراف لخروجهم عمَّا أبيح لهم إلى
ما حُظر عليهم، فبيَّن تعالى أن كثيراً منهم بعد مجيء رسلهم
بالبينات يخلون بالعدالة وما شرع
(4/333)
إِنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
لهم وأبعدوا في التعدي.
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
محاربة الله ورسوله: هو السعي في الأرض بالفساد، وسمي ذلك
محاربة الله ومحاربة رسوله تعظيماً، والسعي في الأرض قيل: هو
في الصحراء،
وقيل: هو في البلد أيضاً، وهو الأصح.
قال الحسن: الآية نزلت في المشركين المحاربين
والحكم مختص بهم، وقيل: نزلت في العُرَيْنيِّينَ، وذلك أن
قوماً من عُرَيْنَة
(4/334)
أتو المدينة وأسلموا وأقاموا ما شاء الله
ثم شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة
واستأذنوه في الخروج إلى لقاح الصدقة ليقيموا فيها إلى أن
يَصِحُّوا وأذن لهبم، فنالوا من ألبان اللقاح، وثابت قواهم، ثم
ارتدوا، وقتلوا الرُّعاة، وساقوا اللقاح، فبعث رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - عليهم في طلبهم فأُخذوا وقطعت أيديهم
وأرجلهم، وسُمِلَتْ أعينهم، ولم تسلم دمائهم حتى ماتوا.
وقيل: الآية في أهل العهد، وأكثر الفقهاء حملوا على المسلمين
أيضاً،
(4/335)
وجعل مالكٌ: الإمام مخيراً فيمن سعى
بالفساد من الأحكام الثلاثة،
وقد رُوي ذلك عن ابن عباس. وجعل غيره الحكم ترتباً، وقال من
قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، وقتل فقط قيل لم يصلب. ومن أخذ
المال
فقط قطع يده ورجله من خلاف يده اليمنى ورجله اليسرى ولم يُقتل
ومن لم يأخذ المال وإنما يُخوَّفُ ينفى من الأرض، وذلك بأن
يطلب.
(4/336)
إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
فإن تاب قبل القُدرة عليه عُفي عنه، وإلا
أخذ فحبس.
وقيل: نفيه: طرده من بلد إلى بلد. روي ذلك
عن ابن الزبير وعن ابن عبد العزيز،
وقيل: الطلب، وقيل: القتل بعد القتل، ردعاً لغيره، ونبه على
تعظيم
ما ارتكبه أنه يجمع عليه حد الدنيا، وعقوبة الآخرة.
قال عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (34)
الاستثناء راجع إلى كل من تقدم ذكره، وهو في العذاب
__________
(1) الخليفة عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم - رضي الله
عنه -.
(4/337)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (35)
وفي إقامة الحدود، وقال بعض الفقهاء: كل حق
لله مختص بقَاطع
الطريق فالتوبة قبل القدرة يُزيل ما عليه إن كان من حقوق الله،
وإن كان من حقوق الآدميين فلا يزول إذا طالب به صاحبه.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي
سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
الوسيلة: القربة وهي دون الوصيلة،
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لكل من أظهر
الإيمان سواء كان في مبدئه، أو في وسطه، أو في منتهاه.
وتقوى الله: - هو الامتناع عن المحارم، وتحري الواجبات،
وابتغاء الوسيلة، كما قال عليه الصلاة السلام حكاية عن الله عز
وجل:
(4/338)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(36)
(ما زال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل)
الخبر.
والمجاهدة في سبيله: هو بذل الجهد فيما تقدم من إقامة الفرائض،
وبيَّن
أنكم إذا فعلتم ذلك كنتم راجين للفلاح المذكور في قوله: (قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). والفلاح العام: هو البقاء بلا فناء،
والغنى بلا فقر، والقدرة
بلا عجز والعزُّ بلا ذل. ونبه باختصاص لفظ الابتغاء على بذل
الجهد.
قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ
مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
أي لو حصًّل كل واحد ما في الأرض ومثله قاصداً
بإحرازه أن يجعل ذلك وقاية لنفسه لم ينفعه، وذلك حثٌّ على
المبادرة بالامتناع عن الآثام وترك الاهتمام بالمال في المعاد.
وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقال
ْ
(4/339)
يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا
وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
للكافر يوم القيامة، أرأيت لو كان لك ملء
الأرض ذهَبا لكنت
مفتدياً به، فيقول: - نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت ما هو أهون
من ذلك فأبيت) (1).
وقوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ) الواو عطف، أو يكون بما بعد حال.
قوله عز وجل: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا
هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
أي يسألون أن يخرجوا منها، وذلك هو المذكور في قوله:
(أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا)، والمقيم الذي لا يزول ولا
يتحول،
قال ابن عباس: كل شىء من أمر الدنيا يبلى ويفنى،
__________
(1) نص الحديث في البخاري (6057) هكذا:
" يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ
أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ
تَفْتَدِي بِهِ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ كُنْتَ
سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ ".
(4/340)
وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
وكل شيء من أمر الآخرة يبقى ويتجدد.
قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا) نبه بذلك على أنهم
يحتالون لذلك ولا ينفعهم.
قوله عز وجل: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
السارق: المتناول مال غيره مستتراً،
وقد يقال: للخائن سارق على التشبيه.
وقول - صلى الله عليه وسلم -: (أسوأ الناس سرقة، الذي يسرق من
صلاته) فعلى التشبيه.
واختلف في الآية، فمنهم من قال: هو مجمل كقوله: (وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ) وإجماله
(4/341)
من حيث يحتاج إلى شرائط لا يُنبئ الظاهر
عنها.
ومنهم من قال: هو غير مجمل من حيث إنه يتناول لكل سارق،
وما لم يُرِد منه فهو مخصص،
وقال بعضهم: الألف واللام في (السارق والسارقة) للعهد.
والآية واردة في سارق المِجَن، وامرأة سرقت، لكن الحكم عام من
حيث إنه قد ثبت أن حكم الشريعة في الواحد حكمها في
الجماعة من شرطهم شرطه.
وقال بعضهم: هو للجنس، وبعضهم جعلها بمعنى الذي، وذلك يتضمن
معنى الشرط ويكون مفيداً للعموم.
(4/342)
وقراءة عامة القراء (السارقُ) بالرفع، وكان
عيسى ينصب نحو قولهم زيداً
فاضربه، والوجه الرفع؛ لأن النَّصب مختار حيث لا معنى للشرط،
نحو زيداً
فاضربه، فأما كل لفظ متضمن لمعنى الشرط فالرفعُ نحو قوله:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)، ونحو: (وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ).
إن قيل: لم قدم المذكر في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)
(4/343)
وأَخَّر في قوله: (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي)؟
قيل: لأن السرقة أكثر ما يوجد بالرجال، والزنا أكثر ما يوجد
سببه من النساء، بل توهمنا امتناع انقياد المرأة أصل وجود
الزنا.
وبيَّن أن الله تعالى عزيز في انتقامه، حكيم في حكمه.
واختلف في قدر ما يقطع به، فروي عن عمر وعلي أنه يقطع في خمسة،
وعن أبي سعيد الخدري في أربعة، وعن أبي بكر في ثلاثة،
وعن ابن عباس في عشرة، وعن عائشة في ربع دينار،
وإليه ذهب الشافعى، ومالك والحسن في
(4/344)
ثلاثة، وقال أبو حنيفة: لا يقطع من يسرق
طعاما
يسرع إليه الفساد، أو ثياباً أوحديدا، أو قصباً، أو
زرنيجاً، ونَوْرَةَ، وقد روى: (ولا يقطع في ثمر ولا كثر)،
(4/345)
وقال الشافعي: ما لم يُحَّرز فأمّا إذا
أحرز وبلغ قيمتُه ما يُقطع فيه
قُطِعَ، وأما قدر القطع من اليد فعند الخوارج من المنكب وعند
غيرهم من
الرسغ.
وقد روى أبو هريرة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع
سارقاً من
الكوع).
(4/346)
ولأن المقصد بقطعه أن لا يبطش، ولا يتناول
بها، وبذلك يحصل
الغرض، ولا يقطع إلا يمينها بدلالة قراءة ابن مسعود (فاقطعوا
أيمانهما) فذلك يؤخذ به حكماً، وإن لم يؤخذ به تلاوة.
وإنما ذكر الأيدي بلفظ الجمع، وتارة بلفظ الاثنين، وتارة بلفظ
الواحد كقول الشاعر: -
(4/347)
فَمَنْ تَابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
ظَهْرَاهُما مِثلَ ظُهُور التَرْسينِ
فذكر في موضع مثنى، وفي موضع مجموعاً، وقال:
كلوا في بعض بطنكم تصحوا
فأتى بلفظ المفرد، ومتى كان شيئاً لاثنين يصح اشتراكهما في
أحدهما
لا يصح أن يذكر إلا بلفظ التثنية، لئلا يشتبه نحو رأيت
عبداكما، ولا يصح إذا أردت الاثنين أن يقول: عبدكما أو
عبيدكما.
قوله عز وجل: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (39)
قيل: إن تاب في الدنيا قبل القدرة عليه، وأصلح سقط عنه الحد،
ورُجىَ له الغفران، وإن تاب بعد القدرة عليه رُجيَّ له
الغفران، ولم يسقط عنه الحد بدلالة ماروي ابن عمر: (أن امرأة
سرقت على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بقطعها، فقال
قومها: نحن نفديها خمسمائة دينار، فقال: اقطعوها، فقطعوا
يمناها، فقالت المرأة: - هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال:
نعم، أنت اليوم في خطيئتك كيوم ولدتك أمك).
(4/348)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
فأنزل الله (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ
ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ)، ولم
يقل: بعد سرقته، ليكون عاماً في هذا الحكم، وفي غيره، واشترط
إصلاح العمل تنبيها أن التوبة باللفظ غير مُغنية ما لم يضامها
ما يحققها من الفعل، وجعل علة قَبُول توبته كونه تعالى غفوراً
رحيماً.
قوله عز وجل: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
لما أمر بالتقوى، وابتغاء الوسيلة إليه بالجهاد في
سبيله، ودعاهم إلى الفلاح وبيَّن قبلُ ما يلزم المحاربين،
وبعدُ ما يلزم
السُرَّاق، وذكر قبول توبتها، ذكر قدرته على تعذيب من يشاء،
وغفران
لمن يشاء في الدنيا بما شرعه، وفي الآخرة بما قدره.
وقال ابن عباس: فيعذب من يشاء على الذنب الصغير،
ويغفر لمن يشاء على الذنب الكبير،
(4/349)
يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ
لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ (41)
وفي هذا النحو قال الشاعر:
يعفوا الملوك عن الكبير ... من الذنوب بفضلها
ولقدتُعاقِب في الصغير ... وليس ذاك بجهلها
إلاليُعرف فضلها ... ويخاف شدة ملكها
وإنما قال يعذب من يشاء فقدم ذكر العقوبة على الغفران، لأن
القصد بما
تقدم الردع عن ارتكاب ما يقتضى عقوبة الدارين فكان تقديم ما
يقتضي ذلك
أولى.
قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا
آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ
بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا
فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ
اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ
قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
(4/350)
قيل: نزلت في أبي لبابة حيث بعثه رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -
إلى السيِّدين، سيد الأوس وسيد الخزرج، سعد بن معاذ، وسعد بن
عبادة، فاستشار قريظة أبا لبابة أننزل على حكم محمد؟ فأشار
إليهم بأنه الذبح، قال أبو لبابة: فما زلت قدماي حتى علمت أني
قد
خنت الله ورسوله، والآية عني بها أبو لبابة والمنافقون الذين
وصفهم في قوله:
(4/351)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا
يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا
نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(11).
وقوله: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يكتسبونه عاجلاً شيئاً
بعد شيء، على خلاف ما قال فيه: (يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ).
وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
وقوله: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي قائلون له، وقيل: سمَّاعون
كلامك
لأجل أن يكذبوا عليك، ويسمعون ذلك لأجل قوم آخرين.
وقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) أي كلام النبي - صلى الله
عليه وسلم -، والقرآن، ويكذبون عليه.
(4/352)
وقيل: يحرفون حكم التوراة، وذلك كقوله في
البقرة: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) إلى قوله: (وَهُم يَعلَمُونَ)
وقوله في آل عمران: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ).
وقوله: (هَذَا) أي الحكم الذي قلناه، وقيل: الدِّية.
وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) أي من بعد أن وضعه الله
موضعه، وبيَّن أحكامه.
(4/353)
وقوله: (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ
فَاحْذَرُوا) أي أمركم محمد بغير ذلك فاحذروه.
وقوله: (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ) قال الحسن: عذابه
كقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ).
وقال السدي: ضلالة. وقال الزجاج: فضحيته
وقوله: (لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي
من الكفر عقوبة لهم،
وقيل: لم يحكم بطهارة قلوبهم.
والقولان مرادان على نحو ما تقدم من أمثال هذه الآية.
وذلك بخلاف من وصفهم بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33).
(4/354)
سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ
فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(42)
وقوله: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13).
وقد قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ).
وقوله تعالى: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) أي يستحي منه من
السبي والقتل والجلاء.
قوله عز وجل: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ
فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ
حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
السحت والمحق متقاربان معنى، لتقارب لفظيهما.
لكن السحت أبلغ إذ هو الاستئصال شيئاً فشيئاً يقال: سحته
(4/355)
فأسحته، وسمي الحرام والمستقبح من الكسب
والوخيم العاقبة منه سحتاً، كما سمي الحرام ناراً في قوله:
(إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا)، وفسر
السحت هاهنا بالرَّشوة تفسير العام بالخاص.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هدايا الآمراء من السحت).
والمقصود من الآية مثل ما قاله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ
بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
وقيل: عنى بالسحت الربا، المذكور في قوله:
(4/356)
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ).
واختلف في قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ)، فقال: ابن عباس: -
نُسِخَ بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ) فجعل حكم التخيير
منسوخاً بإيجاب الحكم بينهم.
وقال الشعبي: بل حكمه ثابت.
وقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) حث
على
استعمال العدالة عند تولي
(4/357)
وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ
اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا
أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
الحكم لا إيجاب وعلى هذا قال الحسن:
خلُّوْا بين أهل الكتاب وحاكمهم
وإذا ترافعوا إليكم فاحكموا بينهم بما في كتابكم.
وقال بعضهم: التخيير قبل أن (يعقد) لهم الديَّة والجزية،
والإيجاب (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ) بعد عقد الدية لهم
بالجزية.
وقد روي ذلك عن ابن عباس قال: ويدل أن الآية نزلت في
بني قريظة والنَّضير ولم يكن لهم ذمه.
قوله عز وجل: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ
التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
أنكر الله تعالى تحكيمهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم لا
يؤمنون به وعندهم الحكم في التوراة، والمعنى هاتين الحالتين
(4/358)
إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
مستنكر بتحكيمهم إياك،
وقوله (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي لا يصدقونك فيما
تحكم به،
والواو واو حال.
وقوله عز وجل: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى
وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا
لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ
شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
الهدى والنور إشارة إلى معنى واحد، لكن الهدى يقال
اعتباراً بالأدلة المنصوبة، والنور اعتباراً بما يعين على
معرفة الأدلة، تشبيهاً بنور البصر، ونور الشمس.
وقيل: الهدى إشارة إلى ما فيه من الحكم
الشرعي، والنور إشارة إلى ما فيه من الحكم العقلي،
وقد يُسمى كل واحد من المعقول والمشروع تارة نوراً وتارة هدى.
إن قيل: ما معنى قوله: (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا)
والنبي لا يكون غير مسلم؟
قيل: الإسلام هاهنا الإخلاص لله في التوكل عليه وتفويض الأمر
إليه، نحو قوله:
(4/359)
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ
أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131).
وقوله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ
مُحْسِنٌ).
وقوله حكاية عن إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ).
وقوله: (اَلَّذِينَ أَسلَمُوا) صفة لهم على سبيل المدح لا على
سبيل التخصيص، أو بدل من قوله: (النَّبِيُّونَ)، واللام في
قوله:
(لِلَّذِينَ هَادُوا) متعلق بقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ) ... للذين هادوا.
وقيل: متعلق بقوله: (فِيهَا هُدًى) ومعنى هادوا: أي تابوا
(4/360)
من قوله: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ).
وقيل تقديره: يحكم بها النبيُّون الذين هادوا، والمعنى يحكم
لهم وعليهم، لكن المعنى تذكيرهم عن داعيهم وعلى هذا قال بعضهم:
يحكم فيهم، لأن قولك فيهم يتضمن معنى وعليهم،
وقوله: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) قيل: متعلق بالأحبار، أي العلماء
بما استحفظوا، وقيل: متعلق بقوله: (يحكُمُ بِهَا) لأجل ما
استحفظوا أي لما استُودِعوا، وقوله: (وَكَانُوا عَلَيْهِ
شُهَدَاءَ) أي هم من جملة من قال فيهم: (وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)،
وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
يتعلق به الخوارج، وزعموا أن التارك
(4/361)
لحكم الله على كل حال كافر، وقال غيرهم:
ومن لم يحكم بما أنزله جاحدا فهو كافر، وقيل معناه: من لم يحكم
بأن ذلك عامداً له فهو كافر، وقيل:
الكافر هاهنا جاحد للنعمة من الكفران لا من الكفر،
وقيل: الكفر يقال على ضربين: كفركبير، وهو المذكور في قوله:
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ) الآية.
وكفر صغير وهو المذكور في قوله عليه الصلاة والسلام:
(من ترك الصلوات فقد كفر)، وعلى هذا قال ابن جريج: كُفر دون
كُفر،
(4/362)
وظُلم دون ظُلم، وفِسق دون فِسق، قال
الحسن: إن الله تعالى أوجب على الحكام ثلاثا، أن لا تتبعوا
الهوى، وأن تَخْشوْهُ ولا تَخْشوا الناس، وأن لا تشتروا بآياتي
ثمناً قليلاً، قال وعلى هذا قوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ).
وقد استدل بهذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
متعبد بأحكام من قبله.
(4/363)
وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله عز وجل: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ
كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
أخبر تعالى بما أوجب عليه من القِصَاص.
واتفق الفقهاء: أن ذلك واجب علينا لوجوبه عليهم، لكن منهم
من قال: لم يكن في شريعتهم الدِّية، وقد جعلها في شريعتنا
تخفيفاً على هذه الأمة،
وقوله: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) يقتضي القَوَدُ فيه فقاءاً
كان أو إذهاباً بضوئها.
ومن قال لا يُفعل من ذلك إلا الفقاء فليس بشىء، فالعين ليست
بالعين في الحقيقة إذا لم تكن مبصرة بل بالأعضاء كلها إذا بطلت
منفعتها خرجت عن أن تكون في
(4/364)
الحقيقة إياه إلا اعتبار الصورة التخطيطية،
وذلك غير معتدٍ به ما لم يكن فيه
النفع.
واختلف الصحابة في عين الأعور، وهل يلزم فيه القَودُ ودِّية
كاملة.
فمنهم من أوجب ذلك فيها لكونها سادَّة مسدَّ العينين.
والأنف يلزم فيها القصاص بالقطع.
وقال أبو حنيفة: إذا قطع الأنف من أصله فلا قصاص لأنه
لا يمكن اسشيفاؤه فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد.
وقوله: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) إيجاب للقصاص في سائر الجراحات،
وقرئ: (وَالعَينُ بِالعَينِ) بالرفع كقولك: إن زيداً منطلق،
وعمروا ذاهب.
(4/365)
وقوله: (وَالْجُرُوحَ) إذا قُرئ بالنصب
فعلى العطف، وإذا قُرئ
بالرفع فعلى الاستئناف،
وقوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) خطاب لولي القتيل وللجروح حثٌّ
له على العفو، وذكر لفظ التصدق تنبيهاً على أن عفوه جار مجرى
صدقةٍ يستحق بها ثواب، وتصير كفارةً له، وذكر هاهنا أن تارك
الحكم بما أنزله ظالم، والظلم أعم من الكفر، لأن كل كافر ظالم
وليس كل ظالم كافرا.
(4/366)
وَقَفَّيْنَا عَلَى
آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ
هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
ولذلك قال: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ).
وقوله عز وجل: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قفيناه: بعثناه خلفه، يقفوه: أي يتبع قفاه، ومنه قافية الشعر،
والقفي: الضيف الذي يبعث خلفه تكرمه له، والأثر: ما يظهر
للحاسة، والإثار الاختيار، واستثاره اختاره لنفسه،
والهدى: يقال لما يستدل به، والموعظة لما يوعظ به، والفسق أعظم
(4/367)
وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي
مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (48)
من الكفر والظلم، وأصله الخروج إلى حظر
الله، من قوله: فسقت
الرطبة إذا خرجت عن طلعها.
إن قيل: لم كرر قوله: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَين يَدَيه مِنَ
التَّورَاةِ)؟
قيل: يجوز أنه أراد بالأول مصدقاً لما بين يدي التوراة،
وبالثاني نفس التوراة، فبين أن عيسى عليه الصلاة والسلام أتى
بما يُصدق به موسى، وكتابه أتى بما يصدق كتاب موسى.
قوله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ
الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
(4/368)
المهيمن: قيل الحفيظ، وقيل الرقيب، وقيل:
الأمين، وقيل: الشاهد،
قال أبو عبيدة: الحاذق في علمه، وقال ابن عيينه: أصله مُؤيمن
فقلبت همزة هاء، كما قالوا: - أهرقت في قولهم أرقت، وقد قيل:
همين يهمينه. وحقيقة المعنى أنه جعل هذا الكتاب حافظاً
ومستولياً لسائر ما تقدم من كتبه يحكم عليها وهي لا حكم عليه،
وينسخها وهي لا تنسخه، وصح على هذا: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)، يعني
ما ننسخ من
(4/369)
الكتب المتقدمة (نأت بخير منها)، يعني من
الكتاب العربي.
والشرعة والشريعة: في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها
إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعبادة من (1) الدين الذي
يوصل إلى الحياة الأبدية، كما سمى كتابه المهيمن على ما تقدم.
ومن أصله: أشرعت القِباء وشُرعت في الماء، وهم شرع.
والمنهاج: الطريق المستقيم، يقال: طريق نهج ومنهج.
إن قيل: ما الفرق بين الشرعة والمنهاج؟
قيل: قال بعضهم: الشرعة إشارة إلى الدين وهو الشرع، والمنهاج:
إشارة إلى الدليل الذي يتوصل إلى معرفته والتخصيص به،
وقد رُوي عن ابن عباس أنه قحال: شرعةً ومنهاجاً: ديناً وسبيلا.
إن قيل: كيف قال: (لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرْعَةً
وَمِنهَاجًا) فاقتضى ذلك أن
__________
(1) كأن هنا سقط في الكلام واتضح ذلك بمراجعة فتح القدير حيث
ذكر: الشرعة والشريعة في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها
إلى الماء، ثم استعملت فيما شرعه الله لعبادة من الدين، انظر
(2 لم 48). وذكر الراغب في مفرداته قريبا من هذا المعنى في
مادة شرع.
وقد نقل الآلوسي عن الراغب في تفسيره (2 لم 153) قال: وقال
الراغب سمي الدين شريعة تشبيهاً بشريعة الماء من حيث أن من شرع
في ذلك في الحقيقة روى وتطهر، وأعني بالري ما قاله بعض الحكماء
كنت أشرب الماء فلا أروى فلما عرفت الله رويت بلا شرب،
وبالتطهر
ما قال تعالى: (وَيُطَهِّرَكم تَطهيرًا).
والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح،
والعطف باعتبار جمع الأوصاف.
(4/370)
لكل واحد من الأنبياء شريعة غير شريعة
الآخر، وقال في موضع:
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).
فذكر أنه شرع لجميعهم شريعة واحدة.
قيل: الذي استوى فيه شريعة جُماعِه هو أصول الإيمان والإسلام،
أعني التوحيد والصلاة والزكاة والصوم والقرابين، فإن أصول هذه
الأشياء لا ينفَّك منها شرع بوجه، وأما الذي ذكر أنه تفرد به
كل واحد من الأنبياء فروع العبادات من كيفياتها وكمياتها، فإن
ذلك مشروع على حسب مصالح كل أمة، وعلى مقتضى الحكمة من الأزمنة
المختلفة،
ووجه آخر: أن الشرائع إذا عتبرت بالشارع
(4/371)
وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ
أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
فمقتضى حكمته يصح أن كلها واحدة، وكذا إذا
اعتبرت لغرض والقصد الذي هو مصلحة المشروع له وإذا اعتبرت
بذوات الأفعال فهي شرائع كثيرة، وعلى هذين النظريتين، قال الله
تعالى: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ)، وقال في موضع آخر: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ)،
وقوله: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، كقوله: (يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ
الْحِسَابِ (26).
قوله عز وجل: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ
يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
قوله: (وَأَنِ احْكُمْ) فهو معطوف على معنى الكتاب، وقوله:
(مُصَدِّقًا) إلى قوله: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ)
(4/372)
أي أنزلنا بأن احكم.
وقيل: من الواجب أن احكم، والأول أوجه، لأنه لا يقع أن افعل
إذا كان بعده أمر إلا من موقع المصدر.
ويتقارب فتله عن كذا.
(فِتْنَةٌ) ولكن فتنه يقال في الصرف عن الخير والشر، وفتله
يقال في الصرف عن الخير.
إن قيل: لم قال: (أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فخص البعض؟ قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه
عنى بذلك الكفر والنفاق الذي لا غفران فيه، لكن ذكر البعض منها
يكون أردع للعباد.
والثاني: لأنه ذكر البعض للمبالغة تنبيها على أنه
إذا أصابهم ببعض الذنوب يقال في كلٍ أولى.
إن قيل: لما كرر (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ)؟
قيل: قال بعضهم: إن ذلك في حكمين:
حكم في المحصن، وحكم قتيل كان فيهم، ففرق كل واحد منهما نهي عن
(4/373)
أَفَحُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
الهوى، تنيبها أن الهوى لا يسفر عن نجاح
ولا في صلاح.
وقال بعضهم: - تقدير الكلام أنزلنا إليك الكتاب بالحق، وبأن
احكم
بما أنزل، وبأن لا تتبع الهوى، فاحكم بما أنزل الله ولا تتبع
الهوى فأخبر بإنزال ذلك أولاً، ثم أمر به أمراً مجزماً، وقدم
الأمر على الإخبار عن الأمر به
تأكيداً، وتقدير الكلام: - قد أوجبت عليك الحكم بذلك، وترك
إتباع الهوى فاحكم بذلك.
قوله عز وجل: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أنكر عليهم تحريهم الجاهلية وتركهم لحكم الله، ثم قال: (وَمَنْ
أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
تنبيها أن ذلك يعلمه الموقن،
وقوله: (لِقَوْمٍ) قيل: عند قوم،
(4/374)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
وقيل: أراد لقوم (يُوقِنُونَ) عليهم، فدل
مالهم على ما عليهم.
إن قيل: كيف يكون حكم أحسن من حكم إذا كانا حقين؟
قد يحكم أحد الحاكمين بعلم يحكم الآخر بغلبة ظن، وكلاهما
حسنان، والأول أحسن، وقد يجتهدان في حكمين وأحدهما أقرب إلى
الحكم نحو اجتهاد داوود وسليمان.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
الاتخاذ الاعتماد هاهنا، وأصله افتعال من الأخذ، والأخذ حوز
الشيء وذلك تارة بالتناول، وتارة بالاعتماد عليه، وتارة
بالإهلاك نحو: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولَى).
الآية، نزلت في عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أُبي
(4/375)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى
أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
لما تبرأ عبادة من مولاة اليهود، وتمسك عبد
الله بها وقال أخاف الدوائر.
وقيل: نزلت في أبي لبابة بن المنذر لما نصح لليهود وأشار بأنه
الذبح،
وقال ابن عباس والحسن: إنها نزلت في نصارى بني تغلب
قال قوم إنهم كبني إسرائيل في جواز أكل ذبائحهم، لأنه قال:
(فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
قوله عز وجل: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ
أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي
أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
(4/376)
وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
أي ترى المنافقين يسارعون في الدخول في
جملتهم،
وقيل: يسارعون في مرضاتهم،
والدائرة: دوران الأمر من قولهم والدهر بالإنسان دواري.
والدورة والدولة يتقاربان،
والفتح قيل فتح مكة، وقيل: بل نفعاً أتى من الله.
والأمر هاهنا واحد الأمور يأتي بأمر لا يعرفون سببه ووجه
إلزامهم في ذلك أن الأمور ضربان: واجب، وممكن، وما وعد الله
تعالى من نصرة المؤمنين فواجب كونه أي صادق الوجود. يقال: هب
أن لك ليس من الواجب إما جعلتموه من الممكنات التي عسى أن
تكون، فأخبر أن المنافقين يميلون إلى الكفار ويقولون لا نأمن
أن تكون لهم دولة على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك
لقلة إيمانهم بما ضمن الله من نصرة المؤمنين وقال تعالى:
(فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ) على ما فعلوه، ونبه أنه يأتيهم بذلك، فإن عسى منه
واجب.
قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ
الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا
خَاسِرِينَ (53)
(4/377)
أي أقسموا أن يوالوكم على الكفار، ولم
يفعلوا،
وقوله: (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) أي أبلغ الإيمان وأقصاها من
قولهم جهد
في الأمر ونصبه على المصدر،
وقوله: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) يصح أن يكون معطوفاً على ما
حكى عن الذين آمنوا، ويصح أن يكون استئناف كلام من الله على
طريق الإخبار،
وعلى طريق الدعاء عليهم.
وإذا قرأ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) فتقديره: عسى الله أن
يأتي بالفتح، وأن يقول الذين آمنوا.
وقرأه أهل المدينة، يقول الذين آمنوا بغير الواو.
(4/378)
|