تفسير الراغب الأصفهاني

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)

وإنما قال: (فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) فخص لفظ الإصباح لأمرين:
أحدهما: لما كان أكثر محاربتهم وغاراتهم وقت الصباح كثر عبارتهم عن التغيرات وعلى هذا قول الشاعر:
يَا راقداً الليلَ مسروراً بأوله ... إن الحوادثَ قَدْ يَطرقنَ أسحاراً
والثاني: أنه لما كان بالإصباح انتهاء الظلمة، وانتشار الأشعة، وظهور ما كان بالليل مستتراً خص (فأصبحوا) تنبيهاً على زوال غمة الجهالة وظهور الخفاء كقولهم فِى المثل لما يظهر: بزغ الخفاء بداء الصبح لذي العينين،
ونحو ذلك.

وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قرأ أهل المدينة من يرتدد وذلك لغة.
قوله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي ليَني الجانب على المؤمنين،

(4/379)


كما قال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الآية،
وقيل: هى فيمن ارتد في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -، وقيل: فيمن كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأظهر أنه فيهم وفي غيرهم، وأنه وعد تعالى أنه يحفظ دينهم بقوم رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويتحرى مرضاتهم ويتحروا مرضاته، وذلك كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39).

(4/380)


(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38).
وقد تقدم حقيقة محبة الله للعباد ومحبتهم له، وجعل من حقيقة محبتهم لله أن وصفهم أنهم أذلةٍ على المؤمنين، أي متواضعين، فالتواضع الانقياد لما يورث رقة والتعزز على من يورث صعبة، وفي وصفهم بذلك وصف ينفي الجهل
عنهم، وحصول العلم لهم، وتهذيب أنفسهم فإن التواضع ثمرة العلم وتهذيب النفس، وقد تقدم أن الجهاد ضربان: مجاهدة الغير، وذلك إما
باللسان، وإما بالبنان، ومجاهدة النفس، وذلك بإصلاح القوة العلمية، وإصلاح القوة العملية.
المجاهد إمَّا مجاهد للنفس، وإمَّا لشياطين الإنس والجن،
قال بعضهم: - جهاد النفس أن لا نتركها تفتر عن الطاعة، وجهاد
الشيطان أن لا يجد منك فرصة فيأخذ منك حظاً، وجهادُ العَدُوَّان تدنوا من
صفة المسلمين.
قوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) أي الجهاد في سبيل الله، وما ذكر
به القدم للذين يحبهم ويحبونه: (يُؤتِيهِ) أي المستحقين.

(4/381)


إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)

قوله عز وجل: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
الولي والمولى: متقاربان، لكن الوليَّ من الأسماء المتضايفة، ويقتضي أن من واليته مواليك، وقال: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).
وقال في صرضع: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)، وقال: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا)
وقال: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ).
لما نهى عن موالاة الكافرين خاطب المؤمنين بأن لا يغتروا بهم، وأن يعلموا أنهم مواليهم الله ورسوله والمؤمنون، ثم وصف المؤمنين الذين يوالونهم، فقال: (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) أي يوفون حقها، لا الذين وصفهم بقوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ) الآية.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) تقديره: من يتول

(4/382)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

هؤلاء فهو من حزب الله، وحزب الله غالب، فإن من يتول الله ورسوله
غالب.
(وَهُم رَاكِعُونَ) قيل: أي خاشعون كقوله: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39).
وقيل: عنى ركوع الصلاة، وذلك نزل في علي - رضي الله عنه -، فإنه تصدق بخاتم وهو في الصلاة، فالراكع يريد به الركوع
الذي هو أحد أركان الصلاة.
واستدل بالخبر والآية على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها،
وفيه دلالة على أن الصدقة النافلة تسمى زكاة.

قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

(4/383)


الذين آمنوا هم المخاطبون في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)، والمذكورون في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)
ونهاهم عن موالاة المتهكمين بدين الحق أي عن الاستعانة بالمشركين،
وقد روي أن قوماً من اليهود أتوه ليخرجوا معه، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا لا نستعين بمشرك)، وقد تقدم أن الاستعانة بهم لا تجوز على وجه يكونون هم الغالبون.
فأما أن يستخدموا في المهن، وما يورثهم المهانة لا العز فجائز.
قُرئ (وَالكُفَّارَ) بالنصب، معطوفاً على قوله: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا)،

(4/384)


وبالجر معطوفاً على قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وعنى بالكفار من عدا أهل الكتاب من ملحد وعابد وثن،
وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تنبيه: أن من شرط الإيمان مضامة التقوى، ومن شرط التقوى الغضبَ لدين الله، وتركُ موالاة من اتخذ دينكم هزواً ولعباً، ومن لا يغضب لدينه فليس بمؤمن حقيقة.
وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) معطوف على قوله:
(اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا) وداخل في صلة الدين، ومن تمام
وصفهم كأنه قيل: اتخذوا دينكم هزواً ولعباً واتخذوا الصلاة هزواً ولعباً إذا ناديتم إلى الصلاة، وهذا تخصيص بعد العموم، أي يتخذون الدين جملةً هزواً
ولعباً، ويتخذون النداء إلى الصلاة كذلك، ونحوه قوله: (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) و (مِن) في قوله: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) للتبيين وإظهار ذلك من يفعل ذلك وليس هو التخصيص.

(4/385)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)

قوله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
يقال: نَقِمَ ونَقَمَ عليه نِقْمةً إذا أنكر ما فعله وسَخِطَ عليه ولتضمين النقمة
السخط والإنكار استعمل في كل واحد منهما على الانفراد، والسبب في نزول هذه الآية أن قوماً من اليهود أتوْا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: عن من يؤمن بالله، فقال: (
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)
الآية، فلما سمعوا ذكر عيسى نقموا فأنزل الله ذلك تنبيها أنكم أنكرتم غير
منكر وهو إيماننا مع فسقكم، ومخرج هذا الكلام الإنكار لقول الشاعر:

(5/386)


قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)

وَمَا نَقَمُوا مِنْ بَني اميَّة إلا ... أنهم يَحلُمُونَ إنْ غَضبُوا

قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
المثوبةُ في الخير كالعقوبةِ من الشر، واستعارتُها للعقوبة نحو قول الشاعر: -
... تَحيَّةٌ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ وَجيعُ
وقول غيره:
تعليقها الإسراج والإحكام.
ذكر أن إيماننا بالله وما أُنزل إلينا إن كان شراً عندكم، فإني أنبئكم بما هو شرٌ عاقبةً عند الله منه وهو ممن أَبْعدَهم الله من رحمته وسخط عليهم ومسخهم القردة والخنازير
وقوله: (شَرٌّ مكَانًا) أي مُتَصرِفاً، وأضل عن الطريق المستقيم.
وقوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) معطوف على قوله: (لَعَنَهُ اللَّهُ) أي من لعنه الله

(5/387)


ومن عبد الطاغوت أي الشيطان وعبادته الشيطان طاعته إياه فيما سوَّل له.
وقرأ ابن مسعود (وَعَبَدُوا) رداً إلى المعنى وهو أجود.
وقُرئ وعبُد الطاغوت وعَبَدَ الطاغوت.
فمن قرأ عُبد فليس بوجه عند أهل العربية، لأنه ليس من

(5/388)


وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)

أمثله الجمع، وقد فسرنا به خدم الطاغوت، وأما عَبَد فجمع عَبيد، نحوْ رغيف ورُغف، وسرير وسُرر، وتقدير ذلك وجعل منهم عُبَد
الطاغوت، كقولك جعلت زيداً أخاك أي حكمت بذلك وأما عَبُد فإما أنه
واحد وقع موقع الجمع، أو جعل جمع عابد نحو خدم، أو أصله عَبُد فسكن نحو عَضُدٌ وعَضْد.

قوله عز وجل: (وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
أي يظهرون الإيمان ويدخلون كافرين، ويخرجون كافرين، تنبيها أنهم كاذبون فيما يظرون من الإيمان و (وَإِذَا) إشارة إلى قوله: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
وإلى نحو قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).

قوله عز وجل: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)

(5/389)


لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

في ذلك مسابقتُهم إليه، وذلك في السوء
كقوله في الحسنى: (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)
وحثٌّ لها، وقال: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
والإثم إشارة إلى نحو الذي قال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
وأكلهم السحت إلى قوله: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
الإثم أعم من العدوان، والعدوان أخص منه وأعم من
أكل السحت، وأكل السحت أخص منهما لأن كل أكل
السحت عدوان، وليس كل عدوان يكون أكلاً للسحت.

قوله عز وجل: لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

(5/390)


لولا إذا دخل على فعل ماضي فالتوبيخ: (لَوْلَا جَاءُوا).
وإذا دخل على فعل مستقبل فللتخصيص.
والرباني منسوب إلى الرب وهو الذي تولى الله تربيته بالعلم،
قرأ عبادة: بزيادة الألف والنون فيه كقولهم: شعرانيٌ.
وقال بعضهم: الرباني ليس في كلامهم في الأصل.
والأحبار الذين يراعون الأعمال، وأصله من حَبْرتُ أي حسنت
وكان عبارة عن المحسنين.

(5/391)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)

إن قيل: (يَعمَلُونَ) وفي الثانية: (يَصنَعُونَ) وهل بينهما فرق؟
قيل: الصنع أخص من العمل كما أن العمل أخص من الفعل، وذاك أن الفعل يقال فيما كان من الحيوان، وغير الحيوان وبقصد وعن غير قصد، والعمل لا يقال إلا ما كان من الحيوان وبقصد، والصنع لا يقال إلا ما كان من الإنسان بقصد واختيار وبعد فكر وتحري أحاده، ولهذا يقال: دخل رجل صانع أي حاذق، وثوب صنيع أي مجاد. فحيثما ذُكِّر كافتهم قال:
(لَبِئسَ مَا كَانُواْ يَعمَلُونَ) وحيثما ذكر خاصتهم وحفظة العلم والعمل ذكر: (لَبِئسَ مَا كَاْنُواْ يَصنَعُونَ).

قوله عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أي هو بخيل ْممسمك، كقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)

(5/392)


وقيل قالوا: إنه فقير كقوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)، قال الحسن: معناه: - يده مقبوضة عن
عذابنا، وقوله: (غُلَّتْ أَيدِيهِم) دعاء عليهم،
وقيل: هو خبر، والدعاء والخبرُ إذا كانا من الله واحد،
وقول من قال: لو كان هذا إخباراً لوجدوا لذلك، فلعمري إنهم قد وجدوا كذلك، فقد رُوي أن اليهود أبخل خلق الله،
وقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) نِعَمه متكاثرة،
وتشبيه اليد على طريقة كلام العرب في استعارة هذه اللفظة.
وقد ذكر لفظ اليد في آيات.
وقيل: تتنيتها لأنه أراد عطية الدنيا والآخرة، وقيل: بل قصداً إلى ثوابه
وعقابه، وقيل: بل قصد إلى تكثير نعمه.
فالتثنية يعبر بها عن كل كثرة

(5/393)


نحو قولهم: لبيك وسعديك.
وقوله: (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) أي إنَفاقه على مقتضى الحكمة لا على حسب شهوتكم.
وقوله: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا)
ما يسمعون من

(5/394)


القرآن، ووجه ذلك ما تقدم أن القرآن بمنزلة الغذاء، والمعقولات بمنزلة
الدواء الذي يوازي الصحة، والكافر والمنافق مريضان، كما قال: (فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ). فكما أن المريض لا يوافقه الغذاء بل يزيده مرضاً كذلك
المنافق يزداد بسماع القرآن طغياناً وكفراً.
وإلقاء العدواة بينهم هو تعريف لليهود قبح اتخاذ النصارى المسيح ربًّا، وتعريف النصارى قُبح نسبة اليهود المسيح إلى أما هو أقبح به.
ويدخل في ذلك معاداة النصارى بعضهم لبعض،
وقوله: (كُلَّمَا أَوقَدُواْ نَارًا لِّلحَربِ) أي إذا هموا بإثارة شر
أوقع الله بينهم منازعة تكف شرهم وتدفع شوكتهم، فمنازعتهم لبعض يورث فشلاً، كما قال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
وقال في الكفار:

(5/395)


وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) وقال: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)،
وقوله: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) أي مساعاتهم
لطلب الإفساد فلا يعينهم الله، فإن الله لا يحب المفسدين، أي لا يعينهم
على تحريهم الفساد.

قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
التكفير: ستر الذنوب حتى تصير بمنزلة ما لم يُعْمَلْ، ويصح أَن يكونَ أصلُه
إزالة الكفر كقولهم: مرضت فلان وقدْيت عينه.
ذكر أنهم لو أصلحوا اعتقادهم وأفعالهم لغُفروا وأُثيبوا، كقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).

قوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

(5/396)


كما جعل تعالى لجزاء إيمانهم تكفير السيئات، وجزاء تقواهم
إدخال الجنات، جعل جزاء توفية أحكام كتب الله سعة الرزق، وذلك أنهم
لما اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وكتموا ما أنزل الله بسحت كانوا يحوزونه، بيَّن تعالى أن ذلك العَرَض بل أكثر منه وأطيب لم يكن ليفوتهم لَوْ وفوا كتب الله حقها.
والأكل من فوقهم إشارة إلى الثمار ومن تحت أرجلهم إلى الزروع.
وقيل: بل الإشارة بقوله: (مِنْ فَوْقِهِمْ) إلى المطر، وبقوله: (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) إلى الثمار والحبوب جميعاً، كقوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10).
وقيل: ذلك إشارة إلى أنهم كانوا ينالونها، قال: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) وعلى هذا:

(5/397)


(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11).
وقوله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)،
وقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
وقوله: (مِّنهُم أمَّةٌ مقتَصِدَة) أي عادلة غير عَادِيَة ولا مقصره وهم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك كقوله: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ).
وقوله: (سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) نحو: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)
وقوله: (سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).

(5/398)


يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قيل: السبب في نزول هذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يهاب قريشاً، فأنزل الله ذلك.
فروي: (أن أعرابياً همَّ بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسقط السيف من يده فجعل يضرب برأسه حتى انتثر دماغه).
إن قيل: كيف قال: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) وذلك كقوله: إن لم تبلغ فما بلغت.
قيل معناه: وإن لم تبلغ كل ما أُنزل إليك يكون في حكم من لم تبلغ شيئاً، تنبيها أن تقصيرك في بعض ما أمرت به يحبط عملك.
وقيل: عنى بقوله: (مَا أُنزِلَ إِلَيكَ) ما ذكره بعد هذه الآية.
وهو قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).
وقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من أن ينالوك

(5/399)


بسوء من قتلٍ أو أسرٍ أو قهرٍ. وأصل العَصْمِ: من عصم القِربة أي
شَدِّها، وعصمة الله للعبد حفظ سره بما يَردُ عليه من موارد الشر.
وقيل: معنى يعصمك من الناس أي من بينهم العصمة المختصة بالنبوة ونحو قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95).
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
ليس يعني أنه لا يبذل لهم فعصمة الله وتوفيقه وتسديده مبذولة
لكل من رغب فيها وترشح لقَبُولها.
ولكن الكفر يمنع منه، فإنه يعانده وينافيه كمنافاة المتضاد.
واستدل بهذه الآية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكتم شيئاً مما أنزل الله بخلاف ما قالت الرافضة: أنه قد كتم أشياء على سبيل التُّقية.

(5/400)


قال بعض الصوفية: ما يتعلق به مصالح العباد وأُمر بإطلاعهم عليه، فمنزه عن
كتمانه، وأما ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه
كتمانه.

(5/401)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)

قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)

(5/402)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

إن قيل: قوله: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) داخل فيه التوراة والإنجيل إذ كل ذلك منزل من الله، فلم أُفردا؟
قيل: إنه أفردهما بالذكر على سبيل التفصيل وخص ما أُنزل بالقرآن.
فإن قيل كيف أمرهم أن يقيموا الكتب وقد عُلم أن القرآن قد نسخ
التوراة والإنجيل، ولا يصح إقامةُ جميعها؟
قيل: يجوز أنه عنى الإقرار بصحة ثلاثتها، ويجوز أنه أراد أحكام أصولها، فإن ثلاثتها تستوي في ذلك وإنما الاختلاف في الفروع
بسحب مصالح الأزمنة.
وقيل: أراد إقامة هذه الكتب بإظهار ما فيه
من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديق بعضها بعضاً.

قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

(5/403)


إن قيل: كيف قال: (مَن آمَنَ مِنهُم بِاللَّهِ) و (مَن) يدل على ما تقدم، وتقديره: من آمن من المؤمنين ومن الذين هادوا، وذلك خُلْفُ من
الكلام؟
قيل في ذلك وجهان:
أحدهما: أن معنى قولِه: (إِنَّ آلَّذِينَءَامَنُوا): أظهروا الإيمان وأَمِنُوا من القتل والسبي وهم الموصوفون بقوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ).
وقوله: (مَنءَامَنَ مِنهُم) أي من يحقق الإيمان فبيَّن أن المُظهِر للإيمان، والذين ما داموا فيهم ممن ذكرهم، لا يسقط عنهم الخوف والحَزَن في الدارين ما لم يتحققوا بتصديق الله، والإيمان بالمعاد، والتحري لمصالح الأعمال والثاني مَنْ في قوله: (مَنءَامَنَ بِاَللَّه) راجع إلى قوله: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) دون قوله: (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا).
إن قيل: ما وجه قوله: (وَالصَّابِئُونَ) وقد ذكر النحويون أن المعطوف على اسم (إنَّ) قبل الخبر لا يصح فيه الرفع؟
قيل إن ذلك لا يصح منه الرفع إذا عطف على موضع إنَّ

(5/404)


ويخبر عنهما بخبر واحد نحو أن يقول: إن زيداً وعمرو منطلقان، فأما إذا جعل الثاني مرتفعاً بالابتداء وجعل خبر أحدهما مضمراً يصح.
كقول الشاعر:
.......... فَإنِّى وَقيَّارٌِ بهَا لَغَرِيبُ
وتقدير الكلام: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم، والذين هادوا والصابئون
والنصارى من آمن بالله لا خوف عليهم، واستغنى بخبر أحدهما عن مضمر
الآخر وعلى هذا قول الشاعر:
وإلا فاعْلَمُوا أنا وأنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقينَا فيِ شِقَاقِ
وقيل: قوله: (وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) معطوف

(5/405)


لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)

على المضمر في قوله: (ءَامَنُو) كأنه قيل: إن الذين آمنوا هم
والذين هادوا والصابئون.
قال الفراء: الرفع يصح بعد إنَّ ويصح في كل معطوف، ولا يتغير فيه الإعراب نحو الذي وإخوانه، وهذا وهذه.

قوله عز وجل: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
قد تقدم حقيقة أخذ الميثاق منهم، وأن ذلك بما ضمن عقولهم على ما دل عليه قوله:

(5/406)


وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية.
وبعضه بما أَنزل إليهم من الآيات، وبعضه بالأيمان المؤكدة وكل ذلك مما ذكره المفسرون، وإنما قال: (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) فعطف
المستقبل على الماضي تنبيها على أن ذلك عادتهم ماضياً ومستقبلاً،
ونبه بقوله: (بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ) أنهم يتبعون الهوى فيما يتحرونه، فلا
يستحقون جهداً وإنْ طابقو الحق إذ ليس لهم إلا سلوك سبيل الهوى، وأصل
الهوى: والهوا واحد وهو لا مِسَاك له، ومنه: (اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ)، وسُمى الدار هاوية لذلك.

قوله عز وجل: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
الفتنةُ العذاب والبليَّةُ، وأصلها: إدخال الذهب والفضة النار

(5/407)


لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)

للاختيار، ولذلك قال تعالى: (يَومَ هُم عَلَى النَّارِ يُفتَنُونَ)، وتارة يعتبر ما تحمل من العذاب فيستعمل فيه نحو: (وَفَتَنَّاك فُتُونًا).
وقُرأ: (أَلَّا تَكُونُ) بالرفع والنصب. فالرفع على
تقدير أنه لا تكونُ فتنة وذلك أبلغ في ذمهم، وقد تقدم أن الظن والحسبان
يستعملان تارة فيما قوى في النفس وتارة لما ضعف، ومن ذكر بعدهما إن
المشددة والمخففة منهما فقصد إلى تقوية الاعتقاد ومن ذكر بعدهما أن الناصبة
للفعل فلضعف الاعتقاد، وارتفاع قوله: (كَثِيرٌ) على البدل من الضمير في
: (فَعَمُواْ وَصَمُّواْ) وعلى تقدير التفسير: أي العُميُ والصُم كثير منهم ثم
بين أنه تعالى لعلمه كاملاً بما يعملون بالمرصاد يحاربهم.

قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)

(5/408)


أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

قالوا: إن الله هو المسيح، وذلك حكاية عن اليعقوبية
الذين قالوا إن المسيح ابن مريم هو الله، وبين أن المسيح نهاهم أن
يعتقدوا ذلك حيث قال: اعبدوا الله ربي وربكم وأنه بيَّن أن من يشرك
بالله يمنعه الجنة ويخلده النار فلا يجد ناصراً.
وأصل التحريم جعل الشيء ممنوعا منه إما بالحكم كتحريم الله الخمر وإما بالمنع القهري كتحريم الله الجنة على الكافر.

قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
أخبر عن النسطورية والمَلَكِية، فهم الذين يقولون أب وابن وروح القدس فيجعلون الله أحد الأقانيم الثلاثة، ومن أن الله هو واحد وهو سبب الموجودات، وهددهم إن لم ينتهوا يعذبون.

(5/409)


مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

إن قيل: لم قال: (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)،
وذلك يقتضي أن يكون بعضٌ منهم كافرين.
وقد قال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا) فحكم بكفر جميعهم قيل: إنما قال الذين كفروا منهم تنبيها أن العذاب يتوجه على من دام به الكفر ولم يقلع، ولهذا عقبه بقوله: (أَفَلَا يَتُوبُونَ).
إن قيل: لم قال: (لَيَمَسَّنَّ) فذكر المس، وذلك يقتضي بتقليل العذاب.
قيل: بل المس يقتضي مبالغة في وصف عذابهم، لأن المس يقتضي اللمس، وذلك أعم الحواس وأكثرها وجوداً إذ لا حيوان إلا وله اللمس، ولأنه أعرف الحواس عند الخاص والعام.

قوله عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
الصديقة الكثيرة الصدق، فقد قيل: إنها لم تكذب قط،
وقيل: لتصديقها جبريل لما قال:

(5/410)


(إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19).
الخلو: تعرِّي الزمان أو المكان مما فيه، أو تعرى الشيء من زمان ومكان. وإذا قيل: لا يخلوا الأمر من كذا، فمعناه لا يتعرى ولا ينفك،
احتج تعالى على من ادعى الربوبية لعيسى بما يزيل الشبهة في ذلك، وهو أن غاية ما لعيسى صلى الله عليه وسلم كونه رسولا، ذا معجزات قد شاركه في مثلها غيره من الأنبياء كإبراهيم حيث أُلقي في النار فسلم منها، وموسى حيث أَلقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، وفلق البحر له في تسع آيات، وأنه في كونه من غير أب لم يكن بأعجب من آدم الذي
كان من غير أب ولا أم، ونبه على قصوره عن آدم بكونه من أم، وأن كونها
صديقه لا يقتضي لها ولا لابنها الربوبية بل أكثر ما في ذلك أن يكونا من جملة
الصديقين، ثم نبه على بعضهما بافتقارهما إلى الطعام المقتضي لبعض الحاجة فكنى تعالى عن ذلك بأحسن كناية ثم عجب منهم بقوله: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وإذا كان حالُهما لا يخفَى ومع
ذلك ينصرفون عن الحق وتفهمه.
قيل معنى: (يُؤْفَكُونَ): يصرفون

(5/411)


قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

كاذبون فيما يدعونه.

قوله تعالى: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
إن قيل لم قال: (مَا لَا يَملِكُ) ولم يقل (مَن)، وقد قصد بذلك نفيُ إلاهية
عيسى، وكيف قال: (يَملِكُ لَهُم ضَرًّا وَلَا نَفعًا) وقد كان عيسى
يملك ذلك وإن كان بتخليق الله إياه، ولمَ قدم الضر على النفع، ولم أتبع ذلك قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وقد كان من حق المقابلة أن يُقال
والله هو الضار النافع؟
قيل: أما ذكر (مَا) فلكونه للجنس والنوع المقتضين لمعنى عام يقصد بذكره وأن ذلك يقتضي المشاركةَ والمشابهةَ، وتنزه الإلهية عن ذلك فأنكر تعالى بذكر ما ادعوه كل ما اقتضى مشابهةً ما، وإنما قال:
(لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) لأنه لما كانت الإشارة على ثلاثة

(5/412)


أضرب: عن مالك الضر والنفع بوجه، ومالك لبعض ذلك بتمليك كالإنسان، ومالك لهما لا تمليك وهو الله تعالى صار مالكاً، لذلك بالتمليك في الحكم من لا يملك من هذا الوجه.
قال المسلمون: لا يملك أحدٌ شيئاً غيرُ الله، وقالوا:
الأشياءُ في يد الناس عاريةٌ مستردة. وأما تقديم الضر على النفع؛ فلأن الإنسان يخدم غيره إما لدفع الضرر أو لجر النفع، والناس يراعون دفع الضرر قبل جر النفع، ولذلك كان الاحتراز من المَضَارةِ كلها واجباً وليس طلب المنافع كلها واجباً، فلذلك قدم هاهنا الضرر.
فإن قيل: فقد قاله: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
فقدم ذكر النفع؟
قيل: تقدم النفع في هذا المكان أولى لأنه لما ذكر تحريهم عن أنفسهم فيما يجرون لها.
والإنسان يتحرى لنفسه النفع لا الضر، بيَّن أنهم لا يملكون ما يحبون
فلأنفسهم، بل لا يملكون أيضاً في حقيقة الضر فضلاً عن النفع.
وأما إتباعه بقوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) فهو أنه لما لم ينكروا أن الله مالك الضر والنفع، ولا أنه قادر على مجازاة من استحق المجازاة، بل أشركوا بينه وبين غيره عَقَّبه بما اقتضى معنى ملكه للضر والنفع، وقدرته على المجازاة وذكر أنه هو المجازي

(5/413)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)

فإن قوله: (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اقتضى أنه يجازي بما يسمعه
ويعلمُه، وإدخال هو في قوله: (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) اقتضى أن هذا الحكم خاص له لا يشاركه فيه غيره، صار مقتضى الكلام أنه يملك النفع والضر وأنه يجازي كل أحد باستحقاقه.

قوله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
الغلو: تجاوز الحد من قولهم غلا السهم وغلا السعر ويستعمل في الإفراط
دون التفريط، والخطاب قيل هو للنصارى حيث تجاوز القصد في عيسى
عليه الصلاة والسلام فادعوا له الربوبية.
وقيل: هو خطاب لهم ولليهود، فالنصارى غلوا في رفعه،
واليهود في وضعة،
وقوله: (غَيْرَ الْحَقِّ) انتصب بإضمار: (وَلَا تَقُولُواْ) كقوله: (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، وبيَّن أن الذي عليه قومهم هو من مقتضى الهوى فنهاهم عن اتباعهم فيه.

(5/414)


كما قال تعالى: (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)
وإنما جمع الهوى تنبيهاً أنهم متفاوتون، والمراد في باطلهم،
إن قيل: لم كرر قوله: (ضَلُّوا)؟
قيل في ذلك أوجه: الأول: أنه أراد قد ضلوا عن سواء السبيل،
فلما فصل بينه وبين ما يتعلق به أُعيد ذكره، كقوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ).
أعاد قوله: (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ).
الثاني: أنه أريد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، ضلوا كون ذلك تبيناً لما ضلوا عنه،
والثالث: أن الاشارة بقوله: (ضَلُّواْ مِن قَبلُ) إلى ضلالهم في شريعتهم قبل إتيان نبينا - صلى الله عليه وسلم -،

(5/415)


لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)

وبقوله: (وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) إلى ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والرابع: أن الإنسان قد يعتقد أن يُضل غيره وهو ضال بذلك، فبيَّن الله تعالى أن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم غيرهم إشارة إلى نحو قوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
والخامس: أن الله تعالى أرسل هاديين العقل والرسول، والعقل متقَدِّم على
الرسول من حيث أنه بالعقل يهتدي إلى معرفة الرسول، فقوله: (ضَلُّواْ)
إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل وضلوا عن سواء السبيل إلى ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قوله عز وجل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
الاعتداء والتعدي والعدوان خروج عما حَدَّ ورسم،
إن قيل: على أي وجه لعنوا على ألسنتهما؟
قيل في ذلك أوجه: الأول: أنهم فعلوا ما استحقوا به اللعن
فلعناهم بأسمائهم، وذلك راجع إلى آبائهم، فقد روي أن

(5/416)


كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)

داوود بلغه أن قوماً اجتمعوا على منكر فقصدهم ليعظهم فاستفتحهم الباب فلم يفتحوا وقالوا: نحن قردة، فقال: كونوها فمسخهم قردة، وإن قوماً آذَوْا عيسى عليه الصلاة والسلام فلعنهم،
الثاني: أنهما قالا: من لم يفعل كذا فلعنة اللَّهِ عليه، فعصو، فصاروا ملعونين من هذا الوجه.
الثالث: أن الله تعالى لما أنزل على كل واحد منهما كتاباً اقتضى أن من خالفه فهو ملعون، فخالف هؤلاء، فصاروا من هذا الوجه ملعونين.

قوله عز وجل: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
التناهى: أن ينهى بعضهم بعضاً، والانتهاء الانزجار، وهو أبلغ من الانتهاء

(5/417)


وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

والمعنى لم يكونوا ينتهون، ولا يتناهون عن القبح الذي أناطوه، ثم ذم فعلهم.

قوله عز وجل: (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
أى ترى كثيراً من الذين لعنوا موالين للكفار في محاداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك يجر إليهم سخطَ الله ويدخره لهم وبئس المدخر سخطه تعالى وما يثمر لهم الخلود في العذاب ونحو قوله: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ).

قوله عز وجل: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
النبي يجوز أن يكون إشارة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام
ويجوز أن يكون إشارة إلى نبيهم، ونبه أنهم لو آمنوا بمن ادعوا الإيمان به
لما فعلوا ما فعلوا، فإن دينهم لا يقتضي ما يرتكبونه ويفعلونه،
ويجوز أن يكون النبي إشارة إلى الجنس، أي الإيمان بالله وبالنبوة والكتاب، لا يقتضي ما يتحرونه من مولاة الكفار.

(5/418)


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

إن قيل: فكيف قال: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) بل كافرون؟
قيل الإشارة: (وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) أي أحبارهم وعلمائهم
وأماثلهم، فيشير إلى أن فسق هؤلاء هو الذي اقتضى أن يرتكب
جماعتهم ما يرتكبونه وذلك لما أنبا بقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ).

قوله عز وجل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
أصل العدواة المباعدة ومنه يعدي والعدا للمكان المتفاوت.
والقس والقسيس: العابد الكثير الذكر.
والرهبان جمع راهب كالركبان والفرسان جمع راكب وفارس،
بيَّن أنه كما بَيْن الأخيار تفاوت كذلك بين الأشرار تفاوت،
وكما أن من أتى من

(5/419)


الطاعة ما هو أدنى كان ثوابه أدنى، كذلك من أتى من المعصية أكثر كان
عقابه أكثر، ولهذا جعل في الجنة درجات، وفي النار دركات، فالله لا يبخس عاملاً عمله. فلا يساوي بين من جحده وبين من يؤمن به ولا يكفر بأنبيائه، ولا بين من يجحد جميع أنبيائه، وبين من يجحد بعض أنبيائه فالمشركون به أبعد من الله من اليهود، واليهود أبعد من النصارى وإن أبعد الناس عن الإسلام اليهودُ والمشركون، أما اليهود فلأنهم بَعدُوا عن المسلمين بدرجتين إذ قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
وأما المشركون فلأنهم بعُدوا بدرجات إذ قد جحدوا التوحيد والنبوات.
إن قيل فلم قدم ذكر اليهود والمشركون شرٌ منهم؟
قيل: لأن الآية المتقدمة في ذكرهم، والقصد كان إليهم، فكان
تقديمه لذلك أولى.
وبين أن أقرب الناس إليهم قوم ادعوا التنصر ليس ذلك إشارة إلى جماعة النصارى بل قوم منهم.
ولهذا قال: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).
ويدل على ذلك ما روي في التفسير

(5/420)


وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

أن ذلك إشارة إلى النجاشى، وأصحابه الذين آمنوا من بعد. ثَمً بيَّن أن
منهم القسيسين والرهبان وأنهم يتحرون الحق ولا يستكبرون عن قبوله والضمير في (أنهم) راجع إلى القسيسين والرهبان، وقيل: راجع إلى المعنيين بالدين كلهم.

قوله عز وجل: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
الفيض سيلان عن امتلاء وأفضا لسيلانه وفاضته دمعة إذا امتلأت العين ثم سالت، وعنه اسستعير خبر مستفيض، وأفاض القوم من عرفه، فذكر تعالى أنهم يبكون ويؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم من جملة من وصفهم بقوله:

(5/421)


وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
ومعنى (فَاكْتُبْنَا) أي اجعلنا منهم وثبتنا في جملتهم.

قوله عز وجل: (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
كأنه قيل لهم: لِمَ آمنتم به؟ فقالوا: ولم لا نؤمن أي نصدق بالله وبالحق الذي جاءنا.
وقوله: (وَنَطمَعُ) من جملة قوله: (وَمَا لَنَا)،
ويجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون في موضع الحال،
أي لما لا نؤمن طامعين في أن يجعلنا ربنا من الصالحين
وذلك إشارة إلى قوله: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69).

(5/422)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

قوله عز وجل: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86).
قد تقدم ما هو تفسير لهذا ودلَّ قوله: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) أنهم محسنون واستحقوا ذلك تنبيهاً أن ذلك .... (1).
فإن قيل: فمن المحسنين من لا يجزى فهو الذي إساءته أكثر؟
قيل: المحسن المطلق هو الذي لا يستحق أن يوصف بضده ويكون وصفه بالحسن مطلقاً، ووصفه بالإساءة مقيداً، فأما من إساءته مُوَفيةٌ على إحسانه فلا يطلق عليه اسم الحسن.

قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
لما ذكر حال الذين قالوا: - إنا نصارى، وذكر أن منهم قسيسين ورهباناً فمدحهم بذلك، وكانت الرهبانية قد حرموا على أنفسهم طيبات قد أحلَّها الله
__________
(1) سقط في الأصل.

(5/423)


لهم، ورأى تعالى قوما سوقوا إلى حالهم وهموا أن يقتدوا بهم حتى رأوا أنَّ قوَماً من أصحابه عليه الصلاة والسملام همُّو بإخصائهم، همُّوا أن يفعلوا فعلهم، وبيَّن ما دل على ما قال: (بعثت بالحنيفية السهلة)،
وقوله: (وَلَا تَعْتَدُوا)

(5/424)


وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

يجوز أن يكون حكماً لما دل عليه قوله: (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ) وأن
لا تعتدوا إلى تناول المحظورات، وتكون الآية نهياً عن الطرفين في التفريط والإفراط وحملاً على القصر المذكور في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). ونحو ذلك من الآيات، وبيَّن أنه لا يحب المعتدين، أي
الاعتداء منافٍ لمرضاة الله،
فإن قيل: ولِمَ لمْ يقل والله يبغض المعتدين ليكون أبلغ؟
قيل: بل قوله: (لَا يُحِبُّ) أبلغ من وجه؛ لأن من المعتدين من
لا يوصف بأن الله يبغضه ويوصف بأنه لا يحبه، وهو من لم يكن اعتداءه كبيرة، وكل مبغض غير محبوب، وليس كل من لا يكون محبوباً علته مبغضاً. قال بعضهم: معنى (لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ) أي لا تخلطوا مالكم من الحلال
بمغصوب، ولا تفعلوا فيه فعلاً يصير به حراماً، فتكونوا قد جعلتم الحلال
حراماً.

قوله تعالى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
الرزق: يقال لما جعل غِذَا، ويقال

(5/425)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

للعطية جميعاً، وقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) أي ما يتغذى به، (وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ) أي مما أعطيناهم، ولتردد هذه اللفظة بين المعنيين اختلفوا أن ما رزق الله العبد هل يصح أن يكون حراماً؟
قال بعضهم هذه الآية يقتضي أن الرزق يقع على الحرام
أيضاً لأنه خص فقال: (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) فلولا أنه يتناولهما
لما كان لتخصيصه فائدة، وقال مُخالفة قوله: (حَلَالًا طَيِّبًا) انتصابه على أنه
حال مؤكدة كأنه قيل: كلوا مما رزقكم الله فهو حلال طيب،
وبيَّن أن الله الذي آمنتم به حثكم أن تتقوه فتمام الإيمان التقوى.

قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

(5/426)


اللغو واللغي: ما لا يعتد به من المقال والفعال ومن هذا قيل: لصوت العصافير اللغو، وقيل أُلغيت كذا أي طرحته لقلة الاعتداد به.
واللغو في اليمين، روت عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: (هو قول الرجل لا والله وبلى والله) موقوفاً عليها.

(5/427)


وقال ابن عباس: - هو أن يحلف على أمر يراه كذلك وليس على ما يراه، وروي عنهْ أنه قال: هو أن تحلف البتَّ على شيء وأنت غضبان،
وقال بعضهم: - هو أن يحلف الرجل على معصيته بأن يفعلها فينبغي أن لا يفعلها قال وهذا لا كفارة فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(من حلف على يمين فرأى أن غيرها خيراً منها فليركها، فإن تركها كفارتها) وقيل: بل لا إثم في تركها وعليه الكفارة، لقوله عليه الصلاة والسلام:
(من حلف على شيء فرأى غيره خيراً فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) القَسَمُ ضربان: قسم على ماضي، وقسم على مستقبل،
فالماضي: إما لغو وإما غموس، ولا كفارة فيها عند أبي حنيفة.
وأما عند الشافعي ففي الغموس الكفارة دون اللغو.

(5/428)


قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، يعني عند الشافعي: مؤاخذة
الآخرة أي العقاب، والمؤاخذة بالكفارة عند أبي حنيفة مؤاخذة العقاب دون
الكفارة، واختلف في الكفارة على أوجه، أما في الإطعام فقد اختلف فيه:
هل الأولى أن يجمعوا على إطعامهم أو يدفع إليهم، فإذا جُمعوا عليه فهل يُطعَمون وجبه أو يطعمون غداءً وعشاء، وإذا أعطوا كم يعطون؟
قال الحسن: يعطي كل مسكين نصف صاع من بر.
وقال بعضهم: نصف صاع بر، وصاع من تمر.

(5/429)


وقال ابن عباس وابن عمر رضى الله عنه الله عنهما: بل مدٌّ من بُر وهو
قول مالك والشافعي، وقال سعيد بن جبير: مُدان، مدٌّ لطعامه، ومدٌّ
لإدامه، ولا خلاف أنْ الذكر والأنثى في ذلك سواء، وذُكِّر اللفظ (عَشَرَةَ)
تغليباً للمذكر،
وقوله: (مِن أَوسَطِ مَا تُطعِمُونَ أَهلِيكُم)
قيل: هو راجع إلى مرات الإطعام، وقيل: هو راجع إلى جنس الطعام، وقيل: راجع إلى قدر ما يطعمون إن أطعم أهله مُداً فمداً، وإن أطعمهم صاعاً فصاعا.

(5/430)


وأمَّا الكسوةُ: فقد قيل: لكل مسكين ثوب إزار ورداء،
وقال مالَكْ: - يكسوا الرجل ثوباً والمرأة درعاً وخماراً، فذلك أقل ما يجزي فيه الصلاة.
قال الشافعي: يجزي منها قطعة من سراويل وعمامة ومُقْنَعَه.
وأما تحرير الرقبة

(5/431)


فإيقاع الحرَّية عليه، وتخصيص لفظ الرقبة، فقد قيل: ذلك لأنهم كانوا إذا
أسروا أسيرا شدَّقه إلى عنقه فإذا خُلِّيَ قيل: حرر رقبته، فصار ذلك عبارة عن العتق، وحقُّ المعتَق أن لا يكون به عيب يضر بعمله كالعمى والشلل.
فأما العور فإنه لا يضر، وقيل: يكره عتق المختل، ولا يجوز عتق الصبي
الصغير، قال سليمان بن موسى: الرقبة لا تقع إلا على الكبير، فأما الصغير
فيقال له النَسمَة، وقال إبراهيم: كل موضع في الشرع ذكر فيه رقبة

(5/432)


مؤمنة فإنه لا يجزئ إلا الذي صام وصلى، أي بلغ.
وقوله: (فَمَن لَّم يَجِد) أي لم يجد فضلاً عن قوت عياله في يومه وليلته، فإن له أن يكفر بالصيام.
وقال قوم: إذا لم يكن عنده مائتا درهم.
وأما الصوم فقد قيل: متتابعات، ولذا قرأ أُبيٌّ - رضي الله عنه -
(فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، واعتبر ذلك أبو حنيفة في الحكم،
وإن كانت التلاوة منسوخة.
وقال بعض الشافعية: قواه ذلك كفارة الحكم.
(إِذَا حَلَفتُم) يدل على

(5/433)


أن له أن يكفر إذا حلف قبل أن يحنث، ولم يقل إذا حنثتم.
وقوله: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) أي أقلوا منها ولا تبذلوها لا للغوها، ولا ما يؤخذ بيمين اللغو، وإن لم يؤخذ به فقد يُودي بالإنسان إلى أن يتعود إكثار اليمين، وقيل معناه: إذا حلفتم فلا تنقضوها،
كقوله: (وَأَوفُواْ بِعَهدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّم) وقوله: (أَوفُواْ بِالعُقُودِ)
والصحيح أن الآية تتناول الأمرين - جميعاً
وعلى هذا قول الشاعر:
قَلِيلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمِينِه ... وإن سَبَقَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّت!
وجملة الأمر أن الإنسان مندوب إلى أن لا يحلف، ومن حلف على أن

(5/434)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)

لا يفعل فعلاً يجب أو يستحب أن يفعل فحقه عليه أن لا يحنث،
ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يحنث في يمينه ويكفر،
ومن حلف على ما يجب أن لا يفعل أو يستحب أن يفعل، فاستوى فعله وتركه، فإن شاء حنث وكفَّر، وإن شاء حَفِظ اليمين.
وقوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أي أعلام دينه، أحكامه الدنيوي والأخروي، رجاء أن يعرفوه حق المعرفة، فإذا عرفتموه وفعلتم ما أمرتم يكونون أقرب إلى أن توفوا حق شكره.

قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
النجس والرجس والرجز متقارب، لكن النجس يقال فيما يستقذر بالطبع، والرجس أكثر ما يقال فيما يستقذر بالفعل ولهذا فُسر بالإثم والسخط. والخمر بالاتفاق: عصير العنب المشتد، وقد يسمى نقيع البُسر والتمر خمراً،

(5/435)


قال ابن عباس: نزل تحريم الخمر وهي الفضيح، وروى النعمان بن
بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً)
وهذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (الخمر هاتين الثسجرتين من
النخل والعنب) فإنه لا يقتضي أن لا يكون من غيرهما، وقوله عليه الصلاة
والسلام: (كلُ مسْكرٍ حرام)، يقتضي تحريم ذلك جميعاً، سواء أسكر
ومن شأنه أن يسكر؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في الماضى والحال والمستقبل، وقد تقدم الكلام في تحريم الخمر في سورة البقرة.
الميسر الضرب

(5/436)


إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

بالقداح على الجَزور، وسمي بذلك اعتقادهم أنه سبب يسار الفقر لما ينالهم من لحمه، وقال أمير المؤمنين: - الشطرنج من الميسر، وقيل:
القمار كله منه أي حكمه حكمُه.
والأنصاب ما نصب للعبادة من الأوثان،
وقيل كان حجرا بين يدي الصنم يذبح عليه،
وعلى هذا قال الشاعر:
...... وَمَا هُرِيقَ عَلى الأَنْصابِ مِنْ جَسَدِ
والأزلام: قداح يكتب على بعضها افعل، وعلى بعضها لا تفعل،
أو يكتب عليها حسن أو مذموم، فكانوا إذا أرادوا أمراً ضربوه
واعتمدوه فيما يفعلونه،
وقوله: (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أي من تربيته.

قوله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

(5/437)


لما كان هذان يتولد منهما العدواة خصهما بإعادة ذكرهما،
فأمَّا الأنصاب فإنها سبب الكفر المحض، وهذه العلة في الخمر تقتضي
مشاركة البُنية إياها.
إن قيل: الذي يصد عن ذكر الله هو شرب الكثير دون
القليل، فحسبه أن يكون هو المحرم؟
قيل: بل ذلك منهما فإن القليل داعٍ مَن شربه إلى الكثير، وشرب الكثير داعٍ إلى ذلك بلا واسطة.
وقوله: (فَهَل أَنتُم مُّنتَهُونَ) نهاية الردع والزجر.

(5/438)


لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

وقوله عز وجل: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
روى أنه لما نزلت الآية الأولى قال: قد مات منا عدة، يشربون الخمر فما حالهم؟ فأنزل الله هذه الآية،
روى أنها نزلت: في قوم كانوا قد حرموا على أنفسهم المباحات،
وروى أن قدامة ابن مظعون شرب الخمر فأراد عمر أن

(5/439)


يجلده، فتلا قدامة هذه الآية، فقال عمر: أخطأت التأويل، إذا أيقنت واجتَنبتَ ما حرم الله عليك.
إن قيل ما الفرق بين الإيمان والتقوى والحسنى؟
قيل: الإيمان: - هو الإذعان للحق على سببيل التصديق له بالتبيين.
هذا وإن كان في المتعارف صار اسماً للتخصيص بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
وبالتقوى: - جعل اليقين وقاية من السخط بالانتهاء عما نهى، والإتيان بما أمر.
والإحسان: تحري الأفعال الجميلة في الإيمان والتقوى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لما قيل له: ما الإحسان؟ فقال: (أن تحبد الله كأنك تراه) وثالثهما مرتبة وإن كان لكل واحد مراتب.
إن قيل ظاهر الآية يقتضى أن المؤمن المتقي المحسن يجوز له أن يتناول ما يريد تناوله والجناح عنه مرفوع، قيل: رفع الجناح عنه، لا لأنه

(5/440)


أبيح له ما حظر على غيره، بل لأنه أَمِنَ أن يأتي بما هو محظور، وهذا كقَولك: لن أمنت أن يتعدى طوره لا بأس عليك فيما صنعته، ولا حجر عليك
فيما أردته وارتكبته، يعني أنك مأمون الغاية أن يتعدى طورك،
فبين بالآية أن من صار بهذه المنزلة من الإيمان أحجم عن المحظور وعفي عنه، وعلى هذا قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية.
إن قيل: ما وجه تكرير ذكر الإيمان والتقوى؟
قيل في ذلك أوجه:
الأول: ليس من آمن واتقى فيما كان قد حرم عليه وقت إباحة الخمر وأدام الإيمان واستعمل التقوى، إلا أن في ترك شربه. ثم النهي في غير ذلك واستعمل الحسنى جناح فيما شربه من الخمر، وتعاطاه من الميسر، قبل أن يحرم ذلك.
الثاني: لا جناح في تناول المباح من آمن واتقى فيما مضى، وفي الحال وفي المستقبل، فأما من ترك ذلك في أحد الحالين، ولم يقلع بتوبة فله الإثم.
الثالث: أنه أراد استعمال الإنسان الإيمان والتقوى فيما بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الناس، وبينه وبين الله.

(5/441)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

الرابع: أن للإيمان والتقوى على القول المجمل ثلاثة منازل:
إما أن يكون الإنسان في أوله وأوسطه أو في منتهاه، وكذا الفسق ثلاث
منازل، كما قال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) فبيَّن أن الإنسان إذا استوعب المنازل الثلاث فقد كمل
وصار بحيث لا يتناول إلا المباح فلا جناح عليه لذلك فيما طعم.
الخامس: أن للتقوى ثلاث منازل:
الأول: ترك المحرمات،
الثاني: ترك الشبهات،
الثالث: ترك بعض المحللات تهذيباً لنفسه، لا تحريماً ومن بلغ هذا
المبلغ فلا جناح عليه فيما يتناوله بعد ذلك،
وبيَّن بقوله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أن من فعل ذلك فقد صار محسناً،
وإذا صار محسناً صار لله محبوباً فإن الله يحب المحسنين.

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)

(5/442)


الابتلاء: - استخراج ما عند الإنسان من البلاء، أي الفعل كالاختيار في كونه استخراج خبر الإنسان،
وقوله: (بِشىَءٍ منَ الصَّيدِ) قيل: - (مِن) للجنس أي بصيد البر دون البحر وصيد الإحلال دون الإحرام،
وقيل للتبيين لقوله: (فَاجتَنِبُواْ الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ)،
وقيل: للتبعيض أي من أجر الصيد ما يمكن اصطياده،
وقوله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) أي ما كان مستأنساً منه،
وقيل: فراخ الطيور، وصغار الوحش والبيض،
فقد روي: (أنه أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - بيضتان

(5/443)


فامتنع منهما، وقال: (مُحْرِمون)، وقضى عليه الصلاة والسلام في بيض
نعام أصابها محرم ثمنه، وما تناله، وما حكمه هي الممتنعات، ولم يعن الرماح فقط بل عناها وسائر الأسلحة، أي جعل تعالى ذلك ليكون ذريعة إلى ظهور أفعالكم وما يستحقون به الجزاء،
وقيل: إن قوله: (لَيَبلُوَنَّكمُ) أي يوجب الله تعالى ذلك عليكم لترضوا به
أنفسكم، وتتوصلوا إلى الامتناع عن محارمه الخفية، ليعلم بذلك كيف تضبطوا أنفسكم حتى لا يطلع عليكم غيركم وإنما يطلع عليه رب العزة، وذلك إشارة إلى خفيات القلوب والسرائر.
وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ) أي من تعدى في هذه الظواهر بعدما حظر عليه فيما ولا يراعي أمره فأولئك هم الذين يتعدون ويستحقون العذاب الأليم.

(5/444)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

وقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
ذكر لفظ القتل دون الذبح والذكوة لأمرين:
أحدُهما: - أنه أعم الألفاظ في ذلك،
والثاني تنبيه أن ما يصيبه غير مذكي والصيد هاهنا
مخصوص في كل متوحش يؤكل لحمه عند أكثر الفقهاء،
بدلالة قول النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم، الحيَّةُ والفأرة والعقرب والكلب العقور)،
وفي خبر آخر: (الذئب والفأرة والغراب والحدأة)،

(5/445)


وقيل نبه بقوله العقور على ما يؤذي.
واختلف في الصيد بتذكية المحرم هل يأكله حلال؟
فأجراه بعضهم: مجرى ذبح المجوسي والوثني،
وأجراه بعضهم: مجرى ذبح الشاة المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوب،
(وَأَنتُم حُرُمٌ)، أي مُحرمون - بحج أو غيره، أو داخلون
في الحرم، وأجمعوا أنه لم يرد أنهم في الشهر الحرام، وإن كان اللفظ
يحتمله، وقوله: (وَمَن قَتَلَهُ ومِنكُم مُّتَعَمِّدًا) فيه ثلاثة أقوال: -

(5/446)


الأول: ما روي عن ابن عباس: أن الكفارة لا تلزم المخطئ لتخصيص العمْد.
الثاني: ما روي عن مجاهد أنه إذا كان عامداً لقتله ناسياً لإحرامه فعليه
الجزاء، وإن كان ذاكراً لإحرامه عامداً لقتله فلا جزاء عليه.
الثالث: وهو الأكثر أن عليه الكفارة، على كل حال وتخصيص العمْد بالذكر لقوله: (وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ) وذلك تخصيص بالعامد دون المخطئ، وأكد ذلك بأن الأصول تقتضي المساواة بين العمْد والخطأ فيما يختص بإتلاف المال.

(5/447)


وقوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).
قد تقدم أن المثل يقع على الند الذي هو مماثلة في الجنس،
وعلى الشبه الذي مماثلة في الكيفية، وعلى المساواة التي هي
المماثلة في الكمية، وعلى المشاكلة التي هي المماثلة في الهيئة،
فلما كانت المماثلة لا تختص، صار اللفظ مشتركاً.
فاختلف فيه فاعتبر ابن عباس: المماثلة في الخِلْقَة،
وإليه ذهب سعيد بن جبير وقتادة ومالك والشافعي،
واعتبر عطاء ومجاهد المماثلة في القيمة،
وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف.
وقالوا: إن شاء اشترى بها طعاماً، فأعطى كل مسكين مُداً، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً.

(5/448)


واللفظ بالأول أليق لقوله: (مِنَ النَّعَمِ)
وفي الآية قراءتان: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) بالتنوين، (وجَزَآءُ مثلِ)
بالإضافة، فإذا قرأ بالتنوين فلأنه يجعل الجزاء اسماً لا يجازى به مثل أي مماثل
لما قتل.
وقوله: (مِنَ النَّعَمِ) في موضع الوصف للجزاء.
قيل: هو أجود من الإضافة فإن الواجب هو جزاء المقتول من الصيد، لا جزاء مثل المقتول،
فإن قيل: المقتول ليس بمقتول فيكون له جزاء، وإذا أضيف جزاء إلى مثل، فذكر المثل هاهنا كما من نحو أنا أكرم مثلك وجعلنا أكرمك،
وقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) أي يجب أن يحكم بذلك عدلان،
وروى قبيصة بن جابر قال:

(5/449)


ابتدرت أنا وصاحب لي ظبياً فأصبته فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلَك له
فأقبل على رجل إلى جنبه فنظرا في ذلك فأتيت صاحبي وقلت إن عمر لم يدر لم يحكم حتى جمع صاحباً له، فسمع ذلك عمر، فأقبل علىَّ ضرباً بالدِّرة، وقال أما سمعت (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ) وهذا ابن عوف وأنا ابن الخطاب.
وقوله: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا)
قال الشافعي عنى عدل الهدي، وذاك أنه يقوِّم الهدي،
وقال أبو حنيفة: عنى عدل الصيد فإنه يُقوِّم الصيد،
وقوله (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) إخبار أنه لا يجوز نحر الهدي إلا في الحرم
، واختلف في الطعام، هل يجوز غير في الحرم؟
وقوله: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)

(5/450)


أي عن قتل المحرم، وقيل: عن المرة الأولى،
وقوله: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)
روي عن جماعة أنهم كانوا لا يحكمون على المحرم إذا أعاد
إلى القتل الصيد وكان إذا استفتوا يقولون: هل جنيت شيئاً قبل فإن قال:
نعم، لم يحكموا عليه، وإن قال: لا، حكموا عليه،
وقول فقهاء الأمصار أنه يحكم عليه بكل حال.

(5/451)


أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

قوله عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
البحر: يتناول كلًّا مالحاً كان أو عذباً، في جدول كان أو في نهر.
قال تعالى: (وَمَا يَستَوِي البَحرَانِ هَذَا عَذبٌ فُرَاتٌ)،
وقوله: (وَطَعَامُهُ) أي ما قذف به البحر ميتاً،
وعلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في البحر:
(هو الطهور ماؤه الحل ميتته).

(5/452)


والصيد هاهنا قيل: هو المصيد، وقيل: هو المصدر.
فعلى الأول قال بعض العلماء: أكل المصيد على كل حال غير محظور.

(5/453)


واستدل بما روى أبو قتادة (أني أصبت حمار وحش فقَلت:
يا رسول الله: أصبت حمار وحش وعندي فضله، فقال كلوا فنحن
حرم)،
وعلى الثاني قال بعضهم: الاصطياد محرم، فأما أكل ما يصيد غيره
فيجوز، واستدل على ذلك ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام:
(وقد سئل عن الصيد فقال: (حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوا أو يُصاد لكم).

(5/454)


فقال بعض العلماء: (وَطَعَامُهُ) أي ما يصاد له، قال: وهذا يدل على
أن ما اصطاد المحرم أو صيد له من صيد البحر غير محرم عليه،
قال الحسن (وَطَعَامُهُ) يعني البُر والشعير ونحوهما مما يتغذى بالماء،
وقيل: عنى ما مات فيه.
وعليه دل قوله عليه الصلاة والسلام في البحر:
(الطهور ماؤه الحل ميتته).
وقيل: يتناول ذلك كل ما في البحر إلا ما استثناه السنة.

(5/455)


جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)

وقال بعضهم: - بل ذلك يتناول السمك فقط.
وقوله: (مَتَاعًا) مصدر مؤكد، كقوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)
بعد قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ).

قوله عز وجل: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
الكعبة: بيت مَرْبَع شبيهاً مكَعب ومنه قيل: كَعْبُ ثدي المرأة.
وقوله: (البَيتَ الحَرَامَ) يصح أن يكون بدلاً من قوله:

(5/456)


(الْكَعْبَةَ)، وقوله: (قِيامًا) في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً
ثانياً، ويصح أن يجعل (البَيتَ الحَرَامَ) مفعولاً ثانياً، ويجعل (قِيامًا)
حالاً، والقيام، والقوام ما يُقوم به الأمر في معاشهم وصلاح أبدانهم،
ونقاء نفوسهم، ونبه تعالى أن الإنسان إذا تفكر فيها بيَّن الله لهم من يعظِّم
الكعبة أ. والشهر الحرام والهدي والقلائد.
فنبهه بذلك أن الله تعالى لإحاطة علمه بالأشياء قبل كونها ومعرفته لمصالح العباد جعل ذلك سبباً لعبادتهم لله تعالى،
قال الأصم: (قِيامًا لِّلنَّاسِ) أي: دائماً لهم لا يُنْسخ حكمه،
وقال الحسن: يعني بالشهر الحرام: الأشهر الحرم فأخرج اللفظ
مخرج الواحد،
فإن قيل ما فائدة قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد
قوله: (مَا فِى السَّموَات وَمَا فِى الأَرضِ)؟
قيل: إن لفظ قوله: يعلم إخبار عن المستقبل (وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
أن ليس علمه مقصور على ما تقدم، بل هو عالم الغيب والشهادة،
إن قيل: كيف جعل قياماً علة لعلمنا أن الله يعلم ما في السموات والأرض؟

(5/457)


مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)

قيل: ليس هذا متعلق بل هو متعلق به وبما قبله.
ونبه أنه تعالى قيض إما باعث من خارج أو باعث من داخل على تحريم
القتال في الشهر الحرام، ولتعظيم الكعبة ليكون ذلك سبباً لمصالح الناس التي من تفكر فيها علم أن الله فعلَه لعلمه بالخفيات.

قوله عز وجل: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
نبه بذلك أنه تعالى حيث سخر هذه الأمور وبينها دل ذلك أنه فعل ذلك لما أراده من عباده ليثيب المحسن ويعاقب المسىء، وذلك يقتضي أن يعلموا أنه يعاقب قوماً ويرحي قوماً كيفما تقتضيه حكمته.

قوله تعالى: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
الرسول المبعوث في أمر وأصله السائر على رِسْلٍ، ومنه تَرَسَل في القراءة إذا أمر فيه بلا تكلف، والرِّسْلُ اللبن، وكأنه اسم
للمرسل من الضرع كقولهم البعض، والبعث، والبَلاَغُ: وصول المعنى
إلى المقصود به، والبَلاَغَةُ رابع يتصل به المعنى إلى النفس وفي هذا بَلاَغٌ كفاية يبلغ بها مقدار الحاجة، أي الرسول قد بلغ ما أمر وليس عليه أكثر من ذلك في أمر الرسالة ثم الله يتولى السرائر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أقضي بينكم بالظاهر ويتولى الله السرائر).

(5/458)


قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

قوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
الخَبِيثُ: هو الباطل في الاعتقاد. والكذب هو المقال الطالح في الفعال، وأصله الرَّدِيءُ الدَّخْلَةِ الذي تظهر ردأته في الاختيار ولهذا
قال الشاعر:
سَبَكْنَاهُ ونَحْسِبُهُ لُجَيْنَاِ ... فَأبْدَى الكِيرُ عن خَبَثِ
ومتى اعتبر الطيب بالخبيث فهو كالدائرة من النقطة، بل كالشيء الذي
لا قدرة له بالمرأى، فبين الله تعالى الطيب وإن استقللتموه فخير من الخبيث، وإن استكثر قوة حتى يعجبكم كثرة، ونبه أن الاعتبار في الأشياء ليس بالقلة والكثرة وإنما ذلك بالجودة والرداءة، فالمحمود القليل خير من الذميم الكثير، ولهذا قيل: أقلل وأطب.

(5/459)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

إن قيل: كيف جعل الخبيث هاهنا كثيراً، وقد قال: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ) فجعله قليلاً،
وقال: (قُل مَتَعُ الدُّنيَا قَلِيلٌ)؟
قيل: استكثاره للخبيث هو على نظر المغترين بالدنيا،
واستقلاله هو على ما عليه حقيقة الأمر.
وقوله: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) ليس بخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط بل هو خطاب لكل معتبر.
كقول الشاعر:
تَرَاهُ إذا مَاحَييتَهُ سَهْلاً ... كَأنكَ تُعْطِيهِ الذي أَنت قَائِلُهُ
ولأجل أن الخطاب عام من حيث المعنى قال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) بلفظ الجمع والمعنى استعملوا التقوى راجين أن تبلغوا الفلاح، تنبيهاً
أن التقوى هى التي تُبَلِّغ.

قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

(5/460)


البُدُوّ في القول: يقال تارة لظهوره، وتارة يقال لظهور تأويله وحقيقته. والعفو: يقال تارة لما يفضل عن الكفاية، كقوله: (مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفوَ)
أي ما فضل عن القوت، وتارة يقال لترك الشيء، قبل وجوبه كقوله عليه
الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق).
وتارة يقال لترك

(5/461)


ما لزم فتجوفي عنه نحو (فَاعف عَنهُم وَاصفَح)،
وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه خرج يوماً غضبان وجلس على المنبر فقال: (لا أُسأل عن شيء إلا أجبت، فقام رجل فقال أين أنا؟
فقال: في النار، وقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: حذافة، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، والله يعلم من آباؤنا)، فنزلت هذه الآية.
وقيل: إنه كان في الحج لما قال سراقة بن جعشم له عليه الصلاة والسلام: - أفي كل عام فقال عليه الصلاة والسلام: (لو قلت نعم لوجبت) الخبر.

(5/462)


وقيل: كان سؤالان في مجلس، وعلى هذا قال تعالى: - حكاية: (فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)، وهذا في سؤال
دون سؤال، وقوله: (أَشيَاَءَ) عند الكسائي بناها أفعال، قال: ولم
يصرف تشبيهاً بحمراء، وهذا يلزمه أن لا يصرف أنباء، وعند الأخفش
والفراء أنها أفعلاء، ويلزمهما أن يصغر على شيئان وقد امتنع من ذلك، وعند

(5/463)


الخليل أنها فعلاء قلبوها، كما قلبوا أينق عن أنيق، وقِسِيّ عن قُووس
قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنها) أي عن الأشياء المسؤول عنها، وقيل عن
المسألة، والقولان في التحقيق واحد.
إن قيل ما موضع قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنهَا) وما فائدة الإتيان بذلك؟
قيل هو وصف لقوله: (أَشيَاَءَ) كأنه قيل لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها، أي لم يكلفكم السؤال عنها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (عفوت لكم عن صدقة الخيل) أي لم أوجبها، وذاك لأن الأشياء في البحث عنها وسؤالها ثلاثة أضرب: ضربٌ يجب السؤال عنه:

(5/464)


وهو ما كُلف به الإنسان، وفيه أمر وإياه توجه أن أفتي لجريج بالاغتَسال
فقال: (قتلتموه، هلا سألتم عنه، شفاء العيي السؤال)،
وضربٌ يكره أو يحظر السؤال عنه، إياه توجه قوله عليه الصلاة والسلام: (اتركوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم الأنبياء)، وضرب يحبون السؤال عنه والسكوت عنه، وهو ما يحب أن يحمدوا
لا يؤخذ به

(5/465)


قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

الإنسان إن بحث عنه واستكشف.
ثم قال: (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) أًي غفور عنكم ما سبق منكم حليم لا يبطش بكم فيما ارتكبتم.

قوله عز وجل: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
والطلب والسؤال والاستخبار والاستفهام والاستعلام متقاربة
ومترتب بعضها على بعض، فالطلب أعمها، لأنه قد يقال فيما تسأله من غيرك، وفيما تطلبه بنفسك.
والسؤال لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك،
فكل سؤال طلب، وليس كل طلب سؤالاً،
والسؤال يقال في الاستعطاف، فيقال سألت فلاناً كذا.
ويقال في الاستخبار، فيقال سألته عن كذا،
وأما الاستخبار فاستدعاء الخبر،
وذلك أخص من السؤال، وكل استخبار سؤال،
وليس كل سؤال استخباراً.
والاستفهام طلب الإفهام وهو أخص من الاستخبار.
فإن قول الله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) استخبار، وليس استفهام وكل استفهام استخبار، وليس كل استخبار استفهاماً.
والاستعلام: طلب العلم فهو أخص من الاستفهام،
إذ ليس كل ما يفهم يعلم بل قد يظن، ويحتمل أن كل استعلام استفهام وليس كل استفهام استعلاما.

(5/466)


مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

وقوله: (قَد سَأَلَهَا) نبه على وجهين:
أحدهما: أنه استخبار، إشارة إلى نحو قوله لأصحاب البقرة حيث سألوا عن أوصافها، فعلى هذا لا فرق بين قوله: (قَد سَأَلَهَا) وبين قوله: قد سأل عنها.
والثاني: أنه استعطاف إشارة إلى نحو المستنزلين للمائدة من عيسى عليه الصلاة والسلام، والسائلين من صالح عليه الصلاة والسلام الناقة، فعلى هذا لا يصح أن يقال سأل عنها،
وقوله: (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) أي كفروا ولم يعترفوا،
أو يعني كفروا تشبيها.

قوله عز وجل: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
الجُعْلُ عام فيما يكون قولاً وحكماً، وفيما يكون عملاً وصنعاً،
ويكون تارة بمعنى صار، ولا يتعدى كقولك جعل فلان يقول كذا،
وتارة بمعنى صيَّر، ويتعدى إلى مفعولين كقولك: - جعلتُ الطين خزفاً، وجعلت زيداً عدلا، أي حكمت بذلك،
وتارة بمعنى فعل، ويتعدى إلى مفعول واحد، وعلى ذلك هذه الآية،
وجعل بالجُعْل هو الحكم لإيجاد العين، فإن الله تعالى موجد هذه الأعيان، ولكنه غير حاكم فيها

(5/467)


بأحكامهم. فبين أن الله تعالى ما حكم بهذه الأحكام، ولكن الذين كفروا
حكموا بذلك، وحكمهم بذلك لافترائهم على الله، وافترائهم على الله من حيث أن أكثرهم لا يعقلون، فجعل علة حكمهم بذلك افتراءهم على الله، وجعل علة افترائهم على الله كون أكثرهم لا يعقلون.
إن قيل لما خص أكثرهم أنهم لا يعقلون؟
قيل: إنه إشارة بذلك إلى ديانتهم المقلدة دون الذين علموا بطلان
فعلهم لكن يمنعهم لرئاستهم أن يقلعوا عن ذلك مع معرفتهم ببطلانه.
ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أماثلهم الذين يتبعون العقل وإن كانوا يعلمون ببطلان ما يفعلون.
البحيرة: - الناقة المشقوقة الأُذن، وهي كل ناقة نتجت خمسة
أبطن من كانت الخلقة أنثى شقوا أذفا فلا يُجَزُّ لها وبر، ولا يذكر اسم الله
عليها إن ذكيت، وحُرم على النساء لبنها، وإن ماتت اشتركت الرجال والنسل في أكلها.
والسائبة: المسيبة وكان أحدهم ينذر، لأنه يخلص بناقته

(5/468)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

شبيهاً، والوصيلة: الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر يقال: وصلت
أخاها، فيذبحونه لآلهتهم.
والحامي: الفحل الذي ينتج من صلبه عشرة أبطن، وكان يقال حمى ظهره، فيسيب ولا يركب.

قوله عز وجل: - (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قال أهل اللغة: أصل تعالي دعا إلى العلو، ثم استعمل في
كل مكان علوا كان أو سفلاً، وقيل: إن ذلك يقال اعتباراً بالعلو الذي هو
المرتبة الرفيعة، فإذا قيل تعالي كأنه قيل اطلب بفعلك هذا علواً وشرفاً كقولك لمن دعوته تفضل أي اطلب بذلك الفضل وانعم ونحو ذلك،
ثم كثُر وصار كأنه موضوع المجرد.
والمعنى إذا دعوا إلى الكتاب والسنة أعرضوا وزعموا أنهم
مكتفون بما شاهدوا عليه آبائهم كقوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).

(5/469)


وقوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ)
الألف دخل للتعجب من جهلهم أي أو يكفهم ذلك، وإن كان آباوُهم
لا يعلمون، فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم،
وأشير بأنهم من جملة الفرقة الثالثة الذين وصفوا فيما رُوي:
(الناس عالم، وتعلم، وحائر نافر لا يطيع مرشداً).
وقال على رضي الله عنه: (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم
على سبيل نحاه ونهج رعاع وأتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجاؤا إلى ركن وثيق فيمتنعوا).

(5/470)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

وقوله: (لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) إشارة إلى أنهم هم الرعاع أتباع.

قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قيل لا يضّركم ولا يَضِيركم من ضَارَه يُضِيَره يَضُورُه
وجُعِل جواباً.
ولا يضُّركم الأجود أن يكون رفعاً لا جواباً وإن جاز أن
يكون في موضع الجزم على الجواب على معنى أنكم إن أصلحتم أنفسكم، ولم يتحروا ما فيه فسادكم وإفساد غيركم، لم يضركم فلا يكونا كمن قبلهم

(5/471)


ليحملوا أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، وقوله: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)
وليس في الآية حثٌّ على ترك النهي عن المنكر كما نقله قوم، فقد تقدم حث الله على ذلك في آيات كثيرة نحو قوله:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
وقال حاكياً عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17).
ومدح القائلين بذلك فقال: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من رأى منكم منكراً واستطاع أن يغيره بيده
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه)،
ويدلك على

(5/472)


ذلك أنه قال: (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
ومن الاهتداء إنكار المنكر.
وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: (إني أراكم تتناولون هذه الآية:
(عَلَيكُم أَنفُسَكُم) وقد عهدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا هذا على هذه الأمور وهو يقول: إن الناس إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمهم الله بعقابه)، وما بينكم وبين أن يعمهم بعقابه إلا أن تناولوا هذه الآية على غير تأويلها، وإنما المعنى لا تعتدوا بآبائكم واحفظوا أنفسكم أن تزِّل كما زلَّ غيركم، وإذا اهتديتم فليس عليكم من ضلال من خالفكم شيء. كقوله: (لَّيسَ عَلَيكَ هُدَاهُم)،

(5/473)


وقوله: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).
قيل: وفيها حثٌّ على أن نظر الإنسان لنفسه أن يهذب نفسه
قبل أن يهذب غيره، وأن يعتبر حال نفسه قبل اعتبار حال غيره.
وعلى هذا: (قُوَاْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا).
فأمر أن يبدأ بنفسه.
وقيل: إن ذاك إشارة إلى ترك النهي باليد واللسان، حيث يعلم أنه لا يغني ولا يجدي كما ورد في الخبر (إذا رأيتم هوى متبعا وإعجاب المرء بنفسه فعليكم أنفسكم).

(5/474)


وقيل: عنى من يضل من أهل الكتاب إذا التزموا الجزية، فيقول دعوهم وشأنهم
ولا يضركم منهم شيء، وقيل: إن ذلك إشارة إلى وقت مخصوص.
فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(ترك النهي إذا قدم كنيسة دمشق فجعل مسجداً، وإذا رأت الكاسيات العارية).
قيل: هذا كان في زمن الوليد بن عبد الملك، فهو الذي هدم الكنيسة وضمها إلى المسجد.

(5/475)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

وقال: مكحول وعبد الله بن مسعود: (عَلَيكُتم أَنفُسَكُم) إنما هو إذا غاب
الواعظ وأنكر الموعوظ، وقيل: عنى بقوله: (عَلَيكُم أَنفُسَكُم) أي
لا تعتد بهؤلاء فيما يفعلونه من الشر وتركن إليهم وتستمرئ لنفسك ما تستمرئ لغيرك. كما يفعله كثير من الناس في أنهم يأخذون برخصهم فيؤدي ذلك بهم إلى الهلاك، وهذا كقولهم: كل شاة تناط برجليها.
وقيل: إن ذلك توكيد لقوله: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي عليكم في أسئلتكم بما يعود منافعه عليكم لا يضاركم ولا يضركم كقولهم: - الحزم حفظ ما كلفت وترك ما كفيت.
وقيل: معناه عليك نفسك فاشغلها قبل أن تشغلك
فإن لم تصلحها أفسدتك.

قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

(5/476)


هذه الآية يتعلق بها حكم التقدير والإعراب والفقه، فأما تقديرها: فهو إذا حضر أحدكم الموت فشهادة بينكم اثنان ذوا عدل، أو إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فآخران من غيركم إن لم يكن ذوا عدل منكم، فإن ارتبتم تحسبونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله لا نشتري به ثمناً، واستغنى عن جواب إذا حضر بقوله: (شَهَادَةُ بَينكُم)، وعن جواب إن ضربتم، بقوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)، وعن جواب الفاء بقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ)، وقوله: (بِاللَّهِ) يصح أن يكون استئنافاً فيكون هو الذي يتفوه
به المقسم على تقدير فيقسمان، ويقولان: - تالله لا نشتري.
ويجوز أن يكون متعلق بيقسمان، فيكون قوله: (لَا نَشترِي) على تقدير: والله لا نشتري فهذا تقدير الآية.
فأما إعرابها: فقوله: (شَهَادَةُ بَينكُم) يجوز أن يكون
مبتدأ وخبره قوله: (اثنانِ) كأنه قيل: شهادة بينكم شهادة اثنين.

(5/477)


ويجوز أن يكون تقديره: عليكم أن تُشْهِدَ اثنان، فيكون قوله: (شَهَادَةُ) ابتداء محذوف الخبر و (اثنَانِ) مرتفع بقوله (شَهَادَةُ).
وقيل: يكون (شهادة بينكم) مبتدأ وقوله: (اثنانِ) فاعل، ويرتفع به، ويستغني عن خبر الابتداء كقولهم: - قائم الزيدان.
وقوله: (إِذَا حَضَرَ) خبر، لقوله: (شَهَادَةُ)
وقوله: (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل من قوله:
(إِذَا حَضَرَ) وقيل هو ظرف لقوله: (إِذَا حَضَرَ)، وحضور الموت:

(5/478)


حضور أسبابه من المرض ونحوه.
وقوله: (أَوْ آخَرَانِ) ليس على التخيير، بل معناه: إنما يقبل الآخران في السفر خاصة، إذا عدم العدلان وأمَّا فيهما فقد اختلف في قوله: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فقال بعض الفقهاء: إذا كان من غير قبيلتكم، ولم يعن من غير المسلمين، لأن شهادتهم لا تقبل علينا بوجه، ويقوي ذلك بقوله: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) وقال إنما يفعل بمن في قلبه استعظام الصلاة فينزجر عن اليمين مخافة العقوبة، وإلى هذا ذهب الحسن.
قوله: إنه أريد من غير قبيلتكم.
وقال بعضهم عنى من غير المسلمين، قال والقصة التي نزلت الآية في سببها

(5/479)


يدل على ذلك، فهو أن تميماً الداري وعدياً، وكانا حينئذٍ نصرانيين
بنجران فخرج معهما مولى لعمرو بن العاص يقال له بديل، ومعه متاع.
فلما قدموا الشام مرض المولى وكان مسلماً فكتب وصيته ولم يعلم بذلك تميم
وعدي، وقدما المدينة، ودفعا المتاع إلى عمرو بن العاص، وأخبراه بموت
بديل، فقال عمرو: ولقد توجه من عندنا بأكثر من هذا المتاعِ، فهل باع
شيئا، فقالا: لا، فمضى بهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما أن بديلاً ما ترك غير هذا، ثم إن عمرو بن العاص ظهر على آنية فضة عند تميم، فقال هذه الآنية لي وهى مما كان مع بديل، فقالا: كنا اشتريناها منه، فقال عمرو: لقد سألتكما

(5/480)


هل باع شيئاً، قلتما: لا، فقالا: نسينا، فذهبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: إنا كنا ابتعنا الآنية ولم يكن لنا عليه بيِّنة فكرهنا أن نقر، فنزلت الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلى هذا شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر يجوز إذا لم يوجد العدلان
وقد حكم أبو موسى في مثله بذلك، وقال هذا حكم ثابت غير منسوخ.
وقال بعضهم: - ذاك في الكافر في أول الإسلام ثم نسخ بآية
الشهادة، ولا يجوز الآن شهادة الذميّ على المسلم بوجه، وقد بيَّنت أن لا يمين على الشاهد بوجه، ولا يجوز الارتياب على الشاهد لمكان اليمين، ولا يجوز

(5/481)


أيضاً أن يجعل يمين الورثة معارضة ليمين الشاهد، فيجب أن يكون ذلك منسوخاً بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ومن قال بالأول فقال بقوله:
(فَيُقسِمَانِ) ليس بإيجاب، وإنما هي أن يبتدئ الشاهد فيحلف من غير أن
يُحلًف، فذكر أنه لا يعرج على يمينه ولا يعتد به، وإنما كان منسوخاً أن لو
كان ذلك واجباً.
إن قيل: لما قال: (لَا نَشتَرِى بِهِ ثَمَنًا) والثمن هو الذي يُشْتَري به
لا يشتري هو؟
قيل: قد قال بعض أهل اللغة: - أراد ذا ثمن فحذف المضاف، وقيل: إن كل شراء بيع وليس كل بيع شراء، وذلك يختلف بالاعتقاد في الثمن والمثمن، ولهذا قيل: بعتُ واشتريت من الأضداد، فعلى هذا
كأنه جعل الثمن مصوراً بصورة البيع، فلهذا قيل ذلك وقد دل في موضع آخر: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
وقوله: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي للميت، ولو كان المشهود قريباً وذلك لما في طبع الإنسان من ميله إلى أقاربه، ومن هذا الوجه رد شهادة الأب للابن، والابن للأب، وأضاف

(5/482)


فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

الشهادة إلى الله تعظيماً لها كقوله: (وَأَقِيمُواْ الشاهَدَةَ لِلَّهِ).
وقرأ
الشعبي: (وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ) بالتنوين، وجعل الله مجروراً ومنصوبًا
على تقدير القسم.

قوله عز وجل: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
قوله: (الأولينِ) يحتمل إعرابه أوجهاً:
الأول: أن يكون مبتدأ وقوله: (فَآخَرَانِ) خبر.
وتقديره: إن عثر أنهما استحقا إثماً أي أن اطلع وقف على أن الشاهدين
هما الآخران من غير أن يحيفا في شهادتهما فاستحقا إثماً، فالأوليان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم أي من أهل الميت،
ويجوز أن يكون قوله: (فَآخَرَانِ) مبتدأ، و (الأَولَينِ) خبره،
ويجوز أن يكون قوله:

(5/483)


(فَآخَرَانِ) مبتدأ و (يَقُومَانِ) خبره، و (الأَولَيَنِ) بدل إمَّا
من قوله: (فَآخَرَانِ) أو من الضمير في قوله: (يَقُومَانِ) أو يكون
خبر ابتداء مضمر، فهذه ستة أوجه في إعرابه،
وقد أجاز أبو الحسن وجهاً سابعاً: وهو أن يكون: (الأَولَينِ) صفة لقوله: (فَآخَرَانِ) قال: ويجوز ذلك، وإن كان قوله: (فَآخَرَانِ) و (الأَولَينِ)
معرفة، لأن ذلك تعريفه للجنس، وقوله: (فَآخَرَانِ) قد وصف، والنكرة
الموصوفة قريبة من المعرفة بالألف واللام الدالة على الجنس،
ولهذا صح أن يوصف ما فيه الألف واللام بغيره مثل في نحو: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)
وحُكي: مرَرْتُ بالرجل مثلك، وذلك أنهما (الأَولَينِ) أي هما أولى من غيرهما، لأنهما أعرف بأحوال الميت، ولأنهما من المسلمين، فإن الخطاب من أول الآية مصروف إليهم،

(5/484)


وقوله: (عَلَيهِمُ) يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون (على) باقي على
ظاهره كقولهم: استحق على فلان مال، أي لزمه ووجب عليه الخروج
منه.
الثاني: أن يكون قوله: (عَلَى) بمنزلة (مَنْ) كقوله: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي منهم.
الثالث: أن يكون بمنزلة في موضع (عَلَى) مقام (في) كما وضع (في) مكان (على) في قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِى جُذُوعِ النَّخلِ).
وقرأ إسحاق (عليهما الأوليان)

(5/485)


ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

فيكون لهذا مرتفع، قوله: (الأَولَينِ) بقوله: (استَحَقَّ) والمفعول
الذي هو المستحق محذوف.
وقرأ: (مِنَ الَّذِينَ استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) الجمع، أي من الأولين الذين استحق عليهم، هذا المعنى فيكون
قوله: (الأَولَينِ) بدلاً من الذين.
وقرأ ابن سيرين: (مِنَ الَّذِين استَحَقَّ عَلَيهِمُ الأَولَينِ) تثنية الأول وليس ذلك بالوجه، فقد قال: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) فكيف يقول بعده الأولين.

قوله عز وجل: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

(5/486)


يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

أن يتحرى هذا الفعل ومرجاته أقرب إلى الإنسان إمَّا لصلاحه
في نفسه، وإمَّا لخوفه أن تُردَّ أيمانه على الأوليان بعد أيمانهم فيحلفوا على جنايتهم فيُفضحوا، فيقيمون الشهادة على وجهها تفادياً من ذلك،
ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) إما توحدون به فإنكم إن لم تتقوا ولم تسمعوا لصرتم فاسقين، فإذا فسقتم لم يهديكم الله، فالله لا يهدي القوم الفاسقين. إن قيل لم قال: (يَأتُواْ) فذكر بلفظ الجمع، وما تقدم هو تثنية؟
قيل: لأنه لم يعنهما فقط بل عنى الناس كلهم، أي ذلك أدنى أن يصير الناس هكذا.

قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
قيل تقدير الآية: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ) الآية،
وإنما المعنى لا يهديهم إلى طريق الجنة في ذلكٍ اليوم.
وقيل: معناه اذكروا يوم، ويكون اليوم مفعول فعل مضمر لا ظرفاً،
لأنه لم يرد اذكروا في ذلك اليوم.

(5/487)


إن قيل: كيف قالوا لا علم لنا، فنفوا العلم كله عن
أنفسهم وذلك كذب؟
قيل: في ذلك أوجه: الأول: قال الحسن: من هَوْلِ
ذلك اليوم نَسُوْا كل ما عملوه،
فإن قيل: وكيف يصح ذلك، وقد قال: (وَلَا خَوفٌ عَلَيهِم)،
وقال: (لَا يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ)؟
قيل: إن معنى لا يحزنهم ولا خوف عليهم أنه لا يصيبهم ما يقتضيه
الخوف، إلا أنه يعتريهم، وهذا كقولك لمن يرتعد خوفاً لا خوفاً عليك، أي
لا يحق خوفك.
الثاني: قال ابن عباس: لا علم لنا بالإضافة إلى علمك، وهذا
لمن استخبر من هو أعلم بالخبر منه، فيقول: لا علم لي.
التالث: أن السؤال يقع على ما اعتقده، لا ما أظهروه، وذلك لا علم للأنبياء به، إنما يعلمه المطلع.

(5/488)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

على السرائر والضمائر جل وعزَّ.
الرابع: أن قوله: (مَاذَا أُجِبْتُمْ) سؤال عن كل ما أجيبوا، لا عن بعضه، وهم عرفوا بعض ذلك، ولم يعرفوا أكثره، فقالوا: لا علم بكل ذلك
ووجه هذا السؤال توبيخ الكفار كقوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي)، وعَلَّامُ: لمن كثر علمه، ولم يوالي بعلمه، وهو في هذا الموضع لهما.

قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

(5/489)


قوله: (إِذ قَالَ اللَّهُ) قيل: مفعول بفعل مضمر
كأنه قيل: اذكر وقت ما قال الله يا عيسى اذكر نعمتي عليك، يعني: اذكر يوم القيامة، وقيل تقديره: ماذا أجبتم إذ قال الله.
(وإِذ أَيَّدتُّكَ) فعلتُ من الأيدِ أي القوة، وقرأ (أَيَّدتُّكَ) وهو أفعلت منه، وقال الزجاج: يجوز أن يكون فاعلت منه نحو عاونت.
ومن نعمة الله على والدتك أن اصطفاها على نساء العالمين، وأن جعل لها النخل حيث قال:

(5/490)


(وَهُزِّى إِلَيكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ) وغير ذلك.
وروح القدس: جبريل.
قيل: هو تقديسه وروحه هو نفخة فيها من روحه.
والكتاب قيل: عنى بالكتاب، وقيل: بل باسم كل كتاب أنزله تعالى، ثم خص التوراة والإنجيل تعظيماً لهما.
وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) أي تهدي الناس في حالة الصغر
والكبر بخلاف ما كان عامة الأنبياء والحكماء، وذكر الإذن في الأمور الإلهية التي خصه الله تعالى بها تنبيهاً أن ذلك لم يكن للآلهة فيه بل كان ذلك بإذنه ومن فضله عليه، وتخصيصه به، ولم يذكر في قوله: (وَإِذ عَلَّمتُكَ) وفي قوله: (وَإِذْ كَفَفْتُ) فإن في هذين قد شارك المسيح غيره.
وكف بني إسرائيل عنه قد كان من بعضهم بالعصمة، ومن بعضهم بالحجة، ومن بعضهم

(5/491)


وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

بتسخيرهم له وائقيادهمْ إلى غير ذلك من الوجوه،
وقوله: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فعلك سحر، وقرأ (إن هذا إلا ساحر) أي عيسى عليه الصلاة والسلام.

قوله عز وجل: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
الحواريون، روي أنهم كانوا قصارين، وروي أنهم كانوا صيادين.
وقد قال بعض المحققين: يعني أنهم سموا حواريين، أي كانوا يغسلون نفوس البشر عن النجاسات النفسية، ويعني أنهم صيادون أنهم يصيدون الناس عن
الباطل، ويجعلونهم في شبكة الحق، وقد شرح ذلك في كتاب (مكارم
الشريعة)، وسمي حاشية الرجل حوارية تشبيهاً بأصحاب عيسى عليه الصلاة
والسلام.
والوحي هنا قيل: هو على سبيل الإلهام، والتوفيق نحو:

(5/492)


(وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ) وقيل: هو على سبيل الابتلاء لهم من آياته
الباهرة.
وقيل: على لسان نبيهم، فالوحي قد يقال في كل ذلك نحو:
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيًا) أي على لسان نبي.
وقوله: (وَأَوحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ) يعى بالإلهام.
وقوله: (فَأَوحَى إِلَيهِم أَن سَبِّحُواْ بُكرَةً وَعَشيًّا)
قال بعض الحكماء: كما أن كل ساكت ناطق من جهة الدلالة،
فكل دال على معنى من الله فهو وحي منه وعلى هذا قال:
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46).
وهذا معطوف على ما ذكر تعالى.
ومن نعمه عليه فهمه، وأشهد خطاب فهم لعيسى على سبيل الاستشهاد
منهم، والإسلام هاهنا أبلغ من الكتاب فإنه يقتضي الاستسلام المذكور في قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131).

(5/493)


إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)

قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
(إِذ) هاهنا لم يجعله معطوفاً، بل جعله داخلاً في فعله.
قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ) إليهم في وقت ما قالوا كذا،
واستفهامهم عن استطاعة الله، قيل: فيه أقوال:
الأول: أنهم قالوا ذلك قبل أن تستحكم معرفتهم بالله.
الثاني: قال الحسن: هل ترى أن يفعل، كقولك
القادر المتمكن هل يمكنك أن تفعل كذا، وهذه الاستطاعة على ما يقتضيه الرأي والحكمة، لا على ما يقتضيه القدرة، لأنه قد يقال: فلان لا يستطيع كذا وليس

(5/494)


يعني أن القدرة كذلك، وإنما يعني أن رأيه لا يتوجه إليه.
الثالث: إن استطاع وأطاع يعني كقولهم استجاب وأجاب،
ومعنى: (هَل يستطيعُ) أي هل يستطيع أن يجيب، كقوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي يجاب، وقرأ الكسائي (هَل تستطيعُ رَبَّكَ) ونصب
رَبَّكَ، يعني هل تستطيع سؤالِكَ ربِّكَ.
والمائدة قيل: أصله من ماد، المنكّر يميد إذا أمتك ذا نحوك.
وقيل: من ماد أعطاه، وامتاده، استعطاه،
قال: أبو عبيدة فلفظها فاعله، ومعناه مفعول نحو: (عيشةٍ راضِيَةٍ).
وقيل: بل هو معنى الفاعل، فوصف بذلك كما يقال: شجر ومطعمة، أيضاً يقال مائدة

(5/495)


عطية وعلى ذلك مطعم سألوه، ومائدة من الطعام. فقال عيسَى (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي لعذروا ومن سؤال ذلك إن كان لكم إيمان، فلم
تقلعوا عن السؤال بل ذكروا علة سؤالهم.
فقالوا نريد الأكل منها وأن يكون سببا لاطمئنان قلوبنا، كما قال: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فحينئذ سأل الله عيسى ذلك متضمن أن يتخذوا ذلك اليوم يوم عيد.
وقوله: (وَارزُقنَا) قيل ارزقناه، وقيل: ارزقنا شكره، فضمن الله
ذلك أن ينزلها بشرط أن من يكفر بها عذبه أعظم تعذيب.
قيل إنه أراد أن يمسخهم قردة وخنازير.
وقيل: بل عني عذاب الآخرة، المعنى بقوله: (وَلَعَذَابُ الأَخِرَةِ أَكبَرُ)، فاختلفوا هل أنزل الله ذلك؟
فقال الحسن: - إن ذلك استفراض من الله تعالى، ووعد بشرط أنهم إن أرادوها بهذه

(5/496)


الشريطة أنزلها فرغبوا عنها فلم ينزلها الله تعالى.
وقال غيره بل ذلك وعد من الله تعالى، ووعيد مقرون به لا يشترط في الوعد وقد أنزلها.
فمن قال بذلك، قال كانت تلك المائدة طعاماً من الأرز والسمك، وأن عيسى قال لهم: - صوموا كذا يوماً، ثم سألوه فصاموا، فأنزل الله سبعة أحوات، وسبعة أرغفة.
وقال ابن جبير: كان على المائدة كل شيء إلا اللحم، وأنزل الله
ذلك يوم الأحد فجعلوه عيداً.
وقيل: أكل منها أربعة آلاف رجل، وبقيت على حالتها، ثم كفر بها قوم فمسخهم الله قردة وخنازير.
وحمل بعض المتصوفة الآية على المثل والإشارة، وقال: المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف، وعلى هذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مأدبه فقال: (القرآن مأدبة الله في أرضه).

(5/497)


وبهذا النظر جعل الأدب والمأدبة من أصل، فإن الطعام غذاء البدن والعلم غذاء الروح، وعلى هذا ما قيل: إن متعلماً قرب من باب عالم، فقال: أطعمني فأعطاه لقمة، فقال: إني أسأل ما يحي النفس، لا ما يتعب الضرس، قال هذا القائل: وإنما القوم رغبوا في حقائق لم يأت وقت إطلالهم عليه،
ولم يكتسبوا الحالة التي تمكنهم الوقوف عليه، فقول عيسى: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حثٌّ منه على اكتساب التقوى واستعمالها.
فيقول: إن حصلتم الإيمان وهو العلم الحقيقي، فاستعملوا التقوى فبها تنال هذه المنزلة.
ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
فلما ألحُّوا في السؤال سأل عيسى فقال: (أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) الآية، وقال وهذا كما سأل إبراهيم فقال:

(5/498)


وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)، وقال موسى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). وإنما سأل حالة لا تجعل إلا للأنبياء والأولياء في الآخرة، فبين الله تعالى أن ذلك غير سهل ما دمت على هذه الحالة، وبين تعالى أن من تخصص هذه
الحالة، وكان منه حال ينافي الإيمان عذب أشد العذاب، فقد قيل: صغائر
العامة كبائر الأولياء، والقليل من ذنوبهم يعظم عقابه فإذا يعذب ما كان
من كفره عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فمن بلغ مبلغهم، ولم
يؤتوا بما أوتوا.
الله أعلم بالحقائق.

قوله عز وجل: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
إن قيل: (وَإِذ قَالَ) إخبار عما مضى، فمتى كان هذا السؤال؟

(5/499)


قيل في ذلك جوابان:
أحدهما: أدن ذلك إخباراً عما يكون يوم القيامة، فذكر لحظة الماضي تقريباً للفعل، وإخبار بأنه في حكم ما قد كان كما قال: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ).
وقوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا) ونحو ذلك.
والثاني: أن ذلك قاله حين رفعه إلى السماء وجهة سؤاله مع علمه تعالى إن لم يكن من عيسى ذلك. وتبكيت للكَفْرةِ وتكذيب لهم.
إن قيل ما وجه قوله: (مِنْ دُونِ اللَّهِ) وهم لم يتخذوهما من دونه، وإنما اتخذوهما معه وأيضاً فإن هذا متعين أنهما لو اتخذوهما إلهين معه لكان يجوز لأنك إذا قلت اتخذت فلاناً دوني صفياً فإنما أنكر إفراده باتخاذه.

(5/500)


قيل: إن قوله: (مِن دُونِى) يحتمل وجهين:
أحدهما: أنكر اتخذتموهما معبودين، ولم يتخذوه معبوداً، وذلك أنهم لما عبدوهما معه كان عبادتهم له غير معتد؛ لأن الله تعالى لا يرضى أن يعبد معه غيره، فلهذا قال: (مِنْ دُونِ اللَّهِ).
والثاني: أن: (دُونِ) هاهنا للقاصر عن الشيء وهم
عبدوا المسيح وأمه فيما توصلا إلى عبادة الله. كما عبد الكفار الأصنام حيث قالوا: (مَا نَعبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلفَى)، فكأنه قيل:
أنت قلت اتخذوني إلهين متوصلين بنا إلى الله، قال سبحانك منزهين عن
ذلك، وأنكر أن يقول ما لا يحق أن يعلمه تعالى.
وبيَّن أنه علام الغيوب فيما خفى علمه عنا فيه.
إن قيل ما وجه قوله: (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فأثبت لله نفساً.؟
قيل: النفس عبارة عن الذات، يقال: جاءني فلان بنفسه، وقيل عنى في معني مقابل النفس بالنفس.

(5/501)


وقيل: نفس العالم، وإضافته إليه على وجه الملك لا على وجه البعضية، تعالى الله عن البعضية.
وهذا كما روى (الريح من نفس الرحمن)، ونحو ذلك،
وقيل: القصد إلى نفي النفس عنه، فكأنه قال تعلم ما في نفسي ولا نفس لك، قصد إلى نفى التركيب
قال وعلى هذا قال الشاعر:
لا ترى الضبُّ بها يتحجر
قصداً إلى أن لا ضب ولا حجر هاهنا، فيكون من الضب الأحجار.
وقيل:
عئ تعلم ما أنا عليه، ولا أعلم ما أنت عليه.
وقوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)
قيل: إن بدل من الهاء، وقيل: إن بدل من (مَا)، وقيل: خبر ابتداء

(5/502)


إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

مضمر، وقيل: إن هو بمعنى أي وهو تفسير لما أمر به.
والرقيب المطلع على الشيء الحافظ له.
إن قيل: كيف قال: (فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِى) وقد قلتم إن عيسى
عليه الصلاة والسلام لم يقتل؟
معنى التوفي أخذ الشيء وأيضا وليس هو الموت، وإنما الموت بعض الذي يقتضيه لفظ التوفي، ألا ترى إلى قوله تعالى:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) فجعل
النائم متوفي، فقوله: توفاه ورفعه. بمعنى.
وقيل: إن الله تعالى نفى أنه صلب كما زعموا، فإنه تعالى رفعه ثم أماته، وبيّن في الجواب أنه كان يرقبهم ما دام فيهم، فلما توفي لم يخف عليه تعالى حالهم، وذلك مذكور على طريق التعظيم لا على طريق التعريف.

قوله عز وجل: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

(5/503)


إن قيل كيف قال: (عِبَادُكَ) والعبد أكثر ما يقال فيمن عبد لا فيمن ملك، وهم لم يعبدوا الله في الحقيقة، أو قد عبدوا عيسى وأمه؟
قيل: بل العباد يستعمل مع الله فيقال الناس عباد الله، ولا يقال عباد الأمير إلا على التشبيه، والعبيد يقال في الله، وفي غيره، ثم الناس كلهم يعبدون الله تسخيراً وقهراً، وإن لم يعبدوه طوعاً، فإنهم إذا عبدوا غيره على أنه
المنعم عليهم فهم يعبدون الله لأنه هو المنعم وعلى هذا: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93).
وقال تعالى: (وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
فإن قيل لو كانوا يعبدون الله بفعلهم لما داموا؟
قيل: إنما يدمون بقصدهم فيما يفعلونه، لأنهم يقصدون عبادة غير الله والإنسان مثاب ومعاقب بنيته، ولهذا قال: (إنما الأعمال بالنيات).
ولما قال لا يستحق الجمادات ويستحقها ثواباً استحقاق الإنسان والملائكة والجن.
إن قيل: كيف قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) وجواب الشرط
إنما يصح فيما يقع بوقوع الشرط، وقد علم أن هؤلاء عباده عذبهم أو لم يعذبهم.
قيل: هذا الكلام فيه إيجاز، وتقديره: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك أي من
أمرتهم بعبادتك، تنبيها أنهم لم يعبدوك فاستحقوا عقابك،

(5/504)


إن قيل كيف جاز أن نقول وإن تغفر لهم فيُعرّض بسؤاله العفو عنهم مع علمه أنه تعالى قد حكم بأنه:
(مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)؟
قيل: قال أبو العباس المبرد رحمه الله: " إن تغفر كذبهم عليّ حيث قالوا: عيسى أمرنا بذلك فإنهم عبادك أي شئت لعلمك بهم فالذي سأله العفو عنهم والغفران لهم فيما هو حق له ".
وقيل: إن هذا السؤال إنما هو كلام على طريق إظهار قدرته تعالى على
كل مايريده وعلى مقتضى حكمه وحكمته.
تنبيه أنه تعالى جمع القدرة والحكمة، فهو قادر على أن يفعل أي المقتضين بإرادته لهذا قال: (أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تنبيهاً أنه لا امتناع لأحد من عزه ولا اعتراض في حكمته، ولهذا قال أنت العزيز ولم يقل الغفور، وإلى هذا أشار الحسن رضي الله عنه حيث قال: إن تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم، وإن تغفر لهم فبعزتك ما كان منهم.
فإن قيل: فكيف قال (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فالأليق أن يوضع الغفور قبل العزة هاهنا أولى فهي تنبيه أنك تجمع القدرة والحكمة، ولم يقصد إنزال الغفران للكفرة منهم وإلى نحو هذا قصد الشاعر في قوله:
أذْنَبْت ذَنْباً عَظيماً وأنت للعَفْوِ ... فإن غَفَرْتَ تَفَضَلاً وإن جَزَيْتَهُ

(5/505)


قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)

قوله عز وجل: (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
أي من صدق في الدنيا نفعه صدقه اليوم، ولم يرد أنه ينفعهم ما صدقوا فيه ذاك اليوم، ولم يعن صدق المقال فقط بل عناه والصدق في الأفعال وهو ترك الرياء وإخلاص المسار إليه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يؤتى يوم القيامة بقارئ القرآن فيقال له ما كنت تفعل؟ فيقول: كنت أقرأ القرآن، فيقول له: كنت تقرأ ليقال إنك قارئ، وقد قيل ذلك فيؤمر به إلى النار) وقرأ (يَومُ) بالرفع، وهو الأكثر، فيكون الإشارة إلى اليوم، فإذا نصب فإشارة إلى ما في اليوم، أي هذا الحكم، وهذا القول الذي ذكرت يكون في يوم ينفع الصادقين صدقهم، والخلود يقتضي اللزوم والدوام، يقال: خلوداً في الديوان، وأخلد

(5/506)


لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

فلان إلى الأرض كقوله: ركن إليها ولزمها على الدوام، والمعنى اللزوم ولم يصح أن يوصف الله تعالى بالخلود كما وصف بالدوام.

قوله عز وجل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
تنبيه على تكذيب النصارى فيما ادعوه من ربوبية عيسى وأمه
عليهما السلام، وقد تقدم وجه تكذيبهم نحو هذا الكلام.

(5/507)


رأيت فيه بحاراً أمواجها تتلاطم
وأفواج فوائدها تتصادم وأذعنت بهم
من دقائق معانيه الفائقة ورقائق ألفاظه الرائقة،
ما أنساني سماع الأغاني من الطربات الغواني (1)
انتهى.
__________
(1) لم أقف عليه عند غير الراغب ولعله من قوله والله أعلم.

(5/508)