تفسير السمرقندي
بحر العلوم حم (1) عسق (2)
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
سورة الشورى
وهي ثلاث وخمسون آية مكية
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
(4)
قوله تبارك وتعالى: حم عسق روي عن ابن عباس أنه قال: الحاء حكم
الله، والميم ملك الله، والعين علو الله، والسين سناء الله،
والقاف قدرة الله. فكأنه يقول: فبحكمي، وملكي، وعلوي، وسنائي،
وقدرتي، لا أعذب عبداً قال: لا إله إلا الله، مخلصاً، فلقيني
بها. ومعنى قول ابن عباس: لا يعذب عبداً يعني: لا يعذبه عذاباً
دائماً، خالداً. وروى المسيب عن رجل، عن أبي عبيدة، قال: العين
عذاب الله، والسين سنون، والقاف فيها القحط العجب. قال: وروي
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «افْتَحُوا
صِبْيَانُكُمْ قَوْلَ لا إله إلا الله، وَلَقِّنُوا
مَوْتَاكُمْ لا إله إلاَّ الله» الحِكْمَةُ فِي ذلك، لأن حال
الصبيان حال حسن، لا غل، ولا غش في قلوبهم، وحال الموتى حال
الاضطرار. فإذا قلتم ذلك في أول ما يجري عليكم القلم، وآخر يجف
القلم فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك. قال المسيب: وحدثنا
محدث قال: قاف قذف وقال الضحاك: في قوله: حم عسق قال: قضى عذاب
سيكون واقعاً، وأرجو أن يكون قد مضى يوم بدر، والسنون. وقال
شهر بن حوشب: حم عسق حرب يذل فيه العزيز، ويعز فيه الذليل من
قريش، ثم يفضي إلى العرب، ثم إلى العجم، ثم هي متصلة إلى خروج
الدجال. وقال عطاء: الحاء حرب، وهو موت ذريع في الناس، وفي
الحيوان، حتى يبيدهم، ويفنيهم، والميم تحويل ملك من قوم إلى
قوم، والعين عدو لقريش يركبهم، ثم ترجع الدولة إليهم بحرمة
البيت، والسين هو استئصال بالسنين كسني يوسف، والقاف قدر من
الله نافذ في ملكوت الأرض، لا يخرجون من قدره، وهو نافذ فيهم.
وقال السدي: الحاء حلمه، والميم ملكه، والعين عظمته، والسين
سناؤه، والقاف قدرته. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الله تعالى.
ويقال اسم من أسماء القرآن.
(3/235)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ
أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ
حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ
الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
ثم قال تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: أوحى الله إليك ب حم
عسق كما أوحى الله بها إلى الذين كانوا من قبلك. وقال ابن
عباس: ليس من نبي وإلا وقد أوحى الله تعالى إليه ب حم عسق كما
أوحى الله بها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قرأ ابن كثير:
يُوحِي إِلَيْكَ بالألف، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ
الباقون: يُوحِي بالكسر.
يعني: هكذا يوحي الله إليك. وقرئ في الشاذ (نوحي) بالنون.
ثم قال: اللَّهُ الْعَزِيزُ بالنقمة على من لم يجب الرسل،
الْحَكِيمُ حكم بإنزال الوحي عليك. وقال مقاتل: كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: في أمر
العذاب.
قوله عز وجل: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
يعني: من خلق، وَهُوَ الْعَلِيُّ يعني: لرفعي الْعَظِيمُ فلا
شيء أعظم منه. يعني: عظيم قدرته.
[سورة الشورى (42) : الآيات 5 الى 10]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ
فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ يعني: يتشققن،
مِنْ فَوْقِهِنَّ يعني: تكاد أن يتشققن من قدرة الله، وهيبته.
يعني: من هيبة الرحمن، وجلاله، وعظمته. قرأ ابن كثير، وابن
عامر، وحمزة، وعاصم، في رواية حفص: تكاد السماوات بالتاء، بلفظ
التأنيث، يَتَفَطَّرْنَ بالتاء بلفظ التأنيث. وقرأ أبو عمرو،
وعاصم، في رواية أبي بكر: تَكادُ بالتاء بلفظ التأنيث، ينفطرن
بالنون. وقرأ الباقون: بالياء بلفظ التذكير يَتَفَطَّرْنَ
بالياء.
ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
يعني: يسبحونه، ويذكرونه، وَيَسْتَغْفِرُونَ
(3/236)
لِمَنْ فِي الْأَرْضِ
يعني: للمؤمنين. وروى داود بن قيس قال: دخلت على وهب بن منبه،
فَسُئِلَ عن قوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
[غافر: 7] قال: للمؤمنين منهم. وفي رواية أنه قال:
نسختها الآية التي في سورة المؤمن حيث قال: وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7] . وروى معمر عن قتادة قال:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ قال: للمؤمنين منهم.
قال أبو الليث رحمه الله:
هذا الذي روي عن قتادة أصح، لأن النسخ في الأخبار لا يجوز،
وإنما في الأمر، والنهي.
ثُمَّ قال: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم،
الرَّحِيمُ بهم في الرزق. ويقال:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يعني: يسألون لهم
الرزق.
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
يعني: عبدوا مِن دُونِ الله أَوْلِياءَ يعني: أصناماً. اللَّهُ
حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يعني: يحفظ أعمالهم، ويقال: شهيد عليهم،
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني: بمسلط، لتجبرهم على
الإيمان. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
قوله عز وجل: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً
عَرَبِيًّا يعني: هكذا أنزلنا عليك جبريل بالقرآن، ليقرأ عليك
القرآن بلغتهم، ليفهموه. لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني: لتخوف
بالقرآن أهل مكة، وَمَنْ حَوْلَها من البلدان، وَتُنْذِرَ
يَوْمَ الْجَمْعِ يعني: لتنذرهم بيوم القيامة. والباء محذوفة
منه كما قال: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً يعني: ببأس شديد.
وإنما سمي يوم الجمع، لأنه يجتمع فيه أهل السماء، وأهل الأرض
كلهم، من الأولين والآخرين. لاَ رَيْبَ فِيهِ يعني:
يوم القيامة لا شك فيه أنه كائن. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وهم
المؤمنون، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وهم الكافرون.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
واحِدَةً يعني: على ملة واحدة، وهو الإسلام.
وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ يعني: يكرم بدينه
من يشاء، من كان أهلاً لذلك، ويدخله في الآخرة في رحمته. أي:
في جنته وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
يعني: الكافرين ليس لهم مانع يمنعهم من العذاب، ولا ناصر
ينصرهم.
قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني:
عبدوا من دون الله أرباباً، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ يعني:
هو أولى أن يعبدوه. ويقال: الله هو الولى. يعني: هو الرب، وهو
إله السموات، وإله الأرض. ويقال: هو الولي لمصالحهم، ينزل
المطر بعد المطر، وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى يعني: يحيهم بعد
الموت. ويقال: يحيي قلوبهم بالمعرفة، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ يعني: قادر على ما يشاء.
قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يعني: إذا
اختلفتم في أمر الدين، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ يعني: علمه
عند الله، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي يعني: الذي ذكر هو الله ربي،
عَلَيْهِ
(3/237)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ
مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ
اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ
يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
تَوَكَّلْتُ
يعني: فوضت أمري إليه سبحانه، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يعني: أقبل
إلى الله تعالى بالطاعة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 11 الى 15]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ
يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا
جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ
بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ
آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا
أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
(15)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: هو خالق السموات والأرض،
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني: أصنافاً
ذكراً، وأنثى، وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يعني: أصنافاً،
ذكراً، وأنثى. وقال القتبي: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً يعني: من جنسكم إناثاً، وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً يعني: إناثاً، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني: يخلقكم فيه.
أي: من الرحم. وقال الكلبي:
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني: يكثرهم في التزويج. وقال مقاتل:
يعيشكم فيما جعل لكم من الذكور والإناث من الأنعام.
ثم قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ في القدرة. وقال أهل اللغة:
هذا الكاف مؤكدة. أي:
ليس مثله شيء. ويقال: المثل صلة في الكلام. يعني: ليس هو كشيء،
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يعني: هو السميع لمقالتهم،
البصير بهم وبأعمالهم. ومعنى الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
لأنه الخالق، العالم بكل شيء، والقادر على ما يشاء، الْحَيُّ
الْقَيُّومُ [البقرة: 255] وهذه المعاني بعيدة من غيره.
(3/238)
ثم قال عز وجل: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض وهو المطر، وخزائن
الأرض وهو النبات، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يعني:
يوسع الرزق على من كان صلاحه في ذلك، وَيَقْدِرُ يعني: يقتر
على من كان صلاحه في ذلك، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من
البسط، والتقتير.
قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ قال مقاتل: أي: بيّن
لكم الدين، وهو الإسلام.
ومِنَ هاهنا صلةِ وقال الكلبي: اختار لكم من الدين. ومعناه:
اختار لكم ديناً من الأديان، وأكرمكم به.
ثم قال: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً يعني: الدين الذي أمر به نوحاً
أن يدعو الخلق إليه، وأن يستقيم عليه، وَالَّذِي أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ يعني: الذي أوحينا إليك بأن تدعو الناس إليه: وَما
وَصَّيْنا بِهِ يعني: والدين الذي أمرنا به إِبْراهِيمَ
وَمُوسى وَعِيسى ثم بيّن ما أمرهم به، فقال:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يعني: أقيموا التوحيد، وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ يعني: لا تختلفوا في التوحيد، كَبُرَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ يعني: على مشركي مكة مَا تَدْعُوهُمْ
إِلَيْهِ وهو التوحيد. وقال أبو العالية: أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ قال: الإخلاص لله في عبادته، لا شريك له، ولا تتفرقوا
فيه.
قال: لا تتعالوا فيه، وكونوا عباد الله إخواناً كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يعني:
الإخلاص لله تعالى. ويقال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يعني:
ارفقوا في الدين. اتفقوا ولا تتفرقوا فيه. يعني: لا تختلفوا
فيه، كما اختلف أهل الكتاب.
ثم قال: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي: يختار
لدينه من يشاء، من كان أهلاً لذلك، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ يعني: يرشد إلى دينه، مَنْ يقبل إليه. ويقال: يهدي من
كان في علمه السابق أنه يتوب ويرجع. ويقال: مَنْ يُنِيبُ يعني:
من يجتهد بقلبه. كما قال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قوله تعالى: وَما تَفَرَّقُوا
يعني: مشركي مكة ما تفرقوا في الدين، إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ في كتابهم. يعني: جاءهم محمد بالبينات.
ويقال:
وَما تَفَرَّقُوا يعني: أهل الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ ما جاءهم
العلم في كتابهم. يعني: من نعت محمد صلّى الله عليه وسلم
بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني: حسداً فيما بينهم، لأنه كان من
العرب. وروى معمر عن قتادة أنه تلى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا
مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ قال: إياكم والفرقة فإنها
مهلكة. وروي في الخبر: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ آفَة وآفَةُ
الدِّينِ الهَوَى» .
ثم قال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى يعني: بتأخير العذاب إلى وقت معلوم. لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ يعني: لفرغ منهم بالهلاك. وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتابَ يعني: أُعْطُوا التَّوْرَاة، والإنجيل،
مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: من بعد نوح، وإبراهيم. وقال مقاتل:
يعني: من بعد الأنبياء لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يعني: من القرآن
مُرِيبٍ أي: ظاهر الشك.
(3/239)
وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ
حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ
يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ
لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
وقوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ يعني: فإلى
ذلك ادعهم يعني: إلى القرآن، ويقال: إلى التوحيد وَاسْتَقِمْ
كَما أُمِرْتَ يعني: استقم عليه كما أمر وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ يعني: لا تعمل بهواهم، وذلك حين دعوه إلى ملة
آبائه وَقُلْ آمَنْتُ يعني: صدقت بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ
كِتابٍ يعني: بجميع ما أنزل الله من الكتب عليَّ وعلى من كان
قبلي وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ وهو الدعوة إلى
التوحيد، وإلى قول: لا إله إلا الله اللَّهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ يعني: خالقنا وخالقكم لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ يعني: لنا ديننا، ولكم دينكم لاَ حُجَّةَ
بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ يعني: لا خصومة بيننا وبينكم، يوم
القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني: إليه المرجع في الآخرة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 16 الى 20]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا
اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ
الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا
إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ
بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِنْ نَصِيبٍ (20)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يعني:
يخاصمون في توحيد الله ودين الله مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ
لَهُ يعني: من بعد ما أجابوا إياه، أي: بعد ما أجاب المؤمنون
بتوحيد الله لنبيه. وقال مجاهد: طمع رجال بأن يعودوا إلى
الجاهلية فنزل وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ إلى قوله:
حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ وروى معمر عن قتادة قال: والذين يحاجون
في الله، يعني: في دينه قال: هم اليهود، والنصارى. قالوا:
كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم.
فنزل وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي: في دين الله
مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ يعني: من بعد ما دخل الناس في
الإسلام حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ يعني: خصومتهم باطلة. ويقال:
احتجاجهم زائل، ساقط. يقال دحض أي: زال، ومعناه: ليس لهم حجة.
وسمى قولهم حجة على وجه المجاز، يعني: حجتهم كما قال: فَما
أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ يعني: الآلهة بزعمهم، ولم
يكونوا آلِهَة في الحقيقة عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ يعني: كما يكابرون عقولهم وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بما
كانوا يفعلون.
قوله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ
وَالْمِيزانَ أي: لبيان الحق، وأنزل
(3/240)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى
الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ
بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي
رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
(23)
الميزان وهو العدل ويقال: وأنزل الميزان في
زمان نوح. ويقال: هي الحدود والأحكام والأمر والنهي. قوله:
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يعني: قيام الساعة
قريب. وهذا كقوله:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وقال تعالى: لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ ولم يقل قريبة، لأن تأنيثها ليس بحقيقي، ولأنه انصرف
إلى المعنى، يعني: للبعث. قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِها يعني: أن المشركين كانوا
يقولون: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ويقولون:
رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ
مِنْها يعني: خائفين من قيام الساعة، لأنهم يعلمون أنهم
مبعوثون، محاسبون وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ يعني:
يعلمون أن الساعة كائنة. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي
السَّاعَةِ يعني: يشكون ويخاصمون فيها. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ
أي: في خطأ طويل، بعيد عن الحق.
قوله عز وجل: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يعني: عالم بعباده.
ويقال: رحيم بعباده، ويقال اللطيف الذي يرزقهم في الدنيا، ولا
يعاقبهم في الآخرة. ويقال: اللطيف بعباده، بالبر، والفاجر لا
يهلكهم جوعاً يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حساب. ويقال يرزق
من يشاء، مقدار ما يشاء، في الوقت الذي يشاء وَهُوَ الْقَوِيُّ
على هلاكهم. الْعَزِيزُ يعني: المنيع لا يغلبه أحد.
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ يعني: ثواب
الآخرة بعمله. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يعني: ينال كليهما
وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا يعني: ثواب الدنيا
بعمله. نُؤْتِهِ مِنْها يعني: نعطه منها. وَما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لأنه عمل لغير الله تعالى. قال أبو
الليث رحمه الله: حدّثنا الفقيه أبو جعفر، قال: حدثنا محمد بن
عقيل قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدّثنا الحجاج
قال: حدّثنا شعبة، عن عمر بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان،
عن أبيه، عن زيد بن ثابت، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه
قال: «مَنْ كانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ جَمَعَ الله شَمْلَهُ،
وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ
رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ الله
عَلَيْهِ أمْرَهُ، وَجَعلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ
يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَهُ» .
وقال القتبي: الحرث في اللغة العمل. يعني: من كان يريد بحرثه،
أي: بعمله الْآخِرَةِ نضاعف له الحسنات. ومن أراد بعمله الدنيا
أعطيناه ولا نصيب له في الآخرة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 23]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ
يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ
واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ
ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ
اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها
حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
(3/241)
قوله عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني:
ألهم آلهة دوني. شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ أي:
بينوا لهم من الدين ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يعني: ما لم
يأمر به. ويقال: معناه ألهم آلهة ابتدعوا لهم من الدين. أي: من
الشريعة والطريقة. ويقال: سنوا لهم ما لم يأذن به الله، يعني:
ما لم ينزل به الله من الكتاب والدين وَلَوْلا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ يعني: القضاء الذي سبق، ألا يعذب هذه الأمة، ويؤخر
عذابهم إلى الآخرة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني: أنزل بهم العذاب
في الدنيا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعني: المشركين. لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
قوله تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ يعني: ترى الكافرين يوم
القيامة. مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا يعني: خائفين مما عملوا
في الدنيا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ يعني: نازل بهم ما كانوا
يحذرون.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: الذين
صدقوا بالتوحيد، وأدّوا الفرائض، والسنن فِي رَوْضاتِ
الْجَنَّاتِ يعني: في بساتين الجنة. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ من الكرامة.
ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني: المن العظيم.
قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ يعني: ذلك الثواب
الذى يُبَشِّرُ الله عِبادَهُ في الدنيا قرأ حمزة، والكسائي،
وابن كثير، وأبو عمرو يُبَشِّرُ بنصب الياء، وجزم الباء، وضم
الشين مع التخفيف. والباقون بالتشديد وقد ذكرناه الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني:
يبشرهم بتلك الجنة، وبذلك الثواب ثم قال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً يعني: قل يا محمد لأهل مكة، لا أسألكم عليه
أجرا، أي على ما جئتكم به أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبى قال مقاتل: يعني: إلا أن تصلوا قرابتي، وتكفوا عني
الأذى.
ثم نسخ بقوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ
ويقال: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يعني:
إلا، ألاَّ تؤذونني بقرابتي منكم. قال ابن عباس: ليس حي من
أحياء العرب إلا وللنبي عليه السلام فيه قرابة. وقال الحسن:
إِلاَّ المودة فِى القربى، يعني: إلا أن تتوددوا إلى الله
تعالى، بما يقربكم منه، وهكذا قال مجاهد، وقال سعيد بن جبير:
إِلاَّ المودة فِى القربى، يعني: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني
وبينكم.
ثم قال: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً يعني: يكتسب حَسَنَةً،
نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً يعني: للواحد عشرة. ويقال: نزد له
التوفيق في الدنيا، ونضاعف له الثواب في الآخرة. إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ شَكُورٌ يعني: غفور لمن تاب، شكور يقبل اليسير، ويعطي
الجزيل.
(3/242)
أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ
لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
(27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا
قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ
(28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا
يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
[سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 30]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ
اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا
وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ
فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ
قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30)
قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
يعني: تقوله من ذات نفسه، ولم يأمره الله تعالى. قال الله
تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ يعني:
يحفظ قلبك، حتى لا تدخل في قلبك المشقة والأذى من قولهم:
وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ يعني: يهلك الله تعالى الشرك
وَيُحِقُّ الْحَقَّ يعني: يظهر دينه الإسلام بِكَلِماتِهِ
يعني: بتحقيقه، وبنصرته، وبالقرآن إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ يعني: يعلم ما في قلب محمد صلّى الله عليه وسلم من
الحزن، ويعلم ما في قلوب الكافرين من التكذيب.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ حتى يتجاوز عما عملوا
قبل التوبة. وروى عبد العزيز بن إسماعيل، عن محمد بن مطرف قال:
«يقول الله تعالى: وَيْحَ ابْنَ آدَمَ، يُذْنِب الذَّنْبَ ثم
يستغفر، فأغفر له، ثُمَّ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يستغفر، فأغفر
له، ثم يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ، فَأغْفِرَ لَهُ
لاَ هُوَ يَتْرك ذُنُوبَهُ، وَلاَ هُوَ يَيْأس مِن رَّحْمَتِي.
أشْهَدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ» وَيَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ من خير أو شر.
قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص تَفْعَلُونَ بالتاء
على معنى المخاطبة، والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
يعني:
يجيب دعاءهم، ويعطيهم أكثر ما سألوا من المغفرة وَيَزِيدُهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ يعني: يزيدهم على أعمالهم من الثواب. ويقال:
يعطيهم الثواب في الجنة، أكثر مما سألوا وَالْكافِرُونَ لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ يعني: دائماً لا يقتر عنهم.
(3/243)
قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ يعني: لو وسع الله تعالى عليهم المال
لَبَغَوْا أي: لطغوا فِي الْأَرْضِ وعصوا وَلكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ يعني: يوسع على كل إنسان، بمقدار صلاحه
في ذلك، قال أبو الليث رحمه الله: حدّثنا أبو القاسم، حمزة بن
محمد قال: حدّثنا أبو القاسم، أحمد بن حمزة، قال: حدّثنا نصر
بن يحيى، قال: سمعت شقيق بن إبراهيم الزاهد يقول: وَلَوْ
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
قال: لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب، لتفرغوا
وتفاسدوا في الأرض، ولكن شغلهم بالكسب، حتى لا يتفرغوا للفساد.
ثم قال: إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعني: بالبر،
والفاجر، والمؤمن، والكافر. ويقال:
يعني: عالم بصلاح كل واحد منهم. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ يعني: المطر مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا أي:
حبس عنهم وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ يعني: المطر وَهُوَ الْوَلِيُّ
الْحَمِيدُ يعني: الولي للمطر يرسله مرة بعد مرة الْحَمِيدُ
يعني: أهل أن يحمد على صنعه.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ يعني: من علامات وحدانيته خَلْقُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خلقين عظيمين، لا يقدر عليهما
بنو آدم، ولا غيرهم وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ يعني:
ما خلق فِى السموات والأرض من خلق أو بشر فيهما وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ يعني: على إحيائهم للبعث إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ يعني:
قادر على ذلك. ويقال: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ يعني:
في الأرض خاصة كما قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن: 22] يعني: من أحدهما ثم قال وَما
أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ يعني: ما تصابون من مصيبة في
أنفسكم، وأموالكم فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ يعني: يصيبكم
بأعمالكم، ومعاصيكم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يعني: ما عفى الله
عنه، فهو أكثر.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «ألا أخبركم
بأرجى آية في كتاب الله، أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم؟
قالوا بلى. فقرأ عليهم: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال: فالمصائب
في الدنيا بكسب الأيدي، وما عفى الله تعالى عنه في الدنيا، ولم
يعاقب، فهو أجود وأمجد، وأكرم من أن يعذب فيه يوم القيامة.
وعن الضحاك قال: ما تعلم رجل القرآن، ثم نسيه، إلا بذنب. ثم
قرأ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وأي: مصيبة أعظم من نسيان القرآن. قرأ نافع وابن
عامر «بما كسبت أيديكم» بحذف الفاء. ويكون ما بمعنى الذي،
ومعناه الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم. وقرأ الباقون: فَبِما
كَسَبَتْ بالفاء، وتكون الفاء جواب الشرط، ومعناه: ما يصيبكم
مِّن مُّصِيبَةٍ، فَبِمَا كَسَبَتْ أيديكم ثم قال:
(3/244)
وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ
فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
(39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (42)
[سورة الشورى (42) : الآيات 31 الى 35]
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ
الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ
يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ
مَحِيصٍ (35)
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ يعني: بفائتين من
عذاب الله، حتى يجزيكم به وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
يعني: من عذاب الله مِنْ وَلِيٍّ يعني: من حافظ وَلا نَصِيرٍ
يعني: مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى.
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ قرأ ابن كثير
(الجَوَارِي) بالياء في الوقف، والوصل.
وقرأ نافع، وأبو عمر بالياء في الوصل، وبغير الياء في الوقف،
والباقون بغير ياء في الوقف، والوصل. فمن قرأ بالياء فهو الأصل
في اللغة، وهي جماعة السفن تجرين في الماء، واحدتها جارية.
كقوله: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: 11] يعني:
السفينة. ومن قرأ بغير ياء، فلأن الكسر يدل عليه فِي الْبَحْرِ
كَالْأَعْلامِ يعني: تسير في البحر كالجبال إِنْ يَشَأْ
يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ يعني:
يبقين سواكن على ظهر الماء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ يعني:
لعلامات لوحدانيتي لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يعني: الذي يصبر
على طاعة الله (شَكُورٍ) لنعم الله.
قوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا يعني: إن يشأ
يهلك السفن، بما عملوا من الشرك وعبادة الأوثان وَيَعْفُ عَنْ
كَثِيرٍ ولا يجازيهم وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي
آياتِنا قرأ ابن عامر ونافع بضم الميم، والباقون بالنصب. فمن
قرأ بالضم، فلأنه عطف على قوله: (ويعف) وموضعه الرفع وأصله:
(ويعفو) فاكتفى بضم الفاء، والذين كان معطوفاً عليه، رفع
أيضاً. ومن قرأ بالنصب، صار نصباً للصرف، يعني: صرف الكلام عن
الإعراب الأول، ومعناه: ولكي يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ
فِي آياتِنا يعني: في القرآن بالتكذيب مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ
يعني: من مفر من الله.
[سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 42]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا
لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
(39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ (40)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ
مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42)
(3/245)
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: ما
أعطيتم من الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: منفعة
الحياة الدنيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أي: ما
عِنْدَ الله في الآخرة من الثواب والكرامة، خير وأبقى. يعني:
أدوم. ثم بين لمن يكون ذلك الثواب فقال: لِلَّذِينَ آمَنُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي: يثقون به تعالى، ويفوضون
الأمر إليه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَواحِشَ وهذا نعت المؤمنين أيضاً، الذين يجتنبون كبائر
الإثم، والفواحش. قرأ حمزة والكسائي (كَبِير الإثْمِ) بغير
ألف، بلفظ الواحد، لأن الواحد يدل على الجمع، والباقون (كبائر)
وهو جمع كبيرة، والكبيرة: ما أوجب الله تعالى الحد عليها في
الدنيا، أو العذاب في الآخرة. ثم قال: وَإِذا مَا غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ يعني:
إذا غضبوا على أحد يتجاوزون، ويكظمون الغيظ.
ثم قال: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ يعني: أجابوا
وأطاعوا ربهم فيما يدعوهم إليه، ويأمرهم به. وَأَقامُوا
الصَّلاةَ يعني: أتموا الصلوات الخمس، في مواقيتها
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ يعني: إذا أرادوا حاجة، تشاوروا
فيما بينهم. وروي عن الحسن أنه قال: هم الذين إذا حزبهم أمر،
استشاروا أولي الرأي منهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ
يعني: يتصدقون في طاعة الله. ثم قال: وَالَّذِينَ إِذا
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ يعني: الظلم هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي:
ينتقمون ويقتصون.
روى سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال: كانوا يكرهون أن
يستذلوا، ويحبون العفو إذا قدروا. قوله تعالى: وَجَزاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يعني: يعاقب مثل عقوبته لغيره
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ يعني: عفا عن مظلمته، وأصلح بالعفو
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ يعني: ثوابه على الله إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني: لمن يبدأ بالظلم. روي عن زيد بن
أسلم، أنه قال: كانوا ثلاث فرق، فرقة بالمدينة، وفرقتان بمكة،
إحداهم تصبر على الأذى، والثانية تنتصر، والثالثة تكظم، فنزلت
الآية: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ نزلت في الذين
بالمدينة وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنْتَصِرُونَ نزلت في الذين ينتصرون وقوله: فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ نزلت في الذين يصبرون.
فأثنى الله تعالى عليهم جميعا.
قوله عز وجل: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ
ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ثم نزل في
(3/246)
وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ
وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ
هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ
(45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ
سَبِيلٍ (46)
الظالمين إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وذكر أن أبا بكر رضي الله عنه،
كان عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم ورجل من المنافقين يسبه،
وأبو بكر رضي الله عنه لم يجبه، ورسول الله صلّى الله عليه
وسلم ساكت يبتسم، فأجابه أبو بكر، فقام النبيّ صلّى الله عليه
وسلم وذهب، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله ما دام يسبني
كنت جالساً، فلما أجبته قمت فقال صلّى الله عليه وسلم: إن
الملك كان يجيبه عنك، فلما أجبته ذهب الملك، وجاء الشيطان وأنا
لا أجلس في مجلس يكون فيه الشيطان. فنزل فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
وروى محمد بن المنكدر قال: ينادي المنادي يوم القيامة، من كان
له عند الله حق، فليقم. قال: فيقوم من عفا وأصلح. قوله عز وجل:
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ يعني: انتصف بعد ظلمه،
واقتص منه فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يعني: من
مأثم. وقال قتادة: هذا، فيما يكون بين الناس من القصاص، فأما
لو ظلمك، لا يحل لك أن تظلمه، يعني: فيما لا يحتمل القصاص.
وقال الحسن: يعني: إذا قال: لعنك الله، أن تقول له: يلعنك
الله، وإذا سبك، فلك أن تسبه ما لم يكن فيه حد، أو كلمة لا
تصلح. ثم قال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ يعني:
الإثم والحرج عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يعني:
يبدؤون بالظلم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
يعني: ويظلمون في الأرض، ويعملون المعاصي أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ يعني:
وجيع.
[سورة الشورى (42) : الآيات 43 الى 46]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ
وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ
فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ
يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قوله عز وجل: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ يعني: صبر عن مظلمته،
فلم يقتص من صاحبه وغفر يعني: تجاوز عنه إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ يعني: الصبر والتجاوز من أفضل الأمور، وأصوب
الأمور. قال بعضهم: هذه الآيات مدنيات. وقال بعضهم: مكيات.
قوله تعالى:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني: يخذله الله عن الهدى ويقال من
يخذله ويتركه على ما هو فيه من ظلم الناس فَما لَهُ مِنْ
وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يعني: ليس له قريب يهديه، ويرشده إلى
دينه من بعده، يعني: من بعد خذلان الله تعالى إياه.
(3/247)
اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ
لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا
لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا
أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا
وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ
قَدِيرٌ (50)
قوله: وَتَرَى الظَّالِمِينَ يعني:
المشركين والعاصين لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ في الآخرة
يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ يعني: هل من رجعة
إلى الدنيا من حيلة، فنؤمن بك يتمنون الرجوع إلى الدنيا. قوله
تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها يعني: يساقون إلى
النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أي: خاضعين من الحزن، ويقال
ساكتين ذليلين، مقهورين من الحياء يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ قال الكلبي: يعني: ينظرون بقلوبهم، ولا يرونها
بأعينهم، لأنهم يسحبون على وجوههم. وقال مقاتل: يعني: يستخفون
بالنظر إليها، يعني: إلى النار قال القتبي: يعني:
غضوا أبصارهم من الذل، وقال بعضهم: مرة ينظرون إلى العرش
بأطراف أعينهم ماذا يأمر الله تعالى بهم، ومرة ينظرون إلى
النار.
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: المؤمنين المظلومين إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني: يظلمون
غيرهم، حتى تصير حسناتهم للمظلومين، فخسروا أَنفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال بعضهم: هذه حكاية كلام
المؤمنين في الآخرة، بأنهم يقولون ذلك، حين رأوا الظالمين،
الذين خسروا أنفسهم. وقال بعضهم: هذه حكاية قولهم في الدنيا،
فحكى الله تعالى قولهم، وصدقهم على مقالتهم فقال: أَلا إِنَّ
الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ يعني: دائم وقال بعضهم هذا
اللفظ، لفظ الخبر عنهم، والمراد به التعليم، أنه ينبغي لهم
يقولوا هكذا يعني:
يصبروا على ظلمهم.
قوله تعالى: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يعني: لا يكون
للظالمين يوم القيامة مانع يمنعهم من عذاب الله
يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: يمنعونهم من عذاب
الله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني: يضله الله عن الهدى فَما
لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى من حجة. ويقال: ما له من حيلة.
[سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ
يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ
الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا
رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ
يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله عز وجل: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ يعني: أجيبوا ربكم في
الإيمان، وفيما أمركم به
(3/248)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا
يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
مَرَدَّ لَهُ يعني: لا رجعة له، إذا جاء لا يقدر أحد على دفعه
مِنَ اللَّهِ ويقال: فيه تقديم. يعني: من قبل أن يأتي من عذاب
الله، يوم لا مرد له. يعني: لا مدفع له مَا لَكُمْ مِنْ
مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ يعني: ما لكم من مفر، ولا حرز يحرزكم من
عذابه وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ يعني: من مغير، يغير العذاب
عنكم.
قوله عز وجل: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان، وعن الإجابة، بعد
ما دعوتهم فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم على
الإيمان، وتجبرهم على ذلك إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ
يعني: ليس عليك، إلا تبليغ الرسالة، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال،
ثم قال: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً
يعني: أصبنا الإنسان منا رحمة فَرِحَ بِها أي بطر بالنعمة. قال
بعضهم:
يعني: أبا جهل. وقال بعضهم: جميع الناس، والإنسان هو لفظ
الجنس، وأراد به جميع الكافرين، بدليل أنه قال: وَإِنْ
تُصِبْهُمْ ذكر بلفظ الجماعة يعني: إن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يعني:
القحط والشدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني: بما عملوا من
المعاصي فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ لنعم الله. يعني: يشكو
ربه عند المصيبة، ولا يشكره عند النعمة.
قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني:
القدرة على أهل السموات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشاءُ على أي
صورة شاء يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني: من يشاء الأولاد
الإناث، فلا يجعل معهن ذكوراً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
الذُّكُورَ يعني: يعطي من يشاء الأولاد الذكور، ولا يكون معهم
إناث أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني: من يشاء
الأولاد الذكور، والإناث وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فلا
يعطيه شيئاً من الولد، ويقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
كما وهب للوط النبي وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ كما وهب
لإبراهيم- عليه السلام- أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً
وَإِناثاً كما جعل للنبي صلّى الله عليه وسلم، وكما وهب
ليعقوب- عليه السلام- وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً كما جعل
ليحيى، وعيسى عليهما السلام إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ يعني:
عالم بما يصلح لكل واحد منهم. قادر على ذلك.
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
(3/249)
قوله عز وجل: وَما كانَ لِبَشَرٍ يعني:
لأحد من خلق الله أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً
يعني: يرسل إليه جبريل، ليقرأ عليه. ويقال: إِلَّا وَحْياً
يعني: إلهاماً ويقال: يسمع الصوت فيفهمه وذلك، أن اليهود قالوا
للنبي صلّى الله عليه وسلم ألا يكلمك الله، أو ينظر إليك، إن
كنت نبياً كما كلم موسى فنزل وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ
يُكَلِّمَهُ اللَّهُ يعني: ما جاز لأحد من الآدميين، أَن
يُكَلِّمَهُ الله، إِلاَّ وحياً يعني: يسمع الصوت، أو يرى في
المنام، ولا يجوز أن يكلمه مواجهة عياناً في الدنيا.
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فيكلمه، كما كلم موسى أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا كما أرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ يعني: فيرسل بأمره. ويقال: بِإِذْنِهِ
مَا يَشاءُ من أمره. قرأ نافع وابن عامر أَوْ يُرْسِلَ بضم
اللام وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم، فمعناه أو هو يرسل
رسولاً، ومن قرأ بالنصب، فعلى الإضمار أيضاً، ومعناه أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ قرأ نافع وابن عامر فيوحي بسكون
الياء، ومعناه أو هو يرسل رسولاً فيوحي وقرأ الباقون بالنصب
فَيُوحِيَ لإضمار أن إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ يعني: أعلى من أن
يكلم أحداً في الدنيا مواجهة، ولا يراه فيها أحد عياناً
حَكِيمٌ حكم ألا يكلم أحداً في المواجهة، ولا يراه أحد.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ
أَمْرِنا يعني: جبريل بأمرنا. ويقال:
أوحينا إليك روحاً، يعني: القرآن. وقال القتبي: الروح روح
الأجسام، ويسمى كلام الله تعالى، روحاً لأن فيه حياة من الجهل،
وموت الكفر كما قال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: 15] ثم قال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني: ما كنت تدري قبل الوحي، أن
تقرأ القرآن، ولا تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان.
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً يعني: أنزلنا جبريل بالقرآن. ضياءً
من العمى، وبياناً من الضلالة.
فإن قيل سبق ذكر الكتاب والإيمان ثم قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً ولم يقل جعلناهما؟ قيل له:
لأن المعنى هو الكتاب، وهو دليل على الإيمان. ويقال لأن شأنهما
واحد كقوله: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً
[المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين ويقال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً يعني: الإيمان كناية عنه، ولأنه أقرب.
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا يعني: نوفق من نشاء
للهدى، من كان أهلاً لذلك وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ يعني: لتدعو الخلق إلى دين الإسلام. قوله عز وجل:
صِراطِ اللَّهِ يعني: دين الله الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من خلق أَلا إِلَى اللَّهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ أي: ترجع إليه عواقب الأمور، والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
(3/250)
حم (1) وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ
لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
(7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ
تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا
تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ
وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ (14)
سورة الزخرف
وهي تسع وثمانون آية مكية
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
قوله تبارك وتعالى: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يعني: أقسم بحم،
وبالكتاب الذي أبان طريق الهدى، من طريق الضلالة، وأبان كل ما
تحتاج إليه الأمة، ويقال: مُبين أي: بين بلغة تعرفونها. يعني:
بين فيه الحلال والحرام إِنَّا جَعَلْناهُ فهذا جواب القسم.
يعني: إنا جعلناه، ووصفناه أقسم بالكتاب المبين إِنَّا
جَعَلْناهُ يعني: إنا قلناه ووصفناه وبيناه. ويقال: أنزلنا به
جبريل قُرْآناً عَرَبِيًّا يعني: بلغة العرب لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ يعني: لكي تعقلوا وتفهموا. ما فيه، ولو نزل بغير
لغة العرب، لم تفهموا ما فيه.
ثم قال: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا يعني: إن
كذبتم بالقرآن، فإن نسخته في أصل الكتاب. يعني: اللوح المحفوظ
لدينا. يعني: عندنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ يعني: شريف مرتفع، محكم
من الباطل. ويقال: حكيم أحكم، حلاله وحرامه. ويقال: حَكِيمٌ
أي: حاكم على الكتب كلها. ويقال: حكيم أي: ذو حكمة كما قال
تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ قرأ حمزة والكسائي «في أم الكتاب»
بكسر الألف في جميع القرآن، لأن الياء أخت الكسرة، فاتبع
الكسرة الكسرة والباقون «أم» بضم الألف، وهو الأصل في اللغة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 5 الى 14]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ
قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ
بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ
فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
(3/251)
قوله عز وجل: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحاً يعني: أفندع ونترك أن نرسل إليكم الوحي
مبهماً، لا آمركم ولا أنهاكم. وقال القتبي: معناه أن أمسك
عنكم، فلا أذكركم إعراضاً. يقال: صفحت عن فلان، إذا أعرضت عنه.
وقال مجاهد: معناه تكذبون بالقرآن، ولا تعاقبون فيه. قرأ ابن
كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً
مُسْرِفِينَ بنصب الألف. وقرأ الباقون بالكسر. فمن قرأ بالنصب،
فمعناه: أفنضرب عنكم ذكر العذاب بأن أسرفتم، يعني: أشركتم
وعصيتم. ويقال أفنضرب عنكم ذكر العذاب، لأن أسرفتم وكفرتم ومن
قرأ بالكسر، فمعناه إن كنتم قوماً مسرفين. ويقال: هو على معنى
الاستقبال، ومعناه إن تكونوا مسرفين، نضرب عنكم الذكر.
ثم قال عز وجل: وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ يعني: كم بعثنا من نبي في أمر الأمم الأولين،
كما أرسلنا إلى قومك وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني:
يسخرون منه قوله تعالى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً
يعني: من كان أشد منهم قوة وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ يعني:
سنة الأولين بالهلاك.
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني: المشركين مَنْ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ يعني: يقولون خلقهن الله تعالى، الذي هو العزيز في
ملكه، العليم بخلقه، فزادهم الله تعالى في جوابهم. فقال:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً قرأ حمزة، والكسائي
وعاصم مَهْداً، والباقون مَهاداً بالألف، يعني: قراراً للخلق
وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا يعني: طرقاً لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ يعني: لكي تعرفوا طرقها من بلد إلى بلد، ويقال:
لعلكم تهتدون يعني: لكي تعرفوا هذه النعم، وتأخذوا طريق الهدى،
ثم ذكرهم النعم فقال عز وجل:
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء بِقَدَرٍ يعني: بمقدار
ووزن فَأَنْشَرْنا بِهِ يعني: أحيينا بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً
يعني: أرضاً ميتة، لا نبات فيها كَذلِكَ تُخْرَجُونَ أنتم من
قبوركم.
قوله تعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها يعني:
الأصناف كلها من النبات، والحيوان
(3/252)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ
بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ
لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي
الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ
الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا
لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
(20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا
عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ
عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
كَافِرُونَ (24)
وغير ذلك وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ مَا تَرْكَبُونَ يعني: جعل لبني آدم من السفن،
والإبل، والدواب، ما يركبون عليها ثم قال: لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ يعني: لتركبوا ظهور الأنعام، ولم يقل ظهورها؟ لأنه
انصرف إلى المعنى، وهو جنس الأنعام ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ
رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ يعني: إذا ركبتم
فتحمدوا الله تعالى وَتَقُولُوا عند ذلك سُبْحانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنا هذا يعني: ذلل لنا هذا وَما كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ يعني: مطيعين. وقال أهل اللغة: أنا مقر لك أي:
مطيق لك. ويقال: مقرنين أي: مالكين. ويقال: ضابطين.
ثم قال: وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ يعني: راجعين
إليه، في الآخرة. وقد روى عثمان بن الأسود، عن مجاهد أنه قال:
إذا ركب الرجل دابته، ولم يذكر اسم الله تعالى، ركب الشيطان من
ورائه، ثم صك في قفاه، فإن كان يحسن الغناء، قال له: تغن، وإن
كان لا يحسن الغناء، قال له تمن يعني: تكلم بالباطل.
وعن علي بن ربيعة أنه قال: كنت رديفاً لعلي بن أبي طالب-، رضي
الله عنه-، فلما وضع رجله في الركاب، قال: بسم الله، فلمَّا
استوى قال: الحمد لله، ثم قال: سُبْحَانَ الذى سخر لنا هذا،
وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 24]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ
وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ
وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ
(19)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ
بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ
آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا
عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ
آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ
(24)
(3/253)
قال الله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً يعني: وصفوا لله من خلقه، شريكاً وولداً
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ يعني: كَفُورٌ لنعمه
مُبِينٌ أي: بين الكفر. ثم قال تعالى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وهو رد على بني مليح، حيث قالوا: الملائكة
بنات الله. معناه: اختار لكم البنين، ولنفسه البنات، ثم وصف
كراهيتهم البنات فقال: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ.
قوله عز وجل: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ
لِلرَّحْمنِ مَثَلًا يعني: بما وصفوا لله تعالى من البنات،
وكرهوا لأنفسهم ذلك ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
يعني: تغير لونه، وهو حزين مكروب. يعني: أترضون لله، ما لا
ترضون لأنفسكم. قوله عز وجل: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي
الْحِلْيَةِ يعني: يغذى في الذهب والفضة. ويقال: أفمن زين في
الحلي والحلل وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ يعني: في
الكلام غير فصيح. ويقال: هن في الخصومة، غير مبينات في الحجة
ويقال: أفمن زين في الحلي، وهو في الخصومة غير مبين، لأن
المرأة لا تبلغ بخصومتها، وكلامها ما يبلغ الرجل.
قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص، أو من يُنَشَّأُ بضم
الياء، ونصب النون وتشديد الشين ومعناه: أو من يربى في الحلية،
لفظه لفظ الاستفهام، والمراد به التوبيخ. وقرأ الباقون،
أوَمَنْ يَنْشَأ، بنصب الياء وجزم النون مع التخفيف، يعني: يشب
وينبت في الحلي.
قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ
الرَّحْمنِ إِناثاً يعني: وصفوا الملائكة بالأنوثة.
قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع الَّذِينَ هم عبد الرحمن
إِناثاً يعني: وصفوا الملائكة بالأنوثة. قرأ ابن كثير، وابن
عامر، ونافع عبيد يعني: الملائكة الذين هم في السماء، والباقون
عِبَادُ يعني: جمع عبد.
ثم قال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ يعني: أحضروا خلق الملائكة حين
خلقهم الله تعالى، فعلموا أنهم ذكوراً أو إناثاً؟ هذا استفهام
فيه نفي، يعني: لم يشهدوا خلقهم على وجه التوبيخ، والتقريع. ثم
قال: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ يعني: ستكتب مقالتهم
وَيُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة.
وروي عن الحسن: أنه قرأ سَتُكْتَبُ شَهَادَاتُهُم بالألف يعني:
أقوالهم. وقرأ عبد الرحمن الأعرج سَنَكْتُبُ بالنون.
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ
يعني: ما عبدنا الملائكة ويقال:
الأصنام مَّا لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: ما لهم بذلك
القول من حجة إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يعني: يكذبون بغير
حجة. وقال مقاتل: في الآية تقديم يعني: عباد الرحمن إناثاً، ما
لهم بذلك من علم. قوله عز وجل: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ
قَبْلِهِ يعني: أنزلنا عليهم كتاباً، مِن قَبْلِ هذا القرآن
فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يعني: آخذون به عاملون، اللفظ لفظ
الاستفهام، والمراد به النفي.
(3/254)
فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
(25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي
بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً
فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ
هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ
مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا
سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
قوله عز وجل: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ يعني: لكنهم قالوا: إنا وجدنا آباءنا على
دين وملة. وقال القتبي: أصل الأمة الجماعة، والصنف. كقوله:
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38] ثم
يستعار في أشياء منها: الدين. كقوله:
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي: على دين، لأن القوم
كانوا يجتمعون على دين واحد، فتقام الأمة مكان الدين، ولهذا
قيل للمسلمين: أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، لأنهم على ملة
واحدة، وهي الإسلام. وروى مجاهد، وعمر بن عبد العزيز، أنهما
قرءا أُمَّةٍ بكسر الألف، أي: على نعمة. ويقال: على هيئة،
وقراءة العامة بالضمة، يعني: على دين وروى أبو عبيدة، عن بعض
أهل اللغة، أن الأُمة والأمة لغتان.
ثم قال: وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ يعني: مستيقنين
وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها يعني: جبابرتها إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ
مُقْتَدُونَ يعني: بسنتهم مقتدون. أي: بأعمالهم. قال الله
تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدى يعني: أليس هذا الذي جئتكم به، هو أهدى مِمَّا
وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ يعني: بأصوب وأبين من ذلك. قرأ
ابن عامر، وعاصم في رواية حفص قالَ أَوَلَوْ على معنى الخبر
والباقون (قُلْ) بلفظ الأمر. وقرأ أبو جعفر المدني
(جِئْنَاكُم) بلفظ الجماعة. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كافِرُونَ يعني: إن الجبابرة قالوا لرسلهم: إنا بما
أرسلتم به جاحدون.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 25 الى 30]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ
الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها
كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ
وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ
كافِرُونَ (30)
قوله عز وجل: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالعذاب فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يعني:
آخر أمرهم. قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ يعني: بريء من
معبودكم. ذكر عن الفراء أنه قال: براء مصدر صرف أسماء، وكل
مصدر صرف إلى اسم، فالواحد، والجماعة، والذكر، والأنثى فيه
سواء.
قوله عز وجل: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي يعني: إلا الذي خلقني،
فإني لا أتبرأ منه. فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ويقال: إلا بمعنى
لكن. يعني: لكن الذي خلقني، فهو سيهدين، يعني: يثبتني على دين
الإسلام وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ يعني: جعل
تلك الكلمة ثابتة في نسله وَذُرِّيَّتَهُ وهي كلمة التوحيد لا
إله إلا الله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم إلى الإيمان.
وقال قتادة: هو التوحيد والإخلاص، لا يزال في ذريته. من يوحدوا
الله تعالى، ويعبدوه وقال مجاهد: يعني:
(3/255)
وَقَالُوا لَوْلَا
نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
كلمة لا إله إلا الله في عقبه وولده.
ويقال: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ يعني: ذو البراءة
كما يقال: رجل عدل ورجال عدل، أي: ذو عدل.
قوله تعالى: بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ يعني: أجلت هؤلاء،
وأمهلتهم. يعني: قومك وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ
يعني: القرآن. ويقال: الدعوة إلى التوحيد وَرَسُولٌ مُبِينٌ
يعني: بين أمره بالدلائل. والحجج. ويقال: مبين، يعني: بين لهم
الحق من الباطل. قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني:
القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ يعني:
جاحدون.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 32]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ
رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
وَقالُوا يعني: أهل مكة لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى
رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعني:
على رجل عظيم من رجلي القريتين، وهو الوليد بن المغيرة، من أهل
مكة، وأبو مسعود الثقفي بالطائف يعني: لو كان حقاً، لأنزل على
أحد هذين الرجلين. وروى وكيع، عن محمد بن عبد الله بن أفلح
الطائفي، قال: عن خالد بن عبد الله بن يزيد، قال: كنت جالساً
عند عبد الله بن عباس بالطائف، فسأله رجل عن هذه الآية وهي
قوله: مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ فقال:
القرية التي أنت فيها. يعني: الطائف والقرية التي جئت منها،
يعني: مكة. وسئل عن الرجلين فقال: جبار من جبابرة قريش، وهو
الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود، جد المختار.
يعني: أبا مسعود يقال اسمه عمرو بن عمير.
قوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني:
أبأيديهم مفاتيح الرسالة والنبوة، فيضعوها حيث شاؤوا، ولكننا
نختار للرسالة، مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا نَحْنُ قَسَمْنا
بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني: نحن
قسمنا أرزاقهم فيما بينهم، وهو أدنى من الرسالة، فلم نترك
اختيارها إليهم، فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل منه، وأعظم، وهي
الرسالة إليهم.
ثم قال: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يعني:
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ، بالمال في الدنيا.
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا يعني: الاستهزاء
ويقال: فضل بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ في العز، والرياسة، ليستخدم
بعضهم بعضاً، ويستعبد الأحرار العبيد، ثم أخبر: أن الآخرة أفضل
مما أعطوا في الدنيا. فقال: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ يعني: خير مما يجمع الكفار من المال في الدنيا.
(3/256)
وَلَوْلَا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا
وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى
إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ
مُشْتَرِكُونَ (39)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 33 الى 39]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا
لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ
فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ
السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ
مُشْتَرِكُونَ (39)
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً يقول لولا أن
يرغب الناس في الكفر، إذا رأوا الكفار في سعة المال. وقال
الحسن: لولا أن يتتابعوا في الكفر. لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وهي: سماء
البيت وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعني: الدرج عليها
يرتقون ويرتفعون. وقال الزجاج: يصلح أن يكون لبيوتهم بدلاً من
قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ ويكون المعنى لجعلنا لبيوت من يكفر
بالرحمن، ويصلح أن يكون معناه: لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ
بالرحمن على بيوتهم. قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لِبُيُوتِهِم
سَقْفاً» بنصب السين، وجزم القاف، ويكون عبارة عن الواحد، فدل
على الجمع. والمعنى: لجعلنا لبيت كل واحد منهم، سقفاً من فضة.
وقرأ الباقون سُقُفاً، بالضم على معنى الجمع. ويقال: سقف ومسقف
مثل رهن ورهن.
قوله تعالى: وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها
يَتَّكِؤُنَ يعني: يجلسون وينامون وَزُخْرُفاً وهو الذهب يعني:
لجعلنا هذا كله من ذهب وفضة. وروي عن النبي صلّى الله عليه
وسلم أنه قال: «لَوْلاَ أنْ يَجْزَعَ عَبْدِي المُؤْمِنُ،
لَعَصَبْتُ الكَافِرَ بِعِصَابةٍ مِن حَدِيدٍ، وَلَصَبَبْتُ
عَلَيْهِ الدُّنْيَا صَبّاً» وإنما أراد بعصابة الحديد، كناية
عن صحة البدن، يعني: لا يصدع رأسه، ثم أخبر أن ذلك كله مما
يفنى. فقال: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ
الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وما ها
هنا زيادة ومعناه: وإن كل ذلك لمتاع. ويقال: وما ذلك إلا متاع
الحياة الدنيا، يفنى ولا يبقى وَالْآخِرَةُ يعني: الجنة للذين
يتقون الشرك، والمعاصي والفواحش. قرأ عاصم، وابن عامر في رواية
هشام: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا
بتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف. فمن قرأ بالتخفيف، فما
للصلة والتأكيد. ومن قرأ بالتشديد فمعناه: وما كل ذلك إلا
متاع. وقال مجاهد؟ كنت لا أعلم ما الزخرف، حتى سمعت في قراءة
عبد الله بيتاً من ذهب.
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ قال الكلبي:
يعني: يعرض عن الإيمان
(3/257)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ
مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ
تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ (45)
والقرآن، يعني: لا يؤمن. ويقال: من يعمى
بصره عن ذكر الرحمن. وقال أبو عبيدة: من يظلم بصره عن ذكر
الرحمن. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً يعني: نسيب له شيطاناً،
مجازاة لإعراضه عن ذكر الله. ويقال: نسلط عليه ويقال نقدر له،
ويقال: نجعل له شيطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يعني: يكون له
صاحباً في الدنيا، فيزين له الضلالة. ويقال: فهو له قرين.
يعني: قرينه في سلسلة واحدة، لا يفارقه. يعني: فِي النَّارِ.
وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس مثل من أمثال العرب، إلا
وأصله في كتاب الله تعالى. قيل له: من أين قول الناس، أعطى
أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة. فقال قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً الآية وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني: الشياطين يصرفونهم عن
الدين وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يعني: الكفار يظنون
أنهم على الحق.
حَتَّى إِذا جاءَنا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، روى عاصم
في رواية أبي بكر (جَانَا) بالمد، بلفظ التثنية، يعني: الكافر
وشيطانه الذي هو قرينه. وقرأ الباقون جاءَنا بغير مد، يعني:
الكافر يقول لقرينه: قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ يعني: ما بين المشرق والمغرب. ويقال: بين مشرق
الشتاء، ومشرق الصيف فَبِئْسَ الْقَرِينُ يعني: بئس الصاحب معه
في النار. ويقال: هذا قول الله تعالى: فَبِئْسَ الْقَرِينُ
يعني: بئس الصاحب معه في النار. ويقال هذا قول الكافر يعني:
بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا، وبئس الصاحب اليوم.
فيقول الله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ الاعتذار
إِذْ ظَلَمْتُمْ يعني: كفرتم، وأشركتم في الدنيا أَنَّكُمْ فِي
الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يعني: أنكم جميعاً في النار، التابع
والمتبوع في العذاب، سواء قوله تعالى للنبي صلّى الله عليه
وسلم:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ
كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ
فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ
الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)
وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا
أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إلى
الهدى وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني:
من كان في علم الله في الضلالة. ومعنى الآية: إنك لا تقدر أن
تُفهم من كان أصم القلب، ويعمى عن الحق، ومن كان فى ضلال مبين،
يعني: ظاهر الضلالة، قوله: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ يعني:
نميتك قبل أن نرينك الذي وعدناهم، يعني: قبل أن نريك النقمة
فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ يعني: ننتقم منهم. بعد موتك.
قال قتادة: ذهب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وبقيت النقمة.
قال: وذكر لنا أن
(3/258)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ
إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ
بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا
وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا
عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا
كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا
الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا
أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ
أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا
لِلْآخِرِينَ (56)
النبيّ صلّى الله عليه وسلم، «أُرَى مَا
يُصِيب أُمَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فما رُئِيَ ضَاحِكاً
مُسْتَبْشِراً، حَتَّى قُبِضَ» .
ثم قال: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ يعني: في حياتك
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ يعني:
إنا لقادرون على ذلك قوله تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي
أُوحِيَ إِلَيْكَ يعني: اعمل بالذي أوحي إليك من القرآن
إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: على دين الإسلام
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يعني: القرآن شرف لك
ولمن آمن به ويقال: وَلِقَوْمِكَ يعني: العرب، لأن القرآن نزل
بلغتهم وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عن هذه النعم، وعن شكر هذا الشرف.
يعني: القرآن إذا أديتم شكره، أو لم تؤدوه.
قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رُسُلِنا قال مقاتل، والكلبي: يعني: سل مؤمني أهل الكتاب
أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ يعني:
هل جاءهم رسول، يدعوهم إلى عبادة غير الله. ويقال: وَسْئَلْ
مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا يعني: سل
المرسلين، فلقي النبيّ صلّى الله عليه وسلم الأنبياء ليلة
المعراج، وصلى بهم ببيت المقدس. فقيل له: فسلهم فلم يشك، ولم
يسألهم. ويقال: إنما خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وأراد
أمته يعني: سلوا أهل الكتاب كقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ
مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ
الْكِتابَ [يونس: 94] الآية.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46)
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ
(47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ
أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
(48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما
عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي
مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي
هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا
آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ
(55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
(3/259)
الْعالَمِينَ
وقد ذكرناه فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا يعني: باليد والعصا
إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ يعني: يعجبون ويسخرون. وَما
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها
يعني: أعظم من التي كانت قبلها، وهي السنين والنقص، من الثمرات
والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم فلم يؤمنوا بشيء.
وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني:
عاقبناهم بهذه العقوبات لكي يرجعوا، ويعرفوا ضعف معبودهم
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ وكان الساحر فيهم، عظيم الشأن
يعني: قالوا لموسى: يا أيها العالم ادْعُ لَنا رَبَّكَ أي: سل
لنا ربك بِما عَهِدَ عِنْدَكَ يعني: بحق ما أمرك به ربك، أن
تدعو إليه إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ يعني: نؤمن بك، ونوحد الله
تعالى.
قوله تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ
يَنْكُثُونَ يعني: ينقضون عهودهم وَنادى فِرْعَوْنُ فِي
قَوْمِهِ يعني: خطب فرعون لقومه قالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي
مُلْكُ مِصْرَ وهي أربعون فرسخاً، في أربعين فرسخاً وَهذِهِ
الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني: من تحت يدي.
ويقال: من حولي، وحول قصوري وجناني أَفَلا تُبْصِرُونَ فضلي
على موسى أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ
يعني: خير، وأم للصلة من هذا الذى هو مهين، يعني: ضعيف ذليل.
وَلا يَكادُ يُبِينُ يعني: لا يكاد يعبر حجة. ويقال: معناه:
ألا تنظرون إلى فصاحتي، وإلى عيِّ كلام موسى فَلَوْلا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ يعني: هلا أعطي أسورة من ذهب.
يعني: لو كان حقاً وكان رسولاً كما يقول، لأعطي له المال،
فيكون حاله خيراً من هذا، وكان آل فرعون يلبسون الأساور. قرأ
عاصم في رواية حفص (أسْوَرَةٌ) بغير ألف والباقون (أسَاوِرَةٌ)
فمن قرأ أسورة فهو جمع السوار، ومن قرأ أساورة، فهو جمع الجمع.
ويقال: أساور جمع سوار.
ثم قال: أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ يعني:
لو كان حقاً، لأتته الملائكة متتابعين، فيصدقون على مقالته
ويقال مُقْتَرِنِينَ أي: متعاونين فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطاعُوهُ يعني:
فاستذل قومه فأطاعوه. يعني: حملهم على الخفة، فانقادوا له
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني: كافرين عاصين، وذلك
أن فرعون قال لهم: مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرَى، فأطاعوه على
تكذيب موسى- عليه السلام- إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ
يعني: ناقضي العهد.
قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا يعني: أغضبونا قال أهل اللغة:
الأسف: الغضب. وروى معمر عن سماك بن الفضل. قال: كنا عند عروة
بن محمد، وعنده وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وأثبتوا
على ذلك، فتناول وهب عصا كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل
حتى أدماه، فاستعابها عروة، وكان حليماً وقال: يعيب علينا أبو
عبد الله الغضب وهو
(3/260)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ
مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ
إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا
مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا
وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا
يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
(62)
يغضب، فقال وهب: وما لي لا أغضب، وقد غضب
الذي خلق الأحلام، إن الله تعالى يقول فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعني: أغضبونا. ويقال: فلما آسفونا،
يعني: وجب عليهم عذابنا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعني: أهلكناهم
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: لم نبق منهم أحداً.
قوله تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قال مجاهد: يعني: كفار قوم
فرعون، سلفاً لكفار مكة أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وقال
قتادة: جعلناهم سلفاً إلى النار. قرأ حمزة والكسائي (سُلْفاً)
بالضم، وقرأ الباقون (سَلفاً) بنصب السين واللام، فمن قرأ
بالنصب فمعناه: جعلناهم سلفاً متقدمين، ليتعظ بهم الآخرون. ومن
قرأ بالضم، فهو جمع سليف، أي: جمع قد مضى. ويقال: سلفاً واحدها
سلفة من الناس، أي: قطعة. قوله: وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ يعني:
عبرة لمن بعدهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 62]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ
يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
(58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ
وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ
(60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها
وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (62)
قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا يعني: وصف
ابن مريم شبهاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ يعني: يعرضون
عن ذكره. ويقال: لما قالت النصارى إن عيسى ابن الله إذا قومك
منه يصدون. قرأ ابن عامر، والكسائي ونافع (يَصُدُّونَ) بضم
الصاد. وقرأ الباقون (يَصِدُّونَ) بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه
يعرضون، ومن قرأ بالكسر فمعناه يضجون، ويرفعون أصواتهم تعجباً،
وذلك أنهم قالوا: لما جاز أن يكون عيسى ابن الله، جاز أن تكون
الملائكة بناته، فعارضوه بذلك، يعني: أهل مكة، ورفعوا أصواتهم
بذلك. ويقال: إن عبد الله بن الزبعرى قال للنبي صلّى الله عليه
وسلم: ما ذكرنا في سورة الأنبياء، ففرح المشركون بذلك، ورفعوا
أصواتهم تعجباً من قوله آلهتنا خَيْرٌ.
ثم قال تعالى: وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعني: أم
عيسى فإذا جاز أن يكون هو ولداً، جاز أن تكون الأصنام
والملائكة كذلك. ويقال: فإذا جاز أن يكون هو في النار، جاز أن
تكون معه الأصنام في النار. قوله: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا
جَدَلًا يعني: ما عارضوك بهذه المعارضة، إلا جدلاً بَلْ هُمْ
قَوْمٌ خَصِمُونَ يعني: يجادلونك شديد المجادلة بالباطل.
(3/261)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى
بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ
وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
(64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا
عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا
مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي
عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ
وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ
كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ
أَنْعَمْنا عَلَيْهِ أي: ما كان عيسى إلاَّ عبداً لله، أنعم
الله تعالى عليه بالنبوة، وأكرمه بها وَجَعَلْناهُ مَثَلًا
لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعني: عبرة لبني إسرائيل، ليعتبروا به،
حين ولد ابن من غير أب.
ثم قال: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي
الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يعني: لو شاء الله، لجعل مكانكم في
الأرض ملائكة يخلفون، فكانوا خلفاً منكم. ثم رجع إلى صفة عيسى-
عليه السلام- فقال: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يعني: نزول
عيسى، علامة لقيام الساعة. ويقال: نزول عيسى آية للناس. وروى
وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن أبي يحيى، عن ابن
عباس في قوله: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ قال: خروج عيسى
ابن مريم. وروى معمر، عن قتادة قال: نزول عيسى وروى عبادة، عن
حميد، عن أبي هريرة قال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يُرى
عيسى- عليه السلام- في الأرْض إمَاماً مُقْسِطاً، وَكُنْتُ
أرْجُو ألاَّ أمُوتَ حَتَّى آكُل مع عيسى- عليه السلام-، عَلَى
مَائِدَةٍ، فَمَنْ لَقِيهُ مِنْكُمْ، فَلْيُقْرِئْهُ مِنِّي
السَّلاَم» قرأ بعضهم وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ بكسر
العين أي: بنزول المسيح يعلم أنه قد قربت الساعة. ومن قرأ:
(وَإنَّهُ لَعَلَمٌ) بالنصب، فإنه بمعنى الدليل، والعلامة.
قوله تعالى: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها يعني: لا تشكن في القيامة
والبعث وَاتَّبِعُونِ يعني:
أطيعونني هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ عني هذا التوحيد صراط
مُّسْتَقِيمٍ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ يعني: لا
يصرفنكم الشيطان عن طريق الهدى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
ظاهر العداوة.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 63 الى 76]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي
تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ
الْمُتَّقِينَ (67)
يا عِبادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ
تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا
مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ
وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ
مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (72)
لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا
يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما
ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
(3/262)
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ يعني:
بالآيات والعلامات، وهو إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.
ويقال: بالبينات، يعني: بالإنجيل قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ يعني: بالنبوة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قال: بعضهم، يعني: كل الذي
تختلفون فيه. وقال بعضهم معناه: لأبين تحليل بعض الذي تختلفون
فيه. كقوله: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] وكانوا في ذلك التحريم مختلفين،
فمصدق ومكذب فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به من
التوحيد.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ يعني:
خالقي وخالقكم فَاعْبُدُوهُ يعني:
وحدوه وأطيعوه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يعني: دين الإسلام
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي: تفرقوا في أمر
عيسى، وهم النسطورية، والمار يعقوبية، والملكانية. وقد ذكرناه
من قبل.
ويقال: الأحزاب تحزبوا وتفرقوا في أمر عيسى، وهم اليهود.
فقالوا فيه قولاً عظيماً، وفي أمه. فقالوا: إنه ساحر. ويقال:
اختلفوا في قتله فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: أشركوا
مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ يعني: عذاب يوم شديد.
قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ يعني: ما
ينظرون إذا لم يؤمنوا إلا الساعة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً
يعني: فجأة وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بقيامها قوله تعالى:
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قال
مجاهد: الأخلاء في معصية الله تعالى في الدنيا، يومئذٍ متعادين
في الآخرة إِلَّا الْمُتَّقِينَ الموحدين. قال مقاتل: نزلت في
أبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط. وقال الكلبي: كل خليل في غير
طاعة الله، فهو عدوٌّ لخليله.
وروى عبيد بن عمير. قال: كان لرجل ثلاثة أخلاء، بعضهم أخص به
من بعض، فنزلت به نازلة، فلقي أخص الثلاثة. فقال: يا فلان: إني
قد نزل بي كذا وكذا، وإني أحب أن تعينني. فقال له: ما أنا
بالذي أعينك، ولا أنفعك، فانطلق إلى الذي يليه. فقال له: أنا
معك حتى أبلغ المكان الذي تريده، ثم رجعت وتركتك. فانطلق إلى
الثالث فقال له: أنا معك حيثما دخلت. قال: فالأول ماله،
والثاني أهله وعشيرته، والثالث عمله. وروى أبو إسحاق عن
الحارث، عن علي بن أبي طالب-، رضي الله عنه-، أنه سئل عن قوله:
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا
الْمُتَّقِينَ فقال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فتوفي أحد
المؤمنين فيثني على صاحبه خيراً، ثم يموت الآخر، فيجمع بين
أرواحهما فيقول: كل واحد منهما لصاحبه، نعم الأخ ونعم الصاحب،
ويموت أحد الكافرين، فيثني على صاحبه شراً، ثم
(3/263)
وَنَادَوْا يَا
مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ
مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا
لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ
وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
يموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما فيقول: كل
واحد منهما لصاحبه، بئس الأخ وبئس الصاحب.
قوله تعالى: يا عِبادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا
أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ يعني: يوم القيامة ثُمَّ وصفهم فقال:
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ يعني:
مخلصين بالتوحيد. قوله تعالى:
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ
يعني: تكرمون وتنعمون. ويقال: ترون والحبرة:
السرور. قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ
قال كعب: يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب، في كل صفحة لون
وطعام، ليس في الأخرى، والصحفة هي القصعة.
وَأَكْوابٍ وهي: الأباريق التي لا خراطيم لها، يعني: مدورة
الرأس. ويقال: التي لا عُرى لها، واحدها كوب.
وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ يعني: تتمنى كل نفس
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ من النظر إليها وَأَنْتُمْ فِيها
خالِدُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ يعني: هذه الجنة الَّتِي
أُورِثْتُمُوها يعني: أنزلتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
يعني: دخلتموها برحمة الله تعالى، بإيمانكم واقتسمتموها
بأعمالكم. لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ لا تنقطع. لقوله:
لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) [الواقعة: 33] مِنْها
تَأْكُلُونَ أي:
من الفواكه متى تشاؤوا.
ثم وصف المشركين فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني: المشركين
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ أي: دائمون، لا يموتون ولا
يخرجون لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ يعني: لا ينقطع عنهم العذاب
طرفة عين وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ يعني: آيسين من رحمة الله
تعالى. قوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ يعني: لم نعذبهم بغير
ذنب وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لأنهم كانوا يستكبرون
عن الإيمان.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 77 الى 81]
وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ
إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ
وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ
أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى
وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)
قوله تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ وذلك أنه لما يشتد عليهم
العذاب، يتمنون الموت، ويقولون لخازن جهنم: يَا مَالِك
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ يعني: ادع ربك لقبض أرواحنا،
فأجابهم بعد أربعين سنة قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ وروى عطاء بن
السائب، عن رجل عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: يجيبهم بعد
ألف سنة إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ويقال: إنهم ينادون يَا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ فأوحى الله تعالى إلى مالك ليجيبهم،
فيقول لهم مالك قَالَ: إنَّكُمْ مَاكِثُونَ.
(3/264)
سُبْحَانَ رَبِّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
(82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ
لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله تعالى: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ
يعني: جاءكم جبريل في الدنيا، بالقرآن والتوحيد وَلكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ يعني: جاحدون. وهو قوله
تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً قال مقاتل: وذلك حين اجتمعوا
في دار الندوة، ودخل إبليس عليهم، وقد ذكرناه في سورة الأنفال.
فنزل أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ يعني:
أجمعوا أمرهم بالشر على النبي صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّا
مُبْرِمُونَ أي: مجمعون أمرنا على ما يكرهون. وقال الكلبي:
وذلك أن ثلاثة نفر، اجتمعوا وقالوا: إنه يقول: بأن ربي يعلم
السر. أترى أنه يعلم مَا نقول بيننا؟ فنزل أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً يعني: أقاموا على المعصية فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أي:
معذبون عليها. قال القتبي: أي: أحكموه، والمبرم: المفتول على
طاقين.
قوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ يعني: بل يظنون. ويقال: أيظنون،
والميم صلة أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ اللفظ
لفظ الاستفهام، والمراد به التوبيخ، ومعناه إن الله تعالى يعلم
سرهم ونجواهم. قال ابن عباس: الذين يتناجون خلف الكعبة، يعني:
الذين يقولون: إن الله لا يسمع مقالتنا. قال الله تعالى: بَلى
يعني: نسمع ذلك وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ مقالتهم.
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا
أَوَّلُ الْعابِدِينَ يعني: الموحدين من أهل مكة. قال مقاتل:
لما نزلت هذه الآية، وقرئت عليهم فقال النضر بن الحارث: ألا
ترونه صدقني. فقال له الوليد: ما صدقك، ولكنه يقول: ما كان
للرحمن ولد. يعني: إنَّ إن بمعنى ما قال: فَأَنَا أَوَّلُ
الْعابِدِينَ يعني: الموحدين من أهل مكة. وقال الكلبي: أنا أول
الآنفين أن لله ولداً. وقال القتبي: إن كان هذا في زعمكم، فأنا
أول الموحدين، لأنكم تزعمون أن له ولداً، فأنَّا أوَّلِ
الآنفين من ذلك، فلم توحدوه ومن وحد الله، فقد عبده، ومن جعل
له ولداً، فليس من العابدين كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات: 56] أي:
ليوحدون ثم نزّه نفسه فقال:
[سورة الزخرف (43) : الآيات 82 الى 89]
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا
حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
(3/265)
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ يعني: عما يقولون إن لله
ولداً فَذَرْهُمْ يعني: كفار مكة، حين كذبوا بالعذاب يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا يعني: يخوضوا في أباطيلهم، ويستهزءوا حَتَّى
يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني: حتى يعاينوا
يومهم الذي يوعدون، وهو يوم القيامة.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي
الْأَرْضِ إِلهٌ يعني: إله كل شيء، ويعلم كل شيء. ويقال: هو
إله في السماء يعبد، وفي الأرض إله يعبد. ويقال: يوحد في
السماء ويوحد في الأرض وَهُوَ الْحَكِيمُ في أمره الْعَلِيمُ
بخلقه وبمقالتهم، ثم عظم نفسه فقال تعالى: وَتَبارَكَ الَّذِي
يعني: تعالى عما وصفوه الَّذي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يعني:
خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات وَما بَيْنَهُما
وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ يعني: قيام الساعة وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ قرأ أبو عمرو، ونافع، وعاصم (تُرْجَعُونَ) بالتاء،
على معنى المخاطبة. وقرأ الباقون بالياء، على معنى الخبر عنهم.
قوله تعالى: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: لا يقدر
الذين يعبدون مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ
بِالْحَقِّ يعني: بلا إله إلا الله مخلصاً وَهُمْ يَعْلَمُونَ
أنه الحق، حين شهدوا بها من قبل أنفسهم، وأنهم يشفعون لهؤلاء
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعني: كفار قريش فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
يعني: أنى يصرفون بعد التصديق.
ثم قال: وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ
يُؤْمِنُونَ يعني: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَقِيلِهِ
يعني:
وقوله. قرأ عاصم وحمزة (قِيلِهِ) بكسر اللام، والباقون بالنصب.
وقرئ في الشاذ (وَقِيلُهُ) بضم اللام، فمن قرأ بالنصب، فنصبه
من وجهين: أحدهما على العطف على قوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [التوبة: 78] (وقيله)
ومعنى آخر وعنده علم الساعة، وعلم قيله يا رب. يعني: يعلم
الغيب ومن قرأ بالكسر معناه وعنده علم الساعة، وعلم قيله يا
رب. ومن قرأ بالرفع فمعناه: وقيله قول يا رب إِنَّ هؤُلاءِ
قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ يعني: لا يصدقون فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
يعني: أعرض عنهم، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال وَقُلْ سَلامٌ
يعني: سداداً من القول فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وهذا وعيد منه.
قرأ نافع وابن عامر (تَعْلَمُونَ) بالتاء، على معنى المخاطبة
لهم، والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم، والله أعلم.
(3/266)
|