تفسير السمرقندي بحر العلوم

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

سورة الدخان
وهي تسع وخمسون آية مكية

[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
قوله تبارك وتعالى: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يعني: الكتاب أنزلناه في ليلة القدر سميت مباركة لما فيها من البركة، والمغفرة للمؤمنين، وذلك أن القرآن، أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ، إلى السماء الدنيا في ليلة القدر إلى السفرة. ثم أنزله جبريل متفرقاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويقال: كان ينزل من اللوح المحفوظ، إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، مقدار ما ينزل به جبريل- عليه السلام-، متفرقاً إلى السنة الثانية ثم قال: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ يعني: مخوفين بالقرآن.
قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يعني: في ليلة القدر، يقضى كل أمر محكم، ما يكون في تلك السنة إلى السنة الأخرى، وهذا قول عكرمة. وروى منصور، عن مجاهد قال فيها: يقضى أمر السنة إلى السنة، من المصائب والأرزاق وغير ذلك. وهذا موافق للقول الأول. ويقال: في تلك الليلة، يفرق يعني: ينسخ من اللوح المحفوظ، ما يكون إلى العام القابل من الرزق، والأجل، والأمراض، والخصب، والشدة. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: إنك لتلقى الرجل في الأسواق، وقد وقع اسمه في الأموات.
ثم قرأ هذه الآية: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يعني: في تلك الليلة يفرق كل أمر الدنيا إلى مثلها إلى السنة من قابل أَمْراً مِنْ عِنْدِنا يعني: قضاء من عندنا. ويقال: معناه بأمر

(3/267)


بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

من عندنا، فنزع حرف الخافض فصار نصباً إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يعني: الرسل إلى الخلق.
ويقال: يعني: الملائكة في تلك الليلة رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني: إنزال الملائكة، رحمة من الله تعالى. ويقال: الرسالة رحمة من الله تعالى. ويقال: هذا القرآن رحمة لمن آمن به إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لقولهم الْعَلِيمُ بهم وبأعمالهم.
قوله عز وجل: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قرأ أهل الكوفة رب، بكسر الباء، والباقون بالضم، فمن قرأ بالكسر رده إلى قوله: رحمة من ربك رب السموات. ومن قرأ بالضم، رده إلى قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رب السموات. ويقال: على الاستئناف. ومعناه: هو ربكم، وهو رب السموات والارض وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ يعني: مؤمنين بتوحيد الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وقد ذكرناه رَبُّكُمْ أي: خالقكم ورازقكم وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ يعني: هو خالقهم ورازقهم.

[سورة الدخان (44) : الآيات 9 الى 16]
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
قوله عز وجل: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ يعني: يستهزئون. ويقال: هذا جواب قوله:
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فكأنه قال: لا يوقنون، بل هم فى شك يلعبون يعني: يخوضون في الباطل. قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يعني: فانتظر يا محمد يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يعني: الجدب والقحط قال القتبي: سمي الجدب والقحط. دخاناً، وفيه قولان: أحدهما أن الجائع كأنه يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع، والثاني: أنه سمي القحط دخاناً، ليبس الأرض، وانقطاع النبات، وارتفاع الغبار، فشبه بالدخان. وروى الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: «خمس مضين، الدخان واللزام يعني:
العذاب الأكبر، والروم، والبطشة، والقمر.
وروي عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في المسجد، فسئل عن قوله: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ فقال: إذا كان يوم القيامة، نزل دخان من السماء، فأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، وأخذ المؤمنون منه بمنزلة الزكام. قال مسروق: فدخلت على عبد الله فأخبرته، وكان متكئاً، فاستوى قاعداً. ثم أنشأ فقال: يا أَيُّهَا الناس: من كان عنده علم فسئل عنه، فليقل به، ومن لم يكن عنده علم، فليقل الله أعلم. إن

(3/268)


وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)

قريشاً حين كذبوه يعني: صلّى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كسِنِّي يُوسُف- عَلَيْهِ السَّلام-» فأصابهم سنة، وشدة الجوع، حتى أكلوا الكلاب، والجيف والعظام، حتى كان يرى أحدهم كأن بينه وبين السماء دخاناً.
فذلك قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يعني: انتظر بهلاكهم يوم تأتى السماء بدخان مبين يَغْشَى النَّاسَ يعني: أهل مكة هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يعني: يقولون: هذا الجوع عذاب أليم ثم إن أبا سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل وأصحابهم قالوا: يا رسول الله استسق الله لنا، فقد أصابنا شدة.
قوله تعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ يعني: الجوع إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى يعني: من أين لهم التوبة والعظة والتذكرة وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بلغتهم ومفقه لهم ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ يعني: أعرضوا عما جاء به، فلم يصدقوه ومع ذلك وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ يعلمه جبر ويسار أسماء الرجلين غلامي الخضر إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى المعصية، فعادوا فانتقم منهم يوم بدر، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يعني:
نعاقب العقوبة العظمى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم بكفرهم ويقال: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يعني: يوم القيامة. ويقال: آية الدخان لم تمض، وستكون في آخر الزمان.
وروى إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي- رضي الله عنه- قال: لم تمض آية الدخان يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينتفخ الكافر حتى يصير كهيئة الجمل. وروى ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: «أخْبِرْتُ أنَّ الكَوْكَب ذَا الذَّنب قد طَلَعَ، فَخَشِيتُ أنْ يَكونَ الدُّخَانَ قَد طَرق» ويقال: هذا كله يوم القيامة، إذا خرجوا من قبورهم، تأتي السماء بدخان مبين، محيط بالخلائق فيقول الكافرون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ أي: ردنا إلى الدنيا إِنَّا مُؤْمِنُونَ يقول الله تعالى: من أين لهم الرجعة، وقد جاءهم رسول مبين فلم يجيبوه.

[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 29]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)

(3/269)


قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ يعني: ابتلينا قبل قومك قوم فرعون.
وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على ربه، وهو موسى- عليه السلام-. ويقال: رسول كريم. أي:
شريف أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يعني: أرسلوا معي بني إسرائيل، واتبعوني على ديني إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ قد جئتكم من عند الله تعالى. ويقال: كريم لأنه كان يتجاوز عنهم، ويقال أمين فيكم قبل الوحي، فكيف تتهموني اليوم. ويقال كريم حيث يتجاوز عنهم، حين دعا موسى، ورفع عنهم الجراد، والقمل، والضفادع والدم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فيما بينكم وبين ربكم.
قوله تعالى: وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ يعني: لا تخالفوا أمر الله تعالى. ويقال: لا تستكبروا عن الإيمان، ولا تعلوا بالفساد، لأن فرعون لعنه الله، كان عاليا من المسرفين إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني: آتيكم بحجة بينة اليد والعصى، وغير ذلك. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ يعني: أعوذ بالله أَنْ تَرْجُمُونِ يعني: أن تقتلون. ومعناه: أسأل الله تعالى، أن يحفظني لكي لا تقتلوني. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عُذْتُ بإدغام الذال في التاء، لقرب مخرجيهما، والباقون بغير إدغام، لتبيين الحرف.
ثم قال: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ يعني: إن لم تصدقوني فاتركوني. قوله تعالى:
فَدَعا رَبَّهُ يعني: دعا موسى ربه، كما ذكر في سورة يونس رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [يونس: 88] وقوله: وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) [يونس: 86] أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ
يعني: مشركون فأبوا أن يطيعوني فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا فأوحى الله تعالى إليه، أن أدلج ببني إسرائيل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يعني: إنَّ فرعون يتبع أثركم، فخرج موسى ببني إسرائيل، وضرب بعصاه البحر، فصار طريقاً يابسا.
وهذا كقوله: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً [طه: 77] فلما جاوز موسى مع بني إسرائيل البحر، فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر، ليعود إلى الحالة الأولى، فأوحى الله تعالى إليه بقوله وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً قال قتادة: يعني: طريقاً يابساً واسعاً. وقال الضحاك:
رَهْواً يعني: سهلاً. وقال مجاهد: يعني: منفرجاً. وقال القتبي: يعني: طريقاً سالكاً. كما هو. ويقال: رهواً أي: سككاً جدداً، طريقاً يابساً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ وذلك، أن بني إسرائيل خشوا أن يدركهم فرعون، فقالوا لموسى: اجعل البحر كما كان، فإننا نخشى أن يلحق بنا.
قال الله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يعني: سيغرقون، فدخل فرعون وقومه البحر، فأغرقهم الله تعالى، وبقيت قصورهم وبساتينهم قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني: بساتين وأنهاراً جارية وَزُرُوعٍ يعني: الحروق وَمَقامٍ كَرِيمٍ يعني: مساكن ومنازل حسن. كذلك يعني: هكذا أخرجناهم من النعم وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ يعني: معجبين.

(3/270)


وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

وقال أهل اللغة: النِّعمة بكسر النون هي المنة، واليد الصالحة، والنُّعمة بالضم هي الميسرة، وبالنصب هي السعة في العيش. ثم قال: كَذلِكَ يعني: هكذا أخرجناهم من السعة والنعمة وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني: جعلناها ميراثاً لبني إسرائيل.
قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ قال بعضهم: هذا على سبيل المثل، والعرب إذا أرادت تعظيم ملك، عظيم الشأن، عظيم العطية تقول: كَسَفَ القَمَرُ لِفَقْدِهِ، وبَكَت الرِّيحُ والسَّمَاءُ وَالأرْضُ، وقد ذكروا ذلك في أشعارهم، فأخبر الله تعالى، أن فرعون لم يكن ممن يجزع له جازع، ولم يقم لفقده فقد، وقال بعضهم: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ يعني: أهل السماء، وأهل الأرض. فأقام السماء والأرض مقام أهلها. كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقال بعضهم: يعني: بكت السماء بعينها، وبكت الأرض. وقال ابن عباس: «لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بَابٌ في السَّمَاءِ، يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ، وَيَنْزِلُ مِنهُ رِزْقُهُ، فَإذا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ بَابُه فِي السَّمَاءِ، وَبَكَتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ فِي الأرْضِ» وذكر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه سئل:
أتبكي السماء والأرض على أحد؟ قال نعم، إذا مات المؤمن، بكت عليه معادنه من الأرض، التي كان يذكر الله تعالى فيها ويصلي، وبكى عليه بابه الذي كان يرفع فيه عمله، فأخبر الله تعالى:
أن قوم فرعون، لم تبك عليهم السماء والأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ يعني: مؤجلين.

[سورة الدخان (44) : الآيات 30 الى 37]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني: من العذاب الشديد. ويقال:
المهين يعني: الهوان. وهو قتل الأبناء، واستخدام البنات مِنْ فِرْعَوْنَ يعني: من عذاب فرعون إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ يعني: كان عاصياً، عاتياً، مستكبراً، متعظماً وكان من المسرفين. يعني: من المشركين وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ يعني: اصطفينا بني إسرائيل عَلى عِلْمٍ يعني: على علم من الله تعالى، أنهم أهل لذلك. ويقال: عَلى عِلْمٍ الله فيهم من صبرهم عَلَى الْعالَمِينَ يعني: على عالمي زمانهم وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ يعني: أعطيناهم من العلامات مَا فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ يعني: ابتلاء بيناً، مثل انفلاق البحر، وأشباه ذلك.

(3/271)


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

ثم ذِكْرِ كُفَّار مَكَّةَ فقال: إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يعني: ما هي إلا موتتنا الأولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بعدها فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنا نبعث بعد الموت، يعني: قالوا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ يعني: قومك خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ، وإنما ذكر قوم تبع، لأنهم كانوا أقرب إلى أهل مكة في الهلاك من غيرهم.
قال الكلبي: وكانوا أشراف حمير وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ فكيف لا نهلك قومك إذا كذبوك قال: وكان تبع اسم ملك منهم، مثل فرعون. ويقال: إنما سمي تبع، لكثرة أتباعه، فأسلم فخالفوه فأهلكهم الله تعالى، وكان اسمه سعد بن ملكي كرب.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أن عائشة- رضي الله عنها- قالت: إن تبع كان رجلاً صالحاً. وكان كعب الأحبار يقول: ذم الله قومه، ولم يذمه. وقال سعيد بن جبير:
أن تبعاً كسا البيت، يعني: الكعبة. وقال القتبي: هم ملوك اليمن، كل واحد منهم يسعى تبعاً، لأنه يتبع صاحبه، وكذلك الظل يسمى: تبعاً لأنه يتبع الشمس، وموضع التبع في الجاهلية، موضع الخليفة في الإسلام، وهم ملوك العرب. ثم قال: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: من قبل تبع أَهْلَكْناهُمْ يعني: عذبناهم عند التكذيب إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ يعني: مشركين.

[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 42]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ يعني: عابثين لغير شيء مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ يعني: إلا لأمر هو كائن. ويقال: خلقناهما للعبرة، ومنفعة الخلق ويقال: للأمر والنهي، والترهيب والترغيب وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: لا يصدقون ولا يفقهون.
قوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء بين الخلق، وهو يوم القيامة مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: ميعادهم أجمعين، الأولين والآخرين. ويقال: يوم الفصل، يعني: يوم يفصل بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوج والزوجة، والخليل والخليلة، ثم وصف ذلك اليوم فقال: يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً يعني: لا يدفع ولي عن ولي، ولا قريب عن قريب شيئاً في الشفاعة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يعني: لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب. يعني:
الكافرين. ثم وصف المؤمنين، فإنه يشفع بعضهم لبعض فقال: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ في نعمته للكافرين الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

(3/272)


إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 50]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ يعني: الفاجر وهو الوليد، وأبو جهل، ومن كان مثل حالهما كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ يعني: كالصفر المذاب. قرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص كَالْمُهْلِ يَغْلِي، بالياء بلفظ التذكير. والباقون بلفظ التأنيث، فمن قرأ بلفظ التذكير، رده إلى المهل. ومن قرأ بلفظ التأنيث، رده إلى الشجرة كَغَلْيِ الْحَمِيمِ يعني: الماء الحار الذي قد انتهى حره.
ثم قال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ يعني: فسوقوه وادفعوه إلى وسط الجحيم. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر فَاعْتُلُوه بضم التاء، والباقون بالكسر، وهما لغتان، معناهما واحد، يعني: امضوا به بالعنف والشدة. وقال مقاتل: يعني: ادفعوه على وجهه.
وقال القتبي: خذوه بالعنف ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ويقال له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وذلك أن أبا جهل قال: أنا في الدنيا أعز أهل هذا الوادي، وأكرمه فيقال له في الآخرة: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، يعني: المتعزز المتكرم، كما قلت في الدنيا.
قوله عز وجل: إِنَّ هذا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ يعني: تشكون في الدنيا. قرأ الكسائي ذُقْ إِنَّكَ بنصب الألف، والباقون بالكسر. فمن قرأ بالنصب فمعناه ذق يا أبا جهل، لأنك قلت:
أنك أعز أهل هذا الوادي فقال الله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ القائل أنا الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] ومن قرأ بالكسر، فهو على الاستئناف. ثم وصف حال المؤمنين في الآخرة.

[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

(3/273)


فقال تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ يعني: في منازل حسنة، آمنين من العذاب.
قرأ نافع، وابن عامر فِي مُقَامٍ، بضم الميم. والباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب يعني:
المكان والموضع، ومن قرأ بالضم يعني: الإقامةي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
يعني: في بساتين، وأنهار جارية يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ يعني: ما لطف من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ يعني: ما ثخن منه مُتَقابِلِينَ يعني: متواجهين كما قال في آية أخرى إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) [الحجر: 47] ثُم قال: كَذلِكَ يعني: هكذا، كما ذكرت لهم في الجنة.
ثم قال عز وجل: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يعني: بيض الوجوه حسان الأعين يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ يعني: ما يتمنون من الفواكه، آمنين من الموت ومن زوال المملكة.
ويقال: آمِنِينَ مما يلقى أهل النار لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ يعني: في الجنة إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى يعني: سوى ما قضى عليهم من الموتة الأولى في الدنيا وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ يعني: يصرف عنهم عذاب النار قوله تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يعني: هذا الثواب، عطاء من ربك للمؤمنين المخلصين ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني: النجاة الوافرة فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ يعني: هونا قراءة القرآن على لسانك، لكي تقرأه وتخبرهم بذلك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يعني: يتعظون بالقرآن فَارْتَقِبْ يعني: انتظر بهلاكهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ يعني: منتظرون بهلاكك. روى يعلى بن عبيد، عن إسماعيل، عن عبد الله بن عيسى قال: أخبرت أنه: من قرأ ليلة الجمعة سورة الدخان إيماناً، واحتساباً وتصديقاً، أصبح مغفوراً له، والله أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي، وآله وأزواجه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما دائما.

(3/274)


حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)

سورة الجاثية
وهي ثلاثون وسبع آية مكية

[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله تبارك وتعالى: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ يعني: هذا الكتاب تنزيل مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقد ذكرناه إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: لعبرات للمؤمنين في خلقهن. ويقال: معناه أن ما في السموات من الشمس، والقمر، والنجوم، وفي الأرض من الجبال، والأشجار، والأنهار وغيرها من العجائب، لعبرات ودلائل، واضحات للمؤمنين.
يعني: للمقرين المصدقين ويقال لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: لمن أراد أن يؤمن، ويتقي الشرك.
قوله عز وجل: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ يعني: وفيما خلق من الدواب آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني: عبرات ودلائل لمن كان له يقين. قرأ حمزة والكسائي آيَاتٍ بالكسر، والباقون بالضم. وكذلك الاختلاف في الذي بعده، فمن قرأ بالكسر، فإن المعنى: إن في خلقكم آيات لقوم يوقنون، فهو في موضع النصب إلاَّ أن هذه التاء تصير خفضاً في موضع النصب وإنما أضمر فيه إنَّ لأَنَّ قوله: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ في موضع النصب، فكذلك في الثاني معناه: إن في خلقكم آيات. ومن قرأ بالضم، فهو على الاستئناف على معنى، وفي خلقكم آيات.
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعني: في اختلاف الليل والنهار، في سَوادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ يعني: في اختلاف ألوانهما، وذهاب الليل ومجيء النهار وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ

(3/275)


وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

رِزْقٍ
وهو المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يعني: بعد يبسها وقحطها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ مرة رحمة، ومرة عذاباً. ويقال: مرة جنوباً ومرة شمالاً.
ثم قال: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني: هذه دلائل الله، وعلامة وحدانيته نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ يعني: يقرأ عليك جبريل من القرآن بأمر الله فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ قال مقاتل: إن لم تؤمنوا بهذا القرآن، فبأي حديث بعد توحيد الله وبعد القرآن تؤمنون. يعني: تصدقون.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11]
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يعني: كذاب فاجر يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ يعني: القرآن تُتْلى عَلَيْهِ يعني: يعرض عليه، ويقرأ عليه ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً يعني: يقيم على الكفر، متكبراً عن الإيمان كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها يعني: كأن لم يعقلها، ولم يفهمها فَبَشِّرْهُ يا محمد بِعَذابٍ أَلِيمٍ يعني: شديد. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر، وَآيَاتِهِ تُؤْمِنُونَ بالتاء على معنى المخاطبة. والباقون بالياء، على معنى الخبر عنهم.
قوله عز وجل: وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً يعني: إذا سمع من آياتنا، يعني: من القرآن، اتخذها هزءاً. يعني: سخرية. ويقال: مثل حديث رستم واسفنديار، وهو النضر بن الحارث أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهانون فيه. قوله تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ يعني: أمامهم جهنم. ويقال: من بعدهم في الآخرة جهنم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَّا كَسَبُوا شَيْئاً يعني: لا ينفعهم ما جمعوا من المال. وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني: لا ينفعهم ما عبدوا دونه من الأصنام وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
قوله تعالى: هذا هُدىً يعني: هذا القرآن بيان من الضلالة. ويقال: هذا العذاب الذي حق وَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني: جحدوا بِآياتِ رَبِّهِمْ يعني: بالقرآن لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ يعني: وجيع في الآخرة. قرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص أَلِيمٌ، بضم الميم، والباقون بكسر الميم، كما ذكرنا في سورة سبأ، ثم ذكرهم النعم ليعتبروا.

(3/276)


اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 14]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
فقال تعالى اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وقد ذكرناه. ثم قال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني: ذلل لكم ما في السموات وما في الأرض، لصلاحكم. ثم قال تعالى: جَمِيعاً مِنْهُ يعني: جميع ما سخر الله تعالى، هو من قدرته ورحمته. ويقال: جَمِيعاً مِنْهُ يعني: مِنَّةً منه. قال مقاتل:
يعني: جميعاً من أمره. وروى عكرمة، عن ابن عباس قال: جميعاً منه، منه النور، ومنه الشمس ومنه القمر.
إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: فيما ذكر لَآياتٍ يعني: دلالات وعبرات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعتبرون في صنعه وتوحيده. وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم «أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ فِي الخَالِق، فَقَالَ: تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ، وَلا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ» . وروى وكيع، عن هشام، عن عروة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أحَدَكُم، فَيَقُول: مَنْ خَلَقَ السماء؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله تعالى؟
فإذا افْتُتِنَ أَحَدُكُمُ بِذَلِكَ، فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِالله وَرَسُولُهُ» .
قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا قال مقاتل والكلبي: وذلك، أن رجلاً من الكفار من قريش، شتم عمر رضي الله عنه بمكة، فهم عمر بأن يبطش به، فأمره الله بأن يتجاوز عنه.
فقال: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا، يعني: عمر يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ يعني: يتجاوزوا، ولا يعاقبوا الذين لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ يعني: لا يخافون عقوبته التي أهلك بها عاداً وثموداً، والقرون التي أهلكت قبلهم. يعني: لا يخشون مثل أيام الأمم الخالية. قال قتادة: ثم نسختها آية القتال وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] ثم قال: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني:
يجزيهم بأعمالهم في الآخرة. قال مجاهد: لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، يعني: لا ينالون نعم الله.
قرأ حمزة والكسائي، وابن عامر لِنَجْزِيَ بالنون على الإضافة إلى نفسه. والباقون لِنَجْزِيَ بالياء، أي: ليجزي الله.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 15 الى 20]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

(3/277)


قوله عز وجل: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ يعني: ثوابه لنفسه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يعني:
عقوبته عليها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ يعني: أولاد يعقوب الْكِتابَ أي: التوراة، والزبور، والإنجيل، لأن موسى وداود وعيسى كانوا في بني إسرائيل وَالْحُكْمَ يعني: الفهم والعلم وَالنُّبُوَّةَ يعني:
جعلنا فيهم النبوة، فكان فيهم ألف نبي.
وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني: الحلال من الرزق، وهو المن والسلوى. ويقال:
رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني: أورثناهم أموال فرعون وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يعني:
فضلناهم بالإسلام على عالمي زمانهم. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ يعني: الحلال والحرام، وبيان ما كان قبلهم، ثم اختلفوا بعده قوله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا يعني: في الدين إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم في كتبهم بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني: حسداً منهم، وطلباً للعز والملك. ويقال: اختلفوا في الدين، فصاروا أحزاباً فيما بينهم، يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من دين بعض.
ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني: يحكم بينهم فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في الكتاب والدين. قوله عز وجل: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ يعني:
أمرناك وألزمناك وأثبتناك على شريعة. ويقال: على سنة من الأمر وذلك حين دعوه إلى ملتهم.
ويقال: على شريعة. يعني: على ملة ومذهب. وقال قتادة: الشريعة الفرائض والحدود والأحكام. فَاتَّبِعْها يعني: اثبت عليها.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ أي: لا يصدقون بالتوحيد إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعني: إن تركت الإسلام، إنهم لا يمنعوك من عذاب الله شيئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني: بعضهم على دين بعض وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ أي: ناصر الموحدين المخلصين هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ يعني: يبصرهم ما لهم وما عليهم، والواحدة بصيرة

(3/278)


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

يعني: يبين لهم الحلال والحرام. ويقال: هذا القرآن دلائل للناس. ويقال: دعوة وكرامة.
ثم قال: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ أي: هُدًى من الضلالة، ورحمة من العذاب لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يعني: يصدقون بالرسل والكتاب، ويوقنون أن الله أنزله نعمة وفضلاً.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 23]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
َسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ يعني: اكتسبوا السيئات، وذلك أنهم كانوا يقولون:
إنا نعطى في الآخرة من الخير، ما لم تعطوا. قال الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
يعني: أيظن الذين عملوا الشرك، وهو عتبة وشيبة، والوليد وغيرهم أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
يعني: علياً وحمزة وعيينة بن الحارث- رضي الله عنهم- سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
يعني: يكونون سواء في نعم الآخرة، قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص، سَوَاءً بالنصب والباقون بالضم، فمن قرأ بالنصب فمعناه: أحسبوا أن نجعلهم سواء، أي: مستوياً فيجعل أَن نَّجْعَلَهُمْ متعدياً إلى مفعولين. ومن قرأ بالضم، جعل تمام الكلام عند قوله: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
ثم ابتدأ فقال: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
خبر الابتداء وقال مجاهد: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
قال: المؤمنون في الدنيا والآخرة، مؤمن يكون على إيمانه، يموت على إيمانه، ويبعث على إيمانه والكافر في الدنيا والآخرة، كافر يموت على الكفر، ويبعث على الكفر.
وروى أبو الزبير عن جابر قال: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ المُؤمِنُ عَلَى إيمانِه، والمُنَافِقُ عَلَى نِفَاقِه» ثم قال: ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
أي: بئس ما يقضون الخير لأنفسهم، حين يرون أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الآخرة، ما للمؤمنين. قوله عز وجل: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وقد ذكرناه وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يعني: ما عملت وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ يعني: لا ينقصون من ثواب أعمالهم، ولا يُزادون على سيئاتهم.
قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قال: يعمل بهواه، ولا يهوى شيئاً إلا ركبه، ولا يخاف الله وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ يعني: علم منه، أنه ليس من أهل الهدى وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ يعني: خذله الله، فلم يسمع الهدى، وقلبه يعني: ختم على قلبه، فلا يرغب في الحق وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً يعني: غطاء. كي لا يعتبر في دلائل الله تعالى. قرأ حمزة

(3/279)


وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)

والكسائي غشوة بنصب الغين بغير ألف، والباقون غِشَاوَةً. كما اختلفوا في سورة البقرة، ومعناهما واحد فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ يعني: من بعد ما أضله الله أَفَلا تَذَكَّرُونَ أن من لا يقبل إلى دين الله، ولا يرغب في طاعته، لا يكرمه بالهدى والتوحيد.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 27]
وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قوله تعالى: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يعني: آجالنا تنقضي، نموت ويحيي آخرون. يعني: نموت نحن ويحيا أولادنا ويقال يموت قوم ويحيا آخرون ووجه آخر نَمُوتُ وَنَحْيا يعني: نحيا ونموت، لأن الواو للجمع لا للتأخير، ووجه آخر نموت ونحيا، أي: كنا أمواتاً في أصل الخلقة، ثم نحيا، ثم يهلكنا الدهر فذلك قوله: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ يعني:
لا يميتنا إلا مضي الأيام، وطول العمر.
قال الله تعالى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يعني: يقولون قولاً بغير حجة، ويتكلمون بالجهل إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ يعني: ما هم إلا جاهلون. قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ يعني: تعرض عليهم آيات القرآن واضحات، بين فيه الحلال والحرام مَّا كانَ حُجَّتَهُمْ أي: لم تكن حجتهم وجوابهم إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا يعني: أحيوا لنا آباءنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنا نبعث قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ يخلقكم من النطفة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم.
ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني: يوم القيامة يجمع أولكم وآخركم لاَ رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه عند المؤمنين، ويقال: لا ينبغي أن يشك فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: البعث بعد الموت. قوله عز وجل: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض. ويقال. له: نفاذ الأمر في السموات والأرض وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ يعني: يخسر المكذبون بالبعث، وهم أهل الباطل والكذب. ثم قال:
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف: 187] .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 28 الى 31]
وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)

(3/280)


وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً يعني: مجتمعة للحساب على الركب كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا يعني: إلى ما في كتابها من خير أو شر، وهذا كقوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] يعني: بكتابهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: يقال لهم: اليوم تثابون بما كنتم تعملون في الدنيا، من خير أو شر. قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ يعني: هذا الذي كتب عليكم الحفظة يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ يعني: يشهد عليكم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: نستنسخ عملكم من اللوح المحفوظ، نسخة أعمالكم، مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الحسنات والسيئات.
قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا الماسرجسي قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدّثنا أرطأة بن المنذر. قال: عن مجاهد، عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما خَلَقَ الله القَلَمَ، فَكَتَبَ ما يكون في الدنيا مِنْ عَمَلٍ مَعْمُولٍ، براً وفاجَراً وَأحْصَاهُ فِي الذّكْرِ فَاقْرَؤُوا إِن شِئْتُمْ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهَلَ يَكُونُ النّسْخُ إِلاّ مِنْ شَيءٍ قَدْ فُرِغٍ مِنْهُ» . وروى الضحاك، عن ابن عباس، أن الله تعالى وكل ملائكته، يستنسخون من ذلك الكتاب المكتوب عنده كل عام في شهر رمضان، ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيعارضون به، حفظه الله تعالى على عبادة كل عشية خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك، لا زيادة فيه ولا نقصان.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ألستم قوماً عرباً، هل يكُون النَّسخ إِلاَّ من أَصْل كَان قَبْل ذَلِكَ؟ وقال القتبي: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ. قال إن الحفظة يكتبون جميع ما يكون من العبد، ثم يقابلونه بما في أم الكتاب، فما فيه من ثواب أو عقاب أثبت، وما لم يكن فيه ثواب ولا عقاب محي فذلك قوله: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] الآية. وقال الكلبي:
يرفعان ما كتبا، فينسخان ما فيها من خير أو شر. ويطرح ما سوى ذلك.
قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وقد ذكرناه. قوله عز وجل: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: جحدوا بالكتاب والرسل والتوحيد. يقال لهم: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: تقرأ عليكم في الدنيا فَاسْتَكْبَرْتُمْ يعني: تكبرتم عن الإيمان والقرآن وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ يعني: مشركين، كافرين بالرسل والكتب.

(3/281)


وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

[سورة الجاثية (45) : الآيات 32 الى 37]
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36)
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني: إذا قال لكم الرسل في الدنيا، إن البعث بعد الموت حق وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيها أي: لا شك فيها. قرأ حمزة وَالسَّاعَةُ بالنصب، عطف على قوله: أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ قرأ الباقون بالضم، ومعناه: وَإِذَا قيل: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيها، أي: لا شك فيها قُلْتُمْ مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ يعني: ما القيامة، وما البعث إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا يعني: قلتم ما نظن إلا ظناً غير اليقين وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أنها كائنة.
قوله عز وجل: وَبَدا لَهُمْ أي: ظهر لهم سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا يعني: عقوبات ما عملوا في الدنيا. ويقال: تشهد عليهم جوارحهم وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني:
نزل بهم العذاب، ووجب عليهم العذاب، باستهزائهم إنه غير نازل بهم وَقِيلَ يعني: قالت لهم الخزنة الْيَوْمَ نَنْساكُمْ يعني: نترككم في النار. كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يعني:
كما تركتم الإيمان والعمل، لحضور يومكم هذا.
وَمَأْواكُمُ النَّارُ يعني: مثواكم ومستقركم النار وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني: ليس لكم مانع يمنعكم، مما نزل بكم من العذاب ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً يعني: هذا العذاب، بأنكم لم تؤمنوا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني: ما في الدنيا من زينتها وزهرتها فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْها قرأ حمزة، والكسائي بنصب الياء، فيجعلان الفعل لهم. والباقون بالضم على فعل، ما لم يسم فاعله. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يعني: لا يرجعون إلى الدنيا. وقال الكلبي: لا يعاتبون بعد هذا القول، ويتركون في النار. ويقال: لا يراجعون الكلام بعد دخولهم النار فَلِلَّهِ الْحَمْدُ يعني: عند ذلك، يحمد المؤمنون الله في الجنة. كقوله:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر: 74] ويقال: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ يعني: له آثار الحمد،

(3/282)


فعلى جميع الخلق أن يحمدوه. ويقال: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ يعني: الألوهية والربوبية رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ يعني: الحمد لرب الأرض رَبِّ الْعالَمِينَ يعني: لرب جميع الخلق الحمد والثناء وَلَهُ الْكِبْرِياءُ يعني: العظمة، والقدرة، والسلطان، والعزة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في أمره وقضائه، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(3/283)