تفسير السمرقندي بحر العلوم

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

سورة الفتح
وهي عشرون وتسع آيات مدنية

[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
قوله تبارك وتعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يعني: قضينا لك قضاء بيناً. أكرمناك بالإسلام، والنبوة، وأمرناك بأن تدعو الخلق إليه. قال مقاتل: وذلك أنه لما نزل بمكة وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وكان المشركون يقولون: لم تتبعون رجلاً لا يدري ما يفعل به، ولا بمن تابعه. فلما قدم المدينة، عيّرهم بذلك المنافقون أيضاً. فعلم الله تعالى ما في قلوب المؤمنين من الحزم، وما في قلوب الكافرين من الفرح. فنزل إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يعني: قضينا لك قضاء بيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
فقال المؤمنون: هذا لك! فما لنا؟ فنزل لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الفتح: 5] الآية. فقال المنافقون فما لنا؟ فنزل وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الفتح: 6] الآية. وقال الزجاج: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ يعني: فتح الحديبية، والحديبية بئر سمي المكان بها. والفتح هو الظفر بالمكان، كان بحرب أو بغير حرب. قال: ومعنى الفتح الهداية إلى الإسلام. وكان في فتح الحديبية، معجزة من معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنها بئر فاستسقى جميع ما فيها من الماء، ولم يبق فيها شيء، فمضمض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم مجه فيها، فدرّت البئر بالماء. ثم قال: لِيَغْفِرَ لَكَ قال بعضهم: هذه لام كي. فكأنه قال: لكي يغفر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ يعني: ذنب آدم وَما تَأَخَّرَ يعني: ذنب أمتك. وقال القتبي: هذه لام القسم فكأَنه قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ويقال: ما كان قبل نزول الوحي، وما كان بعده.
قوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة، وبإظهار الدين وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني: يثبتك على الهدى، وهو طريق الأنبياء وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ يعني: لكي ينصرك الله على عدوك نَصْراً عَزِيزاً بإظهار الإسلام.

(3/308)


هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)

[سورة الفتح (48) : آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم تجهز في سنة ست في ذي القعدة، فخرج إلى العمرة معه ألف وستمائة رجل، ويقال: ألف وأربعمائة، وساق سبعين بدنة. فبلغ قريشاً خبر النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، فبعثوا خالد بن الوليد في عصابة منهم ليصدوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت؟ فلما نزل النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعسفان قال: «إنَّ قُرَيْشاً جَعَلَتْ لِي عُيُوناً، فَمَنْ يَدُلُّنِي عَلَى طَرِيقِ الثَّنِيَّةِ» . فقال رجل من المسلمين: أنا يا رسول الله فخرج بهم، وانتهوا إلى الثنية، وصعدوا فيها. فلما هبط رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الثنية، بركت ناقته القصواء، فلم تنبعث، فزجرَها، وزجرها الناس، وضربوها، فلم تنبعث. فقال الناس: خلأت القصواء أي: صارت حروناً. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ما خَلأَتِ القَصْوَاءُ، وَمَا كَانَ ذلك لَهَا بِخُلُقٍ، ولكن حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ» ، ثم قال: «لا يَسْأَلُونَنِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ شَيْئاً يعظمون به حرماتهم، إلا قِبْلتُهُ مِنْهُمْ» ثَم زجرها، فانبعثت.
فلما نزلوا على القليب بالحديبية، لم يكن في البئر إلا ماء وشيك. يعني: قليل متغير، فاستسقوا فلم يبق في البئر ماء. فقال: مَن رجل يهيج لنا الماء؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله.
فقال: «ما اسمك» ؟ قال: مرة. فقال: «تأخر» ، فقال رجل آخر أنا يا رسول الله، فقال: «ما اسمك؟» . قال: ناجيه. فقال: «أنْزِلْ» . فنزل، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشقصاً، فبحت به البئر، فنبع الماء. وقال في رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كان ماء الحديبية قد قل. فأتى بدلو من ماء، فتوضأ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجعل منه في فيه، ثم مجه في الدلو، ثم أمرهم بأن يجعلوه في البئر، ففعلوا، فامتلأت البئر حتى كادوا يغرقون منها وهم جلوس. ففزع المشركون لنزول النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية، فجاؤوه، واستعدوا ليصدوه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعمر: «يا عُمَرُ اذْهَبْ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عَلَيْهِمْ حَتَّى نَعْتَمِرَ، وَيُخْلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ البَيْتِ، لا أُرِيدُ مِنْهُمْ غَيْرَهُ» . فقال عمر: يا رسول الله ليس ثم أحد من قومي يمنعني. فأرسل عثمان، فإن هناك ناساً من بني عمه، يمنعونه، فذهب عثمان، فتلقاه أبان بن سعيد بن العاص، فقال له: أجرني من قومك حتى أبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجاره، وحمله على فرسه وراءه، ودخل به مكة فاستأذن عثمان قريشاً، فأبوا أن يأذنوا له. فقال: أبان لعثمان! طف أنت إن شئت. فقال: لما كنت لأتقدم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبقي هناك ثلاثة أيام، فذكر للنبي صلّى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. فقال لأصحابه: بايعوني على الموت. فجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فبايعه أصحابه على الموت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إِنِّي أَخَافُ أَلاَّ يُدْرِكَ عُثْمَانَ هَذِهِ البَيْعَةَ، فَأَنَا أُبَايِعُ لَهُ يَمِينِي

(3/309)


بِشمَالِي» . ثم رجع عثمان، فأخبر أنهم قد أبوا ذلك، وبلغت قريشاً البيعة، فكبرت تلك البيعة عندهم، وقالوا ليزيد بن الحارث الكناني: أردده عنا فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «ابْعَثُوا الهَدْيَ فِي وَجْهِهِ يَرَاهَا، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ يُعَظِّمُونَ الهَدْيَ» . فبعثوا الهدي في وجهه، فلما رأى يزيد بن الحارث الهدي قال: ما أرى أحداً يفلح بردّ هذا الهدي، ورجع إلى قريش. فقال لهم: لا تردوا هذا الهدي فإني أخشى أن يصيبكم عذاب من السماء. فأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فجلس إليه، فقال: يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة، فجعل يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويومئ بيديه إلى لحيته، وكان المغيرة قائماً عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فضربه بالسوط على يده، وقال: اكفف يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يصل إليك ما تكره.
فقال عروة: من هذا يا محمد؟ فقال: ابن أخيك المغيرة بن شعبة. فقال: يا غدر ما غسلت سلحتك عني بعد. أفتضرب يدي؟ قال: اكففها قبل أن لا تصل إليك. فرجع عروة إلى قريش، فقالوا له: ما ورائك يا أبا يعقوب؟ فقال: خلوا سبيل الرجل يعتمر، فإني حضرت كسرى، وقيصر، والنجاشي، فما رأيت ملكاً قط أصحابه أطوع من هذا الملك. والله إنه ليتنخم فيبتدرون نخامته، والله إنه ليجلس فيبتدرون التراب الذي يجلس عليه، وإنه ليتوضأ فيبتدرون وضوءه. فقالوا: جبنت، وانتفح سحرك. ثم قالوا لسهيل بن عمرو: اذهب واردده عنا، وصالحه. فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قَدْ سَهُلَ أمْرُهُمْ» ، فجاءه سهيل في نفر من قريش فقال: يا محمد ارجع عن قومك هذه المرة، على أن لك أن تأتيهم من العام المقبل، فتعتمر أنت، وأصحابك، ويدخل كل إنسان منكم بسلاحه راكباً، فتصالحنا على أن لا تقاتلنا، ولا نقاتلك سنتين. فرضي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك. فقال: اكتب بيننا وبينك كتاباً، فأمر علياً رضي الله عنه إن يكتب، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن.
قال: فكيف أكتب؟ قال: اكتب باسمك اللهم فكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله، لاتبعتك. أفترغب عن اسم أبيك؟ فقال علي رضي الله عنه: فو الله إنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على رغم أنفك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا مَحَمَّدٌ رَسُولُ الله، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله، اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله» ، لأنه كان عهد أن لا يسألوه عن شيئاً يعظمون به حرماتهم إلا قبله. فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، ألاّ تقاتلنا، ولا نقاتلك سنتين، وندخل في حلفنا من نشاء، وتدخلوا في حلفكم من شئتم، وعلى أنكم تأتون من العام المقبل، وتقيمون ثلاثة أيام، ثم ترجعون، وعلى أن ما جاء منا إليكم لا تقبلوه، وتردوه إلينا، ومن جاء منكم إلينا فهو منا، فلا نرده إليكم، فشق ذلك الشرط على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله من لحق بنا منهم لم نقبله، ومن لحق بهم منا فهو لهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأمَّا مَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنَّا فَأبْعَدَهُ الله وَأَوْلَى بِمَنْ كَفر. وَأمَّا مَنْ أرَادَ أنْ يَلْحَقَ بِنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ الله لَهُ مَخْرِجَاً» . فجاء أبو جندل بن سهيل يوسف في

(3/310)


الحديد، يعني: يمشي مشي الأعرج قد أسلم، فأوثقه أبوه حين خشي أن يذهب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فلما وقع في ظهراني المسلمين، قال: إني مسلم. فجاء أبوه فقال: إنما كتبنا الكتاب الساعة. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله حق وأنت نبيه؟
قال: «بَلَى» . قال: ونحن قوم مؤمنون؟ وهم كفار؟ قال: «بَلَى» . قال: فلم نُعْطِي الدنية في ديننا؟ قال: «إنَّمَا كَتَبْنَا الكِتَابَ السَّاعَةَ» . فتحول عمر إلى أبي جندل فقال: يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله، وإن دم الكافر لا يساوي دم كلب، وجعل عمر يقرب إليه سيفه كيما يأخذه، ويضرب به أباه. فقال أبو جندل: ما لك لا تقتله أنت؟ فقال عمر: نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم مني، لا أقتل أبي، فأخذ سهيل بن عمرو غصناً من أغصان تلك الشجرة، فضرب به وجه أبي جندل، والمسلمون يبكون. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ، فَإنْ يَعْلَمِ الله مِنْ أبِي جَنْدَلٍ الصَّدْقَ يُنْجِهِ مِنْهُمّ» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسهيل: «هَبْهُ لِي» فقال سهيل: لا. فقال: مكرز بن حفص: قد أجرته. يعني:
أمنته فآمنه حتى رده إلى مكة، فأنجى الله تعالى أبا جندل من أيديهم بعد ما رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فخرج إلى شط البحر، واجتمع إليه قريباً من سبعين رجلاً، كرهوا أن يقيموا مع المشركين، وعلموا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لن يقبلهم حتى تنقضي المدة، فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة إلى الشام، أو مدبرة فأخذوها، وجعلوا يقطعون الطريق على المشركين، فأرسل المشركون إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يناشدونه إلا قبضهم إليه، وقالوا له: أنت في حلَ منهم. فالتحقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعلم الذين كرهوا الصلح، أن الخير فيما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا البدن، ويحلقوا الرؤوس، فلم يفعل ذلك منهم أحد. فدخل النبيّ صلّى الله عليه وسلم على أم سلمة فقال: ألا تعجبين؟ أمرت الناس أن ينحروا البدن، ويحلقوا. فلم يفعل أحد منهم. فقالت أم سلمة: قم أنت يا رسول الله وانحر بدنك، واحلق رأسك، فإنهم سيقتدون بك. فنحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم البدن، وحلق رأسه، ففعل القوم كلهم، فحلق بعضهم، وقصر بعضهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ» . فقالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ فقال: «يَرْحَمُ الله المُحَلِّقِينَ، والمقصرين» . فرجع النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فنزل إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً إلى قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: السكون، والطمأنينة في البيعة، في قلوب المؤمنين. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يعني: تصديقاً مع تصديقهم الذي هم عليه.
ويقال: تصديقاً بما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في البيعة. ويقال: يعني: إقراراً بالفرائض، مع إقرارهم بالله تعالى. وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ قال: يعني: الرحمة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً. قال: إن الله تعالى بعث رسوله صلّى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله، كما قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الاخلاص] فلما

(3/311)


لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)

صدقوا بها، زادهم الصلاة. فلما صدقوا بها زادهم الزكاة. فلما صدقوا بها زادهم الصوم. فلما صدقوا بها زادهم الحج. فلما صدقوا به زادهم الجهاد. يعني: إن في كل ذلك يزيد تصديقاً مع تصديقهم.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فجنود السموات الملائكة، وجنود الأرض المؤمنون من الجن والإنس وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في أمره حيث حكم بالنصر للمؤمنين يوم بدر.

[سورة الفتح (48) : الآيات 5 الى 9]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
قوله عز وجل: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني: المصدقين والمصدقات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني: من تحت غرفها، وأشجارها خالِدِينَ فِيها يعني: دائمين مقيمين، لا يموتون، ولا يخرجون منها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني: يمحو، ويتجاوز عن سيئاتهم. يعني: عن ذنوبهم وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً في الآخرة. أي: نجاة وافرة من العذاب.
ثم قال: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ يعني: ولكن يعذب المنافقين، والمنافقات، من أهل المدينة وَالْمُشْرِكِينَ من أهل مكة وَالْمُشْرِكاتِ الذين أقاموا على عبادة الأصنام.
قوله: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ وظنهم ترك التصديق بالله تعالى ورسوله، مخافة ألا ينصر محمد صلّى الله عليه وسلم كما قال تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ [الفتح: 12] .
ثم قال: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ يعني: عاقبة العذاب والهزيمة وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ في الدنيا وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ في الآخرة وَساءَتْ مَصِيراً يعني: بئس المصير الذي صاروا إليه.

(3/312)


إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

قوله تعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً بالنقمة لمن مات على كفره، ونفاقه. حَكِيماً في أمره، وقضائه، حكم بالنصرة للنبي صلّى الله عليه وسلم.
ثم قال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً يعني: بعثناك شاهداً بالبلاغ إلى أمتك وَمُبَشِّراً لمن أجابك بالجنة وَنَذِيراً يعني: مخوفاً للكفار بالنار لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: لتصدقوا بالله فيما يأمركم، وتصدقوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلم وَتُعَزِّرُوهُ يعني: لكي تعينوه، وتنصروه على عدوه بالسيف، وَتُوَقِّرُوهُ أي: تعظموا النبي صلّى الله عليه وسلم وَتُسَبِّحُوهُ يعني: تصلوا لله تبارك وتعالى بُكْرَةً وَأَصِيلًا يعني: غدوة وعشياً. فكأنه قال: لتؤمنوا بالله وتسبحوه، وتؤمنوا برسوله، وتعزروه، وتوقروه. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: لِيُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ويعزّروه ويوقّروه ويسبّحوه كلها بالياء على معنى الخبر عنهم، وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: دَائِرَةُ السوء بضم السين. وقرأ الباقون: بالنصب، كقولك رجل سوء، وعمل سوء، وقد روي عمر عن ابن كثير، وأبي عمرو: بالنصب أيضا.

[سورة الفتح (48) : الآيات 10 الى 14]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يعني: يوم الحديبية تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، قال الكلبي: بايعوا تحت الشجرة، وهي شجرة السَّمرة، وهم يومئذٍ ألف وخمسمائة وأربعون رجلاً. وروى هشام عن محمد بن الحسن قال: كانت الشجرة أم غيلان. إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يعني: كأنهم يبايعون الله، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلم إنما بايعهم بأمر الله تعالى. ويقال:
إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي: لأجله، وطلب رضاه.

(3/313)


ثم قال: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يعني: يد الله بالنصرة، والغلبة، والمغفرة، فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالطاعة. وقال الزجاج: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ يحتمل ثلاثة أوجه. أحدها يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالوفاء، ويحتمل يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالثواب، فهذان وجهان جاءا في التفسير، ويحتمل أيضاً يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ في المِنَّة عليهم، وفي الهداية فوق أيديهم في الطاعة.
فَمَنْ نَكَثَ يعني: نقض العهد، والبيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يعني: عقوبته على نَفْسِهِ. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ قرأ حفص: برفع الهاء. أي: وفى بما عاهد عليه من البيعة، فيتم ذلك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعني: أوفى بما عاهد الله عليه من البيعة، والتمام في ذلك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً في الجنة. قرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر: فَسَنُؤْتِيهِ بالنون. والباقون: بالياء. وكلاهما يرجع إلى معنى واحد. يعني: سيؤتيه الله ثواباً عظيماً.
قوله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ وهم أسلم، وأشجع، وغفار، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم حين خرج إلى مكة عام الحديبية، فاستتبعهم، وكانت منازلهم بين مكة والمدينة.
فقالوا فيما بينهم: نذهب معه إلى قوم جاءوه فقتلوا أصحابه، فقاتلهم، فاعتلوا عليه بالشغل، حتى رجع، فأخبر الله تعالى رسوله قبل ذلك، أنه إذا رجع إليهم استقبلوه بالعذر، وهم كاذبون. فقال: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ يعني: الذين تخلفوا عن بيعة الحديبية شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا يعني: خفنا عليهم الضيعة، ولولا ذلك لخرجنا معك. فَاسْتَغْفِرْ لَنا في التخلف. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يعني: من طلب الاستغفار وهم لا يبالون، أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تستغفر لهم.
قُلْ يا محمد فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يعني: من يقدر أن يمنع عنكم من عذاب الله شيئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا يعني: قتلاً، أو هزيمة، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً يعني:
النصرة. قرأ حمزة والكسائي ضَرًّا بضم الضاد، وهو سوء الحال والمرض، وما أشبه ذلك.
والباقون: بالنصب. وهو ضد النفع. اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التقرير. يعني: لا يقدر أحد على دفع الضر، ومنع النفع غير الله.
ثم استأنف الكلام فقال: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يعني: عالماً بتخلفكم، ومرادكم.
قوله عز وجل: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ يعني: بل منعكم من السير معه، لأنكم ظننتم أن لن ينقلب الرسول وَالْمُؤْمِنُونَ من الحديبية إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي

(3/314)


سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)

قُلُوبِكُمْ
يعني: حُسِّن التخلف فى قلوبكم وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ يعني: حسبتم الظن القبيح وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يعني: هلكى. وروي عن ابن عباس أنه قال: البور في لغة أزد عمان:
الشيء الفاسد. والبور في كلام العرب: لا شيء. يعني: أعمالهم بور أي: مبطلة.
قوله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني: من لم يصدق بالله في السر، كما صدقه في العلانية فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً يعني: هيأنا لهم عذاب السعير.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض. ويقال:
ونفاذ الأمر في السموات والأرض. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وهو فضل منه المغفرة، وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء على الذنب الصغير، وهو عدل منه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً بهم.

[سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 20]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20)
ثم قال عز وجل: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ يعني: الذين تخلفوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني: إلى غنائم خيبر ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يعني: اتركونا نتّبعكم في ذلك الغزو يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ يعني: يغيروا كلام الله. يعني: ما قاله الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم: لا

(3/315)


تأذن لهم في غزاة أخرى. قرأ حمزة والكسائي: وهو جمع كلمة. والباقون كَلامَ اللَّهِ والكلام اسم لكل ما يتكلم به. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا في المسير إلى خيبر إلاَّ متطوعين، من غير أن يكون لكم شرك في الغنيمة. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يعني: من قبل الحديبية.
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا يعني: يقولون للمؤمنين: إن الله لم ينهكم عن ذلك، بل تحسدوننا على ما نصيب معكم من الغنائم.
قال الله تعالى: بَلْ كانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: لا يعقلون، ولا يرغبون في ترك النفاق، لا قليلاً، ولا كثيراً. ويقال: بل كانوا لا يفقهون النهي من الله تعالى إلا قليلاً منهم.
قوله عز وجل: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ يعني: الذين تخلفوا عن الحديبية، مخافة القتال سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني: قتال شديد. قال بعضهم: يعني: قتال أهل اليمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقال مجاهد: إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني: أهل الأوثان. وقال أيضاً: هم أهل فارس، وكذا قال عطاء، وقال سعيد بن جبير: هوازن، وثقيف. وقال الحسن: فارس، والروم.
تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ قرأ بعضهم أَوْ يُسْلِمُوا بألف من غير نون، وقراءة العامة بالنون. فمن قرأ: أو يسلموا يعني: حتى يسلموا، أو إلى أن يسلموا. ومن قرأ: بالنون.
فمعناه: تقاتلونهم أو هم يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يعني: تجيبوا، وتوقعوا القتال، وتخلصوا لله تعالى. يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعني: ثواباً حسناً في الآخرة. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني: تعرضوا عن الإجابة كما أعرضتم يوم الحديبية. يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني:
شديداً دائماً، فلما نزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة والضعفاء: فكيف بنا إذا دعينا إلى قتالتهم، ولا نستطيع الخروج، فيعذبنا الله؟ فنزل قوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وهذا قول الكلبي. وقال مقاتل: نزل العذر في الذين تخلفوا عن الحديبية. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ يعني: ليس عليهم إثم في التخلف وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ يعني:
إثم.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغزو ويقال: وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ في الغزو، في السر، والعلانية يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقد ذكرناه. وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني: يعرض عن ذلك. يعني: عن طاعة الله، ورسوله، بالتخلف يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً يعني: شديداً دائماً.
قرأ نافع: وابن عامر نُدْخِلْهُ وَنُعَذِّبْهُ كلاهما بالنون. والباقون: كلاهما بالياء. وكلاهما يرجع إلى معنى واحد.
قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يعني: شجرة السمرة. ويقال: أم غيلان. قال قتادة: بايعوهُ يومئذٍ وهم ألف وأربعمائة رجل. وكان عثمان

(3/316)


وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

يومئذٍ بمكة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ الله وَحَاجَةِ رَسُولِهِ، وَحَاجَةِ المُؤْمِنِينَ. ثُمَّ وضع إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه بَيْعَةُ عُثْمَان» .
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ أي: مَا فِى قُلُوبِهِمْ من الصدق والوفاء. وهذا قول ابن عباس.
وقال مقاتل: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ من الكراهية للبيعة على أن يقتلوا، ولا يفروا. فَأَنْزَلَ الله السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يعني: أنزل الله تعالى الطمأنينة، والرضى عليهم. وَأَثابَهُمْ يعني:
أعطاهم. فَتْحاً قَرِيباً يعني: فتح خيبر. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني: يغنمونها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً حكم عليهم بالقتل، والسبي. ويقال: حكم الغنيمة للمؤمنين، والهزيمة للكافرين.
ثم قال: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها يعني: تغنمونها، وهو ما أصابوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس: هي هذه الفتوح التي تفتح لكم فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني: فتح خيبر، قرأ بعضهم وَأَتاهُمُ أي: أعطاهم وقراءة العامة وَأَثابَهُمْ يعني: كافأهم.
قوله تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يعني: أيدي أهل مكة. ويقال: أسد وغطفان أرادوا أن يعينوا أهل خيبر، فدفعهم الله عن المؤمنين، فصالحوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم على ألا يكونوا له، ولا عليه.
ثم قال: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وهو فتح خيبر، لأن المسلمين كانوا ثمانية آلاف، وأهل خيبر كانوا سبعين ألفاً.
ثم قال: وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يعني: يرشدكم ديناً قيماً، وهو دين الإسلام.

[سورة الفتح (48) : الآيات 21 الى 26]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)

(3/317)


ثم قال: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني: وعدكم الله غنيمة أخرى لم تقدروا عليها.
يعني: لم تملكوها بعد، وهو فتح مكة. ويقال: هو فتح قرى فارس، والروم. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها يعني: علم الله أنكم ستفتحونها، وستغنمونها، فجمعها، وأحرزها لكم. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً من الفتح وغيره وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: كفار مكة يوم الحديبية.
ويقال: أسد وغطفان يوم خيبر. لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ منهزمين ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يعني: قريبا ينفعهم، ولا مانعاً يمنعهم من الهزيمة.
قوله عز وجل: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ يعني: هكذا سنة الله بالغلبة، والنصرة لأوليائه، والقهر لأعدائه. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا يعني: تغييراً، وتحويلاً.
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ يعني: أيدي أهل مكة، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ يعني:
أيديكم عن أهل مكة من بعد أن أَظْفَركم عليهم. وذلك أن جماعة من أهل مكة، خرجوا يوم الحديبية يرمون المسلمين، فرماهم المسلمون بالحجارة حتى أدخلوهم بيوت مكة. وروى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: طلع قوم وهم ثمانون رجلاً على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه، فأخذهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وخلى سبيلهم. فأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ يعني: بوسط مكة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يعني: سلطكم عليهم وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً بحرب بعضكم بعضاً.
قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: جحدوا بوحدانية الله تعالى وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَن تطوفوا به وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً يعني: محبوساً. يقال: عكفته عن كذا إذا حبسته. ومنه العاكف في المسجد لأنه حبس نفسه. يعني: صيروا الهدي محبوساً عن دخول مكة، وهي سبعون بدنة. ويقال: مائة بدنة. أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ يعني: منحره، ومنحرة منى للحاج، وعند الصفا للمعتمر.
ثم قال: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ بمكة لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنهم مؤمنون.
يعني: لم تعرفوا المؤمنين من المشركين أَنْ تَطَؤُهُمْ يعني: تحت أقدامكم. ويقال:
فتضربوهم بالسيف فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ يعني: تلزمكم الدية بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني: بغير علم

(3/318)


لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

منكم لهم، ولا ذنب لكم. وذلك أن بعض المؤمنين كانوا مختلطين بالمشركين، غير متميزين، ولا معروفي الأماكن.
ثم قال: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ لو دخلتموها أن تقتلوهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لو فعلتم فيصيبكم من قتلهم معرة. يعني:
يعيركم المشركون بذلك، ويقولون: قتلوا أهل دينهم كما قتلونا، فتلزمكم الديات.
ثم قال: لَوْ تَزَيَّلُوا أي: تميزوا من المشركين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: لو تميزوا بالسيف. وقال القتبي: صار قوله: لَعَذَّبْنَا جواباً لكلامين أحدهما، لولا رجال مؤمنون، والآخر لَوْ تَزَيَّلُوا يعني: لو تفرقوا، واعتزلوا. يعني: المؤمنين من الكافرين لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني: شديداً وهو القتل.
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أهل مكة فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وذلك أنهم قالوا: قتل آباءنا، وإخواننا. ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا. والله لا يدخل علينا، فهذه الحمية التي في قلوبهم. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ يعني: طمأنينته عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فأذهب عنهم الحمية، حتى اطمأنوا، وسكتوا. وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى يعني: ألهمهم كلمة لا إله إلا الله حتى قالوا: وَكانُوا أَحَقَّ بِها يعني: كانوا في علم الله تعالى أحق بهذه الكلمة من كفار مكة وَأَهْلَها يعني: وكانوا أهل هذه الكلمة عند الله تعالى وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً يعني: عليماً بمن كان أهلاً لذلك وغيره.

[سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)

(3/319)


قوله عز وجل: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ يعني: حقق الله تعالى رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالوفاء، والصدق، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم رأى في المنام قبل الخروج إلى الحديبية، أنهم يدخلون المسجد الحرام. فأخبر الناس بذلك، فاستبشروا. فلما صدهم المشركون، قالت المنافقون في ذلك ما قالت. فنزل لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ يعني: يصدق رؤياه بالحق لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني: ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام في العام الثاني. ويقال: نزلت الآية بعد من دخلوا في العام الثاني لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني: ما أخبر أصحابه أنهم يدخلون المسجد الحرام إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ يعني: لتدخلن إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ يعني: بإذن الله، وأمره.
ويقال: هذا اللفظ حكاية الرؤيا. وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم حين رأى في المنام، رأى كأن ملكاً ينادي وهو يقول: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله، فأنزل الله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ وهو قول الملك لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من العدو مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ يعني: منهم من يحلق، ومنهم من يقصر لاَ تَخافُونَ العدو فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا قال مقاتل: فعلم أن يفتح عليهم خيبر قبل ذلك، فوعد لهم الفتح، ثم دخول مكة، ففتحوا خيبر، ثم رجعوا، ثم دخلوا مكة، وأتوا عمرة القضاء. وقال الكلبي في قوله: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا يعني: علم الله أنه سيكون في السنة الثانية، ولم تعلموا أنتم، فلذلك وقع في أنْفسكم ما وقع فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً يعني: فتح خيبر.
ثم قال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى يعني: بالتوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وَدِينِ الْحَقِّ وهو الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعني: على الأديان كلها قبل أن تقوم الساعة. فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بأن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن لم يشهد كفار مكة، وذلك حين أراد أن يكتب محمد رسول الله، فقال سهيل بن عمرو: إنا لا نعرف بأنك رسول الله ولا نشهد.
قال الله عزّ وجلّ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد سهيل، وأهل مكة. قال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ بالغلظة رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يعني: متوادّين فيما بينهم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يعني: يكثرون الصلاة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً يعني: يلتمسون من الحلال. وقال بعضهم: وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني: أبا بكر أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ يعني: عمر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يعني: عثمان تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يعني:
عليّاً رضوان الله عليهم أجمعين يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً يعني: الزبير، وعبد الرحمن بن عوف سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ يعني: علاماتهم، وهي الصفرة في وجوههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يعني: من السهر بالليل. ويقال: يعرفون غُرّاً محجلين يوم القيامة، من أثر الوضوء. وقال مجاهد: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ قال: الخشوع، والوقار. وقال منصور:

(3/320)


قلت لمجاهد: أهذا الذي يكون بين عيني الرجل؟ قال: إن ذلك قد يكون للرجل، وهو أقسى قلباً من فرعون.
ثم قال: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ يعني: هذا الذي ذكره من نعتهم، وصفتهم في التوراة.
ثم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ يعني: مثل محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: مثلهم في التوراة، والإنجيل واحد. قال: مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قرأ ابن كثير، وابن عامر: شَطْأَهُ بنصب الشين، والطاء. والباقون: بنصب الشين، وجزم الطاء.
ومعناهما واحد. وهو فراخ الزرع. وقال مجاهد: شَطْأَهُ يعني: قوائمه. قرأ ابن عامر:
فَازَرَهُ بغير مد. والباقون بالمد ومعناهما واحد. يعني: قواه. ومنه قوله عز وجل: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه: 31] يعني: أقوي به ظهري. ويقال: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ يعني: سنبله فَآزَرَهُ يعني: أعانه وقواه. فَاسْتَغْلَظَ يعني: غلظ الزرع، واستوى. فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ وهو جماعة الساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ يعني: الزارع إذا نظر في زرعه بعد ما استغلظ، واستوى، يعجبه ذلك. فكذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلم، تبعه أبو بكر، ثم تبعه عمر، ثم تبعه واحد بعد واحد من أصحابه، حتى كثروا ففرح النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك لكثرتهم.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ يعني: أهل مكة يكرهون ذلك لما رأوا من كثرة المسلمين، وقوتهم. وروى خيثمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرئهم القرآن في المسجد، فأتى على هذه الآية: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فقال: أنتم الزرع، وقد دنا حصادكم.
ويقال: كَزَرْعٍ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم. أَخْرَجَ شَطْأَهُ يعني: أبا بكر فَآزَرَهُ يعني: أعانه عمر على كفار مكة فَاسْتَغْلَظَ يعني: تقوى بنفقة عثمان فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يعني: قام على أمره علي بن أبي طالب يعينه، وينصره على أعدائه. يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ يعني: طلحة، والزبير. وكان الكفار يكرهون إيمان طلحة والزبير لشدة قوتهما، وكثرة أموالهما.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ يعني: لهم. ويقال: فيما بينهم، وبين ربهم. ويقال: مِنْ هاهنا لإبانة الجنس. يعني: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ أي: من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم مَغْفِرَةً لذنوبهم وَأَجْراً عَظِيماً يعني: ثواباً وافراً في الجنة.
روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سُوَرَةَ الفَتْحِ فَكَأنَّمَا شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم» .
والله سبحانه أعلم.

(3/321)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)

سورة الحجرات
وهي ثمان عشرة آية مدنية

[سورة الحجرات (49) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قوله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يقال: يا نداء، وها تنبيه، والَّذِينَ إشارة. وآمَنُوا مدحه. روي عن الضحاك أنه كان يقرأ: لاَ تُقَدِّمُوا بنصب التاء والدال. وقراءة العامة لاَ تُقَدِّمُوا برفع التاء، وكسر الدال. فمن قرأ بالنصب، فهو في الأصل لا تتقدموا، فحذفت إحدى التاءين لتكون أخف. ومن قرأ بالضم فهو من قدم تقدم.
يقال: فلان تقدم بين يدي أبيه، وبين يدي الإمام. يعني: تعجل بالأمر، وانتهى بدونه.
يعني: لا تقدموا الكلام بين يدى الله، ورسوله. ومعناه: لا تقولوا قبل أن يقول الرسول صلّى الله عليه وسلم. ويقال: معناه إذا أمرتم بأمر فلا تفعلوه قبل الوقت الذي أمرتم به. وقال الحسن:
إن قوماً ذبحوا قبل أن يصلي النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلم أن يذبحوا آخر، فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقال مسروق: كنا عند عائشة يوم الشك فأُتي بلبن، فناولتني، فقلت: إني صائم. فقالت عائشة رضي الله عنها: وقد نهي عن هذا. وقرأت هذه الآية وقالت هذه الآية نزلت في الصوم وغيره. وقال مقاتل: نزلت الآية في ثلاثة نفر، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعث سرية، وأمر عليهم المنذر بن عمرو. فخرج بنو عامر بن صعصعة عند بئر معونة، فرصدوهم على الطريق، وقتلوهم. فرجع ثلاثة منهم، فلما دنوا إلى المدينة، خرج رجلان من بني سليم صلحاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد كان أهداهما، وكساهما، فقالا: نحن من بني عامر، لأن بني عامر كانوا أقرب إلى المدينة، فقتلوهما، وأخذوا من ثيابهما، وجاءوا بها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني:
لا تعجلوا بقتل، ولا بأمر، حتى تستأمروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وروي عن الحسن في رواية أُخرى أنه قال: لا تعملوا بخلاف الكتاب والسنة.

(3/322)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني: اخشوا الله عز وجل فيما يأمركم، وينهاكم، ولا تخالفوا أمر الله ورسوله.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني: سميع الدعاء، عليم بخلقه. ويقال: سميع لقول المستأمنين، عليم بنيات الذين قتلوهما. وفي الآية بيان رأفة الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عباده، حيث سماهم مؤمنين مع معصيتهم.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 2 الى 3]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ولم يقل: يا أيها الذين عصوا وقد ذكرنا من قبل أن النداء على ست مراتب، وهذا نداء مدح.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ نزلت في وفد بني تميم قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وهم سبعون أو ثمانون، منهم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعطارد بن الحجاب، وذلك حين قالوا: ائذن لشاعرنا، وخطيبنا في الكلام، فعلت الأصوات، واللغط، فنزلت الآية لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ويقال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، فكان إذا تكلم، رفع صوته.
ثم قال: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ يعني: لا تدعوه باسمه، كما يدعو الرجل الرجل منكم باسمه، ولكن عظموه، ووقروه، وقولوا: يا نبي الله، ويا رسول الله.
ثم قال: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أن ذلك يحبطها. يعني: إن فعلتم ذلك، فتحبط حسناتكم. وقال بعضهم: من عمل كبيرة من الكبائر حبط جميع ما عمل من الحسنات واحتج بهذه الآية: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ ولكن نحن نقول: الكبيرة لا تبطل العمل ما لم يكفر، وإنما ذكر هاهنا إبطال العمل، لأن في ذلك استخفافا بالنبي صلّى الله عليه وسلم. ومن قصد الاستخفاف بالنبي صلّى الله عليه وسلم كفر. فلما نزلت هذه الآية، دخل ثابت بن قيس بيته، وجعل يبكي، ويقول: أنا من أهل النار. فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم، فبعث إليه، وقال: «إنَّكَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ بَلْ غَيْرُكَ مِنْ أهْل النَّار» . فقال: يا رسول الله لا أتكلم بعد ذلك إلا سراً، أو ما كان يشبه السر فنزل: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم روى ثابت عن أنس قال: لما نزل لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ وكان ثابت بن قيس رفيع الصوت. فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي،

(3/323)


إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

وحبط عملي. أنا من أهل النارِ. وجلس في بيته يبكي، ففقده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبروه بما قال، فقال صلّى الله عليه وسلم: «بَلْ هُوَ مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ» . فقال أنس: لكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة، فكان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس وقد تحنط، ولبس كفنه، فقال: بئس ما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل. ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى يعني: أخلص الله قلوبهم. ويقال: أصفى الله عز وجل قلوبهم للتقوى من المعصية. يعني: يجعل قلوبهم موضعاً للتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي: ثواب وافر في الجنة. يعني:
يجعل ثوابهم في الدنيا أن يخلص قلوبهم للتقوى، وفي الآخرة أجر عظيم.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
وقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ فالحجرات جمع الحجرة.
يقال: حجرة وحجرات، مثل ظلمة وظلمات. وقرئ في الشاذ: الحجَرات بنصب الجيم.
وقرأه العامة بالضم. ومعناهما: واحد. نزلت الآية في شأن نفر من بني تميم، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد، فانتهى إلى قبيلة، وكانت تسمى بني العنبر، فأغار عليهم، وسبى ذراريهم، فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراهم، أو يفدوهم، فنادوه وكان وقت الظهيرة، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم في الحجرة. فنادوه من وراء الحجرة، وكان لأزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم حجرات. فلما خرج النبي كلموه في أمر الزراري، فقال لواحد منهم: احكم. فقال: حكمت أن تخلي نصف الأسارى، وتبيع النصف منا. ففعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فنزلت الآية إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لأنهم لو لم ينادوه، لكان يعتقهم كلهم. وروى معمر عن قتادة أن رجلاً جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فناداه من وراء الحجرات، فقال: يا محمد إن مَدْحِي زَيْن، وإِن شَتْمِي شين. فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال:
«وَيْلَكَ ذَلَّكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ» . فَنَزل إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ الآية.

(3/324)


ثم قال عز وجل: وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ بهم بعد التوبة.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ الآية. نزلت في الوليد بن عقبة بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات، فخرجوا إليه ليبجلوه، ويعظموه، فخشي منهم، لأنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية. فرجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقال:
خرجوا إِليَّ بأسلحتهم، ومنعوا مني الصدقات وطرحوني وأرادوا قتلي فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يبعث لقتالهم، فجاؤوا إلى المدينة، وقالوا: يا رسول الله لما بلغنا قدوم رسولك، خرجنا نبجله، ونعظمه، فانصرف عنا، فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما فعل الوليد بن عقبة، فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ يعني: بحديث كذب وبخبر كذب فَتَبَيَّنُوا يعني: وتعرفوا ولا تعجلوا أَنْ تُصِيبُوا يعني: كيلا تصيبوا قَوْماً بِجَهالَةٍ وأنتم لا تعلمون بأمرهم فَتُصْبِحُوا يعني: فتصيروا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ. قرأ حمزة، والكسائي: فَتَثَبَّتُوا بالثاء.
وقرأ الباقون: فَتَبَيَّنُوا مثل ما في سورة النساء.
ثم قال للمؤمنين رضي الله عنهم: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ يعني: ما أمرتم به، لأن الناس كانوا قد حرضوه على إرسالهم لقتال بني المصطلق، لَعَنِتُّمْ يعني: لأثمتم. وروى أبو نضرة، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ. هذه الآية: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ يعني: هذا نبيكم، وخياركم لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ فكيف بكم اليوم. ويقال: لَعَنِتُّمْ أي: لهلكتم. وأصله من عنت البعير إذا انكسرت رجله.
ثم ذكر لهم النعم فقال: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ يعني: جعل حب الإيمان في قلوبكم وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ يعني: حسنه للثواب الذي وعدكم. ويقال: دلكم عليه بالحجج القاطعة. ويقال: زينه في قلوبكم بتوفيقه إياكم لقبوله وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ يعني: بغض إليكم المعاصي، والكفر لما بينه من العقوبة.
ثم قال: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ يعني: المهتدون. فذكر أول الآية على وجه المخاطبة، وآخر الآية بالمغايبة. ثم قال: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ليعلم أن جميع من كان حاله هكذا، فقد دخل في هذا المدح. وفي الآية دليل أن من كان مؤمناً، فإنه لا يحب الفسوق والمعصية، لأن الله تعالى قال: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ والمؤمن إذا ابتلي بالمعصية، فإن شهوته وغفلته تحمله على ذلك، لا لحبه للمعصية. ثم قال: أي ذلك التحبيب والتبغيض فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً يعني: كان الإيمان الذي حببه إليكم، والكفر الذي بغضه إليكم، كان فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً يعني: رحمة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في أمره وقضائه.

(3/325)


وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 11]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله عز وجل: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم خرج إلى الأنصار ليكلمهم في أمر من الأمور وهو على حماره، فبال الحمار وهو راكب عليه يكلم الأنصار. فقال عبد الله بن أبي المنافق: خل للناس سبيل الريح من نتن هذا الحمار، ثم قال: أف. وأمسك على أنفه فشق على النبيّ صلّى الله عليه وسلم قوله، فانصرف عبد الله بن رواحة. فقال:
اتقوا هذا لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والله لبوله أطيب ريحاً منك. فاقتتلا فاجتمع قوم ابن رواحة وهم الأوس، وقوم عبد الله بن أبي وهم الخزرج، فكان بينهم ضرب النعال، والأيدي، والسعف، ورجع النبيّ صلّى الله عليه وسلم فأصلح بينهم. فأنزل الله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالعدل فكره بعضهم الصلح، فأنزل قوله: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى يعني: استطالت فلم ترجع إلى الصُّلح فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي يعني: تظلم حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ يعني: ترجع إلى ما أمر الله عز وجل. وروى أسباط عن السدي قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد، فأبغضت زوجها، وأرادت أن تلحق بأهلها، وكان قد جعلها في غرفة له، وأمر أهله أن يحفظوها، وخرج إلى حاجة له، فأرسلت إلى أهلها، فجاء ناس من أهلها، وأرادوا أن يذهبوا بها، فاقتتلوا بالنعال، والتلاطم. فنزل قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الآية. ثم صارت الآية عامة في جميع المسلمين. إذا اقتتل فريقان من المسلمين، وجب على المؤمنين الإصلاح بين الفريقين. فإن ظهر أن أحد الفريقين ظالم، فإنه يقاتل ذلك الفريق حتى يرجع إلى حكم الله.
ثم قال: فَإِنْ فاءَتْ يعني: رجعت إلى الصلح فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ يعني:
بالحق وَأَقْسِطُوا يعني: اعدلوا بين الفريقين، ولا تميلوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يعني:
العادلين.

(3/326)


ثم قال عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يعني: كالأخوة في التعاون لأنهم على دين واحد. كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنَ للمُؤْمِن كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعْضاً» وَرُوي عنه أنه قال:
«المُؤْمِنُونَ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى سَائِر الأَعْضَاءِ إِلَى الحُمَّى وَالسَّهَرِ» .
ثم قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ يعني: الفريقين من المؤمنين مثل الأوس والخزرج.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ قرأ ابن سيرين: إِخْوَانِكُم بالنون. وقرأ يعقوب الحضرمي: بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ بالتاء. يعني: جمع الأخ. وقراءة العامة أَخَوَيْكُمْ بالياء على تثنية الأخ. يعني: بين كل أخوين.
ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني: اخشوا الله عز وجل، ولا تعصوه، لكي ترحموا، فلا تعذبوا.
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ يعني: لا يستهزئ الرجل من أخيه. وقال بعضهم: الآية نزلت في ثابت بن قيس، حيث عيّر الذي لم يوسع له في المكان، وقال بعضهم: الآية نزلت في الذين ينادونه من وراء الحجرات. استهزءوا من ضعفاء المسلمين، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ يعني: أفضل منهم، وأكرم على الله تعالى وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ يعني: لا تستهزئ امرأة من امرأة، وذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أم سلمة جميلة لولا أنها قصيرة عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ يعني: أفضل. ثم صارت الآية عامة في الرجال والنساء، فلا يجوز أحد أن يسخر من صاحبه، أو من أحد من خلق الله تعالى. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أكون مثله.
ثم قال: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ يعني: لا يطعن بعضكم بعضاً. وقال القتبي: ولا تغتابوا إخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم كما قال: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] . يعني: بأمثالهم.
ثم قال: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ يعني: لا تسموا باللقب. وقال محمد بن كعب القرظي: هو الرجل يكون على دين من الأديان، فيسلم، فيدعونه بدينه الأول: يا يهودي، ويا نصراني. ويقال: لا تعيروا المسلم بالملة التي كان عليها، ولا تسموه بغير دين الإسلام. وقال أهل اللغة: الألقاب والأنباز واحد. ومنه قيل في الحديث: «قومٌ نَبْزُهُمُ الرَّافِضَةُ» أي: لقبهم وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي: لا تداعوا بها. ويقال: هو اللقب الذي يكرهه الرجل. يعني: أنه ينبغي للمؤمن أن يخاطب أخاه بأحب الأسماء إليه. وقرأ بعضهم وَلا تَلْمِزُوا بضم الميم.
وقراءة العامة: بالكسر، وهما لغتان. يقال: لمز فلان فلاناً، يلمز ويلمزه إذا عابه. وذكر في التفسير أن الآية نزلت في مالك بن أبي مالك، وعبد الله بن أبي حدرد، وذلك أن أبا مالك

(3/327)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

كان على المقاسم. فقال لعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي: يا أعرابي. فقال له عبد الله: يا يهودي. فأمرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يدخلا عليه، حتى تظهر توبتهما، فنزل بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يعني: بئس التسمية لإخوانكم بالكفر وهم مؤمنون وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من قوله فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فأوثقا أنفسهما حتى قبلت توبتهما.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 12 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ يعني: لا تحققوا الظن إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ يعني: معصية أي: إِنَّ ظن السوء بالمسلم معصية. وقال سفيان الثوري:
الظن ظنان. ظن فيه إثم، وظن لا إثم فيه. فالظن الذي فيه إثم، أن يظن ويتكلم به. وأما الظن الذي لا إثم فيه، فهو أن يظن، ولا يتكلم به، لأنه قال: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولم يقل: جميع الظن إثم.
ثم قال: وَلا تَجَسَّسُوا يعني: لا تطلبوا، ولا تبحثوا عن عيب أخيكم وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً روى أسباط عن السدي قال: كان سلمان الفارسي في سفر مع ناس فيهم عمر، فنزلوا منزلاً، فضربوا خيامهم، وصنعوا طعامهم، ونام سلمان، فقال بعض القوم لبعض: ما يريد هذا العبد إلا أن يجد خياماً مضروبة، وطعاماً مصنوعاً، فلما استيقظ سلمان، قالوا له: انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والتمس لنا إداماً نأتدم به. فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال- عليه السلام-: «أَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ قَدِ ائْتَدَمُوا» . فأخبرهم. فقالوا: ما طعمنا بعد، وما كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فأتوه، فقال: «ائْتَدَمْتُمْ مِنْ صَاحِبِكُمْ، حِينَ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ وَهُوَ نَائِمٌ» ، ثم قرأ:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ يعني: فكما تكرهون أكل لحمه ميتاً، فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء وهو غائب. ويقال: كان سلمان في سفر مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكان يطبخ لهما، فنزلوا منزلاً، فلم يجد ما يصلح لهم

(3/328)


أمر الطعام، فبعثاه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم لينظر عنده شيئاً من الطعام، فقال أسامة: لم يبق عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم شيء من الطعام، فرجع إليهما، فقالا: إنه لو ذهب إلى بئر كذا، ليبس ماؤها، فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت في شأن زيد بن ثابت، وذلك أن نفراً ذكروا فيه شيئاً، فنزل:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً قرأ نافع: مَيِّتاً بتشديد الياء، والخفض. والباقون بالجزم. وقال أهل اللغة: الميت. والميت واحد مثل ضيق وضيّق، وهين وهيّن، ولين وليّن.
ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في الغيبة، وتوبوا إليه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يعني: قابل التوبة رَحِيمٌ بهم بعد التوبة.
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قال مقاتل: وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أمر بلالاً ليؤذن. فقال الحارث بن هشام. أما وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير هذا الغراب. يعني: بلال. فنزل يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى يعني: آدم وحواء وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ يعني: رؤوس القبائل، مثل مضر، وربيعة وَقَبائِلَ يعني: الأفخاذ مثل بني سعد، وبني عامر. لِتَعارَفُوا في النسب إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ يعني: وإن كان عبداً حبشياً أسود مثل بلال. وقال في رواية الكلبي: نزلت في ثابت بن قيس، كان في أذنيه ثقل، وكان يدنو من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليسمع كلامه فأبطأ يوماً واحداً وقد أخذ الناس مجالسهم فجاء فتخطى رقابهم حتى جلس قريباً من النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فقال رجل من القوم: هذا يتخطى رقابنا، فلم لا يجلس حيث وجد المكان؟ فقال ثابت: من هذا؟ فقالوا: فلان. فقال ثابت: يا ابن فلانة، وكان يعيّر بأمه، فخجل. فنزلت هذه الآية. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ عَيَّرَ فُلاناً بِأُمِّهِ» ؟ فقال ثابت بن قيس: أنا قد ذكرت شيئاً. فقرأ هذه الآية عليه، فاستغفر ثابت. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: القبائل، والأفخاذ: الصغار، والشعوب: الجمهور مثل مضر. وقال الضحاك: الشعوب: الأفخاذ الصغار، والقبائل مثل بني تميم، وبني أسد. وقال القتبي:
الشعوب أكثر من القبيلة. وقال الزجاج: الشعب أعظم من القبيلة، ومعناه: إني لم أخلقكم شعوباً وقبائل لتتفاخروا، وإنما خلقناكم كذلك لتعارفوا. روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يقولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: إنَّكُمْ جَعَلْتُمْ لأنْفُسِكُمْ نَسَباً، وَجَعَلْتُ لِنَفْسِي نَسَباً، فَرفَعْتُم نَسَبَكُم، وَوَضَعْتُمْ نَسَبي، فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي، وَأَضَعُ نَسَبَكُم. يعني: قلت: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقلتم: أنتم فلان وفلان» .
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأتقيائكم خَبِيرٌ بافتخاركم قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال ابن عباس: نزلت في بني أسد، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قحط أصابهم، فجاؤوا بأهاليهم، وذراريهم، يطلبون الصدقة، وأظهروا الإسلام، وقالوا: يا رسول الله نحن أسلمنا طوعاً، وقدمنا بأهالينا، فأعطنا من الغنيمة أكثر مما تعطي غيرنا. ويقال: كانت قبيلتان جهينة، ومزينة،

(3/329)


إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قدموا بأهاليهم. فنزلت الآية قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا يعني: صدقنا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا يعني: لم تصدقوا في السر، كما صدقتم في العلانية وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا يعني: دخلنا في الانقياد، والخضوع. ويقال: استسلمنا مخافة القتل والسبي وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ يعني:
التصديق. ويقال: لم يدخل حب الإيمان في قلوبكم وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في السر، كما تطيعونه في العلانية لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يعني: لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً. قرأ أبو عمرو: لا يألتكم بالألف والهمز. والباقون: لاَ يَلِتْكُمْ بغير ألف ولا همز. ومعناهما واحد يقال: لاته يلته وألته يألته إذا نقص حقه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لو صدقوا بقلوبهم، ثم بيّن الله عز وجل لهم من المصدق.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 15 الى 18]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
فقال عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ يعني: المصدقون في إيمانهم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا يعني: لم يشكوا في إيمانهم وَجاهَدُوا الأعداء بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: في طاعة الله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم. فلما نزلت هذه الآية، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحلفوا بالله أنهم لمصدقوه في السر، فنزل: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ الذي أنتم عليه وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَّا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني: سر أهل السموات، وسر أهل الأرض وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: يعلم ما في قلوبكم من التصديق وغيره.
قوله عز وجل: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا يعني: بقولهم جئناك بأهالينا، وأولادنا قُلْ لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ يعني: وفقكم للإيمان إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنكم مخلصون في السر، والعلانية.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: سر أهل السموات، وسر أهل الأرض. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قرأ ابن كثير، وعاصم، في رواية إبان يَعْمَلُونَ بالياء على معنى الخبر عنهم. وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة. أي: بصير بما يعملون من التصديق وغيره، والخير، والشر، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

(3/330)