تفسير السمرقندي
بحر العلوم ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا
كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا
وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا
فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ
(10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا
كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
سورة ق
وهي أربعون وخمس آيات مكية
[سورة ق (50) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
قوله تبارك وتعالى: ق قال قتادة: هو اسم من أسماء الله تعالى،
كقوله: قادر، وقاهر. ويقال: هو اسم من أسماء القرآن. وقال
مجاهد: هو افتتاح السورة. وقال بعضهم:
ق يعني: قضي الأمر كما قال في حم حم الأمر، والدليل عليه قول
الشاعر:
فقلت لها قفي قالت قاف يعني: وقفت فذكر القاف، وأراد به تمام
الكلام. وقال ابن عباس: هو جبل من زمردة خضراء، محيط بالعالم،
فخضرة السماء منها، وهي من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من
وراءه، والحجاب دون ق بمسيرة سنة، وما بينهما ظلمة، وأطراف
السماء ملتصقة بها.
ويقال: خضرة السماء من ذلك الجبل. ويقال: ق يعني: إن الله عز
وجل قائم بالقسط.
ثم قال: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ يعني: الشريف. وقال الضحاك:
هو جبل محدق بالدنيا، من زبرجدة خضراء، وخضرة السماء منها، ليس
في الأرض بلدة من البلدان، ولا مدينة من المدائن، ولا قرية من
القرى، إلا وفيها عرق من عروقها، وملك موكل عليها، واضع كفه
بها.
فإذا أراد الله عز وجل بقوم هلاكهم، أوحى الله عَزَّ وَجَلَّ
إلَى ذلك الملك، فحرك منها عرقاً، فخسف بهم، فأقسم الله عز وجل
بقاف وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ يعني: الشريف، إنكم لمبعوثون يوم
القيامة، لأن أهل مكة أنكروا البعث، فصار جواب القسم مضمراً
فيه، وهو ما ذكرناه إنكم مبعوثون. ويجوز أن يكون جواب القسم
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ [ق: 4] فيكون معناه: ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لقد علمنا ما تنقص الأرض، فحذف اللام،
لأن ما قبلها عوض عنها كما قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها
يعني: لقد أفلح. وقال القتبي: هذا من الاختصار، فكأنه قال: ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لتبعثن.
[سورة ق (50) : الآيات 2 الى 11]
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ
الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا
تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ
الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ
كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ
كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6)
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً
وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ
السَّماءِ مَاء مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ
الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً
كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
(3/331)
قوله عز وجل: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ
مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعني: من أهل مكة فَقالَ الْكافِرُونَ هذا
شَيْءٌ عَجِيبٌ يعني: أمر عجيب أن يكون محمد رسولاً، وهو من
نسبهم.
قوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً بعد الموت، نجدد
بعد ما متنا، نصير خلقاً جديداً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ يعني:
رد طويل لا يكون أبداً. ويقال: رجع يرجع رجعاً إذا رجعه غيره،
ورجع يرجع رجوعاً إذا رجع بنفسه، كقوله: صد يصد صدوداً، وصد
يصد صداً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي: ذلك صرف بعيد.
قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ
يعني: ما تأكل الأرض من لحومهم، وعروقهم، وما بقي منهم، ويقال:
تأكل الأرض جميع البدن إلا العصعص، وهو عجب الذنب، وذلك العظم
آخر ما يبقى من البدن. فأول ما يعود، ذلك العظم ويركب عليه
سائر البدن وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ يعني: اللوح المحفوظ.
قوله عز وجل: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ يعني: كذبوا بالقرآن،
وبمحمد صلّى الله عليه وسلم، والبعث. لَمَّا جاءَهُمْ أي: حين
جاءهم فَهُمْ يعني: قريش فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ يعني: في قول
مختلف، ملتبس. المريج أن يقلق الشيء فلا يستقر. ويقال: مرج
الخاتم في يدي مرجاً إذا قلق للهزال.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: فَهُمْ فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ أي: من ترك الحق.
يقال: من ترك الحق أمرج عليه رأيه، والتبس عليه دينه.
ثم دلهم على قدرته على بعثهم بعد الموت بعظيم خلقه، الذي يدل
على وحدانيته فقال:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها بالكواكب وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ يعني: شقوق، وصدوع، وخلل.
(3/332)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ
(14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي
لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ
يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
قوله تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها يعني:
بسطناها مسير خمسمائة عام من تحت الكعبة، وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ يعني: الجبال الثوابت.
قوله: وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ يعني: حسن
طيب من الثمار، والنبات.
قوله تعالى: تَبْصِرَةً يعني: في هذا الذي ذكره من خلقه،
تَبْصِرَةً لتبصروا به.
ويقال: عبرة. وَذِكْرى يعني: تفكراً، وعظة. لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ يعني: مخلص بالتوحيد.
ويقال: راجع إلى ربه.
قوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء مُبارَكاً يعني:
المطر فيه البركة حياة لكل شيء، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ
يعني: البساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ يعني: حين ما يخرج من
سنبله. ويقال:
ما يحصد، وما لا يحصد، كل ما كان له حب. ويقال: هي الحبوب التي
تحصد.
قوله عز وجل: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ يعني: أطوال لَها طَلْعٌ
نَضِيدٌ يعني: الكفري نضيد. يعني: مجتمع. يقال: نضد بعضه على
بعض. ويقال: ثمر منضود إذا كان متراكباً بعضه على بعض. ويقال:
إنما يسمى نضيداً ما كان في الغلاف رِزْقاً لِلْعِبادِ يعني:
جعلناه طعاماً للخلق. يعني: الحبوب، والثمر. وَأَحْيَيْنا بِهِ
يعني: بالماء بَلْدَةً مَيْتاً إذا لم يكن فيها نبات، فهذا كله
صفات بركة المطر.
ثم قال: كَذلِكَ الْخُرُوجُ يعني: هكذا الخروج من القبر. كما
أحييت الأرض الميتة بالنبات، فكذلك لما ماتوا، وبقيت الأرض
خالية، أمطرت السماء أربعين ليلة كمني الرجل، فدخل في الأرض،
فتنبت لحومهم، وعروقهم، وعظامهم من ذلك، ثم يحييهم. فذلك قوله:
كَذلِكَ الْخُرُوجُ. ثم عزى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ليصبر
على إيذاء الكفار. يعني: لا تحزن بتكذيب الكفار إياك، لأنك لست
بأول نبي، وكل أمة كذبت رسلها، مثل نوح، وهود- عليهم السلام-
وغيرهم فقال عز وجل:
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 22]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ
وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13)
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ
الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ
بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ (16)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ
مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
(3/333)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَأَصْحابُ الرَّسِّ والرسّ: بئر دون اليمامة، وإن عليها قوماً
كذبوا رسلهم، فأهلكهم الله تعالى وَثَمُودُ وَعادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ يعني: قومه وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ يعني: قوم شعيب وَقَوْمُ تُبَّعٍ يعني: قوم حمير.
ويقال: تبع كان اسم ملك. وروى وكيع عن عمران بن جرير، عن أبي
مجلز قال: جاء عبد الله بن عباس إلى عبد الله بن سلام، فسأله
عن تبع، فقال: كان تبع رجلاً من العرب، ظهر على الناس، وسبا
على فتية من الأحبار. فكان يحدثهم، ويحدثونه. فقال قومه: إن
تبعاً ترك دينكم، وتابع الفتية. فقال: تبع للفتية: ألا ترون
إلى ما قال هؤلاء. فقالوا: بيننا وبينهم النار التي تحرق
الكاذب، وينجو منها الصادق. قال: نعم. فقال تبع للفتية:
ادخلوه، فتقلدوا مصاحفهم. ثم دخلوها، فانفرجت لهم حتى قطعوها.
ثم قال لقومه: ادخلوها. فلما دخلوا، وجدوا حر النار كفوا. فقال
لهم: لتدخلنها، فدخلوها. فلما توسطوا، أحاطت بهم النار،
فأحرقتهم، وأسلم تبع وكان رجلاً صالحاً. ويقال: كان اسمه سعد
بن ملكي كرب، وكنيته: أبو كرب.
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ يعني: جميع هؤلاء كذبوا رسلهم فَحَقَّ
وَعِيدِ يعني: وجب عليهم عذابي. معناه: فاحذروا يا أهل مكة مثل
عذاب الأمم الخالية، فلا تكذبوا رسول الله صلّى الله عليه
وسلم.
ثم قال عز وجل: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ قال مقاتل:
يعني: أعجزنا عن الخلق الأول حين خلقناهم، ولم يكونوا شيئاً.
فكذلك نخلقهم، ونبعثهم. أي: ما عيينا عن ذلك، فكيف نعيي عن
بعثهم. ويقال: معناه أعيينا خلقهم الأول، ولم يكونوا شيئاً،
لأن الذي قد كان، فإعادته أيسر في رأي العين من الابتداء.
يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه. وقال الزجاج: هذا تقرير
تقرر، لأنهم اعترفوا في الابتداء، أن الله عز وجل خلقهم، ولم
يكونوا شيئاً.
ثم قال: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: في شك
من البعث بعد الموت.
ويقال: بل أقاموا على شكهم.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني: جنس
الإنسان، وأراد به جميع الخلق وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ
نَفْسُهُ يعني: ما يحدث به قلبه، ويتفكر في قلبه وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ يعني: في القدرة
عليه، وحبل الوريد عرق يخالط القلب. ويقال: هو العرق
(3/334)
وَقَالَ قَرِينُهُ
هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ
(25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ
فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا
أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ
لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا
أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ
هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
الذي داخل العنق الذي هو عرق الروح، فأعلمه
الله تعالى أنه أقرب إليه من ذلك العرق.
ويقال: الوريدان عرقان بين الحلقوم، والعلباوين. والحبل هو
الوريد. وأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظي اسميه.
قوله عز وجل: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يعني: يكتب
الملكان عمله، ومنطقه. يعني:
يتلقيان منه ويكتبان. وقال أهل اللغة تلقى، وتلقف، بمعنى واحد.
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ يعني: عن يمين ابن
آدم، وعن شماله قاعدان. أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله،
وصاحب اليمين موكل على صاحب الشمال، اثنان بالليل، واثنان
بالنهار، وكان في الأصل قعيدان، ولكن اكتفى بذكر أحدهما فقال:
قعيد.
ثم قال عز وجل: مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ يعني: ما يتكلم ابن
آدم بقولٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ يعني: عنده حافظ
حاضر. وقال الزجاج: عَتِيدٌ أي: ثابت، لازم.
قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ يعني:
جاءت غمرته بالحق أنه كائن.
ويقال: جاءت نزعات الموت بالحق. يعني: بالسعادة، والشقاوة.
يعني: يتبين له عند الموت. ويقال: فيه تقديم، ومعناه: جاءت
سكرة الحق بالموت. روي عن أبي بكر الصديق، أنه كان يقرأ
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الحق بالموت ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ يعني: يقال له: هذا الذي كنت تخاف منه، وتكره. ويقال:
ذلك اليوم الذي كنت تفر منه.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني: النفخة الأخيرة وهي نفخة البعث
ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ يعني:
العذاب في الآخرة وَجاءَتْ أي: جاءت يوم القيامة كُلُّ نَفْسٍ
مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ سائق يسوقها إلى المحشر، ويسوقها إلى
الجنة، أو إلى النار. وَشَهِيدٌ يعني: الملك يشهد عليها.
وقال القتبي: السائق هاهنا، قرينها من الشياطين، يسوقها. سمي
سائقاً، لأنه يتبعها، والشهيد:
الملك. ويقال: الشاهد أعضاؤه. ويقال: الليل، والنهار، والبقعة،
تشهد عليه.
ويقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا يعني: من هذا
اليوم، فلم تؤمن به، وقد ظهر عندك بالمعاينة فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ يعني: غطاء الآخرة. ويقال: أريناك ما كان مستوراً عنك
في الدنيا. ويقال: أريناك الغطاء الذي على أبصارهم، كما قال:
وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] حيث لم يعقلوا
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي: نافذ. ويقال: شاخص بصره لا
يطوف، يديم النظر حين يعاين في الآخرة، ما كان مكذباً به.
ويقال: حَدِيدٌ أي: حاد كما يقال:
حَفِيظٍ يعني: حافظ، وقعيد بمعنى قاعد. وقال الزجاج: هذا مثل.
ومعناه: إنك كنت بمنزلة من عليه غطاء فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ يعني: علمك بما أنت فيه نافذ.
[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 30]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً
آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ
قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ
بَعِيدٍ (27)
قالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا
بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
(3/335)
قوله عز وجل: وَقالَ قَرِينُهُ يعني: ملكه
الذي كان يكتب عمله هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ يعني: هذا الذي
وكلتني به قد أتيتك به، وهو حاضر يقول الله عز وجل أَلْقِيا
فِي جَهَنَّمَ يعني: يقول للملكين ألقيا في جهنم كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ وقال بعضهم هذا أمر للملك الواحد بلفظ
الاثنين، وقال الفراء: يرى أصل هذا أن أن الرفقة أدنى ما تكون
ثلاثة نفر، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ألا ترى أن الشعراء
أكثر شيء: قيلاً يا صاحبي، ويا خليلي، قال الشاعر: فقلت لصاحبي
لا تحبساني، وأدنى ما يكون الأمر والنهي في الإعراب اثنان،
فجرى كلامهم على ذلك ومثل هذا قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ويقال: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ،
على معنى تكرير الأمر، يعني: ألق ألق، وهو على معنى التأكيد،
وكذلك في قوله: قفا، معناه قف قف.
وقال الزجاج: عندي أن قوله أَلْقِيَا أَمر للملكين، وقال
بعضهم: الأمر للواحد بلفظ الاثنين واقع في إطلاق العرب، وكان
الحجاج يقول: يا حرسي اضربا عنقه كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ،
يعني: كل جاحد بتوحيد الله تعالى معرض عن الإيمان، وقال مقاتل:
يعني: الوليد بن المغيرة.
ويقال هذا في جميع الكفار الذين ذكر صفتهم في هذه الآية، وهي
قوله: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يعني:
بخيلاً لا يخرج حق الله من ماله، ويقال: «مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ»
يعني يمتنع عن الإسلام مُعْتَدٍ مُرِيبٍ المعتدي هو الظلوم
الغشوم، والمريب الشاك في توحيد الله تعالى قوله تعالى:
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعني: أشرك بالله عز
وجل فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ يعني: في النار
قالَ قَرِينُهُ يعني: شيطانه رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ يعني:
لم يكن لي قوة أن أضله وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ يعني:
في خطأ طويل بعيد عن الحق، يقول الله تعالى لابن آدم وشيطانه
قالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي لا تختصموا عندي وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ يعني: أخذت عليكم الحجة،
وأخبرتكم بالكتاب والرسول مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ
يعني: لا يغير قضائي وحكمي الذي حكمت، ويقال: لا يكذب وعيدي
وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعني: لا أعذب أحداً بغير
(3/336)
وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا
تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ
مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ
بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
ذنب، ويقال: مَا يُبَدِّلُ القول لدى،
يعني: لا يغير عن جهته، ولا يحذف منه، ولا يزاد فيه، لأني أعلم
كيف ضلوا، وكيف أضللتموهم، وروى سالم عن أبيه عن النبيّ صلّى
الله عليه وسلم أنه قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ
وُكِّلَ بِهِ قَرِيُنُه مِنَ الجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ
المَلائِكَةِ» ، قالوا: وإياك يا رسول الله صلّى الله عليه
وسلم» ؟
قال: «وَإيَّايْ وَلَكِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أعَانَنِي
عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلاَ يَأمُرُنِي إلاَّ بِخَيرٍ» ، وعن
الربيع، عن أنس، قال: سألت أبا العالية عن قوله عز وجل: ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
[الزمر: 31] وهاهنا يقول: لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ فقال: لا
تختصموا لدي في أهل النار، والأخرى في المؤمنين في المظالم،
فيما بينهم، وقال مجاهد: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:
29] يعني: لقد قضيت ما أنا قاض قوله عز وجل: يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر يِقُولُ بِاليَاء
يعني: يقول الله تعالى، قرأ الباقون بالنون، ومعناه كذلك يوم
صار نصباً على معنى مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ في ذلك
اليوم، ويقال على معنى أنذرهم يوم، كقوله: وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم: 39] ثم قال: هَلِ امْتَلَأْتِ يعني:
هل أوفيتك ما وعدتك، وهو قوله لأَملأن جَهَنَّمَ فَتَقُولُ
النار هَلْ مِنْ مَزِيدٍ يعني: هل من زيادة وقال عطية: هل من
موضع، ويقال معناه هل امتلأت، أي قد امتلأت، فليس من مزيد،
ويقال: أنا طلبت الزيادة تغيظاً لمن فيها، وروى وكيع بإسناده
عن أبي هريرة قال: «لا تَزَالُ جَهَنَّمَ تَسَأَل الزِّيَادَة
حتى يضع الله فيها قدمه فَتَقُولُ جَهَنَّمَ يَا رَبَّ قط قط»
أي حسبي حسبي، وقال في رواية الكلبي نحو هذا، ويقال تضيق
بأهلها حتى لا يكون فيها مدخل لرجل واحد. قال أبو الليث: قد
تكلم الناس في مثل هذا الخبر قال بعضهم: نؤمن به ولا نفسره،
وقال بعضهم: نفسره على ما جاء بظاهر لفظه، وتأوله بعضهم وقال:
معنى الخبر بكسر القاف يضع قدمه وهم أقوام سالفة فتمتلئ بذلك.
[سورة ق (50) : الآيات 31 الى 36]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما
يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ
(36)
قوله عز وجل: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ يعني: قربت وأدنيت الجنة
لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الشرك والكبائر، ويقال زينت الجنة.
ثم قال عز وجل: غَيْرَ بَعِيدٍ يعني: ينظرون إليها قبل دخولها،
ويقال غَيْرَ بَعِيدٍ، يعني: دخولهم غير بعيد، فيقال لهم هذا
مَا تُوعَدُونَ في الدنيا لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي:
مقبل إلى طاعة الله، حفيظ لأمر الله تعالى في الخلوات وغيرها،
ويقال: الأواب الحفيظ الذي
(3/337)
إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا
مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ
السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ
مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ
تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ
عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ
مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
إذا ذكر خطاياه استغفر منها، وروى مجاهد عن
عبيد بن عمير مثل هذا قوله عز وجل: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ
بِالْغَيْبِ يعني: يخاف الله عز وجل، فيعمل بما أمره الله،
وانتهى عما نهاه، وهو في غيب منه وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ
يعني: مقبلاً إلى طاعة الله مخلصاً ويقال لهم:
ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذكر في أول الآية بلفظ الواحدان، وهو قوله
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، ثم ذكر بلفظ الجماعة وهو قوله:
ادْخُلُوها لأن لفظه من اسم جنس، يقع على الواحد، وعلى
الجماعة، مرة تكون عبارة عن الجماعة، ومرة تكون عن الواحدان
ادْخُلُوها بِسَلامٍ يعني:
بسلامة من العذاب والموت والأمراض والآفات، ذلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ أي لا خروج منه قوله عز وجل: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها يعني: يتمنون فيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ يعني: زيادة على
ما يتمنون من التحف والكرامات، ويقال هو الرؤية وكقوله:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] ثم قال
عز وجل: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ يعني: قبل
أهل مكة هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً يعني: أشد من أهل مكة
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ يعني: طافوا وتقلبوا في أسفارهم
وتجاراتهم، ويقال: تغربوا في البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ يعني:
هل من فرار، وهل من ملجأ من عذاب الله.
[سورة ق (50) : الآيات 37 الى 45]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ
السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ
مَكانٍ قَرِيبٍ (41)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا
الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
قوله عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى يعني: فيما صنع لقومك
لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ يعني: عقل لأنه يعقل بالقلب فكني عنه
أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يعني: استمع إلى القرآن وَهُوَ شَهِيدٌ
يعني: قلبه حاضر غير غائب عنه، وقال القتبي: وهو شهيد، يعني:
استمع كتاب الله، وهو شاهد القلب والفهم، ليس بغافل، ولا ساه،
وروى معمر عن قتادة قال: لمن كان له قلب من هذه الأمة، أو ألقى
السمع. قال رجل من أهل الكتاب: استمع إلى القرآن، وهو شهيد
(3/338)
على ما في يديه من كتاب الله تعالى، وروي
عن عمر أنه قرأ: فَنَقَّبُوا بالتخفيف، يعني:
فتبينوا ونظروا وذكروا، ومنه قيل للعريف نقيب القوم، لأنه
يتعرف أمرهم، ويبحث عنهم.
وقرأ يحيى بن يعمر فَنَقَّبُوا بضم النون، وكسر القاف، يعني:
تبينوا، وقرأ الباقون بالتشديد يعني: طوفوا، وقوله: هَلْ مِنْ
مَحِيصٍ [ق: 36] يعني: هل من ملجأ من الموت، قوله عز وجل:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وذلك أن اليهود
قالوا: لما خلق الله السموات والأرض وفرغ منهما، استراح في يوم
السبت فنزل قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ يعني: ما أصابنا من إعياء، وإنما يستريح من يعيى.
قوله عز وجل: فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ من المنكر، وهو
قولهم: استراح، ويقال:
فاصبر على مَا يَقُولُونَ من التكذيب، وقال في رواية الكلبي:
نزلت في المستهزئين من قريش، وفي أذاهم للنبي صلّى الله عليه
وسلم وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعني: صل لربك صلاة الفجر، وصلاة الظهر،
وصلاة العصر وَمِنَ اللَّيْلِ يعني: المغرب والعشاء
فَسَبِّحْهُ يعني: صل له وهو المغرب والعشاء وَأَدْبارَ
السُّجُودِ يعني: ركعتي المغرب، قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة
وَأَدْبارَ بكسر الألف، والباقون بالنصب، فهو جمع الدبر، ومن
قرأ بالكسر فعلى مصدر أدبر يدبر إدباراً، قال أبو عبيدة: هكذا
نقرأ يعني: بالنصب، لأنه جمع الدبر، وإنما الإدبار، هو المصدر
كقولك: أدبر، يدبر، إدباراً، ولا إدبار للسجود، وإنما ذلك
للنجوم.
قوله عز وجل: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ قرأ أبو
عمرو، ونافع، وابن كثير: الْمُنَادِي بالياء في الوصل، وهو
الأصل في اللغة، والباقون بغير ياء، لأن الكسر يدل عليه فاكتفى
به، ومعنى الآية اعمل واجتهد، واستعد ليوم القيامة، يعني:
استمع صوت إسرافيل مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يعني: من صخرة بيت
المقدس يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ يعني: نفخة
إسرافيل بالحق أنها كائنة، وقال مقاتل: في قوله: مِنْ مَكانٍ
قَرِيبٍ قال صخرة: بيت المقدس، وهي أقرب الأرض من السماء،
بثمانية عشر ميلاً، وقال الكلبي: باثني عشر ميلاً ذلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ من قبورهم إلى المحاسبة، ثم إلى إحدى الدارين، إما
إلى الجنة، وإما إلى النار، وقال أبو عبيدة: يوم الخروج اسم من
أسماء يوم القيامة، واستشهد بقول العجاج أليس يوم سميت خروجاً
أعظم يوماً سميت عروجاً، قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
وَنُمِيتُ يعني: نحيي في الآخرة، ونميت في الدنيا الأحياء،
ويقال: إنا نحن نحيي الموتى ونميت الأحياء وَإِلَيْنَا
الْمَصِيرُ يعني: المرجع في الآخرة، يعني: مصير الخلائق كلهم.
قوله عز وجل: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً
يعني: تصدع الأرض عنهم، قرأ ابن
(3/339)
كثير، ونافع، وابن عامر تَشَقَّقُ بتشديد
الشين، والباقون بالتخفيف، لأنه لما حذف إحدى التاءين ترك
الشين على حالها، ثم قال: سِراعاً يعني: خروجهم من القبور
سراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ يعني: جمع الخلائق علينا
هين نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في البعث من التكذيب وَما
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ يعني: بمسلط، يعني: لم تبعث
لتجبرهم على الإسلام، وإنما بعثت بشيراً ونذيراً، وهذا قبل أن
يؤمر بالقتال.
ثم قال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ يعني: فعظ بالقرآن بما وعد
الله فيه مَنْ يَخافُ وَعِيدِ يعني:
من يخاف عقوبتي وعذابي والله أعلم.
(3/340)
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ
يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
سورة الذاريات
وهي ستون آية مكية
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2)
فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ
(6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً أقسم الله عز وجل، بالرياح
إذا أذرت ذرواً، وروى يعلى بن عطاء، عن ابن عمر- رضي الله
عنهما- قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها
عذاب، فالرحمة منها: الناشرات، والمبشرات، والذاريات،
والمرسلات، وأما العذاب: العاصف والقاصف والصرصر والعقيم، وعن
أبي الطفيل قال: شهدت عليّا- رضي الله عنه- وهو يخطب ويقول:
سلوني عن كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ، فو الله ما من آية إلا
وأنا أعلم أنزلت بالليل، أم بالنهار فسأله ابن الكواء فقال له:
ما الذَّارِياتِ ذَرْواً قال: الرياح. قال فَالْحامِلاتِ
وِقْراً؟ قال: السحاب قال: فما فَالْجارِياتِ يُسْراً قال:
السفن جرت بالتسيير على الماء. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً؟ قال:
الملائكة.
وعن ابن عباس- رضي الله عنه- قال: والذاريات الرياح، قال: ما
ذرت الريح، فالحاملات وقرأً يعني: السحاب الثقال، الموقرة من
الماء، فالجاريات يسراً، يعني: السفن جرت بالتسيير على الماء،
فالمقسمات أمراً، يعني: أربعة من الملائكة جبريل وميكائيل
وإسرافيل وملك الموت، لكل واحد منهم أمر مقسوم، وهم المدبرات
أمراً، أقسم الله تعالى بهذه الآية: إِنَّما تُوعَدُونَ يعني:
الذي توعدون من قيام الساعة لَصادِقٌ يعني: لكائن ويقال: في
الآية مضمر، فأقسم الله تعالى برب الذاريات، يعني: ورب الرياح
الذاريات، ورب السحاب الحاملات، ورب السفن الجاريات، ورب
الملائكة المقسمات، إنما توعدون لصادق. وَإِنَّ الدِّينَ
لَواقِعٌ يعني: المجازات على أعمالهم لواقع، ثم بين في آخر
الآية ما لكل فريق من الجزاء، فبين جزاء أهل النار أنهم
يفتنون، وبين جزاء المتقين أنهم في جنات وعيون.
(3/341)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ
(10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ
يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ
(20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
ثم قال عز وجل: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ
أقسم بالسماء ذات الحسن والجمال، وقال علي بن أبي طالب- رضي
الله عنه- يعني: ذات الخلق الحسن. وقال مجاهد: المتقن من
البنيان، يعني: البناء المحكم. ويقال: الحبك يعني: ذات الطرائق
ويقال للماء القائم إذا ضربته الريح، فصارت فيه الطرائق له
حبك، وكذلك الرمل إذا هبت عليه الريح، فرأيت فيه كالطرائق
فبذلك حبك.
قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يعني: متناقض
مرة قالوا ساحراً، ومرة قالوا مجنون، والساحر عندهم من كان
عالماً غاية في العلم، والمجنون من كان جاحداً غاية في الجهل،
فتحيروا، فقالوا: مرة مجنون، ومرة ساحر، ويقال: إنكم لفى قول
مختلف، يعني:
مصدقاً ومكذباً، يعني: يؤمن به بعضهم. ويكفر به بعضهم.
ثم قال عز وجل: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ يعني: يصرف عنه من
صرف، وذلك إن أهل مكة أقاموا رجالاً على عقاب مكة، يصرفون
الناس، فمنهم من يأخذ بقولهم ويرجع، ومنهم من لا يرجع، فقال:
يصرف عنه من قد صرفه الله عن الإيمان وخذله، ويقال: يصرف عنه
من قد صرفه يوم الميثاق، ويقال يصرف عنه من كان مخذولاً لم يكن
من أهل الإيمان.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 10 الى 22]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ
ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما
آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ
(16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17)
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ (22)
ثم قال عز وجل: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ يعني: لعن الكاذبون
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ يعني: في جهالة وعمي
وغفلة عن أمر الآخرة، ساهون يعني: لاهين عن الإيمان، وعن أمر
الله تعالى يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يعني: أي
أوان يوم الحساب استهزاء منهم به، فأخبر الله تعالى عن ذلك
اليوم فقال: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يعني:
بالنار يحرقون، ويعذبون. ويقول لهم الخزنة: ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
يعني: هذا العذاب الذي كنتم به تستهزءون. يعني: تستعجلون على
وجه الاستهزاء.
ثم بيّن ثواب المتقين فقال عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني: في بساتين، وأنهار.
(3/342)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
(23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ
(24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ
بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا
تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا
تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ
هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا
إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ
يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قوله تعالى: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ
يعني: قابضين ما أعطاهم ربهم من الثواب إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ بأعمالهم. قرأ عاصم:
آخِذِينَ نصب على الحال، ومعنى فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ في حال
آخذين ما آتاهم ربهم.
ثم قال: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يعني:
قليل من الليل ما ينامون. وقال بعضهم: كانوا قليلاً. ثم الكلام
يعني: مثل هؤلاء المتقين كانُوا قَلِيلًا. ثم أخبر عن أعمالهم،
فقال: مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يعني: لا ينامون بالليل،
كقوله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً
(64) [الفرقان: 64] . وقال الضحاك: كانوا من النائمين. وقال
الحسن: لا ينامون إلا قليلاً. وقال الربيع بن أنس: لا ينامون
بالليل إلا قليلاً وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني:
يصلون عند السحر. ويقال: يصلون بالليل، ويستغفرون عند السَّحَر
عن ذنوبهم وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ يعني: نصيب للفقراء
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ السائل: المسكين الذي يسأل الناس.
والمحروم المُتَعَفِّفُ الَّذِي لا يَسْألُ الناس. ويقال:
المحروم المحترف الذي لا يبلغ عيشه. وقال الشعبي: أعياني أن
أعلم من المحروم. روى سفيان عن ابن إسحاق، عن قيس، قال: سألت
ابن عباس: من السائل والمحروم؟ فقال: السائل: الذي يسأل.
والمحروم:
المحارب الذي ليس له سهم في الغنيمة، وهكذا قال إبراهيم
النخعي، ومجاهد، والربيع بن أنس. وروى عكرمة عن ابن عباس قال:
المحروم: الفقير الذي إذا خرج إلى الناس استعف، ولم يعرف
مكانه، ولا يسأل الناس فيعطونه. وقال الزجاج: المحروم الذي لا
ينمو له مال.
ويقال: هي بالفارسية بي دولة يعني: لا إقبال له.
قوله: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ يعني: فيمن أهلك
قبلهم، لهم عبرة. ويقال: فيها علامة وحدانية الله تعالى، كأنه
قال جعلت جميع الأشياء مرآتك، لتنظر إليها، وترى ما فيها،
ومراد النظر في المرآة، رؤية من لم يَرَ فكأنه قال: وانظر في
آيات صنعي، لتعلم أفي صانع كمل الأشياء؟ فإذا نظرت إلى النقش،
والنقش يدل إلى نقاشه وإذا نظرت إلى النفس وعجائب تركيبها يدل
على خالقها، وإذا نظرت في الأرض فمختلف الأشياء عليها يدل إلى
ربها، وهي البحار، والجبال، والأنهار، والأثمار. وَفِي
أَنْفُسِكُمْ يعني: وعلامة وحدانيته في أنفسكم أَفَلا
تُبْصِرُونَ يعني: تتفكرون في خلق أنفسكم، كيف خلقكم وهو قادر
على أن يبعثكم.
قوله عز وجل: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ يعني: من السماء يأتي
سبب رزقكم، وهو المطر. ويقال: وعلى خالق السماء رزقكم وَما
تُوعَدُونَ يعني: ما توعدون من الثواب، والعقاب، والخير،
والشر. قال مجاهد: وَما تُوعَدُونَ يعني: الجنة، والنار. وهكذا
قال الضحاك.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 23 الى 37]
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما
أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ
إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ
فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ
إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ
فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا
كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً
عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ
فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ
بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً
لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
(3/343)
ثم قال عز وجل: فَوَ رَبِّ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ أقسم الرب بنفسه إِنَّهُ لَحَقٌّ يعني: ما قسمت من
الرزق لكائن مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ يعني: كما
تقولون لا إله إلا الله، أو يعني:
كما أن قولكم لا إله إلا الله حق، كذلك قولي سأرزقكم حق.
ويقال: معناه كما أن الشهادة واجبة عليكم، فكذلك رزقكم واجب
علي. ويقال: معناه هو الذي ذكر في أمر الآيات، والرزق حق.
يعين: صدق مثل ما أنكم تنطقون. وروي عن النبي صلّى الله عليه
وسلم أنه قال: «أَبَى ابْنُ آدَمَ أنْ يُصَدِّقَ رَبَّهُ حتّى
أقسم له، فو ربّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ» . قرأ
حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية أبي بكر مِثْلَ ما أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ بضم اللام. والباقون: بالنصب. فمن قرأ بالضم، فهو
نعت بالحق، وصفه له. ومن قرأ بالنصب، فهو على التوكيد على معنى
أنه لحق حقاً مثل نطقكم.
قوله عز وجل: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ يعني: جاء جبريل مع أحد عشر ملكاً عليهم السلام
المكرمين، أكرمهم الله تعالى، وقال: أكرمهم إبراهيم، وأحسن
عليهم القيام، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً فسلموا
عليه، فرد عليهم السلام قالَ سَلامٌ قرأ حمزة، والكسائي، قال:
سلم أي: أمري سلم. والباقون سَلامٌ أي: أمري سَلامٌ أي:
صلح.
ثم قال: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ يعني: أنكرهم، ولم يعرفهم. وقال
كانوا لا يسلمون في ذلك الوقت، فلما سمع منهم السلام
أَنْكَرَهُمْ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ يعني: عهد إلى أهله.
ويقال:
عدل، ومال إلى أهله. ويقال: عدل من حيث لا يعلمون لأي شيء عدل.
يقال: راغ فلان عنا، إذا عدل عنهم من حيث لا يعلمون.
(3/344)
وَفِي مُوسَى إِذْ
أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ
عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ
إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا
كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ
فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
(53)
فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ قال بعضهم: كان
لبن البقرة كله سمناً، فلهذا كان العجل سميناً فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ فلم يأكلوا فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ فقالوا: نحن لا
نأكل بغير ثمن. فقال إبراهيم:
كلوا، فاعطوا الثمن. قالوا: وما ثمنه؟ فقال: إذا أكلتم، فقولوا
بسم الله. وإذا فرغتم، فقولوا: الحمد لله، فتعجبت الملائكة-
عليهم السلام- لقوله، فلما رآهم لا يأكلون فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً يعني: أظهر في نفسه خيفة. ويقال: ملأ عنهم خيفة، فلما
رأوه يخاف قالُوا لاَ تَخَفْ منا يعني: لا تخشى منا
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ يعني: إسحاق فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ يعني: أخذت امرأته في صيحة فَصَكَّتْ
وَجْهَها يعني: ضربت بيديها، خديها تعجباً وَقالَتْ عَجُوزٌ
عَقِيمٌ يعني: عجوزاً عاقراً لم تلد قط، كيف يكون لها ولد؟
فقال لها جبريل: قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ يكون لك
ولد هُوَ الْحَكِيمُ في أمره.
حكم بالولد بعد الكبر الْعَلِيمُ عليم بخلقه. ويقال: عليم بوقت
الولادة. فلما رآهم أنهم الملائكة قالَ لهم فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ يعني: ما أمركم، وما شأنكم، ولماذا
جئتم أيها المرسلون؟ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا يعني: قال جبريل
أرسلنا الله تعالى إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني: قوم كفار
مشركين لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ يعني: لكي نرسل عَلَيْهِمْ
حِجارَةً مِنْ طِينٍ مطبوخ، كما يطبخ الآجر مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ يعني: معلمة. وقال:
مخططة بسواد، وحمرة. ويقال: مكتوب على كل واحد اسم صاحب الذي
يصيبه.
ثم قال: عِنْدَ رَبِّكَ يعني: جاءت الحجارة من عند ربك
للمشركين، فاغتم إبراهيم لأجل لوط.
قال الله تعالى: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي: في قريات
لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني:
من المصدقين فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يعني: غير بيت لوط.
قوله عز وجل: وَتَرَكْنا فِيها آيَةً يعني: أبقينا في قريات
لوط آية. يعني: عبرة في هلاكهم من بعدهم.
ثم قال: لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ يعني:
العذاب الشديد.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 53]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ
أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ
(43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ
قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ
كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ
مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ مَا أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ
أَوْ مَجْنُونٌ (52)
أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53)
(3/345)
ثم قال: وَفِي مُوسى عطف على قوله وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] وَفِي مُوسى
إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني:
حجة بينة، وهي اليد، والعصا فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ يعني: أعرض
عنه فرعون بجموعه. يعني: مع جموعه وجنوده. ويقال: فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ يعني: أعرض بجانبه وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ
يعني: عاقبناه، وجموعه نَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ
قال الكلبي يعني: أغرقناهم في البحر وقال مقاتل يعني: في النيل
هُوَ مُلِيمٌ
يعني: يلوم نفسه، ويلومه الناس. وقال: لِيمٌ
أي: مذنب. وقال أهل اللغة: ألام الرجل، إذا أتى بذنب يلام
عليه.
ثم قال: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ يعني: سلطنا عليهم الريح الشديد، وإنما سميت
عقيماً، لأنها لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم لا خير فيه.
ويقال: سميت عقيماً لأنها لا تلقح الأشجار، ولا تثير السحاب،
وهي الدبور. وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس- رضي الله عنهما-
قال: ما أنزل الله قطرة من ماء إلا بمثقال، ولا أنزل سفرة من
ريح إلا بمكيال، إلا قوم نوح طغى على خزانة الماء، فلم يكن لهم
عليه سبيل، وعتت الريح يوم عاد على خزانها، فلم يكن لهم عليها
سبيل وروى عكرمة عن ابن عباس قال: العقيم الذي لا منفعة لها.
ثم قال: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ يعني: ما تترك من شيء هو لهم،
ولا منهم، أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
يعني: مرت عليه إلا جعلته كالرماد. ويقال: الرميم: الورق
الجاف، المتحطم، مثل الهشيم المحتظر، كما قال كهشيم المحتظر،
بعد ما كانوا كنخل متقصر. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
ما أرسل على عاد من الريح، إلا مثل خاتمي هذا. يعني:
إن الريح العقيم تحت الأرض، فأخرج منها مثل ما يخرج من ثقب
الخاتم، فأهلكهم.
ثم قال: وَفِي ثَمُودَ يعني: قوم صالح إِذْ قِيلَ لَهُمْ
تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ يعني: قال لهم نبيهم صالح- عليه
السلام- عيشوا إلى منتهى آجالكم، ولا تعصوا أمر الله فَعَتَوْا
عَنْ أَمْرِ
(3/346)
رَبِّهِمْ
يعني: تركوا طاعة ربهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني:
العذاب. قرأ الكسائي:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بغير ألف، وجزم العين. والباقون:
بألف. وهي الصيحة التي أهلكتهم بالصعقة، قوله من قولك: صعقتهم
الصاعقة. يعني: أهلكتهم. وروي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه
قرأ صعقة مثل الكسائي. وَهُمْ يَنْظُرُونَ يعني: ظهرت النار من
تحت أرجلهم، وهم يرونها بأعينهم. ويقال: سمعوا الصيحة، وهم
ينظرون متحيرون. فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ يعني: ما
استطاعوا أن يقوموا لعذاب الله تعالى، حتى أهلكوا. وَما كانُوا
مُنْتَصِرِينَ يعني: ممتنعين من العذاب.
ثم قال: وَقَوْمَ نُوحٍ وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وقوم
نوح: بكسر الميم.
يعني: في قوم نوح كما قال: وفي ثمود. والباقون: بالنصب. يعني:
وأهلكنا قوم نوح.
ويقال: معناه فأخذناه، وأخذنا مِنْ قَبْلُ هؤلاء الذين سميناهم
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ يعني: قوم نوح من قبل.
يعني: عاصين.
قوله عز وجل: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ يعني: خلقناها
بقوة، وقدرة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ يعني: نحن قادرون على أن
نوسعها كما نريد. ويقال: وَالسَّماءَ صار نصباً لنزع الخافض.
ومعناه وفي السماء [الزخرف: 84] . آية.
ثم قال عز وجل: وَالْأَرْضَ فَرَشْناها يعني: وفي الأرض آية،
بسطناها مسيرة خمسمائة عام من تحت الكعبة فَنِعْمَ
الْماهِدُونَ يعني: نعم الماهدون نحن. ويقال: في قوله:
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ يعني: نحن جعلنا بينهما، وبين الأرض
سعة.
ثم قال عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ يعني:
صنفين، الذكر والأنثى، والأحمر والأبيض، والليل والنهار،
والدنيا والآخرة، والشمس والقمر، والشتاء والصيف.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني: تتعظون فيما خلق الله،
فتوحدوه.
قوله عز وجل: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ يعني: توبوا إلى الله من
ذنوبكم. ويقال: معناه فَفِرُّوا من الله إِلَى اللَّهِ أو
فَفِرُّوا من عذاب الله، إلى رحمة الله، أو فَفِرُّوا من
معصيته، إلى طاعته. ومن الذنوب إلى التوبة. إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني: مخوفاً من عذاب الله تعالى
بالنار وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعني: لا
تقولوا له شريكاً، وولداً إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ
مُبِينٌ يعني: فإن فعلتم، فإني لكم مخوف من عذابه، فلم يقبلوا
قوله، وقالوا: هذا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.
يقول الله تعالى تعزية لنبيه صلّى الله عليه وسلم: كَذلِكَ مَا
أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ يعني:
هكذا ما أتى في الأمم الخالية من رسول، إِلَّا قالُوا ساحِرٌ
أَوْ مَجْنُونٌ كقول كفار مكة
(3/347)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى
تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
للنبي صلّى الله عليه وسلم أَتَواصَوْا
بِهِ يعني: توافقوا، وتواطؤوا فيما بينهم. وأوصى الأول الآخر
أن يقولوا ذلك. ويقال: توافقوا، وتواطؤوا به كل قوم، وجعلوا
كلمتهم واحدة أن يقولوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.
قال الله عزّ وجلّ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ يعني: عاتين في
معصية الله تعالى.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 54 الى 60]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
(58)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
ثم قال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يعني: فأعرض عنهم يا محمد، بعد ما
بلغت الرسالة، وأعذرت، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ يعني: لا تلام
على ذلك، لأنك قد فعلت ما عليك وَذَكِّرْ يعني: عظ أصحابك
بالقرآن فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ يعني:
المصدقين تنفعهم العظة.
ويقال: فعظ أهل مكة، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. يعني: من قدر
لهم الإيمان.
ثم قال عز وجل: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ يعني: ما خلقتهم، إلا أمرتهم بالعبادة، فلو أنهم
خلقوا للعبادة لما عصوا طرفة عين. وقال مجاهد: يعني: ما خلقتهم
إلا لآمرهم، وأنهاهم. ويقال: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ يعني: إلا
ليوحدون، وهم المؤمنون، وهم خلقوا للتوحيد والعبادة، وخلق
بعضهم لجهنم، كما قال: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] فقد خلق كل صنف
للأمر، والنهي الذي يصلح له.
ثم قال: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ يعني: ما خلقتهم،
لأن يرزقوا أنفسهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ يعني: لا
أكلفهم أن يطعموا أحداً من خلقي. وأصل هذا أن الخلق عباد الله،
وعياله. فمن أطعم عيال رجل ورزقهم، فقد رزقه إذا كان رزقهم
عليه.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ يعني: الرَّزَّاقُ
لجميع خلقه ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يعني:
ذُو الْقُوَّةِ على أعدائه، الشديد العقوبة لهم، والمتين في
اللغة: الشديد القوي قرأَ الأعمش:
ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ بكسر النون، جعله من نعت القوة.
وقراءة العامة بالضم، ومعناه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ
وهو ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ.
قوله عز وجل: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: أشركوا وهم
مشركو مكة ذَنُوباً يعني:
(3/348)
نصيباً من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحابِهِمْ يعني: مثل نصيب أصحاب من عذاب الذين مضوا، وأصل
الذنوب في اللغة هو الدلو الكبير، فكيف عنه، لأنه تتابع. يعني:
مثل عذاب الذين أهلكوا نحو قوم عاد، وثمود، وغيرهم. فَلا
يَسْتَعْجِلُونِ يعني: بالعذاب، لأن النضر بن الحارث كان
يستعجل بالعذاب، فأمهله إلى يوم بدر، ثم قتل في ذلك اليوم،
وصار إلى النار.
قوله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ
الَّذِي يُوعَدُونَ يعني: مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة.
والويل: الشدة من العذاب. يقال: الويل وادٍ في جهنم.
(3/349)
|