تفسير السمرقندي
بحر العلوم وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
سورة التين
وهي ثمان آيات مكيّة
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا
الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5)
قوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وهما مسجدان بالشام،
ويقال: هما جبلان بالشام التِّينِ جبل بيت المقدس
وَالزَّيْتُونِ جبل بدمشق وقال قتادة: التِّينِ الجبل الذي
عليه دمشق وَالزَّيْتُونِ الجبل الذي عليه بيت المقدس. ويقال:
التِّينِ الذي يؤكل. وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما، أنه
قال: تينكم وزيتونكم هذا. وقال مجاهد: هو الذي يؤكل، وهو قول
سعيد بن جبير، والشعبي.
ثم قال: وَطُورِ سِينِينَ يعني: الجبل الذي كلم الله تعالى
عليه موسى، صلوات الله على نبينا وعليه ويقال الطور اسم الجبل
سِينِينَ يعني: ذا شجر. ويقال: التين معناه علي بن أبي طالب-
رضي الله عنه وَالزَّيْتُونِ فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلّى
الله عليه وسلم، ورضي الله تعالى عنها، وَطُورِ سِينِينَ هما
الحسن والحسين سيد الشهداء في دار الدنيا، وهذا لا يصح في
اللغة وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني: مكة أمين من أن يهاج
فيها، من دخل فيها. ويقال:
الْأَمِينِ لجميع الحيوان الذي لا يجري عليه القلم.
ثم قال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ يعني: في أحسن صورة، لأنه يمشي مستوياً، وليس
منكوساً، وله لسان ذلق، ويد وأصابع يقبض بها. قال بعضهم: نزلت
في شأن الوليد بن المغيرة، وقال بعضهم نزلت في كلدة بن أسيد،
وقال بعضهم هذا عام.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يعني: رددناه بعد القوة
والشباب، والحسن إلى الضعف والهرم، يعني: يصير كالصبي في الحال
الأولى، يعني: رددناه إلى أرذل العمر. ويقال: رددناه. يعني:
الفاجر والكافر بعد موته، إلى أسفل السافلين في النار.
(3/595)
إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
[سورة التين (95) : الآيات 6 الى 8]
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ
بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
ثم قال عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، وَعَمِلُواْ
الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني: غير منقوص،
وذلك أن المؤمن إذا عمل في حالة شبابه، وقوته وحياته، فإذا مرض
أو هرم، أو مات، فإنه يكتب له حسناته، كما كان يعمل في حال
شبابه وقوته، إلى يوم القيامة ويقال: غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني:
غير مقطوع ويقال: غَيْرُ مَمْنُونٍ يعني: لا يُمَنُّ عليه.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ المُؤْمِنُ
إذَا مَاتَ، صَعِدَ مَلَكَاهُ إلى السَّمَاءِ، فَيَقُولاَنِ:
إنَّ عَبْدَكَ فُلاَناً قَدْ مَاتَ، فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى
نَعْبُدَكَ عَلَى السَّمَاءِ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: إِنَّ
سَمَاوَاتِي مَمْلُوْءةٌ بِمَلاَئِكَتِي، وَلَكِنْ اذْهَبَا
إلَى قَبْرِهِ، فَاكْتُبَا لَهُ حَسَنَاتِهِ إلى يوم القيامة»
.
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يعني: أيها الإنسان ما
الذي حملك، بعد ما خلقك الله تعالى في أحسن تقويم، حتى كذبت
بيوم الدين والقضاء أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ
يعني: بأعدل العادلين، يعمل بالعدل مع الكفار، ومع المؤمنين
بالفضل. وقال مقاتل: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يعني:
فما يكذبك أيها الإنسان، بعد بيان الصورة الحسنة، والشباب
والهرم بالحساب، لا تغتر في صورتك وشبابك، فهو قادر على أن
يبعثك. ويقال: معنى قوله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ [العصر: 3] يعني: لا يحزن ولا يذهب عقله، من كان
عالماً عاملاً به. وروي عن ابن عمر، عن النبيّ صلّى الله عليه
وسلم أنه قال: «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمرهُ، وَحَسُنَ
عَمَلُهُ» . والله أعلم.
(3/596)
اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
سورة العلق
وهي تسع عشرة آية مكية
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
قوله تبارك وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
يقول: اقرأ القرآن بأمر ربك، وهذه أول سورة نزلت من القرآن،
وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم، لما بلغ أربعين سنة، كان
يسمع صوتاً يناديه يا محمد، ولا يرى شخصه، وكان يخشى على نفسه
الجنون، حتى رأى جبريل عليه السلام يوماً في صورته، فغشي عليه،
فحمل إلى بيت خديجة. فقالوا لها تزوجت مجنوناً، فلما أفاق أخبر
بذلك خديجة، فجاءت إلى ورقة بن نوفل، وكان يقرأ الإنجيل
ويفسره. ثم جاءت إلى عداس، وكان راهباً، فقال لها: إن له نبأ
وشأناً، يظهر أمره.
فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلم يوماً إلى الوادي، فجاء
جبريل- عليه السلام- بهذه السورة، وأمره بأن يتوضأ ويصلي
ركعتين، فلما رجع أعلم بذلك خديجة، وعلمها الصلاة وذلك قوله:
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم: 6] يعني:
علموهم وأدبوهم. وروى معمر عن الزهري أنه قال:
أخبرني عروة عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ
به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصالحة
الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حُبِّب
الخلاءُ إليه. يعني: العزلة وكان يأتي حراء، ويمكث هناك، ثم
يرجع إلى خديجة.
فجاءه الملك، وهو على حراء فقال له: اقرأ فقال له رسول الله
صلّى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني ثانية، حتى
بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ،
فأخذني فغطني ثالثة، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ
الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فرجع ترجف بوادره، وقد أخذته
الرّعدة، حتى دخل على خديجة، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى
ذهب عنه الروع،
(3/597)
كَلَّا إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ
إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)
عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى
الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ
يَرَى (14)
فذلك قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ يعني:
اقرأ بعون الله ووحيه إليك، ويقال معناه اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ كقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ يعني: اذكر ربك
الذي خلق الخلائق.
ثم قال عز وجل: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يعني: ابن آدم
من دم عبيط، وقال في آية أخرى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ
مَهِينٍ (20) [المرسلات: 20] وقال في آية أخرى: خَلَقْناكُمْ
مِنْ تُرابٍ [الحج: 5] وهذه الآيات يصدّق بعضها بعضاً، لأن أول
الخلق مِّن تُرَابٍ، ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ
عَلَقَةٍ، ثم من مضغة. كما بين الجملة في موضع آخر. ثم قال عز
وجل: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ يعني: اقرأ يا محمد- صلّى
الله عليه وسلم- وربك يعينك ويفهمك، وإن كنت غير قارئ
الْأَكْرَمُ يعني:
ربك المتجاوز عن جهل العباد، ويقال: اقْرَأْ وقد تم الكلام، ثم
استأنف فقال وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ يعني: الكريم ويقال الأكرم
يعني: المكرم الذي يكرم من يشاء بالإسلام.
ثم قال: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ علم الكتابة، والخط
بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يعني: علم آدم
عليه السلام أسماء كل شيء، يعني: ألهمه ويقال عَلَّمَ
الْإِنْسانَ يعني:
محمدا صلّى الله عليه وسلم ما لَمْ يَعْلَمْ يعني: القرآن
كقوله مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
[الشورى: 52] ويقال: علم الإنسان ما لم يعلم، يعني: علم بني
آدم ما لم يعلموا كقوله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: 78] .
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 14]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
(7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
ثم قال عز وجل: كَلَّا يعني: حقاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى
يعني: الكافر ليعصي الله.
ويقال: يرفع منزلة نفسه أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى يعني: إن رأى
نفسه مستغنياً عن الله تعالى، مثل أبي جهل وأصحابه، ومثل فرعون
حيث ادعى الربوبية. قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا أبو جعفر
بن عوف، عن الأعمش، عن القاسم قال: قال عبد الله بن مسعود- رضي
الله عنه:
منهومان لا يشبعان، طالب العلم وطالب الدنيا، ولا يستويان أما
طالب العلم، فيزداد رضا الله وأما طالب الدنيا، فيزداد في
الطغيان ثم قال: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ
اسْتَغْنى.
ثم قال: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
يعني: المرجع إلى الله تعالى يوم القيامة، ويقال: معناه رجوع
الخلائق كلهم بعد الموت إلى الله تعالى، فيحاسبون ويجازون،
فريق في الجنة، وفريق فى السعير. قوله تعالى: أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وذلك أن النبيّ صلّى الله
عليه وسلم، كان إذا صلى في المسجد، رفع صوته بالقراءة، فلغطوا
ورموه بالحجارة، فخفض صوته في الصلاتين
(3/598)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ (19)
الظهر والعصر، إذا حضروا. وأما صلاة
المغرب، اشتغلوا بالعشاء وصلاة العشاء ناموا، وصلاة الفجر لم
يقوموا، فرفع في هذا، فصار سنة إلى اليوم فنزل أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى ويقال: إن أبا جهل بن هشام
قال: لئن رأيت محمداً صلّى الله عليه وسلم يصلي، لأطانّ عنقه
فنزل أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى يعني: ألم
تر أن هذا الكافر، ينهى عبد الله عن الصلاة، وهو محمد صلّى
الله عليه وسلم.
ثم قال: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني: محمدا صلّى
الله عليه وسلم، إن كان على الإسلام أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى
يعني: التوحيد. ثم قال: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
يعني: إِنْ كَذَّبَ بالتوحيد وَتَوَلَّى عن الإسلام أَلَمْ
يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى أفعاله فيجازيه، وهذا جواب
لجميع ما تقدم من قوله أَرَأَيْتَ ويقال في الآية إضمار وهو
قوله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى يعني:
بهذا الذي يصنع، ويؤذي محمدا صلّى الله عليه وسلم، أليس هو على
ضلالة، أليس هو قد نهى عن الصلاة والخيرات أَرَأَيْتَ إِنْ
كانَ عَلَى الْهُدى يعني: أرأيت أيها الناهي، إن كان المصلي
على الهدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى يعني: بالتوحيد، واجتناب
المعاصي، فينهاه عن ذلك.
[سورة العلق (96) : الآيات 15 الى 19]
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17)
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ (19)
ثم قال: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ يعني: حقاً لئن لم يمتنع
أبو جهل، عن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم يتب، ولم
يسلم قبل الموت لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ يعني: لنأخذ به
بالناصية أخذاً شديداً، يعني: يؤخذ بنواصيه يوم القيامة، ويطوى
مع قدميه، ويطرح في النار. فنزلت الآية في شأن أبي جهل، وهي
عظة لجميع الناس، وتهديد لمن يمنع عن الخير، وعن الطاعة. ثم
قال عز وجل: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ جعل الكاذبة صفة
الناصية، وإنما أراد صاحب الناصية، يعني:
ناصية كاذبة على الله تعالى، خاطئة يعني: مشركة. وقال مجاهد:
الذي يجحد، ويأكل رزق الله تعالى، ويعبد غيره.
ثم قال عز وجل: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ يعني: قل يا محمد صلّى
الله عليه وسلم، فليدع أهل مجلسه، وأصحابه الكفرة حتى سَنَدْعُ
الزَّبانِيَةَ يعني: الملائكة، هم ملائكة العذاب، غلاظ شداد،
والزبانية أخذ من الزَّبْن، وهو الدفع وإنما سمّوا الزبانية،
لأنهم يدفعون الكفار إلى النار.
ويقال: إنما سموا زبانية، لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون
بأيديهم. وروي في الخبر، أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما قرأ
بهذه السورة، وبلغ إلى قوله لنسفعاً بالناصية، قال أبو جهل:
أنا أدعو قومي، حتى يمنعوا عني ربك.
(3/599)
قال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ فلما سمع ذكر الزبانية، رجع فزعاً.
فقيل له: خشيت منه، قال: ولكن رأيت عنده فارساً فهددني
بالزبانية، فلا أدري ما الزبانية، ومال إلى الفارس، فخشيت أن
يأكلني. وروى عكرمة عن ابن عباس إِنَّ رسول الله صلّى الله
عليه وسلم، هدد أبا جهل فقال: لم تهددني؟ فو الله علمتَ أني
أكثر أهل الوادي نادياً، لئن دعوتُ، يعني: أهل مجلسي منعوني عن
ربك، فنزل فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن
عباس رضي الله عنه: لو دعا ناديه، أخذته الزبانية.
ثم قال: كَلَّا لاَ تُطِعْهُ يعني: حقاً لا تطعه في ترك الصلاة
يا محمد وَاسْجُدْ يعني:
صل لله تبارك وتعالى وَاقْتَرِبْ يعني: صل واقترب إلى ربك،
بالأعمال الصالحة. وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أقرب ما
يكون العبد من ربه وهو ساجد، ألا يرى إلى قوله وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ يعني: اقترب إلى ربك بالسجود، واعلم أن السجود
أربعة أحرف، السين سرعة المطيعين والجيم جهد العابدين والدال
دوام المجتهدين والهاء هداية العارفين ويقال السين سرور
العارفين، الجيم جمال العابدين، والدال دولة المطيعين، والهاء
هبة الصديقين.
(3/600)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
(3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
وهي خمس آيات مكيّة
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ
مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يعني:
أنزلنا القرآن الكريم جملة واحدة إلى سماء الدنيا، من اللوح
المحفوظ في ليلة القدر، يعني: في ليلة القضاء، وإنما سميت ليلة
القدر، لأن الله تعالى، يقدر في تلك الليلة ما يكون من السنة
القابلة، من أمر الموت والأجل، والرزق. وغيره ويسلمه إلى
مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة إسرافيل وجبريل،
وميكائيل وملك الموت عليهم السلام. وفي آية أخرى فِي لَيْلَةٍ
مُبارَكَةٍ وإنما سميت ليلة مباركة، يعني: ليلة القدر، لأنه
ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة.
ثم قال عز وجل: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ تعظيماً
لها، فقال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
يعني: العمل في ليلة القدر، خير من العمل في ألف شهر، ليس فيها
ليلة القدر، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان
جالساً بين أصحابه، يحدث بأن رجلاً كان من بني إسرائيل، لبس
السلاح ألف شهر، وصام ولم يضع السلاح، حتى مات. فعظم ذلك على
أصحابه فنزلت لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
يعني: العمل فيها وثوابه، أفضل من لبس السلاح، وصيام ألف شهر
ليس فيها ليلة القدر. وروي في خبر آخر، أن النبيّ صلّى الله
عليه وسلم قال: «أَرَى أَعْمَالُ النَّاسِ» ، فكأنه تقاصر
أعمار أمته، أن لم يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول
العمر، فأعطاه الله تعالى في الجنة ليلة القدر، خيراً من ألف
شهر. فقيل: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أي ليلة هي؟
قال: «الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»
.
ثم قال عز وجل: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها
يعني: تتنزل الملائكة من كل سماء،
(3/601)
ومن سدرة المنتهى، وهو مسكن جبريل على
وسطها عليه السلام، فينزلون إلى الأرض، ويدعون الخلق، ويؤمنون
بدعائهم، إلى وقت طلوع الفجر. وذلك قوله: تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها يعني: جبريل معهم وذكر في
الخبر، أن جبريل عليه السلام، وقف على سطح الكعبة، ونشر
جناحيه. أحدهما يبلغ المشرق. والآخر يبلغ المغرب. وقال بعضهم:
«الروح» خلق يشبه الملائكة، وجهه يشبه وجه بني آدم عليه
السلام. وقال بعضهم: هو ما قال الله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] وقال مجاهد ما نزل ملك إلا ومعه
روح، ولهم أيد وأرجل، وهم موكلون على الملائكة، كما أن
الملائكة موكلون على بني آدم.
ثم قال عز وجل: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يعني: ينزلون بأمر ربهم
مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ يعني:
تلك الليلة من كل أمر سلام، يعني: من كل آفة سلامة، يعني: في
هذه الليلة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، ويقال سلام يعني:
لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شراً. وقال القتبي: إن (مِنْ)
توضع موضع (الباء) ، يعني: بكل أمر سلام أي: خير هِيَ حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ وقال مجاهد:
يعني: كل أمر سلام، وسلام من أن يحدث فيها آذًى، أو يستطيع
الشيطان أن يعمل فيها.
ويقال: معناه تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ وقد تم الكلام. يعني:
ينزلون فيها من كل أمر من الرخصة، وكل أمر قدره الله تعالى، في
تلك الليلة إلى قابل.
ثم استأنف فقال: سَلامٌ هِيَ يعني: سلام وبركة، وخير كلها
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
وروي عن ابن عباس رضي الله، عنهما، أنه قرأ من كل أمر سلام،
يعني: الملائكة يسلمون على كل امرئ. وقرأ الكسائي حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ بكسر اللام، والباقون بنصب اللام. فمن قرأ
بالكسر، جعله اسماً لوقت الطلوع، ومن قرأ بالنصب جعله مصدراً.
يعني: يطلع طلوعاً، والله أعلم بالصواب.
(3/602)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
سورة البيّنة
مختلف فيها وهي ثمان آيات مدنية
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ
وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ يعني: اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ يعني: عبدة
الأوثان مُنْفَكِّينَ يعني: غير منتهين عن كفرهم، وعن قولهم
الخبيث حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ يعني: حتى أتاهم
البيان، فإذا جاءهم البيان، فريق منهم انتهوا وأسلموا، وفريق
ثبتوا على كفرهم. ويقال: لم يزل الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ
الكتاب والمشركين، حتى وجب في الحكمة علينا في هذا الحال،
إرسال الرسول إليهم. ويقال: معناه لم يكونوا منتهين عن الكفر،
حتى أتاهم الرسول والكتاب، فلما آتاهم الكتاب والرسول، تابوا
ورجعوا عن كفرهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب، والذين أسلموا من
مشركي العرب. وقال قتادة:
الْبَيِّنَةُ أراد به محمدا صلّى الله عليه وسلم، وقال القتبي:
مُنْفَكِّينَ أي: زائلين يقال: لا أنفك من كذا أي: لا أزول.
قوله تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً يعني: قرآناً مطهراً من الزيادة والنقصان. ويقال:
مطهراً من الكذب، والتناقض ويقال: صُحُفاً مُطَهَّرَةً أي:
أمور مختلفة.
ويقال: سمي القرآن صحفاً، من كثرة السور فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ يعني: صادقة مستقيمة لا عوج فيها. ويقال: كتب قيمة،
يعني: تدل على الصواب والصلاح، ولا تدل على الشرك والمعاصي. ثم
قال عز وجل: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني:
وما اختلفوا في
(3/603)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ
الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
رَبَّهُ (8)
محمّد صلّى الله عليه وسلم، وهم اليهود
والنصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ
يعني: بعد ما ظهر لهم الحق، فنزل القرآن على محمد صلّى الله
عليه وسلم.
ثم قال: وَما أُمِرُوا يعني: وما أمرهم محمد صلّى الله عليه
وسلم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ يعني: ليوحدوا الله. ويقال:
وَما أُمِرُوا يعني: وما أمرهم محمد صلّى الله عليه وسلم
إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ يعني: ليوحدوا الله. ويقال: وَما
أُمِرُوا في جميع الكتب، إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ يعني:
يوحدوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ مسلمين. روي
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه قال: حُنَفاءَ يعني:
متبعين. وقال الضحاك حُنَفاءَ يعني: حجاجاً يحجون بيت الله
تعالى.
ثم قال: وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ يعني: يقرون بالصلاة، ويؤدونها
في مواقيتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ يعني: يقرون بها ويؤدونها
وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ يعني: المستقيم لا عوج فيه، يعني:
الإقرار بالتوحيد، وبالصلاة والزكاة، وإنما بلفظ التأنيث
الْقَيِّمَةِ لأنه انصرف إلى المعنى، والمراد به الملة، يعني:
الملة المستقيمة لا عوج فيها. يعني: هذا الذي يأمرهم محمد صلّى
الله عليه وسلم، وبهذا أُمروا في جميع الكتب.
[سورة البينة (98) : الآيات 6 الى 8]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ
هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
(7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
ثم قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ يعني: الذين جحدوا من اليهود
والنصارى بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وبالقرآن ومن مشركي مكة،
وثبتوا على كفرهم فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها يعني:
دائمين فيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ يعني: شر
الخليقة. قرأ نافع وابن عامر (بريئة) بالهمزة، والباقون بغير
همزة. فمن قرأ بالهمزة، فلأن الهمزة فيها أصل.
ويقال برأ الله الخلق، ويبرؤهم وهو الخالق البارئ. ومن قرأ
بغير همزة، فلأنه اختار حذف الهمزة وتخفيفها.
ثم مدح المؤمنين، ووصف أعمالهم، وبين مكانهم في الآخرة، حتى
يرغبوا إلى جواره فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ يعني: صدقوا بالله، وأخلصوا بقلوبهم وأفعالهم،
وهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم ومن تابعهم إلى يوم
القيامة أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ يعني: هم خير
الخليقة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص (والله للمؤمن أكرم
على الله تعالى من بعض الملائكة الذين عبدوه) وروي عن الحسن،
أنه سئل عن قوله أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ أهم خير
(3/604)
من الملائكة؟ قال: ويلك أين تعدل الملائكة،
من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل: جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني:
ثوابهم في الآخرة جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ يعني: أنهار من الخمر، والعسل، واللبن، وماء غير
آسن خالِدِينَ فِيها أَبَداً يعني: دائمين مقيمين فِيهَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بأعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه
الجنة ذلِكَ يعني: هذا الثواب الذي ذكر لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
يعني: وَحَّدَ ربه في الدنيا، واجتنب معاصيه والله أعلم.
(3/605)
إِذَا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
سورة الزلزلة
مختلف فيها وهي ثمان آيات مدنية
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6)
قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وذلك أن
الناس، كانوا يرون في بدء الإسلام، أن الله تعالى لا يؤاخذ
بالصغائر من الذنوب، ولا يعاقب إلا في الكبائر، حتى نزلت هذه
السورة وقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وذكر أهوال
ذلك اليوم، وبين أن القليل في ذلك اليوم، يكون كثيراً فقال
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها يعني: تزلزلت الأرض عند
قيام الساعة، ونزل وبين متى يكون قيام الساعة فقال: إِذا
زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها يعني: تزلزلت الأرض، وتحركت
تحركاً وهو كقوله: وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً [نوح: 18] والمصدر
للتأكيد.
قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها يعني: أظهرت ما
فيها من الكنوز والأموات وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها يعني:
يقول الإنسان الكافر: ما لها يعني: للأرض على وجه التعجب.
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها يعني: تخبر الأرض، بكل ما
عَمِلَ عليها بنو آدم، من خير أو شر تقول: للمؤمنين صلّى
عليَّ، وحج واعتمر، وجاهد، فيفرح المؤمن، وتقول للكافر أشرك
وسرق، وزنى وشرب الخمر، فيحزن الكافر فيقول: ما لها؟ يعني: ما
للأرض تحدث بما عمل عليها؟ على وجه التقديم والتأخير، ومعناه:
يومئذٍ تحدث أخبارها وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها.
يقول الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحى لَها يعني: أن الأرض تحدث، بأن ربك
(3/606)
فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
أذن لها في الكلام، وألهمها يَوْمَئِذٍ
يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً يعني: يرجع الناس متفرقين، فريق
في الجنة، وفريق في السعير فريق مع الحور العين يتمتعون، وفريق
مع الشياطين يعذبون، فريق على السندس والديباج، على الأرائك
متكئون، وفريق فى النار، على وجوههم يُجَرُّونَ. اللهم في
الدنيا هكذا كانوا فريقاً حول المساجد والطاعات، وفريق في
المعاصي والشهوات، فذلك قوله يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتاتاً يعني: فِرقاً فِرَقاً.
لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ يعني: ثواب أعمالهم، وهكذا. كما روي عن
النبي صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «ما من أَحَدٍ يَوْمَ
القِيَامَةِ، إلاَّ وَيَلُومُ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ
مُحْسِناً يَقُولُ: لِمَ لَمْ أزدَدْ إحساناً، وَإِنْ كَانَ
غَيْرَ ذَلِكَ، يَقُولُ: أَلاَ رَغِبْتُ عَنِ المَعَاصِي؟»
وهذا عند معاينة الثواب والعقاب. وقال أبيّ بن كعب: الزلزلة لا
تخرج إلا من ثلاثة، إما نظر الله تعالى بالهيبة إلى الأرض،
وإما لكثرة ذنوب بني آدم، وأما لتحرك الحوت، التي عليها
الأرضون السبع، تأديباً للخلق وتنبيهاً.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 الى 8]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
ثم قال عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ يعني: مقدار ذرة، وهو الذي يرى في شعاع الشمس. يعني:
يرى ثوابه في الآخرة وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ يعني: يرى جزاؤه في الآخرة. وروى قتادة، عن محمد بن كعب
القرظي قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
الآية قال: ما من كافر عمل مثقال ذرة من خير، إلا عجّل له ثواب
ذلك في الدنيا، في نفسه أو في أهله، أو في ماله، حتى خرج من
الدنيا، وليس له عند الله، مثقال ذرة من خير، وما من مؤمن عمل
مثقال ذرة من شر، إلا عجل له عقوبتها في الدنيا، في نفسه أو في
ماله، أو في أهله حتى يخرج من دار الدنيا وليس له عند الله
مثقال ذرة من شر.
وروى معمر، عن زيد بن أسلم، أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلّى الله
عليه وسلم، فقال: علمني مما علمك الله، فدفعه إلى رجل يعلمه
القرآن، فعلمه إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ حتى بلغ فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فقال الرجل: حسبي فأخبر بذلك
النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: دعه فقه الرجل. وروى
الأجلح، عن أبي إسحاق، عن امرأته، عن عائشة أنها قالت:
دخلت على عائشة رضي الله عنها، أنا وامرأة أبي سفيان، فجاء
سائل يسألها سلة من عنب، فأخذت حبة من عنب فأعطته، فنظر بعضنا
إلى بعض فقالت: إن قدر هذا، أثقل من ذرات كثيرة. ثم قرأت
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ والله أعلم.
(3/607)
|