تفسير السمرقندي
بحر العلوم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا
الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
(4)
سورة البلد
وهي عشرون آية مكيّة
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا
الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
قوله تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ يعني: أقسم بهذا
البلد، ولا صلة في الكلام، ومعناه أقسم برب هذا البلد الذي ولد
فيه يعني: مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ يحلها يوم فتح
مكة، معناه فسيحل لك هذا البلد، يعني: القتال فيه ساعة من
النهار، ولم يحل لك أكثر من ذلك.
وروى عبد الملك، عن عطاء في قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا
الْبَلَدِ وقال: إن الله تعالى حرم مكة، فجعلها حراماً يَوْمَ
خَلَقَ السموات والأرض، وهي حرام إلى أن تقوم الساعة، ولم تحل
إلا للنبي صلّى الله عليه وسلم ساعة من النهار. وروي عن النبيّ
صلّى الله عليه وسلم، أنه دخل بالبيت يوم الفتح، ووضع يده على
باب الكعبة، فقال: «لاَ إله إلاَّ الله وَحْدَهُ، صَدَقَ
وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ،
أَلاَ إن الله تعالى حرم مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السموات
والأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ لِي، بِحَرَامِ الله تَعَالَى إلَى
يَوْمِ القِيَامَةِ، لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ
تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً
مِنْ نهار» .
ثم قال عز وجل: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ وَوالِدٍ يعني: آدم وَما
وَلَدَ، يعني: ذريته.
ويقال: كل والد وكل مولود. وقال عكرمة وَوالِدٍ الذي يلد وَما
وَلَدَ التي لم تلد من النساء والرجال لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ يعني: معتدل الخلق والقامة، فأقسم بمكة
وبآدم وذريته لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ منتصباً قائماً على
رجلين. وقال مقاتل: نزلت الآية في حارث بن عامر بن نوفل. وروى
مقسم، عن ابن عباس في قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ قال:
خلق كل شيء يمشي على أربع، إلا الإنسان فإنه خلق منتصباً، وهذا
كقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
(4) [التين: 4] ويقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ يعني: في مشقة وتعب.
وروي عن ابن رفاعة، عن سعيد بن الحسن، عن الحسن البصري في
قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا
(3/582)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا
لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ
نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ
(11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ
(13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا
ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ
الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ
أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ
(20)
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ
قال سعيد: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة. وقال الحسن: لم
يخلق الله تعالى خليقة، يكابد مكابدة ما يكابد ابن آدم. وروي
عن عطاء، عن ابن عباس يقول: خلق في شدة، يعني: مولده ونبات
أسنانه وغير ذلك. ويقال: معناه: ولقد خلقنا الإنسان في كبد وهي
المضغة، مثل الكبد دماً غليظاً، ثم يصير مضغة.
[سورة البلد (90) : الآيات 5 الى 10]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ
أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ
أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً
وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وقال عز وجل: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
يعني: أيحسب الكافر، أن لن يقدر عليه الله تعالى، يعني: على
أخذه وعقوبته. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً يعني: أبا
جهل بن هشام يقول: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صلّى الله
عليه وسلم، فلم ينفعني ذلك، وهو أنه ضمن مالاً لمن يقتل محمدا
صلّى الله عليه وسلم، ويقال: أنفق مالاً يوم بدر. ثم قال عز
وجل: أَيَحْسَبُ يعني: أيظن أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني: إن
لم ير الله تعالى صنيعه فلا يعاقبه بما فعل. ثم ذكر ما أنعم
عليه ليعتبر به ويوحد فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ
يعني: ألم نخلق له عينين. يبصر بهما وَلِساناً ينطق به
وَشَفَتَيْنِ فيضمهما.
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال الثعلبي ومقاتل يعني: عرّفناه
طريق الخير والشر. وقال قتادة:
يعني: طريق الهدى والضلالة، وهكذا قال ابن مسعود، رضي الله
عنه، ويقال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ يعني: هديناه في الصغر
لأحد الثديين، يعني: خلق له شفتين، ليأخذ بهما ثدي أمه. ويقال:
بينا له طريقين، طريق الدنيا، وطريق الآخرة. وقال مجاهد: يعني:
طريق السعادة، وطريق الشقاوة. ويقال: الطاعة والمعصية، ويقال:
طريق الصواب، وطريق الخطأ.
ومعناه ألم نجعل له ما يستدل به، على إن الله تعالى قادر على
أن يبعثه، ويحصي عليه ما عمله.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ
(19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
ثم قال عز وجل: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعني: فلا هو
اقتحم العقبة، ويقال: فلم يقتحم
(3/583)
العقبة، ويقال: معناه فهل تجاوز العقبة،
الذي يزعم أنه أنفق مالاً كثيراً في عداوة محمد صلّى الله عليه
وسلم، وإنما أراد بالعقبة، الصراط. كما روي عن أبي ذر الغفاري
أنه قال: إنه بين أيدينا عقبة كؤود، لا ينجو منها إلاَّ كل
مخف. وكما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه بكى حين حضرته
الوفاة، قيل له: وما يبكيك؟ قال: بُعْدَ المفازة، وقلة الزاد،
وضعف النفس، وعقبة كؤد، والهبوط منها إلى الجنة أو إلى النار.
ثم قال عز وجل: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ يعني: ما أدراك
بماذا يكون مجاوزة الصراط.
ثم قال: فَكُّ رَقَبَةٍ يعني: اقتحام العقبة، هو فك الرقبة
يعني: إنما يجاوز الصراط. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ يعني: يجاوز الصراط بإحكام في يوم ذي مجاعة. قرأ
أبو عمرو، وابن كثير، والكسائي فَكُّ رَقَبَةٍ، بنصب الكاف
والهاء، وأطعم بنصب الهمزة بغير الألف، والباقون فَكُّ
رَقَبَةٍ بضم الكاف، وكسر الهاء أَوْ إِطْعامٌ بكسر الهمزة،
وإثبات الألف.
فمن قرأ بالنصب فهو محمول على المعنى، معناه فلا فَكَّ
رَقَبَةً، ولا أطعمَ في يوم ذي مسغبة، فكيف يجاوز العقبة، ومن
قرأ بالضم فمعناه اقتحامُ العقبة، فكُّ رقبة يعني: مجاوزة
العقبة بعتق رقبة، وبإطعام في يوم ذي مسغبة، أي: مجاعة.
ثم بين لهم لمن يُطْعَم الطعام فقال: يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ
يعني: يتيماً بينك وبينه قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ
يعني: مسكيناً لا شيء له لاصق في التراب من الجهد، فهذا
الإحسان مجاوزة العقبة ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
يعني: من صنع هذا الإحسان، يكون مؤمناً، لأنه لا يتقبل عملاً
من الأعمال بغير إيمان. ويقال: معناه ثم يثبت على إيمانه. ثم
قال: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ يعني: تحاشوا أنفسهم بالصبر،
وتحاشوا بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله تعالى، وبالصبر على
المكروهات، لأنه روي في الخبر، إن الجنة حفت بالمكاره.
ثم قال تعالى: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ يعني: تحاشوا
بالتراحم بعضهم على بعض، يعني: بالمرحمة على أنفسهم، على
غيرهم. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، أنه قال: «مَنْ
يَرْحَمِ النَّاسَ، يَرْحَمُهُ الله تَعَالَى» . ثم قال:
أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ يعني: أهل التراحم والتواصل،
هم أصحاب الميمنة، الذين يعطون كتابهم بأيمانهم وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا يعني:
بمحمد صلّى الله عليه وسلم وبالقرآن، ويقال: كفروا بدلائل الله
تعالى. هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ يعني: يعطون كتابهم
بشمالهم عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ يعني: أُدْخِلُوا في
النار، وأُطْبِقَتْ عليهم، لا يخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح
آخر الأبد. قرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية حفص، وحمزة
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ بالهمزة، والباقون بغير همزة، وهما
لغتان. يقال: أصدت وأوصدت الباب، وأوصدته إذا أطبقته والله
أعلم.
(3/584)
وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ
إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
(6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ
خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
سورة الشمس
وهي خمس عشرة آية مكية
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)
وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6)
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها
(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
قوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها أقسم الله تعالى بالشمس،
وضوئها حرها. ويقال:
بخالق الشمس وضحاها، يعني: ارتفاع النهار. ويقال: حر الشمس
يسمى ضحى. قرأ ابن كثير، وابن عامر وعاصم وضحها بالتفخيم،
وكذلك تلاها إلى آخر السورة. وقرأ حمزة والكسائي كلها
بالإمالة، وقرأ نافع، وأبو عمرو بين ذلك. ثم قال عز وجل:
وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها يعني: يتبع الشمس والهاء، كناية عن
الشمس. وقال قتادة: والشمس هو النهار، والْقَمَرِ إِذا تَلاها
قال: يتلوها صبيحة الهلال، وإذا سقطت الشمس، رأيت الهلال عند
سقوطها.
ثم قال عز وجل: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها يعني: إذا أضاء
واستنار، فقال القتبي: هذا من الاختصار وَالنَّهارِ إِذا
جَلَّاها ويعني: والأرض أو الدنيا، يعني: النهار أذا أضاء
الدنيا. وقال الكلبي: معناه إذا جلى النهار ظلمة الليل. ثم قال
عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها يعني: غطى ضوء النهار،
ويقال: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها يعني: غطى الأرض وسترها. ثم
قال: وَالسَّماءِ وَما بَناها يعني: خلقها. ويقال: وَالسَّماءِ
وَما بَناها يعني: الله تعالى بناها، فأقسم بنفسه، ويقال: ما
للصلة، ومعناه والسماء وبنائها.
ثم قال عز وجل: وَالْأَرْضِ وَما طَحاها يعني: والذي بسطها على
الماء من تحت الكعبة. ثم قال: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها يعني:
ونفس والذي سوى خلقها، ويقال: ونفس وما خلقها فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها يعني: ألهمها الطاعة والمعصية، ويقال:
عرفها، وبين لها ما
(3/585)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
تأتى وما تذر. ثم قال عز وجل: قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها يعني: أصلحها الله، وعرفها وهذا جواب
القسم لقد أفلح، ولكن اللام حذفت لثقلها، لأن الكلام طال.
ثم قال وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها يعني: خسر من أغفلها
وأغواها، وخذلها وأضلها. وقال القتبي: معناه قد أفلح من زكى
نفسه، أي: أنماها وأعلاها، بالطاعة والبر والصدقة، وقد خاب من
دساها، يعني: نقصها وأخفاها بترك عمل البر، وبركوب عمل
المعاصي. وأصله دسس، فجعل مكان إحدى السينين ياء، كما يقال:
قصيت أظفاري، وأصله قصصت. قال وأصل هذا؟ أن أجواد العرب، كانوا
ينزلون في أرفع المواضع، ويوقدون من النار للطارقين، لتكون
أنفسهم أشهر، واللئام ينزلون الأطراف والأهضام، لتخفي أماكنهم
على الطارقين، فأخفوا أنفسهم. والبار أيضاً أظهر نفسه بأعمال
البر، والفاجر دساها. ويقال: إن الله تعالى، يطلب من عباده
المؤمنين يوم القيامة ستة أشياء بمكان النعمة، الشكر: وبمكان
الشدة وبمكان الصحة العمل بالطاعة، وبمكان الذنوب التوبة،
وبمكان العمل الإخلاص، فمن يجىء بهذه الأشياء، فقد أفلح ونما،
ومن لم يجىء بهذه الأشياء، فقد خسر وغبن.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها
(12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها
(13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها
(15)
ثم قال عز وجل: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها يعني: بطغيانهم،
حملهم على ذلك التكذيب إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها يعني: إذا قام
أشقى ثمود، وكلهم أشقياء في علم الله تعالى، وأشقاهم عاقر
الناقة، وهو قدار بن سالف، ومصدع بن دهر فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم يعني: صالحاً ناقَةَ اللَّهِ
يعني: احذروا ناقة الله وَسُقْياها يعني: لا تأخذوا سقياها،
ومعناه ولا تعقروا ناقة الله، وذروا شربها. وقد ذكرناه في سورة
الأعراف فَكَذَّبُوهُ يعني: صالحاً بالعذاب فَعَقَرُوها يعني:
فعقروا الناقة، ويقال: في الآية تقديم فعقروها، فخوفهم صالح
عليه السلام بالعذاب، فكذبوه. ثم قال عز وجل: فَدَمْدَمَ
عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ يعني: أنزل عليهم ربهم عقوبة
بِذَنْبِهِمْ والدَّمْدَمة، المبالغة في العقوبة والنكال.
ثم قال: فَسَوَّاها يعني: فسواها في الهلاك يعني: الصغير
والكبير وَلا يَخافُ عُقْباها قرأ نافع، وابن عامر فلا يخاف
بالفاء، والباقون بالواو. فمن قرأ بالفاء، وصل الذي بعدها
بالذي قبلها، وهو قوله فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ يعني:
أطبق عليهم العذاب بذنبهم فَسَوَّاها يعني: فسوى الأرض عليهم،
ولا يخاف عقبى هلكهم، ولا يقدر أن يرجعوا إلى
(3/586)
السلامة. ومن قرأ بالواو، فمعناه التقديم
والتأخير، يعني: الذي عقرها، وهو لا يخاف عقبى عقرها. ويقال:
إن الله تعالى أهلكهم، ولم يخف ثأرها وعاقبتها على غير وجه
التقديم. وروى الضحاك، عن علي، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم
أنه قال لعلي رضي الله عنه: «أتَدْرِي مَنْ أشْقَى
الأوَّلِينَ» ، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «عَاقِرُ
النَّاقَةِ» فقال: «أتَدْرِي مَنْ أَشْقَى الآخِرِينَ» قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: «قَاتِلُكَ» . والله أعلم.
(3/587)
وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
(11)
سورة الليل
وهي إحدى وعشرون آية مكية
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2)
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ
إِذا تَرَدَّى (11)
قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أقسم الله تعالى بالليل،
إذا غشيت ظلمته ضوء النهار.
ويقال: أقسم بخالق الليل إذا يغشى، يعني: يغشى الليل ضوء
النهار وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى يعني: أقسم بالنهار إذا
استنار، وتجلى عن الظلمة وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى
يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، يعني: آدم وحواء. وقال القتبي:
ما ومن أصلهما واحد، وجعل من للناس، وما لغير الناس. ويقال: من
مَرّ بك من الناس، وما مَرّ بك من الإبل. وقال أبو عبيد:
وما خلق، أي: وما خلق، وكذلك قوله: وَالسَّماءِ وَما بَناها
(5) [الشمس: 5] وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) [الشمس: 7] «وما»
في هذه المواضع بمعنى «من» وقال أبو عبيد: وما بمعنى من وبمعنى
الذي.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يقرأ والنهار إذا تجلى، والذكر
والأنثى وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام،
فأتانا أبو الدرداء، فقال: أفيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله
بن مسعود؟ فأشاروا إلي، فقلت: نعم أنا. فقال: كيف سمعت عبد
الله يقرأ هذه الآية؟ قلت: سمعته يقرأ، والذكر والأنثى. قال:
أنا هكذا والله سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يقرأها،
وهؤلاء يريدونني على أن أقرأها كلا أنا معهم.
ثم قال عز وجل: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فهذا موضع جواب
القسم، أقسم الله تعالى بخالق هذه الأشياء، إن سعيكم لشتى،
يعني: أديانكم ومذاهبكم مختلفة، يعني: عملكم مختلف. عامل
للجنة، وعامل للنار. وقال أبو الليث رحمه الله: حدثنا أبو
جعفر، حدثنا
(3/588)
إِنَّ عَلَيْنَا
لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا
الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى
(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال:
أخبرنا حدّثنا أحمد بن جرير، قال حدثنا أبو عبد الرحمن راشد بن
إسماعيل، عن منصور بن مزاحم، عن يونس بن إسحاق، عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه، إن أبا بكر رضي الله عنه، اشترى بلالاً من
أمية بن خلف، وأبي بن خلف ببروة وعشرة أواق من فضة، فأعتقه لله
تعالى، فأنزل الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ
إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ
سَعْيَكُمْ لَشَتَّى يعني: سعي أبي بكر، وأمية بن خلف.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى يعني:
بلا إله إلا الله، يعني: أبا بكر فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى
يعني: الجنة وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنى يعني: بلا إله إلا الله فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرى يعني: أمية، وأبي ابني خلف إذا ماتا. ويقال: لنزول
هذه الآية سبب آخر، كان رجل من الكفار له نخلة في دار، وشعبها
في دار رجل آخر من المسلمين، وكان إذا سقطت ثمرة في دار
المسلم، نادى الكافر: حرام حرام، وكان المسلم يأخذ الثمرة،
فيرمي بها في دار الكافر، لئلا يأكل ذلك صبيانه فسقطت يوماً
ثمرة، فأخذها ابن صغير للمسلم، فجعلها في فيه، فدخل الكافر،
فأخرج الثمرة من فيه، وأبكى الصبي. فشكى المسلم إلى النبي صلّى
الله عليه وسلم، فدعا المشرك فقال: أتبيع نخلتك ليعطيك الله
أفضل منها في الجنة، فقال: لا أبيع العاجل بالآجل، فسمع رجل من
أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فاشترى النخلة من الكافر،
وتصدق بها على المسلم. فنزلت فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى
يعني: أعطى من ماله حق الله تعالى، واتقى الشرك، وسخط الله
تعالى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى يعني: بثواب الله في الجنة
فَسَنُيَسِّرُهُ يعني:
سنعينه ونوفقه لِلْيُسْرى يعني: لعمل أهل الجنة وَأَمَّا مَنْ
بَخِلَ بالصدقة وَاسْتَغْنى يعني: رأى نفسه مستغنياً عن ثواب
الله، وعن جنته وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى يعني: بالثواب وهو الجنة
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يعني: نخذله ولا نوفقه للطاعة،
فسنيسر عليه طريق المعصية وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى يعني: ما ينفعه
ماله، إذا مات وتركه في الدنيا، وهو يرد إلى النار.
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ
وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا
يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى
(16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ
يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى
(19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20)
وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
ثم قال عز وجل: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى يعني: علينا بيان
الهدى، ويقال: علينا التوفيق للهدى من كان أهلاً لذلك وَإِنَّ
لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى يعني: الدنيا والآخرة لله تعالى،
يعطي
(3/589)
منها من يشاء ويقال: معناه إلى الله تعالى
ثواب الدنيا والآخرة. ويقال: وإن لنا للاخرة والاولى، يعني:
لله تعالى نفاذ الأمر في الدنيا والآخرة، يعطي في الدنيا
المغفرة، والتوفيق للطاعة، وفي الآخرة الحسنة والثواب. ثم قال:
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى يعني: خوفتكم بالقرآن ناراً
تلظى، يعني: تثقل على أهلها، وتغيظ على أهلها، وتزفر عليهم.
قوله عز وجل: لاَ يَصْلاها يعني: لا يدخل في النار إِلَّا
الْأَشْقَى يعني: الذي ختم له بالشقاوة الَّذِي كَذَّبَ
وَتَوَلَّى يعني: كذب بالتوحيد، وتولى عن الإيمان، وعن طاعة
الله تعالى، وأخذ في طاعة الشيطان. ثم قال: وَسَيُجَنَّبُهَا
الْأَتْقَى يعني: يباعد عنها الأتقى، يعني: المتقي الذي يتقي
الشرك وهو الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى يعني: يعطي من
ماله حق الله تعالى يَتَزَكَّى يعني: يريد به وجه الله تعالى.
ثم قال: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يعني: لا
يفعل ذلك مجازاة لأحد إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ
الْأَعْلى ولكن يفعل ذلك وجه ربه الأعلى، يفعل ذلك طلب رضاء
الله تعالى الأعلى، يعني: الله العلي الكبير، الرفيع فوق خلقه،
بالقهر والغلبة.
وَلَسَوْفَ يَرْضى يعني: سوف يعطي الله من الثواب، حتى يرضى
بذلك. وقال مقاتل: مر أبو بكر على بلال، وسيده أمية بن خلف
يعذبه، فاشتراه وأعتقه، فكره أبو قحافة عتقه، فقال لأبي بكر:
أما علمت أن مولى القوم من أنفسهم، فإذا أعتقت فأعتق من له
منظرة وقوة، فنزل وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى
يعني: لا يعقل لطلب المجازاة، ولكن إنما يعطي ما له ابْتِغاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى بثواب الله تعالى،
والله أعلم بالصواب.
(3/590)
وَالضُّحَى (1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
سورة الضحى
وهي إحدى عشرة آية مكية
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ
رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ
الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ
عائِلاً فَأَغْنى (8)
قوله تبارك وتعالى: وَالضُّحى يعني: النهار كله، ويقال: الضحى
ساعة من ساعات النهار، ويقال: الضحى حر الشمس وَاللَّيْلِ إِذا
سَجى يعني: اسودّ وأظلم، ويقال: إذا يكن بالناس، ويقال:
وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى يعني: عباده الذين يعبدونه في
وقت الضحى وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم، ويقال:
وَالضُّحى نور الجنة إذا تنور وَاللَّيْلِ إِذا سَجى يعني:
ظلمة النار إذا أظلم، ويقال: وَالضُّحى يعني: النور الذي في
قلوب العارفين كهيئة النهار، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى يعني:
السواد الذي في قلوب الكافرين، كهيئة الليل. وأقسم الله تعالى
بهذه الأشياء مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى يعني: ما تركك
ربك يا محمد صلّى الله عليه وسلم، منذ أوحى إليك وَما قَلى
يعني: ما أبغضك ربك، وذلك أن مشركي قريش، أرسلوا إلى يهود
المدينة، وسألوهم عن أمر محمد صلّى الله عليه وسلم، فقالت لهم
اليهود: فاسألوه عن أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، وعن
الروح، فإن أخبركم بقصة أهل الكهف، وعن قصة ذي القرنين، ولم
يخبركم عن أمر الروح، فاعلموا أنه صادق.
فجاؤوه وسألوه فقال لهم: ارجعوا غداً حتى أخبركم، ونسي أن يقول
إن شاء الله، فانقطع عنه جبريل خمسة عشرة يوماً في رواية
الكلبي، وفي رواية الضحاك، أربعين يوماً. فقال المشركون: قد
ودّعه ربه وأبغضه، فنزل فيهم ذلك. وروى أسباط عن السدي قال:
فأبطأ جبريل عليه السلام، على رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أربعين ليلة، حتى شكا ذلك إلى خديجة، فقالت خديجة: لعل ربك قد
قلاك أو نسيك، فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ
(3/591)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وَما قَلى
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى يعني: ما أعطاك الله
في الآخرة، خير لك مما أعطاك في الدنيا. ويقال: معناه عن
الآخرة، خير من عز الدنيا، لأن عز الدنيا يفنى، وعز الآخرة
يبقى.
قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى يعني:
يعطيك ثواب طاعتك، حتى ترضى. وسوف من الله تعالى واجب. ويقال:
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ الحوض، والشفاعة حتى ترضى. ثم ذكر له ما
أنعم عليه في الدنيا وفي الآخرة. فقال عز وجل: أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى يعني: كنت يتيماً فضمك إلى عمك أبي طالب، فكفاك
المؤنة حين كنت يتيماً مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ فكيف ودعك بعد ما
أوحى إليك.
ثم قال عز وجل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى يعني: وجدك جاهلاً
بالنبوة، وبالحكمة وبالكتاب وقراءته، والدعوة إلى الإيمان،
فهداك إلى هذه الأشياء. وكقوله: مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب،
ولا الإيمان. ويقال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا يعني: من بين قوم ضلال
فَهَدى يعني:
حفظك من أمرهم، وعن أخلاقهم. ويقال: ووجدك بين قوم ضلال،
فهداهم بك. ثم قال عز وجل: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى يعني:
وجدك فقيراً بلا مال، فأغناك بمال خديجة. ويقال:
وجدك فقيراً عن القرآن والعلم، فأغناك يعني: أغنى قلبك، وأرضاك
بما أعطاك.
[سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 11]
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
(11)
ثم قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ يعني: لا
تظلمه، وادفع إليه حقه. ويقال: معناه واذكر يُتْمك، وارحم
اليتيم. وقال مجاهد: فَلا تَقْهَرْ يعني: فلا تقهره. وروي عن
ابن مسعود، أنه كان يقرأ فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تكهر يعني: لا
تعبس في وجهه. وروي عن أنس بن مالك- رضي الله عنه، عن النبيّ
صلّى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ضَمَّ يَتِيماً وَكَانَ
مُحْسِناً فِي نَفَقَتِهِ، كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ
يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَنْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، كَانَ لَهُ
بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ» . وقوله تعالى: وَأَمَّا
السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ يعني: لا تؤذه ولا تزجره، ويقال:
معناه واذكر فقرك، ولا تزجر السائل، ولا تنهره ورده ببذل يسير،
وبكلمة طيبة. وفي الآية تنبيه لجميع الخلق، لأن كل واحد من
الناس كان فقيراً في الأصل، فإذا أنعم الله عليه، وجب أن يعرف
حق الفقراء.
ثم قال عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ يعني:
بهذا القرآن، فيعلم الناس. وفي الآية تنبيه لجميع من يعلم
القرآن، أن يحتسب في تعليم غيره. ويقال: معناه فحدث الناس بما
آتاك الله من الكرامة، ويقال: معناه اجهر بالقرآن في الصلاة.
وروى أبو سعيد الخدري، - رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله
عليه وسلم أنه قال: «إن الله تَعَالَى جَمِيلٌ، يُحِبُّ
الجَمَالَ، وَيُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ النِّعْمَةَ عَلَى
عَبْدِهِ» ، يعني: يشكر بما أنعم الله تعالى عليه، ويحدث به،
فيظهر على نفسه أثر النعمة، والله أعلم بالصواب.
(3/592)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
سورة الشرح
وهي ثمان آيات مكيّة
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ
(2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ
(4)
قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ هو معطوف على قوله
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى [الضحى: 6] وذلك أن النبيّ
صلّى الله عليه وسلم، قال: «سَألْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً،
وَوَدَدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْألْهَا قَطُّ، فَقُلْتُ:
اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمْتَ مُوسَى
تَكْلِيماً. فَقَالَ الله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً
فَآوى قُلْتُ: بَلَى قال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7)
[الضحى: 7] قُلْتُ: بَلَى قال: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى
(8) [الضحى: 8] قُلْتُ: بَلَى. قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ» الآية.
وروي عن بعض المتقدمين أنه قال: سورة التوبة والأنفال، بمنزلة
سورة واحدة، وسورة ألم نشرح لك والضحى بمنزلة سورة واحدة،
وسورة لإيلاف قريش وألم تر كيف فعل ربك، بمنزلة سورة واحدة.
قال أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يعني: ألم نوسع قلبك
بالتوحيد والإيمان، وهذا قول مقاتل. وقال الكلبي: أتاه جبريل
فشرح صدره، حتى أبدى قلبه، ثم جاء بدلو من ماء زمزم، فغسله
وأنقاه مما فيه، ثم جاء بطشت من ذهب قد ملئ علماً وإيماناً،
فوضعه فيه.
ويقال الانشراح للعلم، حتى علم أنه رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، وكان مؤمناً من وقت الميثاق، فشق صدره على جهة المثل،
فيعبر به عنه. ويقال أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يعني: ألم
نلين قلبك بقبول الوحي، وحب الخيرات. ويقال: معناه، ألم نطهر
لك قلبك، حتى لا يؤذيك الوسواس، كسائر الناس. ويقال: معناه
أَلَمْ نَشْرَحْ يعني: نوسع لك قلبك بالعلم، كقوله وعلمك مما
لم تكن تعلم.
ثم قال: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ يعني: غفرنا لك ذنبك،
كقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَما تَأَخَّرَ
(3/593)
فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
ويقال: غفرنا لك ذنبك، وذلتك بترك
الاستثناء ويقال: معنى وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ يعني:
عصمناك من الذنوب الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ لو لم يعصمك الله،
لأثقل ظهرك، ويقال: معناه أخرجنا من قلبك الأخلاق السيئة،
وطبائع السوء الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ يعني:
التي لو لم ننزعها عن قلبك، لأثقل عليك حمل النبوة والرسالة.
ثم قال عز وجل: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ يعني: في التأذين
والخطب، حتى لا أذكر إلا وذكرت معي، يعني: أشهد أن لا إله
إلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أنَّ محمداً رسول الله صلّى الله عليه
وسلم، في كل يوم خمس مرات، في الأذان والإقامة.
[سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 8]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ
فَارْغَبْ (8)
قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً يعني: مع الشدة
سعة، يعني: بعد الشدة سعة في الدنيا. ويقال: بعد شدة الدنيا
سعة في الآخرة، يعني: إذا احتمل المشقة في الدنيا، ينال الجنة
في الآخرة. ثم قال عز وجل: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً على
وجه التأكيد. وروي عن ابن عباس، أنه قال: لا يغلب العُسْرُ
يُسْرَينْ. وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن أنه قال: كانوا
يقولون:
لا يغلب عسرٌ واحد يُسْرَين، فقال ابن مسعود- رضي الله عنه: لو
كان العسر في حُجر، جاء اليسر حتى يدخل عليه، لأنه قال تعالى
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ويقال: إن مع العسر وهو إخراج
أهل مكة النبيّ صلّى الله عليه وسلم يُسْراً، وهو دخوله يوم
فتح مكة، مع عشرة آلاف رجل في عز وشرف.
ثم قال عز وجل: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ يعني: إذا فرغت من
الجهاد، فاجتهد في العبادة وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ يعني:
اطلب المسألة إليه. قال قتادة: فإذا فرغت من الصلاة، فانصب في
الدعاء. هكذا قال الضحاك، وقال مجاهد، فَإِذا فَرَغْتَ من
اشتغال نفسك فَانْصَبْ يعني: فَصَلِّ ويقال فَإِذا فَرَغْتَ من
الفرائض فانصب في الفضائل، فيقال فَإِذا فَرَغْتَ من الصلاة،
فانصب نفسك للدعاء والمسألة، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ يعني:
إلى الله فارغب في الدعاء، برفع حوائجك إليه، والله أعلم وأحكم
بالصواب.
(3/594)
|