تفسير السمرقندي
بحر العلوم وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
سورة البروج
وهي اثنتان وعشرون آية مكية
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5)
قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ يعني: ذات النجوم
والكواكب. ويقال: ذات القصور. وقال عطية العوفي: كان القصور في
السماء على أبوابه. قال قتادة: البروج النجوم، وكذلك قال
مجاهد: أقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج، وجواب القسم قوله
تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] ثم قال:
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يعني: يوم القيامة. قال مقاتل
الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ الذي وعدهم أن يصيرهم إليه، وقال
الكلبي: وعد أهل السماء وأهل الأرض، أن يصيروا إلى ذلك اليوم.
وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ذكر مقاتل، عن علي- رضي الله عنه- قال:
الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم النحر يَوْمَ الحج الأكبر.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: الشاهد محمد صلّى الله عليه وسلم
كقوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:
41] والمشهود يوم القيامة، كقوله تعالى:
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] . وروى جويبر، عن الضحاك
مثله. وروى أبو صالح، عن ابن عباس قال: «الشاهد يوم الجمعة،
والمشهود يَوْمُ عَرَفَةِ» . وروى سعيد بن المسيب، عن رسول
الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سَيِّدُ الأَيَّامِ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ، وَهُوَ شَاهِدٌ وَمَشْهُودٌ يَوْمَ عَرَفَةِ» .
وروى جابر بن عبد الله قال: «الشاهد يوم الجمعة، والمشهود
يَوْمَ عَرَفَةِ» . وروى مجاهد، عن ابن عباس قال:
الشاهد ابن آدم، والمشهود يوم القيامة، وقال عكرمة مثله. وقال
بعضهم: الشاهد آدم، والمشهود ذريته.
ثم قال عز وجل: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ يعني: لعن أصحاب
الأخدود النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ يعني: يصيرون إلى النار، ذات
الوقود في الآخرة: وقال الكلبي: النار ارتفعت فوقهم
(3/563)
أربعين ذراعاً، فوقعت عليهم وأحرقتهم
وقتلتهم، وذلك قوله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ
ذاتِ الْوَقُودِ قال: حدثنا أبو جعفر، حدثنا علي بن أحمد قال
حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن
سلمة، حدثنا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال: ذكر رسول
الله صلّى الله عليه وسلم أصحاب الأخدود، فقال: كان ملكاً من
الملوك، كان له ساحر فكبر الساحر، فقال للملك: إني قد كبرت،
فلو نظرت غلاماً في أهلك فطناً كيساً، فعلمته على هذا فنظر إلى
غلام من أهله كيس فظن، فأمره أن يأتيه ويلزمه، وكان بين منزل
الغلام ومنزل الساحر راهب، فقال الغلام: لو دخلت على هذا
الراهب، وسمعت من كلامه فدخل عليه فأعجبه قوله، وكان أهله إذا
بعثوه إلى الساحر، دخل الغلام على الراهب، واحتبس عنده.
فإذا أتى الساحر، ضربه وقال: ما حبسك؟ فإذا رجع من عند الساحر
إلى أهله، دخل على الراهب فاحتبس عنده. فإذا أتى أهله ضربوه،
وقالوا ما حبسك؟ فشكى ذلك إلى الراهب، فقال له الراهب: إذا
قالوا لك ما حبسك فقل: حبسني الساحر، وإذا قال لك الساحر: ما
حبسك فقل: حبسني أهلي، فبينما هو ذات يوم يريد الساحر، إذا هو
بدابة هائلة، يعني: كبيرة قد قطعت الطريق على الناس. فقال:
اليوم يتبين لي أمر الراهب، فأخذ حجراً ودنا من الدابة، فقال:
اللهم إن كان أمر الراهب حقاً، فاقتل هذه الدابة، ورماها
بالحجر، فأصاب مقتلها، فقتلها. فقال الناس: إن هذا الغلام قتل
هذه الدابة، واشتهر أمره.
فأتى الراهب، فأخبره، فقال: يا بني، أنت خير مني، فلعلك أن
تبتلى لا تدلن عليَّ، فبلغ أمر الغلام أنه كان يبرئ الأكمه،
والأبرص، ويداوي من الأرض، فعمي جليس الملك، فذكر له الغلام
فأتاه فقال: يا بني، قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص،
فقال الغلام: ما أنا بساحر، ولا أشفي أحداً، ولا يشفي إلا ربي.
فقال له الرجل: «هذا الملك ربك، قال: لا ولكن ربي ورب الملك
الله تعالى، فإن آمنت بالله تعالى به، دعوت الله تعالى فشفاك.
فأسلم فدعا الله تعالى، فبرئ فأتى الملك فقال له الملك: أليس
يا فلان قد ذهب بصرك، فقال: بلى، ولكن رده علي ربي، فقال: أنا،
قال: لا، ولكن ربي وربك الله، قال:
أولئك رب غيري، قال: نعم. وربك وربي الله تعالى، فلم يزل به،
حتى أخبره بأمر الغلام، فأرسل إلى الغلام، فجاءه فقال: يا بني
قد بلغ من سحرك، أنك تشفي من كذا وكذا، فقال:
ما أنا بساحر، ولا أشفي أحداً، وما يشفي إلا ربي فقال: أنا،
فقال: لا ولكن ربي وربك الله تعالى، فلم يزل به حتى دل على
الراهب، فدعي الراهب فأتي به، فأراد أن يرجع من دينه، فأبى
وأمر بمنشار، فوضع في مفرق رأسه، فشق به حتى سقط شقاه.
ثم دعا بجليسه، وأراد أن يرجع عن دينه فأبى، فأمر بمنشار، فشق
حتى سقط شقاه،
(3/564)
فأمر الغلام أن يفعل ذلك بمكانه، فقال:
احملوه في سفينة. فانطلقوا به، حتى إذا لججتم به فغرقوه،
فانطلقوا به حتى لجوا به، فلما أرادوا به ذلك فقال: اللهم
اكفينهم بما شئت، فانكبت بهم السفينة، فغرقوا فجاء الغلام، حتى
قام بين يدي الملك. فأخبره بالذي كان، فقال انطلقوا به إلى جبل
كذا وكذا، فإذا كنتم في ذروة الجبل، دهدهه عنه فانطلقوا به،
حتى إذا كانوا بذلك المكان. فقال اللهم اكفينهم بما شئت،
فتدهدهوا عن الجبل يميناً وشمالاً، فجاء حتى قام بين يدي
الملك، فأخبره بالذي كان. وقال: إن تجمع الملك إنك لا تقدر على
قتلي، حتى تفعل بي ما آمرك به. فقال: وما هو؟ قال: تجمع أهل
مملكتك في صعيد واحد، ثم تصلبني، وتأخذ سهماً من كتابي،
فترميني به وتقول: بسم الله رب هذا الغلام، فأصاب صدغه، فوضع
يده على صدغه فمات.
فقال الناس: آمنا برب هذا الغلام. فقيل للملك وقعت فيما كنت
تجاوز، وقد أسلم الناس. فقال: خذوا يا قوم الطريق، وخذوا فيها
أخدوداً، وألقوا فيها النار. (فمن رجع) عن دينه وإلا فألقوه
فيها، ففعلوا. فجعل الناس يجيئون، ويلقون أنفسهم في الأخدود،
حتى كان آخرهم امرأة، ومعها صبي لها رضيع تحمله، فلما دنت من
النار، وجدت حرها، فولت فقال لها الصبي: يا أماه امضي، فإنك
على الحق، فرجعت وألقت نفسها في النار. فذلك قوله عز وجل
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ وروي
في خبر آخر، أن الملك كان على دين اليهودية، يقال له ذو نواس،
واسمه زرعة ملك حمير، وما حولها فكان هناك قوم، دخلوا في دين
عيسى- عليه السلام- فحفر لهم أخدوداً، فأوقد فيها النار،
وألقاهم في الأخدود، فحرقهم وحرق كتبهم.
ويقال: كان الذين على دين عيسى- عليه السلام- بأرض نجران، فسار
إليهم من أرض حمير، حتى أحرقهم وأحرق كتبهم، فأقبل منهم رجل،
فوجد مصحفاً فيها وإنجيلاً محترقاً بعضه، فخرج به، حتى أتى به
ملك الحبشة فقال له: إن أهل دينك قد أوقدت لهم النار، فحرقوا
بها وحرق كتبهم، فأراه الذي جاء به، ففزع الملك لذلك، وبعث إلى
صاحب الروم، وكتب إليه يستمده بنجارين يعملون له السفن. فبعث
إليه صاحب الروم، من يعمل له السفن، فحمل فيها الناس، فخرج به.
فخرجوا ما بين ساحل عدن إلى ساحل جازان، وخرج إليهم أهل اليمن،
فلقوهم بتهامة، واقتتلوا فلم ير ملك حمير له بهم طاقة، وتخوف
أن يأخذوه، فضرب فرسه حتى وقع في البحر، فمات فيه. فاستولى أهل
الحبشة على ملك حمير وما حوله، وبقي الملك لهم، إلى وقت
الإسلام.
وروي في الخبر، أن الغلام الذي قتله الملك دفن، فوجد ذلك
الغلام في زمان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- واضعاً يده على
صدغه، كما كان وضعها حين قتل، وكلما أخذ يده
(3/565)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا
قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ
جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ
أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ
وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
سال منه الدم، وإذا أرسل يده، انقطع الدم،
فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليهم، أن ذلك الغلام
صاحب الأخدود، فاتركوه على حاله حتى يبعثه الله تعالى يوم
القيامة على حاله. وذلك قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ يعني: لعن أصحاب الأخدود، وهم الذين خدوا أخدود
النار ذات الوقود، يعني: الأخدود ذات النار الوقود. ويقال:
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ يعني: أهل الحبشة قتلوا أصحاب
الأخدود، أصحاب النار ذات الوقود.
[سورة البروج (85) : الآيات 6 الى 11]
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ
أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ
جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ
الْكَبِيرُ (11)
قوله عز وجل: إِذْ هُمْ عَلَيْها يعني: القوم عند النار حضور.
قال سفيان: إذ هم عليها على السرر قُعُودٌ عند النار وَهُمْ
عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ يعني: أن خدامهم
وأعوانهم، يفعلون بالمؤمنين ذلك، وهم هناك شهود. يعني: حضوراً.
ويقال: يفعلون بالمؤمنين ذلك، وهم شهود. يعني: يشهدون بأن
المؤمنين في ضلال، تركوا عبادة آلهتهم.
ويقال: على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، يشهدون على أنفسهم يوم
القيامة. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ يعني: وما طعنوا فيهم. إِلَّا
أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ يعني: سوى أنهم صدقوا بتوحيد الله
تعالى الْعَزِيزِ في ملكه الْحَمِيدِ في فعاله.
ويقال وما نقموا منهم يعني: وما أنكروا عليهم، إلا أن يؤمنوا
بالله يعني: إلا إيمانهم بالله الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
ثم بيّن ما أعد الله لأولئك الكفار. فقال عز وجل: إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا يعني: عذبوا وأحرقوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ يعني: في الدنيا ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يعني:
لم يرجعوا عن دينهم، ولم يتوبوا إلى الله تعالى فَلَهُمْ
عَذابُ جَهَنَّمَ في الآخرة وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ يعني:
العذاب الشديد. وقال الزجاج:
المعنى والله أعلم، لهم عذاب بكفرهم، ولهم عذاب بما حرقوا
المؤمنين.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ
الْفَوْزُ الْكَبِيرُ جزاءً لهم.
[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 22]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ
وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
(18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ
مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
(3/566)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ يعني: عذاب
ربك لشديد، وهذا قول مقاتل، وقال الكلبي: إن أخذ ربك لشديد،
ومعناهما واحد. ويقال: العقوبة الشديدة، وهذا موضع هذا القسم.
ثم قال: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ يعني: يبدأ الخلق في
الدنيا، ويعيد في الآخرة من التراب.
يعني: يبعثهم بعد الموت وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ يعني:
الغفور لذنوب المؤمنين، ويقال:
الغفور للذنوب الودود، يعني: المحب للتائبين. ويقال: المحب
لأوليائه، ويقال: الودود يعني: الكريم.
ثم قال: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ يعني: رب السرير الشريف.
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الدال، وقرأ الباقون بالضم، فمن قرأ
بالخفض، جعله نعتاً للعرش، ومن قرأ بالضم، جعله صفة ذو يعني:
ذُو الْعَرْشِ وهو الْمَجِيدُ الشريف والمجيد الكريم فَعَّالٌ
لِما يُرِيدُ يعني: يحيي ويميت، ويعز ويذل. ثم قال عز وجل:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ يعني: قد أتاك حديثهم. ثم فسر
الجنود فقال: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ يعني: قوم موسى، وقوم صالح
أهلكهم الله تعالى في الدنيا. وهذا وعيد لكفار هذه الأمة،
ليعتبروا بهم ويوحدوه.
ثم قال تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ يعني: إن
الذين لا يعتبرون، ويكذبون الرسل والقرآن وَاللَّهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ يعني: اصبر يا محمد على تكذيبهم، فإن الله
عالم بهم. وقال الزجاج، في قوله والله من ورائهم محيط، يعني:
لا يعجزه منهم أحد، قدرته مشتملة عليهم بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ يعني: إنهم وإن كذبوا، لا يعرفون حقه لا يقرون به، وهو
قرآن شريف، أشرف من كل كتاب، أو يقال: شريف لأنه كلام رب العزة
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يعني: مكتوباً في اللَّوح، الذي هو محفوظ
عند الله من الشياطين، وهو عن يمين العرش من درة بيضاء. ويقال:
من ياقوتة حمراء.
قرأ نافع مَحْفُوظٍ بالضم، والباقون بالكسر، فمن قرأ بالضم،
جعله نعتاً للقرآن، ومعناه قرآن مجيد، محفوظ من الشياطين في
اللوح. ومن قرأ بالكسر، فهو نعت للوح.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس- رضي الله عنهم- أنه قال: إن
الله تعالى جعل لوحاً من درة بيضاء دفتاه، من ياقوتة حمراء،
ينظر الله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستين مرة، ويحيي
ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء. وروي عن إبراهيم بن الحكم،
عن أبيه قال:
حدثني فرقد في قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي
لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قال: هو صدر المؤمنين، وقال قتادة: في اللوح
المحفوظ عند الله تعالى، والله الموفق بمنه وكرمه، وصلى الله
على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
(3/567)
وَالسَّمَاءِ
وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ
وَلَا نَاصِرٍ (10)
سورة الطارق
وهي سبع عشرة آية مكية
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ
(2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا
عَلَيْها حافِظٌ (4)
قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قال سعيد بن جبير: سألت
ابن عباس- رضي الله عنهم- عن قوله: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ
فقال: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ وسكت
فقلت له: مالك؟ فقال: والله ما أعلم منها، إلا ما أعلم ربي.
يعني: تفسير الآية ما ذكر في هذه الآية، وهو قوله: والنجم
الثاقب. يعني: هو الطارق. وروي عن ابن عباس، - رضي الله عنهما-
في رواية أخرى. وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قال الطارق الكواكب
التي تطرق في الليل، وتخفى في النهار، وَما أَدْراكَ مَا
الطَّارِقُ على وجه التعجب والتعظيم.
ثم بيّن فقال النَّجْمُ الثَّاقِبُ يعني: هو النجم المضيء.
وقال مجاهد: الثَّاقِبُ الذي يتوهج. وقال الحسن البصري
الثَّاقِبُ هو النجم، حين يرسل على الشياطين، فيثقبه، يعني:
فيحرقه. وقال قتادة: النَّجْمُ الثَّاقِبُ يعني: يطرق بالليل،
ويخنس بالنهار فأقسم الله تعالى بالسماء ونجومها. ويقال: بخالق
السماء ونجومها إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وهذا
جواب القسم، يعني: ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ
قولها وفعلها. قرأ عاصم وحمزة، وابن عامر، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ
لَمَّا عَلَيْها بتشديد الميم، والباقون لَمَّا عَلَيْها
بالتخفيف، فمن قرأ بالتشديد، فمعناه ما من نفس إلا وعليها
حافظ، فيكون لما بمعنى إلا، ومن قرأ بالتخفيف جعل ما مؤكدة،
ومعناه كل نفس عليها حافظ.
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 10]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ
دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
ثم قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ يعني: فليعتبر
الإنسان من ماذا خلق. قال بعضهم:
نزلت في شأن أبي طالب، ويقال نزلت في جميع من أنكر البعث. ثم
بين أول خلقهم ليعتبروا
(3/568)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ
لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
فقال: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يعني: من
ماء مهراق في رحم الأم، ويقال: دافق بمعنى مدفوق.
كقوله فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [القارعة: 7] أي: مرضية ثم
قال: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ يعني: خلق
من مائين، من ماء الأب يخرج من بين الصلب، ومن ماء الأم يخرج
من الترائب. والترائب: موضع القردة كما قال امرؤ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
ثم قال: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يعني: على بعثه
وإعادته بعد الموت لقادر، ويقال على رجعه إلى صلب الآباء،
وترائب الأمهات لقادر، والتفسير الأول أصح لأنه قال: يَوْمَ
تُبْلَى السَّرائِرُ يعني: تظهر الضمائر. ويقال: يختبر السرائر
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ يعني: ليس له قوة يدفع
العذاب عن نفسه، ولا مانع يمنع العذاب عنه.
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ
(12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً (17)
وقوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ فهو قسم، أقسم الله تعالى
بخالق السماء ذات الرجع، يعني: يرجع السحاب بالمطر، بعد المطر
والسحابة بعد السحابة وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ يعني: يتصدع
فيخرج ما بالنبات والثمار، فيجعلها قوتاً لبني آدم- عليه
السلام- ويقال: ذات الصدع يعني: ذات الأودية، وهو قول مجاهد
وقال قتادة: يعني: ذات النبات إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ يعني:
القرآن قول حق وجد وَما هُوَ بِالْهَزْلِ يعني: باللعب ويقال
لم ينزل بالباطل قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً
يعني: يمكرون مكراً وهم أهل مكة في دار الندوة ويقال يكيدون
كيداً يعني: يصنعون أمراً وهو الشرك والمعصية وَأَكِيدُ
كَيْداً يعني: أصنع لهم أمراً، وهو القتل في الدنيا والعذاب في
الآخرة قوله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ
يعني: أجل الكافرين ويقال: خل عنهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
يعني: أجلهم قليلاً أي إلى وقت الموت ويقال إنهم يكيدون كيداً
بمعنى: الخراصون الذين يحبسون في كل طريق يعني: يصدون الناس عن
دينه يعني يحبسون الناس في كل طريق يصدون الناس عن دينه. وروى
عبد الرزاق عن أبي وائل عن همام مولى عثمان قال لما كتبوا
المصحف شكوا في ثلاث آيات فكتبوها في كتف شاة وأرسلوها إلى أبي
بن كعب وزيد بن ثابت فدخلت عليهما فناولتهما أبياً فقرأها فكان
فيها لا تبديل لخلق الله وكان فيها لم يتسن فكتب لم يتسنه وكان
فيها فأمهل الكافرين فمحى الألف وكتب فمهل الكافرين ونظر فيها
زيد بن ثابت فانطلقت بها إليهم فناولتها زيد بن ثابت إليهم
فأثبتوها في المصحف أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً يعني: أجلهم قليلاً
فإن أجل الدنيا كلها قليل.
(3/569)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ
غُثَاءً أَحْوَى (5)
سورة الأعلى
وهي تسع عشرة آية مكية
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال الكلبي:
يعني: صلِّ بأمر ربك، ويقال سبح هو من التنزيه والبراءة يعني:
نَزِّه ربك، والاسم صلة، ويقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى يعني: قل سبحان ربي الأعلى كما روي في الخبر أنه
قيل: يا رسول الله ما نقول في ركوعنا فنزل سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى بمعنى العالي كقوله أكبر بمعنى الكبير
والعلو هو القهر والغلبة يعني أمره نافذ على خلقه فلما نزل
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فقال رسول الله صلّى
الله عليه وسلم: «اجْعَلُوها فِي رِكُوعِكُم» فقالوا: فما نقول
في سجودنا؟ فنزل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال- عليه
السلام-: «اجْعَلُوها فِي سِجُودِكُم» ، ويقال: «سبح اسم ربك»
يعني: اذكر توحيد ربك الأعلى، ويقال كان بدء قوله: «سبحان ربي
الأعلى» أي ميكائيل خطر على باله عظمة الرب جلا وعلا سلطانه
فقال: يا رب أعطني قوة حتى أنظر إلى عظمتك، وسلطانك، فأعطاه
قوة أهل السموات فطار خمسة آلاف سنة فنظر فإذا الحجاب على حاله
واحترق جناحه من نور العرش ثم سأل القوة فأعطاه القوة ضعف ذلك
فجعل يطير ويرتفع عشرة آلاف سنة حتى احترق جناحه وصار في آخره
كالفرخ ورأى الحجاب والعرش على حاله فخر ساجداً وقال: «سبحان
ربي الأعلى» يعني:
تعالى من أن يكون محسوساً معقولاً ثم سأل ربه أن يعيده إلى
مكانه إلى حاله الأولى ثم قال عز وجل: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى
يعني: الذي خلق كل ذي روح، وجميع خلقه، ويقال: سبح الله تعالى
الذي خلقك فسوى خلقك يعني: اليدين والرجلين والعينين ولم يخلقك
زمناً ولا مكفوفاً، كما قال وصوَّركم فأحسن صوركم قوله تعالى:
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى يعني: قدر لكل شيء شكله، يعني: لكل
ذكر وأنثى من شكله وهداه للأكل والشرب والجماع، ويقال الذي قدر
فهدى يعني فهداه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ويقال الذي قدر
فهدى سبح لله الذي خلقك
(3/570)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا
تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي
يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا
وَلَا يَحْيَى (13)
وقدر آجالك وأرزاقك وأعمالك وهداك إلى
المعرفة والإسلام والأكل والشرب فصلّ بابن آدم وسبح لهذا
المنعم المكرم السيد الذي هو الأحد الصمد، هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ [الحديد: 3] ثم قال عز وجل: وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى يعني: أنبت الكلأ ويقال هو العشب والحشيش وألقت وما
أشبه، قرأ الكسائي: وَالَّذِي قَدَّرَ بالتخفيف، والباقون
بالتشديد ومعناها واحد يقال: قدره الأمر وقدرته قوله تعالى:
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى يعني:
جعل المرعى يابساً بعد خضرته، وقال القتبي: غثاء يعني يابساً،
أحوى يعني أسود من قدمه واحتراقه.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 13]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ
يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى
(8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى (10)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرى (12) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
ثم قال عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى يعني: سنعلمك القرآن
وينزل عليك فلا تنسى إلا ما شاء الله، يعني: قد شاء الله أن لا
تنسى القرآن فلم ينس القرآن بعد نزول هذه الآية. وكان النبيّ
صلّى الله عليه وسلم يأخذ في قراءته قبل أن يفرغ جبريل- عليه
السلام- مخافة أن ينساه ويقال: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى يعني:
سنحفظ عليك حتى لا تنسى شيئاً، ويقال أن جبريل- عليه السلام-
كان ينزل عليه في كل زمان ويقرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه
وسلم ويبين له ما نسخ فذلك قوله: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ
يعني: إلا ما شاء الله أن يرفعه وينسخه ويذهب من قلبك ثم قال
تعالى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى يعني: يعلم
العلانية والسر، ويقال: ما يجهر به الإمام في الفجر والمغرب
والعشاء والجمعة وما يخفى يعني: في الظهر والعصر والسنن،
ويقال: يَعْلَمُ ما يظهر من أفعال العباد وأقوالهم وَما يَخْفى
من أقوالهم وأفعالهم، ويقال: يَعْلَمُ ما عمل العباد وَما
يَخْفى يعني:
ما لم يعملوه وهم عاملوه ثم قال عز وجل: وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرى يعني: سنهوّن عليك حفظ القرآن وتبليغ الرسالة،
ويقال: يعني: نعينك على الطاعة، قوله تعالى: فَذَكِّرْ يعني:
فعظ بالقرآن الناس إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى يعني: إن نفعتهم
العظة ومعناه ما نفعت العظة بالقرآن إلا لمن يخشى ويقال إن
نفعت الذكرى يعني إن قولك ودعوتك تنفع لكل قلب عاقل ويقال:
نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى يعني:
نهون عليك عمل أهل الجنة ثم قال: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى
يعني: يتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويسلم ويقال: معناه
سيتعظ ويؤمن ويعمل صالحاً من يخشى قلبه من عذاب الله تعالى
يَتَجَنَّبُهَا
يعني: يتباعد عنها يعني: عن عظتكْ َشْقَى
يعني: الشقي الذي وجب في علم الله تعالى أنه يدخل النار مثل
الوليد وأبي جهل ومن كان مثل حالهما الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرى يعني: يدخل يوم القيامة النار الكبرى يعني: النار
العظمى لأن نار الدنيا هي النار الصغرى ونار
(3/571)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
الآخرة هي النار الكبرى، وروى يونس عن
الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ نَارَكُم هذه
جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَقَدْ
غُمِسْتُ فِي النَّار مَرَتَين لِيُدْنَى مِنْهَا وَيُنْتَفَعَ
بِهَا وَلُولاَ ذَلِكَ مَا دَنَوتُم مِنْها» ويقال: إنها
تستجير أن ترد إلى جهنم يعني: تتعوذ منها وقال بعض الحكماء:
علامة الشقاوة تسع أشياء كثرة الأكل، والشرب، والنوم، والإصرار
على الذنب، والغيبة، وقساوة القلب، وكثرة الذنوب، ونسيان
الموت، والوقوف بين يدي الملك عز وجل، وهذا هو الشقي الذي يدخل
النار الكبرى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى يعني: لا
يموت في النار حتى يستريح من عذابها ولا يحيا حياة تنفعه، وقال
القتبي معناه: هو العذاب بحال من يموت ولا يموت.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ
الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
ثم قال عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: فاز ونجا من
هذا العذاب وسعد بالجنة من تزكى يعني وحّد الله تعالى وزكى
نفسه بالتوحيد وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ يعني: توحيد ربه
فَصَلَّى مع الإمام الصلوات الخمس، ويقال قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى يعني: أدى زكاة الفطر وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى مع الإمام صلاة العيد. ويقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى يعني: أدى زكاة المال، يعني: نجا من خصومة الفقراء
يوم القيامة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى يعني: كبّر وصلى
لله تعالى، ويقال: مَنْ تَزَكَّى يعني: تاب من الذنوب (وذكر
اسم ربه) يعني: إذا سمع الآذان خرج إلى الصلاة ثم ذم تارك
الجماعة لأجل الاشتغال بالدنيا فقال: بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَياةَ الدُّنْيا يعني: تختارون عمل الدنيا على عمل الآخرة،
قرأ أبو عمرو: بل يؤثرون بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون
بالتاء على معنى المخاطبة ثم قال عز وجل: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقى يعني: عمل الآخرة خير وأبقى من اشتغال الدنيا
وزينتها، ويقال معناه يختارون عيش الدنيا الفانية على عيش
الآخرة الباقية وإن عيش الآخرة خير وأبقى لأن في عيش الدنيا
عيوباً كثيرة خوف المرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال
والحبس والمنع وما أشبه ذلك وليس في عيش الآخرة شيء من هذه
العيوب، لأجل هذا قيل خير من الدنيا قوله تعالى: إِنَّ هذا
لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى يعني: الذي ذكر في هذه السورة كان في
الصحف الأولى يعني: في الكتب الأولى ثم فسره فقال: صُحُفِ
إِبْراهِيمَ وَمُوسى ويقال: الذي ذكر في آخر السورة أربع آيات
لفي كتب الأولين وكل كتاب مكتوب يسمى الصحف يعني: في قوله:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلخ الآية.
(3/572)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ
عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ
(6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي
جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
سورة الغاشية
وهي ست وعشرون آية مكية
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ
مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لاَّ تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ هل استفهام،
واستفهم الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم، ولم يكن أتاه
بعد، فكأنه قال: لا يأتيك خبره، ثم أخبره. ويقال: معناه: قد
أتاك حديث الغاشية، والغاشية اسم من أسماء يوم القيامة، وإنما
سميت غاشية، لأنها تغشى الخلق كلهم. كما يقال:
يوماً كان شره مستطيراً، ويقال: الغاشية النار، وإنما سميت
غاشية، لأنها تغشى وجوه الكفار.
كما قال: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 5] أو
كقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: 55] ويقال: الغاشية دخان
النار، يخرج من النار يوم القيامة، عنق من النار، فيحيط
بالكفار مثل السرادق، ويجيء دخانها، فيغشى الخلائق، حتى لا يرى
بعضهم بعضاً، إلا من جعل الله تعالى له نوراً، بصالح عمله في
الدنيا كقوله: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 33]
وكقوله: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) [الواقعة: 43] ويقال:
تغشى الغاشية الصراط المنافقين. كقوله: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] الآية.
ثم وصف ذلك اليوم وقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ يعني: من
الوجوه، وجوه يومئذ خائفة، ذليلة في العذاب. وهي وجوه الكفار.
ثم قال: عامِلَةٌ يعني: تُجَرُّ على وجوهها في
(3/573)
النار ناصِبَةٌ يعني: من تعب وعذاب في
النار. ويقال: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ يعني: تكلف الصعود على عتبة
ملساء من النار، فيرتقيها في عناء ومشقة، فإذا ارتقى إلى
ذروتها، هبط منها إلى أسفلها. ويقال: نزلت في رهبان النصارى،
عاملة في الدنيا، ناصبة في العبادة، أشقياء في الدُّنيا
والآخرة. ويقال: عاملة في الدنيا بالمعاصي والذنوب، ناصبة في
الآخرة بالعذاب تَصْلى نَاراً حامِيَةً يعني: تدخل ناراً حارة،
قد أوقدت ثلاثة آلاف سَنَةٍ، حَتَّى اسْوَدَّتْ. فَهِي سوداء
مظلمة.
قوله تعالى: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي: من عين حارة، قد
انتهى حرُّها لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ وهذا في بضع دركها إِلَّا
مِنْ ضَرِيعٍ قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، بضم التاء
تَصْلى نَاراً وقرأ الباقون، بالنصب. فمن قرأ بالضم لمعنى
المفعول الذي لم يسم فاعله، ونصب ناراً على أنه مفعول ثان، ومن
قرأ بالنصب، جعل الفعل الذي يدخل النار، وهو كناية عن الوجوه.
ولهذا ذكره بلفظ التأنيث. ثم قال: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا
مِنْ ضَرِيعٍ والضريع نبات بين طريق مكة واليمن فإذا أكل
الكفار منه بقي في حلقهم لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ
ضَرِيعٍ يعني: غير الضريع لاَّ يُسْمِنُ يعني: لا يشبع الضريع
وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ يعني: ولا ينفع من جوع، وهذا الجزاء،
للذي يتعب نفسه للعمل في الدنيا والمعاصي، وما لا يحتاج إليه.
ثم وصف مكان الذي يعمل لله تعالى، ويترك عمل المعصية، ويؤدي ما
أمر الله تعالى، ويترك ما نهي عنه فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ يعني: من الوجوه ما تكون ناعمة، يعني: في نعمة
وكرامة، وهي وجوه المؤمنين والتائبين، والصالحين. ويقال:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ يعني: مشرقة مضيئة، مثل القمر
ليلة البدر لِسَعْيِها راضِيَةٌ يعني: لثواب عملها راضية.
ويقال: لثواب سعيه، الذي عمل في الدنيا من الخير. يعني: رأى
ثوابه في الجنة، راضِيَةٌ مرضية، رضي الله عنه بعمله في
الدنيا، ورضي العبد من الله تعالى في الآخرة. من الثواب فِي
جَنَّةٍ عالِيَةٍ يعني: ذلك الثواب في جنة عالية، مرتفعة في
الدرجات العلى. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم، أنه قال:
«إنَّ المُتَحَابِّينَ لله تَعَالَى فِي غُرْفَةٍ، يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، كَمَا يَنْظُرُ أَهْلُ الأَرْضِ
إلَى كَوَاكِبِ السَّمَاءِ» .
ثم قال عز وجل: لاَّ تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً يعني: لا يكون في
الجنة لغو ولا باطل، وليس فيها غل ولا غش. قرأ نافع لا تُسمع
بضم تاء التأنيث، لأن اللاغية مؤنثة. وقرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، لا يسمع بضم الياء على معنى: فعل، ما لم يسم فاعله،
وإنما ذكر بلفظ التذكير، لأنه انصرف إلى المعنى. يعني: إلى
اللغو. وروي عن ابن كثير، ونافع في إحدى الروايتين، بنصب
التاء، يعني: لا تسمع في الجنة أيها الداخل، كلمة لغو، لأن أهل
الجنة، لا يتكلمون إلا بالحكمة، وحمد الله تعالى.
(3/574)
وَزَرَابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ
(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ
تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ
الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
ثم قال: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يعني: في
الجنة، عين جارية ماؤها أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل،
فمن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ويذهب من قلبه الغل،
والغش والحسد، والعداوة والبغضاء. ثم قال: فِيها سُرُرٌ
مَرْفُوعَةٌ يعني: مرتفعة وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ يعني:
الكيزان التي لا عرى لها، مدورة الرأس وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ
يعني: فيها وسائد، قد صف بعضها إلى بعض على الطنافس.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 16 الى 26]
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ
رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى
الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ
إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ قال القتبي: الزرابي الطنافس. ويقال:
البُسُط واحدها زربي. ثم قال عز وجل: مَبْثُوثَةٌ أي: كثيرة
متفرقة أو مبسوطة، والنمارق الوسائد واحدها نمرقة، والمؤمن
جالس فوق هذا كله، وعلى رأسه نور وضاء، كأنهن الياقوت
والمرجان، جزاءً بما كانوا يعملون، فإن شك شاك فيها فتعجب،
وقال: كيف هذا وهو غائب عنا، فقل انظر إلى صنعة الرب تبارك
وتعالى في الدنيا. وهو قوله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ يعني: خلق من قطرة ماء خلقاً
عظيماً، يُحْمَل عليها، وإنما خص ذكر الإبل، لأن الإبل كانت
أقرب الأشياء إلى العرب.
ثم قال عز وجل: وَإِلَى السَّماءِ يعني: أفلا ينظرون إلى
السماء كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد تحتها، وحبست في الهواء بقدرة
الرب سبحانه وتعالى. ثم قال: وَإِلَى الْجِبالِ يعني:
أفلا ينظرون إلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ على ظهر الأرض أوتاداً
لها، وليس جبل من الجبال، إلا وله عرق من قاف، وملك موكل بجبل.
فإذا أراد الله تعالى بأهل أرض شيئاً، أوحى الله تعالى إلى
الملك الموكل بذلك الجبل، فيحرك تلك العروق، فيتزلزل. ثم قال:
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ يعني: بسطت على ظهر الماء.
ثم قال: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ يعني: فذكر يا
محمد صلّى الله عليه وسلم وخوفهم بالعذاب في الآخرة إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ يعني: مخوفاً بالقرآن لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ يعني: بمسلط تجبرهم على الإسلام، وهذا قبل أن
يؤمر بالقتال. وقال مقاتل: في الآية تقديم يعني: فذكر إِلَّا
مَنْ تَوَلَّى يعني: أعرض عن الإيمان وَكَفَرَ بالله تعالى
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ
(3/575)
فيدخله النار، وهو العذاب الأكبر الدائم،
وهو عذاب النار، حرها شديد، ومقرها بعيد، ومقامها حديد.
قوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ يعني: إن إلينا مرجعهم
بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يعني: إن مرجعهم
إلينا بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ يعني:
يحاسبون بكل صغيرة وكبيرة، وقليل وكثير كما قال: لاَ يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلاَ كبيرة، إلا أحصاها. ويقال: إن علينا حسابهم
يعني: جزاءهم بأعمالهم، يعني: ثوابهم بما عملوا، والله أعلم
بالصواب.
(3/576)
وَالْفَجْرِ (1)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ
إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي
الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ
بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
سورة الفجر
وهي ثلاثون آية مكيّة
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ
(3)
قوله تعالى: وَالْفَجْرِ هو قسم، وجوابه: إن ربك لبالمرصاد
أقسم الله تعالى بالفجر يعني: الصبح، والفجر فجران المستطيل،
وهو من الليل والفجر، المعترض وهو من النهار.
ويقال: أراد به أول يوم من المحرم. ثم قال عز وجل: وَلَيالٍ
عَشْرٍ يعني: عشر ذي الحجة، ويقال: إنها الأيام العشر، التي
صام فيها موسى- عليه السلام- وهي قوله: وَأَتْمَمْناها
بِعَشْرٍ [الأعراف: 142] . ويقال: هي أيام عاشوراء.
ثم قال عز وجل: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال قتادة: الخلق كله
شفع ووتر، فأقسم الله تعالى بالخلق. وروى الحارث، عن علي رضي
الله عنه، أنه قال: الشفع آدم وحواء، والوتر الله سبحانه
وتعالى. قال ابن عباس: الوتر آدم فتشفع بزوجته حواء، وقال
عطاء: الشفع الناس، والوتر الله سبحانه وتعالى. وقال الحسن:
الشفع هو الخلق، والذكر والأنثى، والوتر الله تعالى. وقال:
أقسم بالصلوات، والصلوات منها ما هو شفع، وهو الفجر، والظهر
والعصر، والعشاء ومنها ما هو وتر وهو الوتر في المغرب. ويقال:
إنما هو الأعداد كلها، شفع ووتر.
وعن ابن عباس: الشفع أيام الذبح، والوتر يوم عرفة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 4 الى 14]
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي
حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6)
إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي
الْبِلادِ (8)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي
الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
(3/577)
قال عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قال
الكلبي: يعني: ليلة المزدلفة، يسير الخلق إلى المزدلفة. وقال
القتبي: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ يعني: يسرى فيه، كقوله: ليل
نائم، أي: يُنام فيه.
وقال الزجاج: أصله تسري يسري، إلا أن الياء قد حذفت منه، وهي
القراءة المشهورة بغير ياء، يقرأ بالياء. قرأ حمزة، والكسائي،
والشفع والوتر بكسر الواو. والباقون بالنصب، وهما لغتان. يقال:
للفرد وَتْرٌ ووِتْر. وقرأ ابن كثير يسر بالياء، في حالة الوصل
والقطع. وقرأ نافع بالياء، إذا وصل، وقرأ الباقون بغير ياء في
الوصل والقطع، لأن الكسرة تدل عليه.
ثم قال عز وجل: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ يعني: أن
هذا الذي ذكرناه، قسماً لذي لب من الناس. ويقال: إن في ذلك قسم
صدق، لذي عقل ولب ورشد، والحجر اللب.
ثم قال عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ
يعني: ألم تعلم، ويقال: ألم تخبر، واللفظ لفظ الاستفهام،
والمراد به التقدير، يعني: فذلك خبر عاد إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ
يعني: عاقبة قوم عاد، وقال بعضهم: هما عادان، أحدهما عاد وإرم،
والآخر هم قوم هود. وقال بعضهم:
كلاهما واحد، ويقال: إرم اسم للجنة التي بناها، فمات قبل أن
يدخلها، وذكر فيها حكاية طويلة عن وهب بن منبه. ثم قال: ذاتِ
الْعِمادِ يعني: الفساطيط، والعمود عمود الفسطاط.
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ يعني: في القوة
والطول، ويقال: ذاتِ الْعِمادِ يعني: ذات القوة، ويقال: ذاتِ
الْعِمادِ يعني: دائم الملك، طويل العمر. ويقال: ذاتِ
الْعِمادِ أي: ذات البناء الرفيع. وروى أسباط، عن السدي قال:
عاد بن إرم، فنسبهم إلى أبيهم الأكبر. كقولك: بكر بن وائل.
ويقال: لا ينصرف إرم، لأنه اسم قبيلة. وقال مقاتل:
ذاتِ الْعِمادِ يعني: طولها اثنا عشر ذراعاً الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ في الطول والقوة، وإرم اسم أب
قبيلة ينسب إليهم، وهو إرم بن سمك، بن نسمك، بن سام، بن نوح
عليه السلام. وقال الكلبي: ذاتِ الْعِمادِ يعني: كانوا أهل ذات
عمود وماشية، فإذا هاج العمود، يعني: يبس العشب، رجعوا إلى
منازلهم. ويقال: عاد وإرم شيء واحد.
ثم قال عز وجل: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ
بِالْوادِ وهم قوم صالح، نقبوا الجبل، وقلعوا أحجاراً لا يطيق
مائتا رجل بالوادي. وقال الكلبي: هو واد القرى. ثم قال عز وجل:
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ يعني: قواد الكفرة الفجرة، الذين
خلقهم الله تعالى أوتاداً في مملكته، ليكفوا عنه عدوه. ويقال:
إن له بيتاً أوتد فيه أوتاداً، فإذا عذب أحد، طرحه فيها.
ويقال:
سمي بذي الأوتاد، لأنه كان إذا غضب على أحد، وثقه بأربعة
أوتاد. ويقال: الأوتاد وهي الصلب، إذا غضب على أحد، صلبه كقوله
لأصلبنكم ويقال ذو الأوتاد يعني ذا الملك الثابت الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلادِ يعني: عاداً وثمود وفرعون عصوا في
البلاد فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ
(3/578)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ
إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ
الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ
دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
(22)
يعني: أكثروا في الأرض المعاصي فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ يعني: أرسل عليهم ربك سَوْطَ عَذابٍ يعني:
شديد العذاب حتى أهلكهم إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ يعني:
مرّ الخلق عليه.
ويقال: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ يعني: ملائكة ربك على
الصراط، يعني: يرصدون العباد على جسر جهنم في سبع مواضع. وقال
ابن عباس- رضي الله عنهما: يحاسب العبد في أولها بالإيمان، فإن
سلم إيمانه من النفاق والرياء، نجا وإلا تردى في النار، وفي
الثاني: يحاسب على الصلاة، فإن أتم ركوعها وسجودها في مواقيتها
نجا، وإلا تردى في النار، والثالث:
يحاسب على الزكاة، فإن النار. وفي الخامس في الحج والعمرة، وفي
السادس بالوضوء والغسل من الجنابة، وفي السابع بر الوالدين،
وصلة الأرحام، ومظالم العباد فإن أداها نجا وإلا تردى في
النار.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 22]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا
مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ
التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ
صَفًّا صَفًّا (22)
ثم قال عز وجل: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ
رَبُّهُ قال الكلبي: نزلت في أمية بن خلف ويقال: في أبي بن
خلف، إذا ما ابتلاه، يعني: اختبره ربه فَأَكْرَمَهُ يعني:
ورزقه وَنَعَّمَهُ يعني: أعطاه النعمة فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ يعني: اجتباني وفضلني، وأنا أهل لذلك وَأَمَّا إِذا
مَا ابْتَلاهُ بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ قرأ أبو
عمرو، وابن عامر في إحدى الروايتين، فقدر بالتشديد، والباقون
بالتخفيف، ومعناهما واحد أي: فقتر عليه رزقه، وأصابه الجوع
والأمراض فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ يعني: طردني وعاقبني،
شكاية لربه.
قال الله تعالى: كَلَّا أي: حقاً يعني: ليس إهانتي وإكرامي، في
نزع الماء والولد، والفقر، والمرض، ولكن إهانتي في نزع
المعرفة، وإكرامي بتوفيق المعرفة، والطاعة. وقال قتادة: لم يكن
الغنى من كرامة، ولم يكن الفقر من الذل. ولكن الكرامة مني،
بتوفيق الإسلام، والهوان مني بالخذلان عنه. إنما المكرم من
أكرم بطاعتي، والمهان من أهين بمعصيتي. ثم قال: بَلْ لاَّ
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ يعني: لا تعطون حق اليتيم، وكان في حجر
أمية بن خلف، يتيم لا يؤدي حقه. فنزلت الآية بسببه، فصار فيها
عظة لجميع الناس. قرأ أبو عمرو، وابن عامر في إحدى الروايتين،
فقدر بالتشديد، والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد.
(3/579)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى
لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
(25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
ثم قال عز وجل: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى
طَعامِ الْمِسْكِينِ يعني: لا يحثون أنفسهم، ولا غيرهم على
طعام المسكين. ويقال: لا تحاضون على إطعام المسكين. ويقال: لا
يحض بعضهم بعضاً. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم وَلا تَحَاضُّونَ
بالألف، يعني: لا يحث بعضهم بعضاً. وقرأ أبو عمرو، ولا يحضون
بالياء يعني: لا يحثون، والباقون لا تحضون بالتاء على
المخاطبة. ثم قال: وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ يعني: الميراث
أَكْلًا لَمًّا يعني: شديداً.
كقولك: لممت الشيء إذا جمعته ومعناه يأكلون مال اليتيم، أكلاً
شديداً سريعاً.
وَتُحِبُّونَ الْمالَ يعني: كثرة المال وجمع المال حُبًّا
جَمًّا يعني: شديداً. ويقال:
كثيراً. قرأ أبو عمرو ويكرمون، ويأكلون، ويحبون كلها بالياء
على معنى الخبر عنهم. والباقون بالتاء، على معنى الخطاب لهم.
ثم قال عز وجل: كَلَّا يعني: حقاً إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ
دَكًّا دَكًّا يعني: زلزلت الأرض زلزالها، والتكرار للتأكيد.
ثم قال: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ قال بعضهم: هذا من المكتوم
الذي لا يفسر وقال أهل السنة وجاء ربك بلا كيف وقال بعضهم
معناه وجاء أمر ربك بالحساب والملك صَفًّا صَفًّا يعني:
صفوفاً، كصفوف الملائكة، وأهل الدنيا في الصلاة.
[سورة الفجر (89) : الآيات 23 الى 30]
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ
يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ
(26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي
فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
ثم قال عز وجل: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تحضر وتدنو من
الكفار، وروي عن عبد الرحمن بن حاطب قال: كنا جلوساً عند كعب
يذكّرنا، فجاء عمر رضي الله عنه، فجلس ناحيته وقال: ويحك يا
كعب خوّفنا، فقال كعب: إن جهنم لتقرب يوم القيامة، لها زفير
وشهيق، حتى إذا قربت ودنت، زفرت زفرة، لا يبقى نبي ولا صديق،
إلا وهو يخر ساقطاً على ركْبتيه. فيقول: اللهم لا أسألك اليوم
إلا نفسي، ولو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبياً، لظننت أن
لا تنجو. فقال عمر رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد.
ثم قال: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يعني: يتعظ الكافر
وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يعني: من تنفعه العظة، ويقال: يومئذ
يتذكر الإنسان، يعني: يظهر الإنسان التوبة، يعني: أين له
التوبة، يعني: كيف تنفعه التوبة يومئذ. يَقُولُ يا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَياتِي يعني: يا ليتني عملت في حياتي الفانية
لحياتي الباقية. ثم قال عز وجل: فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ
عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرأ الكسائي لا
يعذب، بنصب الذال، ولا يوثق بنصب التاء. والباقون كلاهما
بالكسر
(3/580)
فمن قرأ بالنصب فمعناه: ولا يعذب عذاب هذا
الصنف من الكفار أحد، وكذلك لا يوثق وثاقه أحد. ومن قرأ
بالكسر، معناه لا يتولى يوم القيامة عذاب الله أحد، الملك
يومئذ لله وحده، والأمر بيده. ويقال: معناه لا يقدر أحد. من
الخلق، أن يعذب كعذاب الله تعالى، ولا يوثق في الغل والصفد
كوثاق الله.
ثم قال عز وجل: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ التي
اطمأنت بلقاء الله عز وجل، ويقال:
الْمُطْمَئِنَّةُ يعني: الراضية بثواب الله تعالى، القانعة
بعطاء الله، الشاكرة لنعمائه تعالى. يقال لها، عند الفراق من
الدنيا ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ يعني: ارجعي إلى ثواب ربك، إلى
ما أعد الله لك في الجنة. ويقال له يوم القيامة راضِيَةً
مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي يعني: مع عبادي الصالحين
في الجنة وَادْخُلِي جَنَّتِي يعني: ادخلي الجنة بلا حساب،
ويقال: هذا الخطاب لأهل الدنيا، يعني: أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ في الدنيا، التي أمنت من عذاب الله، ارْجِعِي
إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً يعني: فَادْخُلِي فِي
عِبادِي يعني: ادخلي في عبادي، وفي طاعتي، وادخلي في جنتي
ويقال: معناه تقول الملائكة: يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي
إلى ما أعد الله لك راضية، فادخلي في عبادي على محض التقديم،
يعني: يا أيتها النفس المطمئنة، الراضية بما أعطيت من الثواب،
مرضية بما عملت، وادخلي جنتي مع عبادي والله تعالى أعلم.
(3/581)
|