تفسير السمرقندي
بحر العلوم أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
وهي خمس آيات مكية
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ
سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ يعني: ألم تخبر بالقرآن. ويقال: ألم
تر، يعني: ألم يبلغك الخبر. ويقال: اللفظ لفظ الاستفهام،
والمراد به الإخبار، يعني: اعلم واعتبر بصنيع ربك كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ يعني: كيف عذب ربك بِأَصْحابِ الْفِيلِ وكان
بدء أصحاب الفيل، ما ذكرناه في سورة البروج، أن زرعة قتل
المسلمين بالنار، فهرب رجل منهم إلى ملك الحبشة، وأخبره بذلك.
فبعق ملك الحبشة جيشاً إلى أرض اليمن، فأمَّر عليهم أرياطاً،
ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب البحر بمن معه، حتى أتوا
ساحلاً، مما يلي أرض اليمن، فدخلوها ومع أرياط سبعون ألفاً من
الحبشة، وهزم جنود زرعة، وألقى زرعة نفسه في الماء، فهلك وأقام
أرياط باليمن سنين في سلطانه.
ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة أبرهة، وكان من أصحابه، ممن وجّهه
معه النجاشي إلى اليمن وخالفه أبرهة وتفرق الجند في أرض اليمن،
وصار إلى كل واحد منهما طائفة منهم. ثم خرجوا للقتال، فلما
تقارب الناس، ودنا بعضهم من بعض، أرسل أبرهة إلى أرياط، أن لا
تصنع شيئاً، بأن تلقي الحبشة بعضها في بعض، حتى تفنيها. فأبرز
لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إلى جنده، فأرسل إليه
أرياط أن قد أنصفت فاخرج، فخرج إليه أبرهة، وكان رجلاً قصيراً،
وخرج إليه أرياط وكان رجلاً طويلاً عظيماً، في يده حربة، وخلف
أبرهة عبداً يقال له عنودة وروي عن بعضهم عيودة بالياء، فلما
دنا أحدهما من صاحبه، رفع أرياط الحربة، فضرب بها على رأس
أبرهة يريد يافوخة، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فخدشت حاجبيه
وعينه وأنفه وشفتيه. فلذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل عيودة على
أرياط من خلف أبرهة، فقتل أرياط، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة
فاجتمعت عليه الحبشة باليمن.
(3/618)
وكل ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي ملك
الحبشة، فلما بلغه ذلك، غضب غضباً شديداً. وقال: عدا على
أميري، فقتله بغير أمري. ثم حلف أن لا يدع أبرهة، حتى يطأ
بلاده، ويجز ناصيته. فلما بلغ ذلك أبرهة، حلق رأسه، وملأ
جراباً من تراب أرض اليمن. ثم بعث إلى النجاشي، وكتب إليه،
أيها الملك: إنما كان أرياط عبدُك، وأنا عبدك، واختلفنا في
أمرك، وكل طاعة لك. إلا أني قد كنت أقوى على أمر الجيش منه،
وأضبط له، وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه
بجراب من تراب أرضي، ليضعه تحت قدميه، فيبر قسمه. فلما وصل
كتاب أبرهة إلى النجاشي- رضي عنه- وكتب إليه، أن أثبت بأرض
اليمن، حتى يأتيك أمري.
وقال أبرهة لعتودة حين قتل أرياط. حكمك يعني: أحكم عليّ بما
شئت، فقال: حكمي أن لا تدخل عروس من نساء أهل اليمن على زوجها،
حتى أصيبها قبله. قال: ذلك لك. فأقام أبرهة باليمن، وغلامه
عتودة يصنع باليمن ما كان أعطاه في حكمه. ثم عدل عليه رجل من
حمير، أو من خَثْعم فقتله، فلما بلغ أبرهة قتله، وكان أبرهة
رجلاً حليماً، ودعا في دينه من النصرانية. فقال: قد آن لكم يا
أهل اليمن، أن يكون منكم رجل حازم، يأنف مما يأنف منه الرجال،
إني والله لو علمت حين حكمته، أنه يسأل من الذي سأل ما حكمته،
وأيم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل، ولا قود.
ثم إن أبرهة بنى بصنعاء كنيسة، لم يُر مثلها في زمانه في أرض
الروم، ولا في أرض الشام. ثم كتب إلى النجاشي الأكبر، ملك
الحبشة، أني قد بنيت لك كنيسة، لم يكن مثلها لملك كان قبلك،
ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، فلما علمت العرب بكتاب
أبرهة إلى النجاشي، خرج رجل من بني كنانة من الحمس، حتى قدم
اليمن، فدخل الكنيسة، فنظر فيها، ثم خرى فيها فدخلها أبرهة،
فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ عليّ بهذا، فقال له
أصحابه: أيها الملك، رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب.
فقال: أعليّ اجْتَرأ بهذا.
ثم قال بالنصرانية: لأهْدِمَنَّ ذلك البيت ولأُخَرِّبنه، حتى
لا يحجه حاج أبداً. فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج.
وروي في رواية أُخرى أن فئة من قريش، خرجوا إلى أرض النجاشي،
فأوقدوا ناراً، فلما رجعوا، تركوا النار في يوم ريح عاصف، حتى
وقعت النار في الكنيسة، فأحرقتها. فعزم أبرهة، وهو خليفة
النجاشي. أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة، وينقل أحجارها إلى
اليمن، فيبني هناك بيتاً ليحج الناس إليه. وروي في رواية
أُخرى، أن رجلاً من أهل مكة، خرج إلى اليمن، فأخذ جزعة من
القصب ذات ليلة، وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب.
فبناها أبرهة مرة أخرى، فحلف بعيسى ابن مريم بأن يهدم الكعبة،
لكي يتحول الحج إلى كنيسته،
(3/619)
فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه،
بعث رجلاً من بني سليم، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه،
فتلقاه رجل من اليمن بني كنانة، فقتله.
فازداد أبرهة بذلك غضباً، وحث على المسير والانطلاق، حتى إذا
كان بأرض جعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له
ذو يفن. فدعا القوم، وأحبابه من سائر العرب، إلى حرب أبرهة،
وصده عن بيت الله، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه، وأخذوا ذا يفن،
وأتى به أسيراً. فلما أراد قتله قال: أيها الملك، لا تقتلني،
فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده في
وثاقه. ثم مضى على وجهه ذلك، حتى إذا كان بأرض خشعم، عرض له
فقيل ابن حبيب الخشعي، فقاتله فهزمه، وأخذ أسيراً. فلما أتي
به، وهم بقتله فقال: أيها الملك لا تقتلني، فإني دليلك بأرض
العرب، فتركه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على أرض العرب.
حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث، التقى في رجال من
ثقيف فقالوا: أيها الملك إنما نحن عبيدك، ليس عندنا لك خلاف،
وليس بيتنا هذا الذي تريد، يعنون اللات والعزى، وليست بالتي
يحج إليه العرب، وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة، فنحن نبعث معك
من يدلك عليه، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال، فخرج يهديهم
الطريق، حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة، فمات
أبو رغال هناك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي ترجمه الناس
بالمغمس.
ثم إن قريشاً لما علموا، أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء
القوم، لم يبق بمكة أحد، إلا خرج إلى الشعاب والجبال، ولم يبق
أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبه، أقام على حجابة البيت،
فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول: لا هم إن المرء
يمنع رحله، فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم، فأمر ما بدا لك. ثم
إن أبرهة بعث رجلاً من الحبشة على جمل له، حتى انتهى إلى مكة،
وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها. فأصاب مائتي بعير لعبد
المطلب، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها. ثم بعثت أبرهة رجلاً من
أهل حمير إلى مكة، وقال أرسل إلى سيد هذا البيت وشريفهم. ثم
قال له: إن الملك يقول لك، إني لم آت لأخرجكم، وإنما جئت لأهدم
هذا البيت، فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب، فلا حاجة لي
بدمائكم.
فلما دخل الرسول مكة، جاء إلى عبد المطلب، وأدى إليه الرسالة،
فقال له عبد المطلب: ما نريد حربه، وما لنا بنيه، حتى أتى
العسكر فسأل عن ذي يفن، وكان صديقاً له، فجاءه وهو في مجلسه
فقال له: هل عندك من عناء بما نزل بنا، فقال له ذو يفن: ما
عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله، عدواً أو مشياً ألا إن
صاحب الفيل صديق لي، فأرسل إليه فأوصيه لك، وأعظم عليه حقك،
وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه أنت بما بدا لك.
(3/620)
فقال حسبي ففعل ذلك، فلما دخل عبد المطلب
على الملك وكلمه، فأعجبه كلامه.
ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك، قال عبد المطلب: حاجتي إليك،
أن ترد إلي مائتي بعير لي، فلما قال ذلك، قال له أبرهة: لقد
كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم إني رجوت.
يعني: كرهت فيك حيث كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك
بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه. لا تكلمني فيه. قال
عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه.
فقال: ما كان يمنع مني، قال: أنت وذلك فرد عليه الإبل، فانصرف
عبد المطلب إلى قريش، وأخبرهم الخبر، وأمر بالخروج لمن بقي من
أهل مكة إلى الجبال، وفي بطون الشعاب.
ثم إن عبد المطلب، أخذ بحلقتي باب الكعبة، وقال: اللهم إن
المرء يمنع رحله، وذكر كلمات في ذلك. ثم أرسل حلقتي الباب،
وانطلق ومن معه إلى الجبال، ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة. فلما
أصبح أبرهة، تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وجيشه، وكان اسم الفيل
محموداً، وكنيته أبو العباس. وكتبه أبو البكشوم، فلما وجهوا
الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي، حتى جاء إلى جنب
الفيل. ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محموداً، وارجع راشداً من حيث
جئت، فإنك والله في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فاضطجع،
فضربه ليقوم فأبى، فضربوه ليقوم فأبى وضربوا بالطبرزين فوجهوه
راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك،
ووجهوه إلى مكة، فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر،
أمثال الخطاطيف. مع كل طير منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره،
وحجران في رجليه، أمثال الحمصة والعدسة، لا تصيب أحداً منهم
إلا هلك.
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه، ويتساءلون عن
نفل بن حبيب، ليدلهم على الطريق، فخرج نفيل يشتد، حتى صعد
الجبل، فخرجوا معه يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل،
فأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا معه فيسقط من جسده أنملة أنملة،
كلما سقطت منه أنملة، خرجت منه مدة قيح ودم، حتى قدموا به
صنعاء، وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم
مات، فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن.
وروي في الخبر، أنه أول ما وقعت الحصبة، والجدري بأرض العرب
ذلك العام. وقال بعضهم: كان أمر أصحاب الفيل، قبل مولد النبيّ
صلّى الله عليه وسلم، بثلاث وعشرين سنة. وقال بعضهم:
كان ذلك في عام مولده- عليه السلام-. وروي عن قبس بن مخرمة أنه
قال: ولدت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في عام الفيل.
فنزل قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ
الْفِيلِ يعني:
كيف عاقب ربك أصحاب الفيل، بالحجارة، حين أرادوا هدم الكعبة.
قال تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ يعني: في
خسارة. ويقال: معناه ألم يجعل
(3/621)
صنيعهم في أباطيل وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ
طَيْراً أَبابِيلَ يعني: متتابعاً بعضها على أثر بعض، أرسل
عليهم الله طيوراً بيضاً صغاراً. وقال عبيد بن عمير: أرسل
عليهم طيراً بلقا من البحر، كأنها الخطاطيف. وروى عطاء عن ابن
عباس قال: طيراً سوداً، جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً.
ثم قال تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال سعيد بن
جبير، الحجارة أمثال الحمصة. وروي عن ابن عباس قال: رأيت عند
أم هانئ من تلك الحجارة، مثل بعر الغنم، مخططة بحمرة.
وروى إسرائيل، عن جابر بن أسباط قال: طيراً كأنها رجال الهند،
جاءت من قبل البحر، تحمل الحجارة في مناقيرها وأظافيرها،
أكبرها كمبارك الإبل، وأصغرها كرؤوس الإنسان تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ يعني: من طين خلط بالحجارة، ويقال:
طين مطبوخ كما يطبخ الآجُرْ. وذكر مقاتل، عن عكرمة قال: هي طير
جاءت من قبل البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع، لم تر قبل يومئذ
ولا بعده، فجعلت ترميهم بالحجارة، فتجدر جلودهم.
وكان أول يوم رأى فيه الجدري. ويقال: مكتوب في كل حجر اسم
الرجل، واسم أبيه، ولا يصيب الرجل شيء، إلا نفذه فيها وقع على
رأس رجل، إلا خرج من دبره، وما وقعت على جانبه، إلا خرجت من
الجانب الآخر.
وقال وهب بن منبه بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال بالفارسية سنك
وكل يعني: حجارة وطين. وروى موسى بن بشار عن عكرمة بِحِجارَةٍ
مِنْ سِجِّيلٍ قال: سنك وكل. ثم قال عز وجل: فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ يعني: كزرع بالٍ، فأخبر الله تعالى أنه سلط
على الجبابرة أضعف خلقه، كما سلط على النمرود بعوضة، فأكلت من
دماغه أربعين يوماً، فمات من ذلك.
والله أعلم بالصواب.
(3/622)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
(1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
سورة قريش
وهي أربع آيات مكية
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ
وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3)
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ قرأ ابن عامر
لإلاف قريش، بغير ياء بعد الهمزة، والباقون بياء قبلها همزة،
ومعناهما واحد، وهذا موصول بما قبله. يعني: أن الله تعالى،
أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش، يعني: لتقر قريش بالحرم،
ويجاورون البيت. فقال عز وجل:
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لإيلاف قريش يعني: فعل ذلك،
ليؤلف قريشاً بهاتين الرحلتين، اللتين بهما عيشهم ومقامهم
بمكة. وقال أهل اللغة: ألفت موضع كذا، أي: لزمته وألفنيه الله.
كما يقال: لزمته موضع كذا، ألزمنيه الله. وكرر لإيلاف على معنى
التأكيد، كما يقال: أعطيتك المال لصيانة وجهك، وصيانتك عن جميع
الناس.
وقال مجاهد: لئلاف قريش، يعني: لنعمتي على قريش، وقال سعيد بن
جبير، أذكر نعمتي على قريش، ويقال: معناه لا يشق عليهم
التوحيد، كما لا يشق عليهم رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قال
مقاتل وذلك أن قريشاً، كانوا تجاراً، وكانوا يمتارون في الشتاء
من الأردن وفلسطين، لأن ساحل البحر كان أدناها، فإذا كان الصيف
تركوا طريق الشام، وأخذوا طريق اليمن، فشق ذلك عليهم، فقذف
الله تعالى في قلوب الحبشة، حتى حملوا الطعام في السفن إلى مكة
للبيع، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم على مسيرة ليلة، ويشترون
فكفاهم الله تعالى مؤونة الشتاء والصيف.
ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
لأن رب هذا البيت، كفاهم مؤونة الخوف والجوع، فليألفوا
العبادة، كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف وقال الزجاج: كانوا
يترحلون في الشتاء إلى الشام، وفي الصيف إلى اليمن. وهذا موافق
لما قال مقاتل: وقال السدي في الشتاء إلى اليمن، وفي
(3/623)
الصيف إلى الشام، وهكذا قال القتبي. وروي
عن أبي العالية، أنه قال: كانوا لا يقيمون بمكة صيفاً ولا
شتاءً، فأمرهم الله تعالى بالمقام عند البيت، في العبادة.
ويقال معناه: قل لهم يا محمد صلّى الله عليه وسلم حتى يجتمعوا
على الإيمان والتوحيد، وعبادة رب هذا البيت، كاجتماعهم على
رحلة الشتاء والصيف لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
يعني: سيد وخالق هذا البيت، الذي صنع هذا الإحسان إليكم، حتى
يكرمكم في الآخرة، كما أكرمكم في الدنيا الَّذِي أَطْعَمَهُمْ
مِنْ جُوعٍ يعني: أشبعهم بعد الجوع الذي أصابهم، حتى جهدوا
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يعني: من خوف الجهد، والعدو الغارة.
وقال السدي آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يعني: من خوف الجذام، والله
تعالى أعلم بالصواب.
(3/624)
أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ
(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ
(7)
سورة الماعون
مختلف فيها وهي سبع آيات مكية
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ
(3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
قوله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قرأ
الكسائي، أَرَأَيْتَ بغير ألف. وقرأ نافع بالألف بغير همزة،
والباقون بالألف والهمزة، أَرَأَيْتَ. وهذه كلها لغات العرب،
واللغة المعروفة بالألف والهمزة، ومعناه ألا ترى يا محمد صلّى
الله عليه وسلم هذا الكافر الذي يكذب بالدين يعني:
بيوم القيامة. وقال: معناه ما تقول يا محمد في هذا الكافر،
الذي يكذب بيوم القيامة، فكيف يكون حاله يوم القيامة. وقال
قتادة: نزلت في وهب بن عايل، وقال جعدة بن هبيرة: نزلت في
العاص بن وائل، ويقال: هذا تهديد لجميع الكفار.
ثم قال عز وجل: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ يعني: يدفع
اليتيم عن حقه، ويقال: يمنع اليتيم حقه ويظلمه وَلا يَحُضُّ
عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ يعني: لا يحث على طعام المسكين،
ويقال: لا يطعم المسكين. ثم قال عز وجل: فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ يعني: للمنافقين الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ يعني: لاهين عنها حتى يذهب وقتها.
الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ الناس بالصلاة، ولا يريدون بها وجه
الله تعالى، حتى إذا رأوا الناس صلوا، وإذا لم يروا الناس لم
يصلوا.
قوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال مقاتل: يمنعون
الزكاة، والماعون بلغة الحبش المال. وعن علي بن أبي طالب- رضي
الله عنه- أنه قال: يراءون بصلاتهم، ويمنعون الزكاة.
ويقال: الماعون يعني: المعروف كله، الذي يتعاطاه الناس فيما
بينهم. وعن أبي عبيد قال:
سألت عبد الله بن مسعود، - رضي الله عنه- عن الماعون، قال:
الماعون ما يتعاطاه الناس
(3/625)
فيما بينهم، مثل الفأس والقدوم والقدر
والدلو ونحو ذلك. وروى وكيع، عن سالم بن عبد الله. قال: سمعت
عكرمة يقول: الماعون: الفأس، والقدوم، والقدر، والدلو. قلت: من
منع هذا فله الويل. قال من راءى بصلاة وسها عنها، ومنع هذا فله
الويل. وقال القتبي:
الماعون الزكاة، ويقال: الماعون هو الماء والكلأ. وروي عن
الفراء أنه قال: هو المال، والله تعالى أعلم بالصواب.
(3/626)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ
شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
سورة الكوثر
وهي ثلاث آيات مكيّة
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يعني: الخير
الكثير لفضيلة القرآن، ويقال العلم، وقال القتبي أحسبه
«فَوْعَلَ» من الكثرة والخير الكثير، وقال مقاتل: إِنَّا
أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أراد به نهراً في الجنة طينه مسك
أذفر ورضراضه اللؤلؤ أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وروى
عطاء بن السائب عن محمد بن زياد عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الكوثر نهر في
الجنة حافتاه الذهب ومجراه على الدر والياقوت ماؤه أشد بياضاً
من اللبن وأحلى من العسل، تربته أطيب من المسك وروي عن أنس عن
النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ
فِي الجَنَّةِ فَإِذَا بِنَهْرٍ حَافَتَاهُ مِنَ اللُؤْلُؤْ
المُجَوَّفِ يَعْنِي الخِيَامَ قُلْتُ مَا هذا يَا جِبْرِيل؟
قَالَ: هذا الكَوثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ» .
ثُمَّ قال عز وجل فَصَلِّ لِرَبِّكَ يعني صلّ لله الصلوات
الخمس وَانْحَرْ قال بعضهم:
انحر نفسك يعني اجتهد في الطاعة، وقال بعضهم: انحر يعني:
استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم: وانحر يعني: البدنة يعني:
اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعم، انحر يعني:
استقبل بنحرك القبلة وقال بعضهم: وانحر يعني: البدنة يعني:
اعرف هذه الكرامة من الله تعالى وأطعم، وقال بعضهم: صل صلاة
العيد يوم العيد وانحر البدنة ثم قال عز وجل: إِنَّ شانِئَكَ
هُوَ الْأَبْتَرُ يعني: مبغضك وهو «العاص بن وائل السهمي» هو
الأبتر يعني: الأبتر من الخير وذلك أن العاص بن وائل السهمي
كان يقول لأصحابه: هذا الأبتر الذي لا عقب له. وبلغ ذلك رسول
الله صلّى الله عليه وسلم فاغتم لذلك فنزل إن شانئك هو الأبتر
وأنت يا محمد صلّى الله عليه وسلم ستذكر معي إذا ذكرت فرفع
الله ذكره في كل مواطن ويقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ بأن
يستوي بين السجدتين
(3/627)
حتى يبدي نحره فخاطب بذلك النبيّ صلّى الله
عليه وسلم والمراد به جميع الأمة كما قال: يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ وأراد به هو وأصحابه، وروي عن علي بن أبي طالب، رضي
الله عنه في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال يعني: ضع
اليمين على الشمال في الصلاة إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ
في ماله وولده وأهله والبتر: في اللغة الاستئصال والقطع وقال
قتادة الأبتر الحقير الرقيق الذليل.
(3/628)
قُلْ يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا
عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
سورة الكافرون
وهي ست آيات مكيّة
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لاَ أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
وَلا أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ (6)
قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وذلك أن قريشاً
قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن يَسُرّك بأن نتبعك عاماً
ونترك ديننا ونتبع دينك وترجع إلى ديننا عاماً. فنزلت هذه
السورة وقال مقاتل:
نزلت في المستهزئين وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم لما قرأ
سورة النجم وجرى على لسانه ما جرى فقال أبو جهل أخزاه الله لا
يفارقنا إلا على أحد أمرين ندخل معك في بعض ما تعبد وتدخل معنا
في بعض ديننا أو نتبرأ من آلهتنا وتتبرأ من إلهك فنزلت هذه
السورة، وقال الكلبي: إنهم أتوا العباس فقالوا له: لو أن ابن
أخيك استلم بعض آلهتنا لصدقناه بما يقول وآمنا به فنزل قُلْ يا
أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ويقال إنهم اجتمعوا إلى أبي طالب
وقالوا له: إن ابن أخيك يؤذينا ونحن لا نؤذيه بحرمتك فدعاه أبو
طالب وذكر ذلك له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنَّما
أَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ» فقال ما هي؟ قال: «لا
إله إلا الله» فنفروا عن هذه الكلمة فنزلت قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ يعني: قل يا محمد لأهل مكة لا أَعْبُدُ مَا
تَعْبُدُونَ يعني: لاَ أَعْبُدُ بعد هذا مَا تَعْبُدُونَ أنتم
من الأوثان ولا أرجع إلى دينكم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا
أَعْبُدُ يعني: لا تعبدون أنتم بعد هذا الرب الذي أعبده أنا
حتى ترون ما يستقبلكم غدا وهذا كقوله عز وجل:
فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا
أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً [الكهف: 29] قوله تعالى: وَلا
أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ يعني: لست أنا في الحال عابداً
لأصنامكم وما كنت عابداً لها قبل هذا لأني علمت مضرة عبادتها
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ يعني: لستم عابدين في
الحال لجهلكم وغفلتكم وقلة عقلكم. ثم قال عز وجل: لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ يعني: قد أكملت عليكم الحجة فليس عليّ
أن أجبركم على الإسلام فاثبتوا على دينكم حتى تروا ماذا
يستقبلكم غداً وأنا أثبت على ديني الذي أكرمني الله تعالى به
ولا أرجع إلى دينكم أبداً وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ثم نسخ
بآية
(3/629)
القتال، فيها دليل أن الرجل إذا رأى منكراً
أو سمع قولاً منكراً فأنكره فلم يقبلوا منه لا يجب عليه أكثر
من ذلك وإنما عليه أن يحفظ مذهبه وطريقه ويتركهم على مذهبهم
وطريقهم. وقال الحسن سمعت شيخاً يحدث قال: بينما أسير مع
النبيّ صلّى الله عليه وسلم فسمع رجلاً يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ فقال: «أَمَّا هذا فَقَدْ بَرِىء مِنَ الشِّرْكِ»
وسمع رجلاً يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال:
«أَمَّا هذا فَقَدْ غَفَرَ الله تَعَالَى لَهُ» والله أعلم.
(3/630)
|