تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{حم (1) وَالْكتاب الْمُبين (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَة مباركة إِنَّا كُنَّا منذرين (3) فِيهَا يفرق كل أَمر
حَكِيم (4) }
تَفْسِير سُورَة حم الدُّخان
وَهِي مَكِّيَّة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(5/121)
حم (1) وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {حم وَالْكتاب الْمُبين}
أَي: الْكتاب الَّذِي بَين فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام،
وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب، والوعد والوعيد.
(5/121)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي
لَيْلَة مباركة} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا لَيْلَة
الْقدر، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَسَعِيد بن
جُبَير وَأكْثر الْمُفَسّرين.
وَالْقَوْل الثَّانِي: قَول عِكْرِمَة، وَهُوَ أَنَّهَا
لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، وسماها مباركة لِكَثْرَة الْخَيْر
فِيهَا. وَالْبركَة: نَمَاء الْخَيْر، ونقيضة الشؤم: نَمَاء
الشَّرّ. وَقيل: مباركة لِأَنَّهُ يُرْجَى فِيهَا إِجَابَة
الدُّعَاء.
وَقَوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أَي: الْقُرْآن، وَفِي معنى
هَذَا الْإِنْزَال قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أنزل جَمِيع
الْقُرْآن فِي لَيْلَة الْقدر إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا،
ثمَّ كَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يَأْتِي بِهِ شَيْئا
فَشَيْئًا إِلَى أَن أنزل جَمِيعه.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بالإنزال هَاهُنَا
ابْتِدَاء الْإِنْزَال.
وَمعنى قَوْله: {أَنزَلْنَاهُ} أَي: ابتدأنا إنزاله فِي
لَيْلَة الْقدر.
وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا منذرين} أَي: مخوفين.
(5/121)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا يفرق كل أَمر
حَكِيم} أَي: يقْضِي كل أَمر مُحكم، وَذَلِكَ من الأرزاق
والآجال والحياة وَالْمَوْت وَالْخَيْر وَالشَّر. قَالَ
مُجَاهِد: إِلَّا السَّعَادَة والشقاوة
(5/121)
{أمرا من عندنَا إِنَّا كُنَّا مرسلين (5)
رَحْمَة من رَبك إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (6) رب
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا إِن كُنْتُم موقنين (7)
لَا إِلَه إِلَّا هُوَ يحيي وَيُمِيت ربكُم وَرب آبائكم
الْأَوَّلين (8) بل هم فِي شكّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ
يَوْم تَأتي السَّمَاء} فَإِنَّهُمَا لَا يبدلان وَلَا يغيران،
وَعَن بَعضهم: إِلَّا الْمَوْت والحياة أَيْضا، وَفِي
التَّفْسِير: أَنه يفرق الْأَحْكَام فِي هَذِه اللَّيْلَة
إِلَى السّنة الْقَابِلَة عِنْد هَذِه اللَّيْلَة.
(5/122)
أَمْرًا مِنْ
عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
وَقَوله: {أمرا من عندنَا} نصب على الْمصدر
كَأَنَّهُ قَالَ: يفرق فرقا، ثمَّ وضع أمرا مَكَان قَوْله:
فرقا.
وَقَوله: {من عندنَا إِنَّا كُنَّا مرسلين} أَي: منزلين هَذِه
الْأَشْيَاء.
(5/122)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
قَوْله تَعَالَى: {رَحْمَة من رَبك} أَي:
إِنْزَال الْقُرْآن رَحْمَة من رَبك.
وَقَوله: {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/122)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {رب السَّمَوَات
وَالْأَرْض} وَقُرِئَ: " رب السَّمَوَات " فَقَوله: " رب "
بِضَم الْبَاء عطف على قَوْله: {هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم}
وَأما بِالْكَسْرِ بدل عَن قَوْله: {من رَبك} .
وَقَوله: { [وَمَا بَينهمَا] إِن كُنْتُم موقنين} الْيَقِين
ثلج الصَّدْر بِمَا يُعلمهُ.
(5/122)
لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ (8)
قَوْله تَعَالَى: {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ
يحيي وَيُمِيت ربكُم وَرب آبائكم الْأَوَّلين} أَي:
الْمُتَقَدِّمين.
(5/122)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
يَلْعَبُونَ (9)
قَوْله تَعَالَى: {بل هم فِي شكّ
يَلْعَبُونَ} أَي: يسمعُونَ سَماع لاعب، وَيَقُولُونَ قَول
لاعب، ويقبلون قبُول لاعب.
(5/122)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي
السَّمَاء بِدُخَان مُبين} قَالَ ابْن مَسْعُود: هَذَا
الدُّخان فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَن النَّبِي دَعَا على
كفار مُضر، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر،
وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف "
فَأَصَابَتْهُمْ المجاعة والقحط
(5/122)
{بِدُخَان مُبين (10) يغشى النَّاس هَذَا
عَذَاب أَلِيم (11) رَبنَا اكشف عَنَّا الْعَذَاب إِنَّا
مُؤمنُونَ (12) أَنى لَهُم الذكرى وَقد جَاءَهُم رَسُول مُبين
(13) } الشَّديد، وأجدبت الأَرْض حَتَّى أكلت الْعِظَام
وَالْمَيتَات، وَكَانَ الرجل مِنْهُم ينظر إِلَى السَّمَاء
فَيرى بَينه وَبَين السَّمَاء شبه الدُّخان من الْجُوع، فروى "
أَن أَبَا سُفْيَان قدم على النَّبِي، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد
دَعَوْت على قَوْمك يَعْنِي قُريْشًا وَإِنَّمَا هم إخوانك
وأعمامك وأمهاتك وخالاتك فَادع لَهُم فَدَعَا لَهُم حَتَّى
سقوا ".
وروى أَنه بعث مَعَه بِذَهَب إِلَى فُقَرَاء مَكَّة حَتَّى
قسمه فيهم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الدُّخان يكون فِي الْقِيَامَة،
وَهَذَا قَول الْحسن وَقَتَادَة، وَقيل: هُوَ الْأَصَح. وَفِي
التَّفْسِير: أَن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة يَأْخُذهُمْ شبه
دُخان، فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فيصيبهم مثل الزُّكَام، وَأما
الْكَافِرُونَ فَيدْخل الدُّخان فِي مسامعهم وأنوفهم، وَتصير
رؤوسهم مثل الجنابذ، وَقيل: إِن الدُّخان شَرط من أَشْرَاط
السَّاعَة، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " بَادرُوا بِالْأَعْمَالِ
سِتا: طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَالدُّخَان،
وَالدَّابَّة، والدجال، وخاصة الرجل فِي نَفسه، وَأمر
الْعَامَّة " وَمعنى خَاصَّة الرجل هُوَ الْمَوْت، وَمعنى أَمر
الْعَامَّة هُوَ الْقِيَامَة. وَكَانَ ابْن مَسْعُود يَقُول:
قد مضى خمس: الدُّخان، وَالدَّم، وَالْقَمَر، وَالْبَطْشَة،
وَاللزَام.
(5/123)
يَغْشَى النَّاسَ
هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {يغشى النَّاس هَذَا
عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم.
(5/123)
رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا اكشف عَنَّا
الْعَذَاب إِنَّا مُؤمنُونَ} أَي: مصدقون بِمُحَمد إِن كشفت،
وَهُوَ حِكَايَة عَن الْكَافرين.
(5/123)
أَنَّى لَهُمُ
الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
قَوْله تَعَالَى: {أَنى لَهُم الذكرى وَقد
جَاءَهُم رَسُول مُبين} مَعْنَاهُ: التَّذْكِرَة
(5/123)
{ثمَّ توَلّوا عَنهُ وَقَالُوا معلم
مَجْنُون (14) إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم ة
عائدون (15) يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى إِنَّا منتقمون (16)
وَلَقَد فتنا قبلهم قوم فِرْعَوْن وجاءهم رَسُول كريم (17) أَن
أَدّوا إِلَى عباد الله إِنِّي لكم رَسُول أَمِين (18) }
والاتعاظ، وَقَوله: {مُبين} أَي: موضح، {أَنى} بِمَعْنى:
كَيفَ.
(5/124)
ثُمَّ تَوَلَّوْا
عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ توَلّوا عَنهُ
وَقَالُوا معلم مَجْنُون} وَالْمعْنَى: أَيْن لَهُم الاتعاظ
والتذكر، وَقد توَلّوا عَن مثل هَذَا الرَّسُول وأعرضوا عَنهُ،
وَزَعَمُوا أَنه معلم مَجْنُون، وَمعنى قَوْله: {معلم} أَي:
علمه جبر غُلَام ابْن الحصرمي وعداس، وَقد ذكرنَا من قبل.
(5/124)
إِنَّا كَاشِفُو
الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: (إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب
قَلِيلا) أَي: بِدُعَاء النَّبِي، وَالْعَذَاب هُوَ الدُّخان
والقحط الَّذِي ذكرنَا، وَقَوله: {قَلِيلا} أَي: مُدَّة
قَليلَة.
وَقَوله: {إِنَّكُم عائدون} أَي: عائدون إِلَى الْكفْر، وَقيل:
صائرون إِلَى الْعَذَاب وَهُوَ النَّار.
(5/124)
يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة
الْكُبْرَى} فِيهِ قَولَانِ أَحدهمَا: أَنه يَوْم بدر،
وَالْبَطْشَة الْكُبْرَى بالأسر وَالْقَتْل، وَالْقَوْل الآخر:
أَنه الْقِيَامَة، وَهُوَ الْأَصَح.
وَقَوله: {إِنَّا منتقمون} أَي: منتقمون بالعقوبة من
الْكفَّار.
(5/124)
وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ
(17)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد فتنا قبلهم قوم
فِرْعَوْن} أَي: ابتلينا.
وَقَوله: {وجاءهم رَسُول كريم} أَي: كريم على الله، وَيُقَال:
كريم أَي: حسن الْأَخْلَاق، وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
(5/124)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ
عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
قَوْله تَعَالَى: {أَن أَدّوا إِلَى عباد
الله} أَي مَعْنَاهُ: أرْسلُوا معي عباد الله، يَعْنِي: بني
إِسْرَائِيل، وَقيل مَعْنَاهُ: {أَدّوا إِلَى عباد الله} أَي:
ياعباد الله، كَأَنَّهُ قَالَ: أجِيبُوا لي وأطيعون ياعباد
الله، فَهُوَ معنى الأول.
وَقَوله تَعَالَى: {إِنِّي لكم رَسُول أَمِين} أَي: ذُو
أَمَانَة، وَعَن أبي بكر الصّديق
(5/124)
{وَأَن لَا تعلوا على الله إِنِّي آتيكم
بسُلْطَان مُبين (19) وَإِنِّي عذت بربي وربكم أَن ترجمون (20)
وَإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلون (21) فَدَعَا ربه أَن هَؤُلَاءِ
قوم مجرمون (22) فَأسر بعبادي لَيْلًا إِنَّكُم متبعون (23) }
رَضِي الله عَنهُ
(5/125)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا
عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
وَألا تعلوا على عباد الله أَي: لَا
تتكبروا وَلَا تَبْغُوا بالجحود والتكذيب.
وَقَوله: {إِنِّي آتيكم بسُلْطَان مُبين} أَي: بِحجَّة
بَيِّنَة.
(5/125)
وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِّي عذت بربي
وربكم} أَي: التجأت إِلَى رَبِّي وربكم واعتصمت بِهِ.
وَقَوله: {أَن ترجمون} أَي: تقتلون، وَكَانُوا أوعدوه
بِالْقَتْلِ، وَقيل: أَن ترجمون أَي: تسبون، وَالْقَوْل الأول
أولى؛ لأَنهم وصلوا إِلَيْهِ بالسب، فَإِن النِّسْبَة إِلَى
السحر وَالْكذب أعظم السب، وَلم يصلوا إِلَيْهِ بِالْقَتْلِ.
(5/125)
وَإِنْ لَمْ
تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن لم تؤمنوا لي}
أَي: تصدقوني {فاعتزلون} أَي: اعتزلوا منى، وَكُونُوا كفافا،
لَا لي وَلَا عَليّ.
(5/125)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ
هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {فَدَعَا ربه أَن
هَؤُلَاءِ قوم مجرمون} أَي: مشركون.
(5/125)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي
لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {فَأسر بعبادي} أَي: أوحى
الله تَعَالَى أَن أسر بعبادي {لَيْلًا} أَي: بلَيْل.
وَقَوله: {إِنَّكُم متبعون} يَعْنِي: أَن فِرْعَوْن وجنده
يتبعونكم.
قَوْله تَعَالَى: {واترك الْبَحْر رهوا} فِي قَوْله: {رهوا}
أَقْوَال: أَحدهَا: سَاكِنا، وَالْآخر: يبسا، وَالثَّالِث:
طَرِيقا، وَالرَّابِع: سهلا دمثا، وَقَالَ الشَّاعِر:
(يَمْشين رهوا فَلَا الأعجاز دَاخِلَة ... وَلَا الصُّدُور على
الأعجاز تتكل)
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى لما عبر الْبَحْر عطف على
الْبَحْر ليضربه بعصا فَيَعُود إِلَى
(5/125)
{واترك الْبَحْر رهوا إِنَّهُم جند مغرقون
(24) كم تركُوا من جنَّات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26)
ونعمة كَانُوا فِيهَا فاكهين (27) كَذَلِك وأورثناها قوما
آخَرين (28) فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض} مَا
كَانَ، فَأوحى الله تَعَالَى
(5/126)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
: {واترك الْبَحْر رهوا} أَي: سَاكِنا.
وَقَوله: {إِنَّهُم جند مغرقون} أَي: فِرْعَوْن وَقَومه، وروى
أَن جند فِرْعَوْن كَانُوا سَبْعَة آلَاف ألف رجل، وجند مُوسَى
سِتّمائَة ألف و (نَيف) ، وَقيل: ألف وسِتمِائَة ألف: وَالله
أعلم.
(5/126)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)
قَوْله تَعَالَى: {كم تركُوا من جنَّات}
أَي: بساتين، وَقيل: كَانَ من الفيوم إِلَى دمياط والإسكندرية
بساتين مُتَّصِلَة.
وَقَوله: {وعيون} أَي: أَنهَار.
(5/126)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ
كَرِيمٍ (26)
وَقَوله: {وزروع} أَي: حروث.
وَقَوله تَعَالَى: {ومقام كريم} أَي: الْمنَازل الْحَسَنَة،
وَيُقَال: المنابر، وَقيل: إِن فِرْعَوْن كَانَ قد أَمر باتخاذ
مَنَابِر كَثِيرَة بِمصْر ليثني عَلَيْهَا فِيهَا.
(5/126)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
وَقَوله: {ونعمة كَانُوا فِيهَا فاكهين}
أَي: متنعمين، وَقُرِئَ: " فكهين " أَي " معجبين، وَالنعْمَة
مَا يتنعم بِهِ.
(5/126)
كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك وأورثناها قوما
آخَرين} أَي: بني إِسْرَائِيل، وَفِي الْقِصَّة: أَن الله
تَعَالَى لما أغرق فِرْعَوْن وَقَومه رجعت بَنو إِسْرَائِيل
إِلَى مصر، ونزلوا منَازِل آل فِرْعَوْن وسكنوها.
(5/126)
فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ
(29)
قَوْله تَعَالَى: {فَمَا بَكت عَلَيْهِم
السَّمَاء وَالْأَرْض} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مَا روى أنس
أَن النَّبِي قَالَ: " مَا من مُسلم إِلَّا وَله بَابَانِ فِي
السَّمَاء بَاب يصعد مِنْهُ عمله، وَبَاب ينزل مِنْهُ رزقه،
فَإِذا مَاتَ بكيا عَلَيْهِ، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى:
{فَمَا بَكت عَلَيْهِم
(5/126)
السَّمَاء وَالْأَرْض) ". وَعَن مُجَاهِد
قَالَ: إِذا مَاتَ العَبْد الْمُسلم بَكَى عَلَيْهِ مُصَلَّاهُ
أَرْبَعِينَ صباحا، وَفِي رِوَايَة عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ
أَنه إِذا مَاتَ العَبْد الْمُسلم بَكَى عَلَيْهِ مَوْضِعه
الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وبابه الَّذِي كَانَ يصعد
[مِنْهُ] عمله. قَالَ أَبُو يحيى: قلت لمجاهد: كَيفَ تبْكي
السَّمَاء وَالْأَرْض؟ فَقَالَ: أَلا تبْكي الأَرْض على من
يعمرها بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود، وَلَا تبْكي السَّمَاء على
مُؤمن يصعد عَلَيْهِ عمله الصَّالح؟ ! وَعَن الْحسن
الْبَصْرِيّ قَالَ: فَمَا بَكت عَلَيْهِم السَّمَاء وَالْأَرْض
أَي: أهل السَّمَاء وَالْأَرْض، مثل قَوْله تَعَالَى: {واسأل
الْقرْيَة} أَي: أهل الْقرْيَة. وَعَن بَعضهم: أَن بكاء
السَّمَاء حمرَة أطرافها، وَعَن بعض التَّابِعين: أَن
الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا لما قتل احْمَرَّتْ
أَطْرَاف السَّمَاء أَرْبَعِينَ صباحا، وَكَانَ ذَلِك لبكائها
عَلَيْهِ. وَعَن بَعضهم: أَن معنى بكاء السَّمَاء وَالْأَرْض
هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُمَا لَو كَانَا مِمَّن يَبْكِيَانِ لم
يبكيا على الْكَافِر لما يعرفان من شدَّة غضب الله عَلَيْهِ.
وَالْمَعْرُوف من الْأَقْوَال هُوَ الأول، وَهُوَ الْمَنْقُول
عَن السّلف. وَعَن بَعضهم قَالَ: إِنَّمَا ذكر بكاء
السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ لِأَن الْعَرَب تَقول فِي الْمُصِيبَة
الْعَظِيمَة مثل هَذَا، فَيَقُولُونَ: كسفت الشَّمْس لمَوْت
فلَان، وبكت السَّمَاء عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(فالشمس كاسفة لَيْسَ بطالعة تبْكي ... عَلَيْك نُجُوم
اللَّيْل والقمرا)
وَقَوله: {وَمَا كَانُوا منظرين} أَي: مؤخرين ممهلين.
(5/127)
{وَمَا كَانُوا منظرين (29) وَلَقَد نجينا
بني إِسْرَائِيل من الْعَذَاب المهين (30) من فِرْعَوْن إِنَّه
كَانَ عَالِيا من المسرفين (31) وَلَقَد اخترناهم على علم على
الْعَالمين (32) وآتيناهم من الْآيَات مَا فِيهِ بلَاء مُبين
(33) إِن هَؤُلَاءِ ليقولون (34) إِن هِيَ إِلَّا موتتنا}
(5/128)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد نجينا بني
إِسْرَائِيل من الْعَذَاب المهين} فِي التَّفْسِير: أَن
فِرْعَوْن كَانَ يستحقر بني إِسْرَائِيل ويستذلهم، وَكَانَ
لإسرائيل وَأَوْلَاده قدر عَظِيم عِنْد الله تَعَالَى.
(5/128)
مِنْ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَقَوله: {من فِرْعَوْن إِنَّه كَانَ
عَالِيا من المسرفين} أَي: جبارا متكبرا من الْمُشْركين.
(5/128)
وَلَقَدِ
اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد اخترناهم على
علم على الْعَالمين} مَعْنَاهُ: اخترناهم على علم منا بهم،
وَقَوله: {على الْعَالمين} أَي: على عالمي زمانهم، وَيُقَال:
على جَمِيع الْعَالمين؛ لِأَنَّهُ خصهم بِكَثْرَة
الْأَنْبِيَاء مِنْهُم، فَلهم الْفضل على جَمِيع الْعَالمين
بِهَذَا الْمَعْنى، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول.
(5/128)
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ
الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وآتيناهم من الْآيَات
مَا فِيهِ بلَاء مُبين} الْآيَات مثل: فلق الْبَحْر وإنحراق
فِرْعَوْن، وإنجاء مُوسَى وَمن مَعَه، وإنزال الْمَنّ والسلوى،
إِلَى غير ذَلِك من الْآيَات، وَقَوله: {مَا فِيهِ بلَاء
مُبين} أَي: نعْمَة حَسَنَة، تَقول الْعَرَب: لفُلَان عِنْدِي
بلَاء حسن أَي: نعْمَة حَسَنَة، وَفِي الْقِصَّة: أَن
فِرْعَوْن كَانَ يسْتَعْمل الأقوياء من بني إِسْرَائِيل فِي
الْعَمَل حَتَّى دبرت صُدُورهمْ وظهورهم من نقل الْحِجَارَة،
ويذبح الْأَبْنَاء، ويستحي النِّسَاء، ويستعلمهن فِي الْغَزل
والنسيج، وَمَا أشبه ذَلِك، وَكَانَ قد ضرب على ضعفاء بني
إِسْرَائِيل على كل وَاحِد مِنْهُم ضريبة فيؤديها كل يَوْم،
وَكَانَ القبطي يَأْتِي إِلَى الإسرائيلي فيسخره فِيمَا شَاءَ
من الْعَمَل، فَإِذا كَانَ الظّهْر خلاه، وَقَالَ: اذْهَبْ
واكتسب مَا تَأْكُله، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئا يَأْكُلهُ؛
فنجاهم الله تَعَالَى من هَذِه البلايا.
(5/128)
إِنَّ هَؤُلَاءِ
لَيَقُولُونَ (34)
وَقَوله تَعَالَى: {إِن هَؤُلَاءِ ليقولون}
يَعْنِي: مُشْركي مَكَّة.
(5/128)
إِنْ هِيَ إِلَّا
مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
وَقَوله: {إِن هِيَ إِلَّا موتتنا الأولى}
مَعْنَاهُ: أَنا نموت مرّة وَلَا نبعث بعد ذَلِك.
وَقَوله: {وَمَا نَحن بمنشزين} أَي: بمبعوثين، قَالَ
الشَّاعِر:
(5/128)
{الأولى وَمَا نَحن بمنشرين (35) فَأتوا
بِآبَائِنَا إِن كُنْتُم صَادِقين (36) أهم خير أم قوم تبع
وَالَّذين من قبلهم أهلكناهم إِنَّهُم كَانُوا مجرمين (37)
وَمَا خلقنَا السَّمَوَات وَالْأَرْض}
(يَا آل بكر أنشروا لي كليبا ... يَا آل بكر أَيْن أَيْن
الْفِرَار)
(5/129)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {فَأتوا بِآبَائِنَا إِن
كُنْتُم صَادِقين} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِن أَبَا جهل
قَالَ: يَا مُحَمَّد، أنسر لنا بعض آبَائِنَا وَليكن فيهم قصي
بن كلاب، فَإِنَّهُ كَانَ شَيخا صَدُوقًا. وروى أَنهم طلبُوا
مِنْهُ أَن يحيي لَهُم لؤَي بن غَالب، وَمرَّة بن كَعْب، وقصي
بن كلاب.
(5/129)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ
إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {أهم خير أم قوم تبع}
يَعْنِي: أهم أَكثر قُوَّة وَأعظم نعْمَة أم قوم تبع. وَفِي
بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " لَا تسبوا تبعا
فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم ".
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن تبعا كَانَ مُسلما،
والتبابعة فِي مُلُوك الْيمن كالقياصرة فِي مُلُوك الرّوم،
والأكاسرة فِي مُلُوك الْعَجم.
وَفِي الْقِصَّة: أَن تبعا خرج إِلَى الْعرَاق فحير الْحيرَة،
وغزا الصين، وَهُوَ الَّذِي هدم حصن سَمَرْقَنْد، وَاسْتدلَّ
من قَالَ: إِن تبعا كَانَ قد أسلم، أَن الله تَعَالَى ذمّ قوم
تبع، وَلم يذم تبعا، وَفِي الْقِصَّة: أَن إِسْلَامه كَانَ على
يَد الْيَهُود، وَكَانَ أُولَئِكَ الْيَهُود على الْحق.
وَقَوله: {وَالَّذين من قبلهم أهلكناهم إِنَّهُم كَانُوا
مجرمين} أَي: ذُو جرم.
(5/129)
وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقنَا
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا لاعبين} أَي: عابثين.
(5/129)
{وَمَا بَينهمَا لاعبين (38) مَا خلقناهما
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (39) أَن
يَوْم الْفَصْل ميقاتهم أَجْمَعِينَ (40) يَوْم لَا يغنى مولى
عَن مولى شَيْئا وَلَا هم ينْصرُونَ (41) إِلَّا من رحم الله
إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم (42) إِن شَجَرَة الزقوم (43)
طَعَام الأثيم}
(5/130)
مَا خَلَقْنَاهُمَا
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(39)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خلقناهما إِلَّا
بِالْحَقِّ} يَعْنِي: للثَّواب الْعَظِيم، وَالْعَذَاب
الْعَظِيم، وَالْمرَاد أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ}
(5/130)
إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {إِن يَوْم الْفَصْل
ميقاتهم أَجْمَعِينَ} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة يفصل فِيهِ
بَين الْخَلَائق أَي: يقْضِي، وَيُقَال: يقْضِي فِيهِ بَين
الْمَرْء وَعَمله.
(5/130)
يَوْمَ لَا يُغْنِي
مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
وَقَوله تَعَالَى: {يَوْم لَا يغنى مولى
عَن مولى شَيْئا} أَي: قَرِيبا عَن قريب شَيْئا، وَمَعْنَاهُ:
أَن الْمُؤمن لَا ينصر قَرِيبه الْكَافِر، وَيُقَال: لَا
يتَوَلَّى الْمُؤمن الْكَافِر لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَمِنْه
قَول النَّبِي: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ " أَي: من
تولينه انا فعلي مَوْلَاهُ من (مُوالَاة) الْمحبَّة والنصرة،
وَيُقَال: إِن الْخَبَر ورد على سَبَب، وَهُوَ أَن عليا قَالَ
لأسامة رَضِي الله عَنهُ: أَنْت مولَايَ، فَقَالَ أُسَامَة:
لست مَوْلَاك، إِنَّمَا أَنا مولى رَسُول الله: فَقَالَ رَسُول
الله: " من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ ".
وَقَوله: {لَا يغنى} أَي: لَا يدْفع.
وَقَوله: {وَلَا هم ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَعُونَ من
الْعَذَاب.
(5/130)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ
اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا من رحم الله}
يَعْنِي: أَن الْمُؤمنِينَ يشفع بَعضهم بَعْضًا، ويتولى بَعضهم
بَعْضًا، فالشفاعة: هُوَ نفع الْمُوَالَاة.
وَقَوله: {إِنَّه هُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم} أَي: المنيع فِي
ملكه، الرَّحِيم بخلقه.
(5/130)
إِنَّ شَجَرَتَ
الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
قَوْله تَعَالَى: {إِن شَجَرَة الزقوم
طَعَام الأثيم} أَي: الْفَاجِر، وَقيل: الْكَافِر، وَهُوَ
أَبُو
(5/130)
((44} كَالْمهْلِ يغلي فِي الْبُطُون (45)
كغلي الْحَمِيم (46) خذوه فاعتلوه إِلَى سَوَاء الْجَحِيم (47)
ثمَّ صبوا فَوق رَأسه من عَذَاب الْحَمِيم (48) ذُقْ إِنَّك
أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم (49) إِن هَذَا مَا كُنْتُم بِهِ
تمترون (50)) جهل فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين، وَقد بَينا
معنى الزقوم، وروى أَن الْمُشْركين أَتَوا أَبَا جهل وَقَالُوا
لَهُ: إِن مُحَمَّدًا توعدنا بالزقوم، فَهَل تَدْرِي مَا
الزقوم؟ فَقَالَ: وَالله إِذا أنزلته غارت، هُوَ الصرفان
بالزبد، نوع من التَّمْر الْجيد. وَاعْلَم أَن الزقوم فِي
اللُّغَة كل طَعَام يتَنَاوَل على كره شَدِيد. وَقَالَ بَعضهم:
إِن الزقوم هُوَ الطَّعَام اللين فِي لِسَان البربر لَا فِي
لِسَان الْعَرَب.
(5/131)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (45)
وَقَوله: {كَالْمهْلِ} هُوَ عكر الزَّيْت،
وَقيل: عكر القطران، وَقيل: الْفضة المذابة.
قَوْله تَعَالَى: {يغلي فِي الْبُطُون كغلي الْحَمِيم} أَي:
يغلي الْمهل فِي الْبُطُون، وَقيل: الْقَوْم فِي الْبُطُون،
وَهُوَ الْأَصَح.
(5/131)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ
(46)
وَقَوله: {كغلى الْحَمِيم} أى: كغلي المَاء
الْحَار الَّذِي انْتهى حره.
(5/131)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ
إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
قَوْله تَعَالَى: {خذوه فاعتلوه} أَي:
جروه، وَقيل: سوقوه بعنف.
وَقَوله: {إِلَى سَوَاء الْجَحِيم} أَي: إِلَى وسط الْجَحِيم.
(5/131)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ صبوا فَوق رَأسه من
عَذَاب الْحَمِيم} فِي التَّفْسِير: أَنه يثقب وسط رَأس أبي
جهل وَيصب فِيهِ الْحَمِيم، فَتخرج أمعاؤه من أَسْفَله.
(5/131)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
قَوْله تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّك أَنْت
الْعَزِيز الْكَرِيم} أَي: يُقَال لَهُ: ذُقْ، وَقَوله:
{الْعَزِيز الْكَرِيم} أَي: فِي زعمك، وَكَانَ يَقُول: أَنا
أعز أهل (الْوَادي) وَأكْرمهمْ. وَيُقَال: إِنَّك أَنْت
الْعَزِيز الْكَرِيم أَي: لست بعزيز وَلَا كريم. وَقيل: إِن
هَذَا يُقَال على طَرِيق الِاسْتِهْزَاء بِهِ.
(5/131)
إِنَّ هَذَا مَا
كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
قَوْله: {إِن هَذَا مَا كُنْتُم بِهِ
تمترون} أَي: تشكون.
(5/131)
{إِن الْمُتَّقِينَ فِي مقَام أَمِين (51)
فِي جنَّات وعيون (52) يلبسُونَ من سندس وإستبرق مُتَقَابلين
(53) كَذَلِك وزوجناهم بحور عين (54) يدعونَ فِيهَا بِكُل
فَاكِهَة آمِنين (55) لَا يذوقون فِيهَا الْمَوْت إِلَّا
الموتة الأولى ووقاهم عَذَاب الْجَحِيم (56) فضلا من رَبك}
(5/132)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي
مقَام أَمِين} أَي: فِي منزل يأمنون فِيهِ من الْمَوْت
والزوال، قَالَ عَليّ: وأمنوا من الْمَوْت فطاب لَهُم
الْعَيْش.
(5/132)
فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ
مُتَقَابِلِينَ (53)
وَقَوله: {فِي جنَّات وعيون يلبسُونَ من
سندس} أَي: الرَّقِيق من الديباج، وَقيل: الْخَزّ الْمُوشى.
وَقَوله: {وإستبرق} أَي: الديباج الغليظ، وَيُقَال: الإستبرق
هُوَ الديباج الْمُرْتَفع الَّذِي لَهُ بريق فِي الْأَعْين.
وَقَوله: {مُتَقَابلين} أَي: لَا ينظر بَعضهم إِلَى قفا بعض،
وَقيل: مُتَقَابلين بالمحبة غير متدابرين بالعداوة.
(5/132)
كَذَلِكَ
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك وزوجناهم بحور
عين} أَي: كَمَا فعلنَا بهم مَا ذكرنَا كَذَلِك نزوجهم بالحور
الْعين، والحور الْجَوَارِي الْبيض، وَالْعين: الحسان
الْأَعْين، وَقيل: سمين الْحور؛ لِأَن الْأَبْصَار تحار من
جمالهن. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " [وعيس] عين " أَي: الْبيض.
(5/132)
يَدْعُونَ فِيهَا
بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
قَوْله: {يدعونَ فِيهَا بِكُل فَاكِهَة
آمِنين} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/132)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ
الْجَحِيمِ (56)
قَوْله تَعَالَى: {لَا يذوقون فِيهَا
الْمَوْت إِلَّا الموتة الأولى} أَي: سوى الموتة الأولى.
والموتة الأولى لَا تكون فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا قَالَ على
طَرِيق التَّوَسُّع. وَقيل: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع،
وَمَعْنَاهُ: لَكِن الموتة الأولى قد ذاقوها.
وَقَوله: {ووقاهم عَذَاب الْجَحِيم} أَي: عَذَاب النَّار،
والجحيم مُعظم النَّار.
(5/132)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ
ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
قَوْله تَعَالَى: {فضلا من رَبك} أَي:
تفضلا من رَبك {ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم}
(5/132)
{ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (57)
فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُم يتذكرون فَارْتَقِبْ
إِنَّهُم مرتقبون}
أى النجَاة الْعَظِيمَة.
(5/133)
فَإِنَّمَا
يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يسرناه
بلسانك} أَي: يسرنَا الْقُرْآن بلسانك، وَيُقَال: أطلقنا بِهِ
لسَانك، وَهُوَ فِي معنى قَوْله: {وَلَقَد يسرنَا الْقُرْآن
للذّكر ... .} الْآيَة.
وَقَوله: {لَعَلَّهُم يتذكرون} أَي: يتعظون.
(5/133)
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ
مُرْتَقِبُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُم
مرتقبون} أَي: ترقب عَذَابهمْ وانتظره إِنَّهُم منتظرون.
(5/133)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{حم (1) تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم (2) إِن
فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض لآيَات للْمُؤْمِنين (3) وَفِي
خَلقكُم وَمَا يبث من دَابَّة آيَات لقوم يوقنون (4) }
تَفْسِير سُورَة الجاثية
وَهِي مَكِّيَّة
أَلا آيَة وَاحِدَة وَهِي قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين آمنُوا
يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله} فَإِنَّهَا نزلت
بِالْمَدِينَةِ، وَيُقَال: إِن الْجَمِيع مَكِّيَّة.
(5/134)
حم (1) تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
قَوْله تَعَالَى: {حم تَنْزِيل الْكتاب من
الله الْعَزِيز الْحَكِيم} قَوْله: {حم} مُبْتَدأ، و {تَنْزِيل
الْكتاب} خَبره، وَقَوله: {من الله الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي:
الْغَالِب على الْأُمُور، الْعدْل فِي الْأَحْكَام.
(5/134)
إِنَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي السَّمَوَات
وَالْأَرْض لآيَات} أَي: لدلائل وعبرا، وَذَلِكَ فِي رَفعهَا
بِغَيْر عمد، وَمَا خلق فِيهَا من الشَّمْس وَالْقَمَر
والنجوم، وَمن بسط الأَرْض واستقرارها بِمن فِيهَا، وَمَا نصب
فِيهَا من الْجبَال وأجرى فِيهَا من الْأَنْهَار، وَخلق من
الْأَشْجَار، وَغير ذَلِك، وَقَوله: {للْمُؤْمِنين} أَي:
للمصدقين.
(5/134)
وَفِي خَلْقِكُمْ
وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَفِي خَلقكُم} أَي: فِي
خَلقكُم من التُّرَاب ثمَّ من نُطْفَة.
وَقَوله: {وَمَا يبث من دَابَّة} أَي: مَا ينشر فِي الأَرْض من
دَابَّة، وَالدَّابَّة كل حَيَوَان يدب على الأَرْض.
وَقَوله: {آيَات} وَقُرِئَ: " آيَات " بِالرَّفْع والخفض، فَمن
قَرَأَ بالخفض فَمَعْنَاه: إِن فِي السَّمَوَات وَإِن فِي
خَلقكُم لآيَات، وَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فعلى الِابْتِدَاء
والاستئناف.
وَقَوله: {لقوم يوقنون} قَالَ ابْن مَسْعُود: الْإِيمَان هُوَ
الْيَقِين كُله.
(5/134)
{وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا
أنزل الله من السَّمَاء من رزق فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا
وتصريف الرِّيَاح آيَات لقوم يعْقلُونَ (5) تِلْكَ آيَات الله
نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ فَبِأَي حَدِيث بعد الله وآياته
يُؤمنُونَ (6) ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع آيَات الله تتلى}
(5/135)
وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(5)
قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتِلَاف اللَّيْل
وَالنَّهَار} وَمعنى الِاخْتِلَاف وَهُوَ الزِّيَادَة
وَالنُّقْصَان والمجيء والذهاب.
وَقَوله: {وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من رزق} أَي:
الْمَطَر، قَالَ كَعْب الحبر: ينزل الْمَطَر وَفِيه الْبِنْت
فَيدْخل فِي الأَرْض ثمَّ يخرج مِنْهَا.
وَقَوله: {فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} قد ذكرنَا.
{وتصريف الرِّيَاح} مَعْنَاهُ: مرّة جنوبا، وَمرَّة شمالا،
وَمرَّة رَحْمَة، وَمرَّة عذَابا.
وَقَوله: {آيَات لقوم يعْقلُونَ} أَي: يعْقلُونَ الْآيَات،
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " الرّيح من روح الله
تَأتي مرّة بِالْعَذَابِ وَمرَّة بِالرَّحْمَةِ؛ فَلَا تسبوها
وَلَكِن إِذا جَاءَت فَسَلُوا الله خَيرهَا، واستعيذوا
بِاللَّه من شَرها ".
(5/135)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ
اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {تِلْكَ آيَات الله
نتلوها عَلَيْك بِالْحَقِّ فَبِأَي حَدِيث بعد الله وآياته
يُؤمنُونَ} أَي: يصدقون، وَحَقِيقَة الْمَعْنى أَنهم إِذا لم
يُؤمنُوا بِهَذَا الْكتاب فَبِأَي كتاب بعده يُؤمنُونَ، وَلَا
كتاب بعد هَذَا الْكتاب.
(5/135)
وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)
قَوْله تَعَالَى: {ويل لكل أفاك أثيم} فِي
التَّفْسِير أَن الويل وَاد فِي جَهَنَّم يهوى الْكَافِر فِيهِ
سبعين خَرِيفًا قبل أَن يبلغ قَعْره. وَقَوله: {لكل أفاك أثيم}
أَي: كَذَّاب فَاجر.
(5/135)
يَسْمَعُ آيَاتِ
اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ
لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
قَوْله تَعَالَى: {يسمع آيَات الله تتلى
عَلَيْهِ ثمَّ يصر مستكبرا} أَي: يصر على الْكفْر معرضًا عَن
الْحق إِعْرَاض المتكبرين، والإصرار هُوَ العقد على الشَّيْء
بالعزم
(5/135)
{عَلَيْهِ ثمَّ يصر مستكبرا كَأَن لم
يسْمعهَا فبشره بِعَذَاب أَلِيم (8) وَإِذا علم من آيَاتنَا
شَيْئا اتخذها هزوا أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين (9) من ورائهم
جَهَنَّم وَلَا يُغني عَنْهُم مَا كسبوا شَيْئا وَلَا مَا
اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء وَلَهُم عَذَاب عَظِيم (10)
هَذَا هدى وَالَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم لَهُم عَذَاب من رجز
أَلِيم (11) } الصَّحِيح.
وَقَوله: {كَأَن لم يسْمعهَا} أَي: كَأَن لم يسمع الْآيَات.
وَقَوله: {فبشره بِعَذَاب أَلِيم} أَي: موجع.
(5/136)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ
آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا علم من آيَاتنَا
شَيْئا اتَّخَذُوهَا هزوا} نزلت الْآيَة فِي النَّضر بن
الْحَارِث بن كلدة كَانَ يَقُول فِي الْقُرْآن إِنَّه أساطير
الْأَوَّلين، وَهُوَ مثل حَدِيث رستم واسفنديار، وَكَانَ
يَقُول ذَلِك على جِهَة الِاسْتِهْزَاء.
وَقَوله: {أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب مهين} قد بَينا.
(5/136)
مِنْ وَرَائِهِمْ
جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا
مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
قَوْله تَعَالَى: {من ورائهم جَهَنَّم}
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: من قدامهم جَهَنَّم.
وَقَوله: {وَلَا يُغني عَنْهُم مَا كسبوا شَيْئا} قَالَ بعض
أهل التَّفْسِير: الْآيَة فِي عبد الله بن أبي بن سلول،
وَكَسبه هُوَ جهاده مَعَ الرَّسُول وصومه وَصلَاته وشفقته على
أَصْحَاب النَّبِي. وَقَوله: {وَلَا يُغني} أَي: لَا يدْفع،
وَإِنَّمَا لم يدْفع؛ لِأَنَّهُ كَانَ منافقا يظْهر
الْإِسْلَام بِلِسَانِهِ ويعتقد الْكفْر، وَالْأَكْثَرُونَ على
أَن هَذِه الْآيَة فِي النَّضر بن الْحَارِث أَيْضا، وَهَذَا
هُوَ الأولى؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَكَسبه مَا فعله من
الْخَيْر على زَعمه.
وَقَوله: {وَلَا مَا اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء} أَي:
الْأَصْنَام.
وَقَوله: {وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/136)
هَذَا هُدًى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ
رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
قَوْله تَعَالَى: {هَذَا هدى} أَي:
الْقُرْآن هدى لِلْخلقِ.
وَقَوله: {وَالَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم لَهُم عَذَاب من رجز
أَلِيم} أَي: عَذَاب من جَهَنَّم موجع.
(5/136)
{الله الَّذِي سخر لكم الْبَحْر لتجري
الْفلك فِيهِ بأَمْره ولتبتغوا من فَضله ولعلكم تشكرون (12)
وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا
مِنْهُ إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون (13) قل للَّذين
آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله}
(5/137)
اللَّهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ
بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي سخر لكم
الْبَحْر لتجري الْفلك فِيهِ بأَمْره ولتبتغوا من فَضله} أَي:
من رزقه.
وَقَوله: {ولعلكم تشكرون} قَالَ ابْن عُيَيْنَة: الشُّكْر
وَاجِب على كل مُسلم؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {لتبتغوا من
فَضله ولعلكم تشكرون} فرزق الْعباد ليشكروه.
(5/137)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
قَوْله تَعَالَى: {وسخر لكم مَا فِي
السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض} أَي: ذلل، وَمعنى التسخير
والتذليل خلقهَا على وَجه ينْتَفع بهَا الْعباد،
وَالِانْتِفَاع من السَّمَاء وَالْأَرْض مَعْلُوم.
وَقَوله: {جَمِيعًا مِنْهُ} قَالَ الْفراء والزجاج: نعْمَة
وَرَحْمَة مِنْهُ، وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه
قَالَ: مِنْهُ النُّور وَمِنْه الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم.
وَفِي بعض الْآثَار: أَن رجلا أَتَى عبد الله بن عمر وَقَالَ:
مِم خلق الله الْخلق؟ فَقَالَ: من النُّور والظلمة وَالرِّيح،
فَقَالَ: مِم خلق النُّور والظلمة وَالرِّيح فَقَالَ: لَا
أَدْرِي، فَأتى ابْن عَبَّاس وَسَأَلَ عَن الأول فَذكر مثل مَا
ذكره ابْن عمر، فَسَأَلَهُ عَن الثَّانِي فَقَرَأَ قَوْله
تَعَالَى: {وسخر لكم مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض
جَمِيعًا مِنْهُ} أَي: من تكوينه كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: كن
فَكَانَت. وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَرَأَ: " منَّة " أَي: سخر
مَا سخر نعْمَة من الله.
وَقَوله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} أَي: يتدبرون.
وَفِي الْخَبَر: " تَفَكَّرُوا فِي الْخلق وَلَا تَتَفَكَّرُوا
فِي الْخَالِق ".
(5/137)
قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ
لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {قل للَّذين آمنُوا
يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله} ذكر الضَّحَّاك
وَأَبُو صَالح أَن النَّبِي وَأَصْحَابه نزلُوا على مَاء
بالمريسيع، فَبعث عبد الله بن أبي بن سلول غُلَامه ليَأْتِيه
بِالْمَاءِ، فَأَبْطَأَ الْغُلَام، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ
لَهُ: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بك؟ قَالَ: جَاءَ غُلَام عمر
وَجلسَ على فَم الْبِئْر، وَمنع النَّاس حَتَّى مَلأ قربه
النَّبِي وقربة أبي بكرو قربَة
(5/137)
{ليجزي قوما بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(14) من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا ثمَّ إِلَى
ربكُم ترجعون (15) وَلَقَد آتَيْنَا بني إِسْرَائِيل الْكتاب
وَالْحكم والنبوة ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم على
الْعَالمين (16) وآتيناهم بَيِّنَات من الْأَمر} مَوْلَاهُ،
فَغَضب عبد الله بن أبي لما سمع ذَلِك، وَقَالَ: مَا مثلنَا
وَمثل مُحَمَّد إِلَّا كَمَا قيل: سمن كلبك يَأْكُلك. ثمَّ
قَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز
مِنْهَا الْأَذَل، فَبلغ ذَلِك عمر فجَاء بِالسَّيْفِ
مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ ليضْرب بِهِ عبد الله بن أبي،
وَاسْتَأْذَنَ النَّبِي فِي ذَلِك، فَأنْزل الله تَعَالَى
قَوْله: {قل للَّذين آمنُوا يغفروا للَّذين لَا يرجون أَيَّام
الله} وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا إِن الْآيَة نزلت
بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ بَعضهم: شتم رجل من الْكفَّار عمر
بِمَكَّة فهم أَن يبطش بِهِ؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة.
وَقَوله: {للَّذين لَا يرجون أَيَّام الله} أَي: لَا يسْأَلُون
الله نعمه، وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يعترفون بِأَن النعم من
عِنْد الله، وَقيل: لَا يرجون أَيَّام الله أَي: لَا يخَافُونَ
عقوبات الله ونقمه. وَقيل: لَا يطْعمُون فِي ثَوَاب، وَلَا
يخَافُونَ من عُقُوبَة.
وَقَوله: {ليجزي قوما بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يَعْنِي:
يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: ليَكُون الله تَعَالَى هُوَ
الْمجَازِي والمنتقم مِنْهُم لَا أَنْتُم.
(5/138)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {من عمل صَالحا فلنفسه}
أَي: نفع ذَلِك يعود إِلَيْهِ.
وَقَوله: {وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا} أَي: وبال ذَلِك عَلَيْهِ.
وَقَوله: {ثمَّ إِلَى ربكُم ترجعون} أَي: تردون.
(5/138)
وَلَقَدْ آتَيْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا بني
إِسْرَائِيل الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة.
وَقَوله: {وَالْحكم والنبوة} أَي: الْعلم والنبوة.
وَقَوله: {ورزقناهم من الطَّيِّبَات} أَي: الْحَلَال، وَهِي
الْمَنّ والسلوى وَغير ذَلِك.
وَقَوله: {وفضلناهم على الْعَالمين} أَي: على عالمي زمانهم.
(5/138)
وَآتَيْنَاهُمْ
بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا
كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
قَوْله تَعَالَى: {وآتيناهم بَيِّنَات من
الْأَمر} أَي: دلالات واضحات، وَيُقَال: بَيِّنَات
(5/138)
{فَمَا اخْتلفُوا إِلَّا من بعد مَا
جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم إِن رَبك يقْضِي بَينهم يَوْم
الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثمَّ
جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء
الَّذين لَا يعلمُونَ (18) إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله
شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولي
الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بصائر للنَّاس وَهدى وَرَحْمَة لقوم
يوقنون (20) أم حسب} من الْأَمر مَا يدلهم على أَمر مُحَمَّد.
وَقَوله: {فَمَا اخْتلفُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم}
أَي: مَا اخْتلفُوا فِي الْحق إِلَّا من بَعْدَمَا جَاءَهُم
الْعلم بِالْحَقِّ.
وَقَوله: {بغيا بَينهم} أَي: حسدا وظلما وعنادا للحق.
وَقَوله: {إِن رَبك يقْضِي بَينهم} ظَاهر مَعْنَاهُ إِلَى آخر
الْآيَة.
(5/139)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ
عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ جعلناك على
شَرِيعَة من الْأَمر} أَي: طَرِيق وَاضح، وَيُقَال: على أَمر
بَين، والشرعة هِيَ الْمَذْهَب وَالْملَّة، وَكَذَلِكَ
الشَّرِيعَة.
وَقَوله: {فاتبعها} أَي: اتبع الشَّرِيعَة الَّتِي جاءتك من
الله تَعَالَى.
وَقَوله: {وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ} فِي
التَّفْسِير: أَن الْمُشْركين كَانُوا يَقُولُونَ: يَا
مُحَمَّد، ارْجع إِلَى دين آبَائِك فَإِنَّهُ أولى من الدّين
الَّذِي جِئْت بِهِ.
(5/139)
إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ (19)
وَقَوله: {إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله
شَيْئا} أَي: لن يدفعوا عَنْك شَيْئا يُريدهُ الله بك إِن
اتبعت أهواءهم.
وَقَوله: {وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} أَي:
بَعضهم محبو الْبَعْض.
وَقَوله: {وَالله ولي الْمُتَّقِينَ} أَي: محب الْمُتَّقِينَ
وحافظهم.
(5/139)
هَذَا بَصَائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {هَذَا بصائر للنَّاس}
أَي: هَذَا الَّذِي أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك بصائر للنَّاس أَي:
دلالات يبصر بهَا النَّاس.
وَقَوله: {وَهدى وَرَحْمَة لقوم يوقنون} أَي: يعلمُونَ.
(5/139)
{الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم
كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم
ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون (21) وَخلق الله السَّمَوَات
وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ولتجزى كل نفس بِمَا كسبت وهم لَا
يظْلمُونَ (22) }
(5/140)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ
وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {أم حسب الَّذين اجترحوا
السَّيِّئَات} أَي: اكتسبوا السَّيِّئَات، والسيئات مَا قبحت
شرعا، والحسنات مَا حسنت شرعا.
وَقَوله: {أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا
الصَّالِحَات} أَي: فِي دُخُول الْجنَّة، وَمَا يعْطى أهل
الْإِيمَان من النَّعيم. وَالظَّاهِر أَن الْآيَة فِي
الْكفَّار وَإِن كَانَت عَامَّة.
وَقَوله: {سَوَاء محياهم ومماتهم} وَقُرِئَ: " سَوَاء "
بِالنّصب، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع فَمَعْنَاه: أَن الْكَافِر
سَوَاء محياه ومماته أَي: يحيا كَافِرًا وَيَمُوت كَافِرًا.
وَفِي الْخَبَر " يَمُوت " الْمَرْء على مَا عَاشَ عَلَيْهِ،
وَيبْعَث على مَا مَاتَ عَلَيْهِ ".
وَأما الْقِرَاءَة بِالنّصب فَهُوَ فِي مَوضِع مستو فانتصب
لهَذَا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أم حسبوا أَن نجعلهم
وَالْمُؤمنِينَ سَوَاء فِي الْمحيا وَالْمَمَات يَعْنِي: أَنهم
لَا يستوون.
وَقَوله: {سَاءَ مَا يحكمون} أَي: بئس مَا يحكمون
لأَنْفُسِهِمْ. وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ
للْمُؤْمِنين: إِن دَخَلْتُم الْجنَّة فَنحْن مَعكُمْ، وَإِن
دَخَلنَا النَّار فَأنْتم مَعنا.
وَفِي بعض الْآثَار عَن مَسْرُوق بن الأجدع قَالَ: قدمت مَكَّة
وَدخلت الْمَسْجِد الْحَرَام فَقيل لي: هَذَا مقَام أَخِيك
تَمِيم الدَّارِيّ، جعل يُصَلِّي لَيْلَة إِلَى الصَّباح
يرْكَع وَيسْجد ويبكي وَيقْرَأ هَذِه الْآيَة: {أم حسب الَّذين
اجترحوا السَّيِّئَات} لَا يجاوزها.
(5/140)
وَخَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وَخلق الله السَّمَوَات
وَالْأَرْض بِالْحَقِّ ولتجزي كل نفس بِمَا كسبت وهم لَا
يظْلمُونَ} أَي: لَا ينقص من حُقُوقهم شَيْء.
(5/140)
{أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ وأضله
الله على علم على سَمعه وَقَلبه وَجعل على}
(5/141)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ
غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا
تَذَكَّرُونَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت من اتخذ
إلهه هَوَاهُ} قَالَ سعيد بن جُبَير: كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم
يعبد الشَّيْء، فَإِذا رأى شَيْئا أحسن مِنْهُ طرح الأول وَأخذ
الثَّانِي فعبده. وَقَالَ قَتَادَة فِي معنى الْآيَة: لَا يهوى
شَيْئا إِلَّا رَكبه، فَهُوَ يعبد هَوَاهُ. وَقيل: اتخذ إلهه
هَوَاهُ أَي: أطَاع هَوَاهُ وانقاد لَهُ كَمَا ينقاد العَبْد
لمعبوده. وَقد ثَبت أَنه قَالَ: " تعس عبد الدِّينَار، تعس عبد
الدِّرْهَم، تعس عبد الخميصة ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَنه [قَالَ] : " مَا عبد تَحت ظلّ
السَّمَاء شَيْء وَهُوَ أبْغض عِنْد الله من هوى ".
وَقَوله: {وأضله الله على علم} أَي: على مَا حكم [لَهُ] فِي
علمه السَّابِق، وَهُوَ رد على الْقَدَرِيَّة، وَقد أولُوا
هَذَا وَقَالُوا: معنى قَوْله: {وأضله الله} أَي: وجده
ضَالًّا، أَو سَمَّاهُ ضَالًّا، وَهُوَ تَأْوِيل بَاطِل؛ لِأَن
الْعَرَب لَا تَقول: فعل فلَان كَذَا إِذا وجده كَذَلِك.
وَقَوله: {وَختم على سَمعه} أَي: ختم على سَمعه فَجعله لَا
يسمع الْحق.
وَقَوله: {وَقَلبه} أَي: وَختم على قلبه فَجعله لَا يقبل
الْحق.
(5/141)
{بَصَره غشاوة فَمن يهديه من بعد الله
أَفلا تذكرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا
الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر}
وَقَوله: {وَجعل على بَصَره غشاوة} أَي: غطاء فَلَا يبصر
الْحق.
وَقَوله: {فَمن يهديه من بعد الله} يَعْنِي: إِذا كَانَ الله
لَا يهديه فَمن يهديه من بعد الله؟ ! .
وَقَوله: {أَفلا تذكرُونَ} أَي: أَفلا تتعظون.
(5/142)
وَقَالُوا مَا هِيَ
إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا
يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ
إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا} فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهمَا: أَنه على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ:
نحيا وَنَمُوت، وَهَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود.
وَالْقَوْل الثَّانِي: نموت ونحيا: أَي: يَمُوت الْبَعْض منا،
ويحيا الْبَعْض منا. وَفِيه قَولَانِ آخرَانِ: أَحدهمَا:
وَهُوَ القَوْل الثَّالِث: نموت ونحيا أَي: نموت نَحن ويحيا
أَوْلَادنَا، وَالْقَوْل الرَّابِع: هُوَ أَنه خلقنَا
أَمْوَاتًا ثمَّ أَحْيَانًا.
وَقَوله: {وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} قَالَ قَتَادَة:
من الْأَيَّام والليالي. وَيُقَال: مَا يُهْلِكنَا إِلَّا
الدَّهْر أَي: إِلَّا الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر.
(أَمن الْمنون وريبها يتوجع ... والدهر لَيْسَ بمعتب من يجزع)
أَي: الْمَوْت. وَيُقَال: وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر
أَي: طول الْعُمر، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا
تسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر ".
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو
الْحُسَيْن النقور، أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم بن حبابة، أخبرنَا
الْبَغَوِيّ هُوَ ابْن بنت منيع واسْمه عبد الله بن مُحَمَّد
أَبُو
(5/142)
{وَمَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا
يظنون (24) وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات مَا
كَانَ} الْقَاسِم، أخبرنَا هدبة بن خَالِد، أخبرنَا حَمَّاد بن
سَلمَة، عَن أَيُّوب، عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أبي
هُرَيْرَة الْخَبَر.
وروى الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن، عَن أَبِيه، عَن أبي
هُرَيْرَة أَن النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى:
استقرضت من ابْن آدم فَلم يقرضني، ويسبني وَهُوَ لَا يعلم،
وَيَقُول: يادهراه يادهراه " وَفِي رِوَايَة " يَا خيبة
الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر ".
وَفِي رِوَايَة ثَالِثَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يَقُول
الله تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر وَأَنا
الدَّهْر، أدبر الْأَمر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار ".
وَفِي معنى الْخَبَر ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن مَعْنَاهُ:
لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر أَي: خَالق
الدَّهْر.
وَالْوَجْه الثَّانِي: لَا تسبوا الدَّهْر فَإِنِّي فَاعل
الْأَشْيَاء. وَكَانُوا يضيفون الْفِعْل إِلَى الدَّهْر
ويسبونه، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر يَعْنِي: أَن الله فَاعل
الْأَشْيَاء لَا الدَّهْر، وَهَذَا قَول مُعْتَمد.
وَالْوَجْه الثَّالِث: وَهُوَ أَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ
بَقَاء الدَّهْر، وَأَنه لَا يبْقى شَيْء مَعَ بَقَاء الدَّهْر
فَقَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر يَعْنِي: لَا تسبوا الَّذين
يَعْتَقِدُونَ أَنه الْبَاقِي؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر
يَعْنِي: فَإِن الله هُوَ الْبَاقِي بَقَاء الْأَبَد على مَا
يَعْتَقِدُونَ فِي الدَّهْر.
وَقَوله: {ومالهم بذلك من علم إِن هم إِلَّا يظنون} أَي:
قَالُوا مَا قَالُوهُ على ظن وَشك لَا عَن علم ويقين.
(5/143)
وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا
أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(25)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم
آيَاتنَا بَيِّنَات مَا كَانَ حجتهم إِلَّا أَن قَالُوا
ائْتُوا بِآبَائِنَا
(5/143)
{حجتهم إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا
بِآبَائِنَا إِن كُنْتُم صَادِقين (25) قل الله يُحْيِيكُمْ
ثمَّ يميتكم ثمَّ يجمعكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب
فِيهِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ (26) وَللَّه ملك
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيَوْم تقوم السَّاعَة يَوْمئِذٍ يخسر
المبطلون (27) وَترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إِلَى كتابها
الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (28) هَذَا
كتَابنَا ينْطق} إِن كُنْتُم صَادِقين) وَقد بَينا قَول أبي
جهل فِي هَذَا.
(5/144)
قُلِ اللَّهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {قل الله يُحْيِيكُمْ
ثمَّ يميتكم ثمَّ يجمعكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب
فِيهِ وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ
الْحق.
(5/144)
وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه ملك السَّمَوَات
وَالْأَرْض، وَيَوْم تقوم السَّاعَة} أَي: الْقِيَامَة.
وَقَوله: {يَوْمئِذٍ يخسر المبطلون} أَي: يهْلك الْكَافِرُونَ.
(5/144)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ
جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَترى كل أمة جاثية}
فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: مستوفزين أَي: جُلُوسًا على الركب،
قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: المستوفز من لَا تصيب الأَرْض
مِنْهُ إِلَّا ركبتاه وأطراف أَصَابِعه. وَالْقَوْل الثَّانِي:
جاثية أَي: مجتمعة. وَالْقَوْل الثَّالِث: جاثية أَي: خاضعة
ذليلة، وَقيل: هُوَ لُغَة قُرَيْش. وَالْقَوْل الأول هُوَ
الْمُخْتَار الْمَعْرُوف، وَمِنْه جثا فلَان بَين يَدي
القَاضِي ينْتَظر قَضَاءَهُ، وَعَن سلمَان الْفَارِسِي قَالَ:
إِن فِي الْقِيَامَة سَاعَة هِيَ عشر سِنِين من سِنِين
الدُّنْيَا يخر فِيهَا النَّاس، ويجثون على الركب حَتَّى
إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن، وَيَقُول: نَفسِي لَا أَسَالَك
إِلَّا نَفسِي. وَيُقَال: ترى كل أمة رَسُول جاثية أَي: كل أحد
جاثيا، وَالْأمة تكون بِمَعْنى الْوَاحِد. وَيُقَال مَعْنَاهُ:
كل أمة رَسُول جاثية، وَالله اعْلَم.
وَقَوله: {كل أمة تدعى إِلَى كتابها} مَعْنَاهُ: إِلَى
قِرَاءَة كتابها.
وَقَوله تَعَالَى: {الْيَوْم تُجْزونَ مَا كُنْتُم
تَعْمَلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/144)
هَذَا كِتَابُنَا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
قَوْله تَعَالَى: {هَذَا كتَابنَا ينْطق
عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} أَي: يظْهر مَا عملتم بِالْحَقِّ.
(5/144)
{عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (29) فَأَما الَّذين
آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيدخلهم رَبهم فِي رَحمته ذَلِك
هُوَ الْفَوْز الْمُبين (30) وَأما الَّذين كفرُوا أفلم تكن
آياتي تتلى عَلَيْكُم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وَإِذا
قيل إِن وعد الله حق والساعة لَا ريب فِيهَا قُلْتُمْ مَا
نَدْرِي مَا السَّاعَة إِن نظن إِلَّا ظنا وَمَا نَحن}
وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ}
فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: نستكتب مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ أَي:
نأمر الكتبة أَن يكتبوا ويحفظوا أَعمالكُم. وَالْقَوْل
الثَّانِي: نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ أَي: نَأْخُذ
نُسْخَة مِمَّا كتبت الْمَلَائِكَة عَلَيْكُم. وَالْقَوْل
الثَّالِث: وَهُوَ الْمَعْرُوف، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: يَأْمر الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة بِأَن
يَأْخُذُوا نُسْخَة من اللَّوْح الْمَحْفُوظ على مَا يعمله
العَبْد فِي يَوْمه وَلَيْلَته، ثمَّ يَكْتُبُونَ مَا عمله
العَبْد، ثمَّ يقابلون مَا كتبُوا على العَبْد بِمَا نسخوا من
اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فيكونان سَوَاء لَا زِيَادَة وَلَا
نُقْصَان فِيهِ، قَالَ ابْن عَبَّاس: أنظروا هَل يكون
الاستنساخ إِلَّا من أصل.
(5/145)
فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ
فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين آمنُوا
وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيدخلهم رَبهم فِي رَحمته} أَي: جنته.
وَقَوله: (ذَلِك هُوَ الْفَوْز الْمُبين) أَي: الْبَين.
(5/145)
وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَأما الَّذين كفرُوا
أفلم تكن آياتي تتلى عَلَيْكُم} يَعْنِي يُقَال لَهُم: أفلم
تكن آياتي تتلى [عَلَيْكُم] أَي: ألم تكن آياتي تتلى
عَلَيْكُم؟ . وَقَوله: (فاستكبرتم) أَي: طلبتم الْكِبْرِيَاء
وَالْعَظَمَة بترك التَّوْحِيد، وكل كَافِر متكبر، وكل مُؤمن
متواضع.
وَقَوله: (وكنتم مجرمين) أَي: ذوى جرم.
(5/145)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ
مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا
نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
قَوْله تَعَالَى: (وَإِذا قيل إِن وعد الله
حق والساعة لَا ريب فِيهَا) أَي: لاشك فِيهَا.
وَقَوله: (قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَة إِن نظن إِلَّا
ظنا) أَي: نظن أَنَّك كَاذِب، ونظن أَنَّك صَادِق، وَلَا
دَلِيل مَعنا على صدقك، وَأَن مَا قلته حق.
(5/145)
بمستيقنين (32) وبدا لَهُم سيئات مَا
عمِلُوا وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (33) وَقيل
الْيَوْم ننساكم كَمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا ومأواكم
النَّار وَمَا لكم من ناصرين (34) ذَلِكُم بأنكم اتخذتم آيَات
الله هزوا وغرتكم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم لَا يخرجُون
مِنْهَا وَلَا هم يستعتبون (35) فَللَّه الْحَمد رب
السَّمَوَات وَرب الأَرْض رب الْعَالمين (36) وَله
الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز
الْحَكِيم (37))
وَقَوله: {وَمَا نَحن بمستيقنين} أَي: متيقنين.
(5/146)
وَبَدَا لَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وبدا لَهُم سيئات مَا
عمِلُوا} أَي: ظهر لَهُم سيئات مَا عمِلُوا.
وَقَوله: {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: نزل بهم
وأحاط بهم جَزَاء مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون، وَفِي
التَّفْسِير: أَنه إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُنَادي
وَاحِدًا فَيُقَال: يافلان تعال فَخذ نورك، وينادي آخر
فَيُقَال: اذْهَبْ فَلَا نور لَك.
(5/146)
وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {وَقيل الْيَوْم ننساكم}
أَي: نترككم، وَمَعْنَاهُ: نترككم من الرَّحْمَة وَإِعْطَاء
الثَّوَاب. وَقيل مَعْنَاهُ: نترككم فِي الْعَذَاب، فَلَا
نخرجكم مِنْهَا كَمَا نخرج الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {كَمَا نسيتم لِقَاء يومكم هَذَا} أَي: كَمَا تركْتُم
الْعَمَل ليومكم هَذَا.
وَقَوله: {ومأواكم النَّار ومالكم من ناصرين} أَي: من يمْنَع
عذابنا مِنْكُم.
(5/146)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بأنكم اتخذتم
آيَات الله هزوا وغرتكم الْحَيَاة الدُّنْيَا فاليوم لَا
يخرجُون مِنْهَا} أَي: من النَّار.
{وَلَا هم يستعتبون} أَي: لَا يرجعُونَ وَلَا يردون إِلَى مَا
كَانُوا عَلَيْهِ من الْعَافِيَة. وَيُقَال: يستقيلون فَلَا
يقالون. وَيُقَال: وَلَا هم يستعتبون أَي: لَا يُعْطون العتبى،
وَهُوَ طلب رضاهم ومرادهم.
(5/146)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(36)
قَوْله تَعَالَى: {فَللَّه الْحَمد رب
السَّمَوَات وَرب وَالْأَرْض رب الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/146)
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(37)
قَوْله تَعَالَى: {وَله الْكِبْرِيَاء فِي
السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: العظمة والعلو، وَقد
(5/146)
روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن
النَّبِي قَالَ: " يَقُول الله تَعَالَى: الْكِبْرِيَاء
رِدَائي، وَالْعَظَمَة إزراري، فَمن نَازَعَنِي وَاحِدَة
مِنْهُمَا أَلقيته فِي جَهَنَّم ".
وَقَوله: {وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم} أَي: الْعَزِيز فِي
انتقامه، الْحَكِيم فِي تَدْبيره، وَالله أعلم.
(5/147)
|