تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{حم (1) عسق (2) كَذَلِك يوحي إِلَيْك}
تَفْسِير سُورَة حم عسق
وَهِي مَكِّيَّة
(قَالَ مقَاتل) : إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك الَّذِي يبشر
الله عباده الَّذين آمنُوا} الْآيَة، وَكَذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} .
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(5/62)
حم (1) عسق (2)
قَوْله تَعَالَى: {حم عسق} حكى عِكْرِمَة
عَن ابْن عَبَّاس: أَن الر، وحم، وَنون نظم قَوْله الرَّحْمَن،
وَعَن الْحسن وَقَتَادَة: أَنه اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن.
وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: الْحَاء من الْحَلِيم
وَالْمِيم من الْملك، وَالْعين من الْعَالم، وَالسِّين من
القدوس، وَالْقَاف من الْقَادِر، وَعَن بَعضهم: أَن هَذَا قسم
فَكَأَنَّهُ أقسم بحلمه وَملكه وَعلمه وسنائه وَقدرته، وَحكى
الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن " حم عسق " اسْم الله
الْأَعْظَم، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: " حم سُقْ
" بِغَيْر الْعين، وَعَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ:
مَعْنَاهُ مضى عَذَاب سَيكون وَاقعا. وَقيل: إِن الْحَاء
إِشَارَة إِلَى حَرْب سَيكون، وَالْمِيم انْتِقَال ملك من قوم
إِلَى قوم، وَالْعين عَدو يغلب الْعَرَب، ثمَّ الدولة تكون
للْعَرَب، وَالسِّين هُوَ [سنو] المجاعة، وَالْقَاف قدرَة الله
النافذة فِي مُلُوك الأَرْض. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن
حُرُوف الهجاء الَّتِي فِي أول هَذِه السُّورَة إِشَارَة إِلَى
فتن تكون فِي هَذِه الْأمة، قَالَ: وَبهَا كَانَ عَليّ رَضِي
الله عَنهُ يعلمهَا وَيَقْضِي بهَا. وَقَوله: {كَذَلِك} فِي
التَّفْسِير: أَن " حم عسق " أوحى إِلَى كل نَبِي من
الْأَنْبِيَاء.
(5/62)
كَذَلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (3)
وَقَوله: {كَذَلِك يُوحى إِلَيْك} أَي:
كَمَا أوحى الله نعالى إِلَى الْأَنْبِيَاء هَذِه
(5/62)
{وَإِلَى الَّذين من قبلك الله الْعَزِيز
الْحَكِيم (3) لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض
وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم (4) تكَاد السَّمَوَات يتفطرن من
فوقهن وَالْمَلَائِكَة يسبحون بِحَمْد رَبهم وَيَسْتَغْفِرُونَ
لمن فِي الأَرْض أَلا إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم (5)
الْكَلِمَات، كَذَلِك يوحيها إِلَيْك. وَيُقَال: المُرَاد
مِنْهُ الْوَحْي على الْجُمْلَة.
وَقَوله: {وَإِلَى الَّذين من قبلك الله الْعَزِيز الْحَكِيم}
يَعْنِي: أَن الله تَعَالَى يوحي إِلَيْك وَإِلَى الَّذين من
قبلك وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم أَي: من صفته الْعِزَّة
وَالْحكمَة، وَمَعْنَاهُ: عَزِيز فِي نصرته، حَكِيم فِي فعله،
وَقُرِئَ: " كَذَلِك نوحي إِلَيْك " بالنُّون، وَمَعْنَاهُ
مَعْلُوم.
(5/63)
لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (4)
قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي
السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/63)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ
أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
قَوْله تَعَالَى: {تكَاد السَّمَوَات
يتفطرن} وَقُرِئَ: " ينفطرن " وَمَعْنَاهُ: يتشققن.
وَقَوله: {من فوقهن} أَي: من فَوق الْأَرْضين، وانفطارها
لعَظيم مَا جَاءَ بِهِ الْكفَّار. وَقيل: خوفًا من الله
تَعَالَى. وَيُقَال: هَيْبَة وإجلالا. وَقيل: لِعَظَمَة الله
تَعَالَى.
وَقَوله: {وَالْمَلَائِكَة يسبحون بِحَمْد رَبهم} أَي: يصلونَ
بِحَمْد رَبهم، وَيُقَال: ينزهون رَبهم.
وَقَوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لمن فِي الأَرْض} مَعْنَاهُ:
للْمُؤْمِنين الَّذين فِي الأَرْض، وَهَذَا محكى عَن ابْن
عَبَّاس، وَاللَّفْظ عَام أُرِيد بِهِ الْخَاص، وَقيل: إِن
الَّذين يَسْتَغْفِرُونَ للْمُؤْمِنين حَملَة الْعَرْش خَاصَّة
على مَا ذكر تَعَالَى فِي سُورَة الْمُؤمن. وَقيل: هم جَمِيع
الْمَلَائِكَة. وَفِي التَّفْسِير: أَن استغفارهم لمن فِي
الأَرْض من الْوَقْت الَّذِي افْتتن هاروت وماروت
بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تسمى زهرَة، وفعلا مَا فعلا، واختارا
عَذَاب الدُّنْيَا، وَقد كَانَت الْمَلَائِكَة من قبل يدعونَ
على العصاة، فَمن ذَلِك الْوَقْت كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ
للعصاة من الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {أَلا إِن الله هُوَ الغفور الرَّحِيم} أَي: الستور
لذنوب عباده.
(5/63)
{وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء
الله حفيظ عَلَيْهِم وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل (6)
وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك قُرْآنًا عَرَبيا لتنذر أم
الْقرى وَمن حولهَا وتنذر يَوْم الْجمع لَا ريب فِيهِ فريق فِي
الْجنَّة وفريق فِي السعير (7) }
وَقَوله: {الرَّحِيم} أَي: الرَّحِيم بهم.
(5/64)
وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ
عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اتَّخذُوا من
دونه أَوْلِيَاء} أَي: من دون الله أَوْلِيَاء.
وَقَوله: {الله حفيظ عَلَيْهِم} أَي: شَاهد لأعمالهم، حَافظ
لَهَا؛ ليجازيهم بهَا.
وَقَوله: {وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل} أَي: بمسلط، وَهَذَا
قبل نزُول آيَة السَّيْف.
(5/64)
وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا
رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
(7)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا
إِلَيْك} قد بَينا من قبل.
وَقَوله: {لتنذر أم الْقرى: أى أهل أم الْقرى. وهى مَكَّة،
وَسميت أم الْقرى، لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا.
وَقَوله: {وَمن حولهَا} أَي: وتنذر أهل من حولهَا.
وَقَوله: {وتنذر يَوْم الْجمع} أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ
الْيَوْم الَّذِي يجْتَمع فِيهِ أهل السَّمَوَات وَأهل
الأَرْض، وَقيل: يجْتَمع فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ.
وَمَعْنَاهُ: لتنذر بِيَوْم الْجمع.
وَقَوله: {لَا ريب فِيهِ} أَي: لَا شكّ فِي مَجِيئه.
وَقَوله: {فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير} روى عبد الله
بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن النَّبِي خرج يَوْمًا وَفِي يَده
كِتَابَانِ، ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: " هَل تَدْرُونَ مَا
فيهمَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ للْكتاب الَّذِي
فِي يَمِينه: هَذَا كتاب فِيهِ أَسمَاء أهل الْجنَّة
وَأَسْمَاء آبَائِهِم، قد أجمل على آخِرهم لَا يزْدَاد فيهم
وَلَا ينقص، وَقَالَ للْكتاب الَّذِي فِي شِمَاله: هَذَا كتاب
فِيهِ أَسمَاء أهل النَّار وَأَسْمَاء آبَائِهِم، قد أجمل على
آخِرهم، لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا ينقص، قَالُوا: فَفِيمَ نعمل
إِذا؟ قَالَ: اعْمَلُوا، فَمن كَانَ من أهل الْجنَّة يخْتم
لَهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة، وَمن كَانَ من أهل النَّار يخْتم
لَهُ بِعَمَل أهل النَّار، وَإِن عمل
(5/64)
{وَلَو شَاءَ الله لجعلهم أمة وَاحِدَة
وَلَكِن يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته والظالمون مَا لَهُم من
ولي وَلَا نصير (8) أم اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء فَالله
هُوَ الْوَلِيّ وَهُوَ يحيي الْمَوْتَى وَهُوَ على كل شَيْء
قدير (9) وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله
ذَلِكُم الله رَبِّي} أَي عمل، ثمَّ قَالَ: فرغ ربكُم من خلقه،
فريق فِي الْجنَّة، وفريق فِي السعير ".
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم يتفرقون فِي الْجنَّة والسعير فَلَا
يَجْتَمعُونَ أبدا.
(5/65)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ
يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو شَاءَ الله لجعلهم
أمة وَاحِدَة} أَي: أهل دين وَاحِد.
وَقَوله: {وَلَكِن يدْخل من يَشَاء فِي رَحمته} أَي: يدْخل من
يَشَاء فِي الْإِسْلَام.
وَقَوله: {والظالمون مَا لَهُم من ولي وَلَا نصير} أَي: ولي
يشفع لَهُم، وَولي ينصرهم من الْعَذَاب.
(5/65)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ
الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
قَوْله تَعَالَى: {أم اتَّخذُوا من دونه
أَوْلِيَاء} أَي: بل اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء.
وَقَوله: {فَالله هُوَ الْمولى} أَي: هُوَ الْمُتَوَلِي
للأشياء.
وَقَوله: {وَهُوَ يحيي الْمَوْتَى وَهُوَ على كل شَيْء قدير}
ظَاهر الْمَعْنى.
(5/65)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ من
شَيْء فَحكمه إِلَى الله} اسْتدلَّ من منع الْقيَاس فِي
الْحَوَادِث بِهَذِهِ الْآيَة، قَالَ: الحكم إِلَى الله لَا
إِلَى رأى الرِّجَال، وَكَذَلِكَ كَانَ الْخَوَارِج
يَقُولُونَ: لَا حكم إِلَّا لله، وأنكروا الْحكمَيْنِ، وَهَذَا
الِاسْتِدْلَال فَاسد؛ لِأَن عندنَا من قَالَ بِالْقِيَاسِ
وَالِاجْتِهَاد فَهُوَ رُجُوع إِلَى الله فِي حكمه، فَإِن
أصُول المقايسات هِيَ: الْكتاب، وَالسّنة.
(5/65)
{عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب (10) فاطر
السَّمَوَات وَالْأَرْض جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا وَمن
الْأَنْعَام أَزْوَاجًا يذرؤكم فِيهِ لَيْسَ كمثله شَيْء
وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير (11) لَهُ مقاليد}
وَقَوله: {ذَلِكُم الله رَبِّي عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ
أنيب} أَي: بِهِ وثقت، وَإِلَيْهِ أرجع فِي أموري.
(5/66)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
قَوْله تَعَالَى: {فاطر السَّمَوَات
وَالْأَرْض} أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
قَوْله: {جعل لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا} أَي: النِّسَاء،
وَقيل: " من أَنفسكُم أَزْوَاجًا " أَي: أصنافا، ذُكُورا،
وإناثا.
وَقَوله: {وَمن الْأَنْعَام أَزْوَاجًا} أى: أصنافاً ذُكُورا
وإناثاً.
وَقَوله: {يذرؤكم فِيهِ} قَالَ الْفراء: أَي: يكثركم بِهِ،
وَقَالَ مُجَاهِد: نَسْلًا من بعد نسل من النَّاس والبهائم
إِلَى قيام السَّاعَة. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن
معنى قَوْله: {يذرؤكم فِيهِ} أَي: يخلقكم فِي هَذَا الْوَجْه
الَّذِي ذكره.
وَقَوله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} قَالَ ثَعْلَب: لَيْسَ كَهُوَ
شَيْء، وَزعم كثير من النَّحْوِيين أَن الْكَاف هَاهُنَا
زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ مثله شَيْء، وَزعم بَعضهم: أَن
لُغَة تهَامَة أَنهم يَقُولُونَ: أَنا كمثلك أَو أَنْت كمثلي
أَي: أَنْت مثلي وَأَنا مثلك. وَقَالَ أهل الْمعَانِي: وَلَا
يَسْتَقِيم قَول من يَقُول: لَيْسَ كمثله شَيْء أى: لَيْسَ
كمثله مثل؛ لِأَن فِي هَذَا (إِثْبَات) الْمثل، وَالله
تَعَالَى لَا يُوصف بِالْمثلِ، جلّ وَتَعَالَى عَن ذَلِك.
وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ظَاهر
الْمَعْنى، وأنشدوا على القَوْل الأول:
(سعد بن زيد إِذا أَبْصرت فَضلهمْ ... مَا إِن كمثلهم فِي
النَّاس من أحد)
(5/66)
لَهُ مَقَالِيدُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
قَوْله تَعَالَى: {لَهُ مقاليد السَّمَوَات
وَالْأَرْض} فِي المقاليد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا
فارسية، وَهِي الأكاليد وَاحِدهَا إكليد. وَالْقَوْل
الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَح أَنَّهَا عَرَبِيَّة، قَالَ
الشَّاعِر فِي المقاليد:
(5/66)
{السَّمَوَات وَالْأَرْض يبسط الرزق لمن
يَشَاء وَيقدر إِنَّه بِكُل شَيْء عليم (12) شرع لكم من الدّين
مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا
بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى}
(فَتى لَو تنادى الشَّمْس أَلْقَت قناعها ... أَو الْقَمَر
الساري لألقي المقالد)
وَاخْتلف القَوْل فِي معنى المقاليد، قَالَ بَعضهم: مقاليد
السَّمَوَات هِيَ الأمطار، ومقاليد الأَرْض هِيَ أَنْوَاع
النَّبَات. وَقيل: مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض هِيَ
الْعُيُون فِيهَا. وَقيل: مَا يحدثه بمشيئته. وَفِي بعض
الْأَخْبَار عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ فِي مقاليد
السَّمَوَات وَالْأَرْض: " لَا إِلَه إِلَّا الله، وَالله
أكبر، وَسُبْحَان الله وَبِحَمْدِهِ، واستغفر الله، وَلَا حول
وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، هُوَ الأول وَالْآخر،
وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن، بِيَدِهِ الْخَيْر يحيي وَيُمِيت،
وَهُوَ على كل شَيْء قدير، فَمن قَالَهَا عصم من إِبْلِيس
وَجُنُوده ".
وَقَوله: {يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} أَي: يُوسع الرزق على
من يَشَاء، ويضيق على من يَشَاء.
وَقَوله: {إِنَّه بِكُل شَيْء عليم} أَي: عَالم.
(5/67)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ
يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
يُنِيبُ (13)
قَوْله تَعَالَى: {شرع لكم من الدّين} أَي:
بَين لكم من الدّين، وَالشَّرْع هُوَ الْبَيَان، وَيُقَال:
أظهر لكم وأمركم.
وَقَوله: {مَا وصّى بِهِ نوحًا} أَي: أَمر بِهِ نوحًا،
وَيُقَال: إِن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام أول من جَاءَ
بِتَحْرِيم الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالْبَنَات.
وَقَوله: {وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} أَي: وَشرع الَّذِي
أَوْحَينَا إِلَيْك.
وَقَوله: {وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى}
أَي: وَمَا أمرنَا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى.
وَقَوله: {أَن أقِيمُوا الدّين} أَي: اثبتوا على التَّوْحِيد،
وَقيل: أقِيمُوا الدّين أَي: اسْتَقِيمُوا على الدّين.
وَيُقَال: أقِيمُوا الدّين هُوَ فعل الطَّاعَات وامتثال
الْأَوَامِر.
(5/67)
{أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ
كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ الله يجتبي إِلَيْهِ
من يَشَاء وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب (13) وَمَا تفَرقُوا
إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم وَلَوْلَا كلمة
سبقت من رَبك إِلَى أجل مُسَمّى لقضي بَينهم وَإِن الَّذين
أورثوا الْكتاب من بعدهمْ لفي شكّ مِنْهُ مريب (14) فَلذَلِك
فَادع}
وَقَوله: {وَلَا تتفرقوا فِيهِ} أَي: كَمَا تَفَرَّقت
الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَي: آمنُوا بِالْبَعْضِ وَكَفرُوا
بِالْبَعْضِ.
وَقَوله: {كبر على الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ} أَي: عظم
عِنْد الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ من التَّوْحِيد، وَهُوَ
معنى قَوْله تَعَالَى: {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن
هَذَا لشَيْء عُجاب} .
وَقَوله: {الله يجتبي إِلَيْهِ من يَشَاء} أَي: يستخلص لدينِهِ
من يَشَاء.
وَقَوله: {وَيهْدِي إِلَيْهِ من ينيب} أَي: يرشد إِلَى
الرُّجُوع إِلَيْهِ من اخْتَار الرشد والإنابة.
(5/68)
وَمَا تَفَرَّقُوا
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ
مُرِيبٍ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تفَرقُوا إِلَّا
من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم} يَعْنِي: الْيَهُود
وَالنَّصَارَى، وَقَوله: {بغيا بَينهم} أَي: حسدا بَينهم.
وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} قَالَ أهل
التَّفْسِير: الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من الله قَوْله
تَعَالَى: {بل السَّاعَة موعدهم} .
وَقَوله: {إِلَى أجل مُسَمّى لقضى بَينهم} أَي: لفصل بَينهم
الْأَمر فِي الْحَال {وَإِن الَّذين أورثوا الْكتاب من بعدهمْ}
أَي: من الَّذين تقدمُوا، وَقَوله: {أورثوا} أَي: أعْطوا.
وَقَوله: {لفي شكّ مِنْهُ مريب} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/68)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ
وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا
حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
قَوْله تَعَالَى: {فَلذَلِك فَادع} أَي:
فَإلَى هَذَا فَادع، وَهُوَ التَّوْحِيد، وَذكر النّحاس: أَن
فِي الْآيَة تَقْدِيمًا وتأخيرا، وَمَعْنَاهُ: كبر على
الْمُشْركين مَا تدعوهم إِلَيْهِ فَلذَلِك فَادع [أَي] : إِلَى
ذَلِك فَادع، وَقد تذكر اللَّام بِمَعْنى إِلَى، قَالَ
الشَّاعِر:
(5/68)
{واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم
وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم
الله رَبنَا وربكم لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم لَا حجَّة
بَيْننَا وَبَيْنكُم الله يجمع بَيْننَا وَإِلَيْهِ الْمصير
(15) وَالَّذين يحاجون فِي الله}
أوحى لَهَا الْقَرار فاستقرت
أَي أوحى إِلَيْهَا.
وَقَوله: {واستقم كَمَا أمرت} قد بَينا.
وَقَوله: {وَلَا تتبع أهواءهم} أَي: أهواء الْكفَّار.
وَقَوله: {وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب} أَي:
التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَسَائِر الْكتب.
وَقَوله: {وَأمرت لأعدل بَيْنكُم} أَي: لأقضي بَيْنكُم
بِالْعَدْلِ.
وَقَوله: {الله رَبنَا وربكم} أَي: خالقنا وخالقكم.
وَقَوله: {لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم} أَي: لنا جَزَاء
أَعمالنَا، وَلكم جَزَاء أَعمالكُم.
وَقَوله: {لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم} أَي: لَا مُحَاجَّة
بَيْننَا وَبَيْنكُم، وَقد كَانَ من حجتهم أَنهم قَالُوا:
نَبينَا قبل نَبِيكُم، وَكِتَابنَا قبل كتابكُمْ، وَمعنى
قَوْله: {لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم} أَي: لَا (حجَّة)
لكم؛ لِأَن الله تَعَالَى قد أدحض حجتكم، وَإِذا أدحض حجتهم
لَا تبقى بَينهم وَبَين الْمُؤمنِينَ مُحَاجَّة.
وَقَوله: {الله يجمع بَيْننَا} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ الْمصير} أَي: وَإِلَيْهِ الْمرجع.
(5/69)
وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ
حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يحاجون فِي
الله} أَي: يُخَاصِمُونَ فِي الله، وَقد بَيْننَا حجتهم
الَّتِي تعلقوا بهَا، والمخاصمة فِي الله أَنهم كَانُوا
يَقُولُونَ: نَحن أولى بِاللَّه مِنْكُم، وَهُوَ معنى قَوْله
تَعَالَى: {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم} .
(5/69)
{من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حجتهم داحضة
عِنْد رَبهم وَعَلَيْهِم غضب وَلَهُم عَذَاب شَدِيد (16) الله
الَّذِي أنزل الْكتاب بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان وَمَا يدْريك
لَعَلَّ السَّاعَة قريب (17)
وَقَوله: {من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أَي: من بعد مَا
اسْتَجَابَ الْمُؤْمِنُونَ للرسول.
وَقَوله: {حجتهم داحضة} أَي: بَاطِلَة.
وَقَوله: {عِنْد رَبهم وَعَلَيْهِم غضب وَلَهُم عَذَاب شَدِيد}
قد بَينا من قبل. فَإِن قيل: قد قَالَ: من بعد مَا اسْتُجِيبَ
لَهُ، فَأَي معنى لاستجابة النَّاس لَهُ فِي هَذَا الْمحل،
وحجتهم داحضة سَوَاء اسْتَجَابَ لَهُ النَّاس أَو لم
يَسْتَجِيبُوا لَهُ؟ وَالْجَوَاب: أَن الْكفَّار ظنُّوا أَن
أَمر مُحَمَّد سيزول عَن قريب، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا هم
عَلَيْهِ، وَأَن النَّاس لَا يستجيبون لَهُ وَلَا يدْخلُونَ
فِي دينه، فَذكر من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ أَي: قد استجابه
النَّاس، وَبَطل ظنكم أَن أمره يَزُول عَن قريب، وَهَذَا أحسن
فَائِدَة. وَفِيه قَول آخر: أَن قَوْله: {من بعد مَا
اسْتُجِيبَ لَهُ} أَي: من بعد مَا اسْتَجَابَ الله بِمَا طلب
من إِظْهَار المعجزات علبه. وَعَن بَعضهم: أَن المحاجة
بِالْبَاطِلِ هِيَ نصْرَة الِاعْتِقَاد الْفَاسِد، ثمَّ نصْرَة
الِاعْتِقَاد الْفَاسِد تكون على وَجْهَيْن: بإيراد شُبْهَة،
وبمدافعة حجَّة من غير حجَّة.
(5/70)
اللَّهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي أنزل
الْكتاب بِالْحَقِّ} أَي: أنزل الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي
وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب.
وَقَوله: {وَالْمِيزَان} أَي: الْعدْل، وَسمي الْعدْل ميزانا؛
لِأَن الْمِيزَان يكون (مناصف) النَّاس فِيمَا بَينهم، وَقيل:
هُوَ الْمِيزَان نَفسه، وَمعنى الْإِنْزَال: أَن الله تَعَالَى
أنزل الْحَدِيد من السَّمَاء، وَمن الْحَدِيد لِسَان
الْمِيزَان وصنجاته.
وَقَوله: {وَمَا يدْريك لَعَلَّ السَّاعَة قريب} فَإِن قيل:
يتم لم يقل قريبَة، والساعة مُؤَنّثَة؟ وَالْجَوَاب: أَن
تَأْنِيث السَّاعَة لَيْسَ بحقيقي؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنى
الزَّمَان وَالْوَقْت، وَيجوز أَن تكون السَّاعَة بِمَعْنى
الْبَعْث والنشور، فَتكون الْكِتَابَة رَاجِعَة إِلَى
الْمَعْنى.
(5/70)
{يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا
وَالَّذين آمنُوا مشفقين مِنْهَا ويعلمون أَنَّهَا الْحق أَلا
إِن الَّذين يمارون فِي السَّاعَة لفي ضلال بعيد (18) الله
لطيف بعباده يرْزق من يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز (19) من
كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة}
(5/71)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا
إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ
بَعِيدٍ (18)
وَقَوله: {يستعجل بهَا الَّذين لَا
يُؤمنُونَ بهَا} فِي التَّفْسِير: أَن الْكفَّار كَانُوا
يأْتونَ النَّبِي ويسألونه عَن السَّاعَة مَتى تكون؟
وَيَقُولُونَ: هلا سَأَلت رَبك أَن يقيمها الْآن؟ وَكَانَ
بَعضهم يَقُول: اللَّهُمَّ من كَانَ منا على الْبَاطِل فأقم
عَلَيْهِ الْقِيَامَة السَّاعَة؛ فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة.
وَقَوله: {يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا} وَكَانَ
استعجالهم بهَا على طَرِيق الاستبعاد لقيامها تَكْذِيبًا بهَا.
قَوْله: {وَالَّذين آمنُوا مشفقون مِنْهَا} أَي: خائفون وجلون
مِنْهَا، وخوفهم من المحاسبة الموعودة وَالْجَزَاء الْوَاقِع
على الْأَعْمَال.
وَقَوله: {ويعلمون أَنَّهَا الْحق} أَي: أَنَّهَا قَائِمَة لَا
محَالة.
وَقَوله: {أَلا إِن الَّذين يمارون فِي السَّاعَة} أَي:
يَشكونَ فِيهَا، وَقيل: يَخْتَلِفُونَ فِيهَا اخْتِلَاف
الشاكين.
وَقَوله: {لفي ضلال بعيد} أَي: فِي خطأ طَوِيل.
(5/71)
اللَّهُ لَطِيفٌ
بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ (19)
قَوْله تَعَالَى: {الله لطيف بعباده} أَي:
بار حفي رَحِيم بهم، وَيُقَال: معنى اللَّطِيف هَاهُنَا
الرَّزَّاق أَي: لَا يُهْلِكهُمْ جوعا بل يرزقهم. وَقد قَالَ
بعض أهل الْعلم: إِن المعني بعباده فِي كل مَوضِع ذكره هُوَ
الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّة، وَالْهَاء للإضافة، وباء التَّخْصِيص
توجب هَذَا وتقتضيه.
وَقَوله: {ويرزق من يَشَاء وَهُوَ الْقوي الْعَزِيز} أَي:
الْقوي فِي نصْرَة الْمُؤمنِينَ، وَقيل: فِي الْقُدْرَة على
إِيصَال الرزق إِلَيْهِم، وَقَوله: {الْعَزِيز} أَي: الْغَالِب
الَّذِي لَا يغالب.
(5/71)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
قَوْله تَعَالَى: {من كَانَ يُرِيد حرث
الْآخِرَة} أَي: الْعَمَل للآخرة، وَمِنْه قَول
(5/71)
{نزد لَهُ فِي حرثه وَمن كَانَ يُرِيد حرث
الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب
(20) أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن
بِهِ الله وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل لقضي بَينهم وَإِن
الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم (21) ترى الظَّالِمين مشفقين
مِمَّا كسبوا وَهُوَ وَاقع} عبد الله بن عَمْرو وَقيل: ابْن
مَسْعُود: احرث لدنياك كَأَنَّك تعيش [أبدا] ، واحرث لآخرتك
كَأَنَّك تَمُوت غَدا.
وَقَوله: {نزد لَهُ فِي حرثه} أَي: نضاعف لَهُ فِي
الْحَسَنَات، وَعَن قَتَادَة قَالَ: إِن الله تَعَالَى يُعْطي
الدُّنْيَا بِعَمَل الْآخِرَة، وَلَا يُعْطي الْآخِرَة بِعَمَل
الدُّنْيَا. فَهَذَا قَول ثَان فِي معنى الْآيَة، وَالْقَوْل
الثَّالِث: أَن معنى الْآيَة: {نزد لَهُ فِي حرثه} أَي: نعنه
[ونوفقه] على زِيَادَة الطَّاعَات والاستكثار مِنْهَا.
وَقَوله: {وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا} أَي: عمل
الدُّنْيَا {نؤته مِنْهَا} أَي: على مَا نشَاء ونريد، على مَا
قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: {من كَانَ يُرِيد العاجلة عجلنا لَهُ
فِيهَا مَا نشَاء لمن نُرِيد} وَقيل: نؤته مِنْهَا بِقدر مَا
قسم لَهُ.
وَقَوله: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب} هَذَا فِيمَن لم
يعْمل إِلَّا للدنيا، فَأَما من عمل للدنيا وَالْآخِرَة فَيجوز
أَن يؤتيه الله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
(5/72)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ
وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم شُرَكَاء} أَي:
بل لَهُم شُرَكَاء.
وَقَوله: {شرعوا لَهُم من الدّين} أَي: وضعُوا.
وَقَوله: {مَا لم يَأْذَن بِهِ الله} أَي: لم يَأْمر بِهِ
الله.
وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة الْفَصْل} أَي: مَا أخر لَهُم من
الْعَذَاب (لقضي بَينهم) أَي: لفصل الْأَمر بَينهم فِي
الْحَال.
وَقَوله: {وَإِن الظَّالِمين لَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي:
شَدِيد.
(5/72)
تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ
الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
قَوْله تَعَالَى: {ترى الظَّالِمين مشفقين
مِمَّا كسبوا} أَي: خَائِفين وجلين.
(5/72)
{بهم وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا
الصَّالِحَات فِي روضات الجنات لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم
ذَلِك هُوَ الْفضل الْكَبِير (22) ذَلِك الَّذِي يبشر الله
عباده الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات قل لَا أَسأَلكُم
عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى}
وَقَوله: {وَهُوَ وَاقع بهم} وَمَعْنَاهُ: أَن الْعَذَاب
الَّذِي يخافونه نَازل بهم، وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي روضات
الجنات} أَي: الْبَسَاتِين.
وَقَوله: {لَهُم مَا يشاءون عِنْد رَبهم ذَلِك هُوَ الْفضل
الْكَبِير} أَي: الْعَظِيم.
(5/73)
ذَلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
(23)
قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك الَّذِي يبشر الله
عباده الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: هَذَا
الَّذِي يبشر الله عباده.
وَقَوله: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة
فِي الْقُرْبَى} فِيهِ أَرْبَعَة أقاويل: أظهرها وأشهرها أَن
مَعْنَاهُ: لَا أَسأَلكُم إِلَّا أَن تودوني لقرابتي مِنْكُم.
وَقيل: تصلوا الْقَرَابَة الَّتِي بيني وَبَيْنكُم بالاستجابة
لي إِلَى مَا أَدْعُو إِلَيْهِ، وتكفوا عني أذاكم، وَهَذَا
قَول ابْن عَبَّاس أوردهُ البُخَارِيّ عَنهُ فِي الصَّحِيح على
لفظ مَعْلُوم مَقْبُول، وَهُوَ قَول طَاوس وَمُجاهد
وَقَتَادَة، وَعَامة الْمُفَسّرين. قَالَ قَتَادَة: كَانَت
قُرَيْش تصل الْأَرْحَام، فَطلب مِنْهُم النَّبِي أَن يصلوا
الْقَرَابَة الَّتِي بَينه وَبينهمْ، وَألا يقطعوها.
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا من بطن من بطُون قُرَيْش إِلَّا
ولرسول الله فيهم قرَابَة، فَسَأَلَهُمْ أَن يصلوها.
وَالْقَوْل الثَّانِي: مَا حكى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه
قَالَ: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة
فِي الْقُرْبَى} مَعْنَاهُ: أَن يتوددوا إِلَى الله بِمَا
يقربكم إِلَيْهِ من الْعَمَل الصَّالح.
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن الضَّحَّاك أَن الْآيَة
مَنْسُوخَة بقوله: {قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري
إِلَّا على الله} وَهَذَا القَوْل غير مرضِي عِنْد أهل
(5/73)
{وَمن يقترف حَسَنَة نزد لَهُ فِيهَا حسنا
إِن الله غَفُور شكور (23) } الْمعَانِي؛ لِأَن قَوْله:
{إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} لَيْسَ باستثناء صَحِيح
حَتَّى يكون مُخَالفا لقَوْله: {إِن أجري إِلَّا على الله} بل
هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: قل لَا أسالكم
عَلَيْهِ أجرا أَي: مَالا، وَتمّ الْكَلَام. وَمعنى قَوْله:
{إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} لَكِن صلوا قَرَابَتي
بالاستجابة لي أَو تكفوا أذاكم عني.
وَفِي بعض التفاسير: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة لما علمُوا جد
النَّبِي ظنُّوا انه يطْلب مَالا، فَجمعُوا لَهُ شَيْئا حسنا
من أَمْوَالهم، وَقَالُوا: نعطيك هَذَا المَال، وكف عَمَّا
أَنْت عَلَيْهِ، فَأنْزل الله الْآيَة على الْمَعْنى الَّذِي
قدمنَا.
وَالْقَوْل الرَّابِع: مَا روى فِي بعض الغرائب من
الرِّوَايَات بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن
معنى قَوْله: {إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} أَن تودوا
أقربائي وتحبوهم.
وَحكى بَعضهم: أَن النَّبِي سُئِلَ عَن هَذِه، وَعَن معنى
الْقُرْبَى فَقَالَ: " عَليّ وَفَاطِمَة وولدهما "، وَهَذَا
أغرب الْأَقَاوِيل وأضعفها.
وَقَوله: {وَمن يقترف حَسَنَة} أَي: يكْتَسب حَسَنَة أَي:
طَاعَة {نزد لَهُ فِيهَا حسنا} أَي: نضاعف لَهُ الْحَسَنَة.
وَقَوله: {إِن الله غَفُور شكور} أَي: غَفُور للكثير من
الذُّنُوب، شكور لليسير فِي الطَّاعَات.
(5/74)
{أم يَقُولُونَ افترى على الله كذبا فَإِن
يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك ويمح الله الْبَاطِل ويحق الْحق
بكلماته إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور (24) وَهُوَ الَّذِي
يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو}
(5/75)
أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ
يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ (24)
قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ افترى على
الله كذبا} أَي: يَقُول على الله مَا لم يقلهُ وَلم ينزله.
وَقَوله: {فَإِن يَشَأْ الله يخْتم على قَلْبك} أَي: ينْسك
الْقُرْآن حَتَّى لَا تذكر مِنْهُ حرفا، قَالَه قَتَادَة،
وَالْقَوْل الثَّانِي: يخْتم على قَلْبك أَي: يرْبط بِالصبرِ
على أذاهم، وَهَذَا قَول مَعْرُوف أوردهُ الْفراء والزجاج
وَغَيرهمَا.
وَقَول: {ويمح الله الْبَاطِل} قيل: هَذَا ابْتِدَاء كَلَام،
وَمَعْنَاهُ: ويمحو الله الْكفْر ويزيله.
وَقَوله: {ويحق الْحق بكلماته} أَي: ينصر دينه بالمعجزات
الَّتِي يظهرها، وَقيل: بتحقيق وعده، وَقيل: بنصرة رَسُوله
بِإِظْهَار دينه على الدّين كُله.
وَقَوله: {إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور} أَي: بِمَا فِي
الصُّدُور.
(5/75)
وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ
السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يقبل
التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} أَي:
الذُّنُوب {وَيعلم مَا تَفْعَلُونَ} أَي: تَعْمَلُونَ، وَقد
ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَن [أبي] سَلمَة،
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: قَالَ: " لله
أفرح بتوبة عَبده من أحدكُم يضل بعيره بفلاة وَعَلِيهِ مَتَاعه
وَطَعَامه فيطلبه وَلَا يجده، ثمَّ ينَام نومَة فينتبه فَإِذا
هُوَ عِنْد رَأسه ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أخبرنَا أَبُو
مُحَمَّد عبد الله ابْن أَحْمد أخبرنَا أَبُو سهل عبد الصَّمد
بن عبد الرَّحْمَن الرَّازِيّ، أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد
ابْن زَكَرِيَّا العذافري، أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
الدبرِي، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ
الْخَبَر.
(5/75)
{عَن السَّيِّئَات وَيعلم مَا تَفْعَلُونَ
(25) ويستجيب الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات ويزيدهم
من فَضله والكافرون لَهُم عَذَاب شَدِيد (26) وَلَو بسط الله
الرزق لِعِبَادِهِ لبغوا فِي الأَرْض وَلَكِن ينزل بِقدر مَا
يَشَاء إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير (27) وَهُوَ الَّذِي ينزل}
وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن رجل زنى
بِامْرَأَة ثمَّ تزَوجهَا، هَل يجوز؟ قَالَ: نعم، وَقَرَأَ
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده}
إِلَى آخر الْآيَة.
(5/76)
وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
قَوْله تَعَالَى: {ويستجيب الَّذين آمنُوا
وَعمِلُوا الصَّالِحَات} أَي: يُجيب دعاءهم.
وَقَوله: {ويزيدهم من فَضله} أَي: الثَّنَاء الْحسن فِي
الدُّنْيَا، وَقيل: الشَّفَاعَة فِي الْآخِرَة، وَالْمَعْرُوف
مضاعفة الْحَسَنَات.
وَقَوله: {والكافرون لَهُم عَذَاب شَدِيد} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/76)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ
الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ
يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ
بَصِيرٌ (27)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو بسط الله الرزق
لِعِبَادِهِ} أَي: وسع عَلَيْهِم الرزق، وَقيل: أَعْطَاهُم كل
مَا يتمنونه.
وَقَوله: {لبغوا فِي الأَرْض} أَي: عصوا وطغوا فِي الأَرْض،
وَالْبَغي فِي الأَرْض هُوَ الْعَمَل فِيهَا بِغَيْر حق
(وَقيل: هُوَ) البطر والأشر.
وَقَوله: {وَلَكِن ينزل بِقدر مَا يَشَاء أى بِقدر كَمَا
تشَاء.
وَقَوله: {إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير} أَي: خَبِير بِمَا
يصلحهم، بَصِير بِمَا يَفْعَلُونَهُ ويطلبونه.
(5/76)
وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ينزل
الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا} أَي: أيسوا، وَفِي بعض
الْأَخْبَار، أَن رجلا اتى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله،
قد اجدبت الأَرْض، وَقَنطَ النَّاس، فَادع الله ينزل الْغَيْث
لنا فَقَالَ [لَهُ] : " ارْجع إِلَى قَوْمك فقد مطرتم ".
فَكَانَ
(5/76)
{الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا وينشر رَحمته
وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد (28) وَمن آيَاته خلق السَّمَوَات
وَالْأَرْض وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة وَهُوَ على جمعهم إِذا
يَشَاء قدير (29) وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت
أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير (30) } كَمَا قَالَ.
{وينشر رَحمته} أَي: بإنزال الْغَيْث.
وَقَوله: {وَهُوَ الْوَلِيّ الحميد} أَي: الْمَالِك لما
يَفْعَله، الْمُسْتَحق للحمد فِيمَا ينزله من الْغَيْث.
(5/77)
وَمِنْ آيَاتِهِ
خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ
دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته خلق
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَث فيهمَا من دَابَّة} فِيهِ
قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِهِ وَمَا بَث فِي الأَرْض
من دَابَّة، فَذكر السَّمَاء وَالْأَرْض، وَالْمرَاد أَحدهمَا،
وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ
والمرجان} وَإِنَّمَا يسْتَخْرج من أَحدهمَا، وَهُوَ المالح
دون العذب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وَمَا بَث فيهمَا من
دَابَّة} وَهُوَ على حَقِيقَته، وَالدَّابَّة كل مَا يدب،
وَالْمَلَائِكَة مِمَّا يدب، قَالَه مُجَاهِد وَغَيره.
{وَهُوَ على جمعهم إِذا يَشَاء قدير} أَي: قَادر.
(5/77)
وَمَا أَصَابَكُمْ
مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ
كَثِيرٍ (30)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم من
مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} فَإِن
قَالَ قَائِل: قد نرى من تصيبه الْمُصِيبَة بِغَيْر ذَنْب سبق
مِنْهُ، فَكيف وَجه الْآيَة؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا:
أَن قَوْله: {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة} هِيَ الْحُدُود
تُقَام إِلَّا على العَاصِي وَلَا تُقَام على العاصين، وَهَذَا
قَول حسن.
(5/77)
{وَمَا انتم بمعجزين فِي الأَرْض وَمَا لكم
من دون الله من ولي وَلَا نصير (31) وَمن آيَاته}
وَالثَّانِي: أَن قَوْله: {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة}
يُرَاد بهَا المعاقبة فِيمَا كسبت أَيْدِيكُم، فعلى هَذَا يجوز
أَن يُصِيب الْإِنْسَان مُصِيبَة من غير ذَنْب وَلَا كسب إِذا
لم يرد بهَا المعاقبة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة على الْعُمُوم، وَلَا
يُصِيب أحدا بلَاء وَشدَّة إِلَّا بذنب سبق مِنْهُ، أَو
تَنْبِيه لِئَلَّا يعْمل ذَنبا، أَو ليعتبر بِهِ ذُو ذَنْب.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي [أَنه] أَنه قَالَ: " مَا من خدش أَو
عَثْرَة قدم أَو اخْتِلَاج عرق إِلَّا بذنب، وَمَا يغْفر الله
أَكثر ". وَعَن الْعَلَاء بن بدر: مَا يُصِيب أحدا مُصِيبَة
إِلَّا بذنب مِنْهُ، فَقيل لَهُ: كَيفَ هَذَا، وَقد عميت
صَغِيرا، وَمَا كنت أعمى؟ فَقَالَ: بذنب وَالِدي.
تعلق بِهَذِهِ الْآيَة بعض من يَقُول بالتناسخ، وَقَالَ:
إِنَّا نرى الْبلَاء يُصِيب الْأَطْفَال وَلم يكن مِنْهُم
ذَنْب، فَدلَّ انه سبق مِنْهُم ذنُوب من قبل وعوقبوا بهَا.
وَتعلق بِهَذِهِ الْآيَة أَيْضا من يَقُول إِن الْأَطْفَال لَا
يألمون أصلا فَكَذَلِك الْبَهَائِم، وَإِنَّمَا صِيَاحهمْ
لأَذى قُلُوب الْوَالِدين.
وكلا الْقَوْلَيْنِ بَاطِل، وَيجوز عِنْد أهل السّنة أَن يُوجد
الله الْأَلَم إِلَى مَا يَشَاء من عباده بِغَيْر ذَنْب سبق
مِنْهُ، وَكَذَلِكَ على جَمِيع الْحَيَوَانَات، وَأما وَجه
الْآيَة قد بَينا، وَكَذَلِكَ قَول من يَقُول: إِن الْأَطْفَال
لَا يألمون بَاطِل؛ لِأَنَّهُ دفع الْحس والعيان.
(5/78)
وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
وَقَوله: {وَمَا انتم بمعجزين فِي الأَرْض}
أَي: بمعجزين الله فِي الأَرْض، وَقد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا
سبق.
(5/78)
{الْجوَار فِي الْبَحْر كالأعلام (32) إِن
يَشَأْ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظَهره إِن فِي ذَلِك
لآيَات لكل صبار شكور (33) أَو يوبقهن بِمَا كسبوا ويعف عَن
كثير (34) }
وَقَوله: {وَمَا لكم من دون الله من ولي وَلَا نصير} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/79)
وَمِنْ آيَاتِهِ
الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته الْجوَار
فِي الْبَحْر كالأعلام} أَي: السفن، وَقَوله: {كالأعلام} أَي:
كالجبال، قَالَت الخنساء تمدح أخاها صخرا:
(وَإِن صخرا لتأتم الهداة ... بِهِ كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه
نَار)
أَي: جبل.
(5/79)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
وَقَوله: {إِن يَشَأْ يسكن الرّيح}
مَعْنَاهُ: إِن يَشَأْ تسكين الرّيح يسكن الرّيح، قَالَ
قَتَادَة: إِن السفن تجْرِي بالرياح؛ فَإِذا هبت سَارَتْ،
وَإِذا سكنت وقفت.
وَقَوله: {فيظللن رواكد على ظَهره} أَي: ثوابت على ظهر
الْبَحْر، وَمَعْنَاهُ: الرّيح إِذا سكنت بقيت السفن ثوابت على
ظهر الْبَحْر، لَا تجرى.
قَوْله: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور} أَي: صبار على
البلايا، شكور للنعم، وَعَن بَعضهم: إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل
صبار شكور أَي: الْمُؤمن؛ لِأَن الْمُؤمن هُوَ الصبار الشكُور،
قَالَ مطرف: نعم العَبْد الْمُؤمن إِذا ابْتُلِيَ صَبر، وَإِذا
أعطي شكر. وَعَن عون بن عبد الله قَالَ: رب منعم عَلَيْهِ غير
شكور، ومبتلى غير صبور.
(5/79)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
قَوْله تَعَالَى: {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا}
أَي: يهْلك السفن بِمن فِيهَا، وَقيل: أهل السفن. وَقَوله:
{بِمَا كسبوا} أَي: بِمَا كسبوا من الذُّنُوب، وَقَوله: {أَو}
مَعْنَاهُ: أَو إِن يَشَأْ يوبقهن.
وَقَوله: {ويعف عَن كثير} أَي: يتَجَاوَز عَن كثير من
الذُّنُوب، وَحكى أَن شريحا رُؤِيَ وَفِي يَده (قرحَة) فَقيل
لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا أُميَّة؟ فَقَالَ: وَمَا أَصَابَكُم
من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير.
(5/79)
{وَيعلم الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا مَا
لَهُم من محيص (35) فَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع الْحَيَاة
الدُّنْيَا وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى للَّذين آمنُوا وعَلى
رَبهم يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر
الْإِثْم وَالْفَوَاحِش وَإِذا مَا غضبوا وهم يغفرون (37)
وَالَّذين اسْتَجَابُوا}
(5/80)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
وَقَوله: {وَيعلم الَّذين يجادلون فِي
آيَاتنَا} وَقُرِئَ: " وَيعلم " بِضَم الْمِيم، فَأَما
الْقِرَاءَة بِنصب الْمِيم فبتقدير أَن، وَأما بِالرَّفْع
فَمَعْنَاه وَسَيعْلَمُ الَّذين يجادلون فِي آيَاتنَا.
{مَا لَهُم من محيص} أَي: ملْجأ ومهرب، قَالَه السدى وَغَيره.
(5/80)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (36)
وَقَوله: {فَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْء فمتاع
الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: مَنْفَعَة الْحَيَاة الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَمَا عِنْد الله خير وَأبقى} أَي: الْجنَّة خير
وأدوم.
وَقَوله: {للَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/80)
وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا
غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يجتنبون
كَبَائِر الْإِثْم} وَقُرِئَ: " كَبِير الْإِثْم "، وَقد بَينا
تَفْسِير الْكَبَائِر من قبل.
وَفِي التَّفْسِير: أَن قتل النَّفس، وَقذف الْمُحْصنَات،
والإشراك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين والفرار من الزَّحْف،
وَأكل مَال الْيَتِيم، والتأفيف، وَالسحر، وَشرب الْخمر؛ من
الْكَبَائِر، وَيُقَال: كل مَا أوعد الله عَلَيْهِ فِي النَّار
فَهُوَ من الْكَبَائِر. وَأما إِضَافَة الْكَبَائِر إِلَى
الْإِثْم فَيُقَال: إِنَّمَا أضافها إِلَيْهِ؛ لِأَن فِي
الْإِثْم كَبِيرا وصغيرا. وَيُقَال: إِضَافَة الْكَبَائِر
إِلَى الْإِثْم كإضافة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف.
وَقَوله: {وَالْفَوَاحِش} الْفَوَاحِش: هِيَ القبائح من
الزِّنَا وَغَيره.
وَقَوله: {وَإِذا مَا غضبوا هم يغفرون} أَي: يتجاوزون، وَفِي
الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " أَلا أنبئكم
بالشديد؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: من ملك نَفسه عِنْد الْغَضَب ".
(5/80)
{لرَبهم وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَأمرهمْ
شُورَى بَينهم وَمِمَّا رزقتاهم يُنْفقُونَ (38) وَالَّذين
إِذا}
(5/81)
وَالَّذِينَ
اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ
شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين اسْتَجَابُوا
لرَبهم} يُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي الْأَنْصَار، وَيُقَال:
إِنَّهَا عَامَّة.
وَقَوله: {وَأَقَامُوا الصَّلَاة} إِقَامَة الصَّلَاة إتيانها
بشرائطها وحفظها بحدودها.
وَقَوله: {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} ذكر النقاش: أَن هَذَا فِي
الْأَنْصَار وَكَانُوا يتشاورون فِي الْأَمر بَينهم؛ فمدحهم
الله على ذَلِك، وَذَلِكَ دَلِيل على اتِّفَاق الْكَلِمَة،
وَترك الاستبداد بِالرَّأْيِ، وَالرُّجُوع إِلَى الرَّأْي
عِنْد نزُول الْحَادِثَة. وَقيل: إِن الْأَنْصَار تشاوروا
فِيمَا بَينهم حِين دعاهم النَّبِي إِلَى الْإِيمَان، ثمَّ
أجابوا إِلَى الْإِيمَان.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: مَا تشَاور قوم إِلَّا هُدُوا
إِلَى ارشد أُمُورهم. والشورى مَأْخُوذَة من قَوْلهم: شرت
الدَّابَّة أشورها إِذا سيرتها مقبلة، ومدبرة لاستخراج السّير
مِنْهَا. وَيُقَال: لذَلِك الْموضع المشوار. وَالْعرب تَقول:
إياك والخطب فَإِنَّهَا مشوار كثير العناد. وَفِي الْخَبَر
بِرِوَايَة [أبي] عُثْمَان النَّهْدِيّ عَن أبي هُرَيْرَة
رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي قَالَ: " إِذا كَانَت أمراؤكم
خياركم، وأغنياؤكم أسخياؤكم وأمركم شُورَى بَيْنكُم، فَظهر
الأَرْض خير لكم، من بَطنهَا، وَإِذا كَانَت أمراؤكم
شِرَاركُمْ، وأغنياؤكم (بخلاؤكم) ، وأمركم إِلَى نِسَائِكُم؛
فبطن الأَرْض خير لكم من ظهرهَا ".
وَاعْلَم أَن هَذِه السُّورَة تسمى سُورَة الشورى.
وَقَوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ} أَي: يتصدقون.
(5/81)
وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين إِذا
أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} أَي: الظُّلم، وَقَوله:
(5/81)
{أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون (39)
وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره
على} {ينتصرون} أَي: يتناصرون، فينتصر بَعضهم بَعْضًا لرفع
الْبَغي، وَهُوَ من بَاب الْحِسْبَة، ينتصرون بِالْأَمر
بِالْمَعْرُوفِ. وَقيل: ينتصرون أَي: ينتصرون من الظَّالِم،
والانتصار من الظَّالِم هُوَ أَخذ الْحق مِنْهُ. وَفِي
التَّفْسِير عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَغَيره قَالَ: كَانُوا
يكْرهُونَ أَن يذلوا أنفسهم حَتَّى لَا يجترئ عَلَيْهِم
الْفُسَّاق.
وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن الْآيَة نزلت فِي شَأْن ابي بكر
الصّديق، فروى أَن رجلا من الْأَنْصَار سبّ أَبَا بكر عِنْد
النَّبِي، فَسكت أَبُو بكر وَسكت التبي، ثمَّ إِن أَبَا بكر
أَجَابَهُ، فَقَامَ النَّبِي مغضبا، وَذهب فَتَبِعَهُ أَبُو
بكر، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن الَّذِي فعلت بِي أَشد
مِمَّا فعله الْأنْصَارِيّ، سبني فَسكت، وَلم تنكر عَلَيْهِ،
ثمَّ لما أجبْت قُمْت مغضبا، فَقَالَ: كَانَ الْملك يرد
عَلَيْهِ حِين سكت؛ فَلَمَّا أجبْت ذهب الْملك؛ فَذَهَبت،
وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة: {وَالَّذين إِذا
أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} فَيجوز للمظلوم الِانْتِصَار
من ظالمه.
(5/82)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة
سَيِّئَة مثلهَا} سمى الثَّانِي [سَيِّئَة] على ازدواج
الْكَلَام، وَعند الْفُقَهَاء أَن الْآيَة فِي الْقَتْل
والجراحات؛ فَإِذا قَتله يقْتله وليه، وَإِذا حرجه. يجرحه،
وَذهب جمَاعَة من السّلف إِلَى أَن هَذَا فِي غير الْقَتْل
والجراحات أَيْضا فَإِذا قَالَ: أخزاك الله، يَقُول: أخزاك
الله، وَإِذا قَالَ: لعنك الله، يَقُول: لعنك الله، وَلَا
يزِيد عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِذا سبّ سبه، وَهَذَا
فِيمَا لَا يدْخلهُ الْكَذِب، فَأَما مَا يدْخلهُ الْكَذِب
فَلَا يَنْبَغِي أَن يكذب عَلَيْهِ، وَمَا ذكرنَا مَرْوِيّ عَن
مُجَاهِد وَغَيره.
(5/82)
{الله إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين (40)
وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل (41)
إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي
الأَرْض بِغَيْر الْحق أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم (42)
وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن عزم الْأُمُور (43) وَمن يضلل
الله}
قَوْله: {فَمن عَفا وَأصْلح فَأَجره على الله} يَعْنِي: عَفا
عَن الظَّالِم وَأصْلح الْأَمر بَينه وَبَينه {فَأَجره على
الله} أَي: ثَوَابه على الله، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن
الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة:: أَلا ليقمْ من أجره
على الله فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا ".
وَقَوله: {إِنَّه لَا يحب الظَّالِمين} أَي: من يتَجَاوَز عَن
الْحق إِلَى غير الْحق.
(5/83)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
قَوْله تَعَالَى: {وَلمن انتصر بعد ظلمه
فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} أَي: من سَبِيل فِي
الْقِيَامَة.
(5/83)
إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(42)
وَقَوله: {إِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين
يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} أَي:
يطْلبُونَ زِيَادَة لَيست لَهُم، وَقيل: يسعون فِي الأَرْض
بِالْمَعَاصِي.
وَقَوله: {أولائك لَهُم عَذَاب أَلِيم} أَي: مؤلم موجع.
(5/83)
وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
قَوْله تَعَالَى: {وَلمن صَبر وَغفر} أَي:
صَبر على الْأَذَى، وَغفر للمؤذي، وَيُقَال: صَبر عَن
الْمعاصِي وَغفر لمن يَظْلمه. وَيُقَال: صَبر عَن ظلم النَّاس،
وَمن ظلمه عَفا عَنهُ.
وَقَوله: {إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} أَي: من حق (الْأُمُور)
، وَقيل: من عزائم الله الَّتِي ندب إِلَيْهَا عباده.
وَيُقَال: من ثَابت الْأُمُور الَّتِي لَا تنسخ. قَالَ
الزّجاج: ندب الله تَعَالَى الْمَظْلُوم أَن (يعْفُو) عَن
الظَّالِم، ويصبر عَن الظُّلم؛ لينال الثَّوَاب فِي
(5/83)
{فَمَا لَهُ من ولي من بعده وَترى
الظَّالِمين لما رَأَوْا الْعَذَاب يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد
من سَبِيل (44) وتراهم يعرضون عَلَيْهَا خاشعين من الذل
ينظرُونَ من طرف خَفِي وَقَالَ الَّذين آمنُوا إِن الخاسرين
الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة أَلا إِن
الظَّالِمين فِي} الْآخِرَة، فَمن كَانَ أَرغب فِي ثَوَاب
الْآخِرَة فَهُوَ أتم عزما على الصَّبْر.
(5/84)
وَمَنْ يُضْلِلِ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ
إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
وَقَوله تَعَالَى: {وَمن يضلل الله فَمَا
لَهُ من ولي من بعده} أَي: يضلله الله.
وَقَوله: {فَمَا لَهُ من ولي من بعده} أَي: لَا يجد من بعد
الله من يهديه.
وَقَوله: {وَترى الظَّالِمين لما رَأَوْا الْعَذَاب يَقُولُونَ
هَل إِلَى مرد من سَبِيل} أَي: من رُجُوع إِلَى الدُّنْيَا
ليتوب.
(5/84)
وَتَرَاهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ
مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ
مُقِيمٍ (45)
قَوْله تَعَالَى: {وتراهم يعرضون
عَلَيْهَا} أَي: على النَّار، وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي آل
فِرْعَوْن، وَيُقَال: فِي آل فِرْعَوْن وَغَيرهم. وَالأَصَح
أَن هَذَا فِي الْقِيَامَة، ويعرضون على النَّار ليدخلوا
فِيهَا.
وَقَوله: {خاشعين من الذل} أَي: خاضعين من الذل، وَمَعْنَاهُ:
[الانكسار] وذلة النَّفس حِين يرَوْنَ الْعَذَاب وتنزل بهم
الندامة.
قَوْله: {ينظرُونَ من طرف خَفِي} أَي: يسارقون النّظر إِلَى
النَّار، وَيُقَال: ينظرُونَ بأنصاف عيونهم، وَلَا يفتحون
أَعينهم عَلَيْهَا خوفًا مِنْهَا. وَعَن بَعضهم قَالَ:
ينظرُونَ بقلوبهم؛ لأَنهم يحشرون عميا، فالطرف الْخَفي هُوَ
رُؤْيَة الْقلب.
وَقَوله: {وَقَالَ الَّذين آمنُوا إِن الخاسرين الَّذين خسروا
أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة} أما خسرانهم أنفسهم
فبدخولهم النَّار، وَأما خسرانهم أَهْليهمْ فلأنهم لَو آمنُوا
أَصَابُوا أَهلا فِي الْجنَّة، فَلَمَّا كفرُوا ودخلوا النَّار
فاتهم أهلوهم فِي الْجنَّة، فَهُوَ خسران الْأَهْل. وَيُقَال:
لكل وَاحِد من الْكفَّار أهل مُسَمّى فِي الْجنَّة لَو آمن.
وَقَوله: {أَلا إِن الظَّالِمين فِي عَذَاب مُقيم} أَي:
دَائِم.
(5/84)
{عَذَاب مُقيم (45) مَا كَانَ لَهُم من
أَوْلِيَاء ينصرونهم من دون الله وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من
سَبِيل (46) اسْتجِيبُوا لربكم من قبل أَن يَأْتِي يَوْم لَا
مرد لَهُ من الله مَا لكم من ملْجأ يَوْمئِذٍ وَمَا لكم من
نَكِير (47) فَإِن أَعرضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم
حفيظا إِن عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ وَإِنَّا إِذا أذقنا
الْإِنْسَان منا رَحْمَة فَرح بهَا وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا
قدمت أَيْديهم}
(5/85)
وَمَا كَانَ لَهُمْ
مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قَوْله: {وَمَا كَانَ لَهُم من أَوْلِيَاء
ينصروهم من دون الله} أَي: يمْنَعُونَ عَنْهُم عَذَاب الله.
وَقَوله: {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من سَبِيل} أَي: من
طَرِيق إِلَى الْجنَّة.
(5/85)
اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ
لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا
لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
قَوْله تَعَالَى: {اسْتجِيبُوا لربكم} أَي:
اسْتجِيبُوا لربكم بقول: لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد
رَسُول الله.
وَقَوله: {من قبل أَن ياتي يَوْم لَا مرد لَهُ من الله} أَي:
لَا رد لَهُ.
وَقَوله: {مَا لكم من ملْجأ يَوْمئِذٍ} أَي: مهرب وملاذ.
وَقَوله: {وَمَا لكم من نَكِير} أَي: إِنْكَار، وَيُقَال:
لَيْسَ لكم من أَن تنكروا الْعقُوبَة الَّتِي تنالكم. وَقيل:
مَا لكم من نَكِير أَي: تَغْيِير.
(5/85)
فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا
رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِن أَعرضُوا فَمَا
أَرْسَلْنَاك عَلَيْهِم حفيظا} أَي: حَافِظًا.
وَقَوله: {إِن عَلَيْك إِلَّا الْبَلَاغ} أَي: التَّبْلِيغ.
وَقَوله: {وَإِنَّا إِذا أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة} أَي:
النِّعْمَة والعافية.
وَقَوله: {فَرح بهَا} أَي: سر بهَا.
وَقَوله: {وَإِن تصبهم سَيِّئَة} أَي: شدَّة وبلاء، وَقيل:
الجدب الَّذِي هُوَ ضد الخصب.
وَقَوله: {بِمَا قدمت أَيْديهم} أَي: من الذُّنُوب.
وَقَوله: {فَإِن الْإِنْسَان كفور} مَعْنَاهُ: كَافِر لنعم
الله لَا يشكرها.
(5/85)
{فَإِن الْإِنْسَان كفور (48) لله ملك
السَّمَوَات وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء يهب لمن يَشَاء
إِنَاثًا ويهب لمن يَشَاء الذُّكُور (49) أَو يزوجهم ذكرانا
وإناثا وَيجْعَل من يَشَاء عقيما إِنَّه عليم قدير (50) وَمَا
كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب
أَو يُرْسل}
(5/86)
لِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ
يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {لله ملك السَّمَوَات
وَالْأَرْض يخلق مَا يَشَاء يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا ويهب لمن
يَشَاء الذُّكُور} أَي: يُعْطي الْإِنَاث دون الذُّكُور،
والذكور دون الْإِنَاث.
(5/86)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
وَقَوله: {أَو يزوجهم ذكرانا وإناثا} أَي:
يجمع الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي الْعَطاء، وَمعنى قَوْله:
{يزوجهم} أَي: يصنفهم كَأَنَّهُ يَجْعَل الْأَوْلَاد صنفين:
صنفا إِنَاثًا، وَصِنْفًا ذُكُورا.
وَقَوله: {وَيجْعَل من يَشَاء عقيما} أَي: لَا يُولد لَهُ
أصلا، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة فِي الْأَنْبِيَاء،
فَقَوله: {يهب لمن يَشَاء إِنَاثًا} هُوَ لوط النَّبِي كَانَ
لَهُ بَنَات، وَلم يكن لَهُ ولد ذكر، وَقَوله: {ويهب لمن
يَشَاء الذُّكُور} هُوَ إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ
كَانَ لَهُ بنُون، وَلم تكن لَهُ أُنْثَى، وَقَوله: {أَو
نزوجهم ذكرانا وإناثا} هُوَ الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ
ولد لَهُ أَرْبَعَة بَنِينَ، وَأَرْبع بَنَات، فالبنون:
الْقَاسِم وَبِه كني رَسُول الله، وَعبد الله، والطاهر،
وَكَانَ يُسمى الطّيب أَيْضا وَإِبْرَاهِيم، فالثلاثة
الْأَولونَ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَإِبْرَاهِيم بن
مَارِيَة الْقبْطِيَّة، وَأما الْبَنَات: فزينب، ورقية، وَأم
كُلْثُوم، وَفَاطِمَة، كُلهنَّ من خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا
وعنهن، وَقَوله: {وَيجْعَل من يَشَاء عقيما} وَهُوَ يحيى
وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام لم يكن لَهما ولد وَلَا
زَوْجَة.
وَقَوله: {إِنَّه عليم قدير} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/86)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا
يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن
يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا} ذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن
سَبَب نزُول الْآيَة هُوَ ان الْمُشْركين قَالُوا للنَّبِي:
هلا كلمك الله وَنظرت إِلَيْهِ كَمَا كَانَ مُوسَى؟ فَأنْزل
الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {إِلَّا وَحيا} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه
الإلهام من الله تَعَالَى بالنفث فِي
(5/86)
{رَسُولا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء
إِنَّه عَليّ حَكِيم (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا إِلَيْك روحا
من أمرنَا} صَدره، وَالْآخر: أَنه الرُّؤْيَا فِي الْمَنَام.
وَفِي بعض الرِّوَايَات عَن ابْن عَبَّاس: لم ير جِبْرِيل من
الْأَنْبِيَاء غير أَرْبَعَة هم: مُوسَى، وَعِيسَى، وزَكَرِيا،
وَمُحَمّد عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأما الْبَاقُونَ
فَكَانَ لَهُم وَحي وإلهام، وَهَذِه رِوَايَة غَرِيبَة.
وَقَوله: {أَو من وَرَاء حجاب} أَي: كَمَا كلم مُوسَى من
وَرَاء حجاب، وَقيل: بالحجاب على مَوضِع الْكَلَام لَا على
الله. [وَقيل] : إِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما سمع كَلَام
الله وَلم يره كَانَ بِمَنْزِلَة من يسمع من وَرَاء الْحجاب.
وَقَوله: {أَو يُرْسل رَسُولا فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء}
يَعْنِي: يُرْسل جِبْرِيل بِالْوَحْي إِلَى من يَشَاء من
الْأَنْبِيَاء، [وَجُمْلَة] الَّذِي وصل إِلَى الْأَنْبِيَاء
من الْوَحْي على ثَلَاثَة وُجُوه: وَحي إلهام، ورؤيا فِي
الْمَنَام، ووحي بِتَكْلِيم الله تَعَالَى، ووحي بِلِسَان
جِبْرِيل عَلَيْهِ لسلام. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: أوحى
الله تَعَالَى الزبُور إِلَى دَاوُد فقرأه من قلبه، وَلم يكن
على لِسَان جِبْرِيل. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى
وكل بِحِفْظ الْوَحْي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَذَلِكَ
بإيصاله إِلَى الْأَنْبِيَاء، وَكَذَلِكَ وَكله بنصرة
الْأَنْبِيَاء وَعَذَاب الْكفَّار، ووكل مِيكَائِيل بالقطر
والنبات، ووكل إسْرَافيل بالصور، وَهُوَ أَيْضا من حَملَة
الْعَرْش، ووكل ملك الْمَوْت بِقَبض الْأَرْوَاح؛ فهم موكلون
على هَذِه الْأَشْيَاء بِإِذن الله تَعَالَى.
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ
يلقى النَّبِي فِي ثِيَاب بَيَاض ملفوفة بالدر والياقوت
وَرجلَاهُ مغموستان فِي خضرَة. وَقد ذكرنَا فِي رِوَايَة عَن
النَّبِي " أَن الْمُرْسلين من الْأَنْبِيَاء مائَة
[وَخَمْسَة] عشر [جما غفيرا] أَوَّلهمْ آدم
(5/87)
{مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا
الْإِيمَان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من
عبادنَا} وَآخرهمْ مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام ".
وَقَوله: {إِنَّه عَليّ حَكِيم} أَي: متعال مِمَّا يصفونه
(الْمُشْركُونَ) ، حَكِيم فِي جَمِيع مَا يَفْعَله.
(5/88)
وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ
تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ
جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَينَا
إِلَيْك روحا من أمرنَا} الرّوح هَاهُنَا هُوَ الْقُرْآن
سَمَّاهُ روحا؛ لِأَنَّهُ تحيا بِهِ الْقُلُوب كالروح تحيا
بِهِ النُّفُوس، وَقيل: إِنَّه النُّبُوَّة، وَالْأول أشهر.
وَقَوله: {من أمرنَا} أَي: بأمرنا.
وَقَوله: {وَمَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان}
الْكتاب هُوَ الْقُرْآن، وَقيل: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب
لَوْلَا أنزلنَا إِيَّاه عَلَيْك. وَقَوله: {وَلَا الْإِيمَان}
الْمَعْرُوف أَن المُرَاد بِهِ شرائع الْإِيمَان، وَهَذَا قد
حكى عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة وَغَيره من
أَئِمَّة السّنة.
وَعَن بَعضهم أَن مَعْنَاهُ: مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب
وَلَا الْإِيمَان أَي: قبل الْبلُوغ. وَالْقَوْل الثَّالِث:
مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الْإِيمَان أَي: أهل
الْإِيمَان، وَهَذَا حكى عَن الْحُسَيْن بن الْفضل البَجلِيّ.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة النزال بن سُبْرَة عَن عَليّ
رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: " قيل لرَسُول الله: هَل عبدت
وثنا قطّ؟ قَالَ: لَا. وَقيل لَهُ: هَل شربت خمرًا قطّ؟ قَالَ:
لَا. وَمَا زلت أعرف أَن مَا هم عَلَيْهِ بَاطِل، وَلم يُوح
إِلَى كتاب وَلَا إِيمَان " وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله: {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من
عبادنَا وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: تَدْعُو،
وَفِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " وَإنَّك لتدعو إِلَى صِرَاط
مُسْتَقِيم "
(5/88)
{وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم
(52) صِرَاط الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي
الأَرْض أَلا إِلَى الله تصير الْأُمُور (53) هِيَ تبين معنى
الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، وَقَرَأَ عَاصِم الجحدري: "
وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم " على مَا لم يسم
فَاعله، وَمَعْنَاهُ بَين.
(5/89)
صِرَاطِ اللَّهِ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قَوْله تَعَالَى: {صِرَاط الله الَّذِي
لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض أَلا إِلَى الله
تصير الْأُمُور} أَي: ترجع الْأُمُور، وَالله أعلم.
(5/89)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{حم (1) وَالْكتاب الْمُبين (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون (3) وَإنَّهُ فِي أم الْكتاب لدينا
لعَلي حَكِيم (4) أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما
مسرفين (5) }
تَفْسِير سُورَة الزخرف
وَهِي مَكِّيَّة
(5/90)
حم (1)
{حم} قد ذكرنَا معنى حم.
(5/90)
وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ (2)
وَقَوله: {وَالْكتاب الْمُبين} هُوَ
الْقُرْآن، وَسَماهُ مُبينًا؛ لِأَنَّهُ أبان فِيهِ الْهدى من
الضَّلَالَة، وَالْخَيْر من الشَّرّ، وَأَبَان فِيهِ جَمِيع
مَا يُؤْتى وَجَمِيع مَا يتقى. وَمعنى الْآيَة هُوَ الْقسم،
فَكَأَنَّهُ أقسم بحم وَبِالْقُرْآنِ، وَجَوَاب الْقسم قَوْله:
{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} وَكَذَلِكَ قَوْله:
{وَإنَّهُ فِي ام الْكتاب} جَوَاب الْقسم أَيْضا.
(5/90)
إِنَّا جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ}
قَالَ السدى: أَنزَلْنَاهُ وَقَالَ مُجَاهِد: قُلْنَاهُ. وَعَن
بَعضهم: بَيناهُ، قَالَه سُفْيَان الثَّوْريّ. وَاسْتدلَّ
بِهَذَا من زعم أَن الْقُرْآن مَخْلُوق، وَذكر أَن الْجعل
بِمَعْنى الْخلق بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم
الأَرْض مهدا} أَي: خلق لكم، وَعِنْدنَا هَذَا التَّعَلُّق
بَاطِل، وَالْقُرْآن كَلَام الله غير ومخلوق، وَعَلِيهِ
إِجْمَاع أهل السّنة، وَزَعَمُوا أَن من قَالَ: إِنَّه
مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر؛ لِأَن فِيهِ نفي كَلَام الله
تَعَالَى، وَقد بَينا وَجه الْآيَة عِنْد السّلف وَمن يعْتَمد
فِي تَفْسِيره.
وَقد ورد الْجعل فِي الْقُرْآن لَا بِمَعْنى الْخلق، قَالَ
الله تَعَالَى: {وَجعلُوا الْمَلَائِكَة الَّذين هم عباد
الرَّحْمَن إِنَاثًا} وَمَعْنَاهُ: أَنهم وصفوهم بالأنوثة
وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنهم خلقوهم.
وَقَوله: {قُرْآنًا عَرَبيا} أَي: بِلِسَان الْعَرَب.
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تعقلون} أَي: تعقلون مَا فِيهِ.
(5/90)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ فِي أم لكتاب}
أَي: الْقُرْآن فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَفِي بعض
(5/90)
((5} وَكم أرسلنَا من نَبِي فِي
الْأَوَّلين (6) وَمَا يَأْتِيهم من نَبِي إِلَّا كَانُوا بِهِ
يستهزئون (7) فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا وَمضى مثل الْأَوَّلين
(8) وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق) التفاسبر: أَن أم الْكتاب
مَذْكُور عِنْد الله تَعَالَى، قد بَين فِيهِ جَمِيع
الْأَشْيَاء، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة عورض مَا كَانَ
من المكاتبات بذلك الذّكر فتوجد على السوَاء.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي [أَنه] قَالَ: " إِن أول مَا خلق الله
تَعَالَى الْقَلَم، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أكتب؟
قَالَ: مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَقَوله: {لدينا} أَي: عندنَا.
وَقَوله تَعَالَى: {لعلى} أَي: رفيع لَا يَنَالهُ أحد بتبديل
وَلَا تَغْيِير.
وَقَوله: {حَكِيم} أَي: أحكمت آيَاته لَا يُزَاد فِيهَا وَلَا
ينقص.
(5/91)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
قَوْله تَعَالَى: {أفنضرب عَنْكُم الذّكر
صفحا} مَعْنَاهُ: أفنصفح عَنْكُم وَقد كَذبْتُمْ بآياتي وتركتم
أوامري. قَالَ القتيبي: وَهَذَا مَأْخُوذ من قَوْلهم: ضرب
فلَان دَابَّته وصفحت عَنهُ أَي: مَالَتْ عَنهُ، وَحَقِيقَة
المُرَاد: أفنضرب عَنْكُم الذّكر صافحين أَي: نمهلكم ونترككم
فَلَا نأمركم وَلَا ننهاكم وَلَا نعرفكم مَا يجب عَلَيْكُم
{أَن كُنْتُم قوما مسرفين} أى لَان كُنْتُم قوما مسرفين.
وَيُقَال مَعْنَاهُ: نترككم والتكذيب وَلَا نعاقبكم عَلَيْهِ.
(5/91)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا
مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)
قَوْله تَعَالَى: {وَكم أرسلنَا من نَبِي
فِي الْأَوَّلين} كم للتكثير.
وَقَوله: {من نَبِي فِي الْأَوَّلين} أَي: فِي الْقُرُون
الْمَاضِيَة.
(5/91)
وَمَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ياتيهم من نَبِي
إِلَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: يسخرون، وَهَذَا على
الْأَكْثَر؛ لِأَنَّهُ قد كَانَ فيهم من آمن.
(5/91)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ
مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
وَقَوله: {فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا} أَي:
فأهلكنا من هُوَ أَشد من قَوْمك بطشا أَي: قُوَّة.
وَقَوله: {وَمضى مثل الْأَوَّلين} أَي: عقوبات الْأَوَّلين،
وَذكر بِلَفْظ الْمثل على
(5/91)
{السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن خَلقهنَّ
الْعَزِيز الْعَلِيم (9) الَّذِي جعل لكم لأرض مهدا وَجعل لكم
فِيهَا سبلا لَعَلَّكُمْ تهتدون (10) وَالَّذِي نزل من
السَّمَاء مَاء بِقدر فأنشرنا بِهِ} معنى أَنَّهَا سنة
المكذبين من قبل. وَقُرِئَ: " مثل الْأَوَّلين " بِضَم الْمِيم
والثاء على الْجمع، وَمَعْنَاهُ مَا بَينا.
(5/92)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من
خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: وَلَئِن سَالَتْ الْمُشْركين
من خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض {ليَقُولن خَلقهنَّ الْعَزِيز
الْعَلِيم} وَهَذَا على طَرِيق التعجيب من حَالهم أَي: كَيفَ
يعْبدُونَ الْأَصْنَام ويزعمون أَن لله شَرِيكا، وَقد أقرُّوا
أَن الله تَعَالَى خَالق السَّمَوَات والرض؟
(5/92)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (10)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي جعل لكم الأَرْض
مهدا} هَذَا ابْتِدَاء كَلَام من الله تَعَالَى من غير أَن
يكون حِكَايَة عَن الْكفَّار؛ لِأَن كَلَامهم قد تمّ فِي
الْآيَة الأولى.
وَقَوله: {وَجعل لكم الآرض مهدا} قد بَينا من قبل.
وَقَوله: {وَجعل لكم فِيهَا سبلا} أَي: [طرقا] .
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تهتدون} أَي: تهتدون بسلوكها فِي
أسفاركم. وَقيل: فِي معايشكم وتصرفاتكم.
(5/92)
وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً
مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي نزل من
السَّمَاء مَاء بِقدر} أَي: بِمِقْدَار مَعْلُوم، فَلَا ينقص
عَن حاجات النَّاس فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلَا يزِيد
فَيكون سيلا مهْلكا، وَهَذَا على أَكثر الْأَحْوَال، وَقد يكو
بِخِلَافِهِ.
وَقَوله: {فأنشرنا بِهِ بَلْدَة مَيتا} مَعْنَاهُ: أحيينا بِهِ
أَرضًا ميتَة.
وَقَوله: {كَذَلِك تخرجُونَ} يَعْنِي: تبعثون يَوْم
الْقِيَامَة.
(5/92)
وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِي خلق
الْأزْوَاج كلهَا} أَي: الْأَصْنَاف كلهَا، وَيُقَال: لكل
شَيْئَيْنِ قرينين زوجان، وكل وَاحِد مِنْهُمَا زوج صَاحبه،
وَذَلِكَ السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار،
وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَالْجنَّة وَالنَّار، وَمَا أشبه
ذَلِك. وَكَذَلِكَ مَا يعود إِلَى
(5/92)
{بَلْدَة مَيتا كَذَلِك تخرجُونَ (11)
وَالَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا وَجعل لكم من الْفلك والأنعام
مَا تَرْكَبُونَ (12) لتستووا على ظُهُوره ثمَّ تَذكرُوا
نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقولُوا
سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين
(13) وَإِنَّا إِلَى رَبنَا لمنقلبون} أَحْوَال الْإِنْسَان من
الْمَرَض وَالصِّحَّة، والفقر والغنى، وَالْخَيْر وَالشَّر،
وَالنَّوْم واليقظة، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: {وَجعل لكم من الْفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ}
الْفلك: هِيَ السفن، وَاخْتلف القَوْل فِي الْأَنْعَام، فَذهب
مقَاتل إِلَى أَنَّهَا الْإِبِل وَالْبَقر، وَالْقَوْل
الثَّانِي: أَنَّهَا الْإِبِل خَاصَّة، وَهُوَ الأولى، قَالَ
أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: وَمَتى ركبت الْبَقَرَة؟ ! وَفِي بعض
الْأَخْبَار: أَن رجلا ركب بقرة فتكلمت الْبَقَرَة، وَقَالَت:
مَا خلقنَا لهَذَا، وَإِنَّمَا خلقنَا للحرث.
(5/93)
لِتَسْتَوُوا عَلَى
ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَقَوله: {لتستوا على ظُهُوره} فَإِن قيل:
كَيفَ لم يقل: على ظُهُورهَا، وَقد تقدم لفظ الْجمع؟
وَالْجَوَاب: أَن قَوْله: {على ظُهُوره} ينْصَرف إِلَى كلمة "
مَا "، وَمَعْنَاهُ: لتستووا على ظُهُور مَا تركبونه.
وَقَوله: {ثمَّ تَذكرُوا نعْمَة ربكُم إِذا اسْتَوَيْتُمْ
عَلَيْهِ وَتَقولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا
كُنَّا لَهُ مُقرنين} أَي: مطيقين، أَي: مَا كُنَّا نطيق
تذليله وتسخيره لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذلله وسخره لنا.
قَالَ عَمْرو بن معد يكرب:
(وَقد علم الْقَبَائِل مَا عقيل ... لنا فِي النائبات
بمقرنينا)
وَعَن بَعضهم أَنه ركب بعيره وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سخر
لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين، فَسَمعهُ الْحُسَيْن بن
عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: أهكذا أمرت؟ إِنَّمَا
أمرت أَن تذكر نعْمَة الله تَعَالَى ثمَّ تَقول هَذَا، فَإِذا
ركبت فَقل: الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمن
علينا بِمُحَمد، وَالْحَمْد لله الَّذِي جعلنَا من خير أمة
أخرجت للنَّاس، ثمَّ قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا
".
وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر أَن النَّبِي كَانَ إِذا
اسْتَوَى على بعيره مُتَوَجها فِي سفر،
(5/93)
{وَجعلُوا لَهُ من عباده جُزْءا إِن
الْإِنْسَان لكفور مُبين (15) أم اتخذ مِمَّا يخلق} كبر الله
ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا
وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلك فِي
سفرنا هَذَا الْبر وَالتَّقوى وَالْعَمَل بِمَا ترْضى،
اللَّهُمَّ هون علينا سفرنا، واطو علينا بعده، اللَّهُمَّ
أَنْت الصاحب فِي السّفر والخليفة فِي الْأَهْل، اللَّهُمَّ
إِنِّي أعوذ بك من وعثاء السّفر، وكآبة المنظر، وَسُوء المنقلب
فِي الْأَهْل وَالْمَال وَالْولد ". وَإِذا رَجَعَ قَالَ:
آيبون تائبون عَابِدُونَ لربنا حامدون ". خرجه مُسلم فِي
الصَّحِيح.
وَفِي بعض الْكتب عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنه قَالَ: كُنَّا
فِي سفر وَكَانَ النَّاس إِذا اسْتَووا على دوابهم قَالُوا:
{سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين}
وَكَانَ أَعْرَابِي على بعير هزيل فَاسْتَوَى على بعيره
وَقَالَ: أما إِنِّي لهَذَا مقرن، [فقمص] بِهِ، فَوَقع واندقت
عُنُقه وَمَات.
وَفِي بعض الْآثَار أَيْضا: أَن رجلا شَابًّا خرج فِي حلَّة
لَهُ، قد رجل شعره، فَقيل لَهُ: إِنَّك لحميل الْيَوْم،
فَقَالَ: إِن الله يعجب من جمالي؛ فمسخه الله تَعَالَى.
وَعَن بَعضهم أَيْضا أَنه كَانَ يكْتب الْقُرْآن فانعقد حبره
وَلم يحضرهُ المَاء، فقطر فِيهِ قَطْرَة بَوْل فَكتب، فجفت
يَده.
(5/94)
وَإِنَّا إِلَى
رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا إِلَى رَبنَا
لمنقلبون} أَي: رَاجِعُون.
(5/94)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا لَهُ من عباده
جُزْءا} أَي: نَصِيبا، والنصيب الَّذِي جَعَلُوهُ لله تَعَالَى
هُوَ أَنهم قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات الله تَعَالَى.
[يُقَال] : أَجْزَأت الْمَرْأَة، إِذا
(5/94)
{بَنَات وأصفاكم بالبنين (16) وَإِذا بشر
أحدهم بِمَا ضرب للرحمن مثلا ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم (17)
أَو من ينشأ فِي الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين
(18) } ولدت أُنْثَى.
وَقَوله: {إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين} أَي: كفور للنعم بَين
الكفران.
(5/95)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
قَوْله تَعَالَى: {أم اتخذ مِمَّا يخلق
بَنَات} مَعْنَاهُ: أم اتخذ الله مِمَّا يخلق بَنَات {وأصفاكم
بالبنين} أَي: اخْتَار لكم الْبَنِينَ، وَهَذَا، [على] طَرِيق
الْإِنْكَار لقَولهم. وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا القَوْل
كَانَ يَقُوله بَنو كنَانَة وَبَنُو عَامر وَحي ثَالِث. وَعَن
بَعضهم: أَن جَمِيع قُرَيْش كَانَت تَقوله، فَقيل لَهُم: من
أَيْن تَقولُونَ هَذَا؟ فَقَالَت: سمعنَا آبَاءَنَا يَقُولُونَ
كَذَلِك، وَنحن نشْهد أنم لم يكذبوا.
(5/95)
وَإِذَا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا بشر أحدكُم بِمَا
ضرب للرحمن مثلا} أَي: وصف الله بِهِ.
وَقَوله: {ظلّ وَجهه مسودا وَهُوَ كظيم} أَي: حَزِين مكروب،
وَيُقَال مَمْلُوء غما وهما.
(5/95)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
قَوْله تَعَالَى: {أَو من ينشأ فِي
الْحِلْية} أَي يُربي وينبت. وَقُرِئَ: " أَو من ينشأ أَي:
ينْبت
وَقَوله: {فِي الْحِلْية} أَي: فِي الْحلِيّ، والحلية:
الزِّينَة، وَالْمعْنَى: أَنَّهَا مَشْغُولَة بزينتها لَيْسَ
لَهَا رَأْي فِي الْأُمُور، وَلَا تصرف فِي الْأَشْيَاء.
وَقَوله: {وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} أَي: فِي الْجِدَال
ضَعِيف القَوْل. وَفِي التَّفْسِير: قَلما تَكَلَّمت امْرَأَة
بِحجَّة فأمكنها أَن تبلغ حجتها، وَيُقَال: قَلما تَكَلَّمت
امْرَأَة بِحجَّة إِلَّا وتتكلم مَا يكون حجَّة عَلَيْهَا،
وَالْآيَة وَردت للإنكار عَلَيْهِم يَعْنِي: أَنكُمْ جعلتم
نَصِيبي من عبَادي مثل هَؤُلَاءِ، وجعلتم نصيبكم الْبَنِينَ.
(5/95)
وَجَعَلُوا
الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
(19)
قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا الْمَلَائِكَة
الَّذين هم عباد الرَّحْمَن إِنَاثًا} مَعْنَاهُ: وصفوا،
(5/95)
{وَجعلُوا لملائكة الَّذين هم عباد
الرَّحْمَن إِنَاثًا أشهدوا خلقهمْ ستكتب شَهَادَتهم ويسألون
(19) وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم مَا لَهُم
بذلك من علم إِن هم إِلَّا} وَلَيْسَ الْجعل هَاهُنَا بِمَعْنى
الْخلق، إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى الْوَصْف وَالتَّسْمِيَة كَمَا
يَقُول الْقَائِل: جعل فلَان زيدا أعلم النَّاس أَي: وَصفه
بِهِ، وَحكم لَهُ بذلك، وَقُرِئَ: " عِنْد الرَّحْمَن " وَهُوَ
عبارَة عَن الْقرب والرفعة.
وَقَوله: {أشهدوا خلقهمْ} مَعْنَاهُ: أحضروا خلقهمْ فعرفوا
أَنهم خلقُوا إِنَاثًا، وَقُرِئَ: (اشْهَدُوا خلقهمْ)
مَعْنَاهُ: احضروا.
وَقَوله: {ستكتب شَهَادَتهم} وَقُرِئَ (سنكتب) بالنُّون يعْنى:
[أَنهم] يجازون بِشَهَادَتِهِم الكاذبة. وَقيل سنكتب ليجاوز.
وَقَوله: {ويسألون} أَي: يسْأَلُون عَن شَهَادَتهم يَوْم
الْقِيَامَة.
(5/96)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ
الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَو شَاءَ
الرَّحْمَن مَا عبدناهم} تعلق بِهَذِهِ الْآيَة الْقَدَرِيَّة،
وَقَالُوا: حكى الله تَعَالَى عَن الْكفَّار أَنهم قَالُوا:
لَو شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم، ثمَّ عقبه بالإنكار
والتهديد فَقَالَ: {مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا
يخرصون} أَي: يكذبُون، وعندكم أَن الْأَمر على مَا قَالُوا.
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: {مَا
لَهُم بذلك من علم} أى: مَالهم بقَوْلهمْ إِن الْمَلَائِكَة
بَنَات الله من علم إِن هم إِلَّا يخرصون يعْنى: فِي هَذَا
القَوْل وَقد تمّ الْكَلَام على هَذَا عِنْد قَوْله: {لَو
شَاءَ الرَّحْمَن مَا عبدناهم} وَالْإِنْكَار غير رَاجع
إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يحْكى من الْكفَّار مَا هُوَ حق مثل
قَوْله: {وَإِذا قيل لَهُم أَنْفقُوا مِمَّا رزقكم الله قَالَ
الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا أنطعم من لَو يَشَاء الله
أطْعمهُ} وَهَذَا القَوْل حق وَصدق، فَإِن قيل: أول الْآيَة
وَآخِرهَا خرج مخرج الْإِنْكَار عَلَيْهِم فَكيف يحْكى عَنْهُم
مَا هُوَ حق؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنهم قَالُوا هَذَا لَا على
اعْتِقَاد الْحق وَلَكِن لدفع الْقبُول عَن أنفسهم، وَقد
كَانُوا أمروا
(5/96)
{يخرصون (20) أم آتَيْنَاهُم كتابا من قبله
فهم بِهِ مستمسكون (21) بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا
على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون (22) وَكَذَلِكَ مَا
أرسلنَا من قبلك فِي قَرْيَة من} بِالْقبُولِ، فأرادوا أَن
يدفعوا الْقبُول من أنفسهم بِهَذَا القَوْل، كَمَا أَن فِي
الْآيَة الآخرى أَرَادوا أَن يدفعوا الْأَمر بِالْإِنْفَاقِ
عَن أنفسهم بِمَا قَالُوهُ، وَالْقَوْل على هَذَا الْقَصْد غير
صَحِيح.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن معنى قَوْله: {مَا لَهُم بذلك من
علم} أَي: مَا لَهُم فِي هَذَا القَوْل من عذر.
وَقَوله: {إِن هم غلا يخرصون} أَي: يطْلبُونَ مَا لَا يكون من
طلب الْعذر بِهَذَا الْكَلَام، حَكَاهُ النّحاس، وَالْأول ذكره
الْفراء والزجاج وَغَيرهمَا.
(5/97)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ
كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21)
قَوْله تَعَالَى: {أم أتيناهم كتابا من
قبله} أَي: بِمَا زَعَمُوا ان الْمَلَائِكَة خلقُوا إِنَاثًا.
وَقَوله: {فهم بِهِ مستمسكون} أَي: مستمسكون، وَهَذَا على
طَرِيق الْإِنْكَار أَيْضا.
(5/97)
بَلْ قَالُوا إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُهْتَدُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {بل قَالُوا إِنَّا
وجدنَا آبَاءَنَا على أمة} وَقُرِئَ: " إمة " بِكَسْر الْألف
فَقَوله: {على أمة} أَي: على مِلَّة وَدين، قَالَ الشَّاعِر:
(حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة ... وَهل يأثمن ذُو أمة
وَهُوَ طائع)
أَي: ذُو مِلَّة.
وَأما الإمة بِكَسْر الْألف فَهِيَ بِمَعْنى الطَّرِيقَة،
قَالَ الشَّاعِر:
(ثمَّ بعد الْفَلاح وَالْملك وإلامة ... وارتهم هُنَاكَ
الْقُبُور)
فَقَوله: والإمة يَعْنِي: الطَّرِيقَة الْحَسَنَة.
وَقَوله: {وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} أَي: متبعون.
(5/97)
وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أرسلنَا
من قبلك فِي قَرْيَة من نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها}
(5/97)
{نَذِير إِلَّا قَالَ مترفوها إِنَّا
وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون (23)
قَالَ أَو لَو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ
آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (24)
فانتقمنا مِنْهُم فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (25)
وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء
مِمَّا تَعْبدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فطرني فَإِنَّهُ سيهدين
(27) وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عقبه} أَي: متنعموها. وَوجه
الْإِنْكَار أَن الرفه مَنعهم عَن طلب الْحق.
وَقَوله: {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على
آثَارهم مقتدون} ظَاهر الْمَعْنى.
وَفِي الْآيَتَيْنِ دَلِيل على ذمّ التَّقْلِيد وَالرُّجُوع
إِلَى قَول الْآبَاء من غير حجَّة.
(5/98)
قَالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
قَوْله تَعَالَى: {قَالَ أَو لَو جِئتُكُمْ
بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم} مَعْنَاهُ: أتتبعون
مَا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم وَإِن جِئتُكُمْ بأهدى مِنْهُ.
وَقَوله: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون} أَي:
جاحدون.
(5/98)
فَانْتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
(25)
قَوْله تَعَالَى: {فانتقمنا مِنْهُم} أَي:
بالإهلاك والعقوبة.
وَقَوله: {فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين} أَي:
الجاحدين.
(5/98)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا
تَعْبُدُونَ (26)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قَالَ
إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء مِمَّا
تَعْبدُونَ} وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " بَرِيء "
فَقَوله: {برَاء} بِمَعْنى قَوْله: " بَرِيء "، وَيُقَال:
إِنَّه لُغَة اهل الْحجاز يَعْنِي قَوْله: {برَاء} وَهُوَ
مِمَّا لَا يثنى وَلَا يجمع.
(5/98)
إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
وَقَوله: {إِلَّا الَّذِي فطرني} فِيهِ
قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه على حَقِيقَة الِاسْتِثْنَاء إِلَّا
أَنهم كَانُوا يعْبدُونَ الله وَمَا دونه، فيستقيم
الِاسْتِثْنَاء على هَذَا. وَالثَّانِي: أَنه اسْتثِْنَاء
مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن لذِي فطرني أَي: جعلني
{فَإِنَّهُ سيهدين} أَي: يرشدني.
(5/98)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
قَوْله تَعَالَى: {وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة}
قَالَ مُجَاهِد: هِيَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقَالَ
قَتَادَة: هِيَ الْإِخْلَاص والتوحيد. وَعَن بَعضهم: أَن
الْكَلِمَة هِيَ قَول إِبْرَاهِيم:
(5/98)
{لَعَلَّهُم يرجعُونَ (28) بل متعت
هَؤُلَاءِ وآباءهم حَتَّى جَاءَهُم الْحق وَرَسُول مُبين (29)
وَلما جَاءَهُم الْحق قَالُوا هَذَا سحر وَإِنَّا بِهِ كافرون
(30) وَقَالُوا لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من
القريتين عَظِيم (31) أهم يقسمون رحمت رَبك نَحن قسمنا بَينهم}
{أسلمت لرب الْعَالمين} . وَذَلِكَ عِنْدَمَا قيل لَهُ: {أسلم}
. وَأما قَوْله: {فِي عقبَة} أَي: فِي وَلَده. وَفِي
التَّفْسِير: لَا يزَال فِي عقب إِبْرَاهِيم من هُوَ
مُسْتَقِيم على كلمة التَّوْحِيد. وَقيل: {فِي عقبه} هُوَ رجل
وَاحِد، وَذَلِكَ مُحَمَّد. وَقَالَ السدى: فِي عقبه يَعْنِي:
فِي آل مُحَمَّد وَرَضي عَنْهُم.
وَقَوله: {لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي: يرجعُونَ إِلَى الْهدى
بعد الضَّلَالَة.
(5/99)
بَلْ مَتَّعْتُ
هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ
مُبِينٌ (29)
قَوْله تَعَالَى: {بل متعت هَؤُلَاءِ
وآباءهم} أَي: أمتعتهم بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ
وَأَوْلَادهمْ، وأمتعت آبَاءَهُم.
وَقَوله: {حَتَّى جَاءَهُم الْحق وَرَسُول مُبين} أَي:
جَاءَهُم الْقُرْآن يبين الْهدى من الضَّلَالَة، وَالْحق من
الْبَاطِل.
(5/99)
وَلَمَّا جَاءَهُمُ
الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
وَقَوله: {وَلما جَاءَهُم الْحق قَالُوا
هَذَا سحر وَإِنَّا بِهِ كافرون} أَي: جاحدون.
(5/99)
وَقَالُوا لَوْلَا
نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ (31)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نزل
هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم} وَتَقْدِيره: على
رجل من رجْلي القريتين عَظِيم. والقريتان هما مَكَّة والطائف،
وَأما الرّجلَانِ اخْتلفُوا فيهمَا، قَالَ ابْن عَبَّاس:
الَّذِي من مَكَّة هُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَالَّذِي من
الطَّائِف هُوَ حبيب بن عَمْرو الثَّقَفِيّ. وَقيل: الَّذِي من
مَكَّة هُوَ عتبَة بن ربيعَة، وَالَّذِي من الطَّائِف هُوَ
عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، قَالَه قَتَادَة. وَقَالَ
مُجَاهِد فِي الَّذِي من الطَّائِف: هُوَ ابْن عبد ياليل
الثَّقَفِيّ. وَعَن السدى أَيْضا فِيهِ: أَنه كنَانَة بن عدي
بن عَمْرو.
(5/99)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا
وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
وَقَوله: {أهم يقسمون رَحْمَة رَبك} أَي:
رِسَالَة رَبك فيختارون لَهَا من شَاءُوا. وَمَعْنَاهُ: أَنه
لَيْسَ لَهُم هَذَا الِاخْتِيَار.
(5/99)
{معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ورفعنا
بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا ورحمت
رَبك خير مِمَّا يجمعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة
وَاحِدَة لجعلنا}
وَقَوله: {نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة
الدُّنْيَا} أَي: كَمَا قسمنا معيشة الْحَيَاة الدُّنْيَا
فاخترنا للغنى من شِئْنَا، وللفقر من شِئْنَا، فَكَذَلِك
اخترنا واصطفينا للرسالة من شِئْنَا. وَقد روى ابْن مَسْعُود
أَن النَّبِي قَالَ: " إِن الله قسم بَيْنكُم أخلاقكم كَمَا
قسم بَيْنكُم أرزاقكم، وَإِن الله يُعْطي الدُّنْيَا من يحب
وَمن لَا يحب، وَلَا يُعْطي الدّين إِلَّا من يُحِبهُ، وَمن
أعطَاهُ الدّين فقد أحبه ". وَعَن قَتَادَة: رب رجل ضَعِيف
(الجبلة) عيي اللِّسَان [مَبْسُوط لَهُ] فِي الرزق، وَرب رجل
شَدِيد (الجبلة) ، فصيح اللِّسَان مقتر عَلَيْهِ فِي الرزق.
وَقَوله: {ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات} أَي: فِي
الدُّنْيَا، فغني وفقير، وفاضل ومفضول، وحر وَعبد، وصحيح
وَسَقِيم، وَأَشْبَاه ذَلِك.
وَقَوله: {ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا} أَي: خولا. وَقيل:
بتسخير الْغَنِيّ الْفَقِير بِمَالِه، وَالْقَوِي الضَّعِيف
بِفضل قوته. وَيُقَال: تتخذونهم مماليك وعبيدا، وَبِهَذَا
الْقيام صَلَاح الْعَالم، وَأنْشد بَعضهم:
(سُبْحَانَ من سخر [الْأَنَام] بَعضهم ... للْبَعْض حِين
اسْتَوَى التَّدْبِير واطردا)
(فَصَارَ يخْدم هَذَا ذَاك من جِهَة ... وَذَاكَ من جِهَة
هَذَا وَإِن بعدا)
(كل بِمَا عِنْده مُسْتَبْشِرٍ فَرح ... يرى السَّعَادَة
فِيمَا نَالَ واعتقدا)
وَقَوله: {وَرَحْمَة رَبك خير مِمَّا يجمعُونَ} أَي:
النُّبُوَّة خير مِمَّا يجمعُونَ من الدُّنْيَا، وَقيل:
الْآخِرَة خير من الدُّنْيَا. وَقُرِئَ: " تجمعون "
بِالتَّاءِ، وَالْأول أشهر.
(5/100)
وَلَوْلَا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ
وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن يكون
النَّاس أمة وَاحِدَة} مَعْنَاهُ: وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس
كلهم كفَّارًا. وَقيل: لَوْلَا أَن الدُّنْيَا تميل بِالنَّاسِ
عَن الدّين، لَو فعلنَا هَذَا بالكفار لفعلنَا
(5/100)
{لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة
ومعارج عَلَيْهَا يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا
يتكئون (34) وزخرفا وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} هَذَا لهوان الدُّنْيَا عندنَا.
وَقَوله: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة}
وَقُرِئَ: " سقفا " بِفَتْح السِّين يَعْنِي: جعلنَا جدرها
فضَّة.
وَقَوله: {ومعارج عَلَيْهَا يظهرون} أَي: جعلنَا لَهُم مراقي
من فضَّة يظهرون عَلَيْهَا على السّقف. وَمَعْنَاهُ: يظهرون
يصعدون ويعلون. وَفِي الْأَخْبَار: أَن نَابِغَة بن جعدة أنْشد
للنَّبِي:
(بلغت السَّمَاء عفة وتكرما ... وَإِنَّا لنَرْجُو فَوق ذَلِك
مظْهرا)
أَي: معلا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " إِلَى أَيْن يَا أَبَا
ليلى؟ " قَالَ: إِلَى لجنة. قَالَ: " أجل إِن شَاءَ الله ".
(5/101)
وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
وَقَوله: {ولبيوتهم أبوابا وسررا عَلَيْهَا
يتكئون} أَي: جعلنَا ذَلِك لَهُم من فضَّة.
(5/101)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ
كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
وَقَوله: {وزخرفا} فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: وذهبا أَي: (جعلنَا) جَمِيع ذَلِك من ذهب. فَإِن
قَالَ قَائِل لم أنتصب؟ قُلْنَا: لِأَن الْمَعْنى من فضَّة
وَمن ذهب، فنزعت " من " فانتصب. وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود:
" وذهبا " وَهَذَا يبين صِحَة هَذَا القَوْل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن قَوْله: {وزخرفا} أَي: غنى. وَعَن
الْحسن قَالَ: الزخرف هِيَ النقوش. وَقيل: كل مَا هُوَ زِينَة
فِي الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا}
أَي: تكون مُدَّة ويفنى سَرِيعا.
(5/101)
{عِنْد رَبك لِلْمُتقين (35) وَمن يَعش عَن
ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين (36)
وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون
(37) }
وَقَوله: {وَالْآخِرَة عِنْد رَبك لِلْمُتقين} أَي: لِلْمُتقين
من الشّرك والمعاصي.
(5/102)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ (36)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن يَعش عَن ذكر
الرَّحْمَن} قَالَ قَتَادَة: يعرض. وَمِنْه قَوْلهم: فلَان
يعشو أَي: يمشي ببصر ضَعِيف. [يُقَال] : عشا يعشو إِذا ضعف
بَصَره، وعشى يعشي إِذا عمى بَصَره، وَمِنْه الْأَعْشَى. وَفِي
الحَدِيث أَن سعيد بن الْمسيب ذهبت إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَجعل
يعشو بِالْأُخْرَى أَي: يبصر بصرا ضَعِيفا. وَقُرِئَ: " يَعش "
بِنصب الشين أَي: يعمى. وَيُقَال فِي معنى قَوْله: {يَعش عَن
ذكر الرَّحْمَن} أَي: يذهب عَن ذكره؛ فيسير فِي ظلمَة وخبط عَن
جَهَالَة.
وَقَوله: {نقيض لَهُ شَيْطَانا} أَي: نوكل بِهِ شَيْطَانا.
وَيُقَال: نلقيه شَيْطَانا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْكَافِر
إِذا خرج من الْقَبْر لقِيه شَيْطَان، فَأدْخل يَده فِي يَده،
وَلَا يزَال مَعَه حَتَّى يصير إِلَى النَّار، وَالْمُؤمن إِذا
خرج من قَبره يلقاه ملك، فَيدْخل يَده فِي يَده، فَلَا يزَال
مَعَه حَتَّى يصير إِلَى الْجنَّة.
وَقَوله: {فَهُوَ لَهُ قرين} أَي: مُقَارن. وَيُقَال: يجعلان
فِي سلسلة وَاحِدَة.
(5/102)
وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن
السَّبِيل} أَي: الشَّيَاطِين يصدونهم عَن طَرِيق الْحق.
وَقَوله: {وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} أَي: الْكفَّار يحسبون
أَنهم مهتدون بإرشاد الشَّيَاطِين.
وَفِي بعض المسانيد بِرِوَايَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَن
النَّبِي قَالَ: " عَلَيْكُم بِلَا إِلَه إِلَّا الله
وَالِاسْتِغْفَار، فَأَكْثرُوا مِنْهَا فَإِن إِبْلِيس قَالَ:
أهلكت بني آدم بِالذنُوبِ،
(5/102)
{حَتَّى إِذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْت
بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين (38) وَلنْ ينفعكم
الْيَوْم إِذا ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون (39) }
وأهلكوني بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَالِاسْتِغْفَار، فَلَمَّا
رَأَيْت ذَلِك أهلكتهم بالأهواء، ثمَّ قَرَأَ النَّبِي:
{وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون} ".
(5/103)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا
قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَنَا}
وَقُرِئَ: " جاءانا "، فَقَوله: " جَاءَنَا " هُوَ الْكَافِر
وَحده، وَقَوله: " جاءانا " هُوَ الْكَافِر وقرينه
الشَّيْطَان.
وَقَوله: {قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس
القرين} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: بعد الْمشرق من الْمغرب،
وسماها مشرقين على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يذكرُونَ
[شَيْئَيْنِ] مُخْتَلفين ويسمونهما باسم وَاحِد، قَالَ
الشَّاعِر:
(أَخذنَا بآفاق السَّمَاء عَلَيْكُم ... لنا قمراها والنجوم
الطوالع)
أَي الشَّمْس وَالْقَمَر.
وَقَالَ آخر:
(وبصرة الأزد لنا وَالْعراق ... والموصلان وَمنا مصر وَالْحرم)
وَأَرَادَ بالموصلين الْموصل والجزيرة.
وروى أَن أهل الْبَصْرَة قَالُوا لعَلي رَضِي الله عَنهُ حِين
حَارَبُوهُ مَعَ عَائِشَة يَوْم الْجمل: إِنَّا نطلب مِنْك سنة
العمرين يَعْنِي: أَبَا بكر وَعمر، وَقَالَ جرير:
(مَا كَانَ يرضى رَسُول الله فعلهم ... والعمران أَبُو بكر
وَلَا عمر)
وَالْقَوْل الثَّانِي: بعد المشرقين أَي: مشرق الشتَاء ومشرق
الصَّيف.
وَقَوله: {فبئس القرين} أَي: بئس الْمُقَارن أَنْت.
(5/103)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ
مُشْتَرِكُونَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ ينفعكم الْيَوْم
إِذْ ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون} أَي: لن يسهل
عَلَيْكُم عذابكم رؤيتكم غَيْركُمْ مشاركين لكم فِي الْعَذَاب،
فَكَأَن الله
(5/103)
{أفأنت تسمع الصم أَو تهدي الْعمي وَمن
كَانَ فِي ضلال مُبين (40) فإمَّا نذهبن بك فَإنَّا مِنْهُم
منتقمون (41) أَو نرينك الَّذِي وعدناهم فَإنَّا عَلَيْهِم
مقتدرون (42) فَاسْتَمْسك} تَعَالَى مَنعهم التأسي بِمَا يسهل
على الْإِنْسَان الْمُصِيبَة والعقوبة، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ
فِي مُصِيبَة فَرَأى غَيره فِي مثلهَا سهل عَلَيْهِ. والتأسي
[التسلي] . قَالَت الخنساء فِي أَخِيهَا صَخْر:
(وَلَوْلَا كَثْرَة الباكين حَولي ... على إخْوَانهمْ لقتلت
نَفسِي)
(وَمَا يَبْكُونَ مثل أخي وَلَكِن ... أعزي النَّفس [عَنهُ]
بالتأسي)
(5/104)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ (40)
وَقَوله تَعَالَى: {أفأنت تسمع الصم أَو
تهدي الْعمي وَمن كَانَ فِي ضلال مُبين} أَي: لَا تسمع وَلَا
تهدي.
(5/104)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
وَقَوله تَعَالَى: {فإمَّا نذهبن بك
فَإنَّا مِنْهُم منتقمون} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا مَعْنَاهُ:
فَإِنَّمَا نخرجنك من مَكَّة، فَإنَّا منتقمون مِنْهُم يَوْم
بدر بِالْقَتْلِ والأسر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: {فإمَّا نذهبن بك} يَعْنِي: بالوفاة،
فَإنَّا منتقمون مِنْهُم بعْدك، وَيُقَال: يَوْم الْقِيَامَة.
(5/104)
أَوْ نُرِيَنَّكَ
الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {أَو نرينك الَّذِي
وعدناهم} قَالَ السدى: هَذَا فِي الْمُشْركين. وَقَالَ الْحسن
وَقَتَادَة: هَذَا فِي أمته. " وروى أَن النَّبِي أرى فِي أمته
بعض مَا يصيرون إِلَيْهِ، فَمَا رُؤِيَ ضَاحِكا نشيطا بعد
ذَلِك إِلَى أَن فَارق الدُّنْيَا ".
وَفِي بعض التفاسير: أَنه مَا من نَبِي إِلَّا وأري النقمَة
فِي أمته إِلَّا نَبينَا، فَإِن الله تَعَالَى لم يره النقمَة
فِي أمته، وَقد كَانَ فِي أمته من النقمات، وَيكون إِلَى قيام
السَّاعَة.
وَقَوله: {فَإنَّا عَلَيْهِم مقتدرون} أَي: قادرون.
(5/104)
{بِالَّذِي أُوحِي إِلَيْك إِنَّك على
صِرَاط مُسْتَقِيم (43) وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك وسوف
تسْأَلُون (44) واسأل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا أجعلنا من
دون الرَّحْمَن آلِهَة}
(5/105)
فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(43)
قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَمْسك بِالَّذِي
أوحى إِلَيْك} أَي: بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: {إِنَّك على صِرَاط مُسْتَقِيم} أَي: طَرِيق وَاضح.
(5/105)
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
وَقَوله: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} أَي:
الْقُرْآن شرف لَك ولقومك.
وَقَوله: {وسوف تسْأَلُون} أَي: تسْأَلُون عَن شكر هَذِه
النِّعْمَة. وَعَن قَتَادَة أَو غَيره فِي هَذِه الْآيَة
قَالَ: يُقَال للرجل: مِمَّن أَنْت؟ فَيَقُول: من الْعَرَب.
فَيُقَال لَهُ: من أَي الْعَرَب؟ فَيَقُول: من قُرَيْش، فَهُوَ
معنى قَوْله: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} وروى بَعضهم عَن
مَالك بن أنس قَالَ: {وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك} هُوَ قَول
الْقَائِل: حَدثنِي أبي عَن جدي، وَالْمَعْرُوف هُوَ القَوْل
الأول، وَمعنى شرف قُرَيْش: أَن الْقُرْآن نزل بلغتهم،
وَالرَّسُول كَانَ مِنْهُم.
(5/105)
وَاسْأَلْ مَنْ
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ
دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
{ [واسأل من أرسلنَا من قبلك] من رسلنَا
أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ} الْمَعْرُوف من
القَوْل فِي هَذِه الْآيَة أَن مَعْنَاهُ: واسأل أُمَم من
أرسلنَا من قبلك من رسلنَا. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي
مَعْنَاهُ: وسل تبَاع من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا. وَقَالَ
بَعضهم: واسأل الَّذين يقرءُون الْكتاب مِمَّن أرسلنَا
إِلَيْهِم رسلًا من قبلك. وَفِي مصحف ابْن مَسْعُود: " واسال
الَّذين أرسلنَا إِلَيْهِم رسلًا من قبلك هَل جعلنَا من دون
الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ " وَهِي تَفْسِير الْقِرَاءَة
الْمَعْرُوفَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: مَا رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن
عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى جمع الْمُرْسلين لَيْلَة
الْإِسْرَاء فِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس ثمَّ إِن جِبْرِيل
أذن، ثمَّ أَقَامَ، ثمَّ قَالَ للنَّبِي: تقدم وصل بهم،
فَلَمَّا فرغ من صلَاته، قَالَ لَهُ: " وسل من أرسلنَا من قبلك
من رسلنَا
(5/105)
{يعْبدُونَ (45) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فَقَالَ إِنِّي رَسُول رب
الْعَالمين (46) فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذا هم
مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نريهم من آيَة إِلَّا هِيَ
أكبر} وَزعم بَعضهم أَنه سَأَلَهُمْ فَأَجَابُوا وَقَالُوا:
مَا أمرنَا الله تَعَالَى إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ
وَالْإِخْلَاص. وَفِي بعض التفاسير: أَن مِيكَائِيل قَالَ
لجبريل: هَل سَأَلَ مُحَمَّد الرُّسُل عَمَّا أَمر بِهِ؟
فَقَالَ: لَا، كَانَ أَشد يَقِينا وَأعلم بِاللَّه من أَن يسال
عَن ذَلِك. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه السُّؤَال
وَالْجَوَاب فِي هَذِه المسالة؟ وَالسُّؤَال عَن هَذَا
إِنَّمَا يكون من شَاك فِي الْأَمر أما من مستقين فَلَا،
وَالْجَوَاب: أَن المُرَاد من الْآيَة هُوَ تَقْرِير الرَّسُول
على مَا يَعْتَقِدهُ وتوبيخ الْكفَّار وتوقيفهم أَن الْأَمر
على مَا يَقُول الرَّسُول. وَقَالَ بَعضهم: الْخطاب للرسول
وَالْمرَاد مِنْهُ الْأمة، وَيُقَال: [إِن] الْخطاب
للْمُشْرِكين كَأَنَّهُ أَمرهم أَن يسْأَلُوا مؤمني أهل
الْكتاب، هَل أَمر الله بِمَا يزعمونه فِي كتاب من كتبهمْ،
وَهُوَ عبَادَة الْأَصْنَام وتعظيمها؟ وَقد كَانُوا يرجعُونَ
إِلَى قَول أهل الْكتاب فِي بعض الْأَشْيَاء، ويعتمدون
عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
(5/106)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ
إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْن وملئه فَقَالَ إِنِّي رَسُول رب
الْعَالمين} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/106)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ
بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
وَقَوله: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا}
أَي: بالمعجزات والدلالات.
وَقَوله: {إِذا هم مِنْهَا يَضْحَكُونَ} يَعْنِي: ضحك
الْمُسْتَهْزِئِينَ المكذبين، وَالْمرَاد من الْآيَة تعجيب
الرَّسُول من ضحكهم وتكذيبهم مَعَ وُرُود الْآيَات الظَّاهِرَة
مَعَ مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ.
(5/106)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا نريهم من آيَة
إِلَّا هِيَ أكبر من أُخْتهَا} أَي: أعظم من الْآيَة
الْمُتَقَدّمَة. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْآيَة الأولى من
آيَات مُوسَى أَن فِرْعَوْن كَانَ قد جعل على قصره سبع
حَوَائِط، بَين كل حائطين سباغ وغياض، والأبواب على الْحِيطَان
كَانَت تقفل وَلَا تفتح إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فَلَمَّا حضر
مُوسَى بَاب فِرْعَوْن، انفتحت لَهُ الْأَبْوَاب،
(5/106)
{من أُخْتهَا وأخذناهم بِالْعَذَابِ
لَعَلَّهُم يرجعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر ادْع
لنا رَبك} وانكسرت الأقفال، وسجدت لَهُ السبَاع حَتَّى وصل
إِلَى قصر فِرْعَوْن، فَهَذِهِ الْآيَة الأولى، ثمَّ إِنَّه
لما أحضر فِرْعَوْن السَّحَرَة وألقوا الْعَصَا والحبال، وَهِي
شبه الْحَيَّات الْكِبَار فِي أعين النَّاس ثمَّ ألْقى مُوسَى
الْعَصَا الَّتِي كَانَت مَعَه، وتلقفت جَمِيع الحبال والعصي
على مَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي الْقِصَّة، فَهَذِهِ الْآيَة
أعظم من الأولى. وَزعم بَعضهم أَن الْآيَات كلهَا سَوَاء فِي
الإعجاز وَالدّلَالَة، إِلَّا أَنه سمى الْآيَة الْحَاضِرَة
أكبر من الذاهبة لحضور هَذِه الْآيَة وَذَهَاب تِلْكَ. وَهَذَا
كَالرّجلِ يَقُول فِي عِلّة تصيبه: مَا مرت بِي عِلّة مثل
هَذِه الْعلَّة، وَإِن كَانَ قد مرت عَلَيْهِ علل هِيَ أكبر
مِنْهَا أَو مثلهَا، وَلكنه يَقُول هَذَا القَوْل (لحضور)
هَذِه الْعلَّة وَذَهَاب تِلْكَ الْعلَّة. وَمِنْهُم من قَالَ:
المُرَاد من الْآيَات قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا
عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم}
وَمَا من آيَة أظهرها بعد آيَة إِلَّا وَهِي أكبر من الأولى،
وَمَا ذَكرْنَاهُ من القَوْل الأول هُوَ الْأَحْسَن فِي
الْمَعْنى.
وَقَوله: {وأخذناهم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُم يرجعُونَ} أَي:
إِلَى الله تَعَالَى.
(5/107)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ
السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ
إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا يَا أَيهَا
السَّاحر ادْع لنا رَبك بِمَا عهد عنْدك إننا لَمُهْتَدُونَ}
فَإِن قيل: كَيفَ قَالُوا: يَا أَيهَا السَّاحر ثمَّ قَالُوا:
إننا لَمُهْتَدُونَ بك [وَلَا يَهْتَدِي أحد] بالساحر؟
وَالْجَوَاب: أَن السَّاحر عِنْدهم هُوَ الْعَالم، وَمعنى
قَوْله {يَا أَيهَا السَّاحر} أَي: يَا أَيهَا الْعَالم،
وَهَذَا قَول الْكَلْبِيّ وَغَيره. وَقَالَ الزّجاج: قَالُوا
يَا أَيهَا السَّاحر على مَا (كَانُوا) من قَوْلهم لَهُ.
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك على طَرِيق
الِاسْتِهْزَاء والسخرية وَلم يَكُونُوا اعتقدوا أَن يُؤمنُوا
بِهِ.
وَقَوله: {بِمَا عهد عنْدك} إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَن
مُوسَى قَالَ لَهُم: إِن آمنتم كشف الله عَنْكُم هَذِه
الْعقُوبَة، وَهَذَا مَذْكُور فِي سُورَة الْأَعْرَاف على مَا
سبق.
(5/107)
{بِمَا عهد عنْدك إننا لَمُهْتَدُونَ (49)
فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم الْعَذَاب إِذْ هم ينكثون (50) ونادى
فِرْعَوْن فى قومه قَالَ يَا قوم أَلَيْسَ لي ملك مصر وَهَذِه
الْأَنْهَار تجْرِي من تحتي}
(5/108)
فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا كشفنا عَنْهُم
الْعَذَاب إِذْ هم ينكثون} أَي: ينقضون الْعَهْد، وَلَا
يَقُولُونَ بقَوْلهمْ.
(5/108)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا
تُبْصِرُونَ (51)
قَوْله تَعَالَى: {ونادى فِرْعَوْن فِي
قومه قَالَ يَا قوم أَلَيْسَ لي ملك مصر} قَالَ بَعضهم: كَانَ
ملكه أَرْبَعِينَ فرسخا فِي أَرْبَعِينَ. وَقَالَ بَعضهم:
مسيرَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَقَوله: {وَهَذِه الْأَنْهَار تجْرِي من تحتي} أَي: من تَحت
قصري، وَقَالَ قَتَادَة: بَين يَدي. وَفِي تفسيرالنقاش: أَنه
كَانَ فِي زمَان فِرْعَوْن خَمْسَة أَنهَار بِمصْر اندرست من
بعد، وَلم يبْق مِنْهَا شَيْء. وَفِي هَذَا التَّفْسِير
أَيْضا: أَنه كَانَ بِمصْر سبع خلج الَّتِي وَاحِدهَا خليج،
واندرست من بعد، وَكَانَ فِرْعَوْن يركب من فَيوم إِلَى دمياط
والإسكندرية فَلَا يسير إِلَّا تَحت الْأَشْجَار ملتفة وأنهار
جَارِيَة.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت لَيْلَة
الْمِعْرَاج سِدْرَة الْمُنْتَهى وَإِذا يخرج من أَصْلهَا
أَرْبَعَة أَنهَار: نهران باطنان، ونهران ظاهران قَالَ:
فَسَأَلت جِبْرِيل عَن الْأَنْهَار فَقَالَ: أما الباطنان
فَفِي الْجنَّة، وَأما الظاهران فالنيل والفرات ".
وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قَالَ: إِن الله
تَعَالَى يغذي النّيل بِجَمِيعِ الْأَنْهَار من بَين الْمشرق
وَالْمغْرب، وَذَلِكَ عِنْد زِيَادَته إِلَى أَن تَنْتَهِي
الزِّيَادَة مُنْتَهَاهَا، ثمَّ يرجع إِلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ.
وَقَوله: {أَفلا تبصرون} يَعْنِي: أَفلا ترَوْنَ. وَفِي بعض
التفاسير: أَن معنى الْأَنْهَار فِي هَذِه الْآيَة هِيَ
الْأَمْوَال، وسماها أَنهَار لكثرتها وظهورها.
وَقَوله: {تجْرِي من تحتي} أَي: أفرقها على من شِئْت. قَالُوا:
وَإِظْهَار التَّرْغِيب
(5/108)
{أَفلا تبصرون (51) أم أَنا خير من هَذَا
الَّذِي هُوَ مهين وَلَا يكَاد يبين (52) فلولا ألقِي عَلَيْهِ
أسورة من ذهب أَو جَاءَ مَعَه الْمَلَائِكَة مقترين (53) }
وَالْقُدْرَة فِي هَذَا أكبر مِنْهُ فِي الْأَنْهَار، ذكره
الْمَاوَرْدِيّ أَبُو الْحسن القَاضِي.
(5/109)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
قَوْله تَعَالَى: {أم أَنا خير من هَذَا
الَّذِي هُوَ مهين} قَالَ بَعضهم قَوْله: {أم} مُتَّصِل بِمَا
قبله، وَمَعْنَاهُ: أَفلا تبصرون أم تبصرون. وَقيل: أم أَنْتُم
بصراء وَتمّ الْكَلَام على هَذَا، ثمَّ ابْتِدَاء قَوْله:
{أَنا خير} وَهَذَا محكي عَن الْخَلِيل وسيبويه، وَقَالَ
بَعضهم: " أم " صلَة زَائِدَة، وَالْكَلَام فِي قَوْله: {أَنا
خير من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين} وَفِي بعض الْقرَاءَات: (أَنا
خير) على التفخميم.
وَقَوله: {من هَذَا الَّذِي هُوَ مهين} أَي: ضَعِيف حقير.
وَقَوله: {وَلَا يكَاد يبين} قَالَ أهل التَّفْسِير: إِنَّمَا
قَالَ هَذَا للثغة الَّتِي كَانَت فِي لِسَانه، وَذَلِكَ بِمَا
كَانَ بَقِي فِي لِسَانه من الْعقْدَة بإلقائه الْجَمْرَة فِي
فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه كَانَ بِلِسَانِهِ لَا يُمكنهُ
تَبْيِين الْكَلَام غَايَة الْبَيَان، وأنشدوا فِيمَا ذكرنَا
من قَوْله: {أم} قَول الشَّاعِر:
(فيا ظَبْيَة الوغا بَين خلاخل ... وَبَين النقا أَنْت أم
سَالم)
مَعْنَاهُ: أَنْت أحسن أم سَالم.
(5/109)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
قَوْله تَعَالَى: {فلولا ألقِي عَلَيْهِ
أساورة من ذهب} وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: " أساور من ذهب
" وَفِي الْقِصَّة: أَنهم كَانُوا إِذا سوروا [رجلا] سوروه
بِسوار من ذهب فِي يَده، وطوقوه بطوق من ذهب فِي عُنُقه.
وَالْمرَاد من الْآيَة أَنهم قَالُوا: وَلَو كَانَ مُوسَى
نَبيا فَهَلا سوره الله سوارا، أَو طوقه بطوق، أَو بعث مَعَه
لملائكة أعوانا لَهُ على أمره، فَهُوَ معنى قَوْله: {أَو جَاءَ
مَعَه الْمَلَائِكَة مقترنين} أَي: مُتَتَابعين يتب بَعضهم
بَعْضًا.
(5/109)
{فاستخف قومه فأطاوه إِنَّهُم كَانُوا قوما
فاسقين (54) فَلَمَّا آسفونا انتقمنت مِنْهُم فأغرقناهم
أَجْمَعِينَ (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (56) وَلما ضرب
ابْن مَرْيَم}
(5/110)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
وَقَوله: {فاستخف قومه فأطاعوه} أَي: حركهم
بدعائه إيَّاهُم (إِلَى) باطله، فخفوا مَعَه وأجابوه،
وَيُقَال: استفزهم، فأطاعوه بجهلهم.
وَقَوله: {إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين} أَي: خَارِجين عَن
الطَّاعَة. وَيُقَال: استخف قومه أَي: حملهمْ على خفَّة
الْجَهْل، وَمَعَ الْعقل الْوَقار، وَمَعَ الْجَهْل الخفة.
(5/110)
فَلَمَّا آسَفُونَا
انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا آسفونا} أَي:
أغضبونا وأسخطونا. فَإِن قيل: الأسف إِنَّمَا يكون على شَيْء
فَائت، وَالله تَعَالَى لَا يفوتهُ شَيْء؟
وَالْجَوَاب [عَنهُ] : أَن مَعْنَاهُ الْغَضَب كَمَا بَينا،
وَقَالَ بَعضهم: آسفونا أَي: فعلوا فعلا لَو فَعَلُوهُ مَعَ
مَخْلُوق لَكَانَ متأسفا حَزينًا. وَفِي بعض الْآثَار: أَن
عُرْوَة بن الزبير كَانَ جَالِسا مَعَ وهب بن مُنَبّه، فجَاء
قوم فشكوا عاملهم، وَكَانَ الْعَامِل حَاضرا، فَغَضب وهب بن
مُنَبّه وَأخذ عَصا وشج رَأس الْعَامِل، فَضَحِك عُرْوَة بن
الزبير فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا ينْهَى عَن الْغَضَب
ويغضب؟ فَقَالَ وهب: لَا، لَا تلمني، فَإِن الله تَعَالَى
يغْضب وَهُوَ خَالق الأحلام، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
{فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} وَمعنى قَوْله: {انتقمنا
مِنْهُم} أَي: بالإغراق والإهلاك، وَهُوَ معنى قَوْله:
{فأغرقناهم أَجْمَعِينَ فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} أَي:
سلفا للكبار وَمن بعدهمْ، ومثلا لمن فعل مثل فعلهم. وَمعنى "
مثلا " أَي: عظة وعبرة. وَقُرِئَ " سلفا " وَهُوَ جمع سليف،
وَقُرِئَ: " سلفا " وَالْمعْنَى فِي الْكل وَاحِد. وَعَن زيد
بن أسلم قَالَ: مَا من أحد إِلَّا وَله سلف فِي الخيروالشر.
(5/110)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ
مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما ضرب ابْن مَرْيَم
مثلا} أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي
مخاصمة عبد الله بن الزبعري رَسُول الله فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِنَّكُم وَمَا
(5/110)
{مثلا إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون (57)
وَقَالُوا أآلهتنا خير أم هُوَ مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل}
تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم) ، فَإِنَّهُ لما نزل
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ} إِلَى قَوْله:
{أَنْتُم لَهُ وَارِدُونَ} وَقرأَهَا رَسُول الله على كفار
قُرَيْش، قَالَ عبد الله بن الزبعري: هَذَا لنا ولآلهتنا
خَاصَّة أم لنا وَلِجَمِيعِ الْأُمَم وآلهتهم؟ . فَقَالَ: بل
لكم ولآلهتكم وَلِجَمِيعِ الْأُمَم وآلهتهم، فَقَالَ ابْن
الزعبري: خصمتك وَرب الْكَعْبَة، ثمَّ ذكر مَا أوردنا من قبل
فِي حق عِيسَى وعزيز وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام،
فعلى هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا}
مَعْنَاهُ: لما جعلُوا ابْن مَرْيَم مثلا لآلهتهم، وَقَالُوا:
إِذا كَانَ ابْن مَرْيَم فِي النَّار فرضينا أَن نَكُون نَحن
وَآلِهَتنَا فِي النَّار ".
وَقَوله: {إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون} بِكَسْر الصَّاد أَي:
يضجون ضجاج المجادلين، وَيُقَال: يصدون أَي: يَضْحَكُونَ
ويفرحون بقول ابْن الزبعري. وَقُرِئَ " " يصدون " بِضَم
الصَّاد، وَمَعْنَاهُ: يعرضون، وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ
أَن النَّبِي لما ذكر حَدِيث [عِيسَى] لقريش، وَأَنه خلقه الله
تَعَالَى من غير أَب كَمَا خلق آدم من غير أَب، وَذكر مَا أظهر
الله على يَده من الْآيَات جعلت قُرَيْش يَضْحَكُونَ، وقاوا
مَا يُرِيد مُحَمَّد من ذكر عِيسَى إِلَّا أَن نعبده كَمَا
عبدت النَّصَارَى عِيسَى، وَهَذَا قَول مُجَاهِد.
(5/111)
وَقَالُوا
أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا
جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا أآلهتنا خير
أم هُوَ} على القَوْل الأول مَعْنَاهُ: أآلهتنا خير أم عِيسَى؟
بل عِيسَى خير من آلِهَتنَا، فَإِذا كَانَ عِيسَى فِي النَّار
فلتكن آلِهَتنَا فِي النَّار. وعَلى القَوْل الثَّانِي:
أآلهتنا خير أم هُوَ؟ يَعْنِي: مُحَمَّدًا، فَإِذا كَانَ
مُحَمَّد يطْلب أَن نعبده فَنحْن نعْبد آلِهَتنَا. وَفِي
قِرَاءَة أبي بن كَعْب: " أآلهتنا خير أم هَذَا "؟ وَهَذَا
يُؤَيّد القَوْل الثَّانِي.
وَقَوله: {مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا} يَعْنِي: مَا قَالُوا
هَذَا القَوْل إِلَّا مجادلة بِالْبَاطِلِ؛
(5/111)
{هم قوم خصمون (58) إِن هُوَ إِلَّا عبد
أنعمنا عَلَيْهِ وجعلناه مثلا لبني إِسْرَائِيل (59) وَلَو
نشَاء لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون (60)
وَإنَّهُ لعلم للساعة فَلَا تمترن} لأَنهم علمُوا أَن ابْن
مَرْيَم لَا يدْخل النَّار وَعَلمُوا أَنه غير دَاخل فِي
الْآيَة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {إِنَّكُم وَمَا
تَعْبدُونَ} و " مَا " لمن لَا يعقل، لَا لمن يعقل.
وَقَوله: {بل هم قوم خصمون} أَي: مخاصمون بِغَيْر الْحق، وَقد
ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ
أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا
عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى:
{مَا ضربوه لَك إِلَّا جدلا بل هم قوم خصمون} . وَالْمرَاد
بِالْآيَةِ المجادلة بِالْبَاطِلِ لَا المجادلة فِي طلب الْحق
أَو لبَيَان الْحق؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قد قَالَ فِي مَوضِع
آخر: {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا
تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} .
(5/112)
إِنْ هُوَ إِلَّا
عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هُوَ إِلَّا عبد}
يَعْنِي: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا عِيسَى ابْن مَرْيَم
إِلَّا عبد {أنعمنا عَلَيْهِ} أَي: بِالنُّبُوَّةِ والآيات.
وَقَوله: {وجعلناه مثلا} أَي: عظة وعبرة لبني إِسْرَائِيل،
وَيُقَال: جَعَلْنَاهُ مثلا لَهُم أَي: بشرا مثلهم.
(5/112)
وَلَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ
(60)
وَقَوله: {وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم}
أَي: بَدَلا مِنْكُم {مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} أَي:
تخلفكم، وَيُقَال: يخلف بَعْضكُم بَعْضًا.
(5/112)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ لعلم للساعة}
مَعْنَاهُ. أَن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام شَرط من
(5/112)
{بهَا واتبعون هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم
(61) وَلَا يصدنكم الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (62)
وَلما جَاءَ عِيسَى بلبينات قَالَ قد جِئتُكُمْ بالحكمة ولأبين
لكم بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ} أَشْرَاط السَّاعَة، فَيعلم
بنزوله علم السَّاعَة، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: "
لينزلن ابْن مَرْيَم حكما مقسطا يكسر الصَّلِيب، وَيقتل
الْخِنْزِير ". الْخَبَر.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَنه " ينزل على ثنية فَوق جبل من جبال
بَيت الْمُقَدّس وليه ممصرتان وَبِيَدِهِ حَرْبَة يقتل بهَا
الدَّجَّال "، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: {وَإنَّهُ لعلم للساعة}
أَي: آيَة من آيَات حُضُورهَا.
قَالَ الفرزدق يمدح عَليّ بن الْحُسَيْن:
(هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... والركن يعرفهُ
والحل وَالْحرم)
(هَذَا ابْن خير عباد الله كلهم ... هَذَا التقي النقي
الطَّاهِر الْعلم)
وَقَوله: {فَلَا تمترن بهَا واتبعون هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم}
أَي: لَا تشكن فِيهَا أَي: الْقِيَامَة، وَالْبَاقِي ظَاهر
الْمَعْنى.
(5/113)
وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يصدنكم
الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين} قَالَ ابْن عَبَّاس: من
عداوته أَنه أخرج أَبَاكُم من الْجنَّة، وَنزع عَنْهُم لِبَاس
النُّور.
(5/113)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى
بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ
وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63)
قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَ عِيسَى
بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قد جِئتُكُمْ بالحكمة ولأبين لكم بعض
الَّذِي تختلفون فِيهِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل الَّذِي
تختلفون فِيهِ. وَقَالَ غَيره من أهل اللُّغَة: لَا يَصح
الْبَعْض بِمَعْنى الْكل، وَمعنى الْآيَة: ولأبين لكم بعض
الَّذِي تختلفون فِيهِ فِي الْإِنْجِيل، وَبَعض الَّذِي
تختلفون فِيهِ فِي غير الْإِنْجِيل. وَيُقَال مَعْنَاهُ:
ولأبين لكم مَا اختلفتم فِيهِ من أَمر دينكُمْ لَا من أَمر
دنياكم، فَهُوَ بعض مَا اختلفتم فِيهِ، وَالله أعلم.
(5/113)
{فَاتَّقُوا الله وأطيعون (63) إِن الله
هُوَ رَبِّي وربكم فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم (64)
فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم فويل للَّذين ظلمُوا من عَذَاب
يَوْم أَلِيم (65) هَل ينظرُونَ إِلَّا السَّاعَة أَن تأتيهم
بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ (66) الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم
لبَعض عَدو إِلَّا}
وَقَوله: {فَاتَّقُوا الله وأطيعون} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/114)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
(64)
وَقَوله: {إِن الله هُوَ رَبِّي وربكم
فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم} قد بَينا.
(5/114)
فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
قَوْله تَعَالَى: {فَاخْتلف الْأَحْزَاب من
بَينهم} هَؤُلَاءِ هم الَّذين اخْتلفُوا فِي عِيسَى بعد رَفعه
إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن الله، وَقَالَ
بَعضهم: هُوَ الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة.
وَقَوله: {فويل للَّذين ظلمُوا من عَذَاب يَوْم أَلِيم} أَي:
موجع.
(5/114)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ (66)
قَوْله تَعَالَى: {هَل ينظرُونَ إِلَّا
السَّاعَة أَن تأتيهم بَغْتَة} أَي: فَجْأَة، وَقَوله: {وهم
لَا يَشْعُرُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ بمجيئها، قَالَ أهل
الْعلم: وَقد أخْفى الله تَعَالَى أَمر السَّاعَة وزمان
قِيَامهَا ليَكُون أبلغ فِي الْإِنْذَار والتخويف.
(5/114)
الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
(67)
قَوْله تَعَالَى: {الأخلاء يَوْمئِذٍ
بَعضهم لبَعض عَدو} فِي التَّفْسِير: أَنهم أُميَّة بن خلف،
وَعقبَة بن أبي معيط، والوليد بن الْمُغيرَة، وَالْعَاص بن
وَائِل، وَأَبُو جهل بن هِشَام، وَالنضْر بن الْحَارِث،
وَحَفْص بن الْمُغيرَة، وَعتبَة بن ربيعَة. وَذكر النقاش: أَن
عقبَة بن أبي معيط كَانَ صديقا لأمية بن خلف، وَكَانَ غقبة
يَأْتِي النَّبِي وَيجْلس عِنْده وَيسمع كَلَامه، فَقَالَ لَهُ
أُميَّة بن خلف: لقد صبوت يَا عقبَة، فَقَالَ: وَالله مَا
صبوت. فَقَالَ: وَجْهي من وَجهك حرَام إِن لم تَتْفُل فِي وَجه
مُحَمَّد، فَفعل عقبَة ذَلِك، فَقَالَ لَهُ الرَّسُول: " لَئِن
قدرت عَلَيْك خَارج الْحرم لأريقن دمك، فَضَحِك عقبَة،
وَقَالَ: يَا ابْن أبي كَبْشَة، وَمن أَيْن تقدر عَليّ خَارج
الْحرم؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر وَأسر عقبَة أَمر النَّبِي
عليا فِي بعض الطَّرِيق أَن يضْرب عُنُقه، فَقَالَ: يَا معشر
قُرَيْش، مَالِي أقتل من بَيْنكُم. فَقَالَ النَّبِي: بتكذيبك
الله وتكذيبك رَسُوله. فَقَالَ: وَمن للمصبية؟ فَقَالَ:
النَّار ".
(5/114)
{الْمُتَّقِينَ (67) يَا عباد لَا خوف
عَلَيْكُم الْيَوْم وَلَا أَنْتُم تَحْزَنُونَ (68) الَّذين
آمنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلمين (69) ادخُلُوا الْجنَّة
أَنْتُم وأزواجكم تحبرون (70) يُطَاف عَلَيْهِم} وَفِي بعض
الْأَخْبَار عَن النَّبِي، وَقيل: هُوَ عَن عَليّ، قَالَ: "
الأخلاء أَرْبَعَة: مُؤْمِنَانِ، وَكَافِرَانِ، فيتقدم أحد
الْمُؤمنِينَ فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي فلَان؟ يَعْنِي:
خَلِيله فَيَقُول: لقد عَرفته آمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن
الْمُنكر، اللَّهُمَّ بشره كَمَا بشرتني، وَارْضَ عَنهُ كَمَا
رضيت عني، ويتقدم أحد الْكَافرين فَيُقَال لَهُ: مَا تَقول فِي
فلَان؟ يَعْنِي: خَلِيله، فَيَقُول: عَرفته آمرا بالمنكر ناهيا
عَن الْمَعْرُوف، اللَّهُمَّ أدخلهُ النَّار كَمَا أدخلتني،
واخزه كمت أخزيتني "؟
وَفِي التَّفْسِير: أَن كل أخوة تكون فِي الدُّنْيَا عَن
مَعْصِيّة تصير عَدَاوَة يَوْم الْقِيَامَة، وكل أخوة تكون عَن
دين تبقى يَوْم الْقِيَامَة.
وَعَن مُجَاهِد قَالَ: قَالَ لي ابْن عَبَّاس: أحب لله وَأبْغض
لله، ووال فِي الله، وَعَاد فِي الله، فَإِنَّهُ لَا ينَال مَا
عِنْد الله إِلَّا بِهَذَا.
وَقَوله: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فَقَالَ: إِن هَذَا فِي
أَصْحَاب النَّبِي حِين آخى رَسُول الله بَينهم قَالَ: رَسُول
الله وعَلى أَخَوان، وَأَبُو بكر وَعمر أَخَوان، وَطَلْحَة
وَالزُّبَيْر أَخَوان، وَعُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف
أَخَوان، إِلَى غير هَذَا.
(5/115)
يَا عِبَادِ لَا
خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
قَوْله تَعَالَى: {يَا عباد لَا خوف
عَلَيْكُم الْيَوْم} وروى أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم
الْقِيَامَة: {يَا عباد لَا خوف عَلَيْكُم الْيَوْم وَلَا
أَنْتُم تَحْزَنُونَ} فيرفع جَمِيع الْخَلَائق رُءُوسهم،
(5/115)
الَّذِينَ آمَنُوا
بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
فَيَقُول: {الَّذين آمنُوا بِآيَاتِنَا}
فيرفع جَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى رُءُوسهم
فَيَقُول: {وَكَانُوا مُسلمين} فينكس جَمِيع الْخلق رُءُوسهم
سوى الْمُسلمين. وَذكر بَعضهم قَوْله: {الَّذين آمنُوا
بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسلمين} مرّة وَاحِدَة فِي النداء.
(5/115)
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا الْجنَّة
أَنْتُم وأزواجكم تحبرون} أَي: تنعمون، وَقيل:
(5/115)
{بصحاف من ذهب وأكواب وفيهَا مَا تشتهه
الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ (71)
وَتلك الْجنَّة الَّتِي أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ
(72) لكم فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
إِن الْمُجْرمين فِي عَذَاب حهنم خَالدُونَ (74) لَا يفتر
عَنْهُم وهم فِيهِ} تكرمون. والحبورة فِي اللُّغَة هِيَ
السرُور والفرح. يُقَال: مَا من حبرَة إِلَّا وَبعدهَا
عِبْرَة، وَعَن يحيى بن أبي كثير قَالَ: تحبرون هُوَ السماع
فِي الْجنَّة.
(5/116)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (71)
قَوْله تَعَالَى: {يُطَاف عَلَيْهِم بصحاف
من ذهب} الصحاف: القصاع، وَاحِدهَا [صَحْفَة] . وَفِي
التَّفْسِير: سَبْعُونَ ألف [صَحْفَة] فِيهَا ألوان
الْأَطْعِمَة.
وَقَوله: {وأكواب} الأكواب وَاحِدهَا كوب، وَهُوَ إِنَاء
مستدير لَيْسَ لَهُ عُرْوَة وَلَا خرطوم.
وَقَوله: {وفيهَا مَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين} أَي:
تشتهيه الْأَنْفس، وَقد قرئَ هَكَذَا فِي بعض الْقِرَاءَة
الْمَعْرُوفَة.
وَقَوله: {وتلذ الْأَعْين} إِنَّمَا نسب اللَّذَّة إِلَى
الْأَعْين؛ لِأَن المناظر الْحَسَنَة تلذ النُّفُوس، فنسب
اللَّذَّة إِلَى الْأَعْين؛ لِأَن نسبتها كَانَت إِلَيْهَا
أليق.
وَقَوله: {وَأَنْتُم فِيهَا خَالدُونَ} أَي: مقيمون لَا
يخرجُون أبدا.
(5/116)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)
قَوْله تَعَالَى: {وَتلك الْجنَّة
أورثتموها بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا
من أحد إِلَّا وَله منزل فِي الْجنَّة ومنزل فِي النَّار، فيرث
الْمُؤمن منزل الْكَافِر فِي الْجنَّة، وَيَرِث الْكَافِر منزل
الْمُؤمن فِي النَّار.
(5/116)
لَكُمْ فِيهَا
فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
قَوْله تَعَالَى: {لكم فِيهَا فَاكِهَة
كَثِيرَة مِنْهَا تَأْكُلُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/116)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُجْرمين فِي
عَذَاب جَهَنَّم خَالدُونَ} أَي: مقيمون.
(5/116)
لَا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
وَقَوله: {لَا يفتر عَنْهُم} أَي: لَا
يُخَفف عَنْهُم.
(5/116)
{مبلسون (75) وَمَا ظلمناهم وَلَكِن
كَانُوا هم الظَّالِمين (76) وَنَادَوْا يَا مَالك ليَقْضِ
علينا رَبك قَالَ إِنَّكُم مَاكِثُونَ (77) لقد جئناكم
بِالْحَقِّ وَلَكِن أَكْثَرَكُم للحق كَارِهُون (78) أم أبرموا
أمرا فَإنَّا مبرمون (79) أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم
ونجواهم بلَى}
وَقَوله: {وَهُوَ فِيهِ مبلسون} أَي: آيسون من الْخُرُوج،
والملبس فِي اللُّغَة هُوَ السَّاكِت الَّذِي سكت تحيرا ويأسا.
(5/117)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ
وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ظلمناهم وَلَكِن
كَانُوا هم الظَّالِمين} مَعْنَاهُ: إِنَّا جازيناهم بعملهم،
وَلم نزد عَلَيْهِم شَيْئا.
(5/117)
وَنَادَوْا يَا
مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ
مَاكِثُونَ (77)
قَوْله تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالك
ليَقْضِ علينا رَبك} أَي: ليمتنا رَبك. قَالَ عبد الله ابْن
عَمْرو بن الْعَاصِ: ينادون [مَالِكًا] أَرْبَعِينَ سنة.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يُنَادُونَهُ ألف سنة ثمَّ يُجِيبهُمْ
فَيَقُول: إِنَّكُم مَاكِثُونَ، ثمَّ ينادون الله تَعَالَى،
وَيَقُولُونَ {رَبنَا غلبت علينا شِقْوَتنَا} فَلَا يُجِيبهُمْ
عمر الدُّنْيَا، ثمَّ يَقُول: {اخسأوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون}
. فَلَا يسمع مِنْهُم بعد ذَلِك إِلَّا شبه صَوت الْحمر من
الزَّفِير والشهيق.
(5/117)
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ
بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
قَوْله تَعَالَى: {لقد جئناكم بِالْحَقِّ}
أَي: بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكْثَرهم للحق كَارِهُون} أَي: كرهتم
مَجِيء الْحق ودعوتكم إِلَيْهِ.
(5/117)
أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
قَوْله تَعَالَى: {أم أبرموا أمرا} الإبرام
هُوَ إحكام الْأَمر، وَمَعْنَاهُ: أَنهم عزموا وَأَجْمعُوا على
التَّكْذِيب، وَنحن أجمعنا على التعذيب، فَهَذَا معنى قَوْله:
{فَإنَّا مبرمون} وَيُقَال: أم أبرموا أَي: كَادُوا كيدا،
ومكروا مكرا، وَقَوله: {فَإنَّا مبرمون} ) أَي: نقابل كيدهم
ومكرهم بالإبطال، ونجازيهم جَزَاء مَكْرهمْ، وَهُوَ فِي معنى
قَوْله تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين} .
(5/117)
أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى
وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
قَوْله تَعَالَى: {أم يحسبون أَنا لَا
نسْمع سرهم ونجواهم} روى أَن الْأَخْنَس وَالْأسود بن عبد
يَغُوث كَانَا عِنْد الْكَعْبَة، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه:
أَتَرَى الله يسمع مَا
(5/117)
{وَرُسُلنَا لديهم يَكْتُبُونَ (80) قل إِن
كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول العابدين (81) سُبْحَانَ} نقُول:
فَقَالَ الآخر: إِن جهرنا يسمع، وَإِن أسررنا لم يسمع؛ فَأنْزل
الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَقَوله: {بلَى وَرُسُلنَا} يَعْنِي: بلَى نسْمع {وَرُسُلنَا
لديهم يَكْتُبُونَ} أَي: يَكْتُبُونَ بِمَا يعْملُونَ
وَيَقُولُونَ.
(5/118)
قُلْ إِنْ كَانَ
لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
قَوْله تَعَالَى: {قل إِن كَانَ للرحمن ولد
فَأَنا أول العابدين} الْآيَة مشكلة، وفيهَا أَقْوَال:
أَحدهَا: قَول مُجَاهِد، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: قل إِن كَانَ
للرحمن ولد على زعمكم فَأَنا أول العابدين أَنه إِلَه لَا ولد
لَهُ وَلَا شريك لَهُ، وَأَن مَا قلتموه بَاطِل وَكذب، وَهَذَا
أحسن الْأَقَاوِيل.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " إِن " هَاهُنَا بِمَعْنى " مَا "،
وَمَعْنَاهُ: قل مَا كَانَ للرحمن ولد وَتمّ الْكَلَام، ثمَّ
قَالَ: فَأَنا أول العابدين، وَأهل النَّحْو يستبعدون هَذَا،
وَيَقُولُونَ: لَا يجوز أَن تكون " إِن " بِمَعْنى " مَا "
إِلَّا على بعد عَظِيم.
وَالْقَوْل الثَّالِث: قل إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول
العابدين أَي: الآنفين، يُقَال: عبد إِذا أنف، قَالَ الفرزدق:
(أُولَئِكَ آبَائِي فجئني بمثلهم ... وأعبد أَن يهجى كُلَيْب
بدارم) أَي: آنف. وَحكى بَعضهم: أَن عليا رَضِي الله عَنهُ
قَالَ: قيل لي: إِنَّك قتلت عُثْمَان فعبدت وَسكت أَي: أنفت.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى فِي الْآيَة على هَذَا القَوْل: أَنى غضب
(وَله غضب) أنف أَن ينْسب إِلَيْهِ ولد كَمَا تَزْعُمُونَ.
(5/118)
{رب السَّمَوَات وَالْأَرْض رب الْعَرْش
عَمَّا يصفونَ (82) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حَتَّى يلاقوا يومهم
الَّذِي يوعون (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي
الأَرْض إِلَه وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم (84) وتبارك الَّذِي
لَهُ ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعِنْده علم
السَّاعَة وَإِلَيْهِ ترجعون (85) وَلَا يملك الَّذين يدعونَ
من دونه الشَّفَاعَة إِلَّا من شهد}
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن هَذَا على النَّفْي من
الْجَانِبَيْنِ بِمَعْنى: إِن كَانَ للرحمن ولد فَأَنا أول
العابدين، وَلَيْسَ لَهُ ولد وَلَا أَنا أول عَابِد، وَهَذَا
كَالرّجلِ يَقُول لغيره: إِن كنت كَاتبا فَأَنا حاسب يَعْنِي:
لست بكاتب وَلَا أَنا حاسب، وَحكى هَذَا عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة والسدى.
(5/119)
سُبْحَانَ رَبِّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
(82)
قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ رب
السَّمَوَات وَالْأَرْض} أَي: خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَقَوله: {رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ} أَي: عَمَّا يصفونه
بِالْوَلَدِ.
(5/119)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ
(83)
قَوْله تَعَالَى: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا
حَتَّى يلاقوا يومهم الَّذِي يوعدون} أَي: يَوْم الْقِيَامَة.
(5/119)
وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ (84)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه} أَي: معبود فِي
السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَقَوله: {وَهُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم} قد بَينا.
(5/119)
وَتَبَارَكَ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
قَوْله تَعَالَى: {وتبارك الَّذِي لَهُ ملك
السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَعِنْده علم
السَّاعَة} أَي: علم قيام السَّاعَة.
وَقَوله: {وَإِلَيْهِ ترجعون} أَي: تردون.
(5/119)
وَلَا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يملك الَّذين
يدعونَ من دونه الشَّفَاعَة} قَالَ مُجَاهِد: أَي: عِيسَى
وعزيز وَالْمَلَائِكَة. وَقَالَ قَتَادَة: الْأَصْنَام لِأَن
للْمَلَائكَة والنبيين شَفَاعَة.
وَقَوله: {إِلَّا من شهد بِالْحَقِّ} مَعْنَاهُ على القَوْل
الأول: إِلَّا لمن شهد بِالْحَقِّ، وَهُوَ من شهد بِلَا إِلَه
إِلَّا الله. وعَلى القَوْل الثَّانِي: لَكِن من شهد
بِالْحَقِّ وَهُوَ يشفع، فعلى
(5/119)
{بِالْحَقِّ وهم يعلمُونَ (86) وَلَئِن
سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون (87) وقيله
يَا رب إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ (88) فاصفح عَنْهُم
وَقل سَلام فَسَوف يعلمُونَ (89) } هَذَا الْأَنْبِيَاء
يشفعون، والمؤمنون يشفعون.
وَقَوله: {وَهُوَ يعلمُونَ} ظَاهر الْمَعْنى، وَمَعْنَاهُ:
يشْهدُونَ عَن علم.
(5/120)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ
(87)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من
خلقهمْ ليَقُولن الله فَأنى يؤفكون} أَي: يصرفون.
(5/120)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ
إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
قَوْله تَعَالَى: {وقيله يَا رب} فِيهِ
قراءتان معروفتان: " وقيله " بِنصب اللَّام، " وقيله " بِكَسْر
اللَّام، وَالْقِرَاءَة الثَّالِثَة: " قيله " بِالضَّمِّ،
وَهِي قِرَاءَة الْأَعْرَج، أما بِنصب اللَّام فَمَعْنَاه:
وَيسمع قيله، فَهُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: {أم يحسبون أَنا لَا
نسْمع سرهم ونجواهم بلَى} أَي: بلَى نسْمع سرهم ونجواهم، ونسمع
قيله. وَقَالَ الزّجاج: ونعلم قيله، وَهُوَ رَاجع إِلَى
قَوْله: {وَعِنْده علم السَّاعَة} وَيعلم قيله. وَعَن بَعضهم:
" وقيله " أَي: وَقَالَ: قيله أَي: قَالَ: قَوْله من الشكوى
عَن الْكفَّار يَعْنِي: الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ.
وَأما الْقِرَاءَة بِكَسْر اللَّام فَمَعْنَاه: وَعِنْده علم
قيله، وَهُوَ عطف على قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْده علم
السَّاعَة} .
وَأما رفع اللَّام فعلى الِابْتِدَاء، فَكَأَنَّهُ قَالَ:
وَقَوله يارب، إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ.
(5/120)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قَوْله تَعَالَى: {فاصفح عَنْهُم} أَي:
أعرض عَنْهُم، وَهَذَا قبل نزُول آيَة السَّيْف. [فنسخت]
بِآيَة السَّيْف.
وَقَوله: {وَقل سَلام} أَي: قل مَا تسلم بِهِ عَن شرهم، قَالَ
الْحسن: " وَقل سَلام " أَي: احلم عَنْهُم. وَيُقَال: هَذَا
سَلام توديع، وَلَيْسَ بِسَلام تَحِيَّة.
وَقَوله: {فَسَوف يعلمُونَ} تهديد ووعيد.
(5/120)
|