تفسير السمعاني

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{حم (1) تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم (2) غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد}
تَفْسِير سُورَة الْمُؤمن

وَيُقَال: سُورَة الطول، وَهِي مَكِّيَّة

وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا وَقعت فِي آل حميم وَقعت فِي روضات أتأنق فِيهِنَّ، وَتسَمى الحواميم ديابيج الْقُرْآن. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن مثل الحواميم فِي الْقُرْآن مثل الحبرات فِي الثِّيَاب ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " من قَامَ بالحواميم فِي لَيْلَة غفر الله لَهُ ".

(5/5)


حم (1)

قَوْله تَعَالَى: {حم} قَالَ ابْن عَبَّاس: قسم أقسم الله بِهِ. وَقَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن. وَعَن بَعضهم: الْحَاء من (الْحَلِيم) ، وَالْمِيم من الْملك. وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: " الر " و " حم " و " نون والقلم " بمجموعها هُوَ اسْم الرَّحْمَن. وَيُقَال: " حم " مَعْنَاهُ: حم مَا هُوَ كَائِن أَي: قضى مَا هُوَ كَائِن. وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر: " حم " على نصب الْمِيم على معنى اتل حميم.
قَالَ الأشتر النَّخعِيّ شعرًا:
(يذكرنِي حميم وَالرمْح شَاجر ... فَهَلا تَلا حميم قبل التَّقَدُّم)
وَقَالَ الشَّاعِر فِي حم بِمَعْنى قضى:
(فَحم يومي فسر قوم ... كَأَن لَيْسَ للشامتين يَوْم)

(5/5)


تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)

وَقَوله: {تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم} أَي: المنيع فِي ملكه، الْعَلِيم بخلقه.

(5/5)


غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

قَوْله تَعَالَى: {غَافِر الذَّنب} أَي: سَاتِر الذَّنب.

(5/5)


{الْعقَاب ذِي الطول لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمصير (3) مَا يُجَادِل فِي آيَات الله إِلَّا الَّذين كفرُوا فَلَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد (4) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهمْ}
وَقَوله: {وقابل التوب} أَي: التَّوْبَة.
وَقَوله: {شَدِيد الْعقَاب} أَي: شَدِيد الْعقَاب للْكفَّار.
وَقَوله: {ذِي الطول} أَي: الْقُدْرَة. وَقيل: السعَة والغنى. وَيُقَال: هُوَ التَّفْضِيل. وَقَالَ بَعضهم: غَافِر الذَّنب لمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله. وروى حَمَّاد عَن ثَابت قَالَ ثَابت: كنت فِي فسطاط مُصعب بن الزبير أَقرَأ هَذِه الْآيَة {غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد الْعقَاب ذِي الطول} فَمر شيخ على بغلة شهباء، فَقَالَ لي: قل يَا غَافِر الذَّنب اغْفِر لي، وَيَا قَابل التوب اقبل تَوْبَتِي، وَيَا شَدِيد الْعقَاب [اعْفُ] عني، وياذا الطول طل عَليّ بِخَير، ثمَّ لم أر الشَّيْخ بعد.
وَقَوله {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمصير} أَي: الْمرجع.

(5/6)


مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)

قَوْله تَعَالَى: {مَا يُجَادِل فِي آيَات الله} أَي: فِي دفع آيَات الله بالتكذيب.
وَقَوله: {إِلَّا الَّذين كفرُوا} أَي: جَحَدُوا. وَقَوله: {فَلَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد} أَي: تقلبهم سَالِمين فِي الْبِلَاد. قَالَ ابْن جريج: لَا يغررك تِجَارَتهمْ من مَكَّة إِلَى الشَّام، وَمن الشَّام إِلَى الْيمن. وَفِي بعض التفاسير: أَن أَصْحَاب رَسُول الله قَالُوا متوجعين: نَحن فُقَرَاء، وَالْكفَّار مياسير ذُو أَمْوَال، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. فعلى هَذَا معنى قَوْله: {لَا يغررك تقلبهم فِي الْبِلَاد} أَي لَا يغررك يسارتهم وسعتهم.

(5/6)


كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)

قَوْله: {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهمْ} وهم الَّذين تحدثُوا على الْأَنْبِيَاء.
وَقَوله: {وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه} أَي: ليقتلوه. وَيُقَال: ليأسروه.

(5/6)


{وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق فَأَخَذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب (5) وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم أَصْحَاب النَّار (6) الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله يسبحون بِحَمْد رَبهم ويؤمنون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك وقهم}
وَالْعرب تسمي الْأَسير أخيذا، قَالَ الْأَزْهَرِي: ليأخذوه فيتمكنوا من قَتله.
وَقَوله: {وجادلوا بِالْبَاطِلِ} أَي: بالجدال الْبَاطِل ليدحضوا بِهِ الْحق. والجدال: هُوَ فتل الْخصم عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ بِحَق أَو بَاطِل، وَأما المناظرة لَا تكون إِلَّا بَين محقين، أَو بَين محق ومبطل، والجدال قد يكون بَين المبطلين.
وَقَوله: {فَأَخَذتهم} أَي: أخذتهم بالعقوبة.
وَقَوله: {فَكيف كَانَ عِقَاب} قَالَ قَتَادَة: شَدِيد وَالله.

(5/7)


وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ حقت كلمة رَبك على الَّذين كفرُوا} أَي: وَجب حكم رَبك على الَّذين كفرُوا أَنهم {أَصْحَاب النَّار} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/7)


الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يحملون الْعَرْش وَمن حوله} ذكر النقاش: أَن حَملَة الْعَرْش الكروبيون، وهم سادة الْمَلَائِكَة. وَفِي بعض التفاسير: أَن أَقْدَامهم فِي تخوم الْأَرْضين، والأرضون وَالسَّمَوَات إِلَى حُجَزهمْ، وهم يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزّ والجبروت، سحان ذِي الْملك والملكوت، سُبْحَانَ الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت، سبوح قدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح.
وَقَوله: {وَمن حوله} أَي: حول الْعَرْش.
وَقَوله: {يسبحون بِحَمْد رَبهم} قد بَينا.
وَقَوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما} أَي: وسع [علمك] ووسعت رحمتك كل شَيْء.
وَقَوله: {فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك} أَي: دينك وطاعتك.

(5/7)


{عَذَاب الْجَحِيم (7) رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم وَمن صلح من آبَائِهِم وأزواجهم وذرياتهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم (8) وقهم السَّيِّئَات وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم (9) إِن الَّذين كفرُوا ينادون لمقت الله}
وَقَوله: {وقهم عَذَاب الْجَحِيم} مَعْنَاهُ: وادفع عَنْهُم عَذَاب الْجَحِيم، والجحيم مُعظم النَّار. وَعَن بعض السّلف: أنصح الْخلق للْمُؤْمِنين هم الْمَلَائِكَة، وأغش الْخلق للْمُؤْمِنين هم الشَّيَاطِين.

(5/8)


رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)

قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا وأدخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم} بَينا أَن جنَّة عدن هِيَ بطْنَان الْجنَّة. وَيُقَال: مصر الْجنَّة.
وَقَوله: {وَمن صلح من آبَائِهِم} أَي: وَمن وحد من آبَائِهِم، وَيُقَال: وَمن عمل صَالحا من آبَائِهِم.
وَقَوله: {وأزواجهم وذرياتهم} أَي: وأهليهم وَأَوْلَادهمْ، قَالَ سعيد بن جُبَير: يدْخل الْمُؤمن الْجنَّة فَيَقُول: أَيْن أبي؟ أَيْن أُمِّي؟ أَيْن زَوْجَتي؟ فَيُقَال: إِنَّهُم لم يعملوا مثل عَمَلك، فَيَقُول: إِنِّي عملت لنَفْسي وَلَهُم، فيدخلهم الله الْجنَّة ويجمعهم إِلَيْهِ.
وَعَن بعض السّلف أَنه قَالَ: إِن الْمُؤمن يحب أَن يجمع شَمله، وَيضم إِلَيْهِ أَهله، فَيجمع الله شَمله، وَيضم إِلَيْهِ أَهله فِي الْآخِرَة.

(5/8)


وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

وَقَوله: {وقهم السَّيِّئَات} قد بَينا.
وَقَوله: {وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ} أَي: وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ أَي: الْعُقُوبَات، وَيُقَال: جَزَاء السَّيِّئَات.
وَقَوله: {فقد رَحمته} أَي: أَنْعَمت عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} يَعْنِي: النجَاة الْعَظِيمَة.

(5/8)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا ينادون} فِي التَّفْسِير: أَن الْكَافِر تعرض إِلَيْهِ أَعماله السَّيئَة فيمقت نَفسه أَشد المقت، فيناديهم الله تَعَالَى: {لمقت الله أكبر من مقتكم

(5/8)


{أكبر من مقتكم أَنفسكُم إِذْ تدعون إِلَى الْإِيمَان فتكفرون (10) قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحيينا اثْنَتَيْنِ فاعترفنا بذنوبنا فَهَل إِلَى خُرُوج فِي سَبِيل (11) ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعِي الله} أَنفسكُم) أَي: مقت الله إيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا أعظم من مقتكم الْيَوْم أَنفسكُم بِمَا ظهر لكم من أَعمالكُم السَّيئَة. وَقد حكى معنى هَذَا عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ بَعضهم: لمقت الله أياكم فِي الدُّنْيَا أكبر من مقت بَعْضكُم بَعْضًا، وَذَلِكَ حِين يتبرأ بَعضهم من بعض.
قَوْله: {إِذْ تدعون إِلَى الْإِيمَان فتكفرون} يَعْنِي: إِن مقت الله إيَّاكُمْ كَانَ لِأَن الله دعَاكُمْ إِلَى الْإِيمَان فكفرتم.

(5/9)


قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11)

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا رَبنَا أمتنَا اثْنَتَيْنِ وأحييتنا اثْنَتَيْنِ} الإماتة الأولى: هُوَ أَنهم كَانُوا نطفا فِي أصلاب الْآبَاء موتى، ثمَّ أحياهم بالخلق وَإِدْخَال الرّوح، ثمَّ يميتهم الْمَوْت الْمَعْلُوم الَّذِي لَا بُد من ذوقه، ثمَّ يحييهم يَوْم الْقِيَامَة. هَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَجَمَاعَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْإِحْيَاء الأول حِين أخرجهم من صلب آدم وَأخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق، ثمَّ أماتهم بِالرَّدِّ إِلَى الأصلاب، ثمَّ أحياهم بِالْإِخْرَاجِ ثَانِيًا، ثمَّ يميتهم الْمَوْت الْمَعْرُوف. فَإِن قيل: فَأَيْنَ الْحَيَاة فِي الْآخِرَة؟ قُلْنَا: المُرَاد على هَذَا القَوْل حياتان وموتتان فِي الدُّنْيَا سوى الْحَيَاة فِي الْآخِرَة.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الإماتة الأولى هُوَ الْمَوْت الْمَعْرُوف، والإحياء الأول هُوَ الْإِحْيَاء فِي الْقَبْر للمسائلة، والإماتة الثَّانِيَة هِيَ الإماتة بعد الْإِحْيَاء فِي الْقَبْر، والإحياء الثَّانِيَة هِيَ الْإِحْيَاء للبعث، هَكَذَا ذكره السدى.
وَقَوله: {فاعترفنا بذنوبنا} أَي خطايانا
وَقَوله {فَهَل إِلَى خُرُوج من سَبِيل} أَي: فَهَل إِلَى خُرُوج عَن النَّار من سَبِيل.

(5/9)


ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دعى الله وَحده كَفرْتُمْ} مَعْنَاهُ: أَن تخليدكم فِي النَّار

(5/9)


{وَحده كَفرْتُمْ وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير (12) هُوَ الَّذِي يريكم آيَاته وَينزل لكم من السَّمَاء رزقا وَمَا يتَذَكَّر إِلَّا من ينيب (13) فَادعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين وَلَو كره الْكَافِرُونَ (14) رفيع الدَّرَجَات ذُو الْعَرْش يلقِي الرّوح من أمره على من} ومكثكم فِيهَا كَانَ بِأَنَّهُ إِذا دعى الله وَحده كَفرْتُمْ.
{وَإِن يُشْرك بِهِ تؤمنوا} أَي: يُشْرك بِاللَّه تؤمنوا، أَي: تصدقوا بالشرك.
وَقَوله: {فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/10)


هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يريكم آيَاته} أَي: عبره ودلائله.
وَقَوله: {وَينزل لكم من السَّمَاء رزقا} أَي: الْمَطَر؛ لِأَنَّهُ سَبَب الأرزاق.
وَقَوله: {وَمَا يتَذَكَّر إِلَّا من ينيب} أَي: وَمَا يتعظ إِلَّا من يرجع إِلَى الله فِي جَمِيع أُمُوره.

(5/10)


فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)

قَوْله تَعَالَى: {فَادعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين} أَي: مُخلصين لَهُ التَّوْحِيد. وَمَعْنَاهُ: وحدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا.
وَقَوله: {وَلَو كره الْكَافِرُونَ} أَي: سخط الْكَافِرُونَ، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَلَو كره الْمُشْركُونَ} وَقد بَينا هَذَا من قبل.

(5/10)


رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)

قَوْله تَعَالَى: {رفيع الدَّرَجَات ذُو الْعَرْش} قَالَ ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة عَطاء: رَافع السَّمَوَات، سَمَاء فَوق سَمَاء. وَعَن بَعضهم: رَافع دَرَجَات الْأَنْبِيَاء والأولياء. وَقَالَ بَعضهم: رفيع الدَّرَجَات أَي: عَظِيم الصِّفَات، وَهُوَ رَاجع إِلَى الله تَعَالَى، قَالَه مقَاتل. قَالَ: الله فَوق كل شَيْء، وَلَيْسَ فَوْقه شَيْء.
وَقَوله: {ذُو الْعَرْش} أَي: لَهُ الْعَرْش خلقا وملكا.
وَقَوله: {يلقِي الرّوح من أمره} قَالَ مُجَاهِد: هُوَ الْوَحْي، وَسمي روحا؛ لِأَنَّهُ يحيا بِهِ الْخلق. وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ النُّبُوَّة. وَقيل: هُوَ جِبْرِيل يُرْسِلهُ على من يَشَاء من أنبيائه

(5/10)


{يَشَاء من عباده لينذر يَوْم التلاق (15) يَوْم هم بارزون لَا يخفى على الله مِنْهُم شَيْء لمن الْملك الْيَوْم لله الْوَاحِد القهار (16) الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت لَا ظلم} وروح الْإِنْسَان مَا يحيا بِهِ الْإِنْسَان.
وَقَوله: {من أمره} أَي: بأَمْره.
وَقَوله: {على من يَشَاء من عباده} من النَّبِيين وَالرسل.
وَقَوله: {لينذر يَوْم التلاق} الْمَعْرُوف بِالْيَاءِ، وَقُرِئَ بِالتَّاءِ.
بِالْيَاءِ أَي: لينذر الله، وَقيل: لينذر الْوَحْي. وَأما بِالتَّاءِ فَالْمُرَاد بِهِ الرَّسُول.
وَقَوله: {يَوْم التلاق} قَالَ قَتَادَة: يلتقي فِيهِ أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض، الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَعَن بَعضهم: يلتقي فِيهِ الْخلق والخالق. وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: يلتقي فِيهِ الظَّالِم والمظلوم. وَعَن ابْن عَبَّاس: يلتقي فِيهِ آدم وَآخر ولد من أَوْلَاده.

(5/11)


يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)

وَقَوله: {يَوْم هم بارزون} أَي: بادون ظاهرون وَلَا يتسترون بِشَيْء من جبل وَغَيره.
قَوْله تَعَالَى: {لَا يخفى على الله مِنْهُم شَيْء} أَي: من أَعْمَالهم.
وَقَوله: {لمن الْملك الْيَوْم} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَقُول الله تَعَالَى هَذَا حِين تفنى الْخَلَائق، وَلَا يكون أحد يجِيبه، فيجيب نَفسه [بِنَفسِهِ] وَيَقُول: لله الْوَاحِد القهار. وعَلى هَذَا عَامَّة الْمُفَسّرين. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن عمر وَغَيره أَن النَّبِي قَالَ: " يقبض الله السَّمَوَات وَالْأَرْض بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَهُزهُنَّ وَيَقُول: أَنا الْملك، أَيْن مُلُوك الأَرْض "؟
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يبْعَث الْخَلَائق ويحشرهم، ثمَّ يَقُول لَهُم: لمن الْملك الْيَوْم؟ فيجيبون: لله [الْوَاحِد] القهار.
وَقيل: إِنَّهُم لَا يقدرُونَ على الْجَواب هَيْبَة، فيجيب الله تَعَالَى نَفسه. وَالْقَوْل الأول

(5/11)


{الْيَوْم إِن الله سريع الْحساب (17) وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِر} هُوَ الْمَشْهُور.

(5/12)


الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)

قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت} أَي: المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
قَوْله: {لَا ظلم الْيَوْم} أَي: أَنه تَعَالَى يفعل مَا يفعل بِالْعَدْلِ لَا بالظلم.
وَقَوله: {أَن الله سريع الْحساب} فِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يحاسبهم فِي مِقْدَار نصف يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا. وَعَن الضَّحَّاك: مَا بَين صَلَاتَيْنِ. وَقيل: بِقدر شربة مَاء.
وَقد ثَبت أَن النَّبِي [قَالَ] : " أول مَا يقْضِي الله تَعَالَى بَين الْخلق فِي الدِّمَاء ".
وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى يَقُول يَوْم الْقِيَامَة: " أَنا الْملك الديَّان، لَا يَنْبَغِي لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة، وَلَا لأحد من أهل النَّار أَن يدْخل النَّار، وَعَلِيهِ مظْلمَة لأحد إِلَّا وأقتصه مِنْهُ ".

(5/12)


وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)

قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة} أَي: يَوْم الْقِيَامَة. وَسميت آزفة لقربها، كَأَنَّهَا قريبَة عِنْد الله تَعَالَى، وَإِن كَانَ النَّاس يستبعدونها. وَقيل: هِيَ قريبَة لِأَنَّهَا كائنة لَا محَالة، وكل كَائِن قريب.
وَقَوله: {إِذْ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِر} وَعَن عِكْرِمَة أَنه قَالَ: تضيق للنَّاس أَرض الْقِيَامَة، حَتَّى لَا يكون لأحد إِلَّا مَوضِع قدمه، ثمَّ يضيق لَهُم أَيْضا حَتَّى يوضع الْقدَم على الْقدَم، ثمَّ يَبْكُونَ حَتَّى تنفد دموعهم، ثمَّ يَبْكُونَ الدَّم حَتَّى ينْفد، ثمَّ تشخص قُلُوبهم إِلَى حَنَاجِرهمْ، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْذرهُمْ يَوْم الآزفة إِذْ الْقُلُوب لَدَى

(5/12)


{كاظمين مَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع يطاع (18) يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور (19) وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذين يدعونَ من دونه لَا يقضون بِشَيْء إِن الله هُوَ} الْحَنَاجِر [كاظمين] ) قَالَ قَتَادَة: ترْتَفع الْقُلُوب من الصُّدُور إِلَى الحلوق، وتلتصق بهَا من الْخَوْف والفزع، فَلَا هِيَ ترجع من أماكنها، وَلَا هِيَ تخرج.
وَقَوله: {كاظمين} الكاظم هُوَ الممسك على قلبه بِمَا فِيهِ. وَقيل: مغمومين مكروبين. وَيُقَال: بَاكِينَ. وَمن هَذَا كظم الغيظ إِذا أمْسكهُ (وصبر) عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وَمَا للظالمين من حميم وَلَا شَفِيع} الْحَمِيم: الْقَرِيب. وَالشَّفِيع: الَّذِي يَدْعُو فيجاب. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: استكثروا من أصدقاء الْمُؤمنِينَ فَإِن لَهُم شَفَاعَة عِنْد الله تَعَالَى.
وَقَوله: {يطاع} أَي: يُجَاب.

(5/13)


يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)

وَقَوله: {يعلم خَائِنَة الْأَعْين. أَي: خِيَانَة الْأَعْين وخيانة الْأَعْين مسارعة النّظر إِلَى مَا لَا يحل.
قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الرجل يكون بَين الرِّجَال، فتمر بهم امْرَأَة فَينْظر إِلَيْهَا، فَإِذا نظر إِلَيْهِ أَصْحَابه غض بَصَره. قَالَ السدى: خَائِنَة الْأَعْين هُوَ الرص بِالْعينِ.
وَقَوله: {وَمَا تخفي الصُّدُور} هُوَ شَهْوَة الْقلب. وَقيل: هُوَ أَنه لَو قدر عَلَيْهَا هَل يزنى أَو لَا؟
وَعَن السدى قَالَ: هُوَ وَسْوَسَة الْقلب. وَعَن بَعضهم قَالَ (خِيَانَة الْعين) أَن يَقُول: رَأَيْت وَلم ير، وخيانة الْقلب هُوَ أَن يَقُول: علمت وَلم يعلم.

(5/13)


وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

وَقَوله: {وَالله يقْضِي بِالْحَقِّ} أَي: بِالْعَدْلِ.
وَقَوله: {وَالَّذين يدعونَ من دونه} أَي: الْأَصْنَام وَمَا أشبههَا.

(5/13)


{السَّمِيع الْبَصِير (20) أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبلهم كَانُوا هم أَشد مِنْهُم قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم من الله من واق (21) ذَلِك بِأَنَّهُم كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفرُوا فَأَخذهُم الله إِنَّه قوي شَدِيد الْعقَاب (22) وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين (23) إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب (24) فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا}
وَقَوله: {لَا يقضون بِشَيْء} أَي: لَا يحكمون بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَيْدِيهِم شَيْء.
وَقَوله: {إِن الله هُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/14)


أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)

قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا هم أَشد مِنْهُم قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض} الْآثَار فِي الأَرْض: هُوَ الْأَبْنِيَة والمساكن وَسَائِر العمارات.
وَقَوله: {فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم من الله من واق} أَي: لم يكن لَهُم من يمنعهُم من الله.

(5/14)


ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك بِأَنَّهُم كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات والمعجزات.
وَقَوله: {فَكَفرُوا فَأَخذهُم الله إِنَّه قوي شَدِيد الْعقَاب} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/14)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وسلطان مُبين} أَي: بالمعجزات الْبَيِّنَة وَالْحجّة الظَّاهِرَة.

(5/14)


إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)

وَقَوله: {إِلَى فِرْعَوْن وهامان وَقَارُون فَقَالُوا سَاحر كَذَّاب} أَي: كثير الْكَذِب. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: لم يكن هامان من بني إِسْرَائِيل، وَلَا من القبط، وَكَانَ من غير الْفَرِيقَيْنِ. وَقد طعن بَعضهم فَقَالَ: إِن هامان رجل مَعْرُوف (بَين) الْفرس، وَلم يكن صَاحب فِرْعَوْن. وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون فِي الْفرس رجل يُسمى هامان، وَكَانَ

(5/14)


{اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه واستحيوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال (25) وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى وليدع ربه إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ أَو أَن يظْهر فِي} صَاحب فِرْعَوْن هُوَ هامان، فَكل مَا فِي الْقُرْآن حق وَصدق.

(5/15)


فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ من عندنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبنَاء الَّذين آمنُوا مَعَه} فِي الْقِصَّة: أَن فِرْعَوْن كَانَ رفع الْقَتْل عَن أَوْلَاد بني إِسْرَائِيل؛ فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى إِلَيْهِ رَسُولا أعَاد الْقَتْل عَلَيْهِم.
وَقَوله: {واستحيوا نِسَاءَهُمْ} قد بَينا.
وَقَوله: {وَمَا كيد الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال} أَي: فِي هَلَاك، وَإِنَّمَا جعل كيدهم هَلَاكًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى هلاكهم.

(5/15)


وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن ذروني أقتل مُوسَى} فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن الَّذِي كَانَ يمْنَع فِرْعَوْن من قتل مُوسَى حَتَّى يَقُول ذروني أقتل مُوسَى؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: ذروني أقتل مُوسَى أَي: أَشِيرُوا عَليّ بقتل مُوسَى، كَأَنَّهُ طلب المشورة مِنْهُم أَيَقْتُلُهُ أَو لَا يقْتله؟
وَالثَّانِي: كَانَ فِي جملَة قومه من يحذرهُ من قتل مُوسَى خوفًا من هَلَاك فِرْعَوْن، فَقَالَ على هَذَا: ذروني، لَا تَمْنَعُونِي واتركوني أَقتلهُ.
وَقَوله: {وليدع ربه} أَي: وليدع ربه لِيَنْصُرهُ. قَالَ هَذَا على طَرِيق الاستبعاد.
وَقَوله: {إِنِّي أَخَاف أَن يُبدل دينكُمْ} أَي: يُبدل دينكُمْ الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ.
وَقَوله: {أَو أَن يظْهر فِي الأَرْض الْفساد} هَذَا بأَرْبعَة وُجُوه " أَن يظهرا "، و " أَن يظْهر " بِغَيْر ألف، " أَو أَن يظهرا " مَعَ الْألف وَنصب الْيَاء، " وَأَن يظْهر " بِغَيْر الْألف وَنصب الْيَاء، وَمعنى يظْهر أَي: يظْهر مُوسَى الْفساد، وَمعنى يظْهر بِفَتْح الْيَاء أَي: يظْهر الْفساد كَأَنَّهُ جعل الْفِعْل للْفَسَاد بِعَيْنِه. وَقَالَ بَعضهم: معنى الْفساد هَاهُنَا: أَن

(5/15)


{الأَرْض الْفساد (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب (27) وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم} مُوسَى إِذا ظهر يقتل أبناءكم، ويستحي نساءكم كَمَا فَعلْتُمْ أَنْتُم بهم، فَهُوَ إِظْهَار مُوسَى الْفساد فِي الأَرْض.

(5/16)


وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عذت بربي وربكم} قَالَ أهل التَّفْسِير: لما سمع مُوسَى كَلَام فِرْعَوْن استعاذ بِاللَّه والتجأ إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنِّي عذت بربي وربكم.
وَقَوله: {من كل متكبر} أَي: من كل متعظم {لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب} وَيَوْم الْحساب: يَوْم الْقِيَامَة.

(5/16)


وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن} قَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ كَانَ من ولي الْعَهْد لفرعون، وَكَانَ يكون لَهُ من بعده، وَيُقَال: كَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن. وَعَن بَعضهم: كَانَ من بني إِسْرَائِيل، وعَلى هَذَا القَوْل فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، فَمَعْنَاه: وَقَالَ رجل يكتم إيمَانه من آل فِرْعَوْن. وَأما اسْمه قَالَ بَعضهم: اسْمه حزبيل، وَفِي مَعَاني الزّجاج: أَن اسْمه سمْعَان، وَقيل: حبيب. وَفِي التَّفْسِير: أَنه لم يُؤمن من القبط إِلَّا ثَلَاثَة نفر: امْرَأَة فِرْعَوْن، وَمُؤمن آل فِرْعَوْن، وَالَّذِي جَاءَ فَقَالَ يَا مُوسَى إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك.
وَقَوله: {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} أَي: لِأَن قَالَ رَبِّي الله.
وَقَوله: {وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} أَي: بالدلالات الواضحات.
وَقَوله: {وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه} أَي: وبال كذبه.
وَقَوله: {وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} هَذِه آيَة مشكلة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {بعض الَّذِي يَعدكُم} وكل مَا وعده الرُّسُل ومُوسَى حق. وَالْجَوَاب عَن هَذَا من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن معنى قَوْله: {يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} أَي: كل الَّذِي يَعدكُم،

(5/16)


بعض الَّذِي يَعدكُم إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب (28) يَا قوم لكم الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الأَرْض فَمن ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْن مَا أريكم إِلَّا مَا) فَيكون الْبَعْض بِمَعْنى الْكل، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَأنْشد:
(أَو يرتبط بعض النُّفُوس حمامها ... )
أَي: كل النُّفُوس
وَأنْشد غَيره:
(قد يدْرك المتأني بعض حَاجته ... وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل ... )
وَقَوله: بعض حَاجته أَي: كل حَاجته.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه قَالَ: {بعض الَّذِي يَعدكُم} على طَرِيق الِاسْتِظْهَار، كَأَنَّهُ قَالَ: أقل مَا فِي تكذيبكم إِن كَانَ صَادِقا أَن يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم. وَفِي ذَلِك الْبَعْض هلاككم. وَزعم أهل النَّحْو أَن هَذَا أحسن من الأول؛ لِأَن الْبَعْض بِمَعْنى الْكل لَا يعرف فِي اللُّغَة.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن قَوْله: {يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} أَي: عَذَاب الدُّنْيَا، وَقد كَانَ وعدهم عَذَاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن قَوْله: {يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} أَي: من الْعقَاب، وَقد كَانَ وعد الْعقَاب إِن أَنْكَرُوا، وَالثَّوَاب إِن صدقُوا، وَالْعِقَاب بعض الْوَعيد.
وَقَوله: {إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب} أَي: مُشْرك كَذَّاب.

(5/17)


يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)

قَوْله تَعَالَى: {يَا قوم لكم الْملك الْيَوْم ظَاهِرين فِي الأَرْض} أَي: عالين غَالِبين.
وَقَوله: {فَمن ينصرنا من بَأْس الله إِن جَاءَنَا} أَي: من يمْنَع منا عَذَاب الله إِن جَاءَنَا.
وَقَوله: {قَالَ فِرْعَوْن مَا أريكم إِلَّا مَا أرى} يَعْنِي: مَا أرشدكم إِلَّا إِلَى مَا أَنا عَلَيْهِ،

(5/17)


{أرى وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد (29) وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب (30) مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد (31) وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد} وَمَا رَأَيْت لكم من الْحق.
وَقَوله: {وَمَا أهديكم إِلَّا سَبِيل الرشاد} أَي: طَرِيق الرشد وَالْهَدْي. وَعَن معَاذ بن جبل أَنه قَرَأَ: " إِلَّا سَبِيل الرشاد " بتَشْديد الشين أَي: سَبِيل الله، والرشاد هُوَ الله تَعَالَى.

(5/18)


وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب} الْأَحْزَاب: الْأُمَم الخالية مثل: قوم نوح، وَعَاد، وَثَمُود، وَمعنى يَوْم الْأَحْزَاب أَي: يَوْم عَذَابهمْ.

(5/18)


مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)

وَقَوله: {مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود} الدأب فِي اللُّغَة بِمَعْنى الْعَادة، وَمعنى قَوْله: {مثل دأب قوم نوح} أَي: مثل حَال قوم نوح وَعَاد وَثَمُود. وَيُقَال: كذب هَؤُلَاءِ وتعودوا التَّكْذِيب مثل عَادَة أُولَئِكَ فِي التَّكْذِيب.
وَقَوله: {وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} مَعْنَاهُ: أَنه لَا يعذب أحدا حَتَّى يُقيم الْحجَّة عَلَيْهِ.

(5/18)


وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد} يَعْنِي: يَوْم التنادي. وَفِي معنى التنادي وُجُوه: أَحدهَا: أَنه تنادى كل أمة بكتابها وإمامها، قَالَه قَتَادَة.
وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ: تنادى أهل الْجنَّة أهل النَّار، وَأهل النَّار أهل الْجنَّة، وَذَلِكَ وذكور فِي سُورَة الْأَعْرَاف، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار أَن قد وجدنَا مَا وعدنا رَبنَا حَقًا} الْآيَة، وَقَوله: {ونادى أَصْحَاب النَّار أَصْحَاب الْجنَّة} الْآيَة.

(5/18)


{يَوْم تولون مُدبرين مَا لكم من الله من عَاصِم وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد (33) وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن}
وَالثَّالِث: أَن معنى الْآيَة مناداتهم بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور ودعاؤهم على أنفسهم: واهلاكاه، واويلاه، وَغير ذَلِك. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " يَوْم التناد " بتَشْديد الدَّال، من ند يند إِذا هرب، وَحكى هَذِه الْقِرَاءَة عَن الضَّحَّاك، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {أَيْن المفر} وَعَن بَعضهم: يظْهر عنق من النَّار فيفر النَّاس، فيحيط بهم ذَلِك الْعُنُق، حِينَئِذٍ يعلمُونَ أَن لَا مفر لَهُم.

(5/19)


يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)

وَقَوله: {يَوْم تولون مُدبرين} فِي الحَدِيث أَن للنَّاس جَوْلَة يَوْم الْقِيَامَة، فيتبعهم الْمَلَائِكَة ويردونهم. وَقيل: إِنَّهُم إِذا سمعُوا زفير النَّار فروا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم تولون مُدبرين} وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {يَوْم تولون مُدبرين} هُوَ انطلاقهم إِلَى النَّار بسوق الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {مَا لكم من الله من عَاصِم} أَي: مَانع، وَقيل: نَاصِر.
وَقَوله: {وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/19)


وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ} هُوَ يُوسُف بن يَعْقُوب نَبِي الله. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى أرسل إِلَيْهِم يَعْنِي: إِلَى القبط نَبيا من الْجِنّ يُسمى يُوسُف، وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَالصَّحِيح هُوَ الأول؛ لِأَنَّهُ أطلق ذكر يُوسُف، فَيَنْصَرِف إِلَى يُوسُف الْمَعْرُوف مثل إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهم. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى بعث يُوسُف بن يَعْقُوب إِلَيْهِم رَسُولا فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى، وَمكث فيهم عشْرين سنة بعد وَفَاة يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: {بِالْبَيِّنَاتِ} أَي: بالدلالات الواضحات.
وَقَوله: {فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا} وَقَرَأَ أبي وَابْن مَسْعُود: " ألن يبْعَث الله من بعده رَسُولا " بِزِيَادَة الْألف.

(5/19)


{يبْعَث الله من بعده رَسُولا كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب (34) الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار (35) وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي}
وَقَوله: {كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب} أَي: مُسْرِف على نَفسه بالْكفْر وَالظُّلم، والمرتاب هُوَ الشاك.

(5/20)


الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم} فَمَعْنَى المجادلة هُوَ المجادلة بالتكذيب، وَمعنى السُّلْطَان هُوَ الْحجَّة.
وَقَوله: {كبر مقتا} أَي: كبر جدالهم مقتا، وَفِي التَّفْسِير: أَنه يمقتهم الله تَعَالَى، ويمقتهم الْمَلَائِكَة والأنبياء، ويمقتهم الْمُؤْمِنُونَ، وَهُوَ معنى قَوْله: {عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا} .
وَقَوله: {كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار} فالقراءة الأولى على الْإِضَافَة، والطبع على الْقلب هُوَ الْخَتْم عَلَيْهِ حَتَّى لَا يدْخلهُ الْحق.
وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة فَهِيَ على وصف الْقلب بالتكبر، يُقَال: قلب متكبر أَي: صَاحبه متكبر، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " على قلب كل متكبر جَبَّار ".

(5/20)


وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْن يَا هامان} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كَانَ هامان صَاحب شَرط فِرْعَوْن، فَكَانَ من هَمدَان، أوردهُ أَبُو الْحسن بن فَارس فِي تَفْسِيره.
وَقَوله: {ابْن لي صرحا} أَي: قصرا عَالِيا، وَيُقَال: إِن أول من طبخ اللَّبن حَتَّى صَار آجرا هُوَ هامان، فعله لفرعون. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن هامان اسْتعْمل خمسين ألف إِنْسَان فِي الْبناء سوى من يطْبخ الْآجر، وَمن يعْمل فِي الْخشب وَغَيره.
وَيُقَال: إِنَّه عمل فِي بِنَاء الصرح سبع سِنِين، وَكَانَ فِرْعَوْن يصعد عَلَيْهِ رَاكِبًا، ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث ريحًا عاصفا فَجعله ثَلَاث قطع، فَألْقى قِطْعَة فِي الْبَحْر، وَقطعَة بِالْهِنْدِ، وَقطعَة بِبِلَاد الْمغرب.

(5/20)


{أبلغ الْأَسْبَاب (36) أَسبَاب السَّمَوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب (37) وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعون أهدكم سَبِيل الرشاد (38) يَا قوم إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار (39) من عمل سَيِّئَة فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وَمن عمل صَالحا}
وَقَوله: {لعلى أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَوَات} والأسباب هِيَ الْأَبْوَاب هَاهُنَا. وَيُقَال مَعْنَاهُ: الْأَسْبَاب الَّتِي تؤديني إِلَى السَّمَاء، وتبلغني إِلَيْهَا. فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا فِي عقل عَاقل أَن يقْصد صعُود السَّمَاء، وَذَلِكَ مُسْتَحِيل بِهَذِهِ الْحِيلَة؟
وَالْجَوَاب: أَن الْجَهْل فِي الْعَالم كثير، وَلَيْسَ هَذَا بأبدع من ادعائه الربوبية، وَهُوَ يعرف حَال نَفسه ويشاهدها.
وَقَوله: {فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى} أَي: أنظر إِلَى إِلَه مُوسَى.
وَقَوله: {وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا} فِي دَعْوَاهُ أَن لَهُ إِلَهًا.
وَقَوله: {وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله} أَي: قَبِيح عمله.
وَقَوله: {وَصد عَن السَّبِيل} وَقُرِئَ: " وَصد " بِنصب الصَّاد، فَقَوله بِالرَّفْع أَي: صد فِرْعَوْن عَن السَّبِيل. وَبِالنَّصبِ أَي: وَصد فِرْعَوْن النَّاس عنة سَبِيل الله.
وَقَوله: {وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تباب} أَي: وَمَا حِيلَة فِرْعَوْن ومكره إِلَّا فِي هَلَاك وخسران، وَقَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ أدّى إِلَيْهِ.

(5/21)


وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعوني أهدكم سَبِيل الرشاد} أَي: سَبِيل الرشد.

(5/21)


يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)

وَقَوله: {يَا قوم إِنَّمَا هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع} أَي: سريع فناؤه، والتمتع بِهِ قَلِيل.
وَقَوله: {وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار} أَي: المستقر.

(5/21)


مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)

قَوْله تَعَالَى: {من عمل سَيِّئَة فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وَمن عمل صَالحا من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب} أَي: بِغَيْر انْقِطَاع،

(5/21)


{من ذكر أَو أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب (40) وَيَا قوم مَا لي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار (41) تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَأَنا أدعوكم إِلَى الْعَزِيز الْغفار (42) لَا جرم أَنما تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَأَن مردنا إِلَى الله وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار (43) فستذكرون مَا أَقُول لكم وأفوض أَمْرِي إِلَى الله إِن الله بَصِير بالعباد (44) } وَيُقَال: بِغَيْر حِسَاب أَي: لَا يحْسب عَلَيْهِم قدر مكثهم فِي الْجنَّة واستمتاعهم، فَيَقُول: مكثهم كَذَا، وأكلهم كَذَا، وفعلهم كَذَا. وَقيل: بِغَيْر حِسَاب أَي: يزِيد فِي مُدَّة بقائهم فِي الْجنَّة على مُدَّة أَعْمَالهم إِلَى مَا لَا يتناهى من الْمدَّة.

(5/22)


وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)

قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار تدعونني لأكفر بِاللَّه وأشرك بِهِ مَا لَيْسَ لي بِهِ علم وَأَنا أدعوكم إِلَى الْعَزِيز الْغفار} الْعَزِيز هُوَ المنتقم من أعدائه، والغفار هُوَ السَّاتِر لذنوب عباده.

(5/22)


لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)

قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم} قد بَينا مَعْنَاهُ فِيمَا سبق، وَعَن الْمفضل الضَّبِّيّ الْكُوفِي أَنه قَالَ: لَا جرم أَي: لابد.
وَقَوله: {أَنما تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة} أَي: استجابة دَعْوَة فِي الدُّنْيَا. وَيُقَال: إِيصَال نفع فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة. وَيُقَال: جَوَاب قَوْله: {فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة} .
وَقَوله: {وَأَن مردنا إِلَى الله} أَي: مرجعنا إِلَى الله.
وَقَوله: {وَأَن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار} أَي: الْمُشْركين.

(5/22)


فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)

قَوْله تَعَالَى: {فستذكرون مَا أَقُول لكم} يَعْنِي: حِين تعاينون الْعَذَاب.
وَقَوله: {وأفوض أَمْرِي إِلَى الله} أَي: أسلم أَمْرِي إِلَى الله، وَقَالَ يحيى بن سَلام: أَي: أتوكل على الله.
وَقَوله: {أَن الله بَصِير بالعباد} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/22)


{فوقاه الله سيئات مَا مكروا وحاق بآل فِرْعَوْن سوء الْعَذَاب (45) النَّار يعرضون عَلَيْهَا}

(5/23)


فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)

قَوْله تَعَالَى: {فوقاه الله سيئات مَا مكروا} اخْتلف القَوْل فِي نجاته، مِنْهُم من قَالَ: نجا حِين نجا مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيل، وَذَلِكَ عِنْد مُجَاوزَة الْبَحْر. وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قُدَّام مُوسَى حِين توجهوا إِلَى الْبَحْر، فَقَالَ: إِلَى أَيْن يَا نَبِي الله؟
قَالَ: أمامك.
فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَامِي الْبَحْر.
فَقَالَ: وَالله مَا كذبت وَمَا كذبت.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مُؤمن آل فِرْعَوْن لما قَالَ هَذِه الْأَقْوَال، ونصح هَذِه النَّصِيحَة طلبه فِرْعَوْن ليَقْتُلهُ فهرب، فَبعث فِي طلب جمَاعَة، فوجدوه فِي حَبل يُصَلِّي وحواليه السبَاع يحرسونه ففزعوا وَرَجَعُوا.
وَقَوله: {وحاق بآل فِرْعَوْن} أَي: نزل بآل فِرْعَوْن، {سوء الْعَذَاب} أَي: الْعَذَاب السيء.

(5/23)


النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)

قَوْله تَعَالَى: {النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} أَكثر الْمُفَسّرين أَن هَذَا فِي الْقَبْر. وَمن الْمَعْرُوف عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أَرْوَاح آل فِرْعَوْن فِي حواصل طير سود يردون النَّار غدوا وعشيا. وَقد ثَبت بِرِوَايَة مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: " إِن أحدكُم إِذا مَاتَ يعرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشي، إِن كَانَ من أهل فالجنة، وَإِن كَانَ من أهل النَّار النَّار، وَيُقَال: هَذَا مَقْعَدك يَوْم الْقِيَامَة ". قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق الْكشميهني، أخبرنَا أَبُو الْهَيْثَم جدي، أخبرنَا الْفربرِي، أخبرنَا البُخَارِيّ، أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، عَن مَالك ... الحَدِيث.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَنه الْعرض على النَّار يَوْم الْقِيَامَة.

(5/23)


{غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب (46) وَإِذ يتحاجون فِي النَّار فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا إِنَّا كُنَّا لكم تبعا فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار}
قَالَ الْفراء: وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب، النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا، وَهَذَا قَول فَاسد، وَالصَّحِيح هُوَ الأول.
وَقَوله: {وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} قرئَ: " ادخُلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب " على الْأَمر لآل فِرْعَوْن بِالدُّخُولِ.
وَقُرِئَ: {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} على الْأَمر لخزنة النَّار.
وَالدَّلِيل على أَن الصَّحِيح هُوَ القَوْل الأول أَنه قَالَ: {يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا} إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة، فَهُوَ الإدخال حَقِيقَة لَا الْعرض، وَإِنَّمَا الْعرض فِي الْقَبْر على مَا ورد فِي الحَدِيث. وَفِي بعض التفاسير: أَن الْكَافِر يحيا فِي الْقَبْر كل غدْوَة وَعَشِيَّة حَتَّى ينظر إِلَى مَقْعَده من النَّار، ثمَّ يميته الله تَعَالَى ثَانِيًا، فَيكون نظره إِلَى مَقْعَده من النَّار أَشد عَلَيْهِ من مَوته، وَهُوَ قَول شَاذ.
وَأما آل فِرْعَوْن فَهُوَ فِرْعَوْن وَقَومه، وَقيل: فِرْعَوْن نَفسه.
قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَا تبك مَيتا بعد ميت أحبة ... عَليّ وعباس وَآل أبي بكر)
مَعْنَاهُ: وَأبي بكر نَفسه. وروى عَن عبد الله بن أوفى أَنه قَالَ: أتيت رَسُول الله بِصَدقَة بعثها أبي إِلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ صل على آل أبي أوفى ". أَي: أبي أوفى نَفسه.

(5/24)


وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ يتحاجون فِي النَّار} أَي: يتخاصمون فِي النَّار.
وَقَوله: {فَيَقُول الضُّعَفَاء للَّذين استكبروا} أَي: الأتباع قَالُوا للقادة.

(5/24)


{قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا كل فِيهَا إِن الله قد حكم بَين الْعباد (48) وَقَالَ الَّذين فِي النَّار لخزنة جَهَنَّم ادعوا ربكُم يُخَفف عَنَّا يَوْمًا من الْعَذَاب (49) قَالُوا أَو لم تَكُ تَأْتيكُمْ رسلكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بلَى قَالُوا فَادعوا وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال (50) }
وَقَوله: {إِنَّا كُنَّا لكم تبعا} أَي: أتباعا.
وَقَوله: {فَهَل أَنْتُم مغنون عَنَّا نَصِيبا من النَّار} أَي: هَل تتحملون عَنَّا بعض عَذَاب النَّار؟

(5/25)


قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا كل فِيهَا} أَي: القادة والأتباع جَمِيعًا.
وَقَوله: {إِن الله قد حكم بَين الْعباد} أَي: فصل بَين الْعباد فَأدْخل أهل الْجنَّة الْجنَّة، وَأهل النَّار النَّار.

(5/25)


وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين فِي النَّار لخزنة جَهَنَّم} فِي الْقِصَّة: أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك بعد أَن دعوا الله تَعَالَى ألف عَام، وَلم يرَوا إِجَابَة.
وَقَوله: {ادعوا ربكُم يُخَفف عَنَّا يَوْمًا من الْعَذَاب} أَي: يَوْمًا وَاحِدًا من أَيَّام الدُّنْيَا.

(5/25)


قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)

قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا أَو لم تَكُ تَأْتيكُمْ رسلكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بلَى فَادعوا وَمَا دُعَاء الْكَافرين إِلَّا فِي ضلال} أَي: فِي هَلَاك وَبطلَان، وَمَعْنَاهُ: أَن دعاءهم غير مستجاب.

(5/25)


إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)

قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لننصر رسلنَا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: بإيضاح الْحجَّة. وَقَالَ غَيره: بالانتقام من أعدائهم. وَعَن السدى قَالَ: الْأَنْبِيَاء قد تولى الله نصرتهم، وَإِن قتلوا فِي الدُّنْيَا، فَإِن الله يبْعَث من بعدهمْ من ينْتَقم لَهُم من أعدائهم.
وَقَوله: {وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: وينصر الَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا.
وَقَوله: {وَيَوْم يقوم الأشهاد} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
والأشهاد جمع شَاهد، كالأصحاب جمع صَاحب. وَيُقَال: شَهِيد وأشهاد مثل:

(5/25)


{إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد (51) يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم وَلَهُم اللَّعْنَة وَلَهُم سوء الدَّار (52) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْهدى وأورثنا بني إِسْرَائِيل الْكتاب (53) هدى وذكرى لأولي الْأَلْبَاب (54) فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي والأبكار (55) إِن الَّذين يجادلون فِي} شرِيف وأشراف.

(5/26)


يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)

قَوْله تَعَالَى: {يَوْم لَا ينفع الظَّالِمين معذرتهم} أَي: اعتذارهم؛ لِأَنَّهُ لَا عذر لَهُم {وَلَهُم اللَّعْنَة} أَي: عَلَيْهِم اللَّعْنَة {وَلَهُم سوء الدَّار} أَي: الدَّار السَّيئَة، وَهِي النَّار.

(5/26)


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْهدى} أَي: النُّبُوَّة.
وَقَوله: {وأورثنا بني إِسْرَائِيل الْكتاب} أَي: التَّوْرَاة.

(5/26)


هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)

وَقَوله: {هدى وذكرى لأولي الْأَلْبَاب} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/26)


فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)

قَوْله: تَعَالَى: {فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك} تمسك من جوز الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء بِهَذِهِ الْآيَة، فَأَمرهمْ بالاستغفار عَن الصَّغَائِر. وَمن لم يجوز الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء [قَالَ] : إِنَّه أَمر بالاستغفار تعبدا؛ لينال بذلك رضَا الله تَعَالَى، ويقتدي بِهِ من يَأْتِي بعده.
وَقَوله: {وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي وَالْإِبْكَار} أَي: صل شاكرا لِرَبِّك بالْعَشي وَالْإِبْكَار، والعشي من وَقت زَوَال الشَّمْس إِلَى الْغُرُوب، وَالْإِبْكَار مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس.

(5/26)


إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يجادلون فِي آيَات الله} أَي: فِي دفع آيَات الله بالتكذيب.
وَقَوله: {بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم} أَي: أَتَاهُم بِغَيْر حجَّة.

(5/26)


{آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر مَا هم ببالغيه فاستعذ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير (56) لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس}
وَقَوله: {إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر} أَي: مَا فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر. وَالْكبر الَّذِي فِي صُدُورهمْ هُوَ الاستكبار عَن الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ. وَيُقَال: طلب الْغَلَبَة والعلو علو مُحَمَّد.
وَقَوله: {مَا هم ببالغيه} أَي: مَا هم ببالغي إرادتهم، وَكَانَ مُرَادهم أَن يهْلك مُحَمَّد وَيهْلك أَصْحَابه، ويندرس أَثَره ويصيروا حِكَايَة. وَيُقَال: كَانَ مُرَادهم أَن يغلبوا مُحَمَّدًا ويعلو أَمرهم أمره. وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث، قَالَه ابْن جريج وَغَيره.
(وَهَذَا أَن) الْآيَة نزلت فِي الْيَهُود فَكَانُوا يَقُولُونَ: يخرج منا فِي آخر الزَّمَان من يغلب على جَمِيع الأَرْض، وَيكون الْبَحْر إِلَى رُكْبَتَيْهِ، والسحاب على رَأسه، وَيقتل ويحيي، وَمَعَهُ جبل من جنَّة، وجبل من نَار. قَالُوا: يَعْنِي أهل الْعلم وَهُوَ الدَّجَّال الَّذِي ذكره الرَّسُول، فَلَمَّا قَالُوا هَذَا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَمعنى قَوْله: {مَا هم ببالغيه} على هَذَا القَوْل أَن الْغَلَبَة لَا تكون للدجال على الْمُسلمين، بل تكون للْمُسلمين على الدَّجَّال، فَإِن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ينزل وَيقتل الدَّجَّال نصْرَة للْمُسلمين.
وَقَوله: {فاستعذ بِاللَّه} أَي: من شرك الدَّجَّال على هَذَا القَوْل.
وَقَوله: {إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/27)


لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)

قَوْله تَعَالَى: {لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس} أَي: رفع السَّمَوَات بِغَيْر عمد، وإجراء الْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر فِي مجاريها، وَبسط الأَرْض، وَنصب الْجبَال أهول فِي قُلُوب النَّاس من خلق الْآدَمِيّين. وَيُقَال: لخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض أكبر من قتل الدَّجَّال وَاحِدًا وإحيائه، فَالنَّاس هَاهُنَا: هُوَ الدَّجَّال على هَذَا القَوْل.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ حَقِيقَة الْأُمُور.

(5/27)


{لَا يعلمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَلَا الْمُسِيء قَلِيلا مَا تتذكرون (58) إِن السَّاعَة لآتية لَا ريب فِيهَا وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ (59) وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي}

(5/28)


وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} إِلَى قَوْله: {قَلِيلا مَا تتذكرون} بِالتَّاءِ، وَقُرِئَ بِالْيَاءِ، وَالْمعْنَى قريب بعضه من بعض.

(5/28)


إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)

قَوْله تَعَالَى: {إِن السَّاعَة لآتية لَا ريب فِيهَا} أَي: لَا شكّ فِيهَا.
وَقَوله: {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يصدقون.

(5/28)


وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} قد ثَبت بِرِوَايَة نعْمَان بن بشير أَن النَّبِي قَالَ: " الدُّعَاء هُوَ الْعِبَادَة. وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة ".
وَعَن ثَابت قَالَ: قلت لأنس: الدُّعَاء نصف الْعِبَادَة، قَالَ: هُوَ كل الْعِبَادَة.
وَقَوله: {إِن الَّذين يَسْتَكْبِرُونَ عَن عبادتي} أَي: عَن دعائي، وَيُقَال: عَن توحيدي.
وَقَوله: {سيدخلون جَهَنَّم داخرين} أَي: صاغرين.
وَعَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: أَعْطَيْت هَذِه الْأمة (ثَلَاثًا) لم يُعْط أحد من الْأُمَم: قَالَ الله تَعَالَى لكل نَبِي من الْأَنْبِيَاء السالفة: أَنْت شَاهد على أمتك، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة: أَنْتُم شُهَدَاء على الْأُمَم، وَقَالَ الله تَعَالَى لكل نَبِي: مَا عَلَيْك فِي الدّين من حرج، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة: {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} وَقَالَ لكل نَبِي: ادْع أَسْتَجِب لَك، وَقَالَ لهَذِهِ الْأمة {ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم} .

(5/28)


{سيدخلون جَهَنَّم داخرين (60) الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ وَالنَّهَار مبصرا إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون (61) ذَلِكُم الله ربكُم خَالق كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون (62) كَذَلِك يؤفك الَّذين كَانُوا بآيَات الله يجحدون (63) الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا وَالسَّمَاء بِنَاء وصوركم فَأحْسن صوركُمْ ورزقكم من الطَّيِّبَات ذَلِكُم الله ربكُم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين (64) هُوَ الْحَيّ}

(5/29)


اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي جعل لكم اللَّيْل لتسكنوا فِيهِ} أَي: لتسترخوا فِيهِ من الْأَعْمَال، وَقيل: لتناموا.
وَقَوله: {وَالنَّهَار مبصرا} أَي: مبصرا فِيهِ، وَمَعْنَاهُ: أَن النَّاس يبصرون فِيهِ الْأَشْيَاء.
وَقَوله: {إِن الله لذُو فضل على النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يشكرون} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/29)


ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم الله ربكُم خَالق كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأنى تؤفكون} قد بَينا.

(5/29)


كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)

وَقَوله: {كَذَلِك يؤفك الَّذين كَانُوا بآيَات الله يجحدون} أَي: يصرف عَن الْحق من كَانَ مُشْركًا بِاللَّه جاحدا لآياته.

(5/29)


اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا} أَي: تستقرون فِيهَا، {وَالسَّمَاء بِنَاء} أَي: بناءة فَوْقكُم.
وَقَوله: {وصوركم فَأحْسن صوركُمْ} فِي التَّفْسِير: أَنه لَا يَأْكُل بِيَدِهِ [شَيْء] سوى الْآدَمِيّين، وَلَا صُورَة على هَذِه الصُّورَة أحسن من الْآدَمِيّين.
وَقَوله: {ورزقكم من الطَّيِّبَات} أَي: مِمَّا تستلذوها مِمَّا هُوَ حَلَال لكم.
وَقَوله: {ذَلِكُم الله ربكُم فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين} وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى وتعظم رب الْعَالمين عَمَّا يَقُول الْكفَّار.

(5/29)


{لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدّين الْحَمد لله رب الْعَالمين (65) قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله لما جَاءَنِي الْبَينَات من رَبِّي وَأمرت أَن أسلم لرب الْعَالمين (66) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ يخرجكم طفْلا ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أَََجَلًا مُسَمّى ولعلكم تعقلون (67) هُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت فَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون}

(5/30)


هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الْحَيّ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدّين} وَالدُّعَاء على الْإِخْلَاص أَلا يدعوا مَعَه سواهُ.
وَقَوله: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} روى عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: من السّنة أَن يَقُول العَبْد لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ يَقُول عقيبة: الْحَمد لله رب الْعَالمين.

(5/30)


قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)

قَوْله تَعَالَى: {قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله لما جَاءَنِي الْبَينَات من رَبِّي} أَي: الْحجَج الْوَاضِحَة.
وَقَوله: {وَأمرت أَن أسلم لرب الْعَالمين} أَي: أستسلم وأنقاد لحكمه.

(5/30)


هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ يخرجكم طفْلا} أَي: أطفالا، وَاحِدًا بِمَعْنى الْجمع، وَيُقَال: طفْلا طفْلا.
وَقَوله: {ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم} قد بَينا معنى الأشد.
وَقَوله: {ثمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ومنكم من يتوفى من قبل} أَي: من قبل أَن صَار شَيخا.
وَقَوله: {ولتبلغوا أَََجَلًا مُسَمّى} أَي: مَا قدر لكم من الْحَيَاة.
وَقَوله: {ولعلكم تعقلون} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/30)


هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت فَإِذا قضى أمرا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} أَي: تكوينه الْأَشْيَاء يكون بِمرَّة وَاحِدَة، لَا بِمرَّة بعد مرّة.

(5/30)


((68} ألم تَرَ إِلَى الَّذين يجادلون فِي آيَات الله أَنى يصرفون (69) الَّذين كذبُوا بِالْكتاب وَبِمَا أرسلنَا بِهِ رسلنَا فَسَوف يعلمُونَ (70) إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل يسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيم ثمَّ فِي النَّار يسجرون (72) ثمَّ قيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تشركون (73) من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا بل لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا كَذَلِك يضل الله الْكَافرين (74) ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون)

(5/31)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69)

وَقَوله تَعَالَى: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يجادلون فِي آيَات الله} أَي: يجادلون فِي دفع آيَاتنَا بالتكذيب.
وَقَوله: {أَنى يصرفون} أَي: كَيفَ يصرفون عَن الْحق.

(5/31)


الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)

قَوْله تَعَالَى: {الَّذين كذبُوا بِالْكتاب وَبِمَا أرسلنَا بِهِ رسلنَا فَسَوف يعلمُونَ} وَعِيد وتهديد.

(5/31)


إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)

قَوْله تَعَالَى: {إِذْ الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل} وَقُرِئَ: " والسلاسل " بِنصب اللَّام، فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع، فَمَعْنَاه: الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل، وَمن قَرَأَ بِالنّصب، فَمَعْنَاه: ويسحبون السلَاسِل.
وَقَوله: {يسْحَبُونَ فِي الْحَمِيم} أَي: يجرونَ فِي الْحَمِيم.
وَقَوله: {ثمَّ فِي النَّار يسجرون} أَي: يوقدون فِي النَّار كَمَا توقد التنانير بالخشب.

(5/31)


ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74)

قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ قيل لَهُم أَيْنَمَا كُنْتُم تَعْبدُونَ من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا} يَعْنِي: أَيْن هم لينصروكم؟ فَيَقُولُونَ: قد فاتوا وذهبوا عَنَّا.
وَقَوله: {بل لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا} أَي: لم نَكُنْ نَدْعُو من قبل شَيْئا يدْفع عَنَّا ضرا، أَو يجلب إِلَيْنَا نفعا.
وَقَوله: {كَذَلِك يضل الله الْكَافرين} أَي: عَن الْحق.

(5/31)


ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} هَذَا دَلِيل على أَنه

(5/31)


((75} ادخُلُوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين (76) فاصبر إِن وعد الله حق فإمَّا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فإلينا يرجعُونَ (77) وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك وَمَا كَانَ لرَسُول أَن) قد يكون فَرح بِحَق.
وَقَوله: {وَبِمَا كُنْتُم تمرحون} الْفَرح: السرُور. والمرح والبطر والأشر. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى يبغض البذخين الفرحين المرحين، وَيُحب كل قلب حَزِين، وَيبغض الحبر السمين، وَيبغض أهل بَيت اللحمين أَي: الَّذين يكثرون أكل اللَّحْم، وَيُقَال: الَّذين يَأْكُلُون لُحُوم النَّاس بالغيبة. وَالْخَبَر غَرِيب.

(5/32)


ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

وَقَوله: {فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/32)


فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)

قَوْله تَعَالَى: {فاصبر إِن وعد الله حق} إِلَى آخر الْآيَة. ظَاهر الْمَعْنى.

(5/32)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد أرسلنَا رسلًا من قبلك مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك} قَالَ السدى: بعث الله تَعَالَى ثَمَانِيَة آلَاف نَبيا: أَرْبَعَة آلَاف من بني إِسْرَائِيل، وَأَرْبَعَة آلَاف من غير بني إِسْرَائِيل. وَفِي بعض التفاسير: أَن جَمِيع من ذكرهم الله تَعَالَى [فِي] الْقُرْآن من الْأَنْبِيَاء خَمْسَة وَعِشْرُونَ نَبيا، أَوَّلهمْ آدم، وَآخرهمْ مُحَمَّد، ذكر ثَمَانِيَة عشر مِنْهُم فِي سُورَة الْأَنْعَام، والباقين فِي غَيرهَا. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن الله تَعَالَى بعث نَبيا حَبَشِيًّا لم يذكر اسْمه فِي الْقُرْآن. وَأما الَّذِي فِي أَفْوَاه النَّاس أَن الله تَعَالَى بعث مائَة وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألف نَبِي.

(5/32)


{يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله فَإِذا جَاءَ أَمر الله قضي بِالْحَقِّ وخسر هُنَالك المبطلون (78) الله الَّذِي جعل لكم الْأَنْعَام لتركبوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلكم فِيهَا مَنَافِع ولتبلغوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صدوركم وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون (80) ويريكم آيَاته فَأَي آيَات الله تنكرون (81) أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم} وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس بِرِوَايَة ضَعِيفَة.
وَقَوله: {وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي إِلَّا بِإِذن الله} هَذَا جَوَاب للْكفَّار، سَأَلُوا النَّبِي معْجزَة بِعَيْنِه، وَقَالُوا: افْعَل كَذَا وَكَذَا، فَرد الله عَلَيْهِم ذَلِك بقوله: {وَمَا كَانَ لرَسُول أَن يَأْتِي بِآيَة إِلَّا بِإِذن الله} .
وَقَوله: {فَإِذا جَاءَ أَمر الله قضى بِالْحَقِّ وخسر هُنَالك المبطلون} أَي: هلك عِنْد ذَلِك المبطلون.
وَقَوله: {أَمر الله} أَرَادَ بِهِ الْقِيَامَة.

(5/33)


اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)

قَوْله تَعَالَى: {الله الَّذِي جعل لكم الْأَنْعَام لتركبوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قَالَ أهل التَّفْسِير: الْأَنْعَام هِيَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم فِي اللُّغَة، إِلَّا أَنَّهَا الْإِبِل خَاصَّة فِي هَذِه الْآيَة.

(5/33)


وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)

وَقَوله: {وَلكم فِيهَا مَنَافِع} يَعْنِي: سوى الرّكُوب وَالْأكل من الرُّسُل والنسل والوبر وَغير ذَلِك.
وَقَوله: {ولتبلغوا عَلَيْهَا حَاجَة فِي صدوركم} قَالَ قَتَادَة: الِانْتِقَال من بلد إِلَى بلد. قَالَ مُجَاهِد: أَي حَاجَة كَانَت.
وَقَوله: {وَعَلَيْهَا وعَلى الْفلك تحملون} ظَاهر الْمَعْنى، والفلك: السَّفِينَة.

(5/33)


وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

قَوْله تَعَالَى: {ويريكم آيَاته فَأَي آيَات الله تنكرون} يَعْنِي: مَعَ ظُهُورهَا ووضوحها.

(5/33)


أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)

قَوْله تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبلهم كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض} قَالَ مُجَاهِد: قَوْله: {وآثارا فِي

(5/33)


{كَانُوا أَكثر مِنْهُم وَأَشد قُوَّة وآثارا فِي الأَرْض فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون (83) فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين} الأَرْض) مَعْنَاهُ: الْمَشْي فِيهَا بأرجلهم. وَيُقَال: الْآثَار فِي الأَرْض هِيَ العروش والزروع والأبنية.
وَقَوله: {فَمَا أغْنى عَنْهُم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَي: لم يدْفع عَنْهُم كسبهم شَيْئا حِين ينزل الْعَذَاب بهم.

(5/34)


فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم} فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا، وَلم يكن عِنْدهم [علم] أصلا؟
قُلْنَا: قد كَانَ فِي ظنهم أَنهم عُلَمَاء، فَسمى مَا عِنْدهم علما على ظنهم، وَكَانَ الَّذِي ظنوه أَن لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار وَلَا حَيَاة بعد الْمَوْت.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن قَوْله: {فرحوا} يرجع إِلَى الرُّسُل، وَمعنى الْآيَة: فَرح الرُّسُل بِمَا عِنْدهم من الْعلم بِهَلَاك أعدائهم.
وَيُقَال: فرحوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم أَي: رَضوا بِمَا عِنْدهم من الْعلم، وَلم يطلبوا الْعلم الَّذِي أنزلهُ الله على الْأَنْبِيَاء وقنعوا بِمَا عِنْدهم، وَهُوَ كَانَ جهلا على الْحَقِيقَة.
وَقَوله: {وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون} أَي: نزل بهم وبال مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون.

(5/34)


فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بأسنا قَالُوا آمنا بِاللَّه وَحده} قد ذكرنَا معنى الْبَأْس.
وَقَوله: {وكفرنا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكين} وَهَكَذَا جَمِيع الْكَافرين، يُؤمنُونَ عِنْد الْبَأْس، وَلَا يَنْفَعهُمْ ذَلِك.

(5/34)


((84} فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا سنت الله الَّتِي قد خلت فِي عباده وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ (85))

(5/35)


فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

وَقَوله: {فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا} وَقد اسْتثْنى مِنْهُم قوم يُونُس فِي سُورَة يُونُس، وَقد ذكرنَا.
وَقَوله: {سنة الله الَّتِي قد خلت فِي عباده} أَي: مَضَت فِي عباده، وَمعنى السّنة: هُوَ إِيمَانهم وَعدم النَّفْع فِي إِيمَانهم.
وَقَوله: {وخسر هُنَالك الْكَافِرُونَ} أَي: هلك هُنَالك الْكَافِرُونَ.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ {هُنَالك} وَهَذَا يَقْتَضِي أَلا يَكُونُوا فِي الْحَال خاسرين؟
وَالْجَوَاب: أَن الزّجاج قَالَ: كل كَافِر خاسر، إِلَّا أَنه إِذا رأى الْعَذَاب تبين لَهُ الخسران. فَبِهَذَا الْمَعْنى قَالَ: {هُنَالك} وَالله أعلم.

(5/35)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{حم (1) تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم (2) كتاب فصلت آيَاته قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعلمُونَ (3) بشيرا وَنَذِيرا فَأَعْرض أَكْثَرهم فهم لَا يسمعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ وَفِي آذاننا وقر}
تَفْسِير سُورَة حم السَّجْدَة

وَهِي مَكِّيَّة

(5/36)


حم (1)

قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حم} قد ذكرنَا مَعْنَاهُ.

(5/36)


تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)

وَقَوله: {تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم} مِنْهُم من قَالَ: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير كَأَنَّهُ: تَنْزِيل كتاب من الرَّحْمَن الرَّحِيم فصلت آيَاته. وَقَالَ بَعضهم: فِي الْآيَة مُضْمر مَحْذُوف، والمحذوف هُوَ الْقُرْآن، وَكَأَنَّهُ قَالَ: تَنْزِيل الْقُرْآن من الرَّحْمَن الرَّحِيم. قَالَ الزّجاج: وَقَوله: {تَنْزِيل} مُبْتَدأ، قَوْله: {كتاب} خَبره.

(5/36)


كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)

وَقَوله: {فصلت آيَاته} قَالَ مُجَاهِد: فسرت، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فصلت بالوعد والوعيد، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَيُقَال: فصلت بالحلال وَالْحرَام.
وَقَوله: {قُرْآنًا عَرَبيا} أَي: بِلِسَان الْعَرَب.
وَقَوله: {لقوم يعلمُونَ} أَي: يتدبرون مَا فِيهِ عَن علم.

(5/36)


بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)

قَوْله: {بشيرا وَنَذِيرا} مَعْنَاهُ: قُرْآنًا بشيرا وَنَذِيرا. فالقرآن بشير للْمُؤْمِنين، نَذِير للْكَافِرِينَ.
وَقَوله: {فَأَعْرض أَكْثَرهم فهم لَا يسمعُونَ} أَي: لَا يَسْتَمِعُون إِلَى الْقُرْآن.

(5/36)


وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ} أَي: فِي أغطية. قَالَ مُجَاهِد: كالجعبة للنبل.
وَقَوله: {وَفِي آذاننا وقر} أَي: صمم.

(5/36)


{وَمن بَيْننَا وَبَيْنك حجاب فاعمل إننا عاملون (5) قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه وويل للْمُشْرِكين (6) الَّذين لَا يُؤْتونَ}
وَقَوله: {وَمن بَيْننَا وَبَيْنك حجاب} أَي: حاجز. وَقَالَ بَعضهم: (تفرق فِي النحلة حاجز فِي الطَّرِيقَة) . وروى بَعضهم: أَن أَبَا جهل استغشى بِثَوْب ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، بَيْننَا وَبَيْنك حجاب. استهزاء، وَمعنى الْآيَة: أَنهم لما لم يستمعوا إِلَى الْقُرْآن اسْتِمَاع من يقبله كَانُوا كَأَن قُلُوبهم فِي أغطية، وَفِي آذانهم وقر وصمم، وَبَينه وَبينهمْ حجاب.
وَقَوله: {فاعمل إننا عاملون} مَعْنَاهُ: [فاعمل] بِمَا [تعلم] من دينك إننا عاملون بِمَا نعلم من ديننَا، قَالَه الْفراء. وَقَالَ بَعضهم: فاعمل فِي هلاكنا فَإنَّا نعمل فِي هلاكك. وَقَالَ بَعضهم: فاعمل لمعبودك فَإنَّا نعمل لمعبودنا.

(5/37)


قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)

قَوْله: {إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ إِنَّمَا إِلَهكُم إِلَه وَاحِد فاستقيموا إِلَيْهِ} أَي: توجهوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة.
وَقَوله: {واستغفروه} أَي: من الشّرك الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ.
وَقَوله: {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} أَي: لَا يرَوْنَ الزَّكَاة وَاجِبَة عَلَيْهِم كَمَا يرَاهُ الْمُسلمُونَ. وَيُقَال: معنى الإيتاء هُوَ على ظَاهره، وَالْكَافِر يُعَاقب فِي الْآخِرَة بترك إيتَاء الزَّكَاة؛ لأَنهم مخاطبون بالشرائع. ذكره جمَاعَة من أهل الْعلم. وَقَالَ بَعضهم: لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة أَي: لَا يَفْعَلُونَ مَا يصيرون بِهِ أزكياء. وَقَالَ بَعضهم: لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة أَي: لَا يَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا الله، قَالَ ابْن عَبَّاس، فِي رِوَايَة عَطاء، فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: لَا يطهرون أنفسهم من الشّرك بِقبُول التَّوْحِيد. وَعَن قَتَادَة قَالَ: الزَّكَاة فطْرَة الْإِسْلَام؛ فَمن قبلهَا نجا، وَمن ردهَا هلك. وَأما القَوْل الَّذِي قُلْنَاهُ إِنَّهَا الزَّكَاة بِعَينهَا،

(5/37)


{الزَّكَاة وهم بِالآخِرَة هم كافرون (7) إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون (8) قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ وتجعلون لَهُ اندادا ذَلِك رب الْعَالمين (9) وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها فِي}
قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة.
وَقَوله: {وهم بِالآخِرَة هم كافرون} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/38)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَهُم أجر غير ممنون} أَي: غير مَقْطُوع، وَيُقَال مَعْنَاهُ: غر ممنون عَلَيْهِم.

(5/38)


قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)

قَوْله تَعَالَى: {قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} قَالَ ابْن عَبَّاس: يَوْم الْأَحَد وَيَوْم الِاثْنَيْنِ. فَإِن قَالَ قَائِل: مَا الْحِكْمَة فِي خلقهَا فِي يَوْمَيْنِ، وَقد كَانَ قَادِرًا على خلقهَا فِي سَاعَة وَأَقل من ذَلِك؟ قُلْنَا: خلق فِي يَوْمَيْنِ ليرشد خلقه إِلَى الإناة فِي الْأَفْعَال؛ وليكون أبعد من توهم اتِّفَاق أَو فعل طبع، وَلِأَنَّهُ لَا سُؤال عَلَيْهِ فِي خلقه فكيفما شَاءَ خلق.
وَقَوله: {وتجعلون لَهُ أندادا} أَي: أشباها وأمثالا وشركاء. قَالَ حسان بن ثَابت:
(أتهجوه وَلست لَهُ بند ... فشركما لخير كَمَا الْفِدَاء)
قَالَ أهل الْمعَانِي: قَوْله {وتجعلون لَهُ أندادا} أَي: تطيعون غَيره فِي مَعَاصيه. وَقَالَ بَعضهم: من ذَلِك أَن يَقُول الرجل: لَوْلَا كلبة فلَان لدخل اللُّصُوص دَاري، وَلَوْلَا إرشاد فلَان لهلكت، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: {ذَلِك رب الْعَالمين} أَي: الَّذِي فعل ذَلِك الْفِعْل هُوَ رب الْعَالمين.
قَوْله تَعَالَى: {وَجعل فِيهَا رواسي} أَي: جبالا رواسي، وسماها رواسي لثبوتها. وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض جعلت تميد وَلَا تَسْتَقِر، فخلق الله الْجبَال عَلَيْهَا فاستقرت، فَهُوَ معنى قَوْله: {وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا} .
وَقَوله: {وَبَارك فِيهَا} أَي: أَكثر فِيهَا الْبركَة. وَالْبركَة: الْمَنَافِع، وَمن بركاتها

(5/38)


{أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء للسائلين (10) ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان فَقَالَ لَهَا وللأرض} الْأَشْجَار الَّتِي تنْبت بِغَيْر غرس، والحبوب الَّتِي تنْبت بِغَيْر بذر، وكل مَا لم يعمله بَنو آدم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن الله تَعَالَى جمع فِي (الْخبز) بَرَكَات السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَقَوله: {وَقدر فِيهَا أقواتها} فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: الْحِنْطَة لقوم، وَالشعِير لقوم، والذرة لقوم، وَالتَّمْر لقوم، والسمك لقوم، وَاللَّحم لقوم. وَيُقَال: الْمصْرِيّ لمصر، والسابري لسابر، والعربي للْعَرَب، وكل طَعَام فِي مَوْضِعه.
وَقَوله: {فِي أَرْبَعَة أَيَّام} أَي: (فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام) . فَإِن قَالَ قَائِل: قد قَالَ هَاهُنَا خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ فَذكر أَنه بَدَأَ بِخلق الأَرْض وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} فَكيف وَجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} أَي: مَعَ ذَلِك، وَهَذَا ضَعِيف فِي اللُّغَة، وَالأَصَح أَن معنى قَوْله: (وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها) أَي: بسطها، وَكَانَ الله تَعَالَى خلق الأَرْض قبل السَّمَوَات فِي يَوْمَيْنِ، وَخلق الأرزاق والأقوات فِيهَا، وأجرى الْأَنْهَار، وَأظْهر الْأَشْجَار، وَخلق الْبحار فِي يَوْمَيْنِ آخَرين، فَذَلِك تَمام أَرْبَعَة أَيَّام، وَلم يكن بسط الأَرْض وَجعلهَا بِحَيْثُ يسكن فِيهَا، فَلَمَّا خلق السَّمَوَات بسط الأَرْض وَجعلهَا بِحَيْثُ يسكنهَا النَّاس.
وَقَوله: {سَوَاء للسائلين} أَي: عدلا للسائلين، وَمَعْنَاهُ: من سَأَلَك عَن هَذَا فأجبه بِهَذَا، فَإِنَّهُ الْحق وَالْعدْل.
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان} أَي: قصد إِلَى خلق السَّمَاء وَهِي دُخان، وَفِي الْقِصَّة ان الله تَعَالَى خلق أول مَا خلق مَاء يضطرب، فأزبد المَاء زبدا، وارتفع من الزّبد دُخان، فخلق الأَرْض من الزّبد، وَخلق السَّمَاء من الدُّخان.
وَقَوله: {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طوع أَو كرها} قَالَ بَعضهم: معنى قَوْله:

(5/39)


{ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين (11) فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ وَأوحى فِي}
{ائتيا} أَي: كونا كَمَا قدرتكما طَوْعًا أَو كرها، وعَلى هَذَا يكون هَذَا القَوْل قبل الْخلق، وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ قَول الْأَكْثَرين أَن هَذَا القَوْل من الله تَعَالَى بعد أَن خلقهما، فعلى هَذَا معنى قَوْله: (ائتيا طَوْعًا أَو كرها) أَي: أعطيا الطَّاعَة فِيمَا خلقهما لَهُ جبرا واختيارا.
وَقَوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} مِنْهُم من قَالَ: هَذَا كُله على طَرِيق الْمجَاز، وَلَيْسَ على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَكَأن الله تَعَالَى لما أجْرى أَمرهمَا على مُرَاده وَتَقْدِيره جعل ذَلِك بِمَنْزِلَة قَول مِنْهُ وَإجَابَة مِنْهُمَا بالطواعية، وَالْعرب قد تذكر القَوْل فِي مثل هَذَا الْموضع، قَالَ الشَّاعِر:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني)
وَقَالَ بَعضهم: إِن القَوْل والإجابة على طَرِيق الْحَقِيقَة، وَركب فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض مَا عقلا بِهِ خطابه وأجاباه بالطواعية، وَهَذَا هُوَ الأولى. وَعَن ابْن السماك فِي موعظه: سل الأَرْض: من غرس أشجارك؟ وأجرى أنهارك؟ وَأخرج ثمارك؟ فَإِن لم تجبك اخْتِيَارا أجابتك اعْتِبَارا. فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: {طائعين} وَكَانَ من حق اللُّغَة أَن يَقُول: طائعات قُلْنَا: إِنَّمَا قَالَ: {طائعين} لِأَنَّهُ لما جعلهَا بِمَنْزِلَة من يعقل فِي الْخطاب مَعهَا وجوابها ذكر الْكَلَام على نعت الْعُقَلَاء.
قَوْله تَعَالَى: {فقضاهن سبع سموات} أَي: خَلقهنَّ سبع سموات {فِي يَوْمَيْنِ} وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس و [يَوْم] الْجُمُعَة. وَفِي بعض الْآثَار: " أَن الله تَعَالَى خلق الأَرْض يَوْم الْأَحَد والاثنين، وَخلق الْمَكْرُوه يَوْم الثُّلَاثَاء، وَخلق الأقوات وَالْأَشْجَار يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَخلق السَّمَوَات يَوْم الْخَمِيس، وَخلق فِيهَا البروج وَالْكَوَاكِب وَالشَّمْس وَالْقَمَر يَوْم الْجُمُعَة، وَخلق آدم فِي آخر سَاعَة من يَوْم الْجُمُعَة على عجل "، وَقد حكيت اللَّفْظَة

(5/40)


{كل سَمَاء أمرهَا وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وحفظا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (12) } الْأَخِيرَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: {وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} أَي: قدر فِي كل سَمَاء أمرهَا، وَيُقَال: خلق فِي كل سَمَاء مَا أَرَادَ أَن يخلق فِيهَا، وَذَلِكَ من سكانها وَغير ذَلِك.
وَقَوله: {وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح} أَي: بالكواكب.
وَقَوله: {وحفظا} أَي: حفظنا السَّمَاء بالكواكب من الشَّيْطَان.
وَقَوله: {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} ظَاهر الْمَعْنى، وَيذكر تَفْسِير هَذِه الْآيَة من وَجه آخر على مَا نقل فِي التفاسير.
فَقَوله تَعَالَى: {قل أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} هُوَ يَوْم الْأَحَد والاثنين، والاثنان هُوَ الْعدَد الْعدْل؛ لِأَنَّهُ أَكثر من الْوَاحِد الَّذِي لَيْسَ دونه شَيْء، وَلم يبلغ الثَّلَاث الَّذِي هُوَ جمع. وَقيل: هُوَ خلق فِي يَوْمَيْنِ، ليَكُون اعْتِبَارا للْمَلَائكَة فِي النّظر إِلَى خلقه أَكثر، فَيكون أدل على وحدانيته.
وَقَوله: {وتجعلون لَهُ أندادا ذَلِك رب الْعَالمين} قد بَينا.
وَقَوله: {وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا} روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ: خلق الْجبَال يَوْم الثُّلَاثَاء، وَخلق السَّمَاء وَالْأَشْجَار والبحار والأنهار يَوْم الْأَرْبَعَاء.
وَقَوله: {وَبَارك فِيهَا} أَي: أَكثر فِيهَا الْخَيْر.
وَقَوله: {وَقدر فِيهَا أقواتها} فِي التَّفْسِير: أَنه جعل فِي كل بلد مَا لَيْسَ فِي غَيره، ليتعايش النَّاس ويتجروا فِيهَا نقلا من بلد إِلَى بلد. يُقَال هُوَ الْيَمَانِيّ بِالْيمن،

(5/41)


والقوهى بقوهستان، والسابري بسابور، والقراطيس بِمصْر، والمروى بمرو، والبغدادي بِبَغْدَاد، والهروى بهراة. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: قَوْله: {قدر فِيهَا أقواتها} هُوَ الْمَطَر.
وَقَوله: {فِي أَرْبَعَة أَيَّام} أَي: فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام، فَإِن قيل: قد ذكر يَوْمَيْنِ فِي الْآيَة الأولى، وَأَرْبَعَة فِي هَذِه الْآيَة، ويومين من بعد، فَيكون قد خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض فِي ثَمَانِيَة أَيَّام؟ قُلْنَا: لَا، بل خلقهَا فِي سِتَّة أَيَّام.
وَقَوله: {فِي أَرْبَعَة أَيَّام} أَي: فِي تَمام أَرْبَعَة أَيَّام مَعَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلين، وَهَذَا كَالرّجلِ يَقُول: ذهبت من الْبَصْرَة إِلَى بَغْدَاد فِي عشرَة أَيَّام، وَذَهَبت من بَغْدَاد إِلَى الْكُوفَة فِي خَمْسَة عشر يَوْمًا أَي: فِي تَمام خَمْسَة عشر يَوْمًا مَعَ الْعدْل الأول، هَذَا كَلَام الْعَرَب، وَمن طعن فِيهِ فَلم يعرف كَلَام الْعَرَب.
وَقَوله: {سَوَاء للسائلين} قد بَينا أحد الْمَعْنيين، وَالْمعْنَى الآخر: وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام للسائلين أَي: المحتاجين إِلَى الْقُوت.
وَقَوله: {سَوَاء} ينْصَرف إِلَى الْأَيَّام أَي: مستويات تامات. وَقيل: (ذَوَات) سَوَاء. وَقد قرئَ بالخفض: " سَوَاء للسائلين ". وَيُقَال: اسْتَوَى سَوَاء على الْقِرَاءَة الأولى.
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان} فِي التَّفْسِير: أَن الدُّخان كَانَ من تنفس المَاء، وَيُقَال: إِنَّه خلق سَمَاء وَاحِدَة ثمَّ فتقها فَجَعلهَا سبع سموات، وَقد ذكرنَا من قبل
وَقَوله: {فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها} قَالَ بَعضهم: هُوَ على طَرِيق الْمجَاز مثل: قَول الشَّاعِر:
(وَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة ... وحذرتا كالدر لما تثقب)
وَتقول الْعَرَب: قَالَ الْحَائِط فَمَال
وَقَوله: {ائتيا طَوْعًا أَو كرها} أَي: أجيبا طَوْعًا وَإِلَّا ألجأتكما إِلَى الْإِجَابَة كرها،

(5/42)


وَإِنَّمَا ذكرُوا هَذَا الْمَعْنى؛ لِأَن الْأَمر لَا يرد إِلَّا بِالْفِعْلِ طَوْعًا. وَذكر بَعضهم: أَن الله تَعَالَى خلق فِي السَّمَوَات تمييزا وعقلا، فخاطبهما وأجابا على الْحَقِيقَة، وَقد ذكرنَا. وَأورد بَعضهم: أَن الْخطاب لمن فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْموضع الَّذِي أجَاب من الأَرْض هُوَ الْأُرْدُن، وَفِيه أَيْضا: أَن الله تَعَالَى خلق سَبْعَة عشر نوعا من الأَرْض، هَذَا الَّذِي ترَاهُ أَصْغَر الْكل، وأسكن تِلْكَ الْأَرْضين قوما لَيْسُوا بإنس وَلَا جن وَلَا مَلَائِكَة، وَالله أعلم.
وَقَوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وَلم يقل: طائعتين، قَالُوا: لِأَن المُرَاد هُوَ السَّمَوَات بِمن فِيهَا، وَالْأَرْض بِمن فِيهَا. وَيُقَال: لِأَن السَّمَوَات سبع والأرضون سبع، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ فِي الأَرْض فَقَالَ: طائعين لأجل هَذَا الْعدَد.
قَوْله تَعَالَى: {فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ} أَي: خَلقهنَّ. وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى خلق السَّمَوَات يَوْم الْخَمِيس، وَخلق الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب وَالْمَلَائِكَة وآدَم يَوْم الْجُمُعَة، وَسميت الْجُمُعَة جُمُعَة؛ لِأَنَّهُ اجْتمع فِيهَا الْخلق. وَفِي بعض التفاسير: أَن الله تَعَالَى خلق آدم فِي آخر سَاعَة من سَاعَات الْجُمُعَة، وَتَركه أَرْبَعِينَ سنة ينظر إِلَيْهِ ويثني على نَفسه، وَيَقُول: {تبَارك الله رب الْعَالمين} وَفِي بعض التفاسير أَيْضا: أَن الله تَعَالَى لما خلق الأَرْض قَالَ لَهَا: أَخْرِجِي أشجارك وأنهارك وثمارك فأخرجت، وَلما خلق الله السَّمَاء قَالَ لَهَا: أَخْرِجِي شمسك وقمرك ونجومك فأخرجت.
وَقَوله: {وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} أَي: مَا يصلحها، وَيُقَال: جعل فِيهَا سكانها من الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: {وزينا السَّمَاء الدُّنْيَا بمصابيح وحفظا} قد بَينا.
وَقَوله: {وحفظا} أَي: وحفظناها حفظا من الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ والنجوم.
وَقَوله: {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم} أَي: تَقْدِير القوى على مَا يُرِيد خلقه، الْعَلِيم بخلقه وَمَا يصلحهم.

(5/43)


{فَإِن أَعرضُوا فَقل أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَة مثل صَاعِقَة عَاد وَثَمُود (13) إِذْ جَاءَتْهُم الرُّسُل من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم أَلا تعبدوا إِلَّا الله قَالُوا لَو شَاءَ رَبنَا لأنزل مَلَائِكَة فَإنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون (14) فَأَما عَاد فاستكبروا فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَقَالُوا من أَشد منا قُوَّة أَو لم يرَوا أَن الله الَّذِي خلقهمْ هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون (15) }

(5/44)


فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أَعرضُوا} أَي: أَعرضُوا عَن الْإِيمَان بِمَا أنزلت عَلَيْك.
وَقَوله: {فَقل أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَة مثل صَاعِقَة عَاد وَثَمُود} الصاعقة نَار تنزل من السَّمَاء إِلَى الأَرْض، وَهِي فِي هَذَا الْموضع كل عُقُوبَة مهلكة.

(5/44)


إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)

وَقَوله: {إِذْ جَاءَتْهُم الرُّسُل من بَين أَيْديهم} أَي: إِلَى الْآبَاء {وَمن خَلفهم} أَي: الْأَبْنَاء الَّذين كَانُوا خلف الْآبَاء، وَيجوز أَن يرجع قَوْله: {وَمن خَلفهم} إِلَى خلف الرُّسُل الْأَوَّلين.
وَقَوله: {أَلا تعبدوا إِلَّا الله} ظَاهر.
وَقَوله: {قَالُوا لَو شَاءَ رَبنَا لأنزل مَلَائِكَة فَإنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون} أَي: جاحدون.

(5/44)


فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)

قَوْله تَعَالَى: {فَأَما عَاد فاستكبروا فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَقَالُوا من أَشد منا قُوَّة} وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ من قوتهم أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يضْرب رجله على الصَّخْرَة الصماء فتغوص فِيهَا رجله إِلَى ركبته، وَمن قوتهم أَنهم سدوا الْفَج الَّذِي كَانَ يخرج مِنْهُ الرّيح بصدورهم، حَتَّى قويت الرّيح وأهلكتهم وَاحِدًا بعد وَاحِد.
وَقَوله: {أَو لم يرَوا أَن الله الَّذِي خلقهمْ هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون} أَي: يُنكرُونَ.

(5/44)


فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)

قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا} قَالَ مُجَاهِد: شَدِيدَة السمُوم. وَقَالَ قَتَادَة: شَدِيدَة الْبرد من الصر وَهُوَ الْبرد وَيُمكن الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قيل: إِنَّهَا كَانَت ريحًا بَارِدَة تحرق كَمَا يحرق السمُوم، وَيُقَال: صَرْصَرًا أَي: ذَات صَيْحَة، وَمِنْه سمي نهر الصرصر، وَهُوَ نهر يَأْخُذ من الْفُرَات.

(5/44)


{فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّام نحسات لنذيقهم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لَا ينْصرُونَ (16) وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى فَأَخَذتهم صَاعِقَة الْعَذَاب الْهون بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) ونجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْم يحْشر أَعدَاء الله إِلَى النَّار فهم يُوزعُونَ (19) حَتَّى إِذا}
وَقَوله: {فِي أَيَّام نحسات} وَقُرِئَ: " نحسات " بجزم الْحَاء أَي: مشئومات، وَكَانَت هَذِه الْأَيَّام مشائيم عَلَيْهِم؛ لأَنهم عذبُوا فِيهَا.
وَقَوله: {لنذيقهم عَذَاب الخزي فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: عذَابا يخزيهم وينكل بهم.
وَقَوله: {ولعذاب الْآخِرَة أخزى} أَي: أَشد إخزاء {وهم لَا ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَعُونَ من عذابنا.

(5/45)


وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)

قَوْله تَعَالَى: {وَأما ثَمُود فهديناهم} حكى عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: هديناهم أَي: دللناهم على الْهدى. وَقَالَ مُجَاهِد: بَينا لَهُم طَرِيق الْهدى. وَقيل: طَرِيق الْخَيْر وَالشَّر. وَفِي بعض التفاسير: هديناهم أَي: دعوناهم.
وَقَوله: {فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} أَي: آثروا طَرِيق الضلال على طَرِيق الرشد.
وَقَوله: {فَأَخَذتهم صَاعِقَة الْعَذَاب الْهون} فصاعقة الْعَذَاب: نَار نزلت من السَّمَاء إِلَى الأَرْض فتصيب من يسْتَحق الْعَذَاب.
وَقَوله: {الْهون} أَي: ذِي الْهون، والهون والهوان بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ عَذَاب يهينهم ويهلكهم.
وَقَوله: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/45)


وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

وَقَوله تَعَالَى: {ونجينا الَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أَي: يَتَّقُونَ الشّرك.

(5/45)


وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)

قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحْشر أَعدَاء الله إِلَى النَّار فهم يُوزعُونَ} أَي: يحتبس أَوَّلهمْ على آخِرهم.

(5/45)


{مَا جاءوها شهد عَلَيْهِم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (20) وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا قَالُوا أنطقنا الله الَّذِي أنطق كل شَيْء وَهُوَ خَلقكُم أول مرّة وَإِلَيْهِ ترجعون (21) وَمَا كُنْتُم تستترون أَن يشْهد عَلَيْكُم سمعكم وَلَا أبصاركم وَلَا}

(5/46)


حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)

قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا مَا جاءوها شهد عَلَيْهِم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} أَكثر الْمُفَسّرين أَن الْجُلُود هَاهُنَا هِيَ الْفروج، وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يحْشر الْعباد مقدمين بالفدام، فَأول مَا ينْطق من جوارح الْإِنْسَان فَخذه وكفه " وَقيل: إِن قَوْله: {وجلودهم} هِيَ الْجُلُود الْمَعْرُوفَة. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف بِرِوَايَة أنس " أَن النَّبِي ضحك مرّة، فَسئلَ: مِم ضحِكت؟ فَقَالَ: عجبت من مجادلة العَبْد ربه يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول: أَي رب، أَلَيْسَ وَعَدتنِي أَن لَا تظلمني؟ فَيَقُول: نعم. فَيَقُول العَبْد: فَإِنِّي لَا أُجِيز الْيَوْم شَاهدا عَليّ إِلَّا مني، فَحِينَئِذٍ يخْتم الله على فَمه وتنطق جوارحه بِمَا فعله، فَيَقُول العَبْد: بعدا لَكِن وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كنت أُنَاضِل ".

(5/46)


وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لجلودهم لما شهدتم علينا قَالُوا أنطقنا الله الَّذِي أنطق كل شَيْء} أَي: كل شَيْء ينْطق.
وَقَوله تَعَالَى: {وَهُوَ خَلقكُم أول مرّة وَإِلَيْهِ ترجعون} أَي: تردون.

(5/46)


وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُم تستترون أَن يشْهد عَلَيْكُم سمعكم وَلَا أبصاركم وَلَا جلودكم} فِي الْأَخْبَار الْمَعْرُوفَة عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: كنت مستترا تَحت ستر الْكَعْبَة، فجَاء قرشيان وثقفي، أَو ثقفيان وقرشي، قَلِيل فقه قُلُوبهم، كثير شَحم بطونهم، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: أسمع الله مَا نقُول؟ فَقَالَ أحدهم: يسمع إِذا جهرنا، وَلَا يسمع إِذا أخفينا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُم تستترون} أَي: تستخفون.
وَقَوله: {أَن يشْهد} مَعْنَاهُ: من أَن يشْهد عَلَيْكُم سمعكم وَلَا أبصاركم وَلَا جلودكم.

(5/46)


{جلودكم وَلَكِن ظننتم أَن الله لَا يعلم كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23) فَإِن يصبروا فَالنَّار مثوى لَهُم وَإِن يستعتبوا فَمَا هم من المعتبين (24) }
وَقَوله: {وَلَكِن ظننتم أَن الله لَا يعلم كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ} هُوَ قَول من قَالَ: إِن الله يسمع إِذا جهرنا، وَلَا يسمع إِذا أخفينا.

(5/47)


وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

قَوْله تَعَالَى: {وذلكم ظنكم الَّذِي ظننتم بربكم أرداكم} هُوَ مَا قُلْنَاهُ.
وَقَوله: {أرداكم} أَي: أهلككم. وَقد ثَبت أَن النَّبِي قَالَ: " ... أَنا عِنْد ظن عَبدِي، وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي ... ".
وَفِي بعض الْأَحَادِيث: " أَن الله تَعَالَى يَأْمر بِعَبْد من عبيده إِلَى النَّار، فَيَقُول: أَي رب، مَا كَانَ هَذَا ظَنِّي بك. فَيَقُول: وَمَا كَانَ ظَنك بِي؟ فَيَقُول العَبْد: كَانَ ظَنِّي أَن تغْفر لي وتدخلني الْجنَّة، فَيغْفر الله لَهُ ".
وَفِي بعض التفاسير: أَن العَبْد إِذْ ظن الْخَيْر فعل الْخَيْر، وَإِذا ظن الشَّرّ فعل الشَّرّ.
وَقَوله: {فأصبحتم من الخاسرين} أَي: الهالكين.

(5/47)


فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن يصبروا فَالنَّار مثوى لَهُم} المثوى: الْمنزل.
وَقَوله: {وَإِن يستعتبوا فَمَا هم من المعتبين} الاستعتاب طلب الإعتاب، والإعتاب أَن يعود الْإِنْسَان إِلَى مَا يُحِبهُ بعد أَن فعل مَا يكرههُ. تَقول الْعَرَب: أستعتب فلَانا فأعتبني، بِمَعْنى مَا قُلْنَا.
وَقَوله: {فماهم من المعتبين} أَي: لَا يرجع بهم إِلَى مَا كَانُوا يحبونَ. وَقيل: إِن مَا يحبونَ هُوَ أَن يعيدهم إِلَى الدُّنْيَا فيعبدوا الله ويطيعوه.
وَأما قَوْله: {فَإِن يصبروا} مَعْنَاهُ: فَإِن يصبروا أَو لَا يصبروا. وَمَعْنَاهُ: لَا يَنْفَعهُمْ

(5/47)


{وقيضنا لَهُم قرناء فزينوا لَهُم مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم وَحقّ عَلَيْهِم القَوْل فِي أُمَم قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس إِنَّهُم كَانُوا خاسرين (25) وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن وألغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون (26) فلنذيقن الَّذين كفرُوا عذَابا شَدِيدا} صَبر وَلَا جزع.

(5/48)


وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)

قَوْله تَعَالَى: {وقيضنا لَهُم} أَي: صيرنا لَهُم، وَيُقَال: سببنا لَهُم.
وَقَوله: {قرناء} أَي: الشَّيَاطِين.
وَقَوله: {فزينوا لَهُم} أَي: الشَّيَاطِين زَينُوا لَهُم.
{مَا بَين أَيْديهم} أَي: زَينُوا لَهُم أَن لَا بعث وَلَا جنَّة وَلَا نَار.
وَقَوله: {وَمَا خَلفهم} أَي: زَينُوا لَهُم لذات الدُّنْيَا، وزينوا لَهُم جمع المَال وإمساكه وَترك إِنْفَاقه فِي سَبِيل الْخَيْر.
وَقَوله: {وَحقّ عَلَيْهِم القَوْل} أَي: وَجب عَلَيْهِم القَوْل {فِي أُمَم} أَي: مَعَ أُمَم.
وَقَوله: {قد خلت من قبلهم من الْجِنّ وَالْإِنْس إِنَّهُم كَانُوا خاسرين} أَي: هالكين، فَكل من هلك فقد خسر نَفسه.

(5/48)


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)

وَقَوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} اللَّغْو كل كَلَام لَا وَجه لَهُ وَلَا معنى تَحْتَهُ. وَقيل: كل مَالا يعبأ بِهِ فَهُوَ لَغْو. وَيُقَال: اللَّغْو هَاهُنَا هُوَ الصفير والتصفيق اللَّذَان كَانَ يفعلهما الْمُشْركُونَ عِنْد سَماع الْقُرْآن، وَذَلِكَ المكاء والتصدية. وَقد ذكرنَا من قبل. وَقُرِئَ فِي الشاذ: " والغوا فِيهِ " بِضَم الْغَيْن، وَهُوَ فِي معنى الأول. وَقيل مَعْنَاهُ: استعلوا عِنْد سَماع الْقُرْآن بِاللَّغْوِ، وَهُوَ الضجيج والصياح لكيلا تسمعوا.
وَقَوله: {لَعَلَّكُمْ تغلبون} أَي: تغلبون مُحَمَّدًا.

(5/48)


فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)

قَوْله تَعَالَى: {فلنذيقن الَّذين كفرُوا عذَابا شَدِيدا ولنجزينهم أَسْوَأ الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ} أَي: جَزَاء أَعْمَالهم السَّيئَة.

(5/48)


{ولنجزينهم أَسْوَأ الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ (27) ذَلِك جَزَاء أَعدَاء الله النَّار لَهُم فِيهَا دَار الْخلد جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون (28) وَقَالَ الَّذين كفرُوا رَبنَا أرنا اللَّذين أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس نجعلهما تَحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين (29) إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا}

(5/49)


ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)

قَوْله تَعَالَى: {ذَلِك جَزَاء أَعدَاء الله النَّار لَهُم فِيهَا دَار الْخلد} أَي: دَار الخلود.
قَوْله تَعَالَى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يجحدون} أَي: يُنكرُونَ.

(5/49)


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا رَبنَا أرنا اللَّذين أضلانا من الْجِنّ وَالْإِنْس} قَالَ أهل التَّفْسِير: الَّذِي من الْجِنّ هُوَ إِبْلِيس، وَالَّذِي من الْإِنْس قابيل الَّذِي قتل هابيل، وهما أول من سنّ الْمعْصِيَة من الْجِنّ وَالْإِنْس، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمَشْهُور، وَهُوَ محكي عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ ذكره الْأَزْهَرِي بِإِسْنَادِهِ. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن المُرَاد كل دَاع إِلَى الضَّلَالَة من الْجِنّ وَالْإِنْس. وَفِي بعض الْآثَار: أَنه مَا من أحد من الْجِنّ يعْمل شرا إِلَّا ويلعن إِبْلِيس عِنْد مَوته، وَمَا من أحد من الْإِنْس يعْمل شرا إِلَّا ويلعن ابْن آدم عِنْد مَوته، وَهُوَ قابيل. وَيُقَال: يلعنهما كل عَامل بِالشَّرِّ؛ لِأَنَّهُمَا اللَّذَان سنا الشَّرّ والمعاصي.
وَقَوله: {نجعلهما تَحت أقدامنا} أَي: نجعلهما تَحت أقدامنا فِي النَّار، وَهُوَ الدَّرك الْأَسْفَل. وَقَالُوا ذَلِك حقدا عَلَيْهِم وانتقاما مِنْهُم.
وَقَوله: {ليكونا من الأسفلين} أَي: أَسْفَل منا فِي النَّار وَأَشد منا فِي الْعَذَاب.
وَأما قَوْله: {رَبنَا أرنا} قيل مَعْنَاهُ: أعطنا، وَقيل معنى قَوْله: {أرنا} أَي: دلنا عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الأولى. وَعَن السدى قَالَ: مَا من كَافِر يدْخل النَّار إِلَّا وَهُوَ يلعن إِبْلِيس؛ لِأَنَّهُ أول من سنّ الْكفْر، وَمَا من عَاص يدْخل النَّار إِلَّا ويلعن قابيل؛ لِأَنَّهُ أول من سنّ الْمعْصِيَة.

(5/49)


إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} وروى عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: استقاموا أَي لم يشركوا بِاللَّه شَيْئا، وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لم يروغوا روغان الثعالب. وَمن الْمَعْرُوف أَن الاسْتقَامَة [هِيَ] طَاعَة الله، وَأَدَاء فَرَائِضه، وَاتِّبَاع سنة نبيه مُحَمَّد.

(5/49)


{الله ثمَّ استقاموا تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة أَلا تخافوا وَلَا تحزنوا وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم}
روى ثَابت عَن أنس: " أَن النَّبِي قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين قَالُوا رَبنَا الله ثمَّ استقاموا} ثمَّ قَالَ: قد قَالَ قوم وَلم يستقيموا عَلَيْهِ، فَمن قَالَ وَمَات عَلَيْهِ فقد استقام ".
وَعَن سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ انه قَالَ: " قلت يَا رَسُول الله، قل لي فِي الْإِسْلَام قولا أثبت عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: قل رَبِّي الله ثمَّ اسْتَقِم. فَقلت لَهُ: يَا رَسُول الله، مَا أخوف مَا تخَاف عَليّ؟ قَالَ: هَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه ".
وَمن الْمَعْرُوف أَيْضا أَن النَّبِي قَالَ: " اسْتَقِيمُوا وَلنْ تُحْصُوا، وَلَا يحافظ على الْعَصْر إِلَّا مُؤمن ".
وَقَوله: {تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة} أَي: عِنْد الْمَوْت، وَيُقَال: عِنْد الْبَعْث. فِي التَّفْسِير: أَنه إِذا بعث العَبْد تَلقاهُ الْملكَانِ اللَّذَان كَانَا يحفظانه ويكتبان عَلَيْهِ، ويقولان لَهُ: لَا تخف وَلَا تحزن وأبشر بِالْجنَّةِ الَّتِي كنت توعد، وَلَا يهولك الَّذِي ترَاهُ، فَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ غَيْرك. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: يبشر الْمُؤمن فِي [ثَلَاثَة] مَوَاطِن: عِنْد دُخُول الْقَبْر، وَعند الْبَعْث، وَعند دُخُوله الْجنَّة.
وَقَوله: {أَلا تخافوا} أَي: لَا تخافوا مَا بَين أَيْدِيكُم.
وَقَوله: {وَلَا تحزنوا} على مَا خَلفْتُمْ من أهل وَولد وضيعة.
وَقَوله: {وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ الَّتِي كُنْتُم توعدون} أَي: توعدون فِي كتب الله وعَلى أَلْسِنَة رسله.

(5/50)


{توعدون (30) نَحن أولياؤكم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} وَلكم فِيهَا مَا تشْتَهي أَنفسكُم وَلكم فِيهَا مَا تدعون نزلا من غَفُور رَحِيم وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا

(5/51)


نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)

قَوْله: {نَحن أولياؤكم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} وَمعنى الْولَايَة: هُوَ الْحِفْظ والنصرة والمعونة.
وَقَوله: {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} أَي: عِنْد الْمَوْت.
{وَفِي الْآخِرَة} أَي: بعد الْبَعْث.
وَقَوله: {وَلكم فِيهَا مَا تشْتَهي أَنفسكُم} أَي: تلذه أَنفسكُم. وَيُقَال: مَا يخْطر على قُلُوبكُمْ.
وَقَوله: {وَلكم فِيهَا مَا تدعون} أَي: تتمنون، تَقول الْعَرَب: ادْع على مَا شِئْت أى: تمن على مَا شِئْت.
وَيُقَال (وَلكم فِيهَا مَا تدعون) أى مَا ادعيت أَنه لَك فَهُوَ لَك.

(5/51)


نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

وَقَوله: {نزلا من غَفُور رَحِيم} أَي: عَطاء من غَفُور رَحِيم. وَمِنْه نزل الضَّيْف. أَي: عطاؤه. وَيُقَال: منا.
{من غَفُور رَحِيم} والغفور السَّاتِر، والرحيم العطوف.

(5/51)


وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)

قَوْله تَعَالَى: {وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا} قَالَ ابْن عَبَّاس: من دَعَا إِلَى الله هُوَ الرَّسُول. وَحكى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " دَعَا إِلَى الله " عَام فِي كل من يَدْعُو إِلَى الله. وَعَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: الْآيَة فِي المؤذنين. وَحكى هَذَا القَوْل عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَقد ضعف بَعضهم هَذَا القَوْل؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، وَالْأَذَان كَانَ بعد الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة.
وَقَوله: {وَعمل صَالحا} أَي: عمل بَينه وَبَين ربه. وَيُقَال: عمل صَالحا بأَدَاء الْفَرَائِض، وَقيل: عمل صَالحا بإخلاص الدعْوَة وَالْعَمَل.

(5/51)


وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين (33) وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم (34))
وَقَوله: {وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين} أَي: أقرّ بِالْإِسْلَامِ وَثَبت عَلَيْهِ. وَيُقَال: من المستسلمين لحكم الله. وَمن الْمَعْرُوف عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن المُرَاد من قَوْله: {وَعمل صَالحا} هُوَ رَكْعَتَانِ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة. وَهَذَا على القَوْل الَّذِي قُلْنَا: إِنَّه ورد فِي المؤذنين.

(5/52)


وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تستوي الْحَسَنَة وَلَا السَّيئَة} مَعْنَاهُ: وَلَا تستوي الْحَسَنَة والسيئة و " لَا " صلَة.
وَأما الْحَسَنَة والسيئة ففيهما أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهُمَا التَّوْحِيد والشرك، وَالْآخر: أَنَّهُمَا الْعَفو والانتصار، وَالثَّالِث: أَنَّهُمَا المداراة والغلظة. وَالرَّابِع: أَنَّهُمَا الصَّبْر والجزع. وَالْخَامِس: أَنَّهُمَا الْحلم عِنْد الْغَضَب والسفه.
وَقَوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} أَي: ادْفَعْ السَّيئَة بالخلة الَّتِي هِيَ أحسن، والخلة هِيَ أحسن الْحلم عِنْد الْغَضَب، وَالْعَفو عِنْد الْقُدْرَة، وَالصَّبْر عِنْد الْبلَاء، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن معنى قَوْله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} أَي: بِالسَّلَامِ، قَالَه مُجَاهِد. وَمَعْنَاهُ: أَنه يسلم على من يُؤْذِيه، وَلَا يُقَابله بالأذى، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن معنى قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسن} هُوَ أَنه إِذا أذاك إِنْسَان وشتمك ونسبك إِلَى الْقَبِيح تَقول لَهُ: إِن كنت صَادِقا فغفر الله لي، وَإِن كنت كَاذِبًا فغفر الله لَك.
وَقَوله: {فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة} هَذَا فِي الْحلم عِنْد الْغَضَب، وَالْعَفو عِنْد الْقُدْرَة.
وَقَوله: {كَأَنَّهُ ولي حميم} أَي: صديق قريب، فالولي هُوَ الصّديق، وَالْحَمِيم هُوَ الْقَرِيب.

(5/52)


{وَمَا يلقاها إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَمَا يلقاها إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم (35) وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (36) وَمن آيَاته اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ إِن كُنْتُم}

(5/53)


وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يلقاها إِلَّا الَّذين صَبَرُوا} أَي: وَمَا يُؤْتى هَذِه الْخصْلَة، وَهِي دفع السَّيئَة بِالْحَسَنَة إِلَّا الَّذين صَبَرُوا أَي: صَبَرُوا على أوَامِر الله.
وَقَوله: {وَمَا يلقاها إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم} أَي: ذُو نصيب وافر من الدّين. وَيُقَال: وَمَا يلقاها أَي: وَمَا يُؤْتى الْجنَّة إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم أَي: نصيب وافر. وَقيل: ذُو جد عَظِيم، وَالْجد هُوَ البخت.

(5/53)


وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ} أَي: غضب. وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الْغَضَب جَمْرَة فِي الْإِنْسَان يُوقد فِيهَا الشَّيْطَان. وَيُقَال: نَزغ أَي: (وَسْوَسَة) .
وَقَوله: {فاستعذ بِاللَّه} أَي: اعْتصمَ بِاللَّه. وَقد روينَا أَن النَّبِي كَانَ يَقُول: " أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان من همزه ونفثه ونفخه ".
وَقَوله: {أَنه هُوَ السَّمِيع لعليم} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/53)


وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر} فالآية فِي اللَّيْل وَالنَّهَار فِي زيادتها ونقصانها، وَالْآيَة فِي الشَّمْس وَالْقَمَر فِي دورانهما على حِسَاب مَعْلُوم.
وَقَوله: {لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر} قَالَ عِكْرِمَة: الشَّمْس مثل الدُّنْيَا وثلثها، وَالْقَمَر مثل الدُّنْيَا مرّة وَاحِدَة. وَعَن بَعضهم قَالَ: الشَّمْس طولهَا ثَمَانُون فرسخا، وعرضها سِتُّونَ فرسخا، وَالله أعلم.
وَقَوله: {واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ إِن كُنْتُم إِيَّاه تَعْبدُونَ} أَي: توحدون.

(5/53)


فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)

قَوْله تَعَالَى: {فَإِن استكبروا} أَي: تكبروا.

(5/53)


{إِيَّاه تَعْبدُونَ (37) فَإِن استكبروا فَالَّذِينَ عِنْد رَبك يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون (38) وَمن آيَاته أَنَّك ترى الأَرْض خاشعة فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت إِن الَّذِي أَحْيَاهَا لمحيي الْمَوْتَى إِنَّه على كل شَيْء قدير (39) إِن الَّذين يلحدون فِي}
وَقَوله: {فَالَّذِينَ عِنْد رَبك} أَي: الْمَلَائِكَة.
{يسبحون لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وهم لَا يسأمون} أَي: لَا يملون. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: التَّسْبِيح للْمَلَائكَة كالنفس والطرف لبني آدم، فَكَمَا لَا يلْحق الْآدَمِيّ تَعب فِي الطّرف وَالنَّفس، فَكَذَلِك لَا يلحقهم التَّعَب بالتسبيح.

(5/54)


وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)

قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته أَنَّك ترى الأَرْض خاشعة} أَي: هامدة متهشمة ميتَة لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْء.
وَقَوله: {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت} أَي: تحركت للنبات.
وَقَوله: {وربت} أَي: ارْتَفع النَّبَات. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَمَعْنَاهُ: ربت واهتزت، أَي: ربت الأَرْض بِخُرُوج النَّبَات مِنْهَا، واهتزت أَي: تحركت.
وَقَوله: {إِن الذى أَحْيَاهَا} أى: أَحْيَا الأَرْض الْميتَة {المحى الْمَوْتَى} أَي: فِي الْقِيَامَة.
وَقَوله: {إِنَّه على كل شَيْء قدير} أَي: قَادر.

(5/54)


إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين يلحدون فِي آيَاتنَا} أَي: يميلون إِلَى الحجد و [التَّكْذِيب] فِي آيَاتنَا. وكل من مَال من الْحق إِلَى الْبَاطِل، وَمن التَّوْحِيد إِلَى الشّرك فَهُوَ ملحد.
وَقَوله: {لَا يخفون علينا} أَي لَا يخفى كفرهم علينا.
قَوْله: {أَفَمَن يلقى فِي النَّار خير أم من يَأْتِي آمنا يَوْم الْقِيَامَة} فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الَّذِي يلقى فِي النَّار هُوَ أَبُو جهل، وَالَّذِي يَأْتِي آمنا هُوَ عمار، قَالَ عِكْرِمَة وَغَيره.

(5/54)


{آيَاتنَا لَا يخفون علينا أَفَمَن يلقى فِي النَّار خير أم من يَأْتِي آمنا يَوْم الْقِيَامَة اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (40) إِن الَّذين كفرُوا بِالذكر لما جَاءَهُم وَإنَّهُ لكتاب عَزِيز (41) لَا يأنيه الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد (42) مَا يُقَال}
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن من يلقى فِي النَّار هُوَ أَبُو جهل، وَمن يأتى آمنا هُوَ حَمْزَة بن عبد الْمطلب.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن من يلقى فِي النَّار هُوَ كل كَافِر، وَالَّذِي يَأْتِي آمنا هُوَ الرَّسُول. وَيُقَال: كل مُؤمن قد أَمن من الخلود فِي النَّار. وَيُقَال: من يلقى فِي النَّار هم الَّذين يبغضون آل النَّبِي، وَمن يَأْتِي آمنا هم الَّذين يحبونهم، وَقيل: هَذَا فِي الصَّحَابَة. وَالله أعلم.
وَقَوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد. وَمَعْنَاهُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فستقدمون عَلَيْهِ.
وَقَوله: {إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} ظَاهر الْمَعْنى.

(5/55)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)

قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا بِالذكر لما جَاءَهُم} أَي: بِالْقُرْآنِ، وَفِيه حذف، والمحذوف، سيجازون على ذَلِك.
وَقَوله: {وَأَنه لكتاب عَزِيز} أَي: كريم على الله. وَيُقَال: كتاب أعزه الله.

(5/55)


لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

وَقَوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: لَا يَأْتِيهِ التَّكْذِيب من الْكتب الْمُتَقَدّمَة، وَلَا يَأْتِيهِ من بعده كتاب ينسخه وَيَرْفَعهُ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْبَاطِل هُوَ إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يَأْتِيهِ بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان أَي: لَا سُلْطَان لَهُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَة مِنْهُمَا.
وَقَوله: {تَنْزِيل من حَكِيم حميد} أَي: حَكِيم فِي فعله، مَحْمُود فِي قَوْله.

(5/55)


مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)

قَوْله تَعَالَى: {مَا يُقَال لَك إِلَّا مَا قد قيل للرسل من قبلك} هَذَا على طَرِيق التَّعْزِيَة والتسلية للنَّبِي، فَإِن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه كَافِر وساحر وشاعر وَمَجْنُون، فَقَالَ

(5/55)


{لَك إِلَّا مَا قد قيل للرسل من قبلك إِن رَبك لذُو مغْفرَة وَذُو عِقَاب أَلِيم (43) وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجميا لقالوا لَوْلَا فصلت آيَاته أأعجمي وعربي} تَعَالَى معزيا ومسليا لَهُ: {مَا يُقَال لَك إِلَّا ماقد قيل للرسل من قبلك} أَي: لست بِأول من قيل لَهُ هَذَا، فقد نسب الْأَنْبِيَاء من قبلك إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء. وَقد تمّ الْكَلَام على هَذَا ثمَّ قَالَ: {وَإِن رَبك لذُو مغْفرَة} أَي: لذنوب الْعباد، لمن أَرَادَ أَن يغْفر لَهُ.
وَقَوله: {وَذُو عِقَاب أَلِيم} أَي: لمن أَرَادَ أَن لَا يغْفر لَهُ.
وَفِي قَوْله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} قَول آخر: وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل قبل تَمام نُزُوله فَهُوَ من بَين يَدَيْهِ.
وَقَوله: {من بَين يَدَيْهِ} أَي: قبل النُّزُول، فَإِن الرُّسُل بشرت بِالْقُرْآنِ، فَلَا يَأْتِيهِ مَا يدحضه ويبطله {وَلَا من خَلفه} أَي: بعد النُّزُول، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا يَأْتِيهِ كتاب ينسخه.

(5/56)


وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَو جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعجميا} أَي: بِلِسَان الْعَجم. وَيُقَال: أعجميا أَي: غير مُبين، قَالَه الْمفضل، وَالْأول هُوَ الْمَشْهُور.
وَقَوله: {لقالوا لَوْلَا فصلت آيَاته} أَي: بيّنت آيَاته {أأعجمي وعربي} مَعْنَاهُ: أقرآن أعجمي، وَرَسُول عَرَبِيّ؟ .
وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَالْحسن: " لَوْلَا فصلت آيَاته عجمي وعربي " لَا على وَجه الِاسْتِفْهَام أَي: هلا جعل بعض آيَاته عجميا، وَبَعض آيَاته عَرَبيا، وَالْمُخْتَار هِيَ الْقِرَاءَة الأولى على الْمَعْنى الأول. والأعجمي كل من فِي لِسَانه عجمة، وَإِن كَانَ عَرَبيا، وَمِنْه زِيَادَة الأعجمي الشَّاعِر. والعجمي هُوَ الْوَاحِد من الْعَجم، والأعرابي كل من يسكن البدو، والعربي الْوَاحِد من الْعَرَب، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلم أر مثلي هاجه صَوت مثلهَا ... وَلَا عَرَبيا هاجه صَوت أعجما.)
وَيُقَال: إِن الْآيَة نزلت فِي يسَار بن فكيهة غُلَام ابْن الْحَضْرَمِيّ، وَكَانَ يدْخل على رَسُول الله، وَكَانَ يَهُودِيّا قد قَرَأَ الْكتب، فَقَالُوا: علم مُحَمَّدًا يسَار أَبُو فكيهة،

(5/56)


{قل هُوَ للَّذين آمنُوا هدى وشفاء وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر وَهُوَ عَلَيْهِم عمى أُولَئِكَ ينادون من مَكَان بعيد (44) وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ وَلَوْلَا كلمة}
فَقَالَ أَبُو فكيهة: لَا، بل أَنا أتعلم مِنْهُ، وَهُوَ يعلمني.
وَقَوله: {قل هُوَ للَّذين آمنُوا} أَي: الْقُرْآن {هدى وشفاء} أَي: هدى للأبصار، وشفاء للقلوب.
وَقَوله: {وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ فِي آذانهم وقر} أَي: ثقل وصمم، كَأَنَّهُ جعلهم بِمَنْزِلَة الصم حِين لم يسمعوا سَماع قَابل.
وَقَوله: {وَهُوَ عَلَيْهِم عمى} قَالَ الْفراء: عموا وصموا على الْقُرْآن حَيْثُ لم ينتفعوا بِهِ. وَقيل: عميت أَبْصَارهم عَن الْقُرْآن، فالقرآن عَلَيْهِم بِمَنْزِلَة الْعَمى.
وَقَوله: {أُولَئِكَ ينادون من مَكَان بعيد} أَي: بعيد من قُلُوبهم، حكى هَذَا عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَيُقَال: ينادون من مَكَان بعيد أَي: السَّمَاء، قَالَ الْفراء: تَقول الْعَرَب لمن لَا يفهم القَوْل: إِنَّه يَأْخُذهُ من مَكَان بعيد، وَإِذا كَانَ يفهم يَقُولُونَ: إِنَّه يَأْخُذهُ من مَكَان قريب.
وَذكر بعض النَّحْوِيين أَن قَوْله: {أُولَئِكَ ينادون من مَكَان بعيد} جَوَاب لقَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا بِالذكر لما جَاءَهُم} وَالَّذِي ذكرنَا أَن الْجَواب مَحْذُوف هُوَ الأولى، وَقد بَينا. أوردهُ النّحاس.

(5/57)


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب فَاخْتلف فِيهِ} الْكتاب هُوَ التَّوْرَاة، وَالِاخْتِلَاف فِيهِ أَنه آمن بِهِ بَعضهم وَكفر بَعضهم.
وَقَوله: {وَلَوْلَا كلمة سبقت من رَبك} أَي: تَأْخِير الْقِيَامَة إِلَى أجل مَعْلُوم عِنْده. وَعَن عَطاء قَالَ: الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من ربه هِيَ أَن آدم صلوَات الله عَلَيْهِ لما عطس ألهمه الله تَعَالَى حَتَّى قَالَ: الْحَمد لله، فَقَالَ الله تَعَالَى: يَرْحَمك رَبك. فَهِيَ الْكَلِمَة الَّتِي سبقت من الله.

(5/57)


{سبقت من رَبك لقضي بَينهم وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب (45) من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا وَمَا رَبك بظلام للعبيد (46) إِلَيْهِ يرد علم السَّاعَة وَمَا تخرج من ثَمَرَات من أكمامها وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْم يناديهم أَيْن شركائي}
وَقَوله: {لقضي بَينهم} أَي: لعجل لَهُم الْعَذَاب.
وَقَوله: {وَإِنَّهُم لفي شكّ مِنْهُ مريب} أَي: مرتاب.

(5/58)


مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)

وَقَوله: {من عمل صَالحا فلنفسه} أَي: نفع ذَلِك عَائِد إِلَى نَفسه.
وَقَوله: {وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا} أَي: وبال ذَلِك رَاجع إِلَيْهِ.
وَقَوله: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} لِأَن مَا يَفْعَله يكون عدلا، وَلَا يكون ظلما. وَيُقَال: معنى قَوْله: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} أَي: لَا يُعَاقب أحدا من غير جرم.

(5/58)


إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)

قَوْله تَعَالَى: {إِلَيْهِ يرد علم السَّاعَة} مَعْنَاهُ: إِلَى الله برد علم السَّاعَة، وَهَذَا على الْعُمُوم، فَإِن كل من سُئِلَ عَن السَّاعَة يَقُول: الله أعلم.
وَقَوله: {وَمَا تخرج من ثَمَرَة من أكمامها} أَي: من أوعيتها وغلفها، والكم: غلافها، وَيُقَال: هُوَ جف الطّلع.
وَقَوله: {وَمَا تحمل من أُنْثَى وَلَا تضع إِلَّا بِعَمَلِهِ} أَي: يعلم مُدَّة الْحمل، وَيعلم وَقت وَضعه.
وَقَوله: {وَيَوْم يناديهم} يَعْنِي: يُنَادي الْكفَّار {أَيْن شركائ} على زعمكم؟
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يَقُول: أَيْن الْمُلُوك؟ أَيْن الْجَبَابِرَة؟ أَيْن الْآلهَة؟ أَنا الرب، لَا رب غَيْرِي، أَنا الله، لَا إِلَه غَيْرِي، أَنا الْملك، لَا ملك غَيْرِي.
وَقَوله: {قَالُوا آنذاك} أَي: أعلمناك، وَمِنْه أَخذ الْأذن وَالْأَذَان والمؤذن. وَهَذَا من قَول الْآلهَة.
قَالَ الْفراء وَغَيره: وَمَعْنَاهُ: أَن الْآلهَة تَقول: آذناك أَي: أعلمناك يَا رب تكذيبهم وكفرهم {مَا منا من شَهِيد} أَي: لَيْسَ منا أحد يشْهد أَن قَوْلهم حق، وزعمهم صَحِيح.

(5/58)


{قَالُوا آذناك مَا منا من شَهِيد (47) وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يدعونَ من قبل وظنوا مَا لَهُم من محيص (48) لَا يسأم الْإِنْسَان من دُعَاء الْخَيْر وَإِن مَسّه الشَّرّ فيئوس قنوط (49) وَلَئِن أذقناه رَحْمَة منا من بعد ضراء مسته ليَقُولن هَذَا لي وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة وَلَئِن}

(5/59)


وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

وَقَوله: {وضل عَنْهُم} أَي: بَطل عَنْهُم وَفَاتَ عَنْهُم {مَا كَانُوا يدعونَ من قبل} .
وَقَوله: {وظنوا مَا لَهُم من محيص} أَي: أيقنوا مَالهم من ملْجأ ومهرب.

(5/59)


لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)

قَوْله تَعَالَى: {لَا يسأم الْإِنْسَان من دُعَاء لخير} أَي: من دُعَاء المَال. وَيُقَال: هُوَ الْغنى بعد الْفقر، والعافية بعد السقم. وَقيل إِن الْآيَة نزلت فِي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة كَانَ لَا يزَال يَدْعُو بِكَثْرَة المَال، وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى: {وَجعلت لَهُ مَالا ممدودا وبنين شُهُودًا} .
وَقَوله: {وَإِن مَسّه الشَّرّ} أَي: الْبلَاء الْفقر والشدة.
وَقَوله: {فيئوس قنوط} أَي: يئوس من الْخَيْر، قنوط من الرَّحْمَة. وَقيل: قنوط: أَي: سيء الظَّن بربه، كَأَنَّهُ يَقُول: لَا يكْشف الله تَعَالَى مَا بِي من الْبلَاء والشدة.

(5/59)


وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)

قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقناه رَحْمَة منا من بعد ضراء مسته} أَي: رخاء بعد شدَّة، وغنى بعد فقر.
وَقَوله: {ليَقُولن هَذَا لي} أَي: باجتهادي واستحقاقي.
وَقَوله: {وَمَا أَظن السَّاعَة قَائِمَة} أَي: آتِيَة.
وَقَوله: {وَلَئِن رجعت إِلَى رَبِّي} أَي: رددت.
وَقَوله: {إِن لي عِنْده للحسنى} أَي: للخير الْكثير.
قَالَ بعض أهل الْعلم: الْكَافِر بَين منيتين باطلتين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أما فِي الدُّنْيَا يَقُول: لَئِن رجعت إِلَى رَبِّي إِن لي عِنْده للحسنى، وَأما فِي الْآخِرَة يَقُول حِين رأى مَا

(5/59)


{رجعت إِلَى رَبِّي أَن لي عِنْده للحسنى فلننبئن الَّذين كفرُوا بِمَا عمِلُوا ولنذيقنهم من عَذَاب غليظ (50) وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونأى بجانبه وَإِذا مَسّه الشَّرّ فذو دُعَاء عريض (51) قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ من أضلّ مِمَّن هُوَ فِي} قدمت يَدَاهُ: يَا لَيْتَني كنت تُرَابا. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَن الْآيَة نزلت فِي شَأْن عقبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليد بن الْمُغيرَة وَأبي بن خلف وَأُميَّة بن خلف وَغَيرهم، وَقد كَانُوا يمنون أنفسهم الأباطيل.
وَقَوله: {فلننبئن الَّذين كفرُوا بِمَا عمِلُوا} هَذَا على طَرِيق التهديد والوعيد.
وَقَوله: {ولنذيقهم من عَذَاب غليظ} أَي: شَدِيد.

(5/60)


وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)

قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا أنعمنا على الْإِنْسَان أعرض ونآى بجانبه} وَقُرِئَ: " وناء بجانبه ": وَمعنى نائ بجانبه تبَاعد بجانبه.
وَقَوله: {وَإِذا مَسّه الشَّرّ} أَي: الشدَّة وَالْبَلَاء.
وَقَوله: {فذو دُعَاء عريض} أَي: كثير. قَالَ النقاش: وَالْآيَة فِي الَّذين سبق ذكرهم. وَعَن بعض أهل الْعلم أَنه قَالَ: رب عبد يعرف الله فِي الرخَاء، وَلَا يعرفهُ فِي الشدَّة، وَرب عبد يعرف الله فِي الشدَّة وَلَا يعرفهُ فِي الرخَاء. وَالْمُؤمن من يعرفهُ فِي الرخَاء والشدة جَمِيعًا. وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تَجدهُ أمامك، تعرف إِلَى الله فِي الرخَاء، يعرفك فِي الشدَّة، إِذا سَأَلت فاسأل الله، وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه ... . ". الْخَبَر إِلَى آخِره.

(5/60)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)

قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله} مَعْنَاهُ: قل ياأيها الْكفَّار أَرَأَيْتُم إِن كَانَ من عِنْد الله؟ أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {ثمَّ كَفرْتُمْ بِهِ} أَي: بِالْقُرْآنِ.
وَقَوله: {من أضلّ مِمَّن هُوَ فِي شقَاق بعيد} أَي: فِي عناد للحق كَبِير، وَالْمعْنَى: أَنكُمْ أَيهَا الْكَافِرُونَ فِي الشقاق والضلال.

(5/60)


سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)

قَوْله تَعَالَى: {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم} الْآيَات فِي الْآفَاق آيَات

(5/60)


{شقَاق بعيد (52) سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق أَو لم يكف بِرَبِّك أَنه على كل شَيْء شَهِيد (53) أَلا أَنهم فِي مرية من لِقَاء رَبهم أَلا إِنَّه بِكُل شَيْء مُحِيط (54) } السَّمَوَات وَالْأَرضين، وَذَلِكَ من رفع السَّمَاء، وَخلق الْكَوَاكِب، ودوران الْفلك، وإضاءة الشَّمْس وَالْقَمَر، وَمَا أشبه ذَلِك، وَكَذَلِكَ بسط الأَرْض، وَنصب الْجبَال، وتفجير الْأَنْهَار، وغرس الْأَشْجَار، إِلَى مَا لَا يُحْصى.
وَقَوله: {وَفِي أنفسهم} أَي: من السّمع وَالْبَصَر، وَخلق سَائِر الْجَوَارِح وَجَمِيع الْحَواس. وَفِي بعض التفاسير: أَن من الْآيَات فِي النَّفس دُخُول الطَّعَام وَالشرَاب من مَكَان وَاحِد، وَخُرُوجه من مكانين. وَقيل: دُخُول الْأَطْعِمَة على ألوان كَثِيرَة، وخروجها على لون وَاحِد. وَقَالَ السدى: الْآيَات فِي الْآفَاق هِيَ فتح الْأَمْصَار، وَفِي الْأَنْفس فتح الرَّسُول مَكَّة. وَيُقَال: الْآيَات فِي الْآفَاق هِيَ الْفتُوح الَّتِي كَانَت بعد الرَّسُول، وَفِي أنفسهم هِيَ الَّتِي كَانَت فِي زمَان الرَّسُول. وَقيل: الْآيَات فِي الْآفَاق مَا أخبر من الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وَمَا نزل بهم، والآيات فِي الْأَنْفس هِيَ مَا أَنْذرهُمْ من الْوَعيد وَالْعَذَاب. وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَات فِي الْآفَاق هُوَ إمْسَاك الْمَطَر من السَّمَاء. والآيات فِي الْأَنْفس هِيَ البلايا فِي الأجساد.
وَقَوله: {حَتَّى يتَبَيَّن لَهُم أَنه الْحق} يَعْنِي: أَن الرَّسُول حق. وَقيل: الْقُرْآن حق.
وَقَوله: {أولم يكف بِرَبِّك} يَعْنِي: أولم يكفك يَا مُحَمَّد من رَبك [أَنه] على كل شَيْء شَهِيد وَقيل مَعْنَاهُ: أَو لَيْسَ فِي شَهَادَة رَبك كِفَايَة. وَقيل: أَو لَيْسَ فِي الدّلَالَة الَّتِي أَقَامَهَا على التَّوْحِيد كِفَايَة.
وَقَوله: {إِنَّه على كل شَيْء شَهِيد} أَي: لِأَنَّهُ على كل شَيْء شَهِيد، أَو بِأَنَّهُ على كل شَيْء شَهِيد.

(5/61)


أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم فِي مرية من لِقَاء رَبهم} أَي: فِي شكّ من الْبَعْث والنشور.
وَقَوله: {أَلا إِنَّه بِكُل شَيْء مُحِيط} أَي: مُحِيط علمه بِجَمِيعِ ذَلِك. تمت السُّورَة.

(5/61)