تفسير السمعاني بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{وَالطور (1) وَكتاب مسطور (2) }
تَفْسِير سُورَة الطّور
وَهِي مَكِّيَّة. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جُبَير بن مطعم أَنه
قَالَ: " سَمِعت النَّبِي يقْرَأ فِي الْمغرب سُورَة الطّور ".
(5/266)
وَالطُّورِ (1)
قَوْله تَعَالَى: {وَالطور} قَالَ
مُجَاهِد: هُوَ بالسُّرْيَانيَّة اسْم للجبل. وَالأَصَح أَنه
اسْم الْجَبَل بِالْعَرَبِيَّةِ. وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه
قَالَ: كل جبل ينْبت فَهُوَ طور، وكل مَا لَا ينْبت فَلَيْسَ
بطور. وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار وَغَيره: هُوَ الطّور الَّذِي
كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى. وَقد رُوِيَ هَذَا القَوْل عَن
قَتَادَة وَعِكْرِمَة. وَعَن نوف الْبكالِي: أَن الله تَعَالَى
أوحى إِلَى الْجبَال أَنِّي منزل على جبل مِنْكُن، فشمخت
الْجبَال بأنفسها، وتواضع الطّور وَقَالَ: أَنا رَاض بِمَا قسم
الله لي، وَكَانَ عَلَيْهِ الْأَمر.
(5/266)
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ
(2)
وَقَوله: {وَكتاب مسطور} فِيهِ أَقْوَال:
أَنه الْقُرْآن، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ.
وَالْآخر: أَنه التَّوْرَاة كتبهَا الله تَعَالَى فِي الألواح.
وَالثَّالِث أَنه الْكتاب الَّذِي أثبت الله فِيهِ أَعمال بني
آدم، وَيخرج يَوْم الْقِيَامَة وفيكون صَحَائِف، فآخذ
بِيَمِينِهِ وآخذ بِشمَالِهِ، وآخذ وَرَاء ظَهره، وَهَذَا قَول
مَعْرُوف ذكره الْفراء وَغَيره.
وَيُقَال: إِن المُرَاد مِنْهُ الصُّحُف الَّتِي تقْرَأ
مِنْهَا الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاء الْقُرْآن على مَا قَالَ
تَعَالَى: {فِي صحف مكرمَة مَرْفُوعَة مطهرة بأيدي سفرة}
وَيُقَال: إِنَّه اللَّوْح الْمَحْفُوظ قد كتب فِيهِ مَا هُوَ
كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
(5/266)
{فِي رق منشور (3) وَالْبَيْت الْمَعْمُور
(4)
(5/267)
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ
(3)
وَقَوله: {فِي رق منشور} وَالرّق: هُوَ
الْأَدِيم الَّذِي يكْتب فِيهِ الشَّيْء.
وَقَوله: {منشور} أَي: مَبْسُوط، وَهَذَا يُؤَيّد القَوْل
الَّذِي قُلْنَا إِن الْكتاب هُوَ صَحَائِف الْأَعْمَال فِي
الْآخِرَة، لِأَن الله تَعَالَى قد قَالَ فِي مَوضِع آخر:
{وَإِذا الصُّحُف نشرت} وَالْمرَاد مِنْهُ صَحَائِف
الْأَعْمَال فِي الْآخِرَة.
(5/267)
وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ (4)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْبَيْت الْمَعْمُور}
قَالَ بَعضهم: هُوَ الْكَعْبَة، وعمارته بِالْحَجِّ وَالطّواف.
وَالْقَوْل الْمَعْرُوف أَنه بَيت فِي السَّمَاء، قَالَه ابْن
عَبَّاس وَعَامة الْمُفَسّرين وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ بن
أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَيْضا.
وَاخْتلفُوا فِي مَوْضِعه، فروى أنس بن مَالك بن صعصعة عَن
النَّبِي فِي قصَّة الْمِعْرَاج أَنه قَالَ: " رفع لي الْبَيْت
الْمَعْمُور فِي السَّمَاء السَّابِعَة ".
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه فِي السَّمَاء السَّادِسَة.
وَعَن الرّبيع بن أنس وَغَيره أَنه فِي السَّمَاء الدُّنْيَا
بحيال الْكَعْبَة لَو سقط سقط عَلَيْهِ.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْبَيْت الْمَعْمُور [أنزلهُ] الله
تَعَالَى من السَّمَاء لآدَم، وَوَضعه مَكَان الْكَعْبَة
فَلَمَّا كَانَ زمَان نوح رَفعه الله تَعَالَى إِلَى السَّمَاء
الدُّنْيَا فَهُوَ مَوضِع حج الْمَلَائِكَة وحرمته كَحُرْمَةِ
الْكَعْبَة فِي الأَرْض.
قَالَ عَليّ وَغَيره: اسْمه الضراح يدْخلهُ كل يَوْم سَبْعُونَ
ألف ملك لَا يعودون إِلَيْهِ أبدا وَقد أسْند هَذَا اللَّفْظ
إِلَى الرَّسُول.
وَعَن بَعضهم أَنه فِي السَّمَاء الرَّابِعَة. وَفِي بعض
المسانيد " أَن الله تَعَالَى خلق نَهرا
(5/267)
{والسقف الْمَرْفُوع (5) وَالْبَحْر
الْمَسْجُور (6) } تَحت الْعَرْش يُسمى نهر الْحَيَوَان فيدخله
جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام كل يَوْم حِين تطلع الشَّمْس ثمَّ
يخرج، وينتفض انتفاضة فيقطر مِنْهُ سَبْعُونَ ألف قَطْرَة يخلق
الله تَعَالَى من كل قَطْرَة مِنْهَا ملكا فهم الْعباد فِي
الْبَيْت الْمَعْمُور ". وَهَذَا خبر غَرِيب.
(5/268)
وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ (5)
قَوْله تَعَالَى: {والسقف الْمَرْفُوع}
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه السَّمَاء، وَالْآخر: أَنه
الْعَرْش.
(5/268)
وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ (6)
وَقَوله: {وَالْبَحْر الْمَسْجُور} أشهر
الْأَقَاوِيل فِيهِ أَنه الممتلئ. وَعَن ربيع بن أنس فِي
قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَ عَرْشه على المَاء} قَالَ: إِن الله
تَعَالَى جعل ذَلِك المَاء نِصْفَيْنِ حِين خلق السَّمَوَات
وَالْأَرْض، فَجعل نصفا مِنْهُ تَحت الأَرْض السَّابِعَة
وَنصفا مِنْهُ تَحت الْعَرْش، فَإِذا كَانَ بَين النفختين ينزل
الله مِنْهُ قطرا على الأَرْض، فينبت بِهِ الأجساد فِي
الْقُبُور.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن الْبَحْر الْمَسْجُور
هُوَ المفجور على مَا قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر:
{وَإِذا الْبحار فجرت} وتفجيرها هُوَ بسطها وإرسالها على
الأَرْض. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْبَحْر
الْمَسْجُور هُوَ الْمُرْسل، وَذَلِكَ لِمَعْنى مَا بَينا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْبَحْر الْمَسْجُور هُوَ الموقد
نَارا، من قَوْلهم: سجرت التَّنور. وَعَن عَليّ رَضِي الله
عَنهُ أَنه قَالَ لكعب الْأَحْبَار: أَيْن جَهَنَّم؟ قَالَ:
هُوَ الْبَحْر، فَقَالَ: مَا أَرَاك إِلَّا صَادِقا، وَقَرَأَ
قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الْبحار سجرت}
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَن الْبَحْر الْمَسْجُور هُوَ الْبَحْر
الَّذِي يبس مَاؤُهُ وَذهب، كَأَن بحار الأَرْض تفرغ عَن
المَاء يَوْم الْقِيَامَة. وَعبر بَعضهم عَن هَذَا الْبَحْر
الْمَسْجُور بالفارغ.
(5/268)
{إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع (7) مَا لَهُ من
دَافع (8) يَوْم تمور السَّمَاء مورا (9) وتسير الْجبَال سيرا
(10) فويل يَوْمئِذٍ للمكذبين (11) الَّذين هم فِي خوض
يَلْعَبُونَ (12)
(5/269)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ
لَوَاقِعٌ (7)
قَوْله تَعَالَى: {إِن عَذَاب رَبك
لوَاقِع} على هَذَا وَقع الْقسم، وَإِلَى هَذَا الْموضع كَانَ
قسما على التَّقْدِير الَّذِي قُلْنَاهُ فِي السُّورَة
الْمُتَقَدّمَة.
وَقَوله: {وَاقع} أَي: كَائِن.
(5/269)
مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ
(8)
وَقَوله: {مَا لَهُ من دَافع} أَي: مَاله
دَافع من الْكفَّار. وَعَن جُبَير بن مطعم: " أَنه أَتَى
الْمَدِينَة ليفدي بعض أُسَارَى بدر، فَسمع النَّبِي يقْرَأ
فِي الصَّلَاة سُورَة الطّور، فَلَمَّا سمع قَوْله: {إِن
عَذَاب رَبك لوَاقِع مَا لَهُ من دَافع} غشية وَجل وَخَوف،
وَكَانَ ذَلِك سَبَب إِسْلَامه ".
(5/269)
يَوْمَ تَمُورُ
السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
قَوْله: {يَوْم تمور السَّمَاء مورا} أَي:
تَدور، وَيُقَال: تَجِيء وَتذهب وَالْمرَاد سَيرهَا وَيُقَال
تكفأ بِأَهْلِهَا.
(5/269)
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ
سَيْرًا (10)
وَقَوله {وتسير الْجبَال سيراً} أى تجىء
وَتذهب على وَجه الأَرْض، وَيُقَال: سَيرهَا سير السَّحَاب
بَين السَّمَاء وَالْأَرْض على مَا قَالَ تَعَالَى: {وَهِي تمر
مر السَّحَاب} .
(5/269)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
(12)
وَقَوله: {فويل يَوْمئِذٍ للمكذبين الَّذين
هم فِي خوض يَلْعَبُونَ} أَي: فِي بَاطِل لاهون، وَيُقَال:
يَخُوضُونَ فِي أَمر النَّبِي بالتكذيب، ويلعبون بِمَا هُوَ
[الْجد] . وَعَن بَعضهم: أَنه رُؤِيَ فِي الْمَنَام، فَقيل
لَهُ: كَيفَ الْأَمر؟ فَقَالَ: الْأَمر جد فأياك أَن تخلطه
بِالْهَزْلِ. وَقيل: إِن الله تَعَالَى جعل كل مَا فِيهِ
الْكفَّار لعبا.
(5/269)
يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم يدعونَ إِلَى نَار
جَهَنَّم دَعَا} أَي: يدْفَعُونَ فِي نَار جَهَنَّم.
وَقَوله: {دَعَا} أَي: دفعا. والدع فِي اللُّغَة: هُوَ الدّفع
بِشدَّة وعنف.
(5/269)
{يَوْم يدعونَ إِلَى نَار جَهَنَّم دَعَا
(13) هَذِه النَّار الَّتِي كُنْتُم بهَا تكذبون (14) أفسحر
هَذَا أم أَنْتُم لَا تبصرون (15) اصلوها فَاصْبِرُوا أَو لَا
تصبروا سَوَاء عَلَيْكُم إِنَّمَا تُجْزونَ}
(5/270)
هَذِهِ النَّارُ
الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
وَقَوله: {هَذِه النَّار الَّتِي كُنْتُم
بهَا تكذبون} يُقَال لَهُم هَذَا على طَرِيق التوبيخ والتقريع.
(5/270)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ
أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
قَوْله تَعَالَى: {أفسحر هَذَا} فِي
التَّفْسِير: أَنهم لما كَانُوا يرَوْنَ الْآيَات فِي
الدُّنْيَا وَدَلَائِل نبوة الرَّسُول فَيَقُولُونَ: إِنَّهَا
سحر وَنحن لَا نبصر مَا يَقُول أَي: لَا نعلم فَإِذا كَانَ
يَوْم الْقِيَامَة وعاينوا الْعَذَاب يُقَال لَهُم: أفسحر
هَذَا كَمَا تَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا لما رَأَيْتُمْ من
الْآيَات أم أَنْتُم لَا تبصرون، أَي: هَل أَنْتُم لَا تبصرون
كَمَا لم تبصروا فِي الدُّنْيَا على زعمكم؟ .
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي قَوْله: {أم أَنْتُم لَا تبصرون}
أَي: مَعْنَاهُ بل كُنْتُم لَا تبصرون، أَي: لَا تعلمُونَ،
وَهَذَا قَول مَعْرُوف.
(5/270)
اصْلَوْهَا
فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
وَقَوله: {اصلوها} أَي: ادخلوها. وَيُقَال:
قاسوا حرهَا.
وَقَوله: {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} هُوَ مثل قَوْله
تَعَالَى: {سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا} وَالْمعْنَى:
أَنكُمْ سَوَاء صَبَرْتُمْ أَو جزعتم، فالعذاب وَاقع بكم وَلَا
يُخَفف عَنْكُم. وَفِي بعض الْآثَار: أَن أهل النَّار يجزعون
مُدَّة مديدة، وينادون على أنفسهم بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور
ثمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نصبر، فيصبرون أَيْضا مُدَّة
مديدة فَلَا يَنْفَعهُمْ وَاحِد من الْأَمريْنِ، وَهُوَ معنى
قَوْله تَعَالَى: {سَوَاء عَلَيْكُم} أَي: مستو [كلتا]
الْحَالَتَيْنِ، وَالْعَذَاب مُسْتَمر بكم فيهمَا.
وَقَوله: {إِنَّمَا تُجْزونَ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ}
يَعْنِي: أَن هَذَا عَمَلكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ.
(5/270)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُتَّقِينَ فِي
جنَّات ونعيم} أَي: بساتين ونعمة.
(5/270)
{مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (16) إِن
الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونعيم (17) فاكهين بِمَا آتَاهُم
رَبهم ووقاهم رَبهم عَذَاب الْجَحِيم (18) كلوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئًا بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (19) }
(5/271)
فَاكِهِينَ بِمَا
آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
(18)
وَقَوله: {فاكهين} قَالَ ابْن عَرَفَة
وَهُوَ نفطويه النَّحْوِيّ فاكهين: ناعمين. وَيُقَال: فاكهين
ذَوي فَاكِهَة. يُقَال: فلَان لِابْنِ أَي: ذُو لبن: وتامر
أَي: ذُو تمر. وَقُرِئَ: {فكهين} أَي: معجبين مسرورين بحالهم.
وَقَوله: {بِمَا آتَاهُم رَبهم} أَي: أَعْطَاهُم رَبهم.
وَقَوله: {ووقاهم رَبهم عَذَاب الْجَحِيم} أَي: عَذَاب
النَّار، والجحيم: مُعظم النَّار.
(5/271)
كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
قَوْله تَعَالَى: {كلوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئًا} أَي: تهنئون هَنِيئًا.
وَقَوله: {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} أَي: تَعْمَلُونَ من
الطَّاعَات.
(5/271)
مُتَّكِئِينَ عَلَى
سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
قَوْله تَعَالَى: {متكئين على سرر} هُوَ
جمع سَرِير.
وَقَوله: {مصفوفة} أَي مضموم بَعْضهَا إِلَى بعض. وَيُقَال:
مصطفة.
وَفِي التَّفْسِير: أَن ارْتِفَاع السرير يكون كَذَا كَذَا
ميلًا، فَإِذا أَرَادَ الْمُؤمن أَن يَصْعَدهُ تطامن حَتَّى
يرْتَفع عَلَيْهِ الْمُؤمن، ثمَّ يعود إِلَى مَا كَانَ.
وَقَوله: {وزوجناهم} أَي: قرناهم، قَالَه الْفراء والزجاج
وَغَيرهمَا من أهل الْمعَانِي. قَالُوا: وَلَيْسَ المُرَاد
مِنْهُ التَّزْوِيج الْمَعْرُوف الَّذِي يكون فِي الدُّنْيَا،
فَإِن عقد التَّزْوِيج من عُقُود الدُّنْيَا لَيْسَ من عُقُود
الْآخِرَة.
وَقَوله: {بحور عين} الْحور: الْبيض، وَمِنْه الْحوَاري،
وَمِنْه الحواريون، لأَصْحَاب عِيسَى، وهم القصارون الَّذين
يبيضون الثِّيَاب. وَالْعرب تسمى نسَاء الْأَمْصَار حواريات
لبياضهن.
وَقَالَ بَعضهم:
(فَقَالَ للحواريات يبْكين غَيرنَا ... وَلَا تبكنا إِلَّا
الْكلاب النوابح)
وَقَوله: {عين} أَي: حسان الْعين. وَيُقَال: سميت الْوَاحِدَة
مِنْهُنَّ حوراء؛ لشدَّة
(5/271)
{متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين
(20) وَالَّذين آمنُوا وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ} بياضها،
وَسَوَاد (حدقتيها) .
(5/272)
وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا
وأتبعناهم ذرياتهم} وَقُرِئَ: " وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ "
وَفِي الْخَبَر مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس وَمَرْفُوعًا إِلَى
رَسُول الله: " أَن الله تَعَالَى يرفع ذُرِّيَّة الْمُؤمن
إِلَى دَرَجَته، وَإِن لم يبلغهَا عَمَلهم؛ لتقر عينهم بهم "
وَعَن بَعضهم أَن هَذَا فِي الْآبَاء مَعَ الْأَوْلَاد،
وَالْأَوْلَاد مَعَ الْآبَاء جَمِيعًا، كَأَن الله تَعَالَى
يبلغ الْوَالِد دَرَجَة الْوَلَد إِذا كَانَ أرفع مِنْهُ فِي
الدرجَة، ويبلغ الْوَلَد دَرَجَة الْوَالِد إِذا كَانَ أرفع
مِنْهُ فِي الدرجَة. وَقد ورد فِي بعض الْكتب: أَن هَذَا يكون
أَيْضا للْأَخ مَعَ أَخِيه فِي الْإِيمَان يَقُول الْأَخ: يَا
رب، ارفعه إِلَى درجتي، فَيَقُول: إِنَّه لم يعْمل مثل عَمَلك،
فَيَقُول: إِنِّي عملت لنَفْسي وَله.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي " أَن أَوْلَاد
الْمُؤمنِينَ يكونُونَ مَعَ آبَائِهِم فِي الْجنَّة وَأَوْلَاد
الْكفَّار مَعَ آبَائِهِم فِي النَّار. "
(5/272)
( {بِإِيمَان ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ} وَفِي
بعض الْأَخْبَار: " أَن أَوْلَاد الْمُشْركين يكونُونَ خدم أهل
الْجنَّة ". وَقد ثَبت بِرِوَايَة عَائِشَة رَضِي الله
عَنْهَا: أَنه مَاتَ صبي من الْأَنْصَار، فَقَالَت عَائِشَة:
طُوبَى لَهُ عُصْفُور من عصافير الْجنَّة، فَقَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: " يَا عَائِشَة أَو غير ذَلِك؟ إِن
الله تَعَالَى خلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا، وخلقهم لَهَا
وهم فِي أصلاب آبَائِهِم، وَخلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا،
خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ". قَالَ الشَّيْخ
الإِمَام رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا بذلك أَبُو عَليّ
الشَّافِعِي رَحمَه الله بِمَكَّة، أخبرنَا أَبُو الْحسن بن
فراس أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد المقرىء أخبرنَا جدي عَن سُفْيَان
بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن عَائِشَة بنت
طَلْحَة، عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، عَن النَّبِي ...
وَالْخَبَر فِي صَحِيح مُسلم.
وَقد قَالَ أهل الْعلم: إِن الْأَصَح فِي ذرارى الْمُؤمنِينَ
أَنهم فِي الْجنَّة، وَيحْتَمل أَن النَّبِي إِنَّمَا قَالَ
ذَلِك على مَا كَانَ عرفه فِي الأَصْل، ثمَّ إِن الله تَعَالَى
أخبرهُ أَن ذرارى الْمُسلمين فِي الْجنَّة بِهَذِهِ الْآيَة
وَغَيرهَا، وأنما ذرارى الْكفَّار: فَالْأَصَحّ أَن الْأَمر
فيهم على التَّوَقُّف على مَا روى عَن النَّبِي " أَنه سُئِلَ
عَن أَطْفَال الْمُشْركين فَقَالَ: الله أعلم بِمَا كَانُوا
عاملين ".
وَقَوله: {بِإِيمَان} أَي: بإيمَانهمْ، إِمَّا بإيمَانهمْ
بِأَنْفسِهِم، أَو بِثُبُوت الْإِيمَان لَهُم
(5/273)
{وَمَا ألتناهم من عَمَلهم من شَيْء كل
امْرِئ بِمَا كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة وَلحم مِمَّا
يشتهون (22) يتنازعون فِيهَا كأسا} بِإِيمَان الْآبَاء.
{ألحقنا بهم ذُرِّيتهمْ} أَي: فِي الدرجَة على مَا قُلْنَا.
وَقَوله: {وَمَا ألتناهم من عَمَلهم من شَيْء} أَي: مَا
نقصناهم من عَمَلهم من شَيْء. وَقَرَأَ ابْن كثير: " وَمَا
ألتناهم " بِكَسْر اللَّام، وَالْأول هُوَ الأولى. وَقَرَأَ
ابْن مَسْعُود: " وَمَا لتناهم " وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد.
قَالَ الشَّاعِر:
(أبلغ بنى ثقل عني مغلغلة ... جهد الرسَالَة لَا ألتا وَلَا
كذبا)
قَوْله تَعَالَى: {كل امْرِئ بِمَا كسب رهين} هَذَا فِي
الْمُشْركين، وَمَعْنَاهُ: أَن الْكفَّار محبوسون فِي النَّار
بعملهم، وَأما الْمُؤمن فَهُوَ غير مَحْبُوس وَلَا مُرْتَهن،
فَإِن ارْتهن بِعَمَلِهِ فَلَا بُد أَن يدْخل النَّار. وَفِي
الْخَبَر الْمَعْرُوف أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
قَالَ: " لن يُنجي أحدا مِنْكُم عمله، قيل: وَلَا أَنْت يَا
رَسُول الله؟ قَالَ: وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة
مِنْهُ وَفضل لَهُ ".
(5/274)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ
بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)
قَوْله تَعَالَى: {وأمددناهم بفاكهة} هَذَا
رُجُوع إِلَى صفة أهل الْجنَّة.
وَقَوله: {وَلحم طير مِمَّا يشتهون} ظَاهر الْمَعْنى.
(5/274)
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا
كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
قَوْله تَعَالَى: {يتنازعون فِيهَا كأسا}
أَي: يتعاطون، وَالْمعْنَى: بَعضهم يُعْطي بَعْضًا على مَا
يفعل الشَّرَاب فِي الدُّنْيَا.
قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فَلَمَّا تنازعنا الحَدِيث وأسمحت ... هصرت بِغُصْن ذِي
شماريخ ميال)
(5/274)
{لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم} وَيَطوف
عَلَيْهِم غلْمَان لَهُم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤ منكون وَأَقْبل
بَعضهم على بعض يتساءلون قَالُوا إِنَّا كُنَّا قبل فِي أهلنا
فِي أهلنا مشفقين
وَقَوله {لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم} أَي: لَا يجْرِي
بَينهم كَلَام بَاطِل، وَلَا كَلَام يَأْثَم بِهِ قَائِله، على
مَا يكون بَين الشَّرَاب فِي الدُّنْيَا. قَالَ القتيبي:
مَعْنَاهُ: لَا يسكرون فَيكون مِنْهُم كَلَام لَغْو أَو كَلَام
يأثمون بِهِ.
(5/275)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
قَوْله تَعَالَى: {وَيَطوف عَلَيْهِم
غلْمَان لَهُم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤ مَكْنُون} أَي: مصون
مَسْتُور من الشَّمْس وَالرِّيح، وَمن كل مَا يذهب صفاءه
وبهاءه ويغيره.
(5/275)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَقْبل بَعضهم على بعض
يتساءلون} فِي الْآيَة دَلِيل على أَن أهل الْجنَّة
يَجْتَمعُونَ، ويذكرون أَحْوَال الدُّنْيَا، وَيسْأل بَعضهم
بَعْضًا عَن ذَلِك.
(5/275)
قَالُوا إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
وَقَوله: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قبل فِي
أهلنا مشفقين} أَي: وجلين خَائِفين، فَيُقَال: إِن خوفهم
ووجلهم هُوَ من يَوْم الْقِيَامَة. وَيُقَال: إِن خوفهم ووجلهم
من أَن لَا تقبل مِنْهُم أَعْمَالهم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله
تَعَالَى: {إِن الَّذين هم من خشيَة رَبهم مشفقون} قَالَت
عَائِشَة: عمِلُوا مَا عمِلُوا من الطَّاعَات، وخافوا أَن لَا
تقبل مِنْهُم. وَيُقَال: إِن الْمُؤمن فِي بَيته وَجل؛
لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى معاشرة أَهله وَولده، وَلَا بُد لَهُ
مَعَ ذَلِك أَن يَتَّقِي الله تَعَالَى، وَلَا يَقُول وَلَا
يفعل مَا لَا يرضاه الله، وَهَذَا هُوَ أَشد شَيْء على
الْمُؤمنِينَ أَن يَكُونُوا على حذر من رَبهم وعَلى طلب
رِضَاهُ مِنْهُم فِيمَا بَين أُمُورهم مَعَ الْخلق.
(5/275)
فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
قَوْله تَعَالَى: {فَمن الله علينا} أَي:
أنعم الله علينا.
وَقَوله: {ووقانا عَذَاب السمُوم} أَي: عَذَاب جَهَنَّم،
فَيُقَال: إِن السمُوم اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم. وَيُقَال:
عَذَاب السمُوم أَي: عَذَاب سموم جَهَنَّم.
(5/275)
إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا من قبل
نَدْعُوهُ} أَي: نوحده ونعبده، وَالدُّعَاء هَاهُنَا بِمَعْنى
(5/275)
{فَمن الله علينا ووقانا عَذَاب السمُوم
(27) إِنَّا كُنَّا من قبل نَدْعُوهُ إِنَّه هُوَ الْبر
الرَّحِيم (28) فَذكر فَمَا أَنْت بنعمت رَبك بكاهن وَلَا
مَجْنُون (29) أم يَقُولُونَ شَاعِر نتربص} التَّوْحِيد،
وَعَلِيهِ أَكثر الْمُفَسّرين. وَيُقَال: إِنَّه الدُّعَاء
الْمَعْرُوف.
قَوْله: {إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} قرئَ بِفَتْح الْألف
وَكسرهَا، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ على الِابْتِدَاء
والاستئناف، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فَمَعْنَاه: إِنَّا كُنَّا
من قبل نَدْعُوهُ بِأَنَّهُ هُوَ الْبر الرَّحِيم أَي:
لِأَنَّهُ. وَالْبر: هُوَ الْبَار اللَّطِيف بعباده، ولطفه
بعباده هُوَ إنعامه عَلَيْهِم مَعَ عظم جرمهم وذنبهم. والرحيم:
هُوَ العطوف على مَا ذكرنَا. وَعَن بَعضهم: أَن الْبر الَّذِي
يصدق وعده لأوليائه.
وَعَن ابْن عياس فِي عَذَاب السمُوم قَالَ: السمُوم هُوَ
الطَّبَق السَّابِع من النَّار، وَهُوَ الطَّبَق الْأَعْلَى.
والسموم يكون بِالْحرِّ وَيكون بالبرد.
قَالَ الشَّاعِر:
(الْيَوْم يَوْم بَارِد سمومه ... من يجزع الْيَوْم فَلَا
ألومه)
وَيُقَال " السمُوم وهج النَّار.
(5/276)
فَذَكِّرْ فَمَا
أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
قَوْله تَعَالَى: {فَذكر فَمَا أَنْت
بِنِعْمَة رَبك بكاهن وَلَا مَجْنُون} قَوْله: {فَذكر} أَي:
فعظ، وَيُقَال: ذكر عِقَاب الْكَافرين، ونعيم الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: {بكاهن وَلَا مَجْنُون} الكاهن هُوَ الَّذِي يخبر عَن
الْغَيْب كذبا. يُقَال: تكهن كهَانَة إِذا فعل ذَلِك.
وَالْمَجْنُون: هُوَ الَّذِي زَالَ عقله وَاخْتَلَطَ.
(5/276)
أَمْ يَقُولُونَ
شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ شَاعِر}
يُقَال: إِن " أم " هَاهُنَا بِمَعْنى الِاسْتِفْهَام يَعْنِي:
أتقولون شَاعِر. وَيُقَال: الْمَعْنى: بل. قَالَ النّحاس: "
أَو " فِي اللُّغَة لِلْخُرُوجِ من حَدِيث إِلَى حَدِيث.
وَقَوله: {شَاعِر نتربص بِهِ ريب الْمنون} مَعْنَاهُ: حوادث
الدَّهْر.
وَقَالَ الْخَلِيل: الْمنون هُوَ الْمَوْت، ذكره ابْن السّكيت
أَيْضا. وَقيل: هُوَ صرف الدَّهْر،
(5/276)
{بِهِ ريب الْمنون (30) قل تَرَبَّصُوا
فَإِنِّي مَعكُمْ من المتربصين (31) أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم
بِهَذَا أم هم قوم طاغون (32) أم يَقُولُونَ تَقوله بل لَا
يُؤمنُونَ (33) فليأتوا بِحَدِيث}
وَقَالَ الشَّاعِر: أَمن الْمنون وريبها نتوجع ... وَالْمَوْت
لَيْسَ بمعتب من يجزع)
والمنون يؤنث وَيذكر، فَمن ذكر فعلى اللَّفْظ، وَمن أنث فَهُوَ
على أَنه بِمَعْنى الْمنية. وَيُقَال: (ريب) الْمنون الدَّهْر،
مكاره الدَّهْر، فَقَالَ: رَابَنِي كَذَا أَي: أصابني مِنْهُ
مَا أكره. وَفِي التَّفْسِير: أَن هَذَا القَوْل قَالَه أَبُو
جهل وَعقبَة بن أبي معيط وَشَيْبَة بن ربيعَة وَالنضْر بن
الْحَارِث وَغَيرهم. قَالُوا: هُوَ شَاعِر نَنْتَظِر بِهِ
حوادث الدَّهْر، وتتخلص مِنْهُ بهَا كَمَا تخلصنا من فلَان
وَفُلَان.
(5/277)
قُلْ تَرَبَّصُوا
فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
قَوْله تَعَالَى: {قل تَرَبَّصُوا} أَي:
انتظروا.
{فَإِنِّي مَعكُمْ من المتربصين} أَي: المنتظرين، وانتظاره
كَانَ [إِمَّا] أَن يظفر بهم أَو يسلمُوا.
(5/277)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ
أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
وَقَوله تَعَالَى: {أم تَأْمُرهُمْ أحلامهم
بِهَذَا} أَي: عُقُولهمْ، وَكَانُوا يدعونَ أَنهم ذَوُو عقول
وأحلام. وَالْعقل: هُوَ الدَّاعِي إِلَى الْحلم فَسَماهُ
باسمه. وَيُقَال: إِن الْمَعْنى من هَذَا هُوَ تسفيههم
وتجهيلهم أَي: لَيْسَ لَهُم حلم وَلَا عقل حَيْثُ قَالُوا مثل
هَذَا القَوْل، وَحَيْثُ نسبوا إِلَى الشّعْر وَالْجُنُون من
دعاهم إِلَى التَّوْحِيد وأتاهم بالبراهين.
وَقَوله: {أم هم قوم طاغون} أَي: بل هم قوم طاغون.
(5/277)
أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
قَوْله تَعَالَى: {أم يَقُولُونَ تَقوله}
أَي: افتراه واختلقه.
وَقَوله: {بل لَا يُؤمنُونَ} أَي: لَا يصدقون.
(5/277)
فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
قَوْله تَعَالَى: {فليأتوا بِحَدِيث مثله
إِن كَانُوا صَادِقين} أَي: بِكِتَاب مثل مَا أَتَى بِهِ
(5/277)
{مثله إِن كَانُوا صَادِقين (34) أم خلقُوا
من غير شَيْء أم هم الْخَالِقُونَ (35) أم خلقُوا السَّمَوَات
وَالْأَرْض بل لَا يوقنون (36) } مُحَمَّد إِن كَانُوا
صَادِقين أَنه اختلقه وافتراه. وَهَذَا بِمَعْنى التحدي على
مَا ذكره فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
(5/278)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
قَوْله تَعَالَى: {أم خلقُوا من غير شَيْء}
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَن مَعْنَاهُ: أم خلقُوا من غير أَن
يكون لَهُم خَالق وصانع أَي: تَكُونُوا بِأَنْفسِهِم.
وَقَوله: {أم هم الْخَالِقُونَ} أَي: خلقُوا أنفسهم،
وَالْمرَاد على هَذَا القَوْل، أَنهم إِذا لم يدعوا أَنهم
تَكُونُوا من غير خَالق وصانع، وَلَا ادعوا أَنهم الَّذين هم
خلقُوا أنفسهم، وأقروا أَن خالقهم هُوَ الله، فَلَا يَنْبَغِي
أَن يعبدوا مَعَه غَيره. وَالْقَوْل الثَّانِي أَن مَعْنَاهُ:
أم خلقُوا من غير شَيْء أَي: لغير شَيْء، وَهُوَ مثل قَوْله
تَعَالَى: {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا} وَمثل قَوْله
تَعَالَى: {أيحسب الْإِنْسَان أَن يتْرك سدى} فَإِن قَالَ
قَائِل: هَل يجوز أَن يكون " من " بِمَعْنى اللَّام؟
وَالْجَوَاب: أَن بَعضهم قد أجَاز ذَلِك، وَمن لم يجز قَالَ
مَعْنَاهُ: أم خلقُوا من غير شَيْء توجبه الْحِكْمَة يعْنى:
أَن الْحِكْمَة أوجبت خلقهمْ ذكره النّحاس أَيْضا وَالْأول
أظهر فِي الْمَعْنى.
(5/278)
أَمْ خَلَقُوا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
قَوْله تَعَالَى: {أم خلقُوا السَّمَوَات
وَالْأَرْض} مَعْنَاهُ: أم يدعونَ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض
للأصنام الَّتِي يعبدونها.
قَوْله {بل لَا يوقنون} أى لَا يوقنون بِمَا يدعونَ وَقيل أم
خلقُوا السَّمَوَات وَالْأَرْض أى أهم الَّذين خلقُوا
السَّمَوَات وَالْأَرْض. مَعْنَاهُ: أَنهم لم يخلقوا
السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَفِي التَّفْسِير: أَنهم كَانُوا مقرين بِأَن الله خَالق
السَّمَوَات وَالْأَرْض. فَالْمَعْنى: أَنهم إِذا كَانُوا
مقرين بِأَن الله هُوَ الْخَالِق فَلم يشركوه مَعَه غَيره؟ ! .
(5/278)
{أم عِنْدهم خَزَائِن رَبك أم هم المسيطرون
(37) أم لَهُم سلم يَسْتَمِعُون فِيهِ فليأت مستمعهم بسُلْطَان
مُبين (38) أم لَهُ الْبَنَات وَلكم البنون (39) أم
تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من}
(5/279)
أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
قَوْله تَعَالَى: {أم عِنْدهم خَزَائِن
رَبك} أَي: عطايا رَبك، وَيُقَال: خزائنه من الرزق والمطر، فهم
يملكُونَ ويعطون من شَاءُوا.
قَوْله: {أم هم المسيطرون} أَي: الأرباب المسلطون. قَالَ أَبُو
عُبَيْدَة وَالْمعْنَى: أَنهم لَيْسُوا كَذَلِك. يُقَال: تسيطر
الرجل على فلَان، إِذا حمله على مَا يُحِبهُ ويهواه.
(5/279)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ
يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ
مُبِينٍ (38)
قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم سلم} أَي: درج
ومرقى.
وَقَوله: {يَسْتَمِعُون فِيهِ} أَي: عَلَيْهِ، وَهُوَ مثل
قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي: على
جُذُوع النّخل.
وَقَوله: {فليأت مستمعهم بسُلْطَان مُبين} أَي: فليأت من ادّعى
الِاسْتِمَاع مِنْهُم بِحجَّة بَيِّنَة. وَفِي بعض التفاسير:
كَمَا أَتَى جِبْرِيل بِالْحجَّةِ فِي أَنه قد سمع الْوَحْي.
(5/279)
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ
وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُ الْبَنَات وَلكم
البنون} مَعْنَاهُ: كَيفَ تَقولُونَ أَن لَهُ الْبَنَات
وَأَنْتُم لَا ترْضونَ ذَلِك لأنفسكم؟ وَالْمعْنَى: أَنه
لَيْسَ الْأَمر كَمَا تَزْعُمُونَ.
(5/279)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ
أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
قَوْله تَعَالَى: {أم تَسْأَلهُمْ أجرا} أى
علا على تَبْلِيغ الرسَالَة.
وَقَوله {فهم من مغرم مثقلون أَي: فهم من المغرم الَّذِي لحقهم
مثقلون. يُقَال: لحق فلَانا دين فادح، أَو دين ثقيل، فَهُوَ
مثقل.
(5/279)
أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
قَوْله تَعَالَى: {أم عِنْدهم الْغَيْب فهم
يَكْتُبُونَ} مَعْنَاهُ: علم الْغَيْب، وَيُقَال: اللَّوْح
الْمَحْفُوظ، فهم يَكْتُبُونَ مِنْهُ مَا يزعمونه ويدعونه،
وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيْسَ عِنْدهم ذَلِك، فقد ادعوا مَا ادعوا
فَقَالُوا مَا قَالُوا زورا وكذبا. وَيُقَال: أم عِنْدهم
الْغَيْب أَي: كتاب من الله فهم يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ
مِنْهُ.
(5/279)
أَمْ يُرِيدُونَ
كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
قَوْله تَعَالَى: {أم يُرِيدُونَ كيدا}
أَي: كيدا بك، وكيدهم: هُوَ مَا دبروه فِي أمره
(5/279)
{مغرم مثقلون (40) أم عِنْدهم الْغَيْب فهم
يَكْتُبُونَ (41) أم يُرِيدُونَ كيدا فَالَّذِينَ كفرُوا هم
المكيدون (42) أم لَهُم إِلَه غير الله سُبْحَانَ الله عَمَّا
يشركُونَ (43) وَإِن} ليخرجوه من مَكَّة أَو يقتلوه أَو
يحسبوه.
وَقَوله: {فَالَّذِينَ كفرُوا هم المكيدون} أَي: هم المقتولون،
وَقد قتلوا ببدر. وَيُقَال: مَعْنَاهُ: أَن كيدنا ومكرنا نَازل
بهم.
(5/280)
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
قَوْله تَعَالَى: {أم لَهُم إِلَه غير
الله} فَإِن قيل: قد كَانُوا يدعونَ أَن لَهُم آلِهَة غير
الله، فَكيف يَصح قَوْله أم لَهُم إِلَه غير الله يحي
وَيُمِيت، وَيُعْطِي وَيمْنَع، ويرزق وَيحرم؟ ! .
وَقَوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يشركُونَ} نزه نَفسه عَن
شركهم، وَعَما كَانُوا يعتقدونه من عبَادَة غَيره.
(5/280)
وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ
(44)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يرَوا كسفا من
السَّمَاء} أَي: جانبا من السَّمَاء، أَو قِطْعَة من
السَّمَاء، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن بعض الْكفَّار
قَالُوا: {فأسقط علينا كسفا من السَّمَاء إِن كنت من
الصَّادِقين} . وَالْمعْنَى أَنه [لَو] سقط عَلَيْهِم جَانب من
السَّمَاء فظلوا فِيهِ يعرجون لقالوا: إِنَّمَا سكرت أبصارنا.
(5/280)
فَذَرْهُمْ حَتَّى
يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
قَوْله تَعَالَى: {فذرهم حَتَّى يلاقوا
يومهم الَّذِي فِيهِ يصعقون} وَقُرِئَ: " يصعقون " يَعْنِي:
يموتون. وَيُقَال: هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، ويصعقون هُوَ نزُول
الْعَذَاب بهم.
(5/280)
يَوْمَ لَا يُغْنِي
عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
قَوْله تَعَالَى: {يَوْم لَا يُغني عَنْهُم
كيدهم شَيْئا} أَي: حيلتهم.
وَقَوله: {وَلَا هم ينْصرُونَ} أَي: لَا يمْنَع مِنْهُم
الْعَذَاب. وَيُقَال: لَا يكون لَهُم نَاصِر يدْفع عَنْهُم.
(5/280)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ (47)
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن للَّذين ظلمُوا
عذَابا دون ذَلِك} الْأَكْثَرُونَ على أَنه عَذَاب
(5/280)
{يرَوا كسفا من السَّمَاء سَاقِطا
يَقُولُونَ سَحَاب مركوم (44) فذرهم حَتَّى يلاقوا يومهم
الَّذِي فِيهِ يصعقون (45) يَوْم لَا يُغني عَنْهُم كيدهم
شَيْئا وَلَا هم ينْصرُونَ (46) وَإِن} لقبر. وَعَن مُجَاهِد:
أَنه الْجُوع فِي الدُّنْيَا. وَيُقَال {أَكْثَرهم لَا
يعلمُونَ} أَي: لَا يعلمُونَ أَن الْعَذَاب نَازل بهم، فَهَذَا
دَلِيل على أَنه قد كَانَ فيهم من هُوَ متعنت يعرف وينكر.
(5/281)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
حِينَ تَقُومُ (48)
قَوْله تَعَالَى: {واصبر لحكم رَبك} أَي:
لما حكم عَلَيْك، وَهَذَا تَعْزِيَة وتسلية لَهُ فِي الْأَذَى
الَّذِي كَانَ يلْحقهُ من الْكفَّار.
وَقَوله: {فَإنَّك بأعيننا} قَالَ ابْن عَبَّاس: بمرأى منا،
وَيُقَال: نَحن نرَاك ونحفظك ونرعاك. قَالَ أهل الْمعَانِي:
وَهَذَا إِنَّمَا قَالَه لتيسير الْأَمر عَلَيْهِ وتسهيله،
لِأَنَّهُ إِذا علم أَن الْأَذَى الَّذِي يلْحقهُ من الْكفَّار
بِحكم الله ومرأى مِنْهُ، سهل عَلَيْهِ بعض السهولة، فَإِنَّهُ
لَا يتْرك مجازاتهم على ذَلِك وإثابته على مَا لحقه من
الْأَذَى.
وَقَوله: {وَسبح بِحَمْد رَبك} أَي: صل حامدا لِرَبِّك.
وَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَن مَعْنَاهُ: هُوَ
أَنه إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة يَقُول: سُبْحَانَكَ
اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، وتبارك اسْمك، وَتَعَالَى جدك، وَلَا
إِلَه غَيْرك.
وَعَن بَعضهم أَنه إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة يَقُول: الله
أكبر كَبِيرا، وَالْحَمْد لله كثيرا وَسُبْحَان الله بكرَة
وَأَصِيلا، فَهُوَ المُرَاد من الْآيَة، قَالَه زر بن حُبَيْش.
وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَص مَعْنَاهُ: أَنه يَقُول: سُبْحَانَكَ
وَبِحَمْدِك إِذا قَامَ [من] أَي مجْلِس كَانَ. وَعَن بَعضهم
أَنه بقول: إِذا قَامَ من الْمجْلس: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَبِحَمْدِك، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، استغفرك وَأَتُوب
إِلَيْك. فَهُوَ كَفَّارَة لكل مجْلِس جلسه الْإِنْسَان.
وَقَوله: {حِين تقوم} قد بَينا.
(5/281)
وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قَوْله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فسبحه}
أَي: صل لَهُ، وَيُقَال: إِنَّه صَلَاة الْمغرب
(5/281)
{للَّذين ظلمُوا عذَابا دون ذَلِك وَلَكِن
أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (47) واصبر لحكم رَبك فَإنَّك بأعيننا
وَسبح بِحَمْد رَبك حِين تقوم (48) وَمن اللَّيْلَة فسبحه
وإدبار النُّجُوم (49) } وَالْعشَاء. قَالَ مُجَاهِد: هُوَ
اللَّيْل كُله.
وَقَوله: {وإدبار النُّجُوم} قَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: هُوَ
الركعتان قبل الصُّبْح. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ:
" رَكعَتَا الْفجْر خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ".
فعلى هَذَا معنى " إدبار السُّجُود " رَكعَتَا الْمغرب، قَالَه
ابْن عَبَّاس، " وإدبار النُّجُوم " رَكعَتَا الصُّبْح،
وَإِنَّمَا سماهما إدبار النُّجُوم لِأَن الرجل يُصَلِّيهمَا
عِنْدَمَا يَزُول سُلْطَان النُّجُوم من الضَّوْء، كَالرّجلِ
يدبر عَن الشَّيْء فيزول سُلْطَانه عَنهُ. وَيُقَال: معنى
قَوْله: {وإدبار النُّجُوم} هُوَ التَّسْبِيح بعد صَلَاة
الصُّبْح.
(5/282)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
{والنجم إِذا هوى (1)
تَفْسِير سُورَة والنجم
وَهِي مَكِّيَّة، وَفِي قَول بَعضهم إِلَّا قَوْله تَعَالَى:
{الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا
اللمم} الْآيَة. قَالَ: هِيَ نزلت بِالْمَدِينَةِ.
وَهَذِه السُّورَة أول سُورَة أعلنها النَّبِي وَقرأَهَا جَهرا
عِنْد الْمُشْركين.
(5/283)
وَالنَّجْمِ إِذَا
هَوَى (1)
قَوْله تَعَالَى: {والنجم} قَالَ ابْن
عَبَّاس فِي رِوَايَة الْوَالِبِي هُوَ الثريا، [وَهِي]
إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مُجَاهِد. وروى أَسْبَاط عَن
السدى: أَنه الزهرة. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى،
وَهُوَ قَول جمَاعَة: أَن المُرَاد بِهِ الْقُرْآن أنزل نجما
نجما فِي عشْرين سنة. وَقيل: فِي ثَلَاث وَعشْرين سنة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: قَول قَتَادَة وَغَيره أَنه جَمِيع
النُّجُوم فِي السَّمَاء، عبر عَنْهَا باسم الْجِنْس، وَهَذَا
أظهر الْأَقَاوِيل؛ لِأَنَّهُ يُطَابق اللَّفْظ من كل وَجه.
وَيجوز أَن يذكر النَّجْم بِمَعْنى النُّجُوم.
قَالَ [عمر] بن أبي ربيعَة:
(أحسن [النَّجْم] فِي السَّمَاء الثريا ... والثريا فِي
الأَرْض زين السَّمَاء)
وَمَعْنَاهُ: أحسن النُّجُوم.
وَقَوله: {إِذا هوى} أَي: غَابَ وغار هَذَا إِذا حملناه على
النَّجْم الْمَعْرُوف وَأما إِذا حملناه على نُجُوم الْقُرْآن؛
فَمَعْنَاه: إِذا نزل يَعْنِي نزل جِبْرِيل عَلَيْهِ
السَّلَام.
وَعَن بَعضهم أَنه قَالَ: {والنجم إِذا هوى} أَي: تساقطت يَوْم
الْقِيَامَة أَي:
(5/283)
{مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى (2) وَمَا
ينْطق عَن الْهوى (3) إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى (4) علمه
شَدِيد القوى (5) النُّجُوم، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذا النُّجُوم انكدرت} أَي: انتثرت. وَعَن بَعضهم: {إِذا
هوى} مَعْنَاهُ: انقضاضها فِي أثر الشَّيَاطِين، وَهُوَ
الرَّمْي بِالشُّهُبِ على مَا ورد بِهِ الْقُرْآن فِي مَوَاضِع
كَثِيرَة.
(5/284)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَمَا غَوَى (2)
قَوْله تَعَالَى: {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا
غوى} الْآيَة الأولى وَردت على وَجه الْقسم وَمَعْنَاهُ وَرب
النَّجْم.
وَقَوله {مَا ضل صَاحبكُم} على هَذَا وَقع الْقسم، وَكَانَت
قُرَيْش يَقُولُونَ: إِن مُحَمَّدًا ضال غاو، فأقسم الله
تَعَالَى أَنه مَا ضل وَمَا غوى، أَي: مَا أَخطَأ [طَرِيقا]
{وَمَا غوى} أَي: مَا خرج عَن الرشد فِي أَمر دينه ودنياه،
والغي: ضد الرشد. وَيُقَال: مَا غوى أَي: مَا خَابَ سَعْيه
فِيمَا يَطْلُبهُ. كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى وجود مَا هُوَ فِي
طلبه.
قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن يلق خيرا يحمد النَّاس أمره ... وَمن يغو لَا يعْدم على
الغي لائما)
أَي: من خَابَ سَعْيه، وَلم يجد مَا يَطْلُبهُ.
(5/284)
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى (3)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى}
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: بالهوى. وَقَالَ غَيره: مَا ينْطق عَن
هَوَاهُ أَي: مَا ينْطق بِغَيْر الْحق؛ لِأَن من اتبع الْهوى
فِي قَوْله قَالَ بِغَيْر الْحق.
(5/284)
إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحَى (4)
وَقَوله: {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى}
الْوَحْي فِي اللُّغَة: إِلْقَاء الشَّيْء إِلَى النَّفس
خُفْيَة، وَهُوَ فِي عرف أهل الْإِسْلَام عبارَة عَمَّا ينزله
الله تَعَالَى على الْأَنْبِيَاء، وَمن الْأَنْبِيَاء
التَّبْلِيغ إِلَى الْخلق.
(5/284)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى (5)
قَوْله تَعَالَى: {علمه شَدِيد القوى}
أَكثر أهل التَّفْسِير على أَن المُرَاد بِهِ جِبْرِيل
عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ الَّذِي علم الرَّسُول مَا أنزلهُ
الله تَعَالَى عَلَيْهِ.
(5/284)
{ذُو مرّة فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بالأفق
الْأَعْلَى (7) ثمَّ دنا فَتَدَلَّى (8) }
وروى عباد بن مَنْصُور عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَن قَوْله: "
علمه شَدِيد القوى " هُوَ الله تَعَالَى. والقوى جمع
الْقُوَّة. قَالَ ابْن عَبَّاس: من قُوَّة جِبْرِيل أَنه أَدخل
جنَاحه تَحت الأَرْض السَّابِعَة، وَقلع مَدَائِن لوط، ورفعها
إِلَى السَّمَاء، ثمَّ قَلبهَا. وَعَن كَعْب الحبر: أَن
إِبْلِيس تعرض لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام على عقبَة من الأعقاب،
وقصده، فنفخه جِبْرِيل بجناحه نفخة أَلْقَاهُ إِلَى الْهِنْد.
(5/285)
ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى (6)
قَوْله تَعَالَى: {ذُو مرّة فَاسْتَوَى}
قَالَ الْحسن: ذُو مرّة أَي: ذُو منظر حسن. وَقَالَ غَيره
وَهُوَ الأولى ذُو قُوَّة. يُقَال: حَبل مري أَي: مُحكم الفتل.
وَقَوله: {فَاسْتَوَى} أَي: فَاسْتَوَى جِبْرِيل فِي أفق
السَّمَاء على صورته الَّتِي خلق فِيهَا. وَكَذَا قَول ابْن
مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة وعلقمة وقرة بن
شرَاحِيل وَأكْثر أهل التَّفْسِير. وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ:
أَنه الله تَعَالَى، وَالأَصَح هُوَ الأول.
(5/285)
وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلَى (7)
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بالأفق
الْأَعْلَى} هُوَ الْأُفق الَّذِي تطلع من جَانِبه الشَّمْس.
وَقيل: الَّذِي يَجِيء مِنْهُ النَّهَار. والأفق: جَوَانِب
السَّمَاء. وَيُقَال بالأفق الْأَعْلَى أَي: بالسماء. وَفِي
الْأَخْبَار: " أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أظهر نَفسه
للنَّبِي على صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا، وَقد سد الْأُفق ".
وَفِي بعض الرِّوَايَات: رَأسه فِي السَّمَاء وَرجلَاهُ فِي
الأَرْض، فقد مَلأ بجناحيه مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب.
(5/285)
ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى (8)
قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ دنا} أَي: دنا
جِبْرِيل من النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَوله: {فَتَدَلَّى} أَي: زَاد فِي الدنو. وَقَالَ بَعضهم:
قَوْله: {ثمَّ دنا فَتَدَلَّى} على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير.
وَقَوله: {تدلى} أَي: هوى وَأرْسل نَفسه من السَّمَاء، ثمَّ
دنا أَي: دنا جِبْرِيل من
(5/285)
{فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى (9) النَّبِي
وَصَارَ مَا بَينهمَا قاب قوسين أَو أدنى، وَهُوَ معنى قَوْله:
{فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى} أَي: كَانَ (بَينهمَا) مِقْدَار
قوسين أَو أقل من ذَلِك، وقاب لُغَة يَمَانِية فِي هَذَا
الْمَعْنى، قَالَ الشَّاعِر:
((ألم تعلمُوا أَن رشيمة لم تكن ... لتبخسنا من وَرَاء قاب
إِبْهَام))
وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنهُ قاب نصف الْإِبْهَام. وروى
أَسْبَاط عَن السدى أَن قَوْله: {فَكَانَ قاب قوسين أَو أدنى}
أَي: قدر ذراعين. وَقَالَ مُجَاهِد: من الْوتر إِلَى المقبض.
وَقيل: من السية إِلَى السية، فَإِن قيل: إِذا حملتم هَذَا على
جِبْرِيل، فَكيف تَقْدِير الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَن
مَعْنَاهُ: " أَن جِبْرِيل لما اسْتَوَى فِي الْأُفق
الْأَعْلَى على صورته غشي على النَّبِي " وَهُوَ مَرْوِيّ فِي
الْأَخْبَار من عظم مَا رأى، فانتقل جِبْرِيل من صورته إِلَى
الصُّورَة الَّتِي كَانَ يلقى النَّبِي فِيهَا، وَهُوَ صُورَة
رجل، ودنا من النَّبِي، وَهُوَ معنى قَوْله: {ثمَّ دنا} ثمَّ
نكس رَأسه إِلَيْهِ، بِمَعْنى قَوْله: {فَتَدَلَّى} وضمه
إِلَيْهِ، فسكنه من رَوْعَته.
(5/286)
فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: {فَكَانَ قاب
قوسين أَو أدنى} [و] " أَو " كلمة تشكيك، وَلَا يجوز الشَّك
على الله تَعَالَى. وَإِن كَانَ بِمَعْنى الْوَاو، فَكَانَ
يَنْبَغِي أَن يَقُول: فَكَانَ مِنْهُ أدنى من قاب قوسين،
وَأَيْضًا فقد قَالَ: {قاب قوسين أَو أدنى} وَأي معنى لذكر
القوسين هَاهُنَا وتخصيصهما بِالذكر، وَقد كَانَ يُمكنهُ
تمثيله وتشبيهه بِشَيْء وَاحِد غير الْقوس فَلَا يحْتَاج إِلَى
ذكر القوسين؟ وَالْجَوَاب: أَن الْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب
على مَا كَانُوا يتخاطبون بِهِ، وَيفهم بَعضهم من بعض، فعلى
هَذَا
(5/286)
نزلت الْآيَة، إِنَّكُم لَو رَأَيْتُمُوهُ
لقلتم إِن الْقرب الَّذِي بَينهمَا قاب قوسين أَو أدنى أَو
أنقص، وَقيل: أَزِيد أَو أنقص، وَأما ذكر الْقوس فَهُوَ على
مَا كَانُوا يعتادونه، وَقرب الْقوس من الْوتر مَعْلُوم.
وَيُقَال: إِن القوسين هَاهُنَا بِمَعْنى الْقوس الْوَاحِد،
وَقد ذكرنَا أَن الشَّيْء الْوَاحِد يذكر بِلَفْظ
التَّثْنِيَة. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد مِنْهُ القوسان على
الْحَقِيقَة، وَهُوَ غير مستنكر فِي لُغَة الْعَرَب، وَلَا
يستبعد.
القَوْل الثَّانِي فِي الْآيَة: أَن قَوْله: {ثمَّ دنا} أَي:
دنا مُحَمَّد من ربه.
وَقَوله: {فَتَدَلَّى} أَي: زَاد فِي الدنو. وَفِي رِوَايَة
مَالك بن صعصعة أَن النَّبِي [قَالَ] : " بَينا أَنه قَاعد
إِذْ أَتَانِي جِبْرِيل فلكزني بَين كَتِفي، فَقُمْت فَإِذا
شَجَرَة عَلَيْهَا شبه وكرين، فَجَلَست فِي أَحدهمَا، وَجلسَ
جِبْرِيل فِي الآخر، وارتفعنا إِلَى السَّمَاء، وَرَأَيْت نورا
عَظِيما، وَنظرت فَإِذا جِبْرِيل كالحلس فَعرفت فضل خَشيته على
خَشْيَتِي، ولط دُوننَا الْحجاب ". وَفِي بعض الرِّوَايَات
قَالَ: " فارقني جِبْرِيل، وهدأت الْأَصْوَات، وَسمعت من
رَبِّي: ادن يَا مُحَمَّد ". وَقد ذكر هَذَا اللَّفْظ فِي
الصَّحِيح، وَهُوَ دنو مُحَمَّد من ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى قَوْله: {ثمَّ دنا} أَي: دنا
الرب من مُحَمَّد، وَهُوَ لفظ ثَابت أَيْضا، وَهُوَ على مَا
شَاءَ الله.
وَقَوله: {فَتَدَلَّى} أَي: زَاد فِي الدنو، وَالْمَعْرُوف
عِنْد الْأَكْثَرين القَوْل الأول، وَهُوَ الأسلم.
(5/287)
{فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى (10) مَا كذب
الْفُؤَاد مَا رأى (11)
(5/288)
فَأَوْحَى إِلَى
عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
قَوْله تَعَالَى: {فَأوحى إِلَى عَبده مَا
أوحى} فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: فَأوحى جِبْرِيل إِلَى عبد
الله مَا أوحى، وَهُوَ مُحَمَّد.
وَالْقَوْل الثَّانِي: فَأوحى إِلَى عَبده مَا أوحى أَي: أوحى
الله تَعَالَى إِلَى مُحَمَّد مَا أوحى. وَفِي الْأَخْبَار:
أَنه كَانَ مِمَّا أوحى الله إِلَيْهِ أَنه فرض على هَذِه
الْأمة خمسين صَلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ثمَّ ردَّتْ
إِلَى الْخمس، [وَمِمَّا] أوحى إِلَيْهِ أَيْضا خَوَاتِيم
سُورَة الْبَقَرَة، وَمِمَّا أوحى إِلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَة
أَنه غفر لأمته الْمُقْحمَات مَا لم يشركوا بِاللَّه "
يَعْنِي: يغْفر.
(5/288)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ
مَا رَأَى (11)
قَوْله تَعَالَى: {مَا كذب الْفُؤَاد مَا
رأى} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ: رأى شَيْئا، وَصدق
فِيمَا أخبر عَن رُؤْيَته. وَيُقَال: مَا كذب الْفُؤَاد مَا
رأى أَي: رأى الْفُؤَاد مَا رَآهُ حَقِيقَة، وَلم يكن على
تخييل وحسبان.
تَقول الْعَرَب: كذبت فلَانا عينه: إِذا تخيل لَهُ الشَّيْء
على غير حَقِيقَته.
قَالَ أَبُو معَاذ النَّحْوِيّ: يُقَال: مَا كذب فلَان
الحَدِيث. أَي: مَا كذب فِيهِ.
وَقُرِئَ: {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى} من التَّكْذِيب،
وَالْأول أولى، قَالَ الشَّاعِر:
(كذبتك عَيْنَيْك أَو رَأَيْت بِوَاسِطَة ... غلس الظلام من
الربَاب خيالا)
وَيُقَال: مَا كذب الْفُؤَاد الْعين أَي: لم توهمه أَنه علم
شَيْئا وَلم يُعلمهُ. وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله
عَنهُ أَنه قَالَ: رأى مُحَمَّد ربه بفؤاده مرَّتَيْنِ. فَإِن
قَالَ قَائِل: الْمُؤْمِنُونَ يرونه بفؤادهم، وَلَيْسَ ذَلِك
إِلَّا الْعلم بِهِ، فَمَا معنى تَخْصِيص النَّبِي؟
(5/288)
{أفتماروه على مَا يرى (12) وَلَقَد رَآهُ
نزلة أُخْرَى (13) } وَالْجَوَاب: أَنهم قَالُوا: إِن الله
تَعَالَى خلق رُؤْيَة لفؤاده، فَرَأى بفؤاده مثل مَا يرى
الْإِنْسَان بِعَيْنِه. وعَلى القَوْل الأول الرُّؤْيَة منصرفة
إِلَى جِبْرِيل.
(5/289)
أَفَتُمَارُونَهُ
عَلَى مَا يَرَى (12)
قَوْله تَعَالَى {أفتمارونه على مَا يرى}
بعنى افتجادلونه وَكَانَت مجادلتهم مجادلة الشاكين المكذبين
وَقد روى أَنهم استعوصفوه مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس واستخبروه
عَن عيرهم فِي الطَّرِيق وقربها من مَكَّة وقرىء " أفتمرونه
على مَا يرى أى أفتجحدونه قَالَ الشَّاعِر:
(لَئِن هجرت أَخا صدق ومكرمة ... فقد مريت أَخا مَا كَانَ
يمركما) أى جحدت.
(5/289)
وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رَآهُ نزلة
أُخْرَى} أَي: رأى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام نزلة أُخْرَى
أَي: مرّة أُخْرَى. فَإِن قيل: قد كَانَ رَآهُ كثيرا، فَمَا
معنى نزلة أُخْرَى؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم ير جِبْرِيل فِي
[صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا] إِلَّا مرَّتَيْنِ: مرّة بالأفق
الْأَعْلَى، وَكَانَ ذَلِك عِنْد ابْتِدَاء الْوَحْي، وَقَالَ
أهل الْمعَانِي: كَانَ ذَلِك شبه آيَة أَرَاهَا النَّبِي ليعلم
أَنه من الله. والمرة الثَّانِيَة رَآهُ عِنْد سِدْرَة
الْمُنْتَهى لَيْلَة الْمِعْرَاج كَمَا قَالَ: {وَلَقَد رَآهُ
نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى} والسدرة شَجَرَة
النبق. وَفِي التَّفْسِير: أَنَّهَا فِي السَّمَاء
السَّابِعَة، وَيُقَال: فِي السَّادِسَة. وَعَن عِكْرِمَة:
هِيَ على يَمِين الْعَرْش.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رفعت لي سِدْرَة
الْمُنْتَهى فَإِذا نبقها كقلال هجر، وأوراقها كآذان الفيلة،
يخرج من أَصْلهَا أَرْبَعَة أَنهَار: نهران ظاهران، ونهران
باطنان ". على مَا بَينا.
وَاخْتلف القَوْل فِي معنى الْمُنْتَهى، قَالَ بَعضهم:
يَنْتَهِي إِلَيْهَا علم الْمَلَائِكَة، وَلَا يعلمُونَ مَا
وَرَاء ذَلِك، وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف.
(5/289)
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَنْتَهِي إِلَيْهَا
مَا يصعد إِلَيّ السَّمَاء، وَيَنْتَهِي إِلَيْهَا مَا يهْبط
من فَوق.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن الْمَلَائِكَة تصعد بأعمال بني آدم
حَتَّى إِذا انْتَهوا إِلَى سِدْرَة قبضت مِنْهُم، وَلم
يعلمُوا مَا وَرَاء ذَلِك.
وَقد ذكر أَبُو عِيسَى القَوْل الثَّانِي الَّذِي ذكرنَا
مُسْندًا إِلَى النَّبِي.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن معنى المنتهي أَنه يَنْتَهِي
إِلَيْهَا مقَام جِبْرِيل. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن
معنى قَوْله: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} أَي: رأى مُحَمَّد
ربه نزلة أُخْرَى، وَقد ذكرنَا قَول ابْن عَبَّاس من قبل.
وَاخْتلف أَصْحَاب رَسُول الله وَرَضي عَنْهُم فِي هَذَا،
فَقَالَ ابْن مَسْعُود وَجَمَاعَة: إِنَّه رأى جِبْرِيل وَلم
ير الله تَعَالَى.
وَعَن مَسْرُوق قَالَ: قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا من
زعم ثَلَاثًا فقد أعظم الْفِرْيَة، من زعم أَن مُحَمَّدًا يعلم
مَا فِي غَد فقد أعظم الْفِرْيَة؛ قَالَ الله تَعَالَى: {إِن
الله عِنْده علم السَّاعَة} وَذكرت الْآيَة، وَمن زعم أَن
مُحَمَّدًا كتم من الْوَحْي فقد أعظم الْفِرْيَة؛ قَالَ الله
تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك
وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته} وَمن زعم أَن مُحَمَّدًا
رأى ربه فقد أعظم الْفِرْيَة، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا
تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} الْآيَة.
وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: " أَن مُحَمَّدًا رأى ربه
لَيْلَة الْمِعْرَاج بِعَيْنِه ". وَهُوَ قَول أنس وَكَعب
الْأَحْبَار وَجَمَاعَة كَثِيرَة من التَّابِعين مِنْهُم:
الْحسن، وَعِكْرِمَة: أَن الله قسم رُؤْيَته وَكَلَامه بَين
مُحَمَّد ومُوسَى، فَكلم مُوسَى مرَّتَيْنِ، وَرَأى مُحَمَّد
ربه
(5/290)
{عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى (14) عِنْدهَا
جنَّة المأوى (15) إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى (16)
مرَّتَيْنِ. وَهَذَا قَول جمَاعَة من الْأَئِمَّة مِنْهُم
أَحْمد بن حَنْبَل، وَإِسْحَاق، وَغَيرهمَا. وَفِي بعض
الرِّوَايَات: جعلت الْخلَّة لإِبْرَاهِيم، وَالْكَلَام
لمُوسَى، والرؤية لمُحَمد.
فَإِن قيل: كَيفَ تجوز الرُّؤْيَة على الله تَعَالَى فِي
الدُّنْيَا؟ وَالْجَوَاب: أَنه لم يكن فِي الدُّنْيَا، وَإِن
كَانَ فِي الدُّنْيَا فَكل مَا فعل الله تَعَالَى وَأكْرم بِهِ
نَبيا من أنبيائه فَجَائِز بِلَا كَيفَ.
وَفِي رِوَايَة [زرين] حُبَيْش عَن ابْن مَسْعُود فِي معنى
الْآيَة " أَن النَّبِي رأى جِبْرِيل وَله سِتّمائَة جنَاح "
وَالْخَبَر صَحِيح. وَقد ثَبت بِرِوَايَة عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة
" وَالله أعلم.
(5/291)
عِنْدَهَا جَنَّةُ
الْمَأْوَى (15)
وَقَوله: {عِنْدهَا جنَّة المأوى} أَي:
يأوى إِلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال:
تأوى إِلَيْهَا أَرْوَاح الشُّهَدَاء. وَقيل: [تأوى] إِلَيْهَا
الْمَلَائِكَة.
قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كالغربان يقعن على الشّجر. وَفِي
الْآيَة دَلِيل على أَن الْجنَّة فِي السَّمَاء وَأَنَّهَا
مخلوقة، وَمن زعم أَنَّهَا غير مخلوقة فَهُوَ كَافِر بِهَذِهِ
الْآيَة.
وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: جنَّة
المأوى جنَّة الْمبيت. وَعَن بَعضهم: جنَّة المثوى وَالْمقَام.
وَعَن بَعضهم: يأوى إِلَيْهَا جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة
المقربون.
قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: هِيَ جنَّة فِيهَا طير خضر فِي
حواصلها أَرْوَاح الشُّهَدَاء.
(5/291)
إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يغشى السِّدْرَة
مَا يغشى} قَالَ ابْن مَسْعُود: يَغْشَاهَا فرَاش من ذهب.
وَعَن الْحسن: يَغْشَاهَا نور الرب تَعَالَى. فِي بعض
الْأَحَادِيث: أَن الْمَلَائِكَة اسْتَأْذنُوا لرَبهم أَن
ينْظرُوا إِلَى مُحَمَّد لَيْلَة الْمِعْرَاج، فَأذن لَهُم،
فَاجْتمعُوا على السِّدْرَة.
(5/291)
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي قَالَ:
" رَأَيْت على كل ورقة مِنْهَا ملكا قَائِما يسبح الله
تَعَالَى ". أوردهُ أَبُو الْحسن بن فَارس قَالَ: فَهُوَ معنى
قَوْله: {إِذْ يغشى السِّدْرَة مَا يغشى} وَفِي بعض
الرِّوَايَات: يَغْشَاهَا جَراد من ذهب. وَاعْلَم أَن
السِّدْرَة شَجَرَة تجمع ثَلَاثَة أَشْيَاء: الظل المديد،
والطعم اللذيذ، والرائحة الطّيبَة، كَذَلِك الْإِيمَان يجمع
ثَلَاثَة أَشْيَاء: النِّيَّة، وَالْقَوْل، وَالْعَمَل.
وَاعْلَم أَنا قد ذكرنَا اخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله
وَرَضي عَنْهُم فِي أَنه هَل رأى ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج
أَولا؟
وَذكر أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره آثارا سوى مَا
ذَكرنَاهَا؛ فحكي عَن ابْن عمر أَن الله تَعَالَى احتجب عَن
خلقه بِنور وظلمة ونار. وَرُوِيَ عَن [أبي] الْعَالِيَة
الريَاحي رَحمَه الله أَن النَّبِي قَالَ: " رَأَيْت لَيْلَة
الْمِعْرَاج نَهرا، وَرَأَيْت وَرَاءه حِجَابا، وَرَأَيْت
وَرَاء الْحجاب نورا، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاء ذَلِك ".
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ " أَن النَّبِي رأى
ربه بفؤاده كَمَا يرى بِالْعينِ ".
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر " أَن النَّبِي سُئِلَ هَل رَأَيْت
رَبك؟ فَقَالَ: نور أَنِّي أرَاهُ ". فالروايات مُخْتَلفَة فِي
الْبَاب، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ من ذَلِك. وَيَنْبَغِي أَن
يُقَال: إِن ثَبت النَّقْل أَنه رأى ربه نحكم بِالرُّؤْيَةِ
ونعتقدها، وَإِن لم يثبت النَّقْل فالأمثل أَنه لم ير.
(5/292)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ
وَمَا طَغَى (17)
قَوْله تَعَالَى: {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا
طَغى} فِي التَّفْسِير أَن مَعْنَاهُ: لم يلْتَفت يَمِينا
وَلَا
(5/292)
{مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى (17) لقد رأى
من آيَات ربه الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى (19)
وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى (20) } شمالا. وَيُقَال
مَعْنَاهُ: مَا قصر عَمَّا أَمر بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وَمَا
جَاوز بَصَره فِي النّظر إِلَى غير مَا أَمر بِهِ بِالنّظرِ.
وَمعنى الزيغ فِي اللُّغَة: هُوَ الْميل بِهِ، وَمعنى الطغيان:
هُوَ التجاوز.
(5/293)
لَقَدْ رَأَى مِنْ
آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد رأى من آيَات
ربه الْكُبْرَى} قَالَ ابْن مَسْعُود: أَي: جِبْرِيل وَله
سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق. وَفِي رِوَايَة ينتشر من ريشه
الدّرّ والياقوت (والتعاويذ) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن
ابْن مَسْعُود: أَنه رأى رفرفا أَخْضَر قد مَلأ الْأُفق.
وَتَقْدِير الْآيَة: " رأى من آيَات ربه الْآيَة الْكُبْرَى ".
وَقيل: رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى، أَي: النُّور الَّذِي
رَآهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة.
(5/293)
أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى
(20)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم اللات
والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} مَعْنَاهُ:
أَفَرَأَيْتُم هَذِه الْأَصْنَام الَّتِي تعبدونها، هَل تملك
شَيْئا مِمَّا ذكر الله تَعَالَى؟ أَو هَل لَهَا من الْعُلُوّ
والرفعة وَالْقُدْرَة مثل مَا ذكرنَا؟ .
وَأما تَفْسِير هَذَا الْأَصْنَام: " فلات " صنم كَانَت ثَقِيف
تعبده، وَقيل: إِنَّه كَانَ صَخْرَة. وَأما " الْعُزَّى "
فشجرة كَانَت تعبدها غطفان وجشم وسليم. وَيُقَال: كَانَت بَيت
عَلَيْهِ سدنة، وَكَانَت الْعَرَب قد عَلقُوا عَلَيْهِ السوار،
وزينوه بالعهن وَمَا يُشبههُ. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي " أَنه
بعث خَالِد بن الْوَلِيد ليهْدم الْعُزَّى فَقطع شجرات ثمَّ،
وَهدم بعض الْهدم، فَرجع إِلَى النَّبِي وَأخْبرهُ، فَقَالَ:
هَل رَأَيْت شَيْئا؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: إِنَّك لم تفعل، عد،
فَعَاد وَبَالغ فِي الْهدم وَقتل السَّدَنَة، وَكَانُوا
يَقُولُونَ: يَا عزى عوزيه، يَا عزى خبليه. قَالَ: فَخرجت
امْرَأَة عُرْيَانَة من جَوف الْعُزَّى، نَاشِرَة شعرهَا،
تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور، وتحثو التُّرَاب على
رَأسهَا، فعمها خَالِد بِالسَّيْفِ وقتلها، وَرجع
(5/293)
إِلَى النَّبِي وَذكر لَهُ ذَلِك. فَقَالَ:
تِلْكَ الْعُزَّى لَا تعبد بعد الْيَوْم ". وَهَذَا خبر
مَعْرُوف. وَأما " مَنَاة " صنم كَانَ " بِقديد " بَين مَكَّة
وَالْمَدينَة. وَيُقَال: بالمشلل.
قَالَ أهل التَّفْسِير: وَإِنَّمَا قَالَ: {وَمَنَاة
الثَّالِثَة الْأُخْرَى} لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن
مَنَاة دون اللات والعزى. وَفِي التَّفْسِير: أَن " اللات "
كَانَ رجل يلت السويق على حجر، فَكَانَ كل من يَأْكُل مِنْهُ
سمن، فَلَمَّا مَاتَ عبدوه، وَاتَّخذُوا حجرا (بصورته) .
قَالَ الشَّاعِر:
(لَا تعبدوا اللات إِن الله مهلكها ... وَكَيف ينصركم من
لَيْسَ ينتصر)
وَاعْلَم أَنا قد ذكرنَا فِي سُورَة الْحَج: " " أَن النَّبِي
قَرَأَ هَذِه السُّورَة على الْمُشْركين، فَلَمَّا بلغ هَذِه
الْآيَة ألْقى الشَّيْطَان على لِسَانه تِلْكَ الغرانيق العلى،
وَإِن شفاعتهن لترتجى ". رَوَاهُ سعيد بن جُبَير. وَغَيره عَن
ابْن عَبَّاس قَالَ: " فَلَمَّا قَرَأَ (كَذَلِك) فَخرج
الْمُشْركُونَ وَقَالُوا: مَا كُنَّا نطلب مِنْك إِلَّا هَذَا،
وَهُوَ أَن لَا تعيب آلِهَتنَا وَلَا تسبها، وَتعلم أَن لَهَا
شَفَاعَة يَوْم الْقِيَامَة. لما بلغ آخر السُّورَة سجد
النَّبِي وَسجد الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، ثمَّ
إِن جِبْرِيل أَتَاهُ وَأمره أَن يقْرَأ عَلَيْهِ السُّورَة،
فَقَرَأَ كَمَا قَرَأَ على الْمُشْركين، فَقَالَ: إِن هَذَا لم
أنزلهُ عَلَيْك، واستخرج ذَلِك من قِرَاءَته، وحزن النَّبِي
بذلك حزنا شَدِيدا حَيْثُ عمل الشَّيْطَان على لِسَانه مَا
عمل، فَأنْزل الله تَعَالَى مسليا ومعزيا لَهُ: {وَمَا أرسلنَا
من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى
الشَّيْطَان فِي أمْنِيته ... .} الْآيَة. ثمَّ إِن الرَّسُول
لما رَجَعَ عَمَّا سمع مِنْهُ، وَعَاد إِلَى
(5/294)
{ألكم الذّكر وَله الْأُنْثَى (21) تِلْكَ
إِذا قسْمَة ضيزى (22) إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها
أَنْتُم وآباؤكم} سبّ آلِهَتهم وعيبها، عَاد الْمُشْركُونَ
إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ".
وَفِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ قد وصل ذَلِك الْخَبَر إِلَى
الْحَبَشَة، أَن الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين اتَّفقُوا، وَأَن
الْكفَّار قد سجدوا بسجود النَّبِي حَتَّى الْوَلِيد بن
الْمُغيرَة، وَقد كَانَ شيخهم وَكَبِيرهمْ فَرفع التُّرَاب
إِلَى جَبهته وَسجد عَلَيْهِ، فَرجع الْمُسلمُونَ من
الْحَبَشَة، فَلَمَّا صَارُوا فِي بعض الطَّرِيق بَلغهُمْ
الْخَبَر فَرَجَعُوا إِلَى الْحَبَشَة.
(5/295)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثَى (21)
قَوْله تَعَالَى: {ألكم الذّكر وَله
الْأُنْثَى} هَذَا على طَرِيق الْإِنْكَار عَلَيْهِم، لأَنهم
كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِه الْأَصْنَام على صور الْمَلَائِكَة،
وَالْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَهَذَا قَول بَعضهم.
(5/295)
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ
ضِيزَى (22)
وَقَوله: {تِلْكَ إِذا قسْمَة ضيزى} أَي:
جائرة. وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنكُمْ إِذا كرهتم الْبَنَات
لأنفسكم فَأولى أَن تكرهوها لله تَعَالَى.
وَقد حكى أهل اللُّغَة هَذِه الْكَلِمَة عَن الْعَرَب على
أَرْبَعَة أوجه: ضيزى، وضوزى بِغَيْر همزَة، وضأزى، وضازي
بِغَيْر همزَة، وَهَذِه اللُّغَات وَرَاء مَا ورد بِهِ
التَّنْزِيل.
(5/295)
إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ
رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
قَوْله تَعَالَى: {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء
سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان}
أَي: حجَّة. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن كل سُلْطَان فِي
الْقُرْآن هُوَ بِمَعْنى الْحجَّة.
وَقَوله: {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن} فِي بعض الْآثَار: أَن
الْمُؤمن أحسن الْعَمَل فَحسن ظَنّه، وَأَن الْمُنَافِق
أَسَاءَ الْعَمَل فسَاء ظَنّه. وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أكذب
الحَدِيث هُوَ الظَّن ".
(5/295)
{مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان إِن
يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم
من رَبهم الْهدى (23) أم للْإنْسَان مَا تمنى (24) فَللَّه
الْآخِرَة وَالْأولَى (25) وَكم من ملك فِي السَّمَوَات لَا
تغني شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن الله لمن
يَشَاء ويرضى (26) إِن}
وَقَوله: {وَمَا تهوى الْأَنْفس} أَي: مَا تَدْعُو إِلَيْهِ
هُوَ النَّفس.
وَقَوله: {وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى} أَي: طَرِيق
الرشد وَالْحق.
(5/296)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ
مَا تَمَنَّى (24)
وَقَوله تَعَالَى: {أم للْإنْسَان مَا
تمنى؟ مَعْنَاهُ: اللأنسان مَا تمنى؟ أَي: لَيْسَ لَهُ مَا
تمنى. وَاعْلَم أَن الأمنية مذمومة، والإرادة محمودة، وَالْفرق
بَينهمَا أَن الأمنية شَهْوَة لَا يصدقها الْعَمَل، والإرادة
هُوَ مَا يصدقهُ الْعَمَل. وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي
أَنه قَالَ: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت،
والفاجر من اتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْمَغْفِرَة
". وَعَن بَعضهم: الْأَمَانِي رَأس مَال المفاليس.
(5/296)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولَى (25)
وَقَوله: {فَللَّه الْآخِرَة وَالْأولَى}
أَي: الْملك فِي الْآخِرَة وَالْأولَى.
(5/296)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا
مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى
(26)
قَوْله تَعَالَى: {وَكم من ملك فِي
السَّمَوَات} روى عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ: مَا من
مَوضِع شبر فِي السَّمَاء إِلَّا وَفِيه ملك قَائِم أَو ساجد.
وَقد روى مثل هَذَا فِي الأَرْض أَيْضا عَن غَيره. وَكم فِي
اللُّغَة للتكثير.
وَقَوله: {لَا تغني شفاعتهم شَيْئا إِلَّا من بعد أَن يَأْذَن
الله لمن يَشَاء ويرضى} وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يملكُونَ
الشَّفَاعَة لأحد حَتَّى يَأْذَن الله فِيهِ ويرضاه. وَفِي بعض
التفاسير: أَن هَذَا جَوَاب لقَوْل الْمُشْركين: إِن الغرانقة
تشفع يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله تَعَالَى، وَهِي
الْأَصْنَام، فَأخْبر الله تَعَالَى أَن أحدا لَا يملك
الشَّفَاعَة إِلَّا بِإِذن الله تَعَالَى وَرضَاهُ فِي ذَلِك.
(5/296)
إِنَّ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ
تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27)
قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين لَا
يُؤمنُونَ بِالآخِرَة ليسمون الْمَلَائِكَة تَسْمِيَة
الْأُنْثَى} هُوَ قَوْلهم للأصنام وتسميتهم إِيَّاهَا اللات،
والعزى، وَمَنَاة تَسْمِيَة الْإِنَاث. وَكَانُوا يَقُولُونَ:
إِن هَذِه الْأَصْنَام على صُورَة الْمَلَائِكَة.
(5/296)
{الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة ليسمون
الْمَلَائِكَة تَسْمِيَة الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ من
علم إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من
الْحق شَيْئا (28) فَأَعْرض عَن من تولى عَن ذكرنَا وَلم يرد
إِلَّا الْحَيَاة الدُّنْيَا (29) ذَلِك مبلغهم من الْعلم أَن
رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن}
(5/297)
وَمَا لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ
الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)
وَقَوله: {وَمَا لَهُم بِهِ من علم إِن
يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق
شَيْئا} أَي: لَا يَنُوب على الْحق أبدا.
(5/297)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ
تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (29)
قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْرض عَن من تولى
عَن ذكرنَا وَلم يرد إِلَّا الْحَيَاة الدُّنْيَا} يُقَال: إِن
هَذِه الْآيَة نزلت قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسختها آيَة
السَّيْف.
(5/297)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
وَقَوله: {ذَلِك مبلغهم من الْعلم} أَي:
لَا يعلمُونَ إِلَّا أَمر المعاش فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا.
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ: رب رجل ينقر درهما بظفره
فيذكرونه وَلَا يُخطئ فِيهِ، وَهُوَ لَا يحسن يُصَلِّي.
وَقَوله: {إِن رَبك هُوَ أعلم بِمن ضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم
بِمن اهْتَدَى} أَي: يعلم الْمُهْتَدي والضال، وَالْمُؤمن
وَالْكَافِر، وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أَمرهم.
(5/297)
وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا
بِالْحُسْنَى (31)
وَقَوله: {وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات
وَمَا فِي الأَرْض ليجزي الَّذين أساءوا بِمَا عمِلُوا
وَيجْزِي الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى} أَي: بِالْجنَّةِ.
(5/297)
الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا
اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ
أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يجتنبون
كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش} وَقُرِئَ: " كَبِير الْإِثْم
" وَقد بَينا معنى الْكَبَائِر من قبل. وَقيل: إِنَّه كل مَا
أوعد الله عَلَيْهِ بالنَّار. وَالْفَوَاحِش: الْمعاصِي.
وَقَوله: {إِلَّا اللمم} قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: وَهُوَ
أَن يلم بالذنب ثمَّ يَتُوب مِنْهُ. أَي: يفعل ذَلِك مرّة
وَلَا يصر عَلَيْهِ. وَعنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: مَا رَأَيْت
شَيْئا أشبه باللمم مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة أَن
النَّبِي قَالَ: " إِن الله تَعَالَى كتب على ابْن آدم حَظه من
الزِّنَا أدْرك ذَلِك لَا محَالة، فزنا الْعين النّظر، وزنا
الْيَد اللَّمْس، وَالنَّفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِك
أويكذبه ". وَهُوَ حَدِيث صَحِيح.
(5/297)
{سَبيله وَهُوَ أعلم بِمن اهْتَدَى (30)
وَللَّه مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض ليجزي الَّذين
أساؤوا بِمَا عمِلُوا وَيجْزِي الَّذين أَحْسنُوا بِالْحُسْنَى
(31) الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا
اللمم إِن رَبك وَاسع الْمَغْفِرَة هُوَ أعلم بكم إِذا أنشأكم
من الأَرْض وَإِذ}
فعلى هَذَا القَوْل: اللمم هُوَ النّظر واللمس وَمَا يشبه
ذَلِك. وَفِيه حَدِيث نَبهَان التمار الَّذِي ذكرنَا فِي
سُورَة هود.
وَفِي الْآيَة قَول ثَالِث: أَن اللمم هُوَ الصَّغَائِر.
وَفِيه قَول رَابِع: أَن اللمم هُوَ مَا فعله الْمُسلمُونَ فِي
الْجَاهِلِيَّة قبل إسْلَامهمْ، فَلَمَّا أَسْلمُوا وَقع
الْعَفو عَنْهَا.
وَقيل: إِن اللمم هُوَ النّظر فَجْأَة، ثمَّ يغض بَصَره فِي
الْحَال. وَعَن بَعضهم:
(إِن تغْفر اللَّهُمَّ فَاغْفِر جما ... فَأَي عبد لَك لَا
ألما.)
وَقد روى بَعضهم هَذَا مُسْندًا إِلَى النَّبِي وَأما معنى "
إِلَّا " فِي الْآيَة، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ مُنْقَطع،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَكِن اللمم. وَمِنْهُم من قَالَ:
الِاسْتِثْنَاء على حَقِيقَته، واللمم: فواحش إِلَّا أَن الله
تَعَالَى يعْفُو عَنْهَا بمشيئته.
وَقَوله: {إِن رَبك وَاسع الْمَغْفِرَة} أَي: كثير
الْمَغْفِرَة.
وَقَوله: {هُوَ أعلم بكم إِذْ أنشأكم من الأَرْض} مَعْنَاهُ:
هُوَ ابْتِدَاء خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ أَنْتُم أجنة فِي بطُون
أُمَّهَاتكُم} يَعْنِي: أَنه كَانَ عَالما بأحوالكم وَأَنْتُم
أجنة فِي بطُون الْأُمَّهَات جاهلون بأحوالكم.
وَقَوله: {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} أَي: لَا تمدحوا أَنفسكُم.
وَقَوله: {هُوَ أعلم بِمن اتَّقى} أَي: هُوَ أعلم بالمتقين.
وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَن اللمم أَن يعزم على الذَّنب
ثمَّ لَا يفعل. ذكره الْقفال الشَّاشِي فِي تَفْسِيره. وَحكي
عَن أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: اللمم: الغمزة والقبلة.
(5/298)
{أَنْتُم أجنة فِي بطُون أُمَّهَاتكُم
فَلَا تزكوا أَنفسكُم هُوَ أعلم بِمن اتَّقى (32) أَفَرَأَيْت
الَّذِي}
وَأما قَوْله: {فَلَا تزكوا أَنفسكُم} قد بَينا. وَفِي
تَفْسِير النقاش: أَن الرجل من الْيَهُود كَانَ إِذا مَاتَ
لَهُ طِفْل يَقُول: هُوَ صديق، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه
الْآيَة ردا عَلَيْهِم. وَيُقَال: إِن الْآيَة فِي الرجل يخبر
بصومه وَصلَاته وَفعله الْخَيْر بَين النَّاس، وَقد كَانَ
مِنْهُم من يَقُول كَذَلِك فعلنَا كَذَا، وصنعنا كَذَا، فنهاهم
الله تَعَالَى عَن ذَلِك. وَاعْلَم أَن مدح الرجل نَفسه
مَكْرُوه، وَكَذَلِكَ مدح الرجل غَيره فِي وَجهه.
وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: أَن رجلا مدح رجلا عِنْد النَّبِي
فَقَالَ: " وَيلك قطعت عنق أَخِيك فَإِن كنت قَائِلا شَيْئا،
فَقل: أَحسب فلَانا كَذَا، وَلَا أزكى على الله أحدا ".
وَفِي خبر آخر " احثوا التُّرَاب فِي وُجُوه المداحين "،
رَوَاهُ الْمِقْدَاد عَن النَّبِي.
وَقَوله: {هُوَ أعلم بِمن اتَّقى} قد بَينا.
(5/299)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى (33)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْت الَّذِي
تولى} أَي: أعرض عَن الْإِيمَان بِاللَّه.
(5/299)
وَأَعْطَى قَلِيلًا
وَأَكْدَى (34)
وَقَوله: {وَأعْطى قَلِيلا وأكدى} معنى
قَوْله أكدى: أَي: قطع عطاءه.
وَيُقَال: أكدى مَعْنَاهُ: أجبل. وَمِنْه الكدية، وَهِي إِذا
حفر الرجل بِئْرا فَبلغ موضعا لَا يُمكنهُ الْعَمَل فِيهِ من
صَخْرَة وَمَا يشبهها، يُقَال لَهُ: الكدية. وَمعنى قَوْله
أجبل أَي: بلغ جبلا. وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي
الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَيُقَال: فِي الْعَاصِ بن وَائِل،
كَانَ يحضر مجْلِس النَّبِي ويستمع إِلَى الْقُرْآن، ثمَّ إِن
الْمُشْركين عيروه فَقَالَ: إِنِّي أخْشَى الْعَذَاب، فَقَالَ
لَهُ بَعضهم: أَعْطِنِي شَيْئا أتحمل عَنْك الْعَذَاب يَوْم
الْقِيَامَة، فَأعْطَاهُ وَتحمل عَنهُ، فعلى هَذَا قَوْله: "
أعْطى قَلِيلا " أَي: اسْتمع وَرغب فِي الْإِسْلَام.
(5/299)
{تولى (33) وَأعْطى قَلِيلا وأكدى (34)
أعنده علم الْغَيْب فَهُوَ يرى (35) أم لم ينبأ بِمَا فِي صحف
مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى (37) أَلا تزر وَازِرَة
وزر أُخْرَى}
وَقَوله: {أكدى} أَي: قطع مَا أعْطى. وَقَالَ مقَاتل: أعْطى
بِلِسَانِهِ وَقطع بِقَلْبِه. وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس
أَن معنى الْآيَة: أطَاع ثمَّ عصى. وَذكر بَعضهم: أَن رجلا من
جهلاء الْأَعْرَاب، وَكَانَ قد أسلم وَقدم الْمَدِينَة فَجعل
يَقُول: من يَشْتَرِي حسناتي بِصَاع من تمر، فَقَالَ أَبُو
خَيْثَمَة الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ رجلا فِيهِ خير: أَنا
أشتريها مِنْك بوسق من تمر. والوسق: سِتُّونَ صَاعا، فَبَاعَ
الْأَعرَابِي مِنْهُ حَسَنَاته وَأخذ الوسق، فَأنْزل الله
تَعَالَى فِي الْأَعرَابِي هَذِه الْآيَة. وَالْمَعْرُوف هُوَ
القَوْل الأول.
(5/300)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)
قَوْله تَعَالَى: {أعنده علم الْغَيْب
فَهُوَ يرى} أَي: يعلم. والرؤية تكون بِمَعْنى رُؤْيَة
الْبَصَر، وَتَكون بِمَعْنى الْعلم. تَقول الْعَرَب: رَأَيْت
فلَانا عَالما أَي: علمت. وَمعنى الْآيَة: أَكَانَ عِنْد من
(تحمل) الذُّنُوب عَن الْوَلِيد علم الْغَيْب فَهُوَ يعلم أَنه
يتحملها عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة؟ .
(5/300)
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)
قَوْله تَعَالَى: {أم لم ينبأ بِمَا فِي
صحف مُوسَى} مَعْنَاهُ: أم لم يخبر.
وَقَوله: {بِمَا فِي صحف مُوسَى} ذكر وهب بن مُنَبّه: أَن الله
تَعَالَى أنزل مائَة [وَأَرْبَعَة] كتب؛ ثَلَاثُونَ صحيفَة على
شِيث، وَخَمْسُونَ على إِدْرِيس، وَعِشْرُونَ على إِبْرَاهِيم،
وَأَرْبَعَة على مُوسَى وَدَاوُد وَعِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام.
(5/300)
وَإِبْرَاهِيمَ
الَّذِي وَفَّى (37)
قَوْله: {وَإِبْرَاهِيم الَّذِي وفى}
قَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ " وفى " مخففا أَي: بِمَا أَمر
بِهِ. وَيُقَال: [وفى فِي ذبح ابْنه] .
وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة بِالتَّشْدِيدِ فَيجوز أَن
تكون بِمَعْنى " وفى " إِلَّا أَنه أكده بِالتَّشْدِيدِ
وَيُقَال: وفى [بسهام] الْإِسْلَام. قَالَ الْحسن: لم يُؤمر
بِأَمْر إِلَّا عمل بِهِ.
(5/300)
((38} وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا
سعى (39) وَأَن سَعْيه سَوف يرى (40) ثمَّ يجزاه الْجَزَاء
الأوفى (41) وَأَن إِلَى رَبك الْمُنْتَهى (42) وَأَنه هُوَ
أضْحك وأبكى (43) وَأَنه)
وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْإِسْلَام ثَلَاثُونَ
سَهْما، وَلم يتم جَمِيعهَا غير إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد
عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَقَالَ الْفراء: " وفى " مَعْنَاهُ:
بلغ. وَعَن الْهُذيْل بن شُرَحْبِيل قَالَ: كَانَ بَين نوح
وَإِبْرَاهِيم قُرُون يَأْخُذُونَ الْجَار بذنب الْجَار،
وَابْن الْعم بذنب ابْن الْعم، وَالصديق بذنب الصّديق، فجَاء
إِبْرَاهِيم وَبلغ عَن الله تَعَالَى
(5/301)
أَلَّا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
: {أَلا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} أَي:
لَا يُؤْخَذ أحد بذنب غَيره.
(5/301)
وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان
إِلَّا مَا سعى} مَعْنَاهُ: إِن سعي فِي الْخَيْر يلق
الْخَيْر، وَإِن سعى فِي الشَّرّ يلق الشَّرّ.
(5/301)
وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرَى (40)
وَقَوله: {وَأَن سَعْيه سَوف يرى} أَي:
يرَاهُ على معنى أَن الله تَعَالَى يرِيه إِيَّاه، وَهُوَ
الْجَزَاء الَّذِي يجازيه عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى
(5/301)
ثُمَّ يُجْزَاهُ
الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
قَوْله: {ثمَّ يجزاه الْجَزَاء الأوفى}
أَي: الْأَكْمَل الأتم.
(5/301)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ
الْمُنْتَهَى (42)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن إِلَى رَبك
الْمُنْتَهى} أَي: مصير الْعباد ومرجعهم إِلَيْهِ. قَالَ
مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: تاه فِيهِ الْعُقُول أَي: تحيرت.
فعلى هَذَا معنى الْآيَة: أَن الْعُقُول إِذا انْتَهَت إِلَى
أَوْصَافه تحيرت، يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تدْرك أَوْصَافه على
الْكَمَال. وَفِي بعض التفاسير: أَن بعض الْمَلَائِكَة تفكر
فِي الله تَعَالَى فصيحت عَلَيْهِ صَيْحَة، فتاه عقله، فَهُوَ
يُسمى بَين الْمَلَائِكَة التائه.
(5/301)
وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ أضْحك
وأبكى} قَالَ ابْن عَبَّاس: أضْحك أهل الْجنَّة، وأبكى أهل
النَّار. وَيُقَال: أضْحك بالوعد، وأبكى بالوعيد. وَيُقَال:
أضْحك الأَرْض بالنبات، وأبكى السَّمَاء بالمطر. وَالأَصَح من
الْأَقَاوِيل أَنه أضْحك الْخلق وأبكاهم.
(5/301)
وَأَنَّهُ هُوَ
أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ أمات
وَأَحْيَا} يُقَال: أمات الْآبَاء، وَأَحْيَا الْأَبْنَاء
وَقيل: أمات قوما بالضلالة، وَأَحْيَا بالهداية. وَالأَصَح
أَنه أمات الْخلق وأحياهم.
(5/301)
وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه خلق
الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} أَي: الصِّنْفَيْنِ. قَالَ
الضَّحَّاك:
(5/301)
{هُوَ أمات وَأَحْيَا (44) وَأَنه خلق
الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى (45) من نُطْفَة إِذا تمنى
(46) وَأَن عَلَيْهِ النشأة الْأُخْرَى (47) وَأَنه هُوَ أغْنى
وأقنى (48) وَأَنه هُوَ رب} آدم وحواء. وَالأَصَح أَنه الذّكر
وَالْأُنْثَى من بني آدم.
(5/302)
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا
تُمْنَى (46)
وَقَوله: {من نُطْفَة إِذا تمنى} أَي:
تقدر. تَقول الْعَرَب: مَا تمنى تِلْكَ [الْأَمَانِي] أَي:
يقدر ذَلِك الْمُقدر. وَقيل: إِذا تمنى، هُوَ عبارَة عَن
الْوَطْء أَي: من نُطْفَة تحصل بِالْجِمَاعِ.
(5/302)
وَأَنَّ عَلَيْهِ
النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَن عَلَيْهِ النشأة
الْأُخْرَى} أَي: الْبَعْث يَوْم الْقِيَامَة، وَإِنَّمَا
قَالَ: " الْأُخْرَى " لِأَنَّهَا ثَانِيَة النشأة الأولى،
والنشأة الأولى ابْتِدَاء الْخلق.
(5/302)
وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ أغْنى
وأقنى} مَعْنَاهُ: أعْطى وأوسع، فَقَوله: {أقنى} أَي: أعْطى
الْقنية، والقنية: هِيَ أصل مَال يتَّخذ. قَالُوا: وَهُوَ مثل
الْإِبِل وَالْبَقر والضياع والنبات وَمَا أشبه. وَيُقَال:
أغْنى بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وأقنى بِغَيْرِهِمَا من
الْأَمْوَال. وَيُقَال: أغْنى وأقنى: أَي: أعْطى وقنع بِمَا
أعْطى. قَالَ القتيبي: أغْنى أَي: أعْطى المَال وأفنى أَي أخدم
كَأَنَّهُ أعطَاهُ من يَخْدمه وَقَالَ أغْنى أى أعْطى بِمَا
أعْطى. وَعَن بَعضهم أغْنى: أَي: أغْنى نَفسه، كَأَنَّهُ وصف
نَفسه بالغنى. وَقَوله: {وأقنى} أَي: أفقر خلقه إِلَى نَفسه،
وَيُقَال: أغْنى وأقنى: أَي: وسع وقتر.
(5/302)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ
الشِّعْرَى (49)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه هُوَ رب الشعرى}
فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ رجل من خُزَاعَة خَالف دين
آبَائِهِ وَعبد الشّعْر العبور، وَهُوَ كَوْكَب خلف الجوزاء
تسمى المرزم، وهما الشعريان: [إِحْدَاهمَا] : الغميصاء،
وَالْأُخْرَى: العبور، فالغميصاء فِي المجرة، والعبور خلف
الجوزاء وَتسَمى كلب الجوزاء. وَكَانَ ذَلِك الرجل يعبد
الشعرى، وَيَقُول: إِنَّهَا تقطع الْفلك عرضا دون سَائِر
الْكَوَاكِب، فَإِنَّهَا تقطع أَمْوَالًا، فَأنْزل الله
تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَذكر أَنه خَالق الشعرى الَّتِي
تعبدونها. [قَالَه] مُجَاهِد وَقَتَادَة وَغَيرهمَا. وَعَن
بَعضهم: أَنَّهَا الزهرة، وَهَذَا مُخَالف لظَاهِر الْآيَة.
(5/302)
{الشعرى (49) وَأَنه أهلك عادا الأولى (50)
وَثَمُود فَمَا أبقى (51) وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا
هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أَهْوى (53) فغشاها مَا غشى (54)
}
(5/303)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ
عَادًا الْأُولَى (50)
قَوْله تَعَالَى: {وَأَنه أهلك عادا
الأولى} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " عادا الأولى "، وَعَاد
كَانَت وَاحِد لَا اثْنَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: أَن ثمودا وعادا
كَانَا من ولد آدم بن سَام بن نوح، فَعَاد هم قوم هود، وهم
عَاد الأولى، وَثَمُود هم قوم صَالح وهم عَاد الْأُخْرَى.
(5/303)
وَثَمُودَ فَمَا
أَبْقَى (51)
وَقَوله: {وَثَمُود فَمَا أبقى} أَي:
أبادهم وأفناهم.
(5/303)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
قَوْله تَعَالَى: {وَقوم نوح من قبل
إِنَّهُم كَانُوا هم أظلم وأطغى} أَي: أكبر وَأَشد طغيانا.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَأْتِي بِابْنِهِ
إِلَى نوح فَيَقُول: احذر هَذَا الشَّيْخ، وَإِيَّاك أَن يضلك،
فَإِن أبي حَملَنِي وَأَنا فِي مثل سنك إِلَيْهِ وَحَذَّرَنِي
مِنْهُ كَمَا حذرتك مِنْهُ.
(5/303)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوَى (53)
قَوْله تَعَالَى: {والمؤتفكة أَهْوى}
المؤتفكة هِيَ مَدَائِن لوط، ائتفكت بهم الأَرْض أَي: انقلبت
بهم.
وَقَوله: {أَهْوى} يُقَال: هوى إِذا سقط، وأهوى إِذا أسقط.
وَقد بَينا أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام قلعهَا من
أَصْلهَا، وَبلغ بهَا السَّمَاء الدُّنْيَا حَتَّى سمع أهل
السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وأصوات ديكتهم، وَكَانَ
فِيهَا أَرْبَعمِائَة ألف رجل. وَقد قيل أَكثر من ذَلِك، ثمَّ
أَن جِبْرِيل قَلبهَا فَجَاءَت تهوى فَهُوَ معنى قَوْله:
{والمؤتفكة أَهْوى} قَالَ عِكْرِمَة: فَهِيَ تتجلجل فِي
الأَرْض إِلَى قيام السَّاعَة. وَالْعرب تَقول: أَهْوى أَي:
وَقع فِي هوة، والهوة: الحفرة.
(5/303)
فَغَشَّاهَا مَا
غَشَّى (54)
قَوْله تَعَالَى: {فغشاها مَا غشى} أَي:
غشاها من الْحِجَارَة مَا غشى. يُقَال: من عَذَاب الله مَا
غشى. والتغشية: التغطية. وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحجر يتبع
شرادهم حَتَّى أهلكهم جَمِيعًا، وَكَانَ فِي الْحرم رجل
مِنْهُم فَوقف حجر فِي الْهَوَاء سَبْعَة أشهر، ثمَّ خرج
فَلَمَّا خرج وخطا خطْوَة سقط عَلَيْهِ الْحجر وأهلكه، وَكَانَ
اسْمه أَبُو رِغَال.
(5/303)
فَبِأَيِّ آلَاءِ
رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
قَوْله تَعَالَى: {فَبِأَي آلَاء رَبك
تتمارى} أَي: تتشكك، وَمَعْنَاهُ: تشك، وَقيل:
(5/303)
{فَبِأَي آلَاء رَبك تتمارى (55) هَذَا
نَذِير من النّذر الأولى (56) أزفت الآزفة (57) لَيْسَ لَهَا
من دون الله كاشفة (58) أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ (59)
وَتَضْحَكُونَ وَلَا} تكذب. والمرية: هِيَ الشَّك فِي
اللُّغَة. وَالْخطاب للْكَافِرِ أَي: فَبِأَي آلَاء رَبك
تتمارى أَيهَا الْكَافِر.
(5/304)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الْأُولَى (56)
وَقَوله: {هَذَا نَذِير من النّذر الأولى}
أَي: نَبِي يشبه الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين.
(5/304)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ
(57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
وَقَوله: {أزفت الآزفة لَيْسَ لَهَا من دون
الله كاشفة} فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: " كاشفة "؟ وَلم
أَدخل هَاء التَّأْنِيث؟ وَالْجَوَاب: أَن بَعضهم قَالَ:
لموافقة رُءُوس الآى وَقَالَ بَعضهم مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا من
دون الله نفس كاشفة وَهَذَا أحسن وَمعنى الْآيَة: أَنه لَا
يعلم علمهَا سوى الله تَعَالَى. وَهُوَ علم قِيَامهَا وتجليها
وَيُقَال لَا يَأْتِي بهَا أحد سوى الله تَعَالَى.
يُقَال: كشف عَن الشَّيْء إِذا أظهره أَي: لَا يكْشف عَن
الْقِيَامَة وَلَا يظهرها غير الله تَعَالَى.
(5/304)
أَفَمِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن هَذَا الحَدِيث
تعْجبُونَ} أَي: الْقُرْآن.
وَقَوله: {تعْجبُونَ} أَي: تتعجبون، وتعجبهم أَنهم قَالُوا:
كَيفَ أنزل على وَاحِد مثلنَا. وَيُقَال: تعجبهم من قَوْله إِن
الله وَاحِد على مَا قَالَ فِي مَوضِع آخر {أجعَل الْآلهَة
إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب} .
(5/304)
وَتَضْحَكُونَ وَلَا
تَبْكُونَ (60)
وَقَوله: {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ}
يَعْنِي: من حقكم أَن تبكوا لَا أَن تَضْحَكُوا. وَفِي
التَّفْسِير: " أَن النَّبِي لما نزلت هَذِه الْآيَة لم ير
ضَاحِكا إِلَى أَن خرج من الدُّنْيَا، غير أَنه كَانَ يبتسم ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: عجبت من ضَاحِك (ملْء فِيهِ وَالْمَوْت
يَطْلُبهُ) .
(5/304)
{تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُم سامدون (61)
فاسجدوا لله واعبدوا (62) }
(5/305)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ
(61)
وَقَوله: {وَأَنْتُم سامدون} أَي: لاهون
غافلون، وَيُقَال: متكبرون. قَالَ مُجَاهِد: السمود هُوَ
الْغناء بلغَة حمير. يَقُولُونَ: يَا جَارِيَة سمدى لنا: أَي:
غنى. وَيُقَال لَهُ: البرطمة أَيْضا وَأنْشد بَعضهم:
(رمى الْحدثَان نسْوَة آل حَرْب ... بداهية سمدان لَهَا سمودا)
ويروى:
(بِمِقْدَار سمدن لَهُ سمودا. ...
(فَرد شعورهن السود بيضًا ... ورد وجوههن الْبيض سُودًا)
(5/305)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا (62)
وَقَوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} حمل بَعضهم
هَذَا على الصَّلَوَات الْخمس. وَقيل: إِن الْآيَة نزلت
بِمَكَّة قبل فرض الصَّلَوَات الْخمس، وَالسورَة مَكِّيَّة،
فعلى هَذَا مَعْنَاهُ: فاسجدوا لله واعبدوا أَي: اخضعوا لله
ووحدوا. وَيُقَال: المُرَاد مِنْهُ أصل السُّجُود، وَالْمرَاد
من الْعِبَادَة هِيَ الطَّاعَة، وَهُوَ مَوضِع سُجُود عِنْد
أَكثر الْفُقَهَاء إِلَّا مَالك حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ فِي
الْمفصل سُجُود أصلا. وَقد ثَبت عَن النَّبِي بِرِوَايَة عبد
الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام قَرَأَ سُورَة النَّجْم فَسجدَ فِيهَا، فَمَا بقى
من الْقَوْم أحد إِلَّا سجد غير رجل وَاحِد أَخذ حَصى وَوَضعه
على جَبهته، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. وَقَالَ عبد الله:
فرأيته قتل كَافِرًا ". وَالله أعلم.
(5/305)
|